تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي

تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

المؤلف:

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي


المحقق: عبد الإله أحمد نبهان و محمّد فاتح صالح زغل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ
المطبعة: دار البارودي للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9948-06-105-5
الصفحات: ٤٠٦

وإلّا تحفّظ برأس المال ، ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز (١) السلامة وكن من احتيالك على عدوّك أشدّ حذرا من احتيال عدوّك عليك (٢).

وكان / [س ٥٥] زياد (٣) يقول لقوّاده :

تجنّبوا اثنتين لا تقاتلوا فيهما العدوّ : الشتاء ، وبطون الأودية (٤).

وأغزى الوليد بن عبد الملك (٥) جيشا في الشتاء فغنموا وسلموا فقال لعبّاد (٦) : يا أبا حرب ، أين رأي زياد من رأينا؟ قال : يا أمير المؤمنين قد أخطأت وليس كلّ عورة تصاب(٧).

__________________

(١) في العقد : حتى تحرز.

(٢) الخبر في العقد : ١ : ١٣٢.

(٣) زياد (١ ـ ٥٣ ه‍ ـ ٦٢٢ ـ ٦٧٣ م) : زياد ابن أبيه ، أمير ، من الدهاة القادة الفاتحين ، الولاة ، من أهل الطائف ، أدرك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولم يره ، وأسلم في عهد أبي بكر ، وكان كاتبا للمغيرة بن شعبة ثم لأبي موسى الأشعري أيام إمرته على البصرة ، ثم ولاه علي بن أبي طالب إمرة فارس ، ولما توفي علي امتنع زياد على معاوية وتحصن في قلاع فارس. وتبين لمعاوية أن زيادا أخوه من أبيه (أبي سفيان) فكتب إليه بذلك ، فقدم زياد عليه وألحقه معاوية بنسبه سنة ٤٤ ه‍ فكان عضده الأقوى وولّاه البصرة والكوفة وسائر العراق. فلم يزل في ولايته إلى أن توفي. وقام بأعمال جليلة. عن الأعلام ٣ : ٥٣ ، والإصابة ٣ : ٤٢ برقم : ٢٩٨١.

(٤) الخبر في العقد ١ : ١٣٢.

(٥) الوليد بن عبد الملك ٤٨ ـ ٩٦ ه‍ ـ ٦٦٨ ـ ٧١٥ م : ابن مروان ، أبو العباس ، ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٨٦ ه‍ ، فوجه القواد لفتح البلاد ، وامتدت في زمنه حدود الدولة العربية إلى بلاد الهند فتركستان فأطراف الصين شرقا ، وكان ولوعا بالبناء والعمران وحفر الآبار وإصلاح الطرق ، وهو أول من أنشأ المستشفيات في الإسلام ، وبنى المسجد الأقصى في القدس ومسجد دمشق الكبير المعروف بالجامع الأموي وكانت وفاته بدير مرّان من غوطة دمشق. ودفن بدمشق ، عن الأعلام ٨ : ١٢١.

(٦) عباد ت ١٠٠ ه‍ ـ ٧١٨ م : عباد بن زياد ابن أبيه ، أبو حرب ، أمير ، كانت إقامته بالبصرة ، ولّاه معاوية سجستان سنة ٥٣ ه‍ ، فغزا بلاد الهند ، وكان في الشام أيام عبد الملك بن مروان. تهذيب التهذيب ٥ : ٩٣ والأعلام ٣ : ٢٥٧.

(٧) الخبر في العقد ١ : ١٣٢.

١٤١

وقال دريد بن الصمّة (١) لمالك بن عوف النّصري (٢) قائد هوازن يوم حنين (٣) :

يا مالك ، إنّك قد أصبحت رئيس قومك ، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام. مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير (٤)؟

قال : سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم.

قال : ولم ذلك؟

قال : أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.

فأنقض به (٥) دريد ثم قال : راعي ضأن والله ، وهل يردّ المنهزم شيء؟!!

__________________

(١) دريد : ت ٨ ه‍ ـ ٦٣٠ م : دريد بن الصمة الجشميّ البكري من هوازن ، شجاع ، من الأبطال الشعراء المعمرين في الجاهلية ، كان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم ، وغزا نحو مئة غزوة لم يهزم في واحدة منها. وعاش حتى ذهب حاجباه عن عينيه ، وأدرك الإسلام ولم يسلم ، فقتل على دين الجاهلية يوم حنين (٨ ه‍) وكانت هوازن خرجت لقتال المسلمين فاستصحبته معها تيمنا به وهو أعمى. فلما انهزمت جموعها أدركه ربيعة بن رفيع السلمي فقتله. وله أخبار كثيرة ، والصّمة لقب أبيه معاوية بن الحارث. الأعلام ٢ : ٣٣٩ والأغاني ١٠ : ٣ والسيرة النبوية ٢ : ٨٨٤.

(٢) مالك بن عوف ت ٢٠ ه‍ ـ ٦٤٠ م تقريبا : مالك بن عوف بن سعد بن يربوع النصري ، من هوازن ، صحابي من أهل الطائف. كان رئيس المشركين يوم حنين. قاد هوازن كلها لحرب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وكان من الجرارين (ولم يكن الرجل يسمّى جرارا حتى يرأس ألفا) ثم أسلم وشهد القادسية وفتح دمشق. وكان شاعرا رفيع القدر في قومه. استعمله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عليهم. وكانت له دار في دمشق تعرف بدار بني نصر. عن الأعلام ٥ : ٢٦٤.

(٣) يوم حنين سنة ٨ ه‍. انظر السيرة النبوية ٢ : ٨٨٤.

(٤) في السيرة : ويعار الشاء.

(٥) فأنقض به أي زجره من الإنقاض ، وهو أن تلصق لسانك بالحنك الأعلى ثم تصوت في حافتيه من غير أن ترفع طرفه عن موضعه. أو هو التصويت بالوسطى والإبهام كأنك تدفع بهما شيئا ، وذلك حين تنكر على غيرك قولا أو عملا. عن حاشية العقد ١ : ١٣٣.

١٤٢

إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ، ويحك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن (١) إلى نحور الخيل شيئا ، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصّبّاء (٢) على متون الخيل ، فإن كانت لك لحقك من وراءك ، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك.

قال : لا والله لا أفعل ، إنك قد كبرت وذهل عقلك.

قال دريد" : هذا يوم لم أشهده ولم يفتني ، ثمّ أنشأ يقول :

يا ليتني فيها جذع

أخبّ فيها وأضع

أقود وطفاء الزّمع

كأنّها شاة صدع (٣)

وكان قتيبة بن مسلم (٤) يقول / [س ٥٦] لأصحابه :

__________________

(١) بيضة هوازن : جماعتهم.

(٢) الصبّاء جمع صابىء ، يريد المسلمين. كانوا يسمونهم بهذا الاسم لأنهم عندهم صبؤوا عن دينهم ، أي خرجوا من دين الجاهلية إلى الإسلام. عن حاشية العقد ١ : ١٣٣.

(٣) الخبر والشعر في السيرة النبوية ٢ : ٨٨٥. والجذع : الصغير السن بلا تجربة أخبّ وأضع من الخبب والوضع وهما ضربان من السير. ووطفاء الزمع : الفرس طويلة الشعر. والشاة : الوعل. والصّدع : ليس بالعظيم ولا الحقير.

(٤) قتيبة بن مسلم ٤٩ ـ ٩٦ ه‍ ـ ٦٦٩ ـ ٧١٥ م : قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي ، أبو حفص ، أمير ، فاتح ، من مفاخر العرب ، كان أبوه كبير القدر عند يزيد بن معاوية ، ونشأ هو في الدولة المروانية ، فولي الري في أيام عبد الملك وخراسان في أيام ابنه الوليد ، ووثب لغزو ما وراء النهر فتوغل فيها وافتتح كثيرا من المدائن كخوارزم وسجستان وسمرقند وغزا أطراف الصين ، وضرب عليها الجزية .. واشتهرت فتوحاته فاستمرت ولايته ثلاث عشرة سنة وهو عظيم المكانة مرهوب الجانب ، ولما استخلف سليمان وكان يكره قتيبة ، فأراد قتيبة الاستقلال بما في يده ، وجاهر بنزع الطاعة ، واختلف عليه قادة جيشه فقتله وكيع بن حسان التميمي بفرغانة ، وكان مع بطولته دمث الأخلاق ، داهية ، طويل الروية ، راوية للشعر ، عن الأعلام ٥ : ١٨٩.

١٤٣

إذا غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصّروا الشّعور ، والحظوا الناس شزرا ، وكلّموهم رمزا واطعنوهم وخزا (١).

وكان سعيد بن زيد (٢) يقول لبنيه :

قصّروا الأعنّة ، واشحذوا الأسنّة ، تأكلوا القريب ويرهبكم العدوّ (٣).

وقال عيسى بن موسى (٤) : لما وجّهني المنصور (٥) إلى المدينة

__________________

(١) انظر الخبر في عيون الأخبار ١ : ١٤١ والعقد ١ : ١٣٤.

(٢) سعيد بن زيد ٢٢ ق. ه ـ ٥١ ه‍ ـ ٦٠٠ ـ ٦٧١ م : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي ، أبو الأعور ، صحابي ، من خيارهم ، هاجر إلى المدينة ، وشهد المشاهد كلها إلا بدرا ، وكان غائبا في مهمة أرسله بها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وكان من ذوي الرأي والبسالة. وشهد اليرموك وحصار دمشق ، وولّاه أبو عبيدة دمشق. مولده بمكة ووفاته بالمدينة. الإصابة ٣ : ٩٦ برقم : ٣٢٥٤ والأعلام ٣ : ٩٤.

(٣) الخبر في العقد ١ : ١٣٤.

(٤) عيسى بن موسى ١٠٢ ـ ١٦٧ ه‍ ـ ٧٢١ ـ ٧٨٣ م : عيسى بن موسى بن محمد العباسي ، أبو موسى ، أمير من الولاة القادة ، وهو ابن أخي السفاح ، كان يقال له «شيخ الدولة» ولد ونشأ في الحميمة ، وكان من فحول أهله وذوي النجدة والرأي منهم ، وله شعر جيد ، ولّاه عمه الكوفة وسوادها سنة ١٣٢ ه‍ وجعله وليّ عهد المنصور ، فاستنزله المنصور عن ولاية عهده سنة ١٤٧ وعزله عن الكوفة وأرضاه بمال وفير وجعل له ولاية عهد ابنه المهدي. فلما ولي المهدي خلعه سنة ١٦٠ ه‍ بعد تهديد ووعيد وكان ولي العهد لا يخلع ما لم يخلع نفسه ويشهد الناس عليه. فأقام بالكوفة إلى أن توفي. عن الأعلام ٥ : ١٠٩.

(٥) المنصور أبو جعفر ٩٥ ـ ١٥٨ ه‍ ـ ٧١٤ ـ ٥٧٥ : عبد الله بن محمد بن علي بن العباس ، ثاني خلفاء بني العباس ، وأول من عني بالعلوم من ملوك العرب ، كان عارفا بالفقه والأدب ، مقدما في الفلسفة والفلك محبا للعلماء ، ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان. وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة ١٣٦ ه‍ وهو باني مدينة بغداد ، أمر بتخطيطها سنة ١٤٥ ه‍ ، كان بعيدا عن اللهو والعبث ، كثير الجد والتفكير ، وهو والد الخلفاء العباسيين. وقد قتل خلقا كثيرا حتى استقام ملكه. توفي ببئر ميمون من أرض مكة محرما بالحج. عن الأعلام ٤ : ١١٧.

١٤٤

لمحاربة بني عبد الله بن الحسن (١) جعل يوصيني ويكثر فقلت : يا أمير المؤمنين إلى متى توصيني؟

إني أنا السّيف الحسام الهندي

أكلت جفني وفريت غمدي

فكلّ ما تطلب عندي عندي (٢)

__________________

(١) عبد الله بن الحسن ٧٠ ـ ١٤٥ ه‍ ـ ٦٩٠ ـ ٧٦٢ م : عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أبو محمد ، تابعي ، من أهل المدينة ، قال الطبري : كان ذا عارضة وهيبة ولسان وشرف ، وكانت له منزلة عند عمر بن عبد العزيز ، ولما ظهر العباسيون قدم مع جماعة من الطالبيين على السفاح وهو بالأنبار ، فأعطاه ألف ألف درهم ، وعاد إلى المدينة ، ثم حبسه المنصور عدة سنوات من أجل ابنيه محمد وإبراهيم ونقله إلى الكوفة فمات سجينا فيها كما حققه الخطيب البغدادي. عن الأعلام ٤ : ٧٨.

(٢) الخبر مع الرجز في العقد الفريد ١ : ١٣٤ وفيه إني أنا ذاك. وانظر أيضا العقد ٥ : ٨٧.

١٤٥
١٤٦

الباب العاشر

في التحريض

على الجهاد

١٤٧
١٤٨

في التحريض على الجهاد / [م ٢٩]

ينبغي للإمام أن يحضّ الناس ويحرّضهم على الجهاد ، فقد أمر الله تعالى بذلك نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ)(١)

وكان النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحرّض ويقول يوم بدر : والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلّا أدخله الله الجنّة (٢).

وروي أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : لا يتقدّم أحدكم إلى شيء حتّى أكون أنا دونه ، فدنا المشركون ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فقال عمير بن الحمام (٣) من بني سلمة وبيده تمرات يأكلهنّ : بخ بخ ، ما بقي بيني وبين أن أدخل الجنّة إلّا أن يقتلني هؤلاء القوم / [س ٥٧] فقذف بالتّمرات من يده وأخذ السيف وقاتل حتّى قتل وهو يقول :

ركضا إلى الله بغير زاد

إلا التّقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

فكلّ زاد عرضة النّفاد

غير التّقى والبرّ والرشاد (٤)

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٦٥.

(٢) الخبر في السيرة النبوية ١ : ٤٥٩ «أخبار وقعة بدر» وفي الأحكام السلطانية ٤١.

(٣) عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد الأنصاري السلمي ، ذكر فيمن شهد بدرا انظر أخباره في الإصابة ٥ : ٣١ برقم : ٦٠٢٥ والسيرة النبوية ١ : ٤٥٩ ـ ٥٢٧.

(٤) الخبر مع الرجز في الأحكام السلطانية : ٤١ والإصابة ٥ : ٣١.

١٤٩

والتحريض من أفعال البرّ ، وأعمال الخير ، وأسباب الثبوت عند اللقاء ، ومن باب التعاون على البرّ والتّقوى ، وكان يقال : محرّض واحد خير من مئة مقاتل.

وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أعطى الخطباء والشعراء أعطياتهم وأمرهم أن يلحقوا بجيوش المسلمين بالشّام ليحرّضوا ويحضّوا.

ويجوز للإمام أن يعرّض للشهادة من الرّاغبين فيها من يعلم أنّه إن قتل في المعركة أثار أحد أمرين :

١ ـ إمّا تحريضا للمسلمين على القتال حميّة له.

٢ ـ وإمّا تخذيلا للمشركين بالجرأة عليهم في نصر الدين.

ومما ذكر من التحريض ما روي أنّ عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه سمع يحرّض الناس وهو يقول : عباد الله ، اتّقوا الله وغضّوا الأبصار واخفضوا الأصوات وأقلّوا الكلام ووطّنوا أنفسكم على المنازلة والمبارزة والمعانقة والمكادمة واثبتوا ، (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١)(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢) ، اللهمّ ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر / [س ٥٨] وأعظم لهم الأجر.

وسمع في حرب يقول لأصحابه :

أما تخافون مقت الله ، حتّى متى؟! ثمّ انفتل إلى القبلة فرفع يديه فقال :

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٤٥.

(٢) سورة الأنفال ٨ : ٤٦.

١٥٠

يا الله ، يا رحمن ، يا واحد ، يا إله محمّد ، اللهمّ إليك نقلت الأقدام ورفعت الأيدي ، ومدّت الأعناق وشخصت الأبصار وطلبت الحوائج ، نشكو إليك غيبة نبيّنا وكثرة عدوّنا وتشتيت أهوائنا. ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. ثمّ قال لهم : سيروا على بركة الله ، ثم نادى : لا إله إلا الله والله أكبر كلمة التقوى.

وسمع أيضا وهو يقول :

انّ الله قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله ، وجعل ثواب ذلك / [م ٣٠] مغفرة الذّنوب ومساكن طيبة في جنّات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم. وأخبركم بالذي يجب في ذلك فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(١) فسوّوا صفوفكم ـ رحمكم الله ـ كالبنيان المرصوص ، وقدّموا الدارع وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبا للسيوف عن الهام ، وأربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات ، فإنّه أوّل الوقار ، وراياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم الحامين الذّمار الصّبر عند نزول الحقائق ، وأهل الحفاظ الذين يحفّون براياتهم ويضربون أمامها قدما ، وليقاتل / [س ٥٩] كلّ رجل منكم قرنه ، وليواس أخاه بنفسه ولا يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك اللائمة ويأتي به الدناءة ، وأن لا يكون هذا كهذا ، وهذا يقاتل اثنين وهذا ممسك بيده قد خلّى قرنه عليه هاربا منه وقام ينظر إليه ، من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله فإنّما مردّكم إليه قال تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ

__________________

(١) سورة الصف ٦١ : ١٠ ، ١٣.

١٥١

الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(١) والله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآجلة ، فاستعينوا بالصدق عند اللّقاء ، والصّبر عند البلاء ، فإنّ بعد الصبر ينزل النصر.

وحرض أبو الهيثم الأنصاري (٢) وكان من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عقبيّا بدرّيا ، فجعل يسوّي الصفوف ويقول : يا معاشر المسلمين ، إنّه ليس بين الفتح العاجل ، والجنة في الآجل إلا ساعة من نهار ، فأرسفوا أقدامكم وسوّوا صفوفكم وأعيروا جماجمكم ، واستعينوا بالله واصبروا إنّ الله مع الصابرين وإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.

وحرّض آخر فقال :

يا أيها الناس ، غضّوا الأبصار ، وعضّوا على النواجذ ، ثم استقبلوا القوم بهامكم ، وشدّوا شدّة قوم موتورين قد وطّنوا أنفسهم على الموت ، وطيّبوا عباد الله بدمائكم دون دينكم ، فإنّ الفرار فيه سلب العزّ وذلّ الحياة / [س ٦٠] والممات ، وعار في الدنيا والآخرة.

ثم اختصّ بالقول عصابة من قومه فقال :

عضضتم بصمّ الجندل ، ما أرضيتم ربّكم ولا نصحتم له في عدوّكم.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٦.

(٢) أبو الهيثم الأنصاري ت ٢٠ ه‍ ـ ٦٤١ م : مالك بن التّيهان الأنصاري الأوسي أبو الهيثم ، صحابي ، كان يكره الأصنام في الجاهلية ، ويقول بالتوحيد هو وأسعد بن زرارة ، وكانا أول من أسلم من الأنصار بمكة ، وهو أحد النقباء الأثني عشر. شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها. وتوفي في خلافة عمر. وقيل : شهد صفين مع علي. وقتل بها سنة ٣٧ ه‍. وكان شاعرا ، وله قصيدة في رثاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، الإصابة ٦ : ٢٠ برقم : ٧٥٩٥ والأعلام ٥ : ٢٥٨.

١٥٢

وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب ، وأصحاب الطّعن والضّرب الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ، ولا تطلّ دماؤهم ، فاتّقوا الله واصدقوا عدوّكم ، إنّ الله مع الصادقين. فعمل ذلك الكلام فيهم وشدّوا شدّة رجل واحد ، وضاربوا أعداءهم حتّى أزالوهم عن مواقعهم.

ويروى أنّ النّعمان بن مقرّن (١) كان الأمير في غزاة نهاوند حين برز إليه جموع الكفر ، وتعبّا الفريقان وتهيؤوا وتأهّبوا أهبة لم ير مثلها ، ووافق ذلك يوم جمعة ، فجعل النعمان يحرّض الناس ويعدهم وينشّطهم ويذكرهم ويتثاقل عن مناشبة الحرب ، ويثبط عنها ، فرمي المسلمون بالنّشّاب / [م ٣١] وكثرت فيهم الجراحات وهو يلوي الناس ، فعذله المغيرة بن شعبة (٢) وندبه إلى مناشبة الحرب ، والإذن للمسلمين في المزاحفة فقال النّعمان : ربّما أشهدك الله مثلها مع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شهدته إذا لم يقاتل أوّل النهار انتظر حتّى تهبّ الأرواح وتحضر الصّلوات وقد دنا الزّوال

__________________

(١) النعمان بن مقرّن ت ٢١ ه‍ ـ ٦٤٢ م : النعمان بن مقرن بن عائذ المزني ، أبو عمرو ، صحابي فاتح ، من الأمراء القادة الشجعان ، كان معه لواء مزينة يوم فتح مكة ، سكن البصرة ، ثم تحول عنها إلى الكوفة ، ووجهه سعد بن أبي وقاص بأمر عمر إلى محاربة الهرمزان ، فزحف بجيش الكوفة إلى الأهواز وهزم الهرمزان وتقدم إلى تستر فشهد وقائعها وعاد إلى المدينة بشيرا بفتح القادسية ، ثم ولاه عمر غزو أصفهان ففتحها وهاجم نهاوند فاستشهد فيها ، ونعاه عمر إلى الناس في مسجد المدينة. وكانت وقعة نهاوند سنة عشرين للهجرة. انظر البلدان وفتوحها وأحكامها للبلاذري ٣٤٩ وما بعدها ، الأعلام ٨ : ٤٢.

(٢) المغيرة بن شعبة ٢٠ ق. ه ـ ٥٠ ه‍ ـ ٦٠٣ ـ ٦٧٠ م : المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي أبو عبد الله ، أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم ، صحابي ، يقال له : مغيرة الرأي ، ولد في الطائف وذهب إلى الإسكندرية ، (في الجاهلية) وعاد إلى الحجاز ، أسلم سنة ٥ ه‍ وشهد الحديبية واليمامة وفتوح الشام وذهبت عينه باليرموك ، وشهد القادسية ونهاوند وهمدان وغيرها ، وولّاه عمر البصرة ففتح عدة بلاد ثم عزله ثم ولّاه الكوفة ، وأقرّه عثمان ثم عزله ، ولما حدثت الفتنة بين عليّ ومعاوية اعتزلها المغيرة. ثم ولّاه معاوية الكوفة وبقي فيها إلى أن مات. عن الأعلام.

١٥٣

وهذا يوم الجمعة ، ثم كلّم الناس وحرضهم فمن قوله بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (١)

أيها الناس ، أنتم حزب الله وأنصار دينه وأتباع نبيّه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ [س ٦١] وحملة كتابه والقائمون بحدوده ، وأهل الصّلاة والصيام وذادة الإيمان والإسلام ، شرّفكم الله بنبيّه المصطفى ، واختار لكم دينه المرتضى ، ووهبكم العقول الراجحة والنيّات الصادقة ، والقلوب الثابتة. وإنما برزتم إلى حزب الشيطان وأهل الضّلالة والبهتان ، وذادة الأصنام والأوثان ، دعاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الهدى والنّور فجانبوه ، وصرخ بهم الشيطان إلى الردى والغرور فاتّبعوه بآراء ساقطة وعقول خاسرة ، وقلوب طائرة ، وقد برزتم إليهم وبرزوا إليكم ، وإنّ الله ناظر إليكم ومطّلع عليكم ، فاستحيوا منه أن يكون حزب الشيطان وذادة الأصنام والأوثان ، أجدّ على الباطل والبهتان ، وأصبر على النّزال والطّعان من حزب الرحمن وذادة الإسلام والإيمان ، وحملة السّنن والقرآن ، وإنّما يتربّصون بكم إحدى الحسنيين ، ونحن نتربّص بهم أن يصيبهم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا.

يا معشر المسلمين ، إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ، إنّي مكبّر لكم ثلاث تكبيرات ، فإذا كبّرت الأولى فليصلح كلّ واحد منكم من شأنه ويشدّ على نفسه وفرسه.

وإذا كبّرت الثانية فلينظر كلّ رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوّه ومكان فرصته. وإذا كبّرت الثالثة فاحملوا على اسم الله واصبروا إنّ الله مع الصابرين / [س ٦٢].

__________________

(١) انظر مجمل هذه الأقوال والأخبار في كتاب : البلدان للبلاذري ٣٤٩ وما بعدها والعقد ١ : ٩٨.

١٥٤

وروي أنّه قال :

إنّي هازّ لكم الراية ثلاثا ... ثم ذكر ما رتّبه ، ففعل الناس ذلك وطلبوا الصفّ الأوّل ، ثم حملوا عند الثالثة على العدوّ فتطاعنوا وتجالدوا من الزّوال إلى ثلث الليل ، فهزم الله العدوّ وأخذتهم السيوف وذهبوا على وجوههم ، وصدّهم المسلمون عن جسر كان هنالك راموا العبور عليه فتردّى منهم كثير ، وقتل منهم أمم وأصاب المسلمون غنائم كثيرة (١) ، قيل : إنه قسم للرجل ولفرسة ثلاثة وثلاثون ألفا ، وللراجل أحد عشر ألفا. قال ابن نافع : وبذلك مضت السّنّة (٢).

وروي أنّ النّعمان قال عند ما ذكر هزّ الراية وقوله : فإنّي حامل فاحملوا وإن قتل أحد فلا يلوينّ أحد على أحد ، وإن قتلت أنا فلا تلووا ، وإنّي داع إلى الله بدعوة ، فعزمت على كلّ امرىء مسلم لمّا أمّن عليها. ثم قال : اللهمّ ارزق النعمان اليوم شهادة تنصر المسلمين ، فأمّن القوم وفعل ما ذكر فكان أوّل صريع رحمه‌الله (٣).

ومّما كان يحرّض به قديما من الكلام المختصر البليغ قولهم :

يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنّة. وفيه من المعنى الجسيم والحّظ / [م ٣٢] العظيم الإضافة إلى الله تعالى تشريفا وتكريما ، وتحت ذلك النسبة إلى نصر دين الله ، قال الله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ

__________________

(١) انظر العقد ١ : ٩٨.

(٢) جاء في كتاب الخيل لأبي عبيدة : ١٣ بسنده قال : قسم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) خيبر فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما. فكان للرجل وفرسه ثلاثة أسهم وهناك أحاديث أخرى في الموضع نفسه. وانظر نهاية الأرب ٩ : ٣٧٦ والسيرة النبوية ٢ : ٨١٠ ذكر مقاسم خيبر.

(٣) البلدان : ٣٥٠.

١٥٥

يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(١) وفيه اليقين بالبشارة بالجنّة. كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول في تحريضه : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

قال عبد الله بن قيس (٢) / [س ٦٣] : كنا في غزاة فلقينا العدوّ وقيل : يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة. فركب الناس وركبت ، وإذا بفتى أمامي يعاتب نفسه يقول :

يا نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي : أهلك عيالك ، فأطعتك ورجعت ، والله لأعرضنّك اليوم على الله قبلك أوردّك.

فقلت : لأرمقنّ هذا الفتى حتّى أنظر ما يصنع. فلحقنا العدوّ فجعل يحمل على المشركين فيكون في أوّل الناس ، فإذا حمل المشركون على المسلمين كان في حماتهم ، فلم يزل كذلك حتّى رأيته صريعا ، فعددت فيه وفي فرسه ستين ضربة أو طعنة رحمه‌الله.

ومن كلام بعض المحرّضين :

أيّها الناس ، قد جدّت بكم الحرب فجدّوا ، وشمّرت عن ساقها فشدّوا ،

__________________

(١) سورة محمد ٤٧ : ٧.

(٢) عبد الله بن قيس ت ٥٣ ه‍ ـ ٦٧٣ م : عبد الله بن قيس الحارثي ، حليف بني فزارة ، أمير البحر في صدر الإسلام ، كان مقيما في الشام وأراد معاوية غزو قبرس فولّاه قيادة الغزاة سنة ٢٧ ه‍ فتقدم يريدها فالتقى بعبد الله بن سعد قادما من مصر لغزوها ، فصالحهما أهلها على سبعة آلاف دينار يؤدونها كل سنة ، وبقي عبد الله على البحر ، فغزا خمسين غزاة صيفا وشتاء ، لم يغرق من جيشه أحد ولم ينكب. وقتله الروم وهو يطوف في أحد المرافىء متخفيا ، دلتهم عليه امرأة كانت تتسول فأعطاها فعرفته فراسة. عن الإصابة ٣ : ٩٤ برقم : ٦٣٣٥ والأعلام ٤ : ١١٤ وهناك آخر باسم عبد الله بن قيس الهمداني الحمصي. له ذكر في الفتوح وكان يوم اليرموك. الإصابة ٥ : ٩٤ برقم : ٦٣٣٦.

١٥٦

وأعدّت لكم مكايدها فاستعدّوا ، وأخلصوا نيّاتكم وأسرار ضمائركم ، وغيروا غيرة الرجال في حمى ذماركم ، وكونوا على عدوّكم يدا (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(١) فاصبروا إنّ الله مع الصابرين ، واعلموا أنّ الله مع المتّقين ، واتقوا الله يا عباد الله جهدكم ، ولا يكثرنّ في ثوابه زهدكم ، وأجيبوا دعوته فقد دعاكم ، وجاهدوا في سبيله يعطكم رضاكم ، وانصروا الإسلام يرفع الله لكم الأعلام ، وقد وعدكم النصر ، وذخر لكم الأجر ، وجعلكم ردءا للمسلمين وظهيرا على أعداء الله الكافرين ، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢) واحمدوا الله الذي خصّكم بهذه الفضيلة / [س ٦٤] وآثركم بهذه الموهبة الجليلة ، فتوكّلوا عليه ، واستعينوا بتقواه وطاعته واضرعوا إليه في أن يؤيّدكم بنصره وكفايته ، فهو سبحانه يصرف السوء عن عباده المؤمنين ، ويجعل دائرة السوء على القوم الكافرين ، قال عليّ ابن أبي طالب رضي‌الله‌عنه :

جزى الله قوما قاتلوا في لقائهم

لدى الرّوع قوما ما أعفّ وأكرما

وأطيب أخبارا وأفضل شيمة

إذا كان أصوات الرجال تغمغما (٣)

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٢٠.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٣٩.

(٣) البيتان من قصيدة منسوبة للإمام علي وهي في ديوانه ١٢٧ وأولها :

لنا الراية الحمراء يخفق ظلها

إذا قيل قدّمها حضين تقدما

ورقم القصيدة ٢٧٨ ورواية البيتين فيها مع العلم أن ثانيهما هنا ورد قبل الأول :

وأحزم صبرا حين يدعى إلى الوغى

إذا كان أصوات الكماة تغمغما

جزى الله قوما قاتلوا في لقائهم

لدى البأس خيرا ما أعف وأكرما

١٥٧

ومما ينبغي للمحرّض أن يستعمله في ذلك الكلام الفصيح القريب من فهم عامّة زمانه وأهل مكانه ، ويستطيبه الجمهور مع موافقة الألفاظ الشرعية التي ترغّب في الآخرة وتزهّد في الدنيا ، وتقوّي القلوب وتشدّ النفوس ، وتنبّه على قوّة اليقين ، وتحضّ على الدرجة العليا ، وتبيّن فضل الشهادة ، وتوقظ الهمم ، وتغرس الشجاعة في القلب ، وتثمر الأنفة من العار ، وتعلّم الحياء من الله تعالى ، وتعلّم أنه حاضر لا يغيب ، وشاهد لا يغفل ، ورقيب على كل نفس ، وناظر لكلّ فعل / [م ٣٣] وربما استعمل البليغ في تضاعيف كلامه نظر الجليل سبحانه إلى الفئتين واطلاعه على الفريقين ، ومباهاته الملائكة بأهل الثبات والصبر ، وجوده على الصابرين بالنصر ، ويذكر ما في الفرار من المقت العاجل والآجل وما في الثبات من العزّ الثابت غير الزائل ، وحنو البهائم على أولادها ، والطير على أفراخها ، وأنّ الذبّ عن الأطفال / [س ٦٥] والعيال من أفعال كرام الرّجال ، وأنّ المسلم ألوف عطوف حامي الذمار كريم الجوار ، وأنّ أهل الدين الواحد كالجسد الواحد ، والحرّ لا يسلّم أولياءه كما لا يفارق أعضاءه ، وكذلك يعظّم الإسلام وأهله ، ويقبّح فرع الكفر وأصله ، ويذكر عزّة المسلم عند الحفيظة والحقيقة ، وذلّة الكافر إذا تخلّل فريقه ، قال الله تعالى (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(١)(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(٢) وقال سبحانه : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)(٣) ومن الشعر اللائق بذلك قول الجحّاف بن حكيم (٤) :

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٤) الجحّاف بن حكيم ت نحو ٩٠ ه‍ ـ ٧٠٩ م : الجحّاف بن حكيم السّلميّ ، فاتك ، ثائر ، شاعر ، كان معاصرا لعبد الملك بن مروان ، وغزا تغلب بقومه فقتل منهم كثيرين ، فاستجاروا بعبد الملك فأهدر دم الجحاف ، فهرب إلى الروم فأقام سبع سنين. ومات عبد الملك فأمنه الوليد فرجع. عن الأعلام ٢ : ١١٣.

١٥٨

نعرّض للطّعان بكلّ ثغر

خدودا لا تعرّض للّطام

شهدن مع النبيّ مسوّمات

حنينا وهي دامية الحوام

ووقعة راهط شهدت وحلّت

سنابكهنّ بالبلد الحرام (١)

فيذكر المشاهد وكرم المعاهد التي يعطف عليها ويحنّ إليها ، وكما يقال :

وضربة السيف في عزّ مصاولة

ألذّ من ضرب (٢) للحرّ في ذلّ

وممّا ينبغي أن يكون عليه المحرّض : الاعتزاز بالله والإخلاص في أمر الله ، والشدّة على أعداء الله ، ولا سيّما إن قام في أهل كرم ودين وحفيظة ويقين ، قال الله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٣) وقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / [س ٦٦] : والذي نفسي بيده إنّ

__________________

(١) الأبيات في السيرة النبوية ٢ : ٨٧٩ وفيها :

وقال الجحاف بن حكيم السّلميّ :

شهدن مع النبي مسومات

حنينا وهي دامية الكلام

وغزوة خالد شهدت وجرت

سنابكهن بالبلد التهام

نعرض للطعان إذا التقينا

وجوها لا تعرّض للّطام

ولست بخالع عني ثيابي

إذا هز الكماة ولا أرامي

ولكني يجول المهر تحتي

إلى العلوات بالعضب الحسام

والأبيات في الحماسة منسوبة للجحاف ولغيره ، انظر شرح المرزوقي ١ : ١٣٢١ برقم : ٢١ ونسبت للحريش بن هلال.

(٢) الضّرب : العسل.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٨٥.

١٥٩

نفسا لن تموت حتّى تستكمل رزقها وأجلها فاتّقوا الله وأجملوا في الطّلب (١). فهذا قسم مبرور وتجارة مع الله لن تبور.

وأنشد بعضهم قول لقيط الإياديّ (٢) :

يا أيّها الراكب المزجي مطيّته

إلى الجزيرة مرتادا ومنتجعا (٣)

__________________

(١) الحديث في سنن ابن ماجة : كتاب التجارات ٢ : ٢١٤٤ ص ٧٢٥ ولفظه : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أيها الناس ، اتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل. ودعوا ما حرم.

(٢) لقيط بن يعمر الإيادي ت ٢٥٠ ق. ه تقريبا ـ ٣٨٠ م شاعر جاهلي فحل ، من أهل الحيرة ، كان يحسن الفارسية واتصل بكسرى سابور ذي الأكتاف ، فكان من كتابه والمطلعين على أسرار دولته ، ومن مقدمي تراجمته ، والقصيدة العينية المذكور قسم منها كبير في كتابنا هي من غرر شعره ، بل إن أبا الفرج الأصفهاني قال : ليس يعرف له شعر إلا هذه القصيدة وقطع من الشعر لطاف متفرقة ، وكان لقيط قد وجّه بالقصيدة العينية إلى قومه بني إياد ينذرهم بأن كسرى وجه جيشا لغزوهم ، وسقطت القصيدة في يد أوصلتها إلى كسرى فسخط على لقيط وقطع لسانه ثم قتله ، وانظر خبر قبيلة إياد مع كسرى في الأغاني ٢٢ / ٣٩٣ وانظر الأعلام ٥ / ٢٤٤ أما القصيدة العينية فقد رواها ابن الشجري في مختاراته كما أوردها المرزوقي في أماليه وذكر قسما منها أبو الفرج في الأغاني. وسنعتمد في المقارنة رواية المرزوقي. أمالي المرزوقي : ٢٤٢ والقصيدة في ديوانه بتحقيق د. محمد التونجي دار صادر.

بيروت ١٩٩٨ م. وانظر في أخباره أيضا : رغبة الآمل ٥ : ٩٩ الشعر والشعراء : ١٥١ ـ ١٥٤ ط.

الحلبي. المؤتلف والمختلف : ١٧٥ وذكر أبو الفرج أن لقيطا جعل عنوان الكتاب :

كتاب في الصحيفة من لقيط

إلى من بالجزيرة من إياد

بأن الليث كسرى قد أتاكم

فلا يشغلكم سوق النّقاد

والنقاد : الغنم الصغار

(٣) المزجي : الذي يسوق مطيته ، والارتياد والنجعة : طلب الكلأ وهذا البيت هو البيت التاسع من القصيدة وروايته عند المرزوقي :

بل أيها الراكب المزجي على عجل

نحو الجزيرة مرتادا ومنتجعا

وقبله : ـ

١٦٠