تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي

تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

المؤلف:

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي


المحقق: عبد الإله أحمد نبهان و محمّد فاتح صالح زغل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ
المطبعة: دار البارودي للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9948-06-105-5
الصفحات: ٤٠٦

يرقل في الحرب ، ففقئت عينه يوم اليرموك ، ثم أرسله عمر رضي‌الله‌عنه مع خيل العراق إلى سعد ، فشهد القادسية وأبلى فيها بلاء حسنا ، وقام منه في ذلك اليوم مالم يقم من أحد وكان سبب الفتح على المسلمين وكان يقول :

أعور عيني أهله علّا

قد صالح الحياة حتّى ملّا

لا بدّ أن يعدّ أو يفلّا

وضرب في الحرب فقطعت رجله فجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك ويقول :

الفحل يحمي شوله معقولا

وقاتل حتى قتل رحمه‌الله.

وكان أبو بكر رضي‌الله‌عنه يقول له : كنا ننتفع من الشيخ برأيه ومن الشابّ بنجدته فاصبر وصابر.

وروي أن أبا عامر الأشعري (١) لقي يوم أوطاس عشرة إخوة من

__________________

ـ يلقب بالمرقال وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص ، أسلم يوم فتح مكة ونزل الشام بعد فتحها ، فأرسله عمر مع ستة عشر رجلا من جند الشام مددا لسعد بن أبي وقاص في العراق وشهد القادسية مع سعد وأصيبت عينه يوم اليرموك فقيل له : الأعور ، وفتح جلولاء ، وكان مع عليّ بن أبي طالب في حروبه. وتولى قيادة الرجالة في صفين فقتل في آخر أيامها. الإصابة ٦ : ٢٧٥ برقم : ٨٩١٣ والأعلام ٨ : ٦٦ وله ذكر في يوم جلولاء. انظر كتاب البلدان وفتوحها للبلاذري ٣٠٦ وما بعدها.

(١) أبو عامر الأشعري من الصحابة الشجعان والخبر المذكور هنا هو في السيرة النبوية ٢ : ٩٠٠ قال ابن إسحاق : وبعث رسول الله في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال ، فرمي أبو عامر بسهم فقتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه فقاتلهم ، ففتح الله على يديه وهزمهم. ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله انظر السيرة ٢ : ٨٩٨ ـ ٩٠٠.

٢٢١

المشركين فحمل عليه أحدهم ، فحمل عليه أبو عامر فقتله ، ثم لم يزل يفعل ذلك بهم واحدا بعد واحد حتى قتل التسعة وبقي العاشر ، فتجاولا وأبو عامر يدعوه ويقول : اللهمّ اشهد. فقال : اللهمّ لا تشهد عليّ. فكفّ عنه أبو عامر فأفلت ثم أسلم بعد فحسن إسلامه ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا رآه يقول : هذا شريد أبي عامر (١).

ويروى أنّ أبا جهل (٢) بن هشام قال يوم بدر : اللهمّ دينك القويم وأياديك الحسنة ، أيّنا كان أحبّ إليك فانصره اليوم على صاحبه ، ثمّ أقبل يرتجز ويقول :

ما تنقم الحرب العوان منّي

بازل عامين حديث سنّي

لمثل هذا ولدتني أمي (٣)

فكان أوّل من لقيه معاذ بن عمرو بن الجموح (٤) قال : سمعت القوم ـ وأبو جهل في مثل الحرجة ـ يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه. فلمّا رأيته جعلته من شأني فصمدت نحوه ، فلمّا أمكنني حملت عليه فضربته

__________________

(١) السيرة النبوية ٢ : ٩٠٠

(٢) أبو جهل ت ٢ ه‍ ـ ٦٢٤ م : عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي ، أشد الناس عداوة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في صدر الإسلام ، وأحد سادات قريش وأبطالها ودهاتها في الجاهلية ، سودته قريش ولم يطرّ مشاربه فأدخلته دار الندوة مع الكهول. أدرك الإسلام وكان يقال له : أبو الحكم فدعاه المسلمون أبا جهل. قتل في موقعة بدر. انظر السيرة النبوية ١ : ٥٢٩ والأعلام ٥ : ٨٦.

(٣) انظر الخبر والرجز في السيرة النبوية ٢ : ٤٦٥.

(٤) معاذ بن عمرو ت ٢٥ ه‍ ـ ٦٤٥ م : معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد من بني كعب بن سلمة الأنصاري الخزرجي السلمي ، شجاع ، صحابي شهد العقبة وبدرا. ضرب أبا جهل ببدر فقطع ساقه فضربه عكرمة فقطع يده وبقي يقاتل إلى آخر النهار. وعاش إلى خلافة عثمان. الإصابة ٦ : ١٠٩ برقم ٨٠٤٦ والأعلام ٧ : ٢٥٨ والسيرة النبوية ١ : ٤٦٥.

٢٢٢

ضربة أطنّت قدمه بنصف ساقه ، فو الله ما شبّهتها حين طاحت إلا بالنّواة تطيح من تحت المرضخ قال : وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي ، فتعلّقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامّة يومي وإنّي لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي وتمطيت بها حتّى طرحتها. وعاش معاذ بعدها حتى كان زمن عثمان رضي‌الله‌عنه.

ومن ذلك ما ذكر في حرب اليمامة مع خالد / [م ٥٠] بن الوليد حين حاربوا حربا لم ير قطّ مثلها وانهزم المسلمون حتى زال خالد عن فسطاطه فقطع بالسيوف. ثمّ إنّ المسلمين تداعوا فقال ثابت بن قيس : بئس ما عوّدتم أنفسكم يا معشر المسلمين ثمّ جالد بسيفه حتّى قتل وجالد زيد بن الخطاب حتى انكشف الناس عن رحالهم وقاتل حتّى قتل. ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان إذا حضر الحرب أخذه نافض حتّى يضبطه الرجال ، ثمّ يفيق فيبول بولا أحمر ثمّ يثور كأنّه الأسد فلا يقوم له شيء ، ففعل ذلك ثمّ قاتل القوم وضرب قوما لا يرفع له شيء إلّا هزّه فثاب إليه الناس ورجعت إليهم أفئدتهم ، ورجع المسلمون حتى ألجؤوا العدوّ إلى حديقة الموت وفيها عدوّ الله مسيلمة الكذّاب فقال البراء : يا معشر المسلمين : ألقوني عليهم في الحديقة. فقال الناس : لا تفعل ، فقال : والله لتطرحنّني عليهم فيها ، فاحتمل حتى أشرف على الجدار ثمّ اقتحم الحديقة فقاتلهم حتّى فتحها الله للمسلمين ، وقتل مسيلمة عدوّ الله ، قتله وحشي (١) مولى جبير بن

__________________

(١) وحشيّ ت ٢٥ ه‍ ـ ٦٤٥ م : وحشيّ بن حرب الحبشي أبو وسمة ، مولى بني نوفل ، صحابي ، من سودان مكة ، كان من أبطال الموالي في الجاهلية ، وهو قاتل الحمزة عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). قتله يوم أحد ، رماه بحربة ، ثم وفد على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مع وفد أهل الطائف بعد أخذها ، وأسلم فقال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : غيّب عني وجهك يا وحشيّ ، لا أراك. وشهد اليرموك وشارك في قتل ـ

٢٢٣

مطعم (١) وهو الأصحّ مّما قيل والله أعلم. وقتل يومئذ من المسلمين ألف ومئتا رجل ، وقتل من بني حنيفة أتباع مسيلمة في الفضاء سبعة آلاف وفي حديقة الموت سبعة آلاف وفي الطّلب نحو منها (٢).

وذكر أنّ ثابت بن قيس ـ رحمه‌الله ـ قاتل في ذلك اليوم وصابر فقطعت رجله وسقطت في الأرض وأخذها ورمى بها قاتله فقتله ثم استشهد رحمه‌الله.

وفي تلك الحرب قاتلت أم عمارة الأنصاريّة (٣) واسمها نسيبة حتّى

__________________

ـ مسيلمة ، وزعم أنه رماه بحربته التي قتل بها حمزة. وكان يقول : قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس. وسكن حمص فمات بها في خلافة عثمان. عن الأعلام وانظر السيرة النبوية ٢ : ٥٩٢ ـ ٥٩٣ وهو مولى جبير بن مطعم.

(١) جبير بن مطعم ت ٥٩ ه‍ ـ ٦٧٩ م : جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي ، أبو عدي ، صحابي ، كان من علماء قريش وسادتهم ، توفي بالمدينة وعدّه الجاحظ من كبار النسابين. وفي الإصابة : كان أنسب قرشي لقريش والعرب قاطبة. الإصابة ١ : ٢٣٥ برقم : ١٠٨٧ والسيرة ٢ : ٥٨٥ والأعلام ٢ : ١١٢.

(٢) انظر البلدان وفتوحها للبلاذري : ١٠٣ وما بعدها.

(٣) أم عمارة الأنصارية ت ١٣ ه‍ ـ ٦٣٤ م : نسيبة بنت كعب بن عوف المازنية الأنصارية ، من بني النجار ، صحابية ، اشتهرت بالشجاعة ، تعد من أبطال المعارك ، تزوجها في الجاهلية زيد بن عاصم المازني ، ولما ظهر الإسلام أسلمت وشهدت بيعة العقبة وأحدا والحديبية وخيبر وحنينا وسمعت من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أحاديث ، وكانت تخرج إلى القتال فتسقي الجرحى وتقاتل ، وأبلت يوم أحد بلاء حسنا وجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة رمح وضربة سيف ، وكانت ممن ثبت مع رسول الله حين تراجع الناس ، وقد شوهدت في ذلك اليوم تقاتل أشد القتال وأمها معها تعصب جراحها وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إذا حدث عن يوم أحد وذكر أم عمارة يقول : ما التفت يمينا ولا شمالا إلا رأيتها تقاتل دوني. وحضرت حرب اليمامة فقاتلت قتال الأبطال وقطعت يدها وجرحت فانصرفت إلى المدينة تداوي جراحها ، فكان أبو بكر وهو خليفة يعودها ويسأل عن حالها. الإصابة ٨ : ١٩٨ برقم : ١٠٤٩ و ٨ : ٢٦٢ برقم : ١٤٢٠ والأعلام ٨ : ١٩.

٢٢٤

أصيبت يدها ، وجرحت يومئذ اثني عشر جرحا من طعنة وضربة. وكانت قد شهدت بيعة العقبة وشهدت أحدا مع زوجها زيد بن عاصم (١) وابنيها حبيب (٢) وعبد الله (٣) فيما ذكر ابن اسحاق ، ثم شهدت مع ابنها عبد الله اليمامة ففعلت ما ذكرناه.

وروي أنها أتت النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت : ما أرى كلّ شيء إلّا للرجال وما أرى النساء يذكرن فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) الآية. إلى قوله (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٤). وروي أن عليّ بن بكّار رئي في بلاد الروم يحمل على العدو فيطعن ويحمل فيطعن حتّى دخل عليه علج فطعنه في بطنه فخرج تربه (٥) فنزل عن فرسه فأخذه بيده وردّه في بطنه وشدّه ، ثم ركب وأخذ رمحه وجعل يحمل على العدو ، فلم يزل يقتل حتى قتل ثلاثة عشر رجلا. وذكر في كتاب حياة القلوب أنه طعن فخرجت مصارينه على قربوس سرجه فردّها في بطنه وشدّها بعمامته وفعل ما ذكر. وكان يقول : نفق عندي عشرون ومئة فرس ما منها فرس إلا اشتريته بمالي.

__________________

(١) زيد بن عاصم بن عمرو الأنصاري المازني شهد العقبة وبدرا وأحدا ، الإصابة ٣ : ٣٠ برقم : ٢٩٠٥ وانظر الإصابة ٢ : ٣٢١ برقم : ١٥٧٩.

(٢) حبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني ، شهد العقبة وأحدا والخندق والمشاهد. قتله مسيلمة في حروب الردة. فلما كان يوم اليمامة خرج أخوه عبد الله بن زيد وأمه وكانت نذرت ألا يصيبها غسل حتى يقتل مسيلمة وأمه أم عمارة نسيبة. الإصابة ١ : ٣٢١ برقم ١٥٧٩.

(٣) عبد الله بن زيد بن عاصم ٧ ق. ه ـ ٦٣ ه‍ ـ ٦١٦ ـ ٦٨٣ م : عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب النجاري الأنصاري. صحابي ، من أهل المدينة ، كان شجاعا ، شهد بدرا وأحدا وغيرها وقتل مسيلمة الكذاب يوم اليمامة. قتل في وقعة الحرة. الأعلام ٤ : ٩٨ والإصابة ٤ : ٧٢ برقم : ٤٦٧٩.

(٤) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٥.

(٥) هكذا وردت ، والمقصود الأحشاء.

٢٢٥

وروي أنه كان إذا دخل أرض الرّوم لا يضحك ، فقيل له : يا أبا الحسن ، ما نراك تضحك؟ فقال : إنما نغزوا غضبا لله والغضبان لا يضحك.

وفي غزوة القادسية حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشّريد (١) معها بنوها ، أربعة رجال ، فقالت لهم من أوّل الليل : يا بنيّ إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ، والله الذي لا إله إلا هو ، إنّكم لبنو رجل واحد كما أنّكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ، ولا هجّنت حسبكم ولا غيّرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أنّ الدار الباقية خير من الدار الفانية ، والله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢) فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله فاغدوا إلى قتال عدوّكم مستبصرين وعلى أعداء الله تعالى مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها ، واضطرمت لظى على سياقها ، وجللت نارا على أرواقها ، فتيمموا على وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة ، فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قبولها ، فلمّا كان الصبح باكروا مراكزهم وقال أوّلهم :

__________________

(١) الخنساء ت ٢٤ ه‍ ـ ٦٤٥ م : تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية السلمية ، من بني سليم من قيس عيلان من مضر ، أشهر شواعر الحرب ، من أهل نجد ، عاشت أكثر عمرها في العصر الجاهلي وأدركت الإسلام فأسلمت ووفدت على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مع قومها من بني سليم. وكان رسول الله يستنشدها شعرها ويعجبه ، وكان لها أربعة بنين استشهدوا في حرب القادسية سنة ١٦ ه‍. الإصابة ٨ : ٣٤ برقم : ٢٠٠ والأعلام ٢ : ٨٦.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ٢٠٠

٢٢٦

يا إخوتي إنّ العجوز النّاصحه

قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه

مقالة ذات بيان واضحه

فباكروا الحرب الضروس الكالحه

فأنتم بين حياة صالحه

أو ميتة تورث غنما رابحه

وتقدّم فقاتل حتى قتل ، ثمّ حمل الثاني وهو يقول :

إنّ العجوز ذات حزم وجلد

والنظر الأوفق والرأي السّدد

قد أمرتنا بالسداد والرّشد

نصيحة منها وبرّا بالولد

فباكروا الحرب حماة في العدد

إمّا لفوز بارد على الكبد

أو ميتة تورثكم غنم الأبد

في جنّة الفردوس والعيش الرّغد

ثم تقدّم فقاتل حتّى قتل ثم حمل الثالث وهو يقول :

والله لا نعصي العجوز حرفا

قد أمرتنا حربا وعطفا

نصحا وبرّا صادقا ولطفا

فبادروا الحرب الضّروس زحفا

حتّى تلفّوا آل كسرى لفّا

أو تكشفوهم عن حماكم كشفا

إنّا نرى التقصير عنهم ضعفا

والقتل فيهم نجدة وعرفا

ثم قاتل حتّى قتل ثمّ حمل الرابع وهو يقول :

لست للخنسا (١) ولا للأكرم

ولا لعمرو ذي السّناء الأقدم / [م ٥٢]

إن لم أرد في الحرب جيش الأعجم

إمّا لفوز عاجل أو مغنم

أو لوفاة في السبيل الأكرم

ثمّ قاتل حتّى قتل رحمهم‌الله تعالى. فبلغ الخنساء الخبر فقالت : الحمد لّله الذي شرّفني بقتلهم وأرجو أن يجمعني الله بهم في مستقرّ رحمته.

__________________

(١) في الأصل : ليست للخنساء. وبه ينكسر الوزن.

٢٢٧

وكان عمر رضي‌الله‌عنه يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة لكلّ واحد مئة درهم حتّى قبض(١).

فبهذه الأوصاف يوصف الرجال ، ولمثل قصدهم تخلص الأعمال ، وبكريم صفاتهم يستحقّ اسم الرجوليّة وتحمد الذكوريّة. فطوبى لمن بذل في سبيل الله قراضه وتجره ، واحتسب عند من لا يضيع عنده مثقال حبة من خردل أجره ، ووجّه إلى مرضات الله مقاصده وأغراضه ، وجعل الجهاد في سبيله قبلته وإمامه ، وصيره بداته وختامه ، وترك التسويف والتعليل واشترى الكثير بالقليل (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٢).

__________________

(١) خبر الخنساء ورجز أولادها في الإصابة : النساء برقم ٣٥٣ ص ٦٦ ، ٦٧ ونقله بتمامه عمر رضا كحالة في ترجمتها في كتابه : أعلام النساء.

(٢) سورة التوبة ٩ : ١١١

٢٢٨

الباب الخامس عشر

في المبارزة

٢٢٩
٢٣٠

في المبارزة

روي أنّ قول الله تعالى (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ)(١) إلى آخر الآية .. نزلت في الذين بارزوا يوم بدر وهم ستة من قريش ثلاثة مؤمنون : عبيدة ابن الحارث بن المطّلب (٢) ، وحمزة بن عبد المطّلب (٣) وعليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم ، وثلاثة كافرون عتبة (٤)

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ / ١٩ وتمامها : يصب من فوق رؤوسهم الحميم.

(٢) عبيدة بن الحارث ٦٢ ق. ه ـ ٢ ه‍ ـ ٥٦٢ ـ ٦٢٤ م : عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، أبو الحارث ، من أبطال قريش في الجاهلية والإسلام ، ولد بمكة وأسلم قبل دخول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) دار الأرقم ، وعقد له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ثاني لواء عقده بعد أن قدم المدينة وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين فالتقى بالمشركين وعليهم أبو سفيان ابن حرب في موضع يقال له «ثنية المرة» وكان هذا أول قتال جرى في الإسلام ثم شهد بدرا وقتل فيها. الإصابة ٤ : ٢٠٩ برقم : ٥٣٦٧ والسيرة النبوية ١ : ٣٣٠ والأعلام ٤ : ١٩٨.

(٣) حمزة بن عبد المطلب ٥٤ ق. ه ـ ٣ ه‍ ٥٥٦ ـ ٦٢٥ م : حمزة بن عبد المطلب بن هاشم أبو عمارة من قريش ، عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأحد صناديد قريش وسادتهم في الجاهلية والإسلام. ولد ونشأ بمكة ، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة. أسلم وأظهر إسلامه ، وهاجر مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إلى المدينة وحضر موقعة بدر وقتل في موقعة أحد ودفنه المسلمون في المدينة. الإصابة ٢ : ٣٧ برقم ١٨٢٢ والأعلام ٢ : ٢٧٨.

(٤) عتبة بن ربيعة ٢ ه‍ ـ ٦٢٤ م : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أبو الوليد ، كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهلية كان موصوفا بالرأي والحلم والفضل ، خطيبا نافذ القول ، نشأ يتيما في حجر حرب بن أمية ، وأول ما عرف عنه توسطه للصلح في حرب الفجار بين هوازن وكنانة ، وقد رضي الفريقان بحكمه وانقضت الحرب على يده وكان يقال : لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب ، فإنهما سادا بغير مال ، أدرك الإسلام وطغى فشهد بدرا مع المشركين. وكان ضخم الجثة عظيم الهامة. قتل يوم بدر. السيرة النبوية ١ : ٤٥٧ ، ٤٥٨ والأعلام ٤ : ٢٠٠.

٢٣١

وشيبة (١) ابنا ربيعة والوليد بن عتبة (٢). وكان سبب ذلك أنّ الأسود بن عبد الأسد المخزومي (٣) حلف قبل القتال بآلهتهم ليشربنّ من الحوض الذي صنعه محمد وليهدمنّ منه ، فلمّا دنا من الحوض برز إليه حمزة بن عبد المطّلب فضرب رجله فقطعها وهو دون الحوض ، فأقبل يحبو حتى وقع في الحوض وهدم منه ليبرّ قسمه ، فتبعه حمزة فقتله في الحوض فكان أوّل قتيل من المشركين. فاحتمى له المشركون فانتدب منهم الثلاثة المذكورون للمبارزة ، كما يذكر بعد إن شاء الله.

وروى أشهب عن مالك : وسئل عن الرجل بين الصّفّين يدعو إلى المبارزة فقال : إن صحّت نيته فلا بأس ، وقد فعل فيما مضى.

وقال ابن حبيب : سمعت أهل العلم يقولون : لا بأس بالمبارزة وذلك

__________________

(١) شيبة بن ربيعة ت ٢ ه‍ ـ ٦٢٤ م : شيبة بن ربيعة بن عبد شمس من زعماء قريش في الجاهلية ، أدرك الإسلام وقتل على الوثنية ، وهو أحد الذين نزلت فيهم الآية (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) وهم سبعة عشر رجلا من قريش ، اقتسموا عقبات مكة في بدء ظهور الإسلام وجعلوا دأبهم في موسم الحج أن يصدوا الناس عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). ولما كانت وقعة بدر حضرها شيبة مع مشركيهم ونحر تسع ذبائح لإطعام رجالهم. وقتل في بدر. السيرة النبوية ١ : ٤٥٧ وما بعدها. الأعلام ٣ : ١٨١.

(٢) الوليد بن عتبة بن ربيعة من فرسان قريش ، قتله عليّ بن أبي طالب في المبارزة يوم بدر. انظر السيرة النبوية ١ : ٤٥٨.

(٣) الأسود بن عبد الأسود المخزومي من فرسان قريش قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر. السيرة النبوية ١ : ٤٥٧ ، ٥٣١. قال ابن إسحاق : خرج الأسود بن عبد الأسود المخزومي وكان رجلا شرسا سيىء الخلق فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم (أي حوض المسلمين يوم بدر) أو لأهدمنه أو لأموتنّ دونه ، فلما خرج ، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو دما أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد ـ زعم ـ أن تبر يمينه ، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

٢٣٢

على قدر النيّة ولا يجوز الاستبداد بها إلّا بإذن الإمام ، فإن أذن جازت إجابة من دعا إليها بشرطين :

أحدهما : أن يكون ذا نجدة وبأس وشجاعة ، علم من نفسه أنه لا يعجز عن مقارنة قرنه.

وقال مالك : إن خاف الضعف فلا يبارز ، فربّ ضعيف يقتل فيهدّ [م ٥٣] الناس ويوهنهم. وسيرد ما في عضده ومعونته إن خيف عليه الغلبة.

والشرط الثاني أن لا يكون زعيم الجيش فيؤثر في المسلمين فقده فإنّ فقد الزعيم المدبّر في الحرب يفضي إلى الهزيمة ، وقد قيل : إنّ إقدام النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على المبارزة كان قد وثق نصر الله له ، وأيقن بإنجاز ما وعده به ، وقد علم من ذلك ما لا ينبغي لغيره :

فممّا ورد من ذلك ما وقع ببدر حين برز عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة فبرز إليهم من الأنصار عوف (١) ومعاذ (٢) ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فقال القرشيّون ليبرز إلينا اكفاؤنا فما نعرفكم ، فبرز إليهم ثلاثة من بني هاشم. برز علي بن أبي طالب إلى

__________________

(١) عوف بن عفراء ت ٢ ه‍ ـ ٦٢٤ م : عوف بن الحارث وهو عوف بن عفراء أخو معاذ ومعوذ ، ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا ، وهو الذي قال للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ ؛ قال : أن يراه قد غمس يده في القتال حاسرا. فنزع عوف درعه وتقدم فقاتل حتى قتل شهيدا. انظر الإصابة ٥ : ٤٢ برقم : ٦٠٨٧ والسيرة النبوية ١ : ٤٦٠ (وقعة بدر) وقد قتل أخوه معوذ في بدر أيضا. السيرة ١ : ٤٦٦.

(٢) معاذ بن عفراء ت ٢ ه‍ ـ ٦٢٤ م : هو معاذ بن الحارث بن رفاعة النجاري الأنصاري الخزرجي المعروف بابن عفراء وهي أمه ، شهد العقبة وبدرا وقيل إنه جرح ببدر فمات من جراحه ، عن الإصابة ٦ : ١٠٧ برقم : ٨٠٣٤.

٢٣٣

الوليد فقتله ، وبرز حمزة إلى عتبة فقتله وبرز عبيدة بن الحارث إلى شيبة فاختلفا ضربتين أثبت كلّ واحد منهما صاحبه فمات شيبة لوقته ، واحتمل عبيدة حيّا قد ندرت (١) رجله فمات بعد بالصّفراء في طريق المدينة (٢) وذلك كلّه بمحضر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع ضنّه بأصحابه وإشفاقه على قرابته.

ودعا في حرب الخندق (٣) عمرو بن عبد ود (٤) إلى البراز فلم يجبه أحد ، ثم دعا في اليوم الثاني فلم يجبه أحد ، ثم كذلك في اليوم الثالث. فلمّا رأى الإحجام عنه والحذر منه قال : يا محمد ، ألستم تزعمون أنّ قتلاكم في الجنّة أحياء عند ربّهم يرزقون وأنّ قتلانا في النّار يعذّبون ، فما يبالي أحدكم أن يقدم على كرامة من ربه أو يقدم عدوّه إلى النار وأنشأ يقول :

ولقد بححت من الندا

ء بجمعهم هل من مبارز

ووقفت إذ حين المشج

جع موقف القرب المناجز

إني كذلك لم أزل

متسرّعا نحو الهزاهز

إنّ الشجاعة في الفتى

والجود من خير الغرائز

__________________

(١) ندرت رجله : سقطت.

(٢) انظر الخبر في الأحكام السلطانية : ٣٨.

(٣) كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس للهجرة. أخبارها في السيرة النبوية ٢ : ٧٠٠.

(٤) عمرو بن عبد ودّ ت ٥ ه‍ ـ ٦٢٧ م : عمرو بن عبد ودّ العامري من بني لؤي من قريش ، فارس قريش وشجاعها في الجاهلية أدرك الإسلام ولم يسلم ، وعاش إلى أن كانت وقعة الخندق ، فحضرها وقد تجاوز الثمانين ، فقتله عليّ بن أبي طالب. ولم يشتهر اشتهار غيره من فرسان الجاهلية كعامر بن الطفيل وبسطام وغيرهما لأن هؤلاء كانوا أصحاب غارات ونهب وأهل بادية. الأعلام ٥ : ٨١. السيرة ٢ : ٧٢٩.

٢٣٤

فقام عليّ رضي‌الله‌عنه فاستأذن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأذن له في المبارزة وقال : اخرج يا عليّ في حفظ الله وعياذه ، فخرج وهو يقول :

أبشر أتاك مجيب صو

تك يا بن ودّ في الهزاهز

ذو نيّة وبصيرة

يرجو الغداة نجاة فائز

إنّي لأرجو أن أقي

م عليك نائحة الجنائز

من طعنة نجلاء يم

شي ذكرها عند الهزاهز

ثم تجاولا وثارت عجاجة اختفتهما عن الأبصار ثمّ انجلت عنهما وعليّ رضي‌الله‌عنه يمسح سيفه بثوب عمرو وهو قتيل (١).

ومنع أبو حنيفة أن يدعو المسلم إلى البراز مبتدئا ، ورأى / [م ٥٤] ذلك بغيا.

وعن عليّ رضي‌الله‌عنه أنّه قال لابنه الحسن (٢) : يا حسن لا تدعونّ أحدا لمبارزة ، فإذا دعيت إليها فأجب ، فإنّ الداعي باغ ، والباغي مصروع (٣).

__________________

(١) الخبر في السيرة النبوية ٢ : ٧٢٩ ولكن بدون هذا الشعر وهو بتمامه مع الشعر في الأحكام السلطانية : ٣٨.

(٢) الحسن بن علي ٣ ـ ٥٠ ه‍ ـ ٦٢٤ ـ ٦٧٠ م : الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، أبو محمد ، ولد في المدينة ، وأمه فاطمة الزهراء ، وهو أكبر أولادها وأولهم ، كان عاقلا حليما محبا للخير ، فصيحا ، من أحسن الناس منطقا وبديهة. دخل أصبهان غازيا مجتازا إلى غزاة جرجان ومعه عبد الله بن الزبير. بايعه أهل العراق بالخلافة بعد مقتل أبيه سنة أربعين لكنه خلع نفسه وسلم الأمر إلى معاوية ، وأقام بالمدينة إلى أن توفي.

(٣) عيون الأخبار ١ : ١٢٨ وفيه : يا بني لا تدعونّ أحدا إلى البراز ، ولا يدعونّك أحد إليه إلا أجبته فإنه بغي.

٢٣٥

وجوّزه الشافعي ورآه إظهار قوّة في الدين ونصرة له.

وروي أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ظاهر بين درعين يوم أحد (١) وأخذ سيفا فهزّه وقال : من يأخذ هذا بحقّه؟ فقام إليه عمر بن الخطّاب فقال : أنا أخذه بحقّه فأعرض عنه ، ثم هزّه الثانية وقال : من يأخذ هذا بحقّه؟ فقام الزبير ابن العوّام وقال : أنا آخذه بحقّه ، فأعرض عنه ، فوجدا في أنفسهما. ثم هزّه الثالثة وقال : من يأخذ هذا بحقّه؟ فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال : وما حقّه يا رسول الله؟

قال : أن تضرب به في العدوّ حتّى ينحني ، فأخذه منه ، وأعلم بعصابته الحمراء ومشى إلى الحرب وهو يقول :

أنا الذي أخذته برقّه

إذ قيل : من يأخذه بحقه

قبلته بعدله وصدقه

للقادر الرحمن بين خلقه

المدرك القابض فضل رزقه

من كان في مغربه أو شرقه

ثم جعل يتبختر بين الصّفين فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنّها لمشية يبغضها الله تعالى إلّا في هذا الموطن ، ودخل الحرب مبتدئا بالقتال وهو يقول :

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالصّفح من النخيل

ألّا أزال الدهر في الكبول

أضرب بسيف الله والرسول (٢)

__________________

(١) في السيرة النبوية ٢ : ٦٠٣ قال ابن إسحاق : ونهض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إلى صخرة في الجبل ليعلوها ، وقد كان بدّن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وظاهر بين درعين فلما ذهب لينهض (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم يستطع ، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به.

(٢) الخبر في السيرة النبوية ٢ : ٥٨٩ ، ٥٩٠ على نحو مقارب. ولم يرد فيها الرجز الذي على القاف والخبر بتمامه مع الرجز منقولا عن ابن إسحاق كتاب الأحكام السلطانية للماوردي : ٤٠.

٢٣٦

وقد بارز أنس بن مالك مرزبان الدارة وأخذ منطقته وسوارية ، فقوّمت بثلاثين أو أربعين ألفا.

وروي أنه خرج بطريق يدعو إلى البراز يوم أجنادين (١) فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب (٢) فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله ولم يعرض لسلبه ، ثم برز آخر يدعو إلى البراز فبرز إليه أيضا عبد الله ابن الزبير فتشاوكا بالرمح ساعة ثم صارا إلى السيفين ، فحمل عبد الله عبد على البطريق وهو دارع فضربه على عاتقه وهو يقول : خذها وأنا ابن عبد المطلب فأثبته وقطع سيفه الدرع في منكبه وولّى الروميّ منهزما. فعزم عمر رضي‌الله‌عنه على عبد الله ألّا يبارز فقال : ما أجدني والله أصبر ، فلمّا اختلطت السيوف وأخذ بعضها بعضا وجد بين عشرة من الروم قتلى وهو قتيل رحمه‌الله.

وروي أنّ القعقاع بن عمرو (٣) بارز في حرب

__________________

(١) كانت وقعة أجنادين يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة. البلدان للبلاذري : ١٣٣.

(٢) عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ت ١٣ ه‍ : ابن هاشم وهو ابن عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، كان ممن ثبت يوم حنين ، قتل بأجنادين سنة ١٣ ه‍. قال الواقدي : وكان أول قتيل من الروم المبارز لعبد الله بن الزبير فقتله عبد الله ، ثم برز آخر فقتله ، ثم وجد في المعركة قتيلا وحوله عشرة من الروم قتلى. عن الإصابة ٤ : ٦٨ برقم : ٤٦٧٢. وانظر كتاب البلدان للبلاذري : ١٣٢.

(٣) القعقاع بن عمرو ت ٤٠ ه‍ ـ ٦٦٠ م : القعقاع بن عمرو التميمي ، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام ، له صحبة ، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس ، وسكن الكوفة ، وأدرك وقعة صفين فحضرها مع علي ، وكان يتقلد في أوقات الزينة سيف هرقل ملك الروم ويلبس درع بهرام ملك الفرس ، وهما مما أصابه من الغنائم ، وكان شاعرا. الإصابة ٥ : ٢٤٤ برقم : ٧١٢١ والأعلام ٥ : ٢٠١.

٢٣٧

القادسية (١) عظيما من عظماء الفرس وبطلا من أبطالها فاجتلدا بسيفيهما فقتله القعقاع وانكسرت الأعاجم لذلك ونادى القعقاع ثانية فخرج إليه رجلان من عظمائهم فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان (٢) فضرب القعقاع أحدهما فأذرى رأسه وفعل ابن ظبيان مثل ذلك بالآخر. وجعل القعقاع يقول للمسلمين : باشروهم بالسيوف فإنّما يحصد الناس بها.

ولمّا تطاردت الخيل والفرسان خرج رجل من الفرس فنادى للمبارزة فانتدب إليه عمرو بن معديكرب (٣) فبارزه واعتنقه ثمّ جلد به الأرض فذبحه ثمّ التفت إلى الناس فقال : إنّ الفارسيّ إذا فقد فرسه فإنّما هو تيس.

وفي تلك الحرب خرج رجل من العجم حتّى إذا كان بين الصفّين هدر وشقشق ونادى : من يبارز؟ فخرج رجل يقال له : بشير بن علقمة (٤) وكان قصيرا دميما فقال : يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل فلم يجبه

__________________

(١) كان يوم القادسية في آخر سنة ست عشرة. البلدان للبلاذري : ٢٩٩ وكان قتال القادسية يوم الخميس والجمعة وليلة السبت وهي ليلة الهرير ، وإنما سميت ليلة صفين بها. البلدان : ٣٠٢.

(٢) الحارث بن ظبيان بن الحارث أخو بني تيم اللات ، كان من أبطال القادسية يوم أغواث. انظر خبره في تاريخ الطبري ٣ : ٥٤٣.

(٣) عمرو بن معديكرب ت ٢١ ه‍ ـ ٦٤٢ م : عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي ، أبو ثور ، فارس اليمن ، وفد على المدينة سنة ٩ ه‍ في عشرة من بني زبيد فأسلم وأسلموا وعادوا. فلما توفي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ارتد عمرو في اليمن ، ثم رجع إلى الإسلام فبعثه أبو بكر إلى الشام ، فشهد اليرموك وفقد إحدى عينيه ، وبعثه عمر إلى العراق فشهد القادسية ، وكان عصيّ النفس أبيها فيه قسوة الجاهلية. له شعر جيد. توفي على مقربة من الري وقيل : مات عطشا يوم القادسية. الإصابة ٥ : ١٨ برقم : ٥٩٦٥ والأعلام ٥ : ٨٦.

(٤) بشير بن علقمة وذكره ابن حبيش باسم : بشر بن علقمة في سياق سرده للخبر الوارد في كتابنا هذا. انظر غزوات ابن حبيش ٢ : ١٨٨.

٢٣٨

أحد. فقال : أما والله لو لا أن تردّوني لخرجت إليه ، فلمّا رأى أنّ أحدا لم يتهيّأ لمبارزته تقدّم فلّما رآه الفارسيّ هدر ونزل إليه فاحتمله وجلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود بمنطقته ، فلمّا سلّ السيف حاص الفرس حيصة شديدة فجبذ المقود فقلبه عنه فقام بشير فافترسه فجعل أصحابه يصيحون ، فقال : صيحوا ما بدا لكم فو الله لا أتركه حتّى أقتله وأسلبه ، فذبحه وأخذ سلبه ، فنفّله سعد (١) جميع السّلب فباعه باثني عشر ألف درهم.

وإذا بارز مسلم كافرا فهل يعان إن ضعف أم لا؟

روي في ذلك عن سحنون قولان :

ـ المنع لأن العهد أن لا يقاتله إلا واحد.

ـ والجواز كما لو أسر لوجب تخليصه.

وقال أشهب : وأمّا لو كانوا جماعة ثلاثة أو أربعة أو أكثر ، خرجوا مبارزة لمثلهم لجاز معونة بعضهم لبعض على كل حال مثل أن يفرغ أحد من قرنه ثمّ يعين صاحبه كما فعل حمزة وعليّ وعبيدة يوم بدر حين قطع شيبة رجل عبيدة ، فكرّ حمزة وعليّ على شيبة فقتلاه واستنقذا صاحبهما (٢).

قال سحنون : كره مالك وغيره من أصحابنا أن يبارز الرجل أباه الكافر وأن ينتدبه أو يقتله ، قال سحنون : إلّا أن يضطرّ ويخافه على

__________________

(١) أي سعد بن أبي وقاص.

(٢) السيرة النبوية ١ : ٤٥٨

٢٣٩

نفسه فله ذلك. وقد قيل : إنّ الجدّ للأب أو للأم كالأب ، وليس كذلك عندنا ، وقد تنازع الناس في الأب فكيف غيره (١).

وأتى أبو عبيدة برأس أبيه إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد نزلت (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(٢).

__________________

(١) قال محمد بن الحسن في السير الكبير : ولا بأس بأن يقتل الرجل من المسلمين كل ذي رحم محرم منه من المشركين يبتدىء به إلا الوالد خاصة ، فإنه يكره له أن يبتدىء والده بذلك ، وكذلك جده من قبل أبيه أو من قبل أمه وإن بعد إلا أن يضطره إلى ذلك.

قال السرخسي : لقوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (لقمان ٣١ / ١٥) فالمراد الأبوان إذا كانا مشركين بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ) (لقمان ٣١ / ١٥) وليس من المصاحبة بالمعروف البداية بالقتل ، وأما إذا اضطره إلى ذلك فهو يدفع عن نفسه ، وهو مأمور بالبداية بنفسه في الإحسان إليها ودفع شر القتل عنها أبلغ جهات الإحسان. ثم الأب كان سببا لإيجاد الولد ، فلا يجوز للولد أن يجعل نفسه سبب إعدامه بالقصد إلى قتله ، إلا أن يضطره إلى ذلك ، فحينئذ يكون الأب هو المكتسب لذلك السبب بمنزلة الجاني على نفسه ، على ما هو الأصل أن الملجأ بمنزلة الآلة للملجىء ، ولهذا لا يحبس الأب بدين الولد ويحبس بنفقته لأنه إذا منع نفقته فقد قصد إتلافه. ثم استدل محمد رحمه‌الله في الكتاب بما روي : أن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول رضي‌الله‌عنهما استأذنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في قتل أبويهما فنهاهما عن ذلك وعن عمير بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني لقيت أبي في العدو ، فسمعت منه مقالة لك سيئة فقتلته. فسكت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وفي هذا دليل على أنه لا يستوجب بقتله شيئا إذا قتله لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم يأمره بشيء. والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه لا يجوز. وأول الوجوه أن لا يقصده بالقتل ، ولا يمكنه من الجوع إذا تمكن معه في الصف ، ولكنه يلجئه إلى موضع ويستمسك به حتى يجىء غيره فيقتله. انظر شرح السير الكبير ١ : ١٠٦ ، ١٠٧.

(٢) المجادلة ٥٨ / ٢٢ وتمام الآية : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي‌الله‌عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون» أما ما يتعلق بأبي عبيدة فقد جاء في أسد الغابة ٣ : ١٢٨ برقم : ٢٧٠٥ : ولما كان أبو عبيدة ببدر يوم الوقعة جعل أبوه يتصدى له ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر أبوه قصده قتله أبو عبيدة فأنزل الله تعالى : «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ ـ

٢٤٠