تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي

تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

المؤلف:

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي


المحقق: عبد الإله أحمد نبهان و محمّد فاتح صالح زغل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ
المطبعة: دار البارودي للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9948-06-105-5
الصفحات: ٤٠٦

قال : ولهم أن يضحّوا بغنم العدوّ ولا يتعدّى ذلك إلى غيره من الملبوس والمركوب ، فإن دعت إلى ذلك ضرورة كان مسترجعا إلى المغنم مع بقائه ، فإن هلك احتسب من سهم أخذه من المغنم ، وكذلك السلاح. قال مالك : ينتفع بذلك كلّه إن احتاج إليه حتى يقفل ثم يردّه إلى المغنم ، قال ابن القاسم / [س ٧٦] وإن كانت الغنيمة قد قسمت فأرى أن يبيع ذلك ويتصدّق بثمنه. وللمغانم أحكام ليس هذا موضعها.

١٨١
١٨٢

الباب الثاني عشر

فيما يجب عمله

عند إرادة اللقاء

١٨٣
١٨٤

فيما يجب عمله عند إرادة اللقاء

يجب على الأمير تقديم الطلائع لحومة العدوّ ، والروّاد لاختيار المنازل قبل المنازلة كما فعل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسلم ليلة يوم بدر حين نزل على أدنى ماء بدر إلى المدينة فقال له الحباب بن المنذر : (١) يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّمه أو نتأخّر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

فقال عليه‌السلام : بل هو الحرب والرأي والمكيدة.

فقال : إنّ هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتّى نأتي أدنى ماء من القوم فتنزله ونغوّر ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ، فنشرب ولا يشربون.

فاستحسنه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفعله (٢).

وكذلك إن استطاع أن يأخذ علوّ الأرض ودمثها ويجتنب الوعر عند المدافعة والسبخة ، ويتخيرّ أوفقها لقوائم خيله وأقدام رجاله. وفي رسالة

__________________

(١) الحباب بن المنذر ت ٢٠ ه‍ ـ ٦٤٠ م : الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي ثم السّلميّ ، صحابي من الشجعان الشعراء ، يقال له : ذو الرأي. وهو صاحب المشورة يوم بدر أخذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) برأيه. وكانت له في الجاهلية آراء مشهورة ، وهو الذي قال عند بيعة أبي بكر يوم السقيفة «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب» فذهبت مثلا. مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين.

السيرة النبوية ١ : ٤٥٤ (أخبار وقعة بدر) الإصابة ١ : ٣١٦ برقم : ١٥٤٧ ـ الأعلام ٢ : ١٦٣.

(٢) انظر الخبر في السيرة النبوية ١ : ٤٥٤.

١٨٥

عمر رضي‌الله‌عنه المذكورة قبل في باب وصايا أمراء الجيوش ما يقوّي ذلك ويشهد له.

وروي عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وذكر غزوة بدر قال : وبات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدعو ويقول :

اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فلمّا طلع الفجر قال : الصلاة عباد الله (١). فأقبلنا من تحت الشّجر / [س ٧٧] والحجف ، فحثّ أو حضّ على القتال.

وقال عبد الرحمن بن عوف (٢) : عبّأنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة بدر ليوم بدر.

وروي أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : إن بيّتم فليكن شعاركم : «حم لا ينصرون»(٣).

__________________

(١) السيرة النبوية ١ : ٤٥٩ وكتاب الأذكار ١٨٧ عن البخاري ومسلم.

(٢) عبد الرحمن بن عوف ٤٤ ق. ه ـ ٣٢ ه‍ ـ ٥٨٠ ـ ٦٥٢ م : عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث ، أبو محمد الزهري القرشي ، صحابي من أكابرهم وهو أحد العشرة المبشرين ، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم وأحد السابقين إلى الإسلام. قيل : هو الثامن. شهد بدرا وأحدا وجرح يوم أحد (٢١) جراحة وأعتق في يوم واحد ثلاثين عبدا ، كان يحترف التجارة ، فاجتمعت له ثروة كبيرة. أوصى بألف فرس وخمسين ألف دينار في سبيل الله. توفي بالمدينة ـ الإصابة ٤ : ١٧٦ برقم ١٥٧١ والأعلام ٣ : ٣٢١.

(٣) في السيرة النبوية ٢ : ٧٠٨ وكان شعار أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يوم الخندق وبني قريظة : حم ، لا ينصرون. وفي شرح السير الكبير ١ : ٧٤ عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : جعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) شعار المهاجرين : يا بني عبد الرحمن. والخزرج : يا بني عبد الله ، والأوس : يا بني عبيد الله. وقال لهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ليلة في حرب الأحزاب. إن بيّتم الليلة فشعاركم : حم. لا ينصرون. وهو قسم للتأكيد أن الأعداء لا ينصرون.

١٨٦

وعن صهيب (١) أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يحرّك شفتيه بشيء يوم حنين بعد صلاة الفجر. فقالوا : يا رسول الله ، إنّك تحرّك شفتيك بشيء؟ فقال : إنّ نبيّا ممن كان قبلكم .. ثم قال كلمة معناها : أعجبته كثرة أمّته فقال : لن يروم أحد هؤلاء بشيء. فأوحى الله إليه أن خيّر أمّتك بين إحدى ثلاث :

١ ـ إمّا أن أسلّط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم.

٢ ـ وإمّا أنّ أسلّط عليهم الجوع.

٣ ـ وإمّا أن أرسل عليهم الموت.

فقالوا : أمّا الجوع والعدوّ فلا طاقة لنا بهما ، ولكن الموت / [م ٤٠] فأرسله الله عليهم فمات في ليلة واحدة سبعون ألفا ، وأنا أقول : اللهمّ بك أحاول وبك أصول وأقاتل(٢).

__________________

(١) صهيب ٣٢ ق. ه ـ ٣٨ ه‍ ـ ٥٩٢ ـ ٦٥٩ م : صهيب بن سنان بن مالك من بني النمر بن قاسط ، صحابي من أرمى العرب سهما ، وله بأس ، وهو أحد السابقين إلى الإسلام ، كان أبوه من أشراف الجاهليين ولّاه كسرى على الأبلّة «البصرة» وكانت منازل قومه في أرض الموصل على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل وبها ولد صهيب ، فأغارت الروم على ناحيتهم فسبوا صهيبا وهو صغير فنشأ بينهم فكان ألكن ، واشتراه منهم أحد بني كلب وقدم به مكة فابتاعه عبد الله بن جدعان التيمي ، ثم أعتقه ، فأقام بمكة يحترف التجارة إلى أن ظهر الإسلام فأسلم «ولم يسبقه إلا بضعة وثلاثون رجلا» فلما أزمع المسلمون الهجرة إلى المدينة كان صهيب قد ربح مالا وفيرا من تجارته ، فمنعه مشركو قريش وقالوا : جئت صعلوكا حقيرا فلما كثر مالك هممت بالرحيل؟! قال : أرأيتم إن تركت مالي تخلّون سبيلي؟ قالوا : نعم. فجعل لهم ماله أجمع. فبلغ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ذلك فقال : ربح صهيب ، ربح صهيب ، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها. وتوفي في المدينة وكان يعرف بصهيب الرومي ـ الإصابة ٣ : ٣٥٤ برقم ٤٠٩٩ والأعلام ٣ : ٢١٠.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٣٣٢.

١٨٧

[وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا غزا قال : اللهمّ أنت عضدي ونصيري بك أحاول وبك أصاول وأقاتل](١).

وعلى الأمير ترتيب جيشه في مصافّ الحرب وتعديل صفوفه وتفقّدها من الخلل ، قال الله العظيم مخاطبا لنبيّه الكريم : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)(٢) وقال تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٣) فيضمّ كلّ شكل إلى شكله ، وكذلك الجنس والنوع إلى جنسه ونوعه ، ويستكفي كلّ جهة من يراه أهلا لذلك وكفئا من أهل البسالة والسياسة / [س ٧٨] ويمدّ الجهة التي يخاف أن يميل العدوّ إليها بعدد يكون ردءا وعونا لها ويجعل ساقة (٤) تحمي ظهر العسكر لئلا يختاله العدو من خلفه.

وفي حديث أبي هريرة لما حضر فتح مكة قال : جعل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى والزّبير (٥)

__________________

(١) في الأذكار ١٨٨ وفيه كما في سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أنس : بك أحول وبك أصول وبك أقاتل وعضدي أي عوني ، وأحول : احتال أو أمنع وأدفع.

(٢) آل عمران ٣ / ١٢١.

(٣) سورة الصف ٦١ : ٤.

(٤) السّاقة : مؤخرة الجيش

(٥) الزبير بن العوام ٢٨ ق. ه ـ ٣٦ ه‍ ـ ٥٩٤ ـ ٦٥٦ م : الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي ، أبو عبد الله ، الصحابي الشجاع ، أحد العشرة المبشرين ، أسلم وله ١٢ سنة وشهد بدرا وأحدا وغيرهما. وكان على بعض الكراديس في اليرموك وشهد الجابية مع عمر بن الخطّاب. وجعله عمر فيمن يصلح للخلافة من بعده ، وكان موسرا كثير المتاجر. قتله ابن جرموز غيلة يوم الجمل بوادي السباع على سبعة فراسخ من البصرة. عن الأعلام ٣ ـ ٤٣ وتهذيب التهذيب ٣ : ٣١٨ والمعارف ٢١٩.

١٨٨

على المجنبة اليسرى ، واستعمل أبا عبيدة (١) على الساقة في بطن الوادي (٢).

وكذلك يجعل لكلّ طائفة راية يرجعون إليها ويتعارفون بها ويدافعون عنها ، ويعدّ مع كلّ راية جماعة ممّن يثق به من أهل الشّجاعة والدّين. فالرايات هي أرواح العساكر (٣) ، وبثباتها ثبات أفئدة الجماهر ، ولذلك أمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في غزوة مؤتة (٤) أمرا فقال : إن أصيب زيد (٥) فعلى الناس جعفر (٦) فإن أصيب جعفر فعليهم عبد الله بن رواحة الأنصاريّ

__________________

(١) أبو عبيدة : عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهري القرشيّ ، الأمير القائد فاتح الديار الشامية ، والصحابي ، أحد العشرة المبشرين. قال ابن عساكر : داهيتا قريش : أبو بكر وأبو عبيدة وكان لقبه أمين الأمة. ولد بمكة وهو من السابقين إلى الإسلام ، وشهد المشاهد كلها. توفي في طاعون عمواس ودفن في غور بيسان. ـ عن الأعلام.

(٢) السيرة النبوية ٢ : ٨٥٧.

(٣) شرح السير الكبير ١ : ٧١ ، ٧٢ والفرق بين اللواء والراية هو أن اللواء لا يكون إلا واحدا في كل جيش ، أما الراية فهي علم لأصحاب القتال وكل قوم يقاتلون عند رايتهم ، وإذا تفرقوا في حال القتال يتمكنون من الرجوع إلى رايتهم.

(٤) غزوة مؤتة كانت في جمادى الأولى سنة ثمان.

(٥) زيد ٨ ه‍ ـ ٦٢٩ م : زيد بن حارثة بن شراحيل (أو شرحبيل) الكلبي ، صحابي ، اختطف في الجاهلية صغيرا ، واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حين تزوّجها فتبناه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قبل الإسلام وأعتقه وزوّجه بنت عمته ، واستمر الناس يسمّونه زيد بن محمد حتى نزلت آية (ادعوهم لآبائهم) وهو من أقدم الصحابة إسلاما ، وكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لا يبعثه في سرية إلا أمّره عليها ، وكان يحبه ويقدمه وجعل له الإمارة في غزوة مؤتة فاستشهد فيها. الإصابة ٢ : ٢٤ برقم ٢٨٨٤ والأعلام ٢ : ٥٧.

(٦) جعفر ت ٨ ه‍ ـ ٦٢٩ م : جعفر بن أبي طالب (عبد مناف) بن عبد المطلب بن هاشم ، صحابي ، من شجعانهم ، يقال له : جعفر الطيار ، وهو أخو علي بن أبي طالب وكان أسنّ من علي بعشر سنين ، وهو من السابقين إلى الإسلام ، هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم قدم على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهو بخيبر سنة ٧ ه‍ وحضر وقعة مؤتة بالبلقاء من أرض الشام فنزل عن فرسه وقاتل حتى قتل. الإصابة ١ : ٢٤٨ برقم ١١٦٢ والأعلام ٢ : ١٢٥.

١٨٩

فلمّا دنوا من العدوّ ورأوا كثرته وقوّته قالوا : نكتب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بخبر العدوّ وعدده فيأمرنا ويمدّنا. فقال عبد الله بن رواحة : يا قوم ، إنّ التي تكرهون التي خرجتم تطلبون ـ يعني الشهادة ـ وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ، وما نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين إمّا ظهور وإمّا شهادة (١).

فوافقه الجيش كلّه على هذا الرأي ونهضوا ، فلمّا لقوا المشركين اقتتلوا فقتل الأمير الأوّل ملاقيا بصدره الرماح والراية في يده ، فأخذها جعفر ابن أبي طالب واقتحم عن فرسه وقيل عقرها ، فقاتل على الراية حتّى قطعت يمينه فأخذ الراية بيساره / [س ٧٩] فقطعت فاحتضنها بصدره حتّى قتل عليها ـ رضي‌الله‌عنه ـ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعاره الله جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء ـ فأخذ الرّاية بعده عبد الله بن رواحة فقاتل حتّى قتل ثمّ أخذ الرّاية خالد بن الوليد فانحاز بالمسلمين.

وإنّما القصد من هذا الحديث ثبات الراية والمحافظة عليها وكيف السنّة في أمرها ، وأنّ الذي يتولّى إمساكها يجب أن يكون من له إقدام وشجاعة وعلم بالحرب ودين لا يفلّه خور مريرة ولا عور بصيرة ، فحيث انتقلت الراية انتقلت معها القلوب ، وإن أدبرت تبعها نفس الجلد / [م ٤١] والهيوب ، وذلك الذي حمل زيد بن الخطّاب (٢) في حرب

__________________

(١) انظر أخبار غزوة مؤتة في السيرة النبوية ٢ : ٨٢٨ وما بعدها.

(٢) زيد بن الخطاب ت ١٢ ه‍ ـ ٦٣٣ م : زيد بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى القرشي العدويّ ، أبو عبد الرحمن ، صحابيّ ، من شجعان العرب في الجاهلية والإسلام ، وهو أخو عمر ابن الخطاب ، وكان أسنّ من عمر ، وأسلم قبله وشهد المشاهد ثم كانت راية المسلمين في يده يوم اليمامة فثبت إلى أن قتل وحزن عليه عمر حزنا شديدا ـ الإصابة ٣ : ٢٧ برقم ٢٨٩١ والأعلام ٣ : ٥٨.

١٩٠

اليمامة (١) وبيده راية خالد بن الوليد أن يصيح بأعلى صوته وقد غلب العدوّ على الرجال : أمّا الرجال فلا رجال ، وأما الرجال فلا رجال ، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فرار أصحابي ، ومما جاء به مسيلمة الكذّاب (٢). وتقدّم بالرّاية في نحر العدوّ وهو يضارب بسيفه حتى قتل ـ رحمه‌الله ـ فأخذها سالم مولى أبي حذيفة (٣) فقال المسلمون : يا سالم إنّا نخاف أن نؤتى من قبلك فقال : بئس حامل القرآن أنا إذن إن أتيتم من قبلي. ونادت الأنصار ثابت بن قيس (٤) وهو يحمل رايتهم : يا ثابت الزمها فإنّما ملاك القوم الراية. فتقدّم سالم فحفر برجليه حتّى بلغ أنصاف ساقيه ، وفعل ثابت كذلك فكان النّاس يتفرّقون يمينا وشمالا وهما قائمان حتّى قتلا ـ رحمهما‌الله ـ وبقيت الراية بعد سالم حتى رفعها يزيد

__________________

(١) انظر خبر اليمامة في كتاب البلدان وفتوحها وأحكامها للبلاذري : ١٠٣.

(٢) مسيلمة الكذاب ت ١٢ ه‍ ـ ٦٣٣ م : مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي ، أبو ثمامة ، متنبىء من المعمّرين ، ولد ونشأ في اليمامة في القرية المسماة اليوم بالجبيلة بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد ، وتلقب في الجاهلية بالرحمن. لما وفد بنو حنيفة على الرسول أتى معهم مسيلمة ولم يقابل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بل بقي خارج مكة. ولما عاد راسل الرسول على أن يكون شريكه وكان ذلك في أواخر سنة ١٠ ه‍ وتوفي الرسول. فلمّا انتظم الأمر لأبي بكر انتدب له أعظم قواده خالد بن الوليد فقضى عليه واستشهد عدد كبير من المسلمين ـ عن الأعلام ٧ : ٢٢٦.

(٣) سالم ت ١٢ ه‍ ـ ٦٣٣ م : سالم بن معقل ، أبو عبد الله ، مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، صحابي ، من كبارهم وكبار قرائهم ، فارسي الأصل ، أعتقته ثبيتة زوج أبي حذيفة صغيرا ، وتبناه أبو حذيفة وزوّجه ابنة أخ له ، وهو من السابقين إلى الإسلام كان يؤم المهاجرين الأولين قبل الهجرة في مسجد قباء وفيهم أبو بكر وعمر ، شهد بدرا وكان معه لواء المهاجرين يوم اليمامة فاستشهد وقد سبقه مولاه أبو حذيفة فأوصى أن يدفن بجانبه ـ الإصابة ٣ : ٥٦ برقم : ٣٠٤٦ والأعلام ٣ : ٧٣.

(٤) ثابت بن قيس ت ١٢ ه‍ ـ ٦٣٣ م : ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي الأنصاري ، صحابي كان خطيب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد وفي الحديث : نعم ـ

١٩١

ابن قيس (١) وكان بدريا فحملها / [س ٨٠] حتى قتل ـ رحمه‌الله ـ وفي هذه الحرب صعد عمّار بن ياسر (٢) على صخرة وقد قطعت أذنه ، وكان ينادي بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أمن الجنّة تفرّون ، أنا عمّار بن ياسر هلمّوا إلى فعل ذلك. حتى فتح الله على المسلمين.

فهكذا يتخيّر الرجال ، وبمثل هؤلاء يقتدى ، ولشبههم في الإقدام والدّين تملّك الرايات التي إليها يرجع وعنها يدفع ولا يصلح لذلك إلا من باع نفسه من الله سبحانه وعامل ببذلها مولاه عزوجل فنعم المولى ونعم النصير.

وفي هذه الحرب فائدة يجب ذكرها ، وذلك أنّ بني حنيفة لمّا أقبلوا نحو عسكر خالد سلّوا سيوفهم وساروا بها مسلولة من بعد ، فقال خالد لأصحابه : أبشروا فإنّهم ما سلّوا سيوفهم إلّا ليهيبوا بها ، وإنّه لجبن منهم

__________________

ـ الرجل ثابت. ودخل عليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهو عليل فقال : أذهب الباس ربّ الناس عن ثابت بن قيس بن شماس. قتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أبي بكر. الإصابة ١ : ٢٠٣ برقم : ٩٠٠ والأعلام ٣ : ٩٨.

(١) يزيد بن قيس : ذكره ابن هشام في السيرة النبوية ٢ : ٨١٣ في تسمية الداريين (بني عبد الدار) الذين أوصى لهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) من خيبر. ولم أجد اسمه في البدريين ـ الإصابة ٦ : ٣٤٦ برقم : ٩٢٩٧.

(٢) عمار بن ياسر ٥٧ ق. ه ـ ٣٧ ه‍ ـ ٥٦٧ ـ ٦٥٧ م : عمار بن ياسر بن عامر الكناني المذحجي العنسي القحطاني ، أبو اليقظان ، صحابي من الولاة الشجعان ذوي الرأي ، وهو أحد السابقين إلى الإسلام والجهر به هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يلقبه بالطّب المطيّب ، وهو أول من بنى مسجدا في الإسلام (مسجد قباء بالمدينة) ولاه عمر الكوفة ، فأقام زمنا وعزله عنها ، وشهد الجمل وصفين مع علي وقتل في صفين وعمره ٩٣ سنة. الإصابة ٤ : ٢٧٣ برقم : ٥٦٩٩ والأعلام ٥ : ٣٦.

١٩٢

وفشل. فقال له مجاعة بن مرارة (١) وكان من أشراف بني حنيفة أسيرا عند خالد : كلّا والله ، ولكنها الهندوانية والغداة باردة ، وما فعلوه إلّا لتسخن متونها بحرّ الشّمس. فلمّا دنوا من المسلمين نادوا : إنّا نعتذر إليكم من سلّنا سيوفنا ، والله ما سللناها تهيّبا منكم ولا جبنا عنكم ، ولكنها الهندوانية والغداة باردة فخفنا تحطّمها فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نبلغكم(٢).

ففي هذا تنبيه على حفظ السيوف وتعليم الجرأة على مواطن الخوف ، قال المعري(٣) :

وإن ضربت بسيف الهند في ومد

فسيف إفرنجة المخبوّ للشّبم (٤)

__________________

(١) مجاعة بن مرارة (ت ٤٥ ه‍ ـ ٦٦٥ م) : من سادة بني حنيفة ، صحابي ، كان بليغا حكيما من رؤساء قومه في اليمامة ، أقطعه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أرضا بها. وتزوّج خالد بن الوليد ابنته. وله شعر فيه حكمة. عن الأعلام ٥ : ٢٧٧ ـ والإصابة ٦ : ٤٢ برقم ٧٧١٦.

(٢) انظر الخبر في كتاب «البلدان وفتوحها وأحكامها» للبلاذري : ١٠٤ وهو بألفاظ مقاربة.

(٣) المعري (٣٦٣ ـ ٤٤٩ ه‍ ـ ٩٧٣ ـ ١٠٥٧ م) : أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري ، شاعر فيلسوف ، ولد ومات في معرة النعمان (جنوبي حلب) كان نحيف الجسم ، أصيب بالجدري صغيرا فعمي في السنة الرابعة من عمره ، قال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة ، رحل إلى بغداد سنة ٣٩٨ ه‍ فأقام بها سنة وسبعة أشهر. وهو من أهل بيت علم كبير في بلده. ولما مات وقف على قبرة (٨٤) شاعرا يرثونه. كان يملي كتبه على كاتبه علي بن عبد الله ابن أبي هاشم. لم يأكل اللحم مدة خمس وأربعين سنة. من كتبه ديوان سقط الزند وديوان لزوم ما لا يلزم ورسالة الغفران ورسالة الملائكة والصاهل والشاحج وغير ذلك. عن الأعلام ١ : ١٥٧.

(٤) من مقطوعة للمعري في بيتين هذا ثانيهما وقبله :

أعدد لكلّ زمان ما يشاكله

إنّ البراقع يستثبتن بالشّبم.

والشبم هنا كل خيطين في البرقع تشده المرأة إلى قفاها. والشبم في البيت الثاني هو البرد لزوم ما لا يلزم ٢ : ٤٥٢.

١٩٣

والومد : الحرّ. والشبم : البرد.

وروي أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / [س ٨١] قال يوم بدر : إذا أكثبوكم فارموهم ، ولا تسلّوا السيوف حتى يغشوكم (١).

وفي حرب اليمامة أيضا كانت الأنصار ترى أنّ دخول الأعراب بينها والحشو من الناس يوهنهم بالفرار وإدخال الخلل ، إذ لا يخاف الحشو من العار ما يخافه الصميم وأهل الأحساب ويقولون : إنّما نؤتى من قبل هذا الحشو ، حتّى نادوا أميرهم : أخلصنا أخلصنا فأمرهم بذلك ، فنادت كلّ فرقة بأهلها : الأنصار بالأنصار ، والمهاجرين بالمهاجرين وطيّىء بطيّىء وغيرهم / [م ٤٢] ومنهم من نادى : يا أهل القرآن ، وآخرون ينادون : يا أهل سورة البقرة ... فتجيب كلّ فرقة أهلها ، وتقصد كلّ طائفة رايتها.

وعلى الأمير بعد تثقيف عسكره بتقديم الثقات من أهل الحزم والجلد والدّين على المقدّمة والميمنة والميسرة والقلب والسّاقة خلفه. وعليه أن يتفقّدهم ويتفقّد الصفوف والجماعات ويطوف عليهم ويقوّي نفوسهم بما يعد به من النصر والظّفر ويرغّب في الثواب العاجل والآجل ، وقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يفعل ذلك ، فيبث الأمير في القوم من يذكّرهم ويهوّن أمر العدوّ عليهم ويقلّله لتقوى بذلك النفوس ، ولا يغفل الحذر لئلا يتراخى الناس بالاستهانة بل يخلط التأنيس بالتحذير والابتسام بالتعبيس حتى

__________________

(١) الخبر في سيرة ابن هشام ١ : ٤٥٨ وفيه : قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال : إن أكثبكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» وأكثبكم أي كثروا عليكم.

١٩٤

تكون الاستهانة بالجزالة والاستكانة في البسالة. ويذكرهم أنّ العدوّ ناس مثلنا وخلق لا يزيدون علينا ، ونحن أولى بالحقّ والثبات والصبر والدّين ديننا والحجة الواضحة بأيدينا.

١٩٥
١٩٦

الباب الثالث عشر

في القتال والمزاحفة وما

قيل في التحرف والانحياز

١٩٧
١٩٨

في القتال والمزاحفة

وما قيل في التحرّف والانحياز

قال الله تعالى (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(١) فهزموهم بإذن الله. وقال جلّ ذكره (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢) وروي أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : ثنتان لا تردّان : الدعاء عند الأذان ، والدعاء عند البأس حين يلحم بعضه بعضا. وفي رواية : وتحت المطر (٣).

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٥٠. وجالوت المذكور كان محاربا قويا في زمن الملك داود ، تحدى جيش بني إسرائيل أن يرسلوا له أحد أبطالهم لمقاتلته ، فتطوع داود لذلك ، وكان كل سلاحه نبلا وخمسة حجارة. ورغم ذلك تقدم واثقا من أنه على الحق ، ورمى الحجر الأول فأصاب جالوت في جبهته فقتله ثم قطع رأسه. وردت القصة في القرآن الكريم في سورة البقرة وجاء فيها أن داود هو الذي قتل جالوت. وكان طالوت ملك بني إسرائيل قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره فوفى له. ثم آل الملك إلى داود عليه‌السلام مع ما منحه الله من النبوة العظيمة. ولهذا قال تعالى : وآتاه الله الملك والحكمة «البقرة ٢ / ٢٥١» أي الملك الذي كان بيد طالوت. والحكمة أي النبوة. ـ عن الموسوعة العربية العالمية ٨ : ١٣٢.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٤٧ ، ١٤٨.

(٣) الحديث في فيض القدير ٦ : ٢٨٥٥ برقم : ٣٥٦٥ عن سهل بن سعد. قال محققه أخرجه أبو داود في سننه ٣ : ٢٥٤٠ وابن حبان في صحيحه ١٧٦٤ وأخرجه الحاكم في المستدرك ١ : ١٩٨ والبيهقي في سننه ٣ : ٣٦٠ والدارمي في سننه ١ : ١٢٠٠ وابن خزيمة في صحيحه ١ : ٤١٩ عن سهل بن سعد. قال الحاكم : تفرد به موسى بن يعقوب ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الجامع ١ : ٣٠٧٩ ، والرواية بزيادة «وتحت المطر» في فيض القدير ٦ : ٢٨٥٥ برقم ٣٥٦٦ وانظر كتاب الأذكار للنووي : ١٨٨.

١٩٩

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا تمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية ، فإذا ألفيتموهم فاثبتوا واذكروا الله. وروي فاصبروا واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف. فإذا صاحوا فعليكم بالصّمت والسكينة ولا تنازعوا فتفشلوا ، فإذا أتوكم فاثبتوا وأكثروا ذكر الله وعليكم بالأرض وقولوا : اللهّم أنت ربّنا وربّهم ، ونواصينا ونواصيهم بيدك وإنما يغلبهم لنا أنت ، فاهزمهم لنا ، وإذا غشوكم غضوا أبصاركم واحملوا على بركة الله (١).

قال سحنون : ويكره الخفّة والطيش عند الفزع في العسكر ، وينبغي التثّبت والسّكينة وترك العجلة حتّى يتيسّر الأمر. وروي نحوه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢)

وعن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنّه قال : اتّقوا الله وغضّوا الأبصار وأقلّوا الكلام وأميتوا الأصوات ، فإنّه أولى بالوقار ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب / [م ٤٣] ريحكم ، واصبروا إنّ الله مع الصابرين (٣).

__________________

(١) انظر الأذكار للنووي ١٨٨ وكتاب الجهاد ١٣٩ برقم ١٠ وذكر أنه في البخاري ومسلم وانظر عيون الأخبار ١ : ١٢٣. أما قوله «الجنة تحت ظلال السيوف» فقد ورد وحده في فيض القدير برقم ٣٦٤٣ عن أبي موسى (صحيح) وذكر محققه أنه في مسند أحمد ٤ : ٣٩٦ ، ٤١٠ ، ٤١١ والحاكم في المستدرك ٢ : ٧٠ والقضاعي في مسند الشهاب ١ : ٨١ وابن عدي في الكامل ٢ : ١٤٧ والديلمي في مسند الفردوس ٢ : ٢٤٣٢ عن أبي موسى وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط مسلم .. وانظر كتاب الجهاد لابن أبي عاصم ١٣٨ برقم ٩ والحديث في البخاري ومسلم .. وهو في كتاب أمثال الحديث للرامهرمزي ص ١١٨ برقم ٨١ وقال : وهذا حث منه على الجهاد ، ومعناه أن حامل سيفه في سبيل الله مطيعا لله به يصل إلى الجنة.

(٢) في مسند أحمد ٥ : ٢٠٢ عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد قال : كنت ردف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عشية عرفة ، فلما وقعت الشمس دفع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فلما سمع حطمة الناس خلفه قال : رويدا أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بالإيضاع .. وانظر إعراب الحديث ٥٨ برقم ١٥.

(٣) انظر كلاما بهذا المعنى في العقد ١ : ٩٧ وعيون الأخبار ١ : ١٠٨ وجاء في شرح السير ـ

٢٠٠