أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]
المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٥٦
ثم حثثت الخطو من |
|
فوق الكثيب الأعفر |
مستقريا في عشبه |
|
خفيّ (١) وطء المطر |
تروي عن الضّحاك في الر |
|
وض حديث الزّهر |
مخلّق الأذيال بال |
|
عبير أو بالعنبر |
وصف لجيران الحمى |
|
وجدي بهم وسهري |
وحقّهم ما غيّرت |
|
ودّي صروف الغير |
لله عهد فيه قضّ |
|
يت حميد الأثر |
أيّامه هي التي |
|
أحسبها من عمري |
وبالليل فيه ما |
|
عيب بغير القصر |
العمر فينان ووج |
|
ه الدهر طلق الغرر |
والشّمل بالأحباب من |
|
ظوم كنظم الدّرر |
صفو من العيش بلا |
|
شائبة من كدر |
ما بين أهل تقطف ال |
|
أنس جنيّ الثمر |
وبين آمال تبي |
|
ح القرب صافي الغدر (٢) |
يا شجرات الحيّ حيّ |
|
اك الحيا من شجر |
إذا أجال الشوق في |
|
تلك المغاني فكري |
خرّجت من خدّي حدي |
|
ث الدمع فوق الطّرر |
وقلت يا خدّ أرو من |
|
دمعي صحاح الجوهري |
عهدي بحادي (٣) الرّكب كال |
|
ورقاء عند السّحر |
والعيس تجتاب الفلا |
|
واليعملات تنبري (٤) |
تخبط بالأخفاف مظ |
|
لوم البرى وهو بري (٥) |
قد عطفت عن ميد |
|
والتفتت (٦) عن حور |
__________________
(١) في نفح الطيب : «مخفيّ وطء».
(٢) الغدر : جمع غدير. لسان العرب (غدر).
(٣) حادي الركب : الذي يحدو للإبل لتنشط في سيرها. لسان العرب (حدا).
(٤) اليعملات : جمع يعملة وهي الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة على العمل. تنبري : تعترض ، أي إنها تباري الإبل في سرعة سيرها. محيط المحيط (عمل) و (برى).
(٥) البرى ، بالفتح : التراب. بري : أي بريء ، فسهّل الهمزة. لسان العرب (برى) و (برأ).
(٦) في الأصل : «والتفّت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
قسيّ سير (١) ما سوى ال |
|
عزم لها من وتر |
حتى إذا الأعلام حل |
|
لت لحفيّ البشر |
واستبشر النازح بال |
|
قرب ونيل الوطر |
وعيّن الميقات للسّ |
|
فر (٢) نجاح السّفر |
والناس (٣) بين محرم |
|
بالحجّ أو معتمر |
لبّيك لبيك إل |
|
ه الخلق باري الصّور |
ولاحت الكعبة بي |
|
ت الله ذات الأثر |
مقام إبراهيم وال |
|
مأمن عند الذّعر |
واغتنم القوم طوا |
|
ف القادم المبتدر (٤) |
وأعقبوا ركعتي السّ |
|
عي استلام الحجر |
وعرّفوا في عرفا |
|
ت كلّ عرف أذفر (٥) |
ثم أفاض الناس سع |
|
يا في غد للمشعر (٦) |
فوقفوا وكبّروا |
|
قبل الصباح المسفر |
وفي منّى نالوا المنى |
|
وأيقنوا بالظّفر |
وبعد رمي الجمرا |
|
ت كان خلق الشّعر |
أكرم بذاك الصّحب (٧) وال |
|
له وذاك النّفر (٨) |
يا فوزه من موقف |
|
يا ربحه من متجر |
حتى إذا كان الودا |
|
ع وطواف الصّدر (٩) |
فأيّ صبر لم يخن |
|
أو جلد لم يغدر (١٠) |
وأيّ وجد لم يصل |
|
وسلوة لم تهجر |
__________________
(١) يشبه الإبل الهزيلة السريعة بالقسيّ.
(٢) السّفر : المسافرون. لسان العرب (سفر).
(٣) في النفح : «فالناس».
(٤) المبتدر : المسرع إلى عمل شيء ، وأراد : طواف القدوم. لسان العرب (بدر).
(٥) الأذفر : الطيب الرائحة. لسان العرب (ذفر).
(٦) المشعر : موضع مناسك الحج. محيط المحيط (شعر).
(٧) في النفح : «السّفر».
(٨) في النفح : «السّفر».
(٩) الصّدر : الرجوع ، وطواف الصدر هو الطواف الذي يكون آخر أعمال الحجّ ، سمي بذلك لأنهم يعودون بعده إلى بلادهم.
(١٠) يقول : إنهم جزعوا لمفارقة مكة.
ما أفجع البين لقل |
|
ب الواله المستغفر (١) |
ثم ثنوا نحو رسو |
|
ل الله سير الضّمّر |
فعاينوا في طيبة |
|
لألاء نور نيّر |
زاروا رسول الله واس |
|
تشفعوا بلثم الجدر |
نالوا به ما أمّلوا |
|
وعرّجوا في الأثر |
على الضّجيعين أبي |
|
بكر الرّضا وعمر |
زيارة الهادي الشّفي |
|
ع جنّة (٢) في المحشر |
فأحسن الله عزا |
|
ء قاصد لم يزر |
ربع ترى مستنزل ال |
|
آي به والسّور |
وملتقى جبريل بال |
|
هادي الزّكيّ العنصر (٣) |
وروضة الجنّة ب |
|
ين روضة ومنبر |
منتخب الله ومخ |
|
تار الورى من مضر |
والمنتقى والكون من |
|
ملابس الخلق عري |
إذ لم يكن في أفق |
|
من زحل أو مشتري (٤) |
ذو المعجزات الغرّ أم |
|
ثال النجوم الزّهر |
يشهد بالصّدق له |
|
منها انشقاق القمر (٥) |
والضّبّ والظّبي إلى |
|
نطق الحصى والشّجر |
من أطعم الألف بصا |
|
ع في صحيح الخبر |
والجيش روّاه بما |
|
ء الرّاحة المنهمر |
يا نكتة الكون التي |
|
فاتت منال الفكر (٦) |
يا حجّة الله على ال |
|
رائح والمبتكر |
يا أكرم الرّسل على ال |
|
له وخير البشر |
__________________
(١) في النفح : «المستعبر».
(٢) الجنّة : بضم الجيم : الوقاية. لسان العرب (جنن).
(٣) أراد بالزكي العنصر : النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(٤) في نفح الطيب : «ومشتري».
(٥) انشقاق القمر من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)). سورة القمر ٥٤ ، الآية ١.
(٦) الفكر : جمع فكرة ، وأراد العقول ، وقوله : فاتت منال الفكر : أي عجز المفكرون عن إدراك حقيقته.
يا من له التّقدم ال |
|
حقّ على التّأخر |
يا من لدى مولده |
|
المقدّس المطهّر |
إيوان كسرى ارتجّ إذ |
|
ضاقت (١) قصور قيصر |
وموقد النار طفا |
|
كأنها لم تسعر (٢) |
يا عمدتي يا ملجئي |
|
يا مفزعي يا وزري |
يا من له اللّواء وال |
|
حوض وورد الكوثر |
يا منقذ الغرقى وهم |
|
رهن العذاب الأكبر |
إن لم تحقّق أملي |
|
بؤت بسعي المخسر |
صلّى عليك الله يا |
|
نور الدّجا المعتكر |
يا ويح نفسي كم أرى |
|
من غفلتي في غمر (٣) |
وا حسرتا (٤) من قلّة ال |
|
زّاد وبعد السّفر |
يحجّني والله بال |
|
برهان وعظ المنبر |
يا حسنها من خطب |
|
لو حرّكت من نظري (٥) |
يا حسنها من شجر |
|
لو أورقت من ثمر |
أومّل الأوبة وال |
|
أمر بكفّ القدر |
أسوف العزم بها (٦) |
|
من شهر لشهر |
من صفر لرجب |
|
من رجب لصفر |
ضيّعت في الكبرة ما |
|
أعددته في صغري |
وليس ما مرّ من ال |
|
أيام بالمنتظر |
وقلّ ما أن حمدت |
|
سلامة في غرر |
ولي غريم لا يني |
|
عن (٧) طلب المنكسر |
يا نفس جدّي قد بدا ال |
|
صبح ألا فاعتبري |
واتّعظي بمن مضى |
|
وارتدعي وازدجري |
__________________
(١) في النفح : «ضاءت».
(٢) في النفح : «... طفي كأنه لم يسعر».
(٣) في النفح : «في غفلة من عمري».
(٤) في الأصل : «واحسروا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(٥) في الأصل : «من نظر» والتصويب من النفح.
(٦) في النفح : «به».
(٧) في النفح : «في».
ما بعد شيب الفود من |
|
مرتقب فشمّري |
أنت وإن طال المدى |
|
في قلعة (١) أو سفر (٢) |
وليس من عذر يقي |
|
م حجّة المعتذر |
يا ليت شعري والمنى |
|
تسرق طيب العمر |
هل أرتجي من عودة |
|
أو رجعة أو صدر |
فأبرّد الغلّة من |
|
ذاك الزّلال الخصر (٣)؟ |
مقتديا بمن مضى |
|
من سلف ومعشر |
نالوا جوار الله وه |
|
والفخر للمفتخر |
أرجو بإبراهيم مو |
|
لانا بلوغ الوطر |
فوعده لا يمتري |
|
في الصّدق منه الممتري (٤) |
فهو (٥) الإمام المرتضى |
|
والخيّر ابن الخيّر |
أكرم من نال المنى (٦) |
|
بالمرهفات البتر |
ممهّد الملك وسي |
|
ف الحقّ والليث الجري |
خليفة الله الذي |
|
فاق بحسن السّير |
وكان منه الخبر في ال |
|
علياء وفق الخبر |
فصدّق التّصديق من |
|
مرآه للتّصور |
ومستعين الله في |
|
ورد له وصدر |
فاق الملوك الصّيدا (٧) بال |
|
مجد الرّفيع الخطر |
فأصبحت ألقابهم |
|
منسيّة لم تذكر |
وحاز منهم (٨) أوحد |
|
وصف العديد الأكثر |
برأيه المأمون أو |
|
عسكره المظفّر |
بسيفه السّفاح أو |
|
بعزمه المقتدر (٩) |
__________________
(١) القلعة : الانتقال. لسان العرب (قلع).
(٢) في النفح : «وسفر».
(٣) الخصر : العذب البارد. لسان العرب (خصر).
(٤) في نفح الطيب : «ممتري». وامترى في الشيء : شكّ فيه. محيط المحيط (مرى).
(٥) في نفح الطيب : «وهو».
(٦) في نفح الطيب : «العلا».
(٧) في الأصل : «الصيد» ، والتصويب من النفح.
(٨) في النفح : «منه».
(٩) في هذا البيت والذي يليه تورية بأسماء بعض الخلفاء.
بالعلم المنصور أو |
|
بالذّابل المستنصر (١) |
بابن (٢) الإمام الط |
|
اهر البرّ الزّكي السّير |
مدحك قد علّم نظ |
|
م الشّعر من لم يشعر |
جهد المقلّ اليوم من |
|
مثلي كوسع المكثر |
فإن يقصّر ظاهري |
|
فلم يقصّر مضمري |
ووردت (٣) على (٤) باب السلطان الكبير العالم (٥) أبي عنان ، فبلوت من مشاركته ، وحميد سعيه ما يليق بمثله. ولمّا نكبه لم أقصّر عن ممكن حيلة في أمره. ولما (٦) هلك السلطان أبو عنان ، رحمه الله ، وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد الولد المسمّى بالسّعيد ، كان ممن دمث (٧) له الطّاعة ، وأناخ راحلة الملك ، وحلب ضرع الدّعوة (٨) ، وخطب عروس الموهبة ، فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب ، مشدود من لدن القربة (٩) ، فاستحكم عن قرب ، واستغلظ عن كثب ، فاستولى على أمره ، وخلطه بنفسه ، ولم يستأثر عنه ببثّه ، ولا انفرد بما سوى بضع أهله ، بحيث لا يقطع في شيء إلّا عن رأيه ، ولا يمحو ويثبت إلّا واقفا عند حدّه ، فغشيت بابه الوفود ، وصرفت إليه الوجوه ، ووقفت عليه الآمال ، وخدمته الأشراف وجلبت إلى سدّته بضائع العقول والأموال ، وهادته الملوك ، فلا تحدو (١٠) الحداة إلّا إليه ، ولا تحطّ الرّحال إلّا لديه. إن حضر أجري الرسم ، وأنفذ الأمر والنّهي ، لحظا أو سرارا أو مكاتبة ، وإن غاب ، تردّدت الرّقاع ، واختلفت الرّسل. ثم انفرد أخيرا ببيت الخلوة ، ومنتبذ المناجاة ، من دونه مصطفّ الوزراء ، وغايات الحجّاب ، فإذا انصرف تبعته الدّنيا ، وسارت بين يديه الوزراء ، ووقفت ببابه الأمراء ، قد وسع الكلّ لحظه ، وشملهم بحسب الرّتب والأموال رعيه ، ووسم أفذاذهم تسويده ، وعقدت ببنان عليتهم بنانه. لكن رضى الناس غاية (١١) لا تدرك ، والحقد (١٢) بين بني آدم قديم ، وقبيل الملك مباين لمثله ، فطويت الجوانح منه (١٣) على سل ،
__________________
(١) في النفح : «المنتصر».
(٢) في النفح : «يا ابن».
(٣) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٧٩ ـ ٣٨٠).
(٤) كلمة «على» غير واردة في النفح.
(٥) كلمة «العالم» غير واردة في النفح.
(٦) في النفح : «فلما».
(٧) في النفح : «دانت».
(٨) في النفح : «الدولة».
(٩) في النفح : «التقرب».
(١٠) لا تحدو الحداة إلّا إليه : لا تشد الرحال إلّا إليه.
(١١) في النفح : «الغاية».
(١٢) في النفح : «والحسد».
(١٣) كلمة «منه» غير واردة في النفح.
وحنيت الضّلوع على بثّ ، وأغمضت الجفون على قذى ، إلى أن كان من نكبته (١) ما هو معروف ، جعلها الله له طهورا.
ولمّا جرت الحادثة على السلطان (٢) بالأندلس ، وكان لحاق جميعنا بالمغرب ، جنيت ثمرة ما أسلفته في ودّه ، فوفّى كيل (٣) الوفا ، وأشرك في الجاه ، وأدرّ الرّزق ، ورفع المجلس بعد التّسبيب (٤) في الخلاص والسّعي في الجبر ، جبره الله تعالى ، وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))(٥).
ولما انقضى أمر سلطانه ، رحمه الله ، وقذف به بحر التّمحيص إلى شطّه ، وأضحى جوّ النّكبة بعد انطباقه ، آثر التّشريق بأهله وجملته ، واستقرّ بتونس خطيب الخلافة ، مقيما على رسمه من التّجلّة ، ذائع الفضل هنالك والمشاركة ، وهو بحاله الموصوفة إلى الآن ، كان الله له.
وكنت (٦) أحسست منه في بعض الكتب (٧) الواردة صاغية إلى الدّنيا ، وحنينا لما فارق (٨) من غرورها ، فحملني الطّور الذي ارتكبته في هذا الأيام ، بتوفيق الله ، على أن خاطبته (٩) بهذه الرسالة ، وحقّها أن يجعلها خدمة الملوك ممّن ينسب إلى نبل ، أو يلمّ (١٠) بمعرفة ، مصحفا يدرسه ، وشعارا يلتزمه ، وهي (١١) :
سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة (١٢) ، ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت في حمدها (١٣) الصّفات ، ولا تزال تعترف بها العظام الرّفات ، أطلقك الله من أسر الكون (١٤) كما أطلقك من أسر بعضه ، ورشّدك (١٥) في سمائه العالية وأرضه ، وحقّر الحظّ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه. اتّصل بي الخبر السّار من تركك لشانك ، وإجناء الله إيّاك ثمرة إحسانك ، وانجياب ظلام
__________________
(١) في النفح : «نكبته الثالثة».
(٢) في النفح : «الدولة».
(٣) في النفح : «فوفّى الكيل».
(٤) في النفح : «التسبّب».
(٥) سورة الشعراء ٢٦ ، الآيتان : ٨٨ ، ٨٩.
(٦) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٣٧ ـ ١٣٨).
(٧) في النفح : «كتبه الواردة إليّ صاغية ...».
(٨) في النفح : «بلاه».
(٩) في النفح : «أخاطبه».
(١٠) في النفح : «ويلمّ».
(١١) الرسالة مع الشعر في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٣٨ ـ ١٣٩).
(١٢) في النفح : «المكافات».
(١٣) قوله : «في حمدها» غير وارد في النفح.
(١٤) في النفح : «كل الكون».
(١٥) في النفح : «وزهّدك في سمأته الفانية وفي أرضه».
الشّدة الحالك ، عن أفق حالك ، فكبّرت (١) لانتشاق عفو الله العطر (٢) ، واستعبرت لتضاؤل الشّدة بين يدي الفرج لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر ، ويدعوه القضاء فيبتدر (٣) ، إنما هو فيء (٤) ، وظلّ ليس له من الأمر شيء ، ونسأله (٥) جلّ وتعالى أن يجعلها آخر عهدك بالدّنيا وبنيها ، وأوّل معارج نفسك التي تقرّبها من الحقّ وتدنيها ، وكأنّني (٦) والله أحسّ بثقل هذه الدعوة على سمعك ، ومضادّتها ولا حول ولا قوة إلّا بالله لطبعك ، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله في عالم الإنسان ، والآلة لبثّ العدل والإحسان ، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللّسان ، فأقول : ليت شعري ما الذي غبط سيدي بالدّنيا ، وإن بلغ من زبرجها (٧) الرّتبة العليا ، وأفرض (٨) المثال لحالة (٩) إقبالها ، ووصل حبالها ، وضراعة سبالها ، وخشوع جبالها. التوقّع المكروه صباح مسا (١٠) ، وارتقاب الحوالة التي تديل من النّعيم البأساء (١١) ، ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤسا (١٢)؟ ألترتّب العتب ، حتى (١٣) على التّقصير في الكتب ، وضعينة جار الجنب ، وولوع الصّديق بإحصاء الذّنب؟ ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري ، وتطويقك الموبقات وأنت منها عري؟ ألاستهدافك للمضّار التي تنتجها غيرة الفروج ، والأحقاد التي تضطبنها (١٤) ركبة السّروج وسرحة المروج ، ونجوم السّما ذات البروج؟ ألتقليدك التّقصير فيما ضاقت عنه طاقتك ، وصحّت إليه فاقتك ، من حاجة لا يقتضي قضاءها (١٥) الوجود ، ولا يكيّفها (١٦) الرّكوع للملك والسّجود؟ ألقطع الزّمان بين سلطان يعبد ، وسهام للغيوب تكبّد ، وعجاجة (١٧) شرّ تلبّد ، وأقبوحة تخلّد وتوبّد؟ ألوزير يصانع ويدارى ، وذي حجّة صحيحة يجادل في مرضاة السّلطان ويمارى ، وعورة لا توارى؟ ألمباكرة كلّ عائب (١٨) حاسد ، وعدوّ مستأسد ، وسوق للإنصاف والشّفقة كاسد ، وحال فاسد؟ أللوفود (١٩) تتزاحم بسدّتك ،
__________________
(١) قوله : «فكبرت ، وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت ، لا يسوى ...» ، غير وارد في النفح.
(٢) في الأصل : «العاطر» ، وقد صوبناه لتستقيم السجعة.
(٣) يبتدر : يسرع.
(٤) الفيء : الظلّ.
(٥) في النفح : «ونسأل الله جلّ وعلا ...».
(٦) في النفح : «وكأني».
(٧) الزّبرج : الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك. محيط المحيط (زبرج).
(٨) في النفح : «ونفرض».
(٩) في النفح : «بحال».
(١٠) في النفح : «صباحا ومساء».
(١١) في النفح : «البأساء».
(١٢) في النفح : «والرؤساء».
(١٣) كلمة «حتى» غير واردة في النفح.
(١٤) في النفح : «تضبطها».
(١٥) في الأصل : «قضاها» والتصويب من النفح.
(١٦) في النفح : «ولا يكفيها».
(١٧) العجاجة : العجاج وهو الغبار. محيط المحيط (عجج).
(١٨) في النفح : «قرن».
(١٩) فى النفح : «ألوفود».
مكلّفة لك غير ما في طوقك ، فإن لم تنل أغراضها (١) قلبت عليك السّماء من فوقك؟ ألجلساء ببابك ، لا يقطعون زمن (٢) رجوعك وإيابك ، إلّا بقبيح اغتيابك؟ فالتّصرّفات تمقت ، والقواطع النّجوميّات (٣) توقّت ، والألاقيّ (٤) تبثّ ، والسعايات تحثّ ، والمساجد يشتكى فيها (٥) البثّ ، يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور ، واليتيم المحجور ، والأسير المأمور ، ليس له شهوة ولا غضب ، ولا أمل في الملك ولا أرب ، ولا موجدة (٦) لأحد كامنة ، وللشّر ضامنة ، وليس في نفسه عن رأي نفرة ، ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة وطفرة ، إنما هو جارحة لصيدك ، وعان في قيدك ، وآلة لتصرّف كيدك ، وأنّك علّة حيفه ، ومسلّط سيفه : الشّرار يسملون عيون الناس باسمك ، ثم يمزّقون بالغيبة مزق جسمك ، قد تنخّلهم الوجود أخبث ما فيه ، واختارهم السّفيه فالسّفيه ، إذ الخير يسرّه (٧) الله عن الدّول ويخفيه ، ويقنعه بالقليل فيكفيه ، فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة ، ويقتحمون (٨) عليك أبواب القول ويسدّون طرق السّلامة ، وليس لك في أثناء هذه إلّا ما يعوزك مع ارتفاعه ، ولا يفوتك مع انقشاعه ، وذهاب صداعه ، من غذاء يشبع ، وثوب يقنع ، وفراش ينيم ، وخديم يقعد ويقيم. وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا ، ومال من ورائه سوء القضا ، وجاه يحلّق عليه سيف منتضى؟ وإذا بلغت النّفس إلى الالتذاذ بما لا تملك ، واللّجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك (٩) ، فكيف تنسب (١٠) إلى نبل ، أو تسير (١١) مع (١٢) السعادة في سبل؟ وإن وجدت في القعود (١٣) بمجلس التّحية ، بعض الأريحيّة ، فليت شعري أيّ شيء زادها ، أو معنى أفادها ، إلّا مباكرة وجه الحاسد ، وذي القلب الفاسد ، ومواجهة العدوّ المستأسد؟ أو شعرت ببعض الإيناس ، في الركوب بين الناس. هل (١٤) التذّت إلّا بحلم كاذب ، أو جذبها غير الغرور مجاذب (١٥)؟ إنما الحلية (١٦) وافتك من يحدّق إلى البزّة ، ويستطيل مدّة العزّة ، ويرتاب إذا حدّث (١٧)
__________________
(١) في النفح : «فإن لم يقع الإسعاف قلبت ...».
(٢) في النفح : «زمان».
(٣) كلمة «النجوميات» ساقطة في النفح.
(٤) الألاقيّ : جمع ألقيّة وهي ما ألقي من التحاجي والألغاز. لسان العرب (لقي).
(٥) في النفح : «في حلقها».
(٦) الموجدة : الغضب. لسان العرب (وجد).
(٧) في النفح : «يستره».
(٨) في المصدر نفسه : «ويفتحون».
(٩) في الأصل : «تملك» والتصويب من النفح.
(١٠) في الأصل : «ينسب» والتصويب من النفح.
(١١) في الأصل : «أو يسر» والتصويب من النفح.
(١٢) في النفح : «من».
(١٣) في النفح : «الجلوس».
(١٤) في النفح : «ما».
(١٥) في النفح : «جاذب».
(١٦) في النفح : «إنما راكبك من يحدّق إلى الحلية والبزّة ...».
(١٧) في النفح : «حدثت».
بخبرك ، ويتبع بالنّقد والتّجسّس مواقع نظرك ، ويمنعك من مسايرة أنيسك (١) ، ويحتال على فراغ كيسك ، ويضمر الشّرّ لك ولرئيسك (٢). وأيّ راحة لمن لا يباشر قصده ، ويسير (٣) متى شاء وحده؟ ولو صحّ في هذه الحال لله حظّ ، وهبه زهيدا ، أو عيّن (٤) للرّشد عملا حميدا ، لساغ الصّاب (٥) ، وخفّت الأوصاب (٦) ، وسهل المصاب. لكن الوقت أشغل ، والفكر أوغل ، والزّمن قد غمرته الحصص الوهميّة ، واستنفدت منه الكميّة ، أما ليله ففكر أو نوم ، وعتب يجرّ (٧) الضّراس ولوم ، وأمّا يومه فتدبير ، وقبيل ودبير ، وأمور يعيا بها ثبير (٨) ، وبلاء مبير ، ولغط لا يدخل فيه حكيم كبير ، وأنا بمثل ذلك خبير. وو الله يا سيّدي ، ومن فلق الحبّ وأخرج الأبّ (٩) ، وذرأ من مشى ومن (١٠) دبّ ، وسمّى نفسه الربّ ، لو تعلّق المال الذي يجده هذا الكدح (١١) ، ويوري سقيطه هذا القدح ، بأذيال الكواكب ، وزاحمت البدر بدره بالمناكب ، لما (١٢) ورثه عقب ، ولا خلص به محتقب (١٣) ، ولا فاز به سافر ولا منتقب. والشّاهد الدّول والمشائيم (١٤) الأول : فأين الرّباع المقتناة؟ وأين الدّيار المبتناة (١٥)؟ وأين الحدائق (١٦) المغترسات ، وأين الذّخائر المختلسات؟ وأين الودائع المؤمّلة ، وأين الأمانات المحمّلة؟ تأذّن الله بتتبيرها ، وإدناء نار التّبار (١٧) من دنانيرها ، فقلّما تلقى أعقابهم إلّا أعراء الظّهور (١٨) ، مترمّقين بجرايات (١٩) الشّهور ، متعلّلين بالهباء المنثور ، يطردون من الأبواب التي حجب عندها (٢٠) آباؤهم ، وعرف
__________________
(١) في الأصل : «من شارة أنسك» ، والتصويب من النفح.
(٢) في الأصل : «ولرسيك» والتصويب من النفح.
(٣) في النفح : «ويمشي إذا شاء ...».
(٤) في النفح : «وعيّن».
(٥) الصاب : عصارة شجر مرّ. لسان العرب (صوب).
(٦) الأوصاب : جمع وصب وهو المرض. لسان العرب (وصب).
(٧) في النفح : «بجراء الضرائر ولوم».
(٨) ثبير : أعلى جبال مكة وأعظمها. الروض المعطار (ص ١٤٩).
(٩) الأبّ : الكلأ والمرعى. لسان العرب (أبب).
(١٠) في الأصل : «ما» والتصويب من النفح.
(١١) في النفح : «الذي يجرّه هذا القدح».
(١٢) في الأصل : «لا» والتصويب من النفح.
(١٣) محتقب : محتمل ؛ يقال : احتقب الشيء إذا وضعه في حقيبته. لسان العرب (حقب).
(١٤) في الأصل : «والمشايم».
(١٥) في الأصل : «المبتداة» والتصويب من النفح.
(١٦) في النفح : «الحوائط».
(١٧) في الأصل : «وإدناء وتار التيّار» ، والتصويب من النفح. والتتبير : الإهلاك. والتّبار : الهلاك.
محيط المحيط (تبر).
(١٨) في الأصل : «إلّا أعربا للطمور» والتصويب من النفح.
(١٩) في النفح : «لجرايات».
(٢٠) في النفح : «عنها».
منها إباؤهم ، وشمّ من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم ، لم (١) تسامحهم الأيام إلّا في إرث محرّر ، أو حلال مقرّر ، وربما محقه الحرام ، وتعذّر منه المرام. هذه ، أعزّك الله ، حال قبولها (٢) ومالها مع التّرفيه ، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العزّ مستوفيه. وأما ضدّه من عدوّ يتحكّم وينتقم ، وحوت بغي يبتلع ويلتقم ، وطبق (٣) يحجب الهواء ، ويطيل في التّراب الثّواء ، وثعبان قيد (٤) يعضّ السّاق ، وشؤبوب عذاب يمزّق الأبشار الرّقاق ، وغيلة يهديها الواقب (٥) الغاسق ، ويجرعها العدوّ الفاسق ، [فصرف السوق ، وسلعته المعتادة الطروق (٦) ،] مع الأفول والشروق. فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرّة ، أو ما يساوي جرعة حال مرّة؟ وا حسرتاه للأحلام ضلّت ، وللأقدام زلّت ، ويا لها مصيبة جلّت! ولسيدي أن يقول : حكمت عليّ (٧) باستثقال الموعظة واستجفائها ، ومراودة الدّنيا بين خلّانها وأكفائها ، وتناسي عدم وفائها ، فأقول : الطّبيب بالعلل أدرى ، والشّفيق بسوء الظّنّ مغرى ، وكيف لا وأنا أقف على السّحاءات بخطّ يد (٨) سيدي من مطارح الاعتقال ، ومثاقف النّوب الثّقال ، وخلوات (٩) الاستعداد للقاء الخطوب الشّداد ، ونوش (١٠) الأسنّة الحداد ، وحيث يجمل بمثله إلّا يصرف في غير الخضوع لله بنانا ، ولا يثني لمخلوق عنانا. وأتعرف أنها قد ملأت الجوّ والدوّ (١١) ، وقصدت الجماد والبوّ (١٢) ، تقتحم أكفّ أولي الشّمات ، وحفظة المذمّات ، وأعوان النّوب الملمّات ، زيادة في الشّقاء ، وقصدا بريّا من الاختيار والانتقاء ، مشتملة من التّجاوز على أغرب من العنقاء ، ومن النّقاق على أشهر من البلقاء. فهذا يوصف بالإمامة ، [وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة (١٣)] ، وهذا يجعل من أهل الكرامة ، وهذا يكلّف الدّعاء وليس من أهله ، وهذا يطلب منه لقاء الصّالحين وليسوا من شكله ، إلى ما أحفظني والله من البحث عن
__________________
(١) في النفح : «ولم».
(٢) في النفح : «قبولها مع الترفيه ، ومالها المرغوب فيه ، وعلى فرض ...».
(٣) في النفح : «ومطبق».
(٤) في الأصل : «قميد» والتصويب من النفح.
(٥) يقال : وقب الرجل : أي دخل في الوقب ، أي عند غياب الشمس. محيط المحيط (وقب).
(٦) ما بين قوسين ساقط في الأصل ، وقد أضفناه من النفح.
(٧) كلمة «عليّ» ساقطة في النفح.
(٨) كلمة «يد» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.
(٩) في النفح : «وخطوات».
(١٠) في النفح : «ونوشى».
(١١) الدّوّ : المفازة. محيط المحيط (دوو).
(١٢) البوّ : جلد الحوار يحشى تبنا فيقرّب من أمّ الفصيل إذا فقدت ولدها فتعطف عليه فتدرّ. محيط المحيط (بوو).
(١٣) ما بين قوسين ساقط في النفح.
السّموم ، وكتب النجوم ، والمذموم من المعلوم ، هلّا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتا ، وأعتقد أنّ الله قد جعل لزمن الخير والشّرّ ميقاتا ، وأنّا لا نملك موتا ولا نشورا ولا حياتا ، وأنّ اللّوح قد حصر الأشياء محوا وإثباتا ، فكيف نرجو لما منع منالا أو نستطيع مما قدر إفلاتا؟ أفيدونا ما يرجّح العقيدة المقررة (١) نتحوّل إليه ، وبيّنوا لنا الحقّ نعوّل عليه. الله الله يا سيدي في النّفس المرشّحة ، والذّات المحلّاة (٢) بالفضائل الموشّحة ، والسّلف الشهير الخير ، والعمر المشرف على الرّحلة بعد حثّ السّير ، ودع الدنيا لأهلها (٣) فما أوكس حظوظهم ، وأخسّ لحوظهم ، وأقلّ متاعهم ، وأعجل إسراعهم ، وأكثر عناءهم ، وأقصر آناءهم : [مجزوء الكامل]
ما ثمّ (٤) إلّا ما رأي |
|
ت ، وربما تعيي السّلامة |
والناس إمّا جائر |
|
أو حائر يشكو ظلامه (٥) |
والله ما احتقب الحري |
|
ص سوى الذّنوب أو الملامه |
هل ثمّ شكّ في المعا |
|
د الحقّ أو يوم القيامه |
قولوا لنا ما عندكم |
|
أهل الخطابة والإمامه |
وإن رميت بأحجاري ، وأوجرت (٦) المرّ من أشجاري ، فو الله ما تلبّست منها اليوم (٧) بشيء قديم ولا حديث ، ولا استاثرت بطيّب فضلا عن خبيث. وما أنا إلّا عابر سبيل ، وهاجر مرعى وبيل ، ومرتقب وعد (٨) قدر فيه الإنجاز ، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز ، قد فررت من الدنيا كما يفرّ من الأسد ، وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد ، وغسل الله قلبي ، ولله (٩) الحمد ، من الطّمع والحسد ، فلم أبق عادة إلّا قطعتها ، ولا جنّة للصّبر إلّا ادّرعتها ، أمّا اللّباس فالصّوف ، وأما الزّهد فيما في أيدي (١٠) الناس فمعروف ، وأما المال الغبيط فعلى الصّدقة مصروف. وو الله
__________________
(١) في النفح : «المتقررة فنتحوّل ...».
(٢) في الأصل : «واللّذّات المحلات» ، والتصويب من النفح.
(٣) في النفح : «لبنيها».
(٤) في الأصل : «تمّ». والتصويب من النفح.
(٥) جاء بعد هذا البيت في نفح الطيب البيت التالي :
وإذا أردت العزّ لا |
|
ترزأ بني الدّنيا قلامه |
(٦) أوجرت المرّ : صببته في الفم. لسان العرب (وجر).
(٧) في الأصل : «لليوم». وفي النفح : «اليوم منها».
(٨) في النفح : «وعدا».
(٩) في الأصل : «وله» والتصويب من النفح.
(١٠) في النفح : «بأيدي الخلق فمعروف».
لو علمت أنّ حالي هذه تتّصل ، وعراها (١) لا تنفصل ، وأن ترتيبي هذا يدوم ، ولا يحيّرني (٢) الوعد المحتوم ، والوقت المعلوم ، لمتّ أسفا ، وحسبي الله وكفى. ومع هذا يا سيدي ، فالموعظة تتلقّى من لسان الوجود ، والحكمة ضالّة المؤمن يطلبها ببذل المجهود ، ويأخذها من غير اعتبار بمحلّها المذموم أو (٣) المحمود. ولقد أعملت نظري فيما يكافىء عني بعض يدك ، أو ينتهي (٤) في الفضل إلى أمدك ، فلم أر لك الدّنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا ، وألفيت بذل النّفس قليلا لك من غير شرط ولا ثنيا (٥) ، فلمّا ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النّصيحة المفرغة في قالب الجفا ، لمن لا يثبت عين الصّفا ، ولا يشيم بارقة (٦) الوفا ، ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنّسين بها المنهمكين ، وينظر عوّارها القادح (٧) بعين اليقين ، ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور ، وعاشقها مغرور ، وسرورها شرور ، تبيّن لي أني (٨) قد كافيت (٩) صنيعتك المتقدّمة ، وخرجت عن عهدتك الملتزمة ، وأمحضت (١٠) لك النّصح الذي يعزّ (١١) بعزّ الله ذاتك ، ويطيب حياتك ، ويحيي مواتك ، ويريح جوارحك من الوصب (١٢) ، وقلبك من النّصب (١٣) ، ويحقّر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت ، ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت. كلّ من تقع عليه (١٤) عينك حقير قليل ، وفقير ذليل ، لا يفضلك بشيّ إلّا باقتفاء رشد أو ترك غيّ ، أثوابه النّبيهة يجرّدها الغاسل ، وعروة عزّه (١٥) يفصّلها الفاصل (١٦) ، وماله الحاضر الحاصل ، يعيث فيه الحسام الفاصل ، والله ما تعيّن للخلف إلّا ما تعيّن للسّلف ، ولا مصير المجموع إلّا إلى التّلف ، ولا صحّ من الهياط والمياط (١٧) ، والصّياح والعياط (١٨) ، وجمع القيراط إلى القيراط ، والاستظهار بالوزعة والأشراط ، والخبط والخبّاط ، والاستكثار والاغتباط ،
__________________
(١) في النفح : «وأن عراها».
(٢) في الأصل : «يجيزني» والتصويب من النفح.
(٣) في النفح : «ولا».
(٤) في الأصل : «ينتمي» والتصويب من النفح.
(٥) الثنيا : الاستثناء. لسان العرب (ثنا).
(٦) يشيم : ينظر. البارقة : السحابة ذات البرق. لسان العرب (شام) و (برق).
(٧) في الأصل : «عواره الفادح» والتصويب من النفح.
(٨) في النفح : «أنني».
(٩) في النفح : «كافأت».
(١٠) في الأصل : «ومحضت لله» والتصويب من النفح. وأمحض : أخلص. لسان العرب (محض).
(١١) في الأصل : «يقرّ» والتصويب من النفح.
(١٢) الوصب : المرض. لسان العرب (وصب).
(١٣) النّصب : التعب. لسان العرب (نصب).
(١٤) في النفح : «عينك عليه فهو حقير ...».
(١٥) في الأصل : «غيره» والتصويب من النفح.
(١٦) في النفح : «يقصلها القاصل».
(١٧) الهياط : مصدر هاط يهيط ، أي ضجّ وأجلب. المياط : الدفع والزجر ، والمراد من «الهياط والمياط» : الدنوّ والتباعد. محيط المحيط (هاط) و (ماط).
(١٨) العياط : الصياح. محيط المحيط (عاط).
والغلوّ والاشتطاط ، وبنا الصّرح وعمل السّاباط ، ورفع العماد (١) وإدارة الفسطاط ، إلّا ألم (٢) يذهب القوة ، وينسي الآمال المرجوّة ، ثمّ نفس يصعد ، وسكرات تتردّد ، وحسرات لفراق الدّنيا تتجدّد ، ولسان يثقل ، وعين تبصر الفراق الحقّ (٣) وتمقل (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨))(٤). ثم القبر وما بعده ، والله منجز وعيده ووعده ، فالإضراب الإضراب ، والتّراب التّراب. وإن اعتذر سيدي بقلّة الجلد ، لكثرة الولد ، فهو ابن مرزوق لا ابن رزّاق ، وبيده من التّسبّب ما يتكفّل بإمساك أرماق ، أين النّسخ الذي يتبلّغ الإنسان بأجرته (٥) ، في كن حجرته؟ لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرّته؟ السؤال والله أقوم طريقا ، وأكرم فريقا ، من يد تمتدّ إلى حرام ، لا يقوم بمرام ، ولا يومّن من ضرام ، أحرقت فيه الحلل ، وقلبت الأديان والملل ، وضربت الأبشار ، ونحرت العشار ، ولم يصل منه على يدي واسطة السّوء المعشار. ثم طلب عند الشّدّة ففضح ، وبان سومه (٦) ووضح ، اللهمّ طهّر منها (٧) أيدينا وقلوبنا ، وبلّغنا من الانصراف إليك مطلوبنا ، وعرّفنا بمن لا يعرف غيرك ، ولا يسترفد إلّا خيرك ، يا الله. وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة ، أو أعمل في احتلابها إضبارة (٨) ، أو لبس منها شارة ، أو تشوّف إلى خدمة إمارة ، ألا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس ، ولا يغترّوا بسمة (٩) ولا خلق ولا لباس ، فما عدا ، عمّا بدا (١٠)؟ تقضّى العمر في سجن وقيد ، وعمرو وزيد ، وضرّ وكيد ، وطراد صيد ، وسعد وسعيد ، وعبد وعبيد ، فمتى تظهر الأفكار ، ويقرّ القرار ، وتلازم الأذكار (١١) ، وتشام الأنوار ، وتتجلّى (١٢) الأسرار؟ ثم يقع الشّهود الذي تذهب معه الأفكار (١٣) ، ثم يحقّ الوصول الذي إليه من كلّ ما سواه الفرار ، وعليه المدار. وحقّ الحقّ الذي ما سواه فباطل ، والفيض الرّحماني الذي ربابه (١٤) الأبد (١٥) هاطل ، ما شابت (١٦)
__________________
(١) في النفح : «العمد».
(٢) في النفح : «أمل».
(٣) كلمة «الحق» ساقطة في النفح.
(٤) سورة ص ، الآيتان : ٦٧ ، ٦٨.
(٥) المراد نسخ الكتب وكتابتها.
(٦) في النفح : «شؤمه».
(٧) في الأصل : «منّا» والتصويب من النفح.
(٨) الإضبارة : الحزمة من الصحف. محيط المحيط (ضبر).
(٩) في الأصل : «بسمت» والتصويب من النفح.
(١٠) أخذه من المثل : «ما عدا مما بدا». أي ما منعك ما ظهر لك أولا. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ٢٩٦).
(١١) في الأصل : «الادّكار» والتصويب من النفح.
(١٢) في النفح : «وتستجلى».
(١٣) في النفح : «الذي يذهب معه الإخبار».
(١٤) الرباب : السحاب. لسان العرب (ريب).
(١٥) في الأصل : «لا بدّ» والتصويب من النفح.
(١٦) في الأصل : «ما شاب» والتصويب من النفح.
مخاطبتي لك شائبة تريب (١) ، ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب إلى الحبيب (٢) ، فيحمل جفاء (٣) في الذي حملت عليه الغيره ، ولا تظنّ بي غيره. وإن (٤) أقدر قدري في مكاشفة سيادتك بهذا البثّ ، في الأسلوب الرّث ، فالحقّ أقدم ، وبناؤه لا يهدم ، وشأني معروف في مواجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة ، ونفسي في النّفوس المتهافتة عليهم معدودة ، وشبابي فاحم ، وعلى الشّهوات مزاحم ، فكيف بي اليوم مع الشّيب ، ونصح الجيب ، واستكشاف العيب؟ إنما أنا اليوم على كلّ من عرفني كلّ ثقيل ، وسيف العذل (٥) في كفّي صقيل ، أعذل أهل الهوى ، وليست النّفوس في القبول سوا ، ولا لكلّ مرض (٦) دوا ، وقد شفيت صدري ، وإن جهلت قدري ، فاحملني ، حملك الله ، على الجادّة الواضحة ، وسحب عليك ستر الأبوّة الصّالحة ، والسّلام.
ولمّا (٧) شرح كتاب «الشّفا» للقاضي (٨) أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض ، رحمه الله ، واستبحر فيه ، طلب أهل العدوتين بنظم (٩) مقطوعات تتضمّن الثّناء على الكتاب المذكور ، وإطراء مؤلّفه ، فانثال عليه من ذلك الطّم والرّم ، بما تعدّدت منه الأوراق ، واختلفت في الإجادة وغيرها الأرزاق ، إيثارا لغرضه ، ومبادرة من أهل (١٠) الجهات لإسعاف أربه ، وطلب مني أن ألمّ في ذلك بشيء ، فكتبت في (١١) ذلك : [الطويل]
شفاء (١٢) عياض للصّدور (١٣) شفاء |
|
وليس (١٤) بفضل قد حواه خفاء |
هديّة برّ لم يكن لجزيلها (١٥) |
|
سوى الأجر والذّكر الجميل كفاء |
وفى لنبيّ الله حقّ وفائه |
|
وأكرم أوصاف الكرام وفاء |
__________________
(١) في الأصل : «بريب» والتصويب من النفح.
(٢) في النفح : «للحبيب».
(٣) في النفح : «فتحمّل جفائي الذي ...».
(٤) في النفح : «وإن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النّثّ ، في الأسلوب الرّثّ».
(٥) في النفح : «العدل» بالدال غير المعجمة.
(٦) في الأصل : «لا لكل من ضرّ؟» والتصويب من النفح.
(٧) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٨٤).
(٨) في النفح : «للقاضي عياض رحمه الله تعالى».
(٩) في النفح : «نظم».
(١٠) في النفح : «كل».
(١١) في النفح : «له في ذلك». والأبيات أيضا في نفاضة الجراب ص ١٢٨.
(١٢) في الأصل : «شفا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(١٣) في نفاضة الجراب : «للقلوب».
(١٤) في المصدر نفسه : «فليس».
(١٥) في النفح : «لمديلها».
وجاء به بحرا يقول بفضله |
|
على البحر طعم طيّب وصفاء |
وحقّ رسول الله بعد وفاته |
|
رعاه ، وإغفال الحقوق جفاء |
هو الذّخر يغني في الحياة عتاده |
|
ويترك منه لليقين (١) رفاء |
هو الأثر المحمود ليس يناله |
|
دثور ولا يخشى (٢) عليه عفاء (٣) |
حرصت على الإطناب في نشر فضله |
|
وتمجيده لو ساعدتني فاء |
واستزاد (٤) من هذا الغرض الذي لم يقنع منه (٥) بالقليل ، فبعثت إليه من محلّ انتقالي بمدينة (٦) سلا حرسها الله (٧) : [مجزوء الرمل]
أأزاهير رياض |
|
أم شفاء لعياض |
جدّل الباطل للحقّ |
|
بأسياف مواض |
وجلا الأنوار برها |
|
نا بحقّ (٨) وافتراض |
وشفى (٩) من يشتكي الغلّ |
|
ة في زرق الحياض |
أيّ بنيان معار (١٠) |
|
آمن فوق (١١) انقضاض |
أيّ عهد ليس يرمى |
|
بانتكاث (١٢) وانتقاض |
ومعان في سطور |
|
كأسود في غياض |
وشفاء لصدور (١٣) |
|
من ضنى الجهل مراض |
حرّر القصد فما شي |
|
ن بنقد واعتراض |
يا أبا الفضل أدر أنّ (١٤) |
|
الله عن سعيك راض |
فاز عبد أقرض اللّ |
|
ه برجحان القراض (١٥) |
__________________
(١) في الأصل : «اليقين» وهكذا ينكسر الوزن. وفي المصدرين : «للبنين».
(٢) في نفاضة الجراب : «ولا يخفى».
(٣) العفاء : الزوال. لسان العرب (عفا).
(٤) ما يزال النص شعرا ونثرا في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٨٥).
(٥) في النفح : «فيه».
(٦) في النفح : «من مدينة».
(٧) الأبيات أيضا في نفاضة الجراب (ص ١٩٢ ـ ١٩٣).
(٨) في نفاضة الجراب : «بخلف».
(٩) في نفاضة الجراب : «وسقى».
(١٠) في النفح : «مقال». وفي نفاضة الجراب : «معال».
(١١) في المصدرين : «خوف».
(١٢) الانتكاث : الانتقاض. لسان العرب (نكث).
(١٣) في نفاضة الجراب : «لنفوس».
(١٤) في الأصل : «بأن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(١٥) إشارة إلى قول الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) سورة البقرة ٢ ، الآية ٢٤٥.
وجبت عزّ (١) المزايا |
|
من طوال وعراض (٢) |
لك يا أصدق راو (٣) |
|
لك يا أعدل قاض |
لرسول الله وفّي |
|
ت بجدّ (٤) وانتهاض |
خير خلق الله في حا |
|
ل وفي آت وماض |
سدّد الله ابن مرزو |
|
ق إلى تلك المراضي |
زبدة العرفان معنى |
|
كلّ نسك وارتياض |
فتولّى بسط ما أج |
|
ملت من غير انقباض |
ساهر (٥) لم يدر في استخ |
|
لاصه طعم اغتماض |
إن يكن دينا على الأي |
|
ام قد حان التّقاضي |
دام في علوّ ومن عا |
|
داه يهوي في انخفاض |
ما وشى الصّبح الدّياجي |
|
في سواد بيياض (٦) |
ثم (٧) نظمت له أيضا في الغرض المذكور ، والإكثار من هذا النمط ، في هذا الموضع ، ليس على سبيل التّبجّح بغرابته وإجادته (٨) ، ولكن على سبيل الإشادة بالشّرح المشار إليه ، فهو بالغ غاية الاستبحار (٩) : [السريع]
حيّيت يا مختطّ سبت بن نوح |
|
بكلّ مزن يغتدي أو يروح |
وحمل الرّيحان ريح الصّبا |
|
أمانة فيك (١٠) إلى كلّ روح |
دار أبي الفضل عياض الذي |
|
أضحت بريّاه رياضا تفوح |
يا ناقل الآثار يعنى بها |
|
وواصلا في العلم جري الجموح |
طرفك في الفخر (١١) بعيد المدى |
|
طرفك للمجد شديد الطّموح |
كفاك إعجازا كتاب الشّفا |
|
والصبح لا ينكر عند الوضوح |
لله ما أجزلت فينا به من |
|
منحة تقصر عنها المنوح |
روض من العلم همى فوقه |
|
من صيّب الفكر الغمام السّفوح |
__________________
(١) في المصدرين : «غرّ».
(٢) في المصدرين : «أو عراض».
(٣) في نفاضة الجراب : «داو».
(٤) في المصدر نفسه : «بجهد».
(٥) في المصدرين : «ساهرا».
(٦) في النفح : «بسواد في بياض».
(٧) النص في الطيب (ج ٧ ص ٣٨٦).
(٨) في النفح : «بإجادته وغرابته».
(٩) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧) ونفاضة الجراب (ص ١٩٠ ـ ١٩٢).
(١٠) في الأصل : «في كل» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.
(١١) في النفح : «في الفضل».
فمن بيان الحقّ زهر ند (١) |
|
ومن لسان الصّدق طير صدوح |
تأرّج العرف وطاب الجنى |
|
وكيف لا يثمر (٢) أو لا يفوح |
وحلّة من طيب خير الورى |
|
في الجيب والأعطاف منها نضوح |
ومعلم للدين (٣) شيّدته |
|
فهذه الأعلام منه (٤) تلوح |
فقل لهامان كذا أو فلا |
|
يا من أضلّ الرّشد تبني الصّروح |
في أحسن التّقويم أنشأته |
|
خلقا جديدا بين جسم وروح |
فعمره المكتوب لا ينقضي |
|
إذا تقضّى عمر سام ونوح |
كأنّه في الحفل ريح الصّبا |
|
وكلّ عطف فهو غضّ (٥) مروح |
ما عذر مشغوف بخير الورى |
|
إن هاج منه الذّكر أن لا يبوح |
عجبت من أكباد أهل الهوى |
|
وقد سطا البعد وطال النّزوح |
إن ذكر المحبوب سالت دما |
|
ما هنّ أكباد ولكن جروح |
يا سيّد الأوضاع يا من له |
|
بسيّد الإرسال فضل الرّجوح |
يا من له الفخر على غيره |
|
والشّهب (٦) تخفى عند إشراق يوح |
يا خير مشروح وفي واكتفى |
|
منه ابن (٧) مرزوق بخير الشّروح |
فتح من الله حباه به |
|
ومن جناب الله تأتي الفتوح |
مولده : بتلمسان عام أحد عشر وسبعمائة.
محمد بن عبد الرحمن بن سعد التّميمي
التّسلي (٨) الكرسوطي (٩)
من أهل فاس ، نزيل مالقة ، يكنى أبا عبد الله.
حاله : الشيخ (١٠) الفقيه المتكلّم أبو عبد الله ، غزير الحفظ ، متبحّر الذّكر ، عديم القرين ، عظيم الاطّلاع ، عارف بأسماء الأوضاع ، ينثال منه على المسائل كثيب مهيل ، ينقل الفقه منسوبا إلى أمانة ، ومنوطا برجاله ، والحديث بأسانيده ومتونه ،
__________________
(١) في الأصل : «زهر ندّ» وهكذا ينكسر الوزن.
(٢) في نفاضة الجراب : «لا يطعم».
(٣) في المصدر نفسه : «في الدين».
(٤) في المصدرين : «منها».
(٥) في المصدرين : «غصن».
(٦) في النفح : «والشمس».
(٧) في نفاضة الجراب : «ومن ابن».
(٨) التسلي : نسبة إلى قبيلة تسولة البربرية.
(٩) ترجمة محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٠).
(١٠) قارن بنفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣١).
خوّار (١) العنان ، وسّاع الخطو ، بعيد الشأو ، يفيض من حديث إلى فقه ، ومن أدب إلى حكاية ، ويتعدّى ذلك إلى غرائب المنظومات ، ممّا يختصّ بنظمه أولو الشّطارة والحرفة من المغاربة ، ويستظهر مطوّلات القصاص ، وطوابير الوعّاظ ، ومساطير أهل الكدية ، في أسلوب وقاح يفضحه الإعراب ، حسن الخلق ، جمّ الاحتمال ، مطرّح الوقار ، رافض التّصنّع ، متبذّل (٢) اللّبسة ، رحيب أكناف المرارة لأهل الولايات ، يلقي بمعاطنهم البرك ، وينوط بهم الوسائل ، كثير المشاركة لوصلائه ، مخصب على أهل بيته ، حدب على بنيه. قدم على الأندلس عام اثنين وعشرين وسبعمائة ، فأقام بالجزيرة مقرئا بمسجد الصّواع منها ، ومسجد الرّايات ، ثم قدم على مالقة وأقرأ بها ، ثم قدم على غرناطة عام خمسة وعشرين وسبعمائة ، فتعرف على أرباب الأمر ، بما نجحت حيلته ، وخفّ به موقعه ، فلم يعدم صلة ، ولا فقد مرفقة ، حتى ارتاش وتأثّل بمحل سكناه من مالقة ، مدرة مغلّة ، وعقارا مفيدا. وطال قعوده لسرد الفقه بمسجدها الجامع ، نمير في الركب ، مهجور الحلقة ، حملا من الخاصّة والعامّة ، لتلبّسه بالعرض الأدني. وهو الآن خطيب مسجد القصبة بها ، ومحلّه من الشهرة ، بالحفظ والاستظهار لفروع الفقه ، كبير.
مشيخته : قرأ القرآن على الجماعة بالمغرب والأندلس ، منهم أبوه ، والأستاذ أبو الحسن القيجاطي البلوي ، وأبو إسحاق الحريري ، وأبو الحسن بن سليمان ، وأبو عبد الله بن أجروم. وقرأ الفقه على أبي زيد الجزولي ، وعبد الرحمن بن عفّان ، وأبي الحسن الصغير ، وعبد المؤمن الجاناتي ، وقرأ الكتاب بين يديه مدة ، ثم عزله ، ولذلك حكاية. حدّثني الشيخ أبو عبد الله الكرسوطي ، المترجم به ، قال : قرأت بين يديه ، في قول أبي سعيد في التهذيب ، والدّجاج والأوز المخلات ، فقال : انظر ، هل يقال الدّجاج أو الجدّاد ، لغة القرآن أفصح ، قال الله تعالى : وجدد بيض ، وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سود. فأزرى به ، ونقل إليه إزاره ، فعزله. وقعد بعد ذلك للإقراء بفاس ، كذا حدث. وأخذ عن أبي إسحاق الزناتي ، وعن خلف الله المجاصي ، وأبي عبد الله بن عبد الرحمن الجزولي ، وأبي الحسين المزدغي ، وأبي الفضل ابنه ، وأبي العبّاس بن راشد العمراني ، وأبي عبد الله بن رشيد. وروى الحديث بسبتة عن أبي عبد الله الغماري ، وأبي عبد الله بن هاني ، وذاكر أبا الحسن بن وشّاش. وبمالقة عن الخطيب الصالح الطّنجالي ، وأبي عمرو بن منظور.
__________________
(١) خوار العنان : سهل المعطف ليّنه.
(٢) متبذل اللبسة : غير معتن بملبسه وهندامه ، بخلاف مبتذل اللبسة أي رثّ الملابس.
وبغرناطة عن أبي الحسن القيجاطي ، وأبي إسحاق بن أبي العاص. وببلّش عن أبي جعفر الزيات.
تواليفه : منها (١) «الغرر في تكميل الطّرر» ، طرر أبي إبراهيم الأعرج. ثم (٢) «الدّرر في اختصار الطّرر» المذكور. وتقييدان على الرسالة ، كبير وصغير.
ولخّص «التهذيب» لابن بشير ، وحذف أسانيد المصنّفات الثلاثة ، البخاري ، والترمذي ، ومسلم (٣) ، والتزم إسقاط التكرار ، واستدراك (٤) الصّحاح الواقعة في التهذيب (٥) على مسلم والبخاري. وقيّد على مختصر الطّليطلي ، وشرع في تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عياض بن موسى (٦) بن عياض ، برسم ولدي ، أسعده الله.
شعره : أنشدني ، وأنا أحاول بمالقة لوث (٧) العمامة ، وأستعين بالغير على إصلاح العمل ، وإحكام اللّياثة (٨) : [الكامل]
أمعمّما قمرا تكامل حسنه |
|
أربى على الشمس المنيرة في البها |
لا تلتمس ممّن لديك زيادة |
|
فالبدر لا يمتار من نور السّها |
ويصدر منه الشعر مصدّرا ، لا تكنفه العناية.
محنته : أسر ببحر الزّقاق (٩) ، قادما على الأندلس في جملة من الفضلاء ، منهم والده. واستقرّ بطريف (١٠) عام ستة وعشرين وسبعمائة ، ولقي بها شدّة ونكالا ، ثم سرّح والده ، لمحاولة فكاك نفسه ، وفكّ ابنه ، ويسّر الله عليه ، فتخلّصا من تلك المحنة في سبيل كدية ، وأفلت من بين أنياب مشقّة.
__________________
(١) قارن بنفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣١).
(٢) في النفح : «ثم كتاب الدرر ...».
(٣) قوله : «البخاري والترمذي ومسلم» ساقط في النفح.
(٤) في النفح : «واستدرك».
(٥) في النفح : «في الترمذي على البخاري ومسلم».
(٦) في النفح : «موسى برسم ولدي».
(٧) لوث العمامة : عصبها ولفّها. لسان العرب (لوث).
(٨) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٠).
(٩) بحر الزقاق : هو الداخل من المحيط الأطلسي الذي عليه سبتة ما بين طنجة المغربية وبين الأندلس ، ويتسع كلما امتدّ إلى ما لا نهاية. الروض المعطار (ص ٢٩٤).
(١٠) جزيرة طريف على البحر المتوسط في أول المجاز المسمى بالزقاق ، وهي مدينة صغيرة.
الروض المعطار (ص ٣٩٢).