تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي

تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

المؤلف:

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي


المحقق: عبد الإله أحمد نبهان و محمّد فاتح صالح زغل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ
المطبعة: دار البارودي للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9948-06-105-5
الصفحات: ٤٠٦

قال سحنون : يكره رفع الصوت عند اللقاء ، وأمّا إن كان تحريضا وإحياء لقلوب المسلمين ونفعا لهم فلا بأس به.

وقال النعمان بن مقرّن : شهدت مع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخّر القتال حتّى تزول الشمس وتهبّ الرياح. وقد تقدّم هذا. ومن سماع ابن القاسم قال : قلت لمالك : هل بلغك أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتخيّر قتال العدوّ بعد الزوال؟

قال : ما بلغني ذلك وما كان قتاله أهل خيبر إلّا في أوّل النهار حين خرجوا بمساحيهم ومكاتيلهم وكذلك يوم أحد.

ويعلم الرجل الباسل الشجاع بما يتشهّر به في الصفوف ويتميّز به في الجيوش ، مثل ركوب الأبلق والأدهم في الشّقر والشّهب ، وركوب الأشقر والأشهب في الدّهم ، ومنع ذلك أبو حنيفة. قال القاضي أبو الحسن الماوردي (١) : وليس لمنع ذلك وجه (٢).

__________________

ـ الكبير ١ : ٨٩ برقم ٨١ ولا يستحبّ رفع الصوت في الحرب من غير أن يكون ذلك مكروها من وجه الدين ، ولكنه فشل ، فإن كان فيه تحريض ومنفعة للمسلمين لا بأس به.

(١) الماوردي ٣٦٤ ـ ٤٥٠ ه‍ ـ ٩٧٤ ـ ١٠٥٨ م : علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي ، أقضى قضاة عصره من العلماء الباحثين أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة ، ولد في البصرة وانتقل إلى بغداد وولي القضاء في بلدان كثيرة ثم جعل «اقضى القضاة» في أيام القائم بأمر الله العباسي ، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال .. وله المكانة الرفيعة عند الخلفاء. نسبته إلى بيع ماء الورد ووفاته ببغداد.

طبقات الشافعية الكبرى ٣ : ٣٠٣ والأعلام ٤ : ٣٢٧.

(٢) النقل عن الأحكام السلطانية : ٣٨.

٢٠١

وروي أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال يوم بدر : تسوّموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت (١). «والسمة : العلامة»

وكان أبو دجانة (٢) الأنصاريّ له عصابة حمراء إذا عصبها في الحرب علم الناس أنّه سيقاتل فيبلي وذلك بمحضر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا بأس بلباس الحرير للرجال عند اللقاء ، أجازه مالك وغير واحد من صاحب وتابع وذلك لإرهاب العدوّ ومباهاته

وروي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعطى الزّبير ساعدي ديباج ليقاتل بهما ، ولبسه أنس بن مالك في قتال فارس ، قال ابن القاسم : ولا بأس أن يتّخذ منه راية في أرض العدوّ (٣).

__________________

(١) الحديث في الأحكام السلطانية ٣٨ وفي نهاية الأرب نقلا عن نهاية ابن الأثير «سوّموا فإن الملائكة قد سوّمت» أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا ـ انظر نهاية الأرب ٦ : ١٥٥.

(٢) أبو دجانة ت ١١ ه‍ ـ ٦٣٢ م : سماك بن خرشة الخزرجي البياضي الأنصاري المعروف بأبي دجانة ، صحابي ، كان شجاعا بطلا له آثار جميلة في الإسلام ، شهد بدرا ، وثبت يوم أحد ، وأصيب بجراحات كثيرة واستشهد باليمامة ، كانت له مشية عجيبة في الخيلاء يضرب بها المثل ، نظر إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في معركة وهو يتبختر بين الصفين فقال : هذه مشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا المكان وكان يقال له ذو المشهرة وهي درع يلبسها في الحرب وذو السيفين لقتاله يوم أحد بسيفه وسيف رسول الله .. ـ الإصابة ٧ : ٥٧ برقم ٣٧١ والأعلام ٣ : ١٣٨. ١٣٩. وانظر أخباره في السيرة النبوية ٢ : ٥٨٩ (غزوة أحد) والأحكام السلطانية : ٤٠.

(٣) جاء في شرح السير الكبير ٤ : ١٤٢٥ برقم ٢٧٥٥ أن أبا حنيفة كره الديباج والحرير المصمت في الحرب ، ولم ير أبو يوسف ومحمد رحمهما‌الله بذلك بأسا في الحرب محتجا بحديث أبي هريرة : «لا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب» فبظاهره أخذ وقال أبو حنيفة : تأويله الملحم وهو ما يكون سداه غير حرير ولحمته حرير وهذا لا بأس بلبسه في الحرب وإن كان يكره لبسه في غير الحرب ، فأما ما يكون سداه حريرا ولحمته غير حرير فلا بأس بلبسه في الحرب وغير الحرب ، وعليه أيضا يحمل حديث الزبير أنّ له يلمق الديباج يلبسه في دار ـ

٢٠٢

قال ابن حبيب : واستحبّ أهل العلم تسويم الخيل عند اللقاء لقوله سبحانه (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(١) أي معلمين. قال مجاهد : كانت خيلهم معلمة في أذنابها بالصّوف الأبيض. وقال غيره : سيما الملائكة العمائم وسيما خيلهم الصوف الأبيض. وقيل :إنّ خيلهم يوم بدر كانت بلقا (٢).

قال ابن إسحاق : لمّا قدم المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب (٣) من غزوة بدر قال له أبو لهب (٤) : هلّم إليّ فعندك لعمري الخبر فجلس إليه فقال : يا بن أخي كيف كان أمر الله(٥)؟

قال : والله ما هو إلّا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف

__________________

ـ الحرب (اليلمق : القباء المحشو) فأما إذا كان حريرا مصمتا فذلك مكروه على ما روي أن الوليد بن أبي هشام كتب إلى ابن محيريز يسأله عن يلامق الحرير والديباج في الحرب ، فكتب إليه أن كن أشدّ ما كنت في الحرب كراهية لما نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عند التعرض للشهادة.

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٢٥

(٢) انظر السيرة النبوية ١ : ٤٦٤ (أخبار وقعة بدر).

(٣) المغيرة بن الحارث ت ٢٠ ه‍ ـ ٦٤١ م : المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو سفيان الهاشمي القرشي ، أحد الأبطال الشعراء في الجاهلية والإسلام ، وهو أخو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) من الرضاع ، كان يألفه في صباهما ، ولما أظهر النبي الدعوة إلى الإسلام عاداه المغيرة وهجاه وهجا أصحابه. أسلم عام الفتح وشهد فتح مكة ووقعة حنين وأبلى بلاء حسنا. ورضي عنه النبي وصار يقال له : أسد الله وأسد الرسول. مات بالمدينة وصلّى عليه عمر. عن الأعلام.

(٤) أبو لهب ٢ ه‍ ـ ٦٢٤ م : عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم. من قريش ، عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأحد الأشراف الشجعان في الجاهلية ، ومن أشد الناس عداوة للمسلمين في الإسلام. كان غنيا عتيا ، كبر عليه أن يتبع دينا جاء به ابن أخيه ، فآذى أنصاره وحرض عليهم ، وقاتلهم ، ونزل القرآن بذمه. كان أحمر الوجه مشرقا فلقّب في الجاهلية بأبي لهب. مات بعد وقعة بدر بأيام ولم يشهدها. عن الأعلام ٤ : ١٢.

(٥) في السيرة النبوية ٢ : ٤٧٦ كيف كان أمر الناس؟ وانظر الخبر ثمة.

٢٠٣

شاؤوا ، ويأسروننا كيف شاؤوا ، ولقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض ، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء. وكان أبو رافع (١) مولى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالسا إلى طنب الخباء ، فرفع الطّنب وقال : تلك والله الملائكة.

وعن محمد بن السائب (٢) قال : لمّا كانت ليلة العقبة أو ليلة بدر قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمن معه : كيف تقاتلون؟

فقام عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح (٣) فأخذ الفرس وأخذ النّبل فقال : أي رسول الله ، إذا كان القوم قريبا من المئتي ذراع أو نحو ذلك كان الرمي بالقسيّ ، وإذا دنا القوم حتّى تنالنا وتنالهم الرماح كانت المداعمة بالرماح حتى تقصف ، فإذا تقصفت وضعناها وأخذ السيف فتقلّده واستلّه وقال / [م ٤٤] وكانت المجادلة بالسيوف.

قال : فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا أنزلت الحرب ، من قاتل فليقاتل قتال عاصم

وقد تقدّم ذكر قتال العدوّ إذا ترّسوا الأسارى والنساء والأطفال ، فانظره هناك.

__________________

(١) أبو رافع : لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) موليان يعرف كل منهما بأبي رافع ، فأحدهما قبطي ، اختلف في اسمه ولم يشهد بدرا. أما أبو رافع الآخر فقد كان عبدا لأبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية فقد أسلم وهاجر. الإصابة ٧ : ٦٥ ، ٦٦ برقم ٣٨٩ ورقم ٣٩٤.

(٢) في الأصل : الحسن بن السائب وهو غلط والصواب ما أثبتناه. والمقصود به محمد بن السائب الكلبي.

(٣) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح : صحابي جليل ، أبلى بلاء حسنا ، أبو سليمان ، من السابقين الأولين ، شهد بدرا وأحدا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) واسشهد يوم الرجيع ، ورثاه حسان ابن ثابت. الإصابة ٤ : ٣ برقم ٢٣٤٠ والأعلام ٣ : ٢٤٨ والسيرة النبوية ٢ : ٦٦٦ وما بعدها أخبار يوم الرجيع ويومها أطلق على عاصم : حمي الدّبر.

٢٠٤

ولا يجوز الانصراف من صفّ القتال إن كان فيه انكسار ، وإن لم يكن فيجوز أن يكون متحرّفا لقتال في استراحة أو مكيدة ، ومتحيّزا إلى فئة يتقوّى بها ويتظافر معها ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١) الزحف : الدنوّ ، والمزاحفة : التداني والمعنى ـ والله أعلم ـ الأمر بأن لا يفرّ المؤمنون من الكفّار إذا تدانى بعضهم من بعض عند القتال.

وقيل : المعنى أن لا فرار عند المواقعة وأن لا نفار عند المشاقة وقيل : إنّ هذا على العموم ، وقيل : إنّه على الخصوص ، وتولية الأدبار كناية عن الهزيمة. والمتحرّف والمتحيّز قريب في المعنى. وذلك القصد إلى جهة يغلب على الظنّ المعونة فيها والتقوّي بها.

وقال الضحاك (٢) : المتحرّف : المتقدّم من أصحابه ليظفر بعورة العدوّ.

والمتحيّز : الراجع إلى أميره وأصحابه. وقيل : إنّما التحرّف والتحيّز في مراوغة الحرب ، فإنّها طلب وهرب وكرّ وفرّ. والله أعلم.

ومعنى : باء بغضب من الله : رجع به وحمله. وأمّا التحيّز إلى فئة فسواء قربت الفئة أو بعدت.

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ١٥ ، ١٦.

(٢) الضحاك ت ١٨٠ ه‍ ـ ٧٩٦ م : ربما كان يريد به الضحاك بن عثمان بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني القرشي ، علّامة قريش بأخبار العرب وأيامها وأشعارها في المدينة. كان من أكبر أصحاب مالك بن أنس.

٢٠٥

روي أنّ عمر رضي‌الله‌عنه قال لأهل القادسية حين انهزموا : أنا فئة لكلّ مسلم (١) ، ولم ير ذلك مالك رحمه‌الله. فلا يجوز الانهزام من المثلين فما دون ذلك ، وقد كان الله تعالى فرض في أوّل الإسلام قتال عشرة من الكفرة فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢) ثمّ خفّف ذلك لقوّة الإسلام وكثرة أهله ، وفرض على كلّ رجل قتال رجلين بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٣) فحرم الانهزام من المثلين فأقلّ وهو مذهب مالك وأصحابه ، وأنّ الفرار من الكبائر ونحوه.

وعن ابن عبّاس أنّ الآية محكمة وحكمها باق إلى اليوم وعن الحسن وقتادة والضحاك أنها مخصوصة بأهل بدر والله أعلم. ويجوز إذا زادوا على ذلك ولم يجدوا إلى المصابرة سبيلا.

روي أنّه لما رجع جيش مؤتة تلقّاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فجعل المسلمون يحثون التراب عليهم ويقولون : يا فرّار ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : ليسوا بالفرّار ولكنّهم الكرّار إن شاء الله (٤).

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ٤٥ ونهاية الأرب ٦ : ١٦٠

(٢) الأنفال ٨ : ٦٥.

(٣) الأنفال ٨ : ٦٦.

(٤) انظر الخبر في السيرة النبوية ٢ : ٨٣٦ وورد بعد هذا الكلام في السيرة قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أنا فيئكم والصواب : أنا فئة لكم إذ لا معنى للفيء في هذا السياق. وعنه اقتبس عمر بن الخطاب قوله المذكور أعلاه. ومعناه : أنه لا يجوز للمقاتل أن يترك القتال ويولّي إلا لاستراحة أو لمكيدة ثم يعود إلى القتال وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم سواء قربت الفئة أو بعدت. وانظر الكلام في ذلك في الأحكام السلطانية ٤٥ ونهاية الأرب ٦ : ١٦٠.

٢٠٦

واختلف في المعتبر بالمثليّة : هل النظر إلى صورة العدد إذ هو ظاهر الآية وبه قال ابن القاسم وجمهور أصحاب / [م ٤٥] مالك. أو النظر إلى القوّة والجلد إذ هو المقصود وعليه المعوّل في المدافعة. رواه ابن الماجشون (١). وهذا إن علمت القوة والجلد ، فإن جهل ذلك اعتبر العدد بلا خلاف واختلف فيمن عجز عن مصابرة اثنين وأشرف على القتل إن ثبت ، هل يجوز انهزامه؟ فقالت طائفة : لا يجوز وإن قتل للنصّ على ذلك. وقالت طائفة : يجوز ناويا التحرّف والتحيّز على قول عمر : أنا فئة لكل مسلم ، فيسلم من القتل. ومن تأثّم خلاف النصّ فلن يعجز عن النيّة إن عجز عن المصابرة.

وقال أبو حنيفة : النصّ منسوخ والاعتبار به التفضيل ، وعليه أن يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز عن المصابرة وخاف القتل. وفي هذا المذهب على هذا القول أنّ الانهزام لا يكون إلّا بعد القتال لقوله : يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز عن المصابرة فلا ينهزم على ذلك ولا يجوز له إلّا بعد القتال وإلّا فلا وبذلك يتبيّن العجز.

ثم النظر في الانهزام يحتمل وجوها :

منها أنّه لا يقطع بالنجاة في انهزامه ولا يظنّ به السلامة فلا يجوز إذ لعلّه يقتل مدبرا ولا ينجيه الفرار

ومنها أنه قد يكون مع جماعة يجني عليها بفراره الخلل والفشل إن فرّ عنها وحده فيكون سببا لقتلهم ، فإنّ الجماعة بعضها ببعض ولذلك

__________________

(١) ابن الماجشون ٢١٢ ـ ٨٢٧ م : عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله التيمي بالولاء ، أبو مروان ، ابن الماجشون فقيه مالكي فصيح ، دارت عليه الفتيا في زمانه وعلى أبيه قبله ، أضرّ في آخر عمره وكان مولعا بسماع الغناء في إقامته وارتحاله. عن الأعلام ٤ : ١٦٠.

٢٠٧

قال الله تعالى : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(١) وقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «يد الله على الجماعة ما ائتلفت قلوبهم» (٢) فمن فرّ عرّض الباقين للقتل وذلك لا يحلّ.

ومنها أن تفرّ الجماعة بأسرها للعجز عن المصابرة ، فإن طمعوا في النجاة جاز على وجه التحيّز والامتناع وإن لم يطمعوا في النجاة لم يجز الفرار (٣).

وأمّا إن انحاز بالجمع قائده أو أميره أو رئيس يجتمع إليه فذلك جائز كما فعل خالد بن الوليد يوم مؤتة لمّا قتل الأمراء قبله فلم يعنّفه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنّ فعل ذلك على وجه النظر والحكم لغلبة الظنّ بالسلامة والله أعلم (٤).

وأمّا ما يفعله أهل الفشل والخور والخذلان في هذا الزمن من الانهزام عند رؤية العدوّ قلّ أو كثر قبل التّلبّس بالقتال ومدافعة الأبطال وتعريض الضّعفاء لما قد جرت به العادة الرّذلة من القتل والأسر فهذا ما

__________________

(١) سورة الصف ٦١ : ٤.

(٢) ورد الحديث في شرح السير الكبير : يد الله مع الجماعة فمن شذّ شذّ في النار. شرح السير الكبير ١ : ٣٣.

(٣) انظر هذه الأحكام في نهاية الأرب ٦ : ١٦٠ وما بعدها والأحكام السلطانية ٤٥. وفي شرح السير الكبير ١ : ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٤) يوم مؤتة استشهد أولا زيد بن حارثة ثم استشهد جعفر بن أبي طالب ثم استشهد عبد الله بن رواحة «ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان ، فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية دافع القوم ، وحاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف بالناس». انظر السيرة النبوية ٢ : ٨٣٣ (ذكر غزوة مؤتة).

٢٠٨

لا يجوز لمسلم بوجه ، وفيه معرّة الحال وسوء مظنّة المآل والله يعصم مما يصم. ولم ير مالك ـ رحمه‌الله ـ ما جاء عن عمر رضي‌الله‌عنه من التحيّز إليه في قوله : أنا فئة لكلّ مسلم وقال : الأحبّ أن لا يتحرّفوا إلى فئتهم إلّا عن خوف الهلكة وقاله عبد الملك.

قال ابن الموّاز : وإنما الانحياز إلى أولى جيشه الأعظم الذي دخل معه ، وربّما كانت سريّة دون سريّة فتنحاز المقدمة إلى التي خلفها ثم ينحازوا عن أكثر من مثليهم إلى فئتهم حتّى يبلغ الانحياز إلى الجيش الأعظم وواليهم الأكبر.

وأمّا الانحياز عن المثلين وفي الغلبة طمع فلا يجوز ، ولا يمكن لأمير الجيش ما يكون للسرايا من الانحراف والتولّي ، ولهم الثبوت لأكثر من المثلين بأضعاف كثيرة.

قيل لمالك : فإن علموا أنهم مقتولون إن ثبتوا؟ قال : أحبّ إليّ / [م ٤٦] أن ينصرفوا إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا ، وإن لم يجدوا فلهم أن يقاتلوا حتّى يقتلوا ، فمن احتسب نفسه على الله فهو الشهيد ، ومن ثبت حتى قتل وهو يجد منصرفا وقد علم أنّه إن ثبت قتل فيرجى له أفضل الشهادة وإنّما هي لمن أيقن بالموت قبل أن يموت فاحتسب نفسه وآثر لقاء الله ، كما فعل الرجل الذي كانت بيده تمرات يأكلهنّ فقال : ما بيني وبين الجنّة إلا هذه التمرات ، فرمى بها من يده وقاتل حتى قتل (١).

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثلاثة يحبّهم الله حبا

__________________

(١) هو عمير بن الحمام في غزوة بدر. انظر السيرة النبوية ١ : ٤٥٩.

٢٠٩

شديدا .. الحديث ، وفيه : ورجل في فئة في سبيل الله فانهزموا فصبر واستقبل العدوّ بنحره وقال : اللهمّ أنّي قد اخترتك اليوم. فيقول الله تعالى لملائكته : ما ذا يريد عبدي ـ وهو أعلم ـ انهزم أصحابه وبقي ، فيقولون : ربّنا يرجو رحمتك ويخشى عذابك. فيقول : ما كنت لأعذّبه وقد جاد لي بنفسه ، أشهدكم أنّي قد غفرت له ذنوبه وأبحته الجنة بحذافرها ، ينزل حيث شاء منها (١).

وأمّا من حمل وحده على الجيش فقال أشهب عن مالك : أخاف أن يكون ألقى بيده إلى التّهلكة. وليس ذلك سوى من كان في الجيش الكثيف فيحمل وحده مضطرّا فهذا خفيف والآخر غير مضطر. وأمّا من يحمل يريد السّمعة والتحدّث في الشجاعة فلا ، والشهيد من احتسب نفسه على الله.

وفي كتاب ابن حبيب : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الكتيبة والجيش إذا كان ذلك لله ، وكانت فيه شجاعة ونجدة وقوّة.

ومثل ذلك قال ابن القاسم : أن يحمل على عشرة آلاف إذا كانت غلبته قوة وليس ذلك من الإلقاء إلى التّهلكة ، وإنما نزلت (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) في ترك الإنفاق في الجهاد. قال أبو أيوب

__________________

(١) في فيض القدير ثلاثة أحاديث بهذا المعنى عن أبي ذر ٦ : ٢٨٤٥ برقم : ٣٥٤٩ وهو صحيح وعن أبي ذر ٦ : ٢٨٤٦ برقم : ٣٥٥١ وعن ابن مسعود ٦ : ٢٨٤٧ برقم : ٣٥٥٢.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٩٥ ، جاء في زاد المسير ١ : ٢٠٢ ، ٢٠٣ : هذه الآية نزلت على سبب فيه قولان :

أحدهما : أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لما أمر بالتجهيز إلى مكة قال ناس من الأعراب : يا رسول الله بماذا نتجهز فو الله ما لنا زاد ولا مال. والثاني أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون فأصابتهم سنة فأمسكوا فنزلت. وفي المراد بالتهلكة ههنا أربعة أقوال : ـ

٢١٠

الأنصاري : (١) نزلت حين أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد بعد ما نصر الله نبيّه وظهر الإسلام فأنزل الله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢).

وقال أشهب في قوم نفروا في طلب العدو ، فأدركهم واحد من المسلمين أن يحمل عليهم إن احتسب نفسه ولم يرد الفخر فذلك حسن وإلّا فلينحرف إلى أصحابه وقال عن مالك : من لقى العدوّ عشرة أو أكثر أيقاتلهم أو ينصرف إلى عسكره إذا أمكنه (٣)؟

قال : ذلك واسع ، وأحبّ إليّ أن ينصرف إن لم تكن فيه قوة على قتالهم.

قال محمد : ومن أحاط به العدوّ وهو وحده ويدعى إلى الأسر فله أن يقاتل وله أن يستأسر.

قال ابن القاسم : ولا يحلّ للنّاس إن فرّ إمامهم أن يفرّوا من مثلي

__________________

ـ أحدها : أنها ترك النفقة في سبيل الله.

والثاني : أنها ترك القعود عن الغزو شغلا بالمال.

والثالث : أنها القنوط من رحمة الله.

والرابع : أنها عذاب الله.

(١) أبو أيوب ت ٥٢ ه‍ ـ ٦٧٢ م : خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة من بني النجار ، صحابي ، شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد ، وكان شجاعا صابرا تقيا محبا للغزو والجهاد ، عاش إلى أيام بني أمية وكان يسكن المدينة ، فرحل إلى الشام ، ولما غزا يزيد القسطنطينية في خلافة أبيه معاوية صحبه أبو أيوب غازيا فحضر الوقائع ، ومرض ، فأوصى أن يوغل به في أرض العدو. فلما توفي دفن في أصل حصن القسطنطينية. عن الأعلام.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٩٥

(٣) جاء في شرح السير الكبير ٤ : ١٥١٢ برقم : ٢٩٦٣ ولو أن مسلما حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك لأنه يقصد بفعله النيل من العدو.

٢١١

عدوّهم. قال : ومن فرّ من الزّحف عن المثلين لم تقبل شهادته إلّا أن يتوب فتظهر توبته. وفي كتاب ابن سحنون قال عقبة بن عامر : الفرار الأعظم من الزّحف إذا التقت الفئتان. وقال أهل العراق : لا يفرّ اثنا عشر ألفا من العدوّ وإن كثر لقول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلّة / [م ٤٧](١).

وقال سحنون : لا أعرف هذا ، وقد كان المسلمون يوم اليرموك ثلاثين ألفا والعدوّ مئة ألف. فرأى أبو عبيدة وخالد القتال ، وقال غيرهما : ننحاز إلى فئة ونشاور أمير المؤمنين. ثم عزم أبو عبيدة على القتال.

وروى ابن وهب عن ربيعة (٢) : وسئل عن أهل مدينة حاصرها العدوّ فضعفوا عن القتال وليس عندهم ما يكفيهم ، أيخرجون فيقاتلون أم يصبرون حتّى يموتوا جوعا أو يقتلوا؟ قال : بل يخرجون أحبّ إليّ.

وقال في كتاب ابن سحنون : وإن بلغ بهم الجوع والعطش مبلغا لا قوّة لهم به على القتال ، فإن طمعوا في الأسر نجاة ومعاذة وقد عرف ذلك من العدوّ في غيرهم فليخرجوا إليهم ، وإن كان القتل فليصبروا للموت جوعا وعطشا. وقيل : هذا إذا غلب على الظنّ أن إحدى الميتتين أخفّ وأهون

__________________

(١) شرح السير الكبير ١ : ١٢٤ برقم ١٢٤ وانظر قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : لن نغلب اليوم من قلة» في السيرة النبوية ٢ : ٨٩٠ (يوم حنين).

(٢) ربيعة ت ١٣٦ ه‍ ـ ٧٥٣ م : ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء المدني ، أبو عثمان ، إمام حافظ ، فقيه مجتهد ، كان بصيرا بالرأي فعرف ب «ربيعة الرأي» وكان من الأجواد وبه تفقه الإمام مالك. وكان ربيعة صاحب الفتوى بالمدينة ـ تهذيب التهذيب ٣ : ٢٥٨ والأعلام ٣ : ١٧.

٢١٢

طلبت. كأهل مركب قاتلهم العدوّ فأضرم النار عليهم فلهم الفرار من الحرق إلى الغرق لأنه أخفّ موتا والله أعلم (١).

ويجوز عقر خيل العدوّ إذا قاتلوا عليها ، ومنع من ذلك بعضهم ، وقد عقر حنظلة بن الراهب (٢) يوم أحد فرس أبي سفيان بن حرب واستعلى عليه ليقتله فبدر إليه ابن شعوب (٣) وهو يقول :

لأحمينّ صاحبي ونفسي

بطعنة مثل شعاع الشمس

ثم طعن حنظلة فقتله واستنقذ أبا سفيان فخلص وهو يقول :

وما زال مهري مزجر الكلب منهم

لدن غدوة حتّى دنت لغروب

أقاتلهم طرا وأدعو بغالب

وأدفعهم عني بركن صليب

ولو شئت نجّتني حصان طمرّة

ولم تجعل النعماء لابن شعوب

فجاوبه ابن شعوب حين لم يشكره فقال :

ولولا دفاعي يابن حرب ومشهدي

لألفيت يوم النعف غير مجيب

ولو لا مكرّ المهر بالنّعف قرقرت

ضباع عليه أو ضراء كليب (٤)

__________________

(١) انظر تفصيل القول في ذلك في كتاب شرح السير الكبير ٤ : ١٥٠٩ برقم : ٢٩٥٥ وما بعدها.

(٢) حنظلة بن الراهب هو حنظلة بن أبي عامر ، أنصاري من الأوس ويعرف بغسيل الملائكة كان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب واسمه عمرو أو عبد عمرو ولم يسلم وأسلم حنظلة وحسن إسلامه واستشهد في أحد. عن الإصابة ٢ : ٤٤ برقم : ١٨٥٩ والسيرة النبوية ٢ : ٥٩٥.

(٣) ابن شعوب هو شداد بن الأسود كان من أبطال المشركين يوم أحد وقد دافع عن أبي سفيان ابن حرب وكان على وشك أن يقتل على يد حنظلة بن الراهب في أحد. انظر الخبر في السيرة ٢ : ٥٩٥ ، ٥٩٦.

(٤) انظر الخبر مع الشعر في السيرة النبوية ٢ : ٥٩٥ ، ٥٩٦.

٢١٣

وأما إذا أراد المسلم عقر فرس نفسه فلا يجوز له مادام فيه قوّة ورجاء لما في الفرس من المنّة والقوّة لفارسه في الدفاع به والكرّ والفرّ إلّا أن يعلم أنّه قد أحيط به ولا منجى له عليه ، ويخاف أن يتقوّى به العدوّ ، فيجوز له ذلك كما فعل جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في غزاة مؤتة حيث اقتحم عن فرسه فعقرها وقاتل على الراية حتّى قتل (١). وهو أوّل من عقر فرسه في الإسلام. وكان أحفظ لدينه من أن يفعل ما يمنع منه الشرع ولم ينكر ذلك عليه أحد.

__________________

(١) الخبر بلفظه في السيرة النبوية ٢ : ٨٣٢ (ذكر غزوة مؤتة).

٢١٤

الباب الرابع عشر

في مصابرة العدوّ

ومواقفته عند اللقاء

٢١٥
٢١٦

في مصابرة العدوّ ومواقفته عند اللقاء [م ٤٨]

على الأمير ومن معه من حقوق الله تعالى مصابرة العدوّ وإن تطاولت بهم المدّة ما كانت لهم القوة ، قال الله العظيم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١) وفي ذلك أقوال :

أحدهما : اصبروا على طاعة الله وصابروا عدوّ الله ، ورابطوا في سبيل الله.

والثاني : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوّي وعدوّكم.

والثالث : اصبروا على الجهاد وصابروا العدوّ ورابطوا بملازمة الثّغر.

وقد ذكرنا تفسير الصبر والرباط وما معناهما في اللغة. وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢) وحقيقة الصبر هي الصبر على إمضاء الحقائق وإن شقّت ، واحتمال المكاره في ذات الله وإن جلّت ، والثّبات في جميع الشدّة من غير جزع ولا خور إلا رضى وتسليما.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٢٠٠.

(٢) سورة الأنفال ٨ : ٤٥ ، ٤٦.

٢١٧

قال بعض حكماء الفرس : كما أنّ الحديد يعشق المغنطيس فكذلك الظّفر يعشق الصبر فاصبر تظفر.

وقال نهشل بن حرّي (١) :

ويوم كأنّ المصطلين بحرّه

وإن لم تكن نار قيام على الجمر

صبرنا له حتّى تبوخ وإنّما

تفرّج أيام الكريهة بالصبر (٢)

«معنى يبوخ يخبو»

ولنذكر هنا بعض أهل الثبات والعزيمة ومن يقتدى بهم من أهل الشّيم الكريمة ، فمصابرة العدوّ آكد حقوق الجهاد وأعزّ طرق الإعداد بالله والاعتماد.

روي أنّ خالد بن الوليد قال : انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وبضعة عشر رمحا ، فما بقي في يدي إلّا صفيحة يمانية صبرت في يدي.

وقاتل قتادة بن النعمان يوم أحد حتى أصيبت عينه فسألت حدقته فردّها النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال : اللهمّ اكسه جمالا. فكانت أحسن عينيه وأصحهما (٣).

__________________

(١) نهشل بن حريّ ت ٤٥ ه‍ ـ ٦٦٥ م : نهشل بن حرّي بن ضمرة الدارمي ، شاعر مخضرم ، أدرك الجاهلية وعاش في الإسلام ، وكان من خير بيوت بني دارم ، أسلم ولم ير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وصحب عليا في حروبه وكان معه في وقعة صفين. وبقي إلى أيام معاوية وكان أبوه حريّ شاعرا وجدّه ضمرة بن ضمرة كان شاعرا. عن الأعلام ٨ : ٤٩.

(٢) البيتان في عيون الأخبار ١ : ٢٥ والعقد ١ : ١٠٧ والحماسة ١٨٩ بشرح المرزوقي.

(٣) خبر قتادة في السيرة ٢ : ٦٠٠ ، ٦٠١ (أخبار غزوة أحد).

٢١٨

وروي أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال يوم أحد : من يأتيني بخبر سعد بن الربيع (١) الأنصاريّ؟ فقال رجل : أنا.

فذهب بين القتلى ، فقال له سعد : ما شأنك؟

فقال الرجل : بعثني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لآتيه بخبرك.

قال : فاذهب فأقره السلام مني وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأني قد أنفذت مقاتلي ، وأخبر قومي أنّهم لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وواحد منهم حيّ (٢).

وقيل إنّ الرجل (٣) كان أبيّ بن كعب (٤) وأنه قال له : اقرأ على قومي السلام وقل لهم : يقول لكم سعد : الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة العقبة فو الله مالكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف. قال : فلم أبرح حتى مات (٥).

__________________

(١) سعد بن الربيع ت ٣ ه‍ ـ ٦٢٥ م : سعد بن الربيع بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج ، صحابي من كبارهم. كان أحد النقباء يوم العقبة ، وشهد موقعة بدر واستشهد يوم أحد.

الإصابة ٣ : ٧٧ برقم : ٣١٤٧.

(٢) انظر الخبر في السيرة النبوية ٢ : ٦١٠ (غزوة أحد).

(٣) ذكر محقق السيرة نقلا عن مغازي الواقدي أن الرجل هو محمد بن مسلمة ويقال : أبيّ بن كعب. السيرة ٢ : ٦٠٩ وعنه : مغازي الواقدي ١ : ٢٩٢.

(٤) أبيّ بن كعب ت ٢٢ ه‍ ـ ٦٤٢ م : أبي بن كعب بن قيس من بني النجار من الخزرج ، صحابي جليل شهد العقبة وبدرا ، كتب لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وزعم الزركلي في الأعلام أن أبيّا كان حبرا من أحبار اليهود قبل الإسلام ، ولعله اختلط عليه أبي بن كعب بشخص آخر اسمه «كعب الأحبار» ولم يكن أبي من اليهود. اختلف في سنة وفاته وقيل : إنه مات في خلافة عمر سنة ٢٢ ه‍ ـ وقيل بعد ذلك. المعارف ٢٦١ وسير أعلام النبلاء ١ : ٢٨٠ وتهذيب التهذيب ١ : ١٨٨ ، والأعلام ١ : ٨٢.

(٥) السيرة النبوية ٢ : ٦١٠ (غزوة أحد).

٢١٩

وروي أن عكرمة (١) ترجّل يوم اليرموك لمّا اشتدّ الأمر وعظمت المحنة فقاتل قتالا شديدا حتّى قتل ، فوجد فيه / [م ٤٩] بضع وسبعون بين طعنة وضربة ورمية.

وروي أنّ زيد بن سهل (٢) وهو أبو طلحة الأنصاريّ كان من فرسان الصحابة ومن الرّماة وكان يقول :

أنا أبو طلحة واسمي زيد

وكلّ يوم في سلاحي صيد

وقتل يوم حنين عشرين كافرا وأخذ أسلابهم وكان يحبو بين يدي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويقول : نفسي لنفسه الفدا ووجهي لوجهه الوقا ، ثم نثر كنانته بين يدي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال عليه‌السلام : صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة. وروي : من مئة (٣) وكان هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص (٤) من الأبطال البهم الفضلاء الأخيار ويعرف بالمرقال لأنّه كان

__________________

(١) عكرمة ١٣ ه‍ ـ ٦٣٤ م : عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي القرشي من صناديد قريش في الجاهلية والإسلام ، كان هو وأبوه من أشد الناس عداوة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وأسلم عكرمة بعد فتح مكة ، وحسن إسلامه فشهد الوقائع وولي الأعمال لأبي بكر واستشهد في اليرموك وعمره (٦٢) سنة وجاء في الحديث : لا تؤذوا الأحياء بسبب الموتى. قال المبرد : فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة. الإصابة ٤ : ٢٥٨ برقم : ٥٦٣٢ والأعلام ٤ : ٢٤٤.

(٢) أبو طلحة الأنصاري ٣٦ ق. ه ـ ٣٤ ه‍ ٥٨٥ ـ ٦٥٤ م : زيد بن سهل بن الأسود النجاري الأنصاري ، صحابي ، من الشجعان ، الرماة المعدودين في الجاهلية والإسلام مولده في المدينة ، ولما ظهر الإسلام كان من كبار أنصاره ، فشهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد ، وكان جهير الصوت. وكان ردف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يوم خيبر وتوفي في المدينة ، وقيل ركب البحر غازيا فمات فيه. الإصابة ٣ : ٢٨ برقم ٢٨٩٩ والأعلام ٣ : ٥٩.

(٣) الحديث في الجامع الصغير ٢ : ١٢٣ عن أنس. وعن جابر : لصوت أبي طلحة بالجيش خير من ألف رجل والحديث أيضا في فيض القدير ١٠ : ٤٩٨٤ برقم ٧٢٤٦ وأحال محققه إلى مسند أحمد ٣ : ١١٢ والمستدرك ٣ : ٣٥٢ وفي فيض القدير برقم ٧٢٤٧ : لصوت أبي طلحة بالجيش خير من ألف رجل ، عن جابر.

(٤) هاشم بن عتبة ـ المرقال : هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، صحابي ، خطيب من الفرسان ـ

٢٢٠