الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

تواليفه : من مصنّفاته «مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار» وشرحاه الكبير والصغير على «جمل الزجّاجي» ، وشرح أبيات الإيضاح العضدي ، و «مقامات الحريري» ، وشرح معشّراته الغزليّة ، ومكفّراته الزهدية ، إلى غير ذلك ، وهما مما أبان عن وفور علمه ، وغزارة مادّته ، واتّساع معارفه ، وحسن تصرفه.

دخل غرناطة راويا عن الحسن بن الباذش ومثله.

محنته : كان يحضر مجلس عبد المؤمن (١) مع أكابر من يحضره من العلماء ، فيشفّ على أكثرهم بما كان لديه من التحقيق بالمعارف ، إلى أن أنشد أبا محمد عبد المؤمن أبياتا كان نظمها في أبي القاسم عبد المنعم بن محمد بن تست ، وهي : [المتقارب]

أبا قاسم والهوى جنّة (٢)

وها أنا من مسّها لم أفق

تقحّمت جامح نار الضلوع

كما خضت بحر دموع الحدق

أكنت الخليل ، أكنت الكليم؟

أمنت الحريق ، أمنت الغرق

فهجره عبد المؤمن ، ومنعه من الحضور بمجلسه ، وصرف بنيه عن القراءة عليه ، وسرى ذلك في أكثر من كان يقرأ عليه ، ويتردّد إليه ، على أنه كان في الطبقة العليا من الطّهارة والعفاف.

شعره : قال في أبي القاسم المذكور : وكان أزرق ، وقد دخل عليه ومعه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشاطبي ، وأبو عثمان سعيد بن قوسرة ، فقال ابن قوسرة : [الكامل]

عابوه بالزّرق الذي يجفونه

والماء أزرق والعيون (٣) كذلكا

فقال أبو عبد الله الشّاطبي : [الكامل]

الماء يهدي للنفوس حياتها

والرّمح يشرع للمنون مسالكا

__________________

(١) هو عبد المؤمن بن علي الموحدي ، حكم المغرب والأندلس سنة ٥٢٤ ه‍ ، وفي سنة ٥٤١ ه‍ ضمّ الأندلس إلى المغرب. وتوفي سنة ٥٥٨ ه‍. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٧٩) والمعجب (ص ٢٦٢ ، ٢٦٥ ، ٢٩٢) والحلل الموشية (ص ١٠٧).

(٢) الجنّة ، بكسر الجيم : الجنون. لسان العرب (جنن).

(٣) في الأصل : «والعينان» ، وكذا ينكسر الوزن.

٦١

فقال أبو بكر بن ميمون المترجم به : [الكامل]

وكذاك (١) في أجفانه سبب الرّدى

لكن (٢) أرى طيب الحياة هنالكا

ومما استفاض من شعره قوله في زمن الصّبا ، عفا الله عنه : [الكامل]

لا تكترث بفراق أوطان الصبا

فعسى تنال بغيرهنّ سعودا

والدّرّ ينظم عند فقد بحاره

بجميل أجياد الحسان عقودا

ومن مشهور شعره : [الطويل]

توسّلت يا ربي بأني مؤمن

وما قلت أني سامع ومطيع

أيصلى بحرّ النار عاص موحّد

وأنت كريم والرسول شفيع؟

وقال في مرضه : [مخلع البسيط]

أيرتجي العيش من عليه

دلائل للرّدى جليّة؟

أوّلها مخبر بثان

ذاك أمان وذا منيّه؟

وفاته : توفي بمراكش يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة سبع وستين وخمسمائة ، ودفن بمقبرة تاغزوت داخل مراكش ، وقد قارب السبعين سنة.

محمد بن عبد الله بن عبد العظيم بن أرقم النّميري (٣)

من أهل وادي آش ، يكنى أبا عامر.

حاله : كان (٤) أحد شيوخ بلده وطلبته (٥) ، مشاركا في فنون ، من فقه وأدب وعربية ، وهي أغلب الفنون عليه ، مطّرح (٦) السّمت ، مخشوشن الزّي ، قليل المبالاة بنفسه ، مختصرا في كافة شؤونه ، مليح الدّعابة ، شديد الحمل ، كثير التواضع ، وبيته معمور بالعلماء أولي الأصالة والتعيّن. تصدّر ببلده للفتيا والتدريس والإسماع.

__________________

(١) في الأصل : «وكذلك» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «ولكن» ، وكذا ينكسر الوزن ، لذا حذفنا حرف الواو.

(٣) ترجمة ابن عبد العظيم في الكتيبة الكامنة (ص ٩٩) وبغية الوعاة (ص ٥٨).

(٤) قارن ببغية الوعاة (ص ٥٨).

(٥) كلمة «وطلبته» ساقطة في بغية الوعاة.

(٦) في بغية الوعاة : «مطرحا مخشوشنا مليح الدعابة ...».

٦٢

مشيخته : قرأ (١) على الأستاذ القاضي أبي (٢) خالد بن أرقم ، والأستاذ أبي العبّاس بن عبد النّور. وروى عن أبيه مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الوزير العالم أبي عبد الله بن ربيع ، والقاضي أبي جعفر بن مسعدة ، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، وولي الله الحسن بن فضيلة.

ورحل إلى العدوة ، فأخذ بسبته عن الأستاذ أبي بكر بن عبيدة (٣) ، والإمام الزاهد أبي عبد الله بن حريث ، وأبي عبد الله بن الخضار ، وأبي القاسم بن الشّاط ، وغيرهم.

شعره : وهو من الجزء المسمى ب «شعر من لا شعر له» والحمد لله. فمن ذلك قوله يمدح أبا زكريا العزفي بسبتة ، ويذكر ظفره بالأسطول من قصيدة أولها (٤) : [الكامل]

أمّا الوصال فإنّه كالعيد

عذر المتيّم واضح في الغيد

وفاته : توفي ببلده عام أربعين وسبعمائة. ودخل غرناطة راويا ومتعلما ، وغير ذلك.

محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج

ابن الجدّ الفهري

الحافظ الجليل ، يكنى أبا بكر ، جليل إشبيلية ، وزعيم وقته في الحفظ. لبلي (٥) الأصل ، إشبيلي ، استدعاه السّيد أبو سعيد والي غرناطة ، فأقام بها عنده في جملة من الفضلاء مثله سنين. ذكر ذلك صاحب كتاب «ثورة المريدين» (٦).

حاله : كان في حفظ الفقه بحرا يغرف من محيط. يقال : إنه ما طالع شيئا من الكتب فنسيه ، إلى الجلالة والأصالة ، وبعد الصّيت ، واشتهار المحلّ. وكان مع هذا يتكلّم عند الملوك ، ويخطب بين يديها ، ويأتي بعجاب ، وفي كتاب «الإعلام» شيء من خبره ، قال ابن الزبير.

__________________

(١) قارن ببغية الوعاة (ص ٥٨).

(٢) في البغية : «ابن خالد أرقم».

(٣) في البغية : «بن عبيد».

(٤) البيت في الكتيبة الكامنة (ص ٩٩).

(٥) نسبة إلى لبلة ، niebla ، وهي مدينة قديمة في غرب الأندلس ، كان بها ثلاث عيون. الروض المعطار (ص ٥٠٧).

(٦) صاحب هذا الكتاب الذي لم يصلنا حتى اليوم هو ابن صاحب الصلاة ، صاحب كتاب «المن بالإمامة».

٦٣

مشيخته : روى عن أبي الحسن بن الأخضر ، أخذ عنه كتاب سيبويه وغير ذلك ، وعن أبي محمد بن عتّاب ، وسمع عليه بعض الموطّإ ، وعن أبي بحر الأسدي ، وأبي الوليد بن طريف ، وأبي القاسم بن منظور القاضي ، وسمع عليه صحيح البخاري كله ، وشريح بن محمد ، وأبي الوليد بن رشد ، وناوله كتاب «البيان والتحصيل». وكتاب «المقدّمات». لقي هؤلاء كلهم ، وأجازوا له عامة. وأخذ أيضا عن مالك بن وهيب.

من حدّث عنه : أبو الحسن بن زرقون ، وأبو محمد القرطبي الحافظ ، وابنا حوط الله ، وغيرهم. وعليه من ختمت به المائة السادسة كأبي محمد بن جمهور ، وأبي العبّاس بن خليل ، وإخوته الثلاثة أبي محمد عبد الله ، وأبي زيد عبد الرحمن ، وأبي محمد عبد الحق. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : حدّثني عنه ابن خليل وأبو القاسم الجيّاني ، وأبو الحسن بن السّرّاج.

مولده : بلبلة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة.

وفاته : وتوفي بإشبيلية في شوال سنة ست وثمانين وخمسمائة. ذكره ابن الملجوم ، وأبو الربيع بن سالم ، وابن فرتون.

محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد

ابن أحمد بن الفخّار الجذامي

يكنى أبا بكر ، أركشي (١) المولد والمنشإ ، مالقي (٢) الاستيطان ، شريشي (٣) التدرّب والقراءة.

حاله : من «عائد الصّلة» : كان ، رحمه الله ، خيّرا صالحا ، شديد الانقباض ، مغرقا في باب الورع ، سليم الباطن ، كثير العكوف على العلم والملازمة ، قليل الرياء والتصنّع. خرج من بلده أركش عند استيلاء العدو على قصبتها ، وكان يصفها ، وينشد فيها من شعر أستاذه الأديب أبي الحسن الكرماني : [المجتث]

أكرم بأركش دارا

تاهت على البدر قدرا

__________________

(١) نسبة إلى أركش arcos de la jrontera ، وهي حصن على وادي لكة. الروض المعطار (ص ٢٨).

(٢) نسبة إلى مدينة مالقة ، وقد سبق التعريف بها.

(٣) نسبة إلى شريش jerez وهي من كور شذونة بالأندلس ، كثيرة الكروم والزيتون والتين. الروض المعطار (ص ٣٤٠).

٦٤

يخاطب المجد عنها

للقلب (١) تدني شكرا

واستوطن مدينة شريش ، وقرأ بها ، وروى بها عن علمائها ، وأقرأ بها ، ولمّا استولى العدوّ عليها لحق بالجزيرة الخضراء ، فدرّس بها ، ثم عبر البحر إلى سبتة ، فقرأ بها وروّى. ثم كرّ إلى الأندلس ، فقصد غرناطة ، وأخذ عن أهلها. ثم استوطن مالقة ، وتصدّر للإقراء بها ؛ مفيد التعليم ، متفنّنه ، من فقه وعربية وقراءات وأدب وحديث ، عظيم الصبر ، مستغرق الوقت. يدرس من لدن صلاة الصبح إلى الزّوال. ثم يسند ظهره إلى طاق المسجد بعد ذلك ، فيقرىء ، وتأتيه النساء من خلفه للفتيا ، فيفتيهنّ على حال سؤالاتهنّ إلى نصف ما بين العصر والعشاء الأولى. ثم يأتي المسجد الأعظم بعد الغروب ، فيقعد للفتيا إلى العشاء الآخرة ، من غير أن يقبل من أحد شيئا. ومن أخذ منه بعد تحكيم الورع ، أثابه بمثله ، ما رئي في وقته أورع منه. وكان يتّخذ روميّة مملوكة ، لا يشتمل منزله على سواها ، فإذا أنس منها الضّجر للحصر وتمادى الحجاب ، أعتقها ، وأصحبها إلى أرضها. ونشأت بينه وبين فقهاء بلده خصومة في أمور عدّوها عليه ، مما ارتكبها اجتهاده في مناط الفتوى ، وعقد لهم أمير المسلمين بالأندلس مجلسا أجلى عن ظهوره فيه ، وبقاء رسمه ، فكانت محنة ، وخلّصه الله منها. وبلغ من تعظيم الناس إيّاه ، وانحياشهم إليه ، مبلغا لم ينله مثله ، وانتفع بتعليمه ، واستفيد منه الأدب على نسكه وسذاجته.

مشيخته : قرأ ببلده شريش على المكتّب الحاج أبي محمد عبد الله بن أبي بكر بن داود القيسي ، وعلى الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد بن الرّياح ، وعلى الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن حكيم السّكوني الكرماني ؛ أخذ عنه العربية والأدب ، وعلى الحافظ أبي الحسن علي بن عيسى ، المعروف بابن متيوان ، وعلى الأصولي الكاتب أبي الحسن هلال بن أبي سنان الأزدي المرّاكشي ، وعلى الخطيب أبي العرب إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري ، وعلى الفقيه أبي عبد الله الجنيدي ، المعروف بالغرّاق ، وعلى الفقيه العددي أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف ، المعروف بابن الكاتب المكناسي. وقرأ بالجزيرة الخضراء على الخطيب الصالح أبي محمد الرّكبي ، وروى عنه ، وقرأ بها على الخطيب أبي عبيد الله بن خميس ، وعلى الأصولي أبي أميّة. وقرأ بسبتة على الأستاذ الفرضي إمام النحاة أبي الحسن بن أبي الربيع ، وعلى أبي يعقوب المحبساني ، وعلى المحدّث أبي عمرو عثمان بن عبد الله

__________________

(١) في الأصل : «لقلب» وكذا ينكسر الوزن.

٦٥

العبدري ، وعلى الفقيه المالكي الحافظ أبي الحسن المتيوي ، والأصولي أبي الحسن البصري ، والفقيه المعمّر الراوية أبي عبد الله محمد الأزدي ، والمحدّث الحافظ أبي محمد بن الكمّاد ، وعلى الأستاذ العروضي الكفيف أبي الحسن بن الخضّار التلمساني. ولقي بغرناطة قاضي الجماعة أبا القاسم بن أبي عامر بن ربيع ، والأستاذ أبا جعفر الطبّاع ، وأبا الوليد إسماعيل بن عيسى بن أبي الوليد الأزدي ، والأستاذ أبا الحسن بن الصّائغ. ولقي بمالقة الخطيب الصالح أبا محمد عبد العظيم ابن الشيخ ، والرّاوية أبا عبد الله محمد بن علي بن الحسن الجذامي السّهيلي. وسمع على الرّاوية أبي عمرو بن حوط الله ، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن عباس القرطبي.

تواليفه : كان ، رحمه الله ، مغرّى بالتأليف ، فألّف نحو الثلاثين تأليفا في فنون مختلفة ، منها كتاب «تحبير نظم الجمان ، في تفسير أم القرآن» ، و «انتفاع الطّلبة النّبهاء ، في اجتماع السّبعة القرّاء». و «الأحاديث الأربعون ، بما ينتفع به القارئون والسّامعون» ، وكتاب «منظوم الدّرر ، في شرح كتاب المختصر» ، و «كتاب نصح المقالة ، في شرح الرسالة» ، وكتاب «الجواب المختصر المروم ، في تحريم سكنى المسلمين ببلاد الرّوم» ، وكتاب «استواء النّهج ، في تحريم اللعب بالشطرنج» ، وكتاب «الفيصل المنتضى المهزوز ، في الرّد على من أنكر صيام يوم النّيروز» ، وكتاب «جواب البيان ، على مصارمة أهل الزمان» ، وكتاب «تفضيل صلاة الصبح للجماعة في آخر الوقت المختار ، على صلاة الصبح للمنفرد في أول وقتها بالابتدار» ، وكتاب «إرشاد السّالك ، في بيان إسناد زياد عن مالك» ، وكتاب «الجوابات المجتمعة ، عن السّؤالات المنوّعة» ، وكتاب «إملاء فوائد الدول ، في ابتداء مقاصد الجمل» ، وكتاب «أجوبة الإقناع والإحساب ، في مشكلات مسائل الكتاب» ، وكتاب «منهج الضّوابط المقسّمة ، في شرح قوانين المقدّمة» ، وكتاب «التوجيه الأوضح الأسمى ، في حذف التنوين من حديث أسما» ، وكتاب «التكملة والتّبرئة ، في إعراب البسملة والتّصلية» ، وكتاب «سحّ مزنة الانتخاب ، في شرح خطبة الكتاب». ومنها اللّائح المعتمد عليه ، في الردّ على من رفع الخبر بلا إلى سيبويه ، وغير ذلك من مجيد ومقصر.

شعره : وشعره كثير ، غريب النّزعة ، دالّ على السّذاجة ، وعدم الاسترابة والشعور ، والغفلة المعربة عن السّلامة ، من ارتكاب الحوشي ، واقتحام الضّرار ، واستعمال الألفاظ المشتركة التي تتشبّت بها أطراف الملاحين والمعاريض ، ولع كثير من أهل زمانه بالرّدّ عليه ، والتّملّح بما يصدر عنه ، منهم القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك.

٦٦

ومن منتخب شعره قوله : [الكامل]

انظر إلى ورد الرّياض كأنّه

ديباج خدّ في بنان زبرجد

قد فتّحته نضارة فبدا له

في القلب رونق صفرة كالعسجد

حكت الجوانب خدّ حبّ ناعم

والقلب يحكي خدّ صبّ مكمد

حدّث الفقيه العدل أبو جعفر أحمد بن مفضل المالقي ، قال : قال لي يوما الشيخ الأستاذ أبو بكر بن الفخّار : خرجت ذات يوم وأنا شاب من حلقة الأستاذ بشريش ، أعادها الله للإسلام ، في جملة من الطلبة ، وكان يقابل باب المسجد حانوت سرّاج ، وإذا فتى وسيم في الحانوت يرقم جلدا كان في يده ، فقالوا لي : لا تجاوز هذا الباب ، حتى تصنع لنا شعرا في هذا الفتى. فقلت : [الوافر]

وربّ معذّر للحبّ داع

يروق بهاء منظره البهيج

وشى في وجنتيه الحسن وشيا

كوشي يديه في أدم السروج

مولده : بحصن أركش بلده ، وكان لا يخبر به ، في ما بين الثلاثين والأربعين وستمائة.

وفاته : توفي بمالقة في عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة ، وكانت جنازته بمالقة مشهورة.

محمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغستاني

من أهل الحمّة (١) من عمل المريّة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن العربي ، وينتمي في بني أسود من أعيانها.

حاله : من «العائد» : كان ، رحمه الله ، من أهل العلم والدين والفضل ، طلق الوجه ، حسن السّير ، كثير الحياء ، كأنّك إذا كلّمته تخاطب البكر العذراء ، لا تلقاه إلّا مبتسما ، في حسن سمت ، وفضل هوى ، وجميل وقار ، كثير الخشوع ، وخصوصا عند الدخول في الصّلاة ، تلوح عليه بذلك ، عند تلاوته سيما الحضور ، وحلاوة الإقبال. وكان له تحقّق بضبط القراءات ، والقيام عليها ، وعناية بعلم العربية ، مع مشاركة في غير ذلك من الفنون السّنية ، والعلوم الدينية. انتصب للإقراء والتدريس

__________________

(١) الحمّة أو الحامة : بالإسبانيةalhama ، من مدن غرناطة ، وتقع غربيّ غرناطة إلى الجنوب من مدينة لوشة. استولى عليها الإسبان سنة ٨٨٧ ه‍ ، أي قبل سقوط غرناطة بعشر سنين. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيزي البرير (ص ٦٠).

٦٧

بالحمّة المذكورة ، فقرّب النّجعة على أهل الحصون والقرى الشّرقية ، فصار مجتمعا لأرباب الطّلب من أهل تلك الجهات ومرتفقاتهم. وكان رجلا صالحا ، مبارك النيّة ، حسن التّعليم ، نفع الله به من هنالك ، وتخرّج على يديه جمع وافر من الطّلبة ، عمرت بهم سائر الحصون. وكان له منزل رحب للقاصدين ، ومنتدى عذب للواردين. تجول في آخرة بالأندلس والعدوة (١) ، وأخذ عمن لقي بها من العلماء ، وأقام مدّة بسبتة مكبّا على قراءة القرآن والعربية. وبعد عوده من تجواله لزم التصدّر للإقراء بحيث ذكر ، وقد كانت الحواضر فقيرة لمثله ، غير أنه آثر الوطن ، واختار الاقتصاد.

مشيخته : أخذ بألمريّة عن شيخها أبي الحسن بن أبي العيش ، وبغرناطة عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير ، والعدل أبي الحسن بن مستقور. وببلّش عن الأستاذ أبي عبد الله بن الكمّاد ، والخطيب أبي جعفر بن الزيات. وبمالقة عن الأستاذ أبي عبد الله بن الفخّار ، والشّيخ أبي عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري.

وبالجزيرة عن خطيبها أبي العبّاس بن خميس. وبسبتة عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي ، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد ، والإمام الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن حريث ، والقاضي أبي عبد الله القرطبي ، والزّاهد أبي عبد الله بن معلّى ، والشيخ الخطيب أبي عبد الله الغماري. وبمكناسة من القاضي وارياش. وبفاس من الحاج الخطيب أبي الربيع سليمان بن مفتاح اللجّائي ، والأستاذ أبي الحسن بن سليمان ، والأستاذ أبي عبد الله بن أجروم الصّنهاجي ، والحاج أبي القاسم بن رجا بن محمد بن علي وغيرهم ، وكل من ذكر أجاز له عامة ، إلّا قاضي مكناسة أبي عبد الله محمد بن علي الكلبي الشهير بوارياش.

مولده : في أول عام اثنين وثمانين وستمائة.

وفاته : توفي بالحمّة ليلة الاثنين الثامن عشر لشهر محرّم عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.

محمد بن علي بن محمد العبدري (٢)

من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف باليتيم.

__________________

(١) المقصود المغرب.

(٢) ترجمة أبي عبد الله العبدري اليتيم في الكتيبة الكامنة (ص ٥٩) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٦).

٦٨

حاله : كان ، رحمه الله ، أحد الظرفاء من أهل بلده ، مليح الشكل ، حسن الشّيبة ، لوذعيا في وقار ، رشيق النظم والنثر ، غزلا مع الصّون ، كثير الدّعابة من غير إفحاش ، غزير الأدب ، حسن الصّوت ، رائق الخطّ ، بديع الوراقة ، معسول الألفاظ ، ممتع المجالسة ، طيّب العشرة ، أدّب الصّبيان مدة ، وعقد الشروط أخرى ، وكان يقرأ كتب الحديث والتفسير والرّقائق للعامة بالمسجد الأعظم ، بأعذب نغمة ، وأمثل طريقة ، مذ أزيد من ثلاثين سنة ، لم يخل منها وقتا إلّا ليلتين ، إحداهما بسبب امتساكنا به في نزهة برياض بعض الطلبة ، لم يخلف مثله بعده. وخطب بقصبة مالقة ، ومال أخيرا إلى نظر الطّب ، فكان الناس يميلون إليه ، وينتفعون به لسياغ مشاركته ، وعموم انقياده ، وبرّه ، وعمله على التّودّد والتّجمّل.

وجرى ذكره في «التّاج المحلّى» بما نصّه (١) : مجموع أدوات حسان ، من خطّ ونغمة ولسان ، أوراقه (٢) روض تتضوّع نسماته ، وبشره صبح تتألّق قسماته ، ولا تخفى (٣) سماته. يقرطس أغراض الدّعابة ويصميها ، ويفوّق سهام الفكاهة إلى مراميها ، فكلّما صدرت في عصره قصيدة هازلة ، أو أبيات منحطّة عن الإجادة نازلة ، خمّس أبياتها وذيّلها ، وصرف معانيها وسهّلها (٤) ، وتركها سمر النّدمان ، وأضحوكة الزمان (٥). وهو الآن خطيب المسجد الأعلى من مالقة (٦) ، متحلّ بوقار وسكينة ، حالّ من أهلها بمكانة مكينة ، لسهولة جانبه ، واتّضاح مقاصده في الخير ومذاهبه. واشتغل لأوّل أمره بالتّعليم (٧) والتّكتيب ، وبلغ الغاية في الوقار (٨) والتّرتيب ، والشّباب (٩) لم ينصل خضابه ، ولا سلّت للمشيب عضابه ، ونفسه بالمحاسن كلفة صبّة (١٠) ، وشأنه كله هوى ومحبّة ، ولذلك ما خاطبه به بعض أودّائه (١١) ، وكلاهما رمى أهله بدائه ، حسبما يأتي خلال هذا القول (١٢) وفي أثنائه ، بحول الله.

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٠) وبعضه في الكتيبة الكامنة (ص ٥٩ ـ ٦٠).

(٢) في المصدرين : «أخلاقه».

(٣) في الأصل : «يخفى» والتصويب من المصدرين.

(٤) في النفح : «وسيّلها».

(٥) في النفح : «الأزمان».

(٦) في المصدر نفسه : «بمالقة».

(٧) في النفح : «أمره بالتكتيب».

(٨) في النفح : «في التعليم والترتيب».

(٩) في الأصل : «وللشباب» والتصويب من النفح.

(١٠) كلمة «صبّة» ساقطة في الأصل.

(١١) الأودّاء : جمع ودود وهو المحب. لسان العرب (ودد).

(١٢) في الأصل : «المقول» والتصويب من النفح.

٦٩

شعره : كتبت إليه أسأل منه ما أثبت في كتاب «التّاج» من شعره ، فكتب إليّ (١) : [البسيط]

أمّا الغرام فلم أخلل بمذهبه

فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه؟

يا معرضا عن فؤاد لم يزل كلفا

بحبّه ذا حذار من تجنّبه

قطعت عنه الذي عوّدته فغدا

وحظّه من رضاه برق خلّبه (٢)

أيام وصلك مبذول ، وبرّك بي

مجدّد ، قد صفا لي عذب مشربه

وسمع ودّك عن إفك العواذل في

شغل وبدر الدّجى ناس لمغربه

لا أنت (٣) تمنعني نيل الرّضا كرما

ولا فؤادي بوان في تطلّبه

لله عرفك ما أذكى تنسّمه

لو كنت تمنحني استنشاق طيّبه

أنت الحبيب الذي لم أتّخذ بدلا

منه وحاش لقلبي من تقلّبه

يا ابن الخطيب الذي قد فقت كلّ سنا

أزال عن ناظري إظلام غيهبه

محمد الحسن في خلق وفي خلق

أكملت (٤) باسمك معنى الحسن فازه به

نأيت (٥) أو غبت ما لي عن هواك غنى

لا ينقص البدر حسنا في تغيّبه

سيّان حال التّداني والبعاد ، وهل

لمبصر البدر نيل في ترقّبه؟

يا من أحسن (٦) ظنّي في رضاه وما

ينفكّ يبدي قبيحا من تغضّبه

إن كان ذنبي الهوى فالقلب منّي لا

يصغي لسمع ملام من مؤنّبه

فأجبته بهذه الرسالة ، وهي ظريفة في معناها (٧) :

«يا سيدي الذي إذا رفعت راية ثنائه تلقّيتها باليدين (٨) ، وإذا قسّمت سهام وداده

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧).

(٢) البرق الخلّب : الذي يطمع في المطر وليس وراءه مطر ، ويضرب مثلا في الشيء الذي لا منفعة وراءه. لسان العرب (خلب).

(٣) في الأصل : «ألأنت» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «كملت» ، والتصويب من نفح الطيب.

(٥) في النفح : «حضرت».

(٦) في الأصل : «أحسن» وكذا ينكسر الوزن والتصويب من نفح الطيب.

(٧) الرسالة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨).

(٨) أخذ هذا من قول الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي : [الوافر]

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

الشعر والشعراء (ص ٢٣٥).

٧٠

على ذوي اعتقاده كنت صاحب الفريضة (١) والدّين ، دام بقاؤك لطرفة (٢) تبديها ، وغريبة تردفها بأخرى تليها ، وعقيلة بيان تجلّيها ، ونفس أخذ الحزن بكظمها ، وكلف الدّهر بشتّ نظمها ، تؤنسها وتسلّيها ، لم أزل أعزّك الله ، أشدّ على بدائعها (٣) يد الضّنين (٤) ، وأقتني درر كلامك ، ونفثات أقلامك ، اقتناء الدّرّ الثمين ، والأيام بلقياك تعد ، ولا تسعد ، وفي هذه الأيام انثالت عليّ سماوك بعد قحط ، وتوالت (٥) عليّ آلاوك على شحط (٦) ، وزارتني من عقائل بيانك كلّ فاتنة الطّرف ، عاطرة العرف ، رافلة في حلل البيان والظّرف ، لو ضربت بيوتها بالحجاز ، لأقرّت لنا العرب العاربة بالإعجاز ، ما شئت من رصف المبنى ، ومطاوعة اللّفظ لغرض المعنى ، وطيب الأسلوب ، والتّشبّث بالقلوب ، غير أن سيّدي أفرط في التّنزّل ، وخلط المخاطبة بالتّغزّل ، وراجع الالتفات ، ورام استدراك ما فات. يرحم (٧) الله شاعر المعرّة ، فلقد أجاد في قوله ، وأنكر مناجاة الشّوق (٨) بعد انصرام حوله ، فقال (٩) : [البسيط]

أبعد حول تناجي الشّوق (١٠) ناجية

هلّا ونحن على عشر من العشر (١١)

وقد (١٢) تجاوزت في الأمد (١٣) ، وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصّمد ، فأقسم بألفات القدود ، وهمزات الجفون السّود ، وحاملي (١٤) الأرواح مع الألواح ، بالغدوّ والرّواح ، لو لا بعد مزارك ، ما أمنت غائلة ما تحت إزارك. ثمّ إنّي حقّقت الغرض ، وبحثت عن المشكل الذي عرض ، فقلت : للخواطر انتقال ، ولكلّ مقام مقال ، وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات ، ثم رفع اللّبس خبر الثّقات.

__________________

(١) الفريضة : الإرث أو الحصّة منه. لسان العرب (فرض).

(٢) الطرفة : الغريب المستحسن. لسان العرب (طرف).

(٣) في النفح : «بدائعك».

(٤) الضنين : البخيل. لسان العرب (ضنن).

(٥) في النفح : «وتواترت لديّ».

(٦) الشّحط : البعد.

(٧) في النفح : «ويرحم الله تعالى».

(٨) في الأصل : «للشوق» ، والتصويب من النفح.

(٩) كلمة «فقال» غير واردة في النفح. والبيت للمعري وهو في شروح سقط الزند (ص ١١٤).

(١٠) في الأصل : «للشوق» ، وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١١) الناجية : الناقة السريعة. العشر : شجر ؛ وأراد هنا المكان الذي ينبت فيه. لسان العرب (نجا) و (عشر).

(١٢) في النفح : «ولقد».

(١٣) في الأصل : «الأمل» : والتصويب من النفح.

(١٤) في نفح الطيب : «وحامل».

٧١

ومنها (١) : وتعرّفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التّكتيب والتّعليم ، والحنين إلى العهد القديم ، فسررت باستقامة حاله ، وفضل ماله ، وإن لا حظ الملاحظ (٢) ، ما قال الجاحظ (٣) ، فاعتراض لا يردّ ، وقياس لا يضطرد (٤) ، حبّذا والله عيش أهل (٥) التّأديب ، فلا بالضّنك ولا بالجديب (٦) ، معاهدة الإحسان ، ومشاهدة الصّور الحسان ، يمينا إنّ المعلّمين ، لسادة المسلمين ، وإنّي لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب ، أمراء (٧) فوق المراتب ، من كل مسيطر الدّرّة ، متقطّب الأسرّة ، متنمّر للوارد تنمّر الهرّة ، يغدو إلى مكتبه ، كالأمير (٨) في موكبه ، حتى إذا استقلّ في فرشه ، واستولى على عرشه ، وترنّم بتلاوة قالونه (٩) وورشه ، أظهر للخلق احتقارا ، وأزرى (١٠) بالجبال وقارا ، ورفعت إليه الخصوم ، ووقف بين يديه الظّالم والمظلوم ، فتقول : كسرى في إيوانه ، والرّشيد في زمانه (١١) ، والحجّاج بين أعوانه. وإذا (١٢) استولى على البدر السّرار ، وتبيّن للشهر الغرار (١٣) ، تحرّك (١٤) إلى الخرج (١٥) ، تحرّك العود (١٦) إلى الفرج ، أستغفر الله مما يشقّ على سيدي سماعه ، وتشمئزّ من ذكره (١٧) طباعه ، شيم اللّسان ، خلط الإساءة بالإحسان ، والغفلة من صفات الإنسان. فأيّ عيش هذا (١٨) العيش ، وكيف حال أمير هذا الجيش؟ طاعة معروفة ، ووجوه إليه مصروفة ، فإن أشار بالإنصات ، تتحقق الغصّات (١٩) ، فكأنّما طمس الأفواه (٢٠) ، ولأم بين الشّفاه ، وإن أمر بالإفصاح ، وتلاوة الألواح ، علا الضّجيج والعجيج ، وحفّ به كما حفّ بالبيت الحجيج. وكم بين ذلك من رشوة تدسّ ، وغمزة لا تحسّ ، ووعد يستنجز ، وحاجة تستعجل وتحفز. هنّأ الله سيدي ما خوّله ، وأنساه بطيب آخره أوّله. وقد بعثت

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩).

(٢) في النفح : «اللاحظ».

(٣) يشير إلى ذمّ الجاحظ معلمي الصبيان ، ويداعب أبا عبد الله اليتيم في رجوعه إلى هذه الحرفة.

(٤) في النفح : «لا يطرد».

(٥) كلمة «أهل» ساقطة في النفح.

(٦) الضّنك : الضّيّق. الجديب : المكان المقفر الذي لا نبات فيه. لسان العرب (ضنك) و (جدب).

(٧) في الأصل : «أمرا» وكذا لا معنى له ، والتصويب من النفح.

(٨) في الأصل : «والأمير» ، والتصويب من النفح.

(٩) في الأصل : «قانونه» والتصويب من النفح. وقالون وورش : مقرئان ، لكل منهما قراءته الخاصة.

(١٠) في الأصل : «وأندى» والتصويب من النفح.

(١١) في النفح : «أوانه».

(١٢) في النفح : «فإذا».

(١٣) في الأصل : «القرار» والتصويب من النفح.

(١٤) في الأصل : «وتحرك» والتصويب من النفح.

(١٥) في الأصل : «الخوج» ولا معنى له ، والتصويب من النفح.

(١٦) في الأصل : «القرد» والتصويب من النفح.

(١٧) في الأصل : «ذكراه» والتصويب من النفح.

(١٨) في النفح : «كهذا».

(١٩) في النفح : «لتحقّق القصّات».

(٢٠) في النفح : «على الأفواه».

٧٢

بدعابتي هذه مع إجلال قدره ، والثّقة بسعة صدره ، فليتلقّها بيمينه ، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه (١) ، ويفرغ لمراجعتها وقتا من أوقاته عملا (٢) بمقتضى دينه ، وفضل يقينه ، والسّلام.

ومن شعره ما كتب به إليّ (٣) : [الكامل]

آيات حسنك حجّة للقال (٤)

في الحبّ قائمة على العذّال

يا من سبى طوعا عقول ذوي النّهى

ببلاغة قد أيّدت بجمال

يستعبد الأبصار والأسماع ما

يجلو ويتلو من سنيّ مقال

وعليك أهواء النفوس بأسرها

وقفت فغيرك (٥) لا يمرّ ببال

رفعت لديك (٦) في البلاغة راية

لمّا احتللت بها وحيد كمال

وغدت تباهي منك بالبدر الذي

تعنو البدور لنوره المتلالي

ما ذا ترى يا ابن الخطيب لخاطب (٧)

ودّا ينافس فيك كلّ مغال (٨)؟

جذبته نحو هواك غرّ محاسن

مشفوعة أفرادها بمعال

وشمائل رقّت لرقّة طبعها

فزلالها يزري بكل زلال

وحليّ آداب بمثل نفيسها

تزهو الحلى ويجلّ قدر الحالي

تستخدم (٩) الياقوت عند نظامها

فمقصّر من قاسها بلآل

سبق الأخير الأوّلين بفضلها

فغدا المقدّم تابعا للتّالي

شغفي ببكر (١٠) من عقائلها إذا

تبدو تصان من الحجى بحجال

فابعث بها بنت (١١) المنى ممهورة

طيب الثّناء لنقدها والكالي

لا زلت شمسا في الفضائل يهتدى

بسناك في الأفعال والأقوال (١٢)

ثم السّلام عليك يترى ما تلت

بكر الزّمان روادف الآصال

__________________

(١) الخدين : الخدن ، الصديق. لسان العرب (خدن).

(٢) كلمة «عملا» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.

(٣) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٦٠).

(٤) في الكتيبة : «للتالي».

(٥) في الأصل : «فطيرك» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٦) في الأصل : «لريّه» ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٧) في الكتيبة : «يخاطب».

(٨) في الأصل : «مقال» والتصويب من الكتيبة.

(٩) في الأصل : «يستخدم» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(١٠) في الأصل : «بذكر» والتصويب من الكتيبة.

(١١) في الأصل : «نلت» والتصويب من الكتيبة.

(١٢) في الكتيبة : «في الأقوال والأفعال».

٧٣

ومن الدّعابة ، وقد وقعت إليها الإشارة من قبل ، ما كتب به إليه صديقه الملاطف أبو علي بن عبد السّلام (١) : [الوافر]

أبا عبد الله نداء خلّ

وفيّ جاء يمنحك النّصيحه

إلى كم تألف الشّبان غيّا

وخذلانا ، أما تخشى الفضيحة؟

فأجابه رحمه الله : [الوافر]

فديتك ، صاحب السّمة المليحه

ومن طابت أرومته الصّريحه

ومن قلبي وضعت له محلّا

فما عنه يحلّ بأن أزيحه

نأيت فدمع عيني في انسكاب

وأكباد (٢) لفرقتكم قريحه

وطرفي لا يتاح له رقاد

وهل نوم لأجفان جريحه؟

وزاد تشوّقي أبيات شعر

أتت منكم بألفاظ فصيحه

ولم تقصد بها جدّا ، ولكن

قصدت بها مداعبة قبيحه (٣)

فقلت : أتألف الشبّان غيّا

وخذلانا ، أما تخشى الفضيحه؟

وفيهم (٤) حرفتي وقوام عيشي

وأحوالي بخلطتهم نجيحه

وأمري فيهم أمر مطاع

وأوجههم مصابيح صبيحه

وتعلم أنّني رجل حصور (٥)

وتعرف ذاك معرفة صحيحه

قال في «التّاج» : ولمّا (٦) اشتهر المشيب بعارضه ولمّته ، وخفر الدهر لعمود (٧) صباه وأذمّته ، أقلع واسترجع ، وتألّم لما فرط وتوجّع ، وهو الآن من جلّة الخطباء طاهر العرض والثّوب ، خالص من الشّوب ، باد عليه قبول قابل التوب.

وفاته رحمه الله : في آخر صفر من عام خمسين وسبعمائة في وقيعة الطاعون العام ، ودخل غرناطة.

__________________

(١) البيتان وجوابهما في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٩).

(٢) في النفح : «وأكبادي».

(٣) في نفح الطيب : «وقيحة».

(٤) في المصدر نفسه : «ففيهم».

(٥) الحصور : من انقطع عن النساء وتفرّغ للعبادة. وفي القرآن الكريم : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً). سورة آل عمران ٣ ، الآية ٣٩ ، ولسان العرب (حصر).

(٦) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٠).

(٧) في النفح : «لصباه».

٧٤

ومن الغرباء في هذا الباب

محمد بن أحمد بن محمد

ابن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي (١)

من أهل تلمسان ، يكنى أبا عبد الله ، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين.

حاله : هذا (٢) الرجل من طرف دهره ظرفا وخصوصيّة ولطافة ، مليح التوسّل ، حسن اللقاء ، مبذول البشر ، كثير التّودّد ، نطيف البزّة ، لطيف التّأنّي (٣) ، خيّر البيت ، طلق الوجه ، خلوب اللسان ، طيّب الحديث ، مقدر الألفاظ ، عارف بالأبواب ، درب على صحبة الملوك والأشراف ، متقاض لإيثار السلاطين والأمراء ، يسحرهم بخلابة لفظه ، ويفتلهم (٤) في الذّروة والغارب بتنزّله ، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه ، ويصنع (٥) غاشيتهم بتلطّفه ، ممزوج الدّعابة بالوقار ، والفكاهة بالنّسك ، والحشمة بالبسط ، عظيم المشاركة لأهل ودّه ، والتّعصّب لإخوانه ، إلف مألوف ، كثير الأتباع والعلق (٦) ، مسخّر الرّقاع في سبيل الوساطة ، مجدي الجاه ، غاصّ المنزل بالطّلبة ، منقاد الدّعوة ، بارع الخطّ أنيقه ، عذب التّلاوة ، متّسع الرّواية ، مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير ، يكتب ويشعر ويقيّد ويؤلّف ، فلا يعدو السّداد في ذلك ، فارس منبر ، غير جزوع ولا هيابة (٧). رحل إلى المشرق في كنف حشمة من جناب والده ، رحمه الله ، فحجّ وجاور ، ولقي الجلّة ، ثم فارقه ، وقد عرف بالمشرق حقّه ، وصرف وجهه إلى المغرب ، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره اشتمالا خلطه بنفسه ، وجعله مفضى سرّه ، وإمام جمعته ، وخطيب منبره ، وأمين رسالته ، فقدم في غرضها على الأندلس في (٨) أواخر عام ثمانية وأربعين وسبعمائة ، فاجتذبه (٩) سلطانها ، رحمه الله ، وأجراه على تلك الوتيرة ، فقلّده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته. وفي أخريات عام أربعة

__________________

(١) ترجمة ابن مرزوق في التعريف بابن خلدون (ص ٤٩) ونيل الابتهاج (ص ٢٧٢) والديباج المذهب (ص ٣٠٥) والدرر الكامنة (ج ٣ ص ٤٥٠) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٥).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٦).

(٣) في الأصل : «التأتي» والتصويب من النفح.

(٤) يفتلهم : يداورهم. لسان العرب (فتل).

(٥) في النفح : «ويصطنع».

(٦) العلق : الذين يتعلقون به ويتبعونه. لسان العرب (علق).

(٧) في النفح : «هيّاب».

(٨) كلمة «في» غير واردة في النفح.

(٩) في الأصل : «واجذبه» والتصويب من النفح.

٧٥

وخمسين (١) بعده أطرف عنه جفن برّه ، في أسلوب طماح ، ودالّة ، وسبيل هوى وقحة ، فاغتنم العبرة (٢) ، وانتهز الفرصة ، وأنفذ في الرّحيل العزمة ، وانصرف عزيز الرّحلة ، مغبوط المنقلب ، في أوائل شعبان عام أربعة وخمسين وسبعمائة (٣) ، فاستقرّ بباب ملك المغرب ، أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محلّ تجلّة ، وبساط قرب ، مشترك الجاه ، مجدي التوسّط ، ناجع الشّفاعة ، والله يتولّاه ويزيده من فضله.

مشيخته : من كتابه المسمى «عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشايخ دون من أجاز ، من أئمة المغرب والشّام والحجاز» : فممن (٤) لقيه بالمدينة المشرّفة على ساكنها الصلاة والسلام ، الإمام العلّامة عزّ الدين محمد أبو الحسن بن علي بن إسماعيل الواسطي ، صاحب خطّتي الإمامة والخطابة بالمسجد النبوي (٥) الكريم ، وأفرد جزءا في مناقبه. ومنهم الشيخ الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السّعدي العبادي ، تحمّل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره. والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم ، ونائب الإمامة والخطابة به ، ومنشد الأمداح النبوية هنالك وبمكة ، شرّفها الله ، الشيخ المعمّر الثّقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجي (٦) المكيّ. والشيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي. والشيخ مقرئ الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود بن إبراهيم الآبلي (٧) المصري. والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجّة ، انتهت إليه الرّياسة العلمية والخطط الشّرعية بالحرم. والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني ، قاضي القضاة بمصر(٨). وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي. والتّقي السعدي ، وقاضي القضاة القزويني ، والشرف أقضى القضاة الإخميمي ، وكثيرون غيرهم. وسمع من عدد عديد آخر من أعلام القضاة والحفّاظ والعلماء بتونس ، وبجاية ، والزّاب ، وتلمسان.

محنته : اقتضى (٩) الخوض الواقع بين يدي تأميل الأمير أبي الحسن ، رحمه الله ، وتوقّع (١٠) عودة الأمر إليه ، وقد ألقاه اليمّ بالسّاحل بمدينة الجزائر ، أن قبض

__________________

(١) في النفح : «وخمسين صرف عنه جفن ...».

(٢) في النفح : «الفترة».

(٣) قوله : «في أوائل ... وسبعمائة» غير وارد في النفح.

(٤) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٧ ـ ٣٦٩). بتصرف المقري.

(٥) في النفح : «بالمسجد الكريم النبوي».

(٦) في النفح : «الحجبي».

(٧) في النفح : «الآيلي».

(٨) في النفح : «القضاة بالديار المصرية».

(٩) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٧١).

(١٠) كلمة «وتوقع» غير واردة في نفح الطيب.

٧٦

عليه بتلمسان أمراؤها المتوثّبون عليها في هذه الفترة من بني زيّان ، إرضاء لقبيلهم المتّهم بمداخلته ، وقد رحل عنهم دسيسا من أميرهم عثمان بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن ، فصرف مأخوذا عليه طريقه ، منتهبا رحله ، منتهكة حرمته ، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر ، مقفل المسلك ، حريز القفل ، ثاني اثنين. ولأيام قتل ثانيه ذبحا بمقربة من شفى تلك الرّكيّة ، وانقطع لشدّة الثّقاف (١) أثره ، وأيقن الناس بفوات الأمر فيه. ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه في خبر ينظر بطرفه إلى الكرامة ، فنجا ولا تسل كيف ، وخلّصه الله خلاصا جميلا ، وقدم على الأندلس ، والله ينفعه بمحنته (٢).

شعره ، وما وقع من المكاتبة بيني وبينه : ركب (٣) مع السلطان خارج (٤) الحمراء ، أيام ضربت اللّوز قبابها البيض ، وزيّنت الفحص العريض ، والرّوض الأريض (٥) ، فارتجل في ذلك : [الكامل]

انظر إلى النّوار في أغصانه

يحكي النجوم إذا تبدّت في الحلك

حيّا أمير المسلمين وقال : قد

عميت بصيرة من بغيرك مثّلك (٦)

يا يوسفا حزت الجمال بأسره

فمحاسن الأيام تومي هيت لك (٧)

أنت الذي صعدت به أوصافه

فيقال فيه : ذا مليك أو ملك (٨)

ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة ، خاطبني بمنزل الشاطبي على مرحلة منها بما نصه (٩) : [الكامل]

يا قادما وافى بكلّ نجاح

أبشر بما تلقاه من أفراح

هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها

تنل المنى وتفز بكلّ سماح

مغنى الإمام أبي عنان يمّمن

تظفر ببحر في العلى طفّاح

__________________

(١) قوله : «لشدّة الثقاف» غير وارد في النفح.

(٢) في النفح : «بنيّته».

(٣) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٧٢).

(٤) في النفح : «بخارج».

(٥) الأريض : الكثير العشب. لسان العرب (أرض).

(٦) مثّلك : زعم أن لك مثيلا. لسان العرب (مثل).

(٧) هيت لك : اسم فعل أمر بمعنى هلمّ وتعال ؛ يقول سبحانه وتعالى : (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) سورة يوسف ١٢ ، الآية ٢٣.

(٨) أخذه من قول الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) سورة يوسف ١٢ ، الآية ٣١.

(٩) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٩٨ ـ ١٩٩).

٧٧

من قاس جود أبي عنان ذي (١) الندى

بسواه قاس البحر بالضّحضاح (٢)

ملك يفيض على العفاة نواله

قبل السّؤال وقبل بسطة راح

فلجود كعب وابن سعدى (٣) في الندى

ذكر محاه من نداه ماح

ما أن رأيت ولا سمعت بمثله (٤)

من أريحيّ للندى مرتاح

بسط الأمان على الأنام فأصبحوا

قد ألحفوا منه بظلّ جناح

وهمى على العافين سيب نواله

حتى حكى سحّ الغمام الساحي

فنواله وجلاله وفعاله

فاقت وأعيت ألسن المدّاح

وبه الدّنا أضحت تروق وأصبحت

كلّ المنى تنقاد بعد جماح

من كان ذا ترح فرؤية وجهه

متلافة الأحزان والأتراح

فانهض أبا عبد الإله تفز بما

تبغيه من أمل ونيل نجاح

لا زلت ترتشف الأماني راحة

من راحة المولى بكلّ صباح

والحمد (٥) لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى ، حمدا يؤمّ به جميعنا المقصد الأسنى ، فيبلغ الأمد الأقصى ، فطالما كان معظّم سيدي للأسى في خبال ، وللأسف بين اشتغال بال ، واشتغال بلبال (٦). ولقدومكم على هذا المقام (٧) العلي في ارتقاب ، ولمواعدكم (٨) بذلك في تحقّق وقوعه من غير شكّ ولا ارتياب ، فها أنت تجتلي ، من هذا المقام العلي ، لتشيّعك (٩) وجوه المسرّات صباحا ، وتتلقّى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحا ، بحول الله. ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه ، فهو من بعض ما لدى المحب (١٠) من إحسان مولاي (١١) وإنعامه. ولعمري لقد كان وافدا على سيدي في مستقرّه مع غيره. فالحمد لله الذي يسّر في إيصاله ، على أفضل أحواله.

فراجعته بقولي (١٢) : [الكامل]

راحت تذكّرني كؤوس الرّاح

والقرب يخفض للجنوح جناحي

__________________

(١) في النفح : «في الندى».

(٢) الضحضاح : الماء القليل. محيط المحيط (ضحضح).

(٣) ابن سعدى : هو أوس بن حارثة الطائي.

(٤) في النفح : «ما إن سمعت ولا رأيت بمثله».

(٥) ما يزال النص النثري والشعري في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٩٩ ـ ٢٠٠).

(٦) البلبال : الوسواس. لسان العرب (بلبل).

(٧) في النفح : «هذا المحل المولوي».

(٨) في النفح : «ولمواعيدكم».

(٩) في النفح : «بتشيّعك».

(١٠) في النفح : «المعظم».

(١١) في النفح : «مولاه».

(١٢) في النفح : «بما نصّه».

٧٨

وسرت تدلّ على القبول كأنما

دلّ النسيم على انبلاج صباح

حسناء قد غنيت بحسن صفاتها

عن دملج وقلادة ووشاح

أمست تحضّ على اللّياذ بمن جرت

بسعوده الأقلام في الأفراح (١)

بخليفة الله المؤيّد فارس

شمس المعالي الأزهر الوضّاح

ما شئت من همم (٢) ومن شيم غدت

كالزّهر أو كالزّهر في الأدواح

فضل الملوك فليس يدرك شأوه

أنّى يقاس الغمر بالضّحضاح؟

أسنى بني عبّاسهم بلوائه ال

منصور أو بحسامه السّفّاح

وغدت مغاني الملك لمّا حلّها

تزهى ببدر هدى وبحر سماح

وحياة من أهداك تحفة قادم

في العرف منها راحة الأرواح

ما زلت أجعل ذكره وثناءه

روحي وريحاني الأريج وراحي

ولقد تمازج حبّه بجوارحي

كتمازج الأجسام بالأرواح

ولو أنني أبصرت يوما في يدي

أمري لطرت إليه دون جناح

فالآن ساعدني الزّمان وأيقنت

من قربه نفسي بفوز قداحي

إيه أبا عبد الإله وإنه

لنداء ودّ في علاك صراح

أما إذا استنجدتني من بعد ما

ركدت لما خبت الخطوب رياحي

فإليكها مهزولة وأنا امرؤ

قرّرت عجزي واطّرحت سلاحي

سيدي (٣) ، أبقاك الله لعهد تحفظه ، ووليّ بعين الولاء تلحظه ، وصلتني رقعتك التي ابتدعت (٤) ، وبالحق من مدح (٥) المولى الخليفة صدعت ، وألفتني وقد سطت بي الأوحال (٦) ، حتى كادت تتلف الرّحال ، والحاجة إلى الغذاء قد شمّرت كشح البطين ، وثانية العجماوين (٧) قد توقع فوات وقتها وإن كانت صلاتها صلاة الطّين ، والفكر قد غاض معينه ، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه ، فغزتني بكتيبة بيان أسدها هصور ، وعلمها منصور ، وألفاظها ليس فيها قصور ، ومعانيها عليها الحسن مقصور ، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنّة ، وقول «لا أدري» للعالم فكيف لغيره

__________________

(١) في النفح : «في الألواح».

(٢) في النفح : «من شيم ومن همم ...».

(٣) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٠ ـ ٢٠١).

(٤) في النفح : «أبدعت».

(٥) في النفح : «من مولى».

(٦) في النفح : «الأوجال».

(٧) ثانية العجماوين : صلاة العصر ، وأولاهما صلاة الظهر ؛ لأنهما لا يجهر فيهما بالقراءة. لسان العرب (عجم).

٧٩

جنّة ، لكنها بشّرتني بما يقلّ لمهديه (١) بذل النفوس وإن جلّت ، وأطلعتني من السرّاء على وجه تحسده الشمس إذا تجلّت ، بما أعلمت (٢) به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيّده الله ، في عبده ، وصدق المخيلة في كرم مجده. وهذا هو الجود المحض ، والفضل الذي شكره هو الفرض. وتلك الخلافة المولويّة تتّصف بصفة (٣) من يبدأ بالنّوال ، من قبل الضّراعة والسؤال ، من غير اعتبار للأسباب ولا مجازاة للأعمال. نسأل الله أن يبقي منها على الإسلام أوفى الظّلال ، ويبلغها من فضله أقصى الآمال. ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهديّة ، والتحفة الوديّة ، وقبلتها امتثالا ، واستجليت منها عتقا وجمالا. وسيدي في الوقت أنسب إلى اتخاذ (٤) ذلك الجنس ، وأقدر على الاستكثار من إناث البهم والإنس. وأنا ضعيف القدرة ، غير مستطيع لذلك إلّا في النّدرة ، فلو رأى سيدي ، ورأيه سداد ، وقصده فضل ووداد ، أن ينقل القضيّة إلى باب العارية من باب الهبة ، مع وجوب (٥) الحقوق المترتّبة ، لبسط خاطري وجمعه ، وعمل في رفع المؤنة على شاكلة حالي معه ، وقد استصحبت مركوبا يشقّ عليّ هجره ، ويناسب مقامي شكله ونجره (٦) ، وسيدي في الإسعاف على الله أجره ، وهذا أمر عرض ، وفرض فرض ، وعلى نظره المعوّل ، واعتماد إغضائه هو المعقول الأول. والسلام على سيدي من معظّم قدره ، وملتزم برّه ، ابن الخطيب ، في ليلة الأحد السابع والعشرين لذي قعدة سنة (٧) خمس (٨) وخمسين وسبعمائة ، والسّماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان ، وظنّ أنه طوفان ، واللّحاف في غد (٩) بالباب المولوي ، مؤمل بحول الله.

ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه ، ما أنشد عنه ، وبين يديه ، في ليلة الميلاد المعظم ، من عام ثلاثة وستين وسبعمائة بمدينة فاس المحروسة (١٠) : [مجزوء الرجز]

أيا نسيم (١١) السّحر

بالله (١٢) بلّغ خبري

إن أنت يوما بالحمى

جررت فضل المئزر

__________________

(١) في النفح : «لمؤديه».

(٢) في النفح : «أعلمتني».

(٣) في النفح : «بصفات».

(٤) في النفح : «لاتخاذ».

(٥) في النفح : «وجود».

(٦) النّجر ، بفتح النون وسكون الجيم : الأصل واللون. لسان العرب (نجر).

(٧) كلمة «سنة» غير واردة في النفح.

(٨) في الأصل : «خمسة» وهو خطأ نحوي.

(٩) في النفح : «غدها».

(١٠) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٨).

(١١) في نفح الطيب : «قل لنسيم».

(١٢) في نفح الطيب : «لله».

٨٠