تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي

تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

المؤلف:

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي


المحقق: عبد الإله أحمد نبهان و محمّد فاتح صالح زغل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ
المطبعة: دار البارودي للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9948-06-105-5
الصفحات: ٤٠٦

الأقران (ونازلوه) (١) وقارع الأبطال ، عارفا بمواضع الفرص ، خبيرا بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب ، وما الذي يجب سدّه (٢) بالحماة والأبطال من ذلك ، بصيرا بصفوف العدوّ ومواضع الغرّة ومواقع العدّة ومواضع / [س ٨٨] الشدّة ، فإنه إذا كان كذلك وصدر الكلّ عن رأيه كان جميعهم كأنّهم مثله ، فإن رأى لقراع الكتائب وجها وإلّا ردّ الغنم إلى الزّريبة (٣) ، فإنّ الحرب خدعة ، وآخر ما يجب ركوبه قرع الكتائب وقرع (٤) الجيوش بعضها على بعض.

فلنبدأ بتصريف الحيلة في نيل الظّفر :

فأوّل (٥) ذلك أن يبثّ جواسيسه في عسكر عدوّه يستعلم أخباره مع الساعات ، ويستعلم رؤساءهم وقادتهم وذوي الشجاعة منهم ويدسّ إليهم ويعدهم وعدا جميلا ويوجّه إليهم بضروب الخداع ، ويقوّي أطماعهم في أن ينالوا ما عنده من الهبات الفاخرة والولايات السنيّة ، فإن رأى وجها لمعاجلتهم بالهدايا والتّحف فعل ذلك وسامهم الغدر لصاحبهم واعتزاله وقت اللقاء ، وينشئ على ألسنتهم كتبا مدلّسة إليه ويبثّها في عسكرهم ، ويكتب على السهام أخبارا مزوّرة ويرمي بها في جيوشهم ، ويضرب

__________________

(١) زيادة من سراج الملوك.

(٢) في سراج الملوك : يجب شحنه.

(٣) في سراج الملوك : واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء.

(٤) في سراج الملوك : وحمل الجيوش ...

(٥) النقل عن سراج الملوك ٢ : ٦٨١ بشيء من التصرّف.

٢٨١

بينهم بما فيه الشرّ من ذلك ، فإنّ جميع ما ذكرنا تنفق فيه الأموال والحيل ، واللقاء تنفق فيه الأرواح والرؤوس.

ووجوه (١) الحيل لا تحصى ، والحاضر فيها أبصر من الغائب ، ولله درّ المهلّب لمّا كتب إليه الحجّاج يستعجله في حرب الأزارقة ، جاوبه بأن قال : إنّ من البلاء أن يكون / [م ٦٨] الرأي عند من يملكه لا عند من يبصره.

ومن الحزم (٢) المألوف عند سوّاس الحروب أن يكون حماة الرجال وكفاة الأبطال في القلب ، فإنه مهما انكسر / [س ٨٩] الجناحان فالعيون ناظرة إلى القلب ، فإذا كانت راياته تخفق وطبوله تدقّ ، كان حصنا للجناحين يأوي إليه كلّ منهزم ، فإذا انكسر القلب تمزّق الجناحان ، مثال ذلك أنّ الطائر إذا انكسر إحدى جناحيه ترجى عودته ولو بعد حين ، وإن انكسر رأسه ذهب الجناحان ، فلا يضرّ انكسار جناحي العسكر مع ثبات القلب ، فإنّ الفارّين يتراجعون إلى القلب ويكون الظّفر لهم. وقلّ عسكر انكسر قلبه فأفلح أو تراجع إلّا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش فيخلي القلب قصدا وتعمّدا ولا يغادر به كبير أمر ، حتّى إذا توسّط العدوّ واشتغل بنهبه أطبقت عليه الجناحان ، فقد فعله رجال من أهل الحرب.

__________________

(١) النقل عن سراج الملوك ٢ : ٦٨٢.

(٢) النقل عن سراج الملوك ٢ : ٦٨٣ ـ ٦٨٤.

٢٨٢

ومن أعظم (١) المكايد في الحروب الكمين ، ولا يحصى كثرة كم عسكر استبيحت بيضته وفلّ غربه بالكمين ، وذلك أنّ الفارس لا يزال على جهة من الدفاع وحمى الذّمار حتّى يلتفت فلا يرى وراءه بندا منشورا ولا يسمع ضرب الطّبل ، فحينئذ همّته خلاص نفسه ، ولتكن همّتك وراء ذلك.

ومدار الحرب في اصطناع الشجعان واختيار الأبطال ، فاصطنع ذوي البسالة والإقدام والحماة والكماة ، ولا عليك أن لا يكثروا ، وبعيد عليك أن يكثروا ، ولا تنس قول الشاعر:

والناس ألف منهم كواحد

وواحد كالألف إن أمر عنا

بل قد جرّب ذلك فوجد الواحد خيرا من العشرة الآلاف وسأحكي لك من / [س ٩٠] ذلك ما تقضي فيه بالعجب ، فهم في الجيش وإن قلّوا كالإنفحة (٢) في اللبن.

فمن (٣) ذلك لمّا التقى المستعين الصغير ابن هود (٤) مع الطّاغية ابن رذمير النصرانيّ ـ قصمه الله ـ على مدينة وشقة من ثغور بلاد

__________________

(١) النقل من سراج الملوك بشيء من التصرّف ٢ : ٦٨٤ ـ ٦٨٥.

(٢) الإنفحة ـ بتشديد الحاء المهملة وتخفيفها ـ مادة تستخرج من معدة الرضيع من العجول والجداء أو نحوهما بها خميرة تجبّن اللبن (عن محقق سراج الملوك).

(٣) سراج الملوك ٢ : ٦٨٥.

(٤) ابن هود ت ٥٠٣ ه‍ ـ ١١٠٩ م : أحمد (المستعين) بن يوسف (المؤتمن) ابن أحمد (المقتدر) ابن سليمان بن محمد بن هود ، رابع ملوك الدولة الهودية (من دول الطوائف بالأندلس) وكان مقام ملوكها في سرقسطة. ولي بعد وفاة أبيه سنة ٤٧٨ ه‍ وكان من الغزاة ، وله وقائع مع الإفرنج ، وكانت في أيامه وقعة وشقةHuesca سنة ٤٨٩ ه‍ ـ ١٠٩٦ م قتل فيها نحو عشرة آلاف من جيشه واستمر في الإمارة إلى أن قتل شهيدا في معركة لدفع العدو بظاهر سرقسطة. عن الأعلام ١ : ٢٧٣.

٢٨٣

الأندلس ـ جبرها الله ـ وكان العسكران كالمتكافئين ، كلّ واحد منهما يراهق عشرين ألف مقاتل بين خيل ورجال ، فمن حضر الوقيعة من الأجناد قال : لمّا دنا اللقاء قال الطاغية ابن رذمير لمن يثق بعقله ومراسته للحروب من رجاله : استعلم لي من في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفوننا ، من غاب منهم ومن حضر؟

فذهب ثمّ رجع فقال : فيهم فلان وفلان حتّى عدّ سبعة رجال ، فقال : انظر الآن من في عسكري من الرجال المعروفين بالشجاعة ومن غاب منهم ، فعدّوهم فوجدوهم ثمانية رجال لا يزيدون. فقام الطاغية ضاحكا مسرورا وهو يقول : يا بياضك من يوم.

ثمّ تناشبا الحرب فلم تزل المضاربة بين الفريقين ، ولم يولّ واحد منهم دبره ولا تزحزح عن مقامه حتّى فني أكثر العسكرين ولم يفرّ واحد منهم. ولمّا كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة ثمّ حملوا علينا [م ٦٩] حملة واحدة وداخلونا مداخلة وفرّقوا بيننا ، وصرنا شطرين ، وحالوا بيننا وبين أصحابنا وصاروا بيننا ، فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا ، ولم تقم الحرب إلا ساعة ونحن في خسارة معهم. فأشار مقدّم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه فكسر عسكر [س ٩١] المسلمين وتفرّق جمعهم ، وملك العدوّ مدينة وشقة. فليعتبر ذو الحزم والبصيرة في جمع يحتوي على أربعين ألف مقاتل ، ولا يحضر من الشجعان المعدودين إلا خمسة عشر. وليعتبر بضمان العلج بالظّفر والغنيمة لمّا زاد في أبطاله رجل واحد (١).

__________________

(١) انتهى النص في سراج الملوك.

٢٨٤

قال (١) : وسمعت أستاذنا القاضي أبا الوليد الباجي (٢) ـ رحمه‌الله ـ قال : بينما المنصور بن أبي عامر (٣) في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع فرأى جيوش المسلمين بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره ، قد ملؤوا السهل والجبل. فالتفت إلى مقدّم العسكر ـ وكان رجلا يعرف بابن المصحفيّ (٤) ـ وقال : كيف ترى هذا العسكر أيّها الوزير؟

قال ابن المصحفيّ : أرى جمعا كثيرا وجيشا واسعا.

__________________

(١) النقل من سراج الملوك ٢ : ٦٨٦ ، ٦٨٧.

(٢) أبو الوليد الباجي سبقت ترجمته.

(٣) المنصور بن أبي عامر ٣٢٦ ـ ٣٩٢ ه‍ ـ ٩٣٨ ـ ١٠٠٢ م : محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري القحطاني ، أبو عامر ، المعروف بالمنصور بن أبي عامر ، أمير الأندلس في دولة المؤيد الأموي ، وأحد الشجعان الدهاة ، أصله من الجزيرة الخضراء ، قدم قرطبة شابا طالبا للعلم فبرع واستخلف على قضاء كورة (ريّة) ثم عهد إليه بوكالة السيدة (صبح) أم هشام المؤيد ، فولي النظر في أموالها وضياعها وعظمت مكانته عندها وولي الشرطة والسكة والمواريث وأضيف إليه القضاء بإشبيلية ، ولما مات المستنصر الأموي كان المؤيد صغيرا ، وخيف الاضطراب ، فضمن ابن أبي عامر لأم المؤيد سكون البلاد واستقرار الملك لابنها وقام بشؤون الدولة وغزا وفتح ودامت له الإمرة ٢٦ عاما غزا فيها بلاد الإفرنج ٥٦ غزوة لم ينهزم له فيها جيش ، وكانت الدعوة في أيامه للمؤيد (وهو محتجب عن الناس) والملك لابن أبي عامر لم يضطرب عليه شيء منه أيام حياته لحسن سياسته وعظم هيبته. مات في إحدى غزواته بمدينة سالم. وكان محبا للعمران عن الأعلام ٦ : ٢٢٦.

(٤) ابن المصحفي ت ٣٧٢ ه‍ ـ ٩٨٢ م : جعفر بن عثمان بن نصر ، أبو الحسن ، الحاجب المعروف بالمصحفي ، وزير ، أديب أندلسيّ ، من كبار الكتّاب ، وله شعر كثير جيد ، أصله من بربر بلنسية ، استوزره المستنصر الأموي إلى أن مات ، وولي جزيرة ميورقة في أيام الناصر ، ولما ولي الحكم استوزره وضمّ إليه ولاية الشرطة وآلت الخلافة إلى هشام المؤيد بن الحكم ، فتقلّد حجابته وتصرّف في أمور الدولة ، وقوي عليه المنصور بن أبي عامر ، فاعتقله وضيّق عليه ، ثم صادره في ماله ، ثم قتله وبعث بجسده إلى أهله. الأعلام ٢ : ١٢٥.

٢٨٥

فقال له المنصور : لا يعجزنا أن يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والبسالة.

فسكت ابن المصحفيّ ، فقال له المنصور : وما سكوتك؟!!

أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟

قال : لا.

فتعجّب المنصور ثم عطف عليه فقال : فبهم خمسمئة مقاتل.

قال : لا

قال : فحنق المنصور ثم قال : أفيهم مئة رجل؟

قال : لا

قال : أفيهم خمسون من الأبطال؟

قال : لا

فسبّه المنصور واستخفّ به وأمر به فأخرج على أقبح صفة.

فلمّا توسطوا بلاد المشركين اجتمعت الروم وتصافّ الجمعان فبرز علج من الروم شاك في السلاح يكرّ ويفرّ ويقول :

هل من مبارز. فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج ففرح المشركون وصاحوا [س ٩٢] واضطربت لها المسلمون. ثم جعل العلج يمرح بين الصفّين وينادي :

هل من مبارز : اثنين لواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين ، فتجاولا

٢٨٦

ساعة فقتله العلج ، وجعل يكرّ ويحمل وينادي : هل من مبارز : ثلاثة بواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج. فصاح المشركون وذلّ المسلمون وكادت تكون كسرة.

فقيل للمنصور : ما لها غير ابن المصحفيّ ، فبعث إليه فحضر فقال له المنصور : ألا ترى ما يصنع هذا العلج الكلب منذ اليوم؟

قال : بعيني ما جرى

قال : فما الحيلة فيه

قال : وما الذي تريد؟

قال : أن يكفى المسلمون شرّه

قال : نعم إن شاء الله

ثم قصد إلى رجال يعرفهم فاستقبله رجل من رجال الثغور على فرس قد قشرت أوراكها هزالا وهو يحمل قربة ماء بين يديه على الفرس ، والرجل في نفسه وحليته غير متصنّع ، فقال له ابن المصحفيّ : ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم؟

قال : قد رأيته

قال : فماذا ترى فيه؟

قال : أتريد رأسه الآن؟

قال : نعم

فحمل القربة إلى رحله ولبس لأمة حربه وبرز إليه فتجاولا ساعة ، فلم ير الناس إلا المسلم خارجا إليهم من تحت الغبار [م ٧٠] يركض فرسه

٢٨٧

ولا يدرون ما هنالك ، وإذا الرجل يحمل رأسي العلج. فألقى الرأس بين يدي المنصور. وقال له ابن المصحفيّ : عن هؤلاء الرجال أخبرك أنّه ليس في عسكرك منهم ألف ولا خمسمئة ولا مئة ولا خمسون ولا عشرون ولا عشرة.

قال : فردّ المنصور المصحفيّ إلى منزلته وأكرمه (١).

واعلم (٢) ـ أرشدك الله ـ أنّ الله سبحانه قد أوضح لنا في كتابه علّة النصر / [س ٩٣] وعلّة الهزائم والفرار فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(٣) يعني إن تنصروا دين الله ورسوله ، وأمّا الفرار فبغلبة المعاصي ، قال الله العظيم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ)(٤) أي بشؤم ذنوبهم وتركهم المركز الذي رسمه لهم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك أنّه رتّب ـ عليه‌السلام ـ الرّماة يوم أحد على ثلمة الجبل ليمنعوا قريشا أن يخرجوا عليهم كمينا من تلك المواضع. ثم التقى المسلمون والكفّار فقال الرماة : لا تفوتنا الغنائم ، فأقبلوا على الغنائم وتركوا المركز الأوّل. فخرجت خيل المشركين من هنالك وأقبلوا على المسلمين فكانت مقتلة أحد (٥).

وليخف (٦) قائد الجيش العلامة التي هو مستعلم بها ، فإنّ عدوّه إن

__________________

(١) انتهى الخبر في سراج الملوك.

(٢) سراج الملوك ٢ : ٦٩١.

(٣) سورة محمد ٤٧ الآية ٧.

(٤) سورة آل عمران ٣ / الآية ١٥٥.

(٥) انظر السيرة ٢ : ٦٢٥ (ذكر ما أنزل الله في أحد من القرآن).

(٦) سراج الملوك ٢ : ٦٩١.

٢٨٨

استعلم حليته وألوان خيله ورايته قصد قصده ، وكذلك لا يلزم خباءه كي لا يلتمس عدوّه غرّته. وإذا سكنت الحرب فلا يمش في النّفر اليسير من قومه خارج عسكره ، فإنّ عيون عدوّه قد أذكيت. وعلى هذا الوجه كسر المسلمون جيوش إفريقية عند فتحها وذلك أنّ الحرب سكنت في وسط النهار ، فخرج مقدّم العدوّ يمشي خارج العسكر يتميّز عساكر المسلمين ، فجاء الخبر إلى عبد الله بن أبي سرح (١) وهو جالس في قبّته ، فخرج لوقته ووجّه من وثّقه من رجاله ، فحمل على العدوّ فقتل الملك وكان الفتح وسيأتي ذكر ذلك بعد إن شاء الله.

ولمّا (٢) عبر طارق (٣) مولى موسى [س ٩٤] بن نصير (٤) إلى بلاد

__________________

(١) عبد الله بن أبي سرح ت ٣٧ ه‍ ـ ٦٥٧ م : عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري ، فاتح إفريقية ، فارس بني عامر من أبطال الصحابة ، أسلم قبل الفتح ، وكان من كتّاب الوحي ، وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين فتح مصر ، وولي مصر سنة ٢٥ ه‍ فاستمرّ نحو ١٢ عاما زحف في خلالها إلى إفريقية بجيش فيه نفر من كبار الصحابة ، فافتتح طرابلس الغرب وطنجة. وغزا الروم بحرا وظفر بهم في معركة ذات الصواري سنة ٣٤ ه‍. اعتزل الحرب بين علي ومعاوية ومات بعسقلان وهو يصلّي. عن الأعلام.

(٢) سراج الملوك ٢ : ٦٩٢.

(٣) طارق ٥٠ ـ ١٠٢ ه‍ ـ ٦٧٠ ـ ٧٢٠ م : طارق بن زياد الليثيّ بالولاء ، فاتح الأندلس ، أصله من البربر ، أسلم على يد موسى بن نصير ، فكان من أشدّ رجاله ، ولمّا تمّ لموسى فتح طنجة وولّى عليها طارقا سنة ٨٩ ه‍ فأقام فيها إلى سنة ٩٢ ه‍. ثم أرسله موسى على رأس حملة إلى الأندلس فتمّ له فتحها ، والتقى موسى في طليطلة عام ٩٣ ه‍ ثم استدعاهما الوليد إلى الشام سنة ٩٦ ه‍. عن الأعلام ٣ : ٢١٧.

(٤) موسى بن نصير ١٩ ـ ٩٧ ه‍ ـ ٦٤٠ ـ ٧١٥ م : موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد اللخمي بالولاء ، أبو عبد الرحمن ، فاتح الأندلس ، أصله من وادي القرى بالحجاز ، نشأ موسى في دمشق وولي غزو البحر لمعاوية. غزا قبرس وبنى بها حصونا وولي أعمالا جليلة لبني أمية ، وولي إفرّيقية سنة ٨٨ ه‍ وأقام بالقيروان ، ثم أرسل طارق بن زياد إلى الأندلس وتبعه في حملة عام ٩٣ وفتح عددا من المدن ، عاد إلى دمشق سنة ٩٦ ه‍ وحجّ مع سليمان ومات بالمدينة. كان شجاعا عاقلا لم يهزم له جيش قط. عن الأعلام ٧ : ٣٣٠.

٢٨٩

الأندلس ليفتحها ، وموسى إذ ذلك بإفريقية ، خرجوا بالجزيرة الخضراء وتحصّنوا في الجبل العظيم الذي يسمّى اليوم بجبل الفتح وجبل طارق نسبة إليه وهو في ألف وسبعمئة رجل ، وطمعت الروم فيهم فاقتتلوا ثلاثة أيّام وكان على الرّوم تدمير استخلفه لذريق ملك الروم. وكان قد كتب إلى لذريق يعلمه بأنّ قوما لا يدرى أمن أهل الأرض أم من أهل السماء قد وصلوا إلى بلادنا وقد لقيتهم فلتنهض إليّ بنفسك.

فأتى لذريق في تسعين ألف زمام ، ولقيهم طارق ، وعلى خيله مغيث الروميّ (١) مولى الوليد بن عبد الملك ، فاقتتلوا ثلاثة أيام أشدّ قتال ، فرأى طارق ما الناس فيه من الشدّة فقام يعظهم ويحضّهم على الصبر ويرغّبهم في الشهادة وبسط / [م ٧١] في آمالهم ثم قال :

أين المفرّ؟ البحر من ورائكم ، والعدوّ أمامكم ، فليس إلا الصبر منكم ، والنصر من ربّكم ، وأنا فاعل شيئا فافعلوا كفعلي ، والله لأقصدنّ طاغيتهم ، فإمّا أن أقتله وإمّا أن أقتل دونه.

فاستوثق طارق من خيله وكان قد عرف حلية لذريق وعلامته ، وفعل ما قال ، فقتل الله لذريق بعد قتل ذريع في العدوّ ، وحمى الله المسلمين فلم يقتل منهم كبير شيء ، وانهزمت الرّوم وأقام المسلمون يقتلونهم ثلاثة أيام. وأخذ طارق رأس لذريق وبعث به إلى موسى بن نصير ، وبعث به

__________________

(١) مغيث الرومي ت ١٠٠ ه‍ ـ ٧١٨ م : مغيث الرومي ، فاتح قرطبة ، وهو ليس برومي في الحقيقة ، وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني ، سبي من الروم وهو صغير ، فأدّبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد ، وقد أنجب مغيث في الولادة وصار منه «بنو مغيث» الذين نجبوا في قرطبة. تعلّم مغيث الفروسية وأفصح بالعربية ووجهه عبد الملك إلى الأندلس غازيا مع طارق بن زياد فقدّمه طارق لفتح قرطبة فافتتحها ب ٧٠٠ فارس وعاد مع طارق إلى دمشق في عهد سليمان ، ثم عاد إلى الأندلس. الأعلام ٧ : ٢٧٦.

٢٩٠

موسى إلى الوليد بن عبد الملك فهذا ما يتأتّى على الملوك من لزومهم مكانا واحدا في الحرب.

واعلم (١) أنّ القدماء قالوا : للكثرة الرعب ، وللقلّة النصر. قال [س ٩٥] الله العظيم (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(٢) فالكثرة أبدا يصحبها الإعجاب ومع الإعجاب الهلاك.

قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خير الأصحاب أربعة ، وخير الطلائع أربعون ، وخير السرايا أربعمئة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يغلب جيش يبلغون اثني عشر ألفا من قلّة إذا اجتمعت كلمتهم (٣).

سأل سليمان بن عبد الملك (٤) موسى بن نصير حين قدم من الأندلس فقال : أيّ الأمم كانوا أشدّ قتالا لك؟

قال : هم أكثر من أن أصفهم لك

قال : فأخبرني عن الرّوم (٥)

__________________

(١) النقل من سراج الملوك ٢ : ٦٩٨.

(٢) سورة التوبة ٩ / ٢٥.

(٣) في كتاب شرح السير الكبير ١ : ٦٧ عن ابن عباس ، وآخره : إذا كانت كلمتهم واحدة وفي سنن الترمذي : ٢٠٩ ، ٢٧٩ تح إبراهيم عطوة عوض. وفي عيون الأخبار ١ : ١١١ وقد ذكره صاحب سراج الملوك دون أن ينسبه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ٢ : ٦٩٨.

(٤) سليمان بن عبد الملك ٥٤ ـ ٩٩ ه‍ ـ ٦٧٤ ـ ٧١٧ م : سليمان بن عبد الملك بن مروان ، أبو أيوب ، الخليفة الأموي ، ولد في دمشق وولي الخلافة ، يوم وفاة أخيه الوليد سنة ٩٦ ه‍ وكان بالرملة ، ولم يتخلّف عن مبايعته أحد كان عاقلا فصيحا طموحا إلى الفتح. وفي عهده فتحت جرجان وطبرستان. جهز جيشا وأرسله إلى القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة. توفي في (دابق) بين حلب والمعرّة. خلافته سنتان وثمانية أشهر إلا أياما عن الأعلام ٣ : ١٣٠.

(٥) الروم : الإسبان ، والإفرنج : الفرنسيون وسائر الأوروبيين.

٢٩١

قال : أسد في حصونهم ، عقبان على خيولهم ، ونساء في مواكبهم ، إن رأوا فرصة افترصوها ، وإن رأوا غلبة فهم أوعال تذهب في الجبال لا يرون الهزيمة عارا.

قال : فأخبرني عن البربر :

قال : هم أشبه الناس بالعرب لقاء ونجدة وصبرا وفروسية وسماحة غير أنّهم أغدر الناس لا وفاء لهم ولا عهد.

قال : فأخبرني عن الإفرنج :

قال : هنالك العدد والعدّة والنجدة والتجلّد والشدّة والبأس

قال : فأخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم أكانت لك أم عليك؟

قال : أما هذا فو الله ما هزمت لي راية قط ، ولا بدّد جمعي ولا نكب المسلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين. فضحك سليمان وعجب من قوله.

وذكر الطرطوشيّ (١) في كتابه كيفيّة من كيفيّات الحرب قال : وهو أحسن ترتيب رأيناه في بلادنا ، وهو أرجى تدبير نفعله في لقاء عدوّنا ، وذلك أن يتقلّد (٢) / [س ٩٦] الرجّالة بالدّرق الكاملة والرماح الطّوال والمزارق (٣) المسنونة النافذة ، فيصفّوا صفوفهم ويركزوا مواخر رماحهم خلف ظهورهم في الأرض وصدورها شارعة إلى العدوّ وهم جاثون في

__________________

(١) النقل من كتاب سراج الملوك ٢ : ٦٩٨.

(٢) في سراج الملوك : نقدّم.

(٣) المزارق والمزاريق جمع مزراق وهو الرمح القصير.

٢٩٢

الأرض (١) ، كلّ رجل منهم قد ألقم ركبته اليسرى الأرض ، وترسه قائم بين يديه ، وخلفهم الرماة المختارون الذين تمزّق سهامهم الدروع ، والخيل خلف الرماة ، فإذا جاءت الرّوم على المسلمين لم تتزحزح الرجّالة عن هيئتها ولا قام رجل منهم على قدميه ، فإذا قرب العدوّ رشقتهم الرّماة بالسهام / [م ٧٢] والرجّالة بالمزارق ، وصدور الرماح تلقاهم فيأخذوا يمنة ويسرة فتخرج خيل المسلمين فتنال منهم ما شاء الله تعالى.

قال بعضهم (٢) في معترك الحرب (٣) :

ومعترك تهزّ له المنايا

ذكور الهند في أيدي ذكور

لوامع يبصر الأعمى سناها

ويعمى دونها طرف البصير

وخافقة الذوائب قد أنافت

على حمراء ذات شبا طرير

تحوّم حولها عقبان موت

تخطّفت القلوب من الصدور

بيوم راح في سربال ليل

فما عرف الأصيل من البكور

وعين الشمس ترنو في قتام

رنوّ البكر من خلف السّتور (٤)

قال ارسطاطاليس (٥) للإسكندر (٦) : اعلم أن الحرب جسد وروح

__________________

(١) عبارة سراج الملوك : فيصفّوا صفوفهم ، ويركّزوا مراكزهم ، ورماحهم خلف ظهورهم في الأرض ، وصدورهم شارعة إلى عدوّهم وهم جاثمون في الأرض.

(٢) هو ابن عبد ربه الأندلسي ، أحمد بن محمد المتوفى سنة ٣٢٨ ه‍ صاحب كتاب العقد الفريد.

(٣) الأبيات في العقد الفريد ١ : ٩٦ وفي شعر ابن عبد ربه ص ١٦٣ ق ١٢٥ وفي يتيمة الدهر ٢ : ٧٥ ، ٧٦ ونهاية الأرب ٦ : ١٩١ ، ١٩٢.

(٤) وبعده يأتي البيت الأخير :

فكم قصّرن من عمر طويل

به ، وأطلن من عمر قصير

(٥) أرسطاطاليس ٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م : فيلسوف ومعلم وعالم يوناني ، يعدّ هو وأستاذه أفلاطون أهم فيلسوف بين جميع فلاسفة اليونان القدماء. وقد ألّف بالعربية عدد من الكتب عنه وترجمت كتبه إلى العربية قديما وحديثا انظر الموسوعة العربية العالمية ١ : ٥٠٦.

(٦) الإسكندر المكدوني ٣٥٦ ـ ٣٢٣ ق. م : ملك مكدونيا (الإسكندر الأكبر) هو أحد كبار ـ

٢٩٣

تقوم من ضدين يتغالبان ، فروحهما اعتقاد الغلبة والظفر ، من كلّ واحد [س ٩٧] من الفريقين ، وجسمهما تلاقي الفئتين ، فإذا لم يقع اعتقاد الظّفر منهما ماتت الحروب ، وبقي الحرب مادام التكافؤ ، وفناؤه بغلب إحدى الطائفتين. فليكن همّك في إقامة همّة جيشك ، والإيقاع في نفوسهم أنك غالب وأنّ عندك دلائل بذلك ، وأرهم برهانات تقوّي بها نفوسهم ، وألّف كلمتهم وعدهم بالصّلات والكسوة وأوف بذلك. وتوعّد من كعّ وأحجم منهم بمؤلم العقوبة والتمثيل والفضيحة ، وإن أمكنك أن تكون أمورك كلّها في الحروب خدائع فافعل.

وكان المهلّب يقول لبنيه : عليكم في الحرب بالمكيدة فإنّها أبلغ من النجدة (١).

وفسّر بعضهم النجدة فقال : النجدة هي الجرأة على الإقدام عند ازورار الأقدام.

وعن أسامة بن زيد الليثي (٢) قال : كان النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى ويقول : الحرب خدعة (٣).

__________________

ـ القادة العسكريين. فتح كثيرا من بلاد العالم المتمدن المعروفة آنذاك ونقل إليها الأفكار الإغريقية. أبوه فيليب الثاني وأمه أولمبياس. تربّى الإسكندر مفعما بأحلام البطولة ، وكان يحفظ الإلياذة ويحمل معه نسخة منها. تتلمذ وهو في سن الثالثة عشرة على أرسطوطاليس.

لما بلغ العشرين مات والده فأصبح ملكا على مكدونيا. وفي عام ٣٣٤ ق. م هزم الإسكندر الفرس وفتح آسيا الصغرى ثم فتح صور وغزة ومصر وفي عام ٣٣١ ق. م هزم الفرس هزيمة ساحقة وفي عام ٣٢٦ ق. م اتجه نحو الهند حتى وصل إلى سهولها الغنية. أصيب الإسكندر بحمى الملاريا في بابل ومات في ١٣ / ٦ / ٣٢٣ ق. م ... عن الموسوعة العربية العالمية ٢ : ٢١ ، ٢٣.

(١) العقد ١ : ١٢٢.

(٢) هكذا ذكر في العقد ١ : ١٢٧ والمعروف في الصحابة هو أسامة بن زيد. وقد سبقت ترجمته.

(٣) جاء في شرح السير الكبير ١ : ١١٨ : ذكر عن سعيد بن ذي حدّان قال : أخبرني من سمع عليا رضي‌الله‌عنه يقول : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الحرب خدعة أو خدعة ـ بالنصب ـ وكلاهما لغة قال السرخسيّ : وفيه دليل على أنه لا بأس للمجاهد أن يخادع قرنه في حالة القتال ، وأن ذلك لا يكون غدرا منه والخبر المذكور في كتابنا هو في العقد ١ : ١٢٧.

٢٩٤

وكان مالك بن عبد الله الخثعميّ (١) وهو على الصائفة يقوم في الناس كلّما أراد أن يرحل ، فيحمد الله تعالى ويثني عليه ثمّ يقول : إنّي دارب بالغداة إن شاء الله درب كذا وكذا فيتفرّق الجواسيس عنه بذلك ، فإذا أصبح سلك بهم طريقا أخرى ، وكانت الروم تسمّيه الثعلب (٢).

قال ابن الكلبي (٣) : لمّا فتح عمرو بن العاصي قيساريّة (٤) سار حتّى نزل على غزّة (٥) ، فبعث إليه علجها أن أرسل إليّ رجلا من أصحابك أكلّمه ففكّر عمرو وقال : ما لهذا أحد غيري. قال : فخرج حتى دخل على العلج فكلّمه فسمع كلاما [س ٩٨] لم يسمع قطّ كلاما مثله. فقال له العلج : حدّثني هل في أصحابك أحد مثلك؟

قال : لا تسل عن هواني عليهم إذ بعثوني إليك وعرّضوني لما عرّضوني له ولا يدرون ما تصنع بي.

قال : فأمر لي بجائزة وكسوة ، وبعث إلى البوّاب :

__________________

(١) في أصلنا : عبد الله بن مالك الخثعمي والصواب ما أثبتناه كما ورد في العقد ١ : ١٢٧ ونهاية الأرب ٦ : ١٧٦ ومالك هو ابن عبد الله بن سنان بن سرح الخثعمي أبو حكيم المعروف بمالك السرايا ومالك الصوائف. تابعيّ ، من كبار القادة ، من أهل فلسطين ولي الصوائف زمن معاوية ثم يزيد ثم عبد الملك ومات غازيا في أرض الروم ، فكسر المسلمون على قبره أربعين لواء حدادا عليه ـ عن الأعلام ٦ : ٢٦٣.

(٢) الخبر في العقد ١ : ١٢٧ ونهاية الأرب ٦ : ١٧٦.

(٣) ابن الكلبي ت ٢٠٤ ه‍ ـ ٨١٩ م : هو هشام بن محمد بن السائب بن بشر الكلبي أبو المنذر ، مؤرخ عالم بالأنساب وأخبار العرب وأيامها كأبيه. من أهل الكوفة ووفاته فيها. الأعلام ٨ : ٨٧.

(٤) قيساريّة : بلد على ساحل الشام ، تعدّ في أعمال فلسطين ، بينها وبين طبرية ثلاثة أيام ، كانت قديما من أعيان أمهات المدن واسعة الرقعة طيبة ، كثيرة الخير والأهل وذكر ياقوت أنها في أيامه هي أشبه بالقرى منها بالمدن. عن معجم البلدان ٤ : ٤٧٨.

(٥) غزة : مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان معجم البلدان ٤ : ٢٢٩.

٢٩٥

إذا مرّ بك [م ٧٣] فاضرب عنقه وخذ ما معه.

فخرج من عنده ، فمرّ برجل من النّصارى من غسّان فعرفه فقال له : يا عمرو ، قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده فرجع فقال له الملك : ما ردّك إلينا؟

قال : نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمّي ، فأردت أن آتيك بعشرة منهم فتعطيهم هذه العطية الجزيلة ، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد.

قال : صدقت ، عجّل بهم. وبعث إلى البوّاب أن خلّ سبيله.

فخرج عمرو وهو يلتفت ، حتى إذا أمن قال : لا عدت لمثلها أبدا.

فلما صالحه عمرو دخل عليه العلج فقال له : أنت هو!!

قال : نعم ، على ما كان من غدرك (١).

وذكروا أنّ ملكا من ملوك العجم كان معروفا ببعد الغور ويقظة الفطنة وحسن السياسة ، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجّه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيّته قبل أن يظهر محاربته فيكشف عن ثلاث خصال من خلاله ، فكان يقول لعيونه : انظروا هل ترد على الملك أخبار رعيّته على حقائقها أم يختدعه عنها المهدي ذلك إليه ، وانظروا إلى الغنيّ في أيّ صفّ هو من رعيته؟ أفي [س ٩٩] من اشتدّ أنفه وقلّ شرهه أم في من قلّ أنفه واشتدّ شرهه. وانظروا إلى أيّ صنفي رعيّته القوّام بأمره ، أممّن نظر ليومه وغده أم ممّن شغله يومه عن غده؟

__________________

(١) الخبر في العقد ١ : ١٢٤.

٢٩٦

فإن قيل له : لا يختدع عن أخباره ، والغنى فيمن قلّ شرهه واشتدّ أنفه ، والقوّام بأمره ممّن نظر ليومه وغده ... قال : اشتغلوا عنه بغيره ، وإن قيل له ضدّ ذلك قال : نار كامنة تنتظر موقدا وأضغان مزمّلة تنتظر مخرجا ، اقصدوا له ، فلا حين أحين من سلامة مع تضييع ، ولا عدوّ أعدى من أمن أدّى إلى اغترار (١).

فمن جاور عدوّه كأهل هذا القطر ، وساكنه بنحو هذا القرب ، قمن أن يوقظ عين بصيرته ، ويذكي قلب حزامته ، ويكون بالحيلة أوثق منه بالشدّة ، وبالحذر أفرح منه بالنّجدة ، ويعلم أنّ الحرب حرب ، وترك الحذر فيها عطب ، وإن كان الحذر لا ينجي من القدر ، كما أنّ الصبر من أسباب الظّفر ، ولينتهز الفرصة عند إمكانها ، ولا يؤخرها في وقتها وإبانها.

ولا بأس أنكى من تثبّت حازم

ولا درع أوقى للنفوس من الصّبر

__________________

(١) الخبر في العقد ١ : ١٢٦.

٢٩٧
٢٩٨

الباب الثامن عشر

في الفروسية والتجنّد

٢٩٩
٣٠٠