الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

وأبناؤهم. قال ابن مخلوف : كان يأتي إلى معالي الأمور. وقال غيره : رأيته يخرج من الجامع ، وخلفه نحو من ثلاثمائة ، بين طالب حديث ، وفرائض ، وفقه ، وإعراب. وقد رتّب الدّول عليه ، كل يوم ثلاثين دولة ، لا يقرأ عليه فيها شيء إلّا تواليفه وموطّأ مالك. وكان يلبس الخزّ والسّعيد. قال ابن نمير : وإنما كان يفعله إجلالا للعلم ، وتوقيرا له. وكان يلبس إلى جسمه ثوب شعر ، وكان صوّاما قوّاما. وقال المغامي (١) : لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب ، لازدريت غيره. وزعم الزّبيدي أنه نعي إلى سحنون (٢) فاسترجع ، وقال : مات عالم الأندلس. قال ابن الفرضي : جمع (٣) إلى إمامته في الفقه التبحبح في الأدب ، والتفنّن في ضروب العلوم ، وكان فقيها مفتيا. قال ابن خلف أبو القاسم الغافقي : كان له أرض وزيتون بقرية بيرة من طوق غرناطة ، حبس جميع ذلك على مسجد قرطبة. وله ببيرة مسجد ينسب إليه. وكان يهبط من قرية قورت يوم الاثنين والخميس إلى مسجده ببيرة ، فيقرأ عليه ، وينصرف إلى قريته.

مشيخته : روى عن صعصعة بن سلّام ، والغازي (٤) بن قيس ، وزياد بن عبد الرحمن. ورحل إلى المشرق سنة ثمان ومائتين ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وكانت رحلته من قريته بفحص غرناطة (٥) ، وسمع فيها من عبد الملك بن الماجشون ، ومطرّف بن عبد الله ، وأصبغ بن الفرج ، وابنه موسى ، وجماعة سواهم. وأقام في رحلته ثلاثة أعوام وشهورا. وعاد إلى إلبيرة ، إلى أن رحّله عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة ، في رمضان سنة ثماني (٦) عشرة ومائتين.

من روى عنه : سمع منه ابناه محمد وعبد الله ، وسعيد بن نمر ، وأحمد بن راشد ، وإبراهيم بن خالد ، وإبراهيم بن شعيب ، ومحمد بن فطيس. وروى عنه من

__________________

(١) هو إبراهيم بن المنذر المغامي كما في معجم البلدان (ج ١ ص ٢٤٤).

(٢) سحنون : هو لقب القاضي عبد السلام بن سعيد بن حبيب الشوقي ، المتوفي سنة ٢٤٠ ه‍.

ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٤٧) ووفيات الأعيان (ج ٣ ص ١٥٣) والديباج المذهب (ص ١٦٠) وقضاء قرطبة (ص ١٣٠) وشذرات الذهب (ج ٢ ص ٩٤) وكتاب الوفيات (ص ١٧٤).

(٣) قول ابن الفرضي لم يرد حرفيا في كتابه (تاريخ علماء الأندلس ص ٤٦٢) كما هنا.

(٤) في معجم البلدان (ج ١ ص ٢٤٤): «والغار بن قيس».

(٥) فحص غرناطة : هو مرج غرناطة الشهير ، وهو عبارة عن سهل أفيح وبسيط شاسع أخضر خصب وغوطة فيحاء مترامية الأطراف. يطلق عليه بالإسبانية اسم la vega de granada ، يقع غربيّ غرناطة ، ويمتد غربا حتى مدينة لوشه. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٤١).

(٦) في الأصل : «ثمان» وهو خطأ نحوي.

٤٢١

عظماء القرطبيين ، مطرّف بن عيسى ، وبقي بن مخلد ، ومحمد بن وضّاح ، والمقامي في جماعة.

تواليفه : قال أبو الفضل عياض بن موسى ، في كتابه في أصحاب مالك (١) : قال بعضهم : قلت لعبد الملك بن حبيب : كم كتبك التي ألفت؟ قال : ألف كتاب وخمسون كتابا. قال عبد الأعلى : منها كتب المواعظ سبعة ، وكتب الفضائل سبعة ، وكتب أجواد قريش وأخبارها وأنسابها خمسة عشر كتابا ، وكتب السلطان وسيرة الإمام ثمانية كتب ، وكتب الباه والنساء ثمانية ، وغير ذلك. ومن كتب سماعاته في الحديث والفقه ، وتواليفه في الطب ، وتفسير القرآن ، ستّون كتابا. وكتاب المغازي ، والنّاسخ والمنسوخ ، ورغائب القرآن ، وكتاب الرّهون والحدثان ، خمسة وتسعون كتابا. وكتاب مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اثنان وعشرون كتابا ، وكتاب في النّسب ، وفي النجوم ، وكتاب الجامع ، وهي كتب فيها مناسك النّبي ، وكتاب الرّغائب ، وكتاب الورع في المال ، وكتاب الرّبا ، وكتاب الحكم والعدل بالجوارح. ومن المشهورات الكتاب المسمّى بالواضحة. ومن تواليفه كتاب إعراب القرآن ، وكتاب الحسبة في الأمراض ، وكتاب الفرائض ، وكتاب السّخاء واصطناع المعروف ، وكتاب كراهية الغناء.

شعره : أنشد ابن الفرضي ممّا كتب بها إلى أهله من المشرق سنة عشر ومائتين (٢) : [الطويل]

أحبّ بلاد الغرب والغرب موطني

ألا كلّ غربيّ إليّ حبيب

فيا جسدا أضناه شوق كأنّه

إذا انتضيت عنه الثّياب قضيب

ويا كبدا عادت زمانا كأنما

يلذّغها بالكاويات طبيب

بليت وأبلاني اغترابي ونأيه

وطول مقامي بالحجاز أجوب

وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم

ومن دونهم بحر أجشّ مهيب

وهول كريه ليله كنهاره

وسير حثيث للرّكاب دؤوب

فما الداء إلّا أن تكون بغربة

وحسبك داء أن يقال غريب

فيا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بأكناف نهر الثّلج حين يصوب

وحولي أصحابي وبنتي وأمّها

ومعشر أهلي والرؤوف مجيب

__________________

(١) هو كتاب «ترتيب المدارك ، وتقريب المسالك ، لمعرفة أعلام مذهب مالك».

(٢) الأبيات غير واردة في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي.

٤٢٢

وكتب إلى الأمير عبد الرحمن في ليلة عاشوراء (١) : [البسيط]

لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا (٢)

واذكره لا زلت في الأحياء (٣) مذكورا

قال الرسول (٤) ، صلاة الله تشمله ،

قولا وجدنا عليه الحقّ والنّورا

من بات في ليل عاشوراء ذا سعة

يكن بعيشه في الحول محبورا

فارغب ، فديتك ، فيما فيه رغبتنا (٥)

خير الورى كلّهم حيّا ومقبورا

وفاته : توفي في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ، وقيل : تسع وثلاثين ومائتين (٦). قال ابن خلف : كان يقول في دعائه : إن كنت يا ربّ راضيا عني ، فاقبضني إليك قبل انقضاء سنة ثمان وثلاثين ، فقبضه الله في أحبّ الشهور إليه ، رمضان من عام ثمانية وثلاثين ، وهو ابن أربع وستين سنة (٧) ، وصلّى عليه ولده محمد ، ودفن بمقبرة أم سلمة بقبلي محراب مسجد الضّيافة من قرطبة. قالوا : والخبر متصل ، إنه وجد جسده وكفنه وافرين لم يتغيّرا بعد وفاته ، بتسع وأربعين سنة ، وقطعت من كفنه قطعة رفعت إلى الأمير عبد الله ، وذلك عندما دفن محمد بن وضّاح إلى جنبه ، رحمهم الله. ورثاه أبو عبد الله الرشّاش وغيره ، فقال : [الطويل]

لئن أخذت منّا المنايا مهذّبا

وقد قلّ فيها من يقال المهذّب

لقد طاب فيه الموت والموت غبطة

لمن هو مغموم الفؤاد معذّب

ولأحمد بن ساهي فيه : [البسيط]

ما ذا تضمّن قبر أنت ساكنه

من التّقى والنّدى يا خير مفقود

عجبت للأرض في أن غيّبتك وقد

ملأتها حكما في البيض والسّود

قلت : فلو لم يكن من المفاخر الغرناطية إلا هذا الحبر لكفى.

__________________

(١) الأبيات الأول والثالث والرابع في البيان المغرب (ج ٢ ص ١١١) ، والبيتان الأول والثاني فقط في نفح الطيب (ج ٢ ص ٢٢٦) ، كتبها إلى أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم ، المعروف بعبد الرحمن الثاني.

(٢) في الأصل : «عاشوراء» والتصويب من المصدرين.

(٣) في البيان المغرب : «في الأخيار». وفي النفح : «في التاريخ».

(٤) في النفح : «النبيّ».

(٥) في البيان المغرب : «رغّبنا».

(٦) في جذوة المقتبس (ص ٢٨٣) وبغية الملتمس (ص ٣٧٧) : توفي بقرطبة في شهر رمضان سنة ٢٣٨ ه‍ ، وقيل : يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ٢٣٩ ه‍.

(٧) في مطمح الأنفس (ص ٢٣٥) : توفي في رمضان سنة ٢٣٨ ه‍ ، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.

وفي معجم البلدان (ج ١ ص ٢٤٥) : توفي سنة ٢٣٨ ه‍. بعلّة الحصى عن أربع وستين سنة.

٤٢٣

ومن الطارئين عليها

عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السّداد الأموي المالقي ،

الشهير بالباهلي (١)

حاله : كان ، رحمه الله ، بعيد المدى ، منقطع القرين في الدّين المتين والصلاح ، وسكون النفس ، ولين الجانب ، والتواضع ، وحسن الخلق ، إلى وسامة الصّورة ، وملاحة الشّيبة ، وطيب القراءة ، مولى النّعمة على الطّلبة من أهل بلده ، أستاذا حافلا ، متفنّنا ، مضطلعا ، إماما في القراءات ، حائزا خصل السباق إتقانا ، وأداء ، ومعرفة ، ورواية ، وتحقيقا ، ماهرا في صناعة النحو ، فقيها ، أصوليّا ، حسن التعليم ، مستمرّ القراءة ، فسيح التّحليق ، نافعا ، متحبّبا ، مقسوم الأزمنة على العلم وأهله ، كثير الخضوع والخشوع ، قريب الدّمعة. أقرأ عمره ، وخطب بالمسجد الأعظم من مالقة ، وأخذ عنه الكثير من أهل الأندلس.

مشيخته : قرأ على الأستاذ الإمام أبي جعفر بن الزبير ، وكان من مفاخره ، وعلى القاضي أبي علي بن أبي الأحوص ، وعلى المقرئ الضّرير أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن سالم بن خلف السّهيلي ، والرّاوية أبي الحجاج ابن أبي ريحانة المربليّ. وكتب له بالإجازة العامة الرّاوية أبو الوليد العطار ، والإمام أبو عبد الله بن سمعون الطائي. وسمع على الراوية أبي عمر عبد الرحمن بن حوط الله الأنصاري. وقرأ على القاضي أبي القاسم ، قاسم بن أحمد بن حسن الحجري ، الشهير بالسّكوت المالقي ، وأخذ عن الشيخ الصالح أبي جعفر أحمد بن يوسف الهاشمي الطّنجالي ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. ويحمل عن خاله ولي الله أبي محمد عبد العظيم ابن ولي الله محمد بن أبي الحجاج ابن الشيخ ، رحمه الله.

تواليفه : شرح التّيسير في القراءات. وله تواليف غيره في القرآن والفقه.

شعره : حدّث الشيخ الفقيه القاضي أبو الحجاج المنتشافري ، قال : رأيت في النّوم أبا محمد الباهلي أيام قراءتي عليه بمالقة في المسجد الجامع بها ، وهو قائم يذكّر الناس ويعظهم ، فعقلت من قوله : أتحسبونني غنيّا فقيرا ، أنا فقير ، أنا.

__________________

(١) ورد ذكر عبد الواحد بن محمد الباهلي في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦١) و (ج ١٠ ص ٢٦١) ، وتقدم ذكره في الجزء الثاني من الإحاطة.

٤٢٤

فاستيقظت وقصصتها عليه ، فاستغفر الله ، وقال : يا بنيّ ، حقا ما رأيت. ثم رفع إلى ثاني يوم تعريفه رقعة فيها مكتوب : [المتقارب]

لئن ظنّ قوم من أهل الدّنا

بأنّ لهم قوّة أو غنا

لقد غلطوا جمع (١) مالهم

فتاهوا عقولا ، عموا (٢) أعينا

فلا تحسبوني أرى رأيهم

فإنّي ضعيف فقير أنا

وليس افتقاري وفقري معا

إلى الخلق ما (٣) عند خلق غنى

ولكن إلى خالقي وحده

وفي ذاك عزّ ونيل المنى

فمن ذلّ للحقّ يرقى العلا

ومن ذلّ للخلق يلق العنا

وفاته : ببلده مالقة ، رضي الله عنه ، ونفع به ، في خامس ذي القعدة من عام خمسة وسبعمائة. وكان الحفل في جنازته عظيما ، وحفّ الناس بنعشه ، وحمله الطّلبة وأهل العلم على رؤوسهم. سكن غرناطة وأقرأ بها.

ومن الكتّاب والشعراء في هذا الحرف

عبد الحق بن محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة

ابن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي (٤)

صاحبنا الكاتب للدولة الغادرة.

حاله : كان (٥) هذا الرجل في حال الدّعة التي استصحبها ، وقبل أن تبعته أيدي الفضول ، بعفاف وطهارة ، إلى خصل خطّ ، نشط البنان ، جلد على العمل. ونظمه وسط ، ونثره جمهوري عامي ، مبين عن الأغراض. وولّي ببلده الخطابة والقضاء ... (٦) في الحداثة. ثم انتقل إلى غرناطة ، فجأجأت (٧) به الكتابة السلطانية

__________________

(١) في الأصل : «لقد غلطوا ويحهم بجمع ...» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «وعموا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «فما» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٤) ترجمة عبد الحق بن محمد بن عطية في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٩). وترجم له المقري في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٣٧) وعدّه من تلاميذ لسان الدين ابن الخطيب ولكن تحت عنوان : «القاضي الكاتب أبو محمد عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي».

(٥) قارن بنفح الطيب (ج ١٠ ص ١٣٧ ـ ١٣٨).

(٦) بياض في الأصول. وفي النفح : «وولّي الخطابة بالمسجد الأعظم والقضاء سنتين ببلده في حداثة السّنّ».

(٧) جأجأت به الكتابة : دعته.

٤٢٥

باختياري ، مستظهرة منه ببطل كفاية ، وباذل حمل كلفة ، فانتقل (١) رئيسا في غرض إعانتي وانتشالي من الكلفة (٢) ، على الضّعف وإلمام المرض ، والتّرفّع عن الابتذال ، والأنفة من الاستخدام ، فرفع الكلّ ، ولطف من الدولة محلّه. ثم لمّا حال الأمر ، وحتم التّمحيص ، وتسوّرت القلعة ، وانتثر النّظم ، واستأثر به الاصطناع ، كشفت الخبرة منه عن سوءة لا توارى ، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى ، فسبحان من علّم النفس فجورها وتقواها ، إذ لصق بالدّائل (٣) الفاسق ، فكان آلة انتقامه ، وجارحة صيده ، وأحبولة كيده ، فسفك الدّماء ، وهتك الأستار ، ومزّق الأسباب ، وبدّل الأرض غير الأرض ، وهو يزقّه في أذنه ، فيؤمّ (٤) النّصيحة ، وينحله (٥) لقب الهداية ، ويبلغ في شدّ أزره إلى الغاية : «عنوان عقل الفتى اختياره ، يجري في جميل (٦) دعوته» ، طوالا ، أخرق ، يسيء السمع ، وينسى (٧) الإجابة ، بدويّا ، قحّا ، جهوريّا ، ذاهلا عن عواقب الدنيا والآخرة ، طرفا في سوء العهد ، وقلّة الوفاء ، مردودا في الحافزة (٨) ، منسلخا من آية السّعادة ، تشهد عليه بالجهل (٩) يده ، ويقيم عليه الحجج شرهه ، وتبوّئه (١٠) هفوات الندم جهالته. ثم أسلم المحروم مصطنعه ، أحوج ما كان إليه ، وتبرّأ منه ، ولحقته بعده مطالبة ماليّة ، لقي لأجلها ضغطا. وهو الآن بحال خزي ، واحتقاب تبعات ، خلّصنا الله من ورطات الدّنيا والآخرة.

أوليته وشيوخه : وبسط كثير من مجمل حاله حسبما نقلت من خطه.

قال يخاطبني بما نصّه (١١) : [البسيط]

يا سيّدا ، فاق في مجد وفي شرف

وفات سبقا بفضل الذات والسّلف

وفاضلا عن سبيل الذّمّ منحرفا

وعن سبيل المعالي غير منحرف

__________________

(١) في النفح : «فاستقلّ».

(٢) في النفح : «من هفوة الكلفة على جلل الضعف ...».

(٣) في النفح : «بالداهي». والداهي : الفاسق ، والمراد به سلطان بني نصر ، الذي هرب منه لسان الدين ابن الخطيب إلى المغرب.

(٤) في النفح : «زقوم النصيحة». والزّقوم : شجرة في جهنم ، منها طعام أهل النار.

(٥) في النفح : «ويستحله».

(٦) في النفح : «سبيل».

(٧) في النفح : «فيسيء».

(٨) في النفح : «الحافرة» بالراء المهملة.

(٩) في الأصل : «بالحمل» والتصويب من النفح.

(١٠) في النفح : «وتبوه» والتصويب من النفح.

(١١) القصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٣٨ ـ ١٣٩).

٤٢٦

وتحفة الزمن الآتي به (١) فلقد

أربى (٢) بما حازه منها على التّحف

ومعدنا لنفيس الدّرّ فهو لما

حواه منه لدى التّشبيه كالصّدف

وبحر علم (٣) جميع الناس مغترف

منه ، ونيل المعالي حظّ مغترف (٤)

وسابقا بذّ أهل العصر قاطبة

فالكلّ في ذاك منهم غير مختلف

من ذا يخالف في نار على علم

أو يجحد الشمس نورا وهو غير خفي؟

ما أنت إلّا وحيد العصر في شيم

وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف

لله من منتم للمجد منتسب

بالفضل متّسم ، بالعلم متّصف

لله من حسب عد ومن كرم

قد شاده السّلف الأخيار للخلف

إيه أيا من به تبأى (٥) الوزارة إذ

كنت الأحقّ بها في الذّات والشرف

يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت

فيه المعالي ببعض (٦) البعض لم أصف

يا من يقصّر وصفي في علاه ولو

أنسى مديح حبيب (٧) في أبي دلف

__________________

(١) كلمة «به» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.

(٢) في النفح : «ربا».

(٣) في الأصل : «وبحر بعلم ...» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) في النفح : «خير مؤتلف».

(٥) تبأى : تفتخر.

(٦) في النفح : «فبعض».

(٧) هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي.

٤٢٧

شرّفتني عندما استدعيت من قبلي (١)

نظما تدوّنه في أبدع الصّحف

وربما راق ثغر في مباسمه (٢)

حتى إذا ناله إلمام مرتشف

أجلّ قدرك أن ترضى لمنتجع

بسوء كيلته حظّا مع الحشف

هذا ، ولو أنني فيما أتيت به

نافحت في الطّيب زهر الرّوضة الأنف (٣)

لكنت أفضي إلى التّقصير من خجل

أخليت (٤) بالبعض ممّا تستحقّ أفي

فحسبي العجز عمّا قد أشرت به

والعجز (٥) حتما قصارى كلّ معترف

لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلا

وإن غدوت بمرمى (٦) القوم كالهدف

فانظر إليها بعين الصّفح عن زلل

واجعل تصفّحها من جملة الكلف

بقيت للدهر تطويه وتنشره

تسمو من العزّ باسم غير منصرف

جئتك (٧) ، أعزّك الله ، ببضاعة مزجاة ، وأعلقت رجائي من قبولك بأمنية مرتجاة ، وما مثلك يعامل بسقط المتاع ، ولا يرضى له بالحشف مع بخس المدّ والصّاع. لكن فضلك يغضي عن التّقصير ويسمح ، ويتجاوز عن الخطإ ويصفح ، وأنت في كل حال إلى الأدنى من الله أجنح. ولو لا أنّ إشارتك واجبة الامتثال ، والمسارعة إليها مقدّمة على سائر الأعمال ، لما أتيت بها تمشي على استحياء ، ولا عرّضت نفسي أن أقف

__________________

(١) في النفح : «نظمي».

(٢) في النفح : «تبسّمه».

(٣) الروضة الأنف : التي لم يسبق أحد إلى رعيها.

(٤) في النفح : «إذ لست».

(٥) في النفح : «فالعجز».

(٦) في الأصل : «بمرقى» والتصويب من النفح.

(٧) اكتفى في النفح بقوله : «ثم ذكر نثرا ، وأن مولده بوادي آش ...».

٤٢٨

موقف حشمة وحياء ، فما مثلي فيما أعرضه عليك ، أو أقدّمه من هذا الهذر بين يديك ، إلّا مثل من أهدى الخرز لجالب الدّرّ ، أو عارض للوشل موج البحر ، أو كاثر بالحصى عدد الأنجم الزّهر ، على أني لو نظمت الشّعرى شعرا ، وجئتك بالسّحر الحلال نظما ونثرا ، ونافحتك بمثل تلك الرّوضة الأدبية التي تعبق أزاهرها نثرا ، لما وصفتك ببعض البعض من نفائس حلاك ، ولا وفّيت ما يجب من نشر مآثر علاك. فما عسى أن أقول في تلك المآثر العلمية ، والذّات الموسومة باسم التعريف والعلميّة ، أو أعبّر عنه في وصف تلك المحاسن الأدبية ، والمفاخر الحسبيّة. إن وصفت ما لك من شرف الذات ، ملت إلى الاختصار وقلت : آية من الآيات ، وإن ذهبت إلى ذكر مفاخرك الباهرة الآيات ، بلغت في مدى الفخر والحسب إلى أبعد الغايات ، وإن حلّيتك ببعض الحلى والصّفات ، سلبت محاسن الرّوض الأريج النّفحات. فكم لك من التّصانيف الرائقة ، والبدائع الفائقة ، والآداب البارعة ، والمحاسن الجامعة. فما شئت من حدائق ذات بهجة كأنما جادتها سحب نيسان ، وجنّات ثمراتها صنوان وغير صنوان ، تزري ببدائع بديع الزّمان ، وتخجل الروض كما يخجل الورد ابتسام الأقحوان. نظم كما انتثر الدّرّ ، ونثر تتمنّى الجوزاء أن تتقلّده والأنجم الزّهر ، ومعان أرقّ منّ نسيم الأسحار ، تهبّ على صفحات الأزهار. فأهلا بك يا روضة الآداب ، وربّ البلاغة التي شمس آياتها لا تتوارى بالحجاب ، فما أنت إلّا حسنة الزّمان ، ومالك أزمّة البيان ، وسبّاق غايات الحسن والإحسان. وقد وجدت مكان القول ذا سعة في أوصافك ، وما في تحلّيك بالفضائل واتّصافك. لكنّي رأيت أني لو مددت في ذلك باع الإطناب ، وأتيت فيه بالعجب العجاب ، فليس لي إلّا تقصير عن المطاولة وإمساك ، والعجز عن درك الإدراك إدراك. إيه أيها السّيّد الأعلى ، والفاضل الذي له في قداح الفخر القدح المعلّى ، فإنك أمرت أن أعرض عليك لتعريف بنفسي ومولدي ، وذكر أشياخي الذين بأنوارهم أقتدي ، فعلمت أن هذا إنما هو تهمّم منك بشاني ، وجري على معتاد الفضل الذي يقصر عنه لساني ، وفضل جميل لا أزال أجري في الثناء عليه ملء عناني. وإلّا فمن أنا في الناس حتى أنسب ، أو من يذهب إلّا أنت هذا المذهب؟

أما التّعريف بنفسي ، فأبدأ فيه باسم أبي : هو أبو القاسم محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي. وجدّي عطية هو الدّاخل إلى الأندلس عام الفتح ، نزل بإلبيرة ، وبها تفرّع من تفرّع من عقبه ، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة ، فتأثّل بها حالهم ، واستمرّ بها

٤٢٩

استيطانهم ، إلى حدود المائة السابعة ، فتسبّب في الانتقال من بقي منهم ، وهو جدّي الأقرب الأنساب ، وقضى ارتحاله إلى مدينة وادي آش ، ولكل أجل كتاب ، وذلك أنه استقضي بنظر ما في دولة أمير المسلمين الغالب بالله (١) ، أول ملوك هذه الدولة النصرية ، نصر الله خلفها ، ورحم سلفها ، فاتخذ فيها صهرا ونسبا ، وكان ذلك لاستيطانه بها سببا ، واستمرّ مقامه بها إلى أن ارتحل إلى المشرق لأداء الفريضة فكان إلى أشرف الحالات مرتحله ، وقضى في إيابه من الحج أمله. واستمرّت به الاستيطان ، وتعذّرت بعوده إلى غرناطة بعدما نبت فيها الأوطان. على أنه لم يعدم من الله السّتر الجميل ، ولا حظّ من عنايته بإيصال النّعمة كفيل ، فإنه سبحانه حفظ من سلف فيمن خلف ، وجعلهم في حال الاغتراب فيمن اشتهر بنباهة الحال واتّصف ، وقيّض لمصاهرتهم من خيار المجد والشرف ، وبذلك حفظ الله بيتهم ، وشمل باتصال النّعمة حيّهم وميتهم. فالحمد لله ، بجميع محامده ، على جميل عوائده. وتخلّف بوادي آش أبي وأعمامي ، تغمّدهم الله وإياي برحمته ، وجمع شملنا في جنّته.

وأمّا التعريف بهم ، فأنت أبقاك الله ، بمن سلف قديما منهم أعلم ، وسبيلك في معرفتهم أجدى وأقوم ، بما وهبكم الله من عوارف المعارف ، وجعل لكم من الإحاطة بالتالد منها والطّارف. وأمّا من لم يقع به تعريف ، ممن بعدهم ، فمن اقتفى رسمهم في الطريقة العلمية ، ولم يتجاوز جدّهم ، وهو جدّي أبو بكر عبد الله بن طلحة ورابع أجدادي. كان ، رحمه الله ، ممن جرى على سنن آبائه ، وقام بالعلم أحسن قيام ونهض بأعبائه. ألّف كتابا في «الرقائق» ، ففات في شأوه سبق السابق ، وتصدّر ببلده للفتيا ، وانتفع به الناس ، وكان شيخهم المقدّم. ولم أقف على تاريخ مولده ولا وفاته ، غير أنه توفي في حدود المائة الخامسة ، رحمه الله. وأمّا من بيني وبينه من الآباء ، كجدّي الأقرب وأبيه ومن خلفه من بنيه ، فما منهم من بلغ رتبة السّابق ، ولا قصر أيضا عن درجة اللّاحق ، وإنما أخذ في الطلب بنصيب ، ورمى فيه بسهم مصيب.

وأما مولدي (٢) ، فبوادي آش ، في أواخر عام تسعة وسبعمائة. وفي عام ثلاثة وعشرين ، ابتدأت القراءة على الأستاذ أبي عبد الله الطّرسوني وغيره ممن يأتي ذكره. ثم كتبت بعد ستة أعوام على من وليها من القضاة ، أولي العدالة والسّير المرتضاة ،

__________________

(١) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف ، أول سلاطين بني نصر بغرناطة ، حكم من سنة ٦٣٥ ه‍ إلى سنة ٦٧١ ه‍. اللمحة البدرية (ص ٤٢).

(٢) قارن بنفح الطيب (ج ١٠ ص ١٣٩).

٤٣٠

ولم يطل العهد حتى تقدّمت في جامعها الأعظم خطيبا وإماما ، وارتسمت في هذه الخطّة التي ما زالت على من أحسن تماما ، وذلك في أواخر عام ثمانية وثلاثين. ثم ولّيت القضاء بها ، وبما يرجع إليها من النّظر ، في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وأربعين ، واستمرّت الولاية إلى حين انتقالي للحضرة ، آخر رجب من عام ستة وخمسين ، أسأل الله الإقالة والصّفح عما اقترفت من خطإ أو زلل ، أو ارتكبته من عمد وسهو ، في قول أو عمل ، بمنّه.

وأمّا أشياخي ، فإني قرأت بالحضرة على الأستاذ الخطيب أبي الحسن القيجاطي ، والأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزي. وبمالقة على الأستاذ القاضي أبي عمرو بن منظور. وبألمريّة على الأستاذ القاضي أبي الحسن بن أبي العيش ، وسيّدي القاضي أبي البركات ابن الحاج ، والأستاذ أبي عثمان بن ليون ، وبوادي آش على الأستاذ القاضي أبي عبد الله بن غالب ، والأستاذ أبي عامر بن عبد العظيم. على كل هؤلاء قرأت قراءة تفقّه ، وعرضت على أكثرهم جملة كتب في النحو والفقه والأدب ، أكبرها كتاب المقامات للحريري ، وأمّا من لقيته من المشايخ واستفدت ، منهم أبو الحسن بن الجيّاب بالحضرة ، وبمالقة القاضي أبو عبد الله بن بكر ، والقاضي أبو عبد الله بن عيّاش ، والأستاذ أبو عبد الله بن حفيد الأمين. ومن لقيته لقاء بترك ، سيدي أبو جعفر بن الزيات ببلّش. وبمالقة الخطيب أبو عبد الله السّاحلي ، والصّوفي أبو الطاهر بن صفوان ، والمقرئ أبو القاسم بن درهم. وبألمرية الخطيب أبو القاسم بن شعيب ، والخطيب ابن فرحون. ولقيت أيضا القاضي أبا جعفر بن فركون القرشي ، والقاضي الخطيب أبا محمد بن الصايغ. وممن رأيته بوادي آش ، وأنا إذ ذاك في المكتب ، وأخذت بحظّ من التبرّك به ، سيدي أبو عبد الله الطّنجالي نفع الله به. والحمد لله ربّ العالمين.

شعره : من مطولاته قوله : ومن خطّه نقلت (١) : [الطويل]

ألا أيّها اللّيل البطيء الكواكب

متى ينجلي صبح بنيل المآرب؟

وحتى متى أرعى النجوم مراقبا

فمن طالع منها على إثر غارب (٢)

أحدّث نفسي أن أرى الرّكب سائرا

وذنبي يقصيني بأقصى المغارب

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٣٩ ـ ١٤١).

(٢) أخذه من قول ابن خفاجة : [الطويل]

وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا

فمن طالع ، أخرى الليالي ، وغارب

ديوان ابن خفاجة (ص ٤٣).

٤٣١

فلا فزت من نيل الأماني بطائل

ولا قمت في (١) حقّ الحبيب بواجب

وكم (٢) حدّثتني النفس أن أبلغ المنى

وكم علّلتني بالأماني الكواذب

وما قصّرت بي عن زيارة قبره

معاهد أنس من وصال الكواعب

ولا حبّ أوطان نبت بي ربوعها

ولا ذكر خلّ حلّ (٣) فيها وصاحب

ولكن ذنوب أثقلتني فها أنا

من الوجد قد ضاقت عليّ مذاهبي

إليك ، رسول الله ، شوقي مجدّدا (٤)

فيا ليتني يمّمت صدر الركائب

وأعملت (٥) في تلك الأباطح والرّبى

سراي مجدّا بين تلك السباسب (٦)

وقضيت من لثم البقيع لبانتي

وجبت الفلا ما بين ماش وراكب

وروّيت من ماء زمزم (٧) غلّتي

فلله ما أشهاه يوما لشارب!

حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي

أرجّي ومن يرجوه ليس بخائب

محمد المختار والحاشر الذي

بأحمد حاز الحمد (٨) من كل جانب

رؤوف رحيم خصّه (٩) الله باسمه

وأعظم لاج (١٠) في الثّناء وعاقب

رسول كريم رفّع الله قدره

وأعلى له قدرا رفيع الجوانب

وشرّفه أصلا وفرعا ومحتدا

يزاحم آفاق السّهى بالمناكب (١١)

سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا

وخير الورى الهادي الكريم المناسب

هو المصطفى المختار من آل هاشم

وذو الحسب العدل (١٢) الرفيع المناصب

هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي

ينال به مرغوبه كلّ راغب

إمام النّبيّين الكرام ، وإنه

لكالبدر فيهم بين تلك المواكب

بشير (١٣) نذير مفضل متطوّل

سراج منير بذّ نور الكواكب

__________________

(١) في الأصل : «من» والتصويب من النفح.

(٢) في النفح : «فكم».

(٣) كلمة «حلّ» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.

(٤) في الأصل : «مجدّد» والتصويب من النفح.

(٥) في النفح : «فأعلمت».

(٦) السباسب : جمع سبسب وهو الأرض الواسعة التي لا ماء فيها.

(٧) في النفح : «بزمزم».

(٨) في النفح : «المجد».

(٩) في النفح : «خصّنا».

(١٠) في النفح : «وأعظم بماح». والماحي والعاقب : من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك «الحاشر» في البيت السابق.

(١١) في النفح : «السما بالكواكب».

(١٢) في النفح : «العدّ».

(١٣) في النفح : «شريف».

٤٣٢

شريف منيف باهر الفضل كامل

نفيس المعالي والحلى والمناقب

عظيم المزايا ما له من تماثل (١)

كريم السّجايا ما له من مناسب

ملاذ منيع ملجأ عاصم لمن

يلوذ به من بين آت وذاهب

حليم (٢) جميل الخلق والخلق ما له

نظير ، ووصف الله حجّة غالب

وناهيك من فرع نمته أصوله

إلى خير مجد من لؤيّ بن غالب

أولي الحسب العدّ الرفيع جنابه

بدور الدّياجي أو بدور (٣) الركائب

له معجزات ما لها من معارض

وآيات صدق ما لها من مغالب

تحدّى (٤) بهنّ الخلق شرقا ومغربا

وما ذاك عمّن حاد عنها بغائب (٥)

فدونكها كالأنجم الزّهر (٦) عدّة

ونور سنا لا يختفي (٧) للمراقب

فإحصارها (٨) مهما تتبّعت معوز

وهل بعد نور الشمس نور لطالب؟

لقد شرّف الله الوجود بمرسل

له في مقام الرّسل أعلى المراتب

وشرّف شهرا فيه مولده الذي

جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب

فشهر ربيع في الشهور مقدّم

فلا غرو أنّ الفخر (٩) ضربة لازب (١٠)

فلله منه ليلة قد تلألأت

بنور شهاب نيّر (١١) الأفق ثاقب (١٢)

ليهن أمير المسلمين بها المنى

وأن نال من مولاه أسنى الرّغائب

على حين أحياها بذكر حبيبه

وذكر الكرام الطاهرين الأطايب

وألّف شملا للمحبّين فيهم

فسار على نهج من الرشد لاحب (١٣)

فسوف يجازى عن كريم صنيعه

بتخليد سلطان وحسن عواقب

وسوف يريه الله في لهم (١٤) دينه

غرائب صنع فوق كلّ الغرائب

فيحمي حمى الإسلام عمّن يرومه

بسمر العوالي أو ببيض القواضب (١٥)

__________________

(١) في النفح : «مماثل».

(٢) في النفح : «جليل».

(٣) في النفح : «أو صدور الكتائب».

(٤) في الأصل : «تهّدى» والتصويب من النفح.

(٥) في الأصل : «بعايب» والتصويب من النفح.

(٦) في النفح : «الشّهب».

(٧) في الأصل : «تختفي» والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «وإحصاؤها».

(٩) في الأصل : «للفخر» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى ، والتصويب من النفح.

(١٠) ضربة لازب : أي لازمة لا بدّ من حصولها.

(١١) في النفح : «بين».

(١٢) في النفح : «شاهب».

(١٣) اللاحب : الواسع الواضح.

(١٤) في النفح : «نصر».

(١٥) القواضب : السيوف القاطعة ، واحدها قاضب.

٤٣٣

ويعتزّ دين الله شرقا ومغربا

بما سوف يبقى ذكره في العجائب

إلهي ، ما لي بعد رحماك مطلب

أراه بعين الرّشد أسنى المطالب

سوى زورة القبر الشريف وإنها (١)

لموهبة فاتت (٢) جميع المواهب

عليه سلام الله ما لاح كوكب

وما فارق (٣) الأظعان حادي الرّكائب

وقال في غرض المدح والتّهنئة بعرض الجيش ، وتضمّن ذلك وصف حاله في انتقاله إلى الحضرة : [البسيط]

يا قاطع البيد يطوي السّهل والجبلا

ومنضيا في الفيافي الخيل والإبلا

يبكي بآفاق (٤) أرض لا يؤانسه (٥)

إلّا تذكّر عهد للحبيب خلا

أو ظبية أذكرت عهد التواصل تح

كي للّحاظ (٦) التي عاهدت والمقلا

أستغفر الله في تلك اللّحاظ فقد

أربى بها الحسن عن ضرب المها مثلا

أو هادل فوق غصن البان تحسبه

صبا لفقد حبيب بان قد ثكلا

أو لامع البرق إذ تحكي إنارته

كفّا خضيبا مشيرا بالذي عذلا

ما ذا عسى أن تقضّي من زمانك في

قطع المهامه ترجو أن تنال علا؟

وكم معالم أرض أو مجاهلها

قطعتها لا تملّ الرّيث والعجلا

إن كنت تأمل عزّا لا نظير له

وتبتغي السّؤل فيما شئت والأملا

فالعزّ مرسى بعيد لا ينال سوى

بعزم من شدّ عزم البين وارتحلا

والدّرّ في صدف قلّت نفاسته

ولم يبن فخره إلّا إذا انتقلا

فاربأ بنفسك عن أهل وعن وطن

 ................... (٧)

وانس الدّيار التي منها نأى وطني

وعهد أنس به قلب المحبّ سلا

وعدّ عن ذكر محبوب شغفت به

ولا تلمّ (٨) به مدحا ولا غزلا

واقصد إلى الحضرة العليا وحطّ بها

رحلا ولا تبغ عن أرجائها حولا

غرناطة لا عفا رسم بها أبدا

ولا سلا قلب من يبغي بها بدلا

__________________

(١) في النفح : «وإنه».

(٢) في النفح : «فاقت».

(٣) في النفح : «رافق».

(٤) في الأصل : «في آفاق» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٥) في الأصل : «يؤنسه» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الأصل : «اللحاظ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٧) بياض في الأصول.

(٨) في الأصل : «تلم» بسكون الميم ، وكذا ينكسر الوزن.

٤٣٤

فهي التي شرّف الله الأنام بمن

في مقعد الملك من حمرائها نزلا

خليفة الله مولانا وموئلنا

وخير من أمّن الأرجاء والسّبلا

محمد بن أبي الحجاج أفضل من

قد قام فينا بحقّ الله إذ عدلا

من آل نصر أولى الملك الذي بهرت

علاه كالشمس لمّا حلّت الحملا

هو الذي شرّف الله البلاد ومن

فيها بدولته إذ فاقت الدّولا

أقام عدلا ورفقا في رعيّته

وكان أرحم من آوى ومن كفلا

فهو المجار به من لا مجير له

لم يخش إحن الليالي فادحا جللا

إنّ المدائح طرّا لا تفي أبدا

ببعض ما قد تحلّا من نفيس علا

بالحزم والفهم والإقدام شيمته

والجود ممّا على أوصافه اشتملا

إن قال أجمل في قول وأبدعه

والفعل أجمل منه كلّما فعلا

يولي الجميل ويعطي عزّ نائله

من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا

من سائلي عن بني نصر فما أحد

منهم بأبلغ منهم كلّما سئلا

هم الذين إذا ما استمنحوا منحوا

أسنى العطاء (١) وأبدوا بعده الخجلا

هم الألى مهّدوا أرجاء أندلس

إذ حكّموا في الأعادي البيض والأملا

فإن تسل عنهم يوم الرّهان فلم

يعدل بأحدثهم في سنّه بطلا

من ذا يجاريهم في كل مكرمة

أيشبه البحر في تمثيله الوشلا؟

مولاي ، يا خير من للنّصر قد رفعت

راياته ولواء الفخر قد حملا

لله عيني لمّا أبصرتك وقد

أعددت بين يديك الخيل والخولا

وأنت في قبّة يسمو بها عمد

أقام منّا لأمر (٢) الدّين فاعتدلا

والجيش يعشى عيون الخلق منظره

لما اكتسى منك نور الحقّ مكتملا

لا غرو أنّ شعاع الشمس يشمل ما

أضحى عليه إذا ما لاح منسدلا

وراية النصر والتأييد خافقة

قد أسبل الله منها النّصر فانسدلا

والخيل قد كسيت أثواب زينتها

فمن براقعها قد ألبست حللا

ترى الحماة عليها يوم عرضهم

يمشون من فرط زهو مشية الخيلا

فمن رماة قسيّ العرب عدّتها

تحكي الأهلّة مهما نورها اكتملا

__________________

(١) في الأصل : «العطا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «دامر» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

٤٣٥

ومن كماة شداد البأس شأنهم

أن يعملوا البيض والخطّيّة الذّبلا

بسعدك انتظمت تلك الجيوش لأن

أسهمت في نظمها أسلافك الأولا

وخلّد الله ملكا أنت ناصره

ما عاقبت بكر من دهرنا الأصلا

لا زلت تزداد بي (١) نعمى مضاعفة

لتملأ الأرض منها السّهل والجبلا

ومن ذلك قوله : [البسيط]

يا عاذلي في الهوى ، أقصر عن العذل

وعن حديثي مع المحبوب لا تسل

فكيف أصغي إلى عذل العذول وقد

تقلّص القلب مني صائد المقل؟

تملّكته كما شاءت بنظرتها

فتّانة الطّرف والألحاظ تنهدل

معبرة عن نفيس الدّرّ فاضحة

بقدّها الغضّ الميّاس (٢) في الميل

من نور غرّتها شمس تروق سنى

تحتلّ منها محلّ الشمس في الحمل

يا حبّذا عهدنا والشّمل منتظم

بجانب الغور في أيّامنا الأول

أيام أعين هذا الدهر نائمة

عنّا وأحداثه منّا على وجل

وحبّذا أربع قد طال ما نظمت

عقد التّواصل في عيش بها خضل

قضيت منها أماني النّفس في دعة

من الزمان موفّى الأنس والجذل

سطا الغمام رباها كلّ منهمر

وكم سطتها دموعي كلّ منهمل

وجادها من سماء الجود صوب حيا

بالعارض الهطل ابن العارض الهطل

خليفة الله والماحي بسيرته

رسم الضّلال ومحيي واضح السّبل

محمد بن أبي الحجاج أفضل من

سارت أحاديث علياه سرى المثل

والباعث الجيش في سهل وفي جبل

حتى تغصّ نواحي السّهل والجبل

من آل نصر أولي الفخر الذين لهم

مزيّة أورثت من خاتم الرسل

مهما أردت غناء في الأمور به

شاهدت منه جميع الخلق في رجل

لن يستظلّ بعلياه أخو أمل

إلّا غدا تحت ظلّ منه منسدل

ولا استجار به من لا مجير له

إلّا كفاه انتياب الحادث الجلل

ينمى إلى معشر شاد الإله لهم

ملكا على سالف الأعصار لم يزل

بملكهم قد تحلّى الدهر فهو به

والله واليه لا يخشى من العطل

__________________

(١) في الأصل : «بها» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٢) في الأصل : «الميّاس» ، وكذا ينكسر الوزن ، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع.

٤٣٦

هم الألى نصروا أرجاء أندلس

بالمشرفيّات والخطيّة الذّبل

هم الألى مهّدوا دين الهدى فسمت

في الخلق ملّته العليا على الملل

من أمّهم صادي الآمال نال بهم

جودا كفيلا له بالمعل والنّهل

أو أمّهم ضاحيا أضحى يجرّر من

فضل النّوال ذيول الوشي والحلل

إنّ الفضائل أضحت لاسمه تبعا

كالنّعت والعطف (١) والتأكيد والبدل

مولاي ، خذها تروق السّامعين لها

بما أجادته من مدح ومن غزل

لكنني باعتبار عظم ملكك لم

أجد لعمري في مدحي ولم أطل

فإن خبرت كذاك الخلق أجمعهم

سيّان محتفل أو غير محتفل

لا زلت فخر ملوك الأرض كلّهم

تسمو بك الدولة العلياء (٢) على الدول

ودمت للدهر تطويه وتنشره

مبلّغا كلّما تبغي من الأمل

ومن ذلك ما نظمه لينقش في بعض المباني التي أنشأتها (٣) : [الطويل]

أنا مصنع قد فاق كل المصانع

فما منزل يزهى (٤) بمثل بدائعي

فرسمي ، إذا حقّقته واعتبرته (٥)

لكل المعاني ، جامع أيّ جامع

فقد جمع الله المحاسن كلّها

لديّ ، فيا لله إبداع صانع (٦)!

كما (٧) جمعت كلّ الفضائل في الذي

بسكناي قد وافاه أيمن طالع

وزير أمير المسلمين وحسبه

مزيّة فخر ما لها من مدافع

وذو القلم الأعلى الذي فعله لمن

يؤمّله مثل السّيوف القواطع

ومطلع آيات البيان لمبصر

كشمس الضّحى حلّت بأسنى المطالع

وإنسان عين الدهر قرّت لنا به

عيون وطابت منه ذكرى المسامع

هو ابن الخطيب السّيّد المنتمي إلى

كرام سموا ما بين كهل ويافع

لقد كنت لو لا عطفة من حنانه (٨)

أعدّ زمانا في الرّسوم البلاقع

__________________

(١) كلمة «والعطف» ساقطة في الأصل.

(٢) في الأصل : «العليا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٢٧١ ـ ٢٧٢) وفيها أن المباني أنشأها بغرناطة.

(٤) في الأصل : «زهى» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٥) في الأصل : «واعترته» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٦) في الكتيبة : «صانعي».

(٧) في الأصل : «ظلّ كما ...» ، وكذا لا يستقيم الوزن ، لذا حذفنا كلمة «ظلّ».

(٨) في الكتيبة : «جنابه».

٤٣٧

فصيّرني مغنى كريما ومربعا (١)

لشمل بأنس من حبيبي جامع

فها أنا ذو (٢) روض يروق نسيمه (٣)

كما رقّ طبعا ما له من منازع

وقد جمعتنا نسبة الطّبع عندما

وقعت لمرآه بأسنى المواقع

فأشبه إزهاري بطيب ثنائه

وفضل هوائي (٤) باعتدال الطبائع

فلا زلت معمورا به في مسرّة

معدّا لأفراح وسعد مطالع

ولا زال من قد حلّني أو يحلّني

موفّى الأماني من جميل الصّنائع

ودام لمولانا المؤيّد سعده

فمن نوره يبدو (٥) لنا كلّ ساطع

وفي التهنئة بإبلال من مرض : [البسيط]

الآن قد قامت الدّنيا على قدم

لما استقلّ رئيس السيف والقلم

والآن قد عادت الدنيا لبهجتها

مذ أنست برءه من طارق الألم

والآن قد عمت البشرى براحته

فلم تزل للورى من أعظم النعم

لا سيّما عند مثلي ممن اتّضحت

منه دلائل صدق غير متهم

فكيف لي وأيادي فضله ملكت

رقّي بما أجزلت من وافر القسم

وصيّرتني في أهلي وفي وطني

وبين أهل النّهى نارا على علم

وأحسبت أملي الأقصى لغايته

إذ صرت من جاهه المأمول في حرم

ما ذا (٦) عسى أن أوفّي من ثنائي أو

أنهي إلى مجده من فاضل الشّيم

ولو ملكت زمام الفضل طوع يدي

قصّرت في ضمن منثور ومنتظم

يهنيك بشرى قد استبشرت مذ وردت

بها لعمرك وهو البرّ في الضّيم

ومذ دعت هذه (٧) البشرى بتهنئة

فنحن أولى ومحض العهد والكرم

لا زلت للعزّة القعساء ممتطيا

مستصحبا لعلاء غير منصرم

ودمت بدر سنى تهدي إنارته

في حيث يعضل خطب أو يحار عم

ولا عدمت بفضل الله عافية

تستصحب النّعم المنهلّة الديم

__________________

(١) في المصدر نفسه : «ومرتعا».

(٢) كلمة «ذو» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الكتيبة.

(٣) في الكتيبة : «جماله».

(٤) في الأصل : «هواي» ، وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(٥) كلمة «يبدو» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الكتيبة.

(٦) في الأصل : «وما ذا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٧) في الأصل : «هذ».

٤٣٨

وليس لهذا العهد للرجل انتحال لغير الشّعر والكتابة. وغير هذا للشعر فراره ، فقلّ أن ينتهي الشّعر في الضّعة والاسترذال إلى ما دون هذا النّمط ، فهو بعير (١) ثان ، شعرا وشكلا وبلدا ، لطف الله به. وهو لهذا العهد ، على ما تقدّم من النكبة ، واتّصال السّخط من الدولة ، تغمّدنا الله وإياه بلطفه ، ولا نكص عنّا ظلّ عنايته وستره.

مولده : حسبما تقدّم من بسط حاله مما قيّده بخطّه في عام تسعة وسبعمائة.

عبد الرزّاق بن يوسف بن عبد الرزّاق الأشعري

من أهل قرية الأنجرون من إقليم غرناطة ، أبو محمد.

حاله : فقيه أديب كاتب سري ، موصوف بكرم نفس ، وحسن خلق. لقي أشياخا وأخذ عنهم.

شعره : [السريع]

يا منعما ما زال من أمّه

يرفل في السّابغ من أمّته (٢)

ويا حساما جرّدته العلا

فريع صرف الدهر من سكتته (٣)

عبدك قد ساءت هنا حاله

شوقا لمن خلّف من إخوته

شوقا يبثّ الجمر في قلبه

ويخلع السّهد (٤) على مقلته

فسكّن المؤلم من شوقه

وانسين (٥) المقلق من وحشته

وامنن عليه ببلوغ المنى

في علمكم من مقتضى بغيته

وهاكها نفثة ذي خجلة

تفهم ما يلقيه من نفثته

إذا شدا مدّاحكم ساجعا

يحسده الطيّار في نغمته

وفاته : سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، عن سنّ عالية.

__________________

(١) يريد أنه شاعر كبير وهنا يشبهه بشاعر آخر يلقب بالبعير.

(٢) في الأصل : «أميّته» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٣) في الأصل : «سكوته» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) في الأصل : «للسهد» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٥) في الأصل : «وانس» ، وكذا لا يستقيم الوزن.

٤٣٩

عبد الملك بن سعيد بن خلف العنسي (١)

من أهل قلعة يحصب (٢) من عمل إلبيرة.

حاله ونسبه : هو عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عينا من أعيان الأندلس ، مشارا إليه في البيت والرأي ، والجزالة والفضل. علقت به الآمال ، ورفعت إليه الممادح ، وحطّت لديه الرّحال. وكان من أولي الجلالة والنّباهة ، والطّلب والكتابة الحسنة ، والخطّ البارع. واشتمل على حظوة الأمير يحيى بن غانية اللّمتوني ، وكتب عنه. بلده قلعة بني سعيد ، فثقفها ، وجعل بها أكبر بنيه عبد الرحمن ضابطا لها وحارسا ، فحصّنها أبو مروان ومهدها بالعمارة ، فكانت في الفتنة مثابة وأمنا ، وحرزا له ولبنيه ، فانجلت الناس إليها من كل مكان. ولما قبض ابن غانية على القمط مرين وأصحابه النصارى عندما وصلوا لاستنجاز الوعد في الخروج عن جيّان ، وتحصّلوا بيده بإشارة عبد الملك بن سعيد ، حسبما ثبت في اسم الأمير يحيى ، ثقّفهم بالقلعة بيد ثقته المذكور وأمينه أبي مروان ، فتحصلوا في معقل حريز ، عند أمير وافر العقل ، سديد الرأي. ومات ابن غانية بغرناطة لأيام قلائل ، واختلف قومه ، فنظر أبو مروان لنفسه ، وعاهد القمط مرين ومن معه من الزعماء على عهود ، أخذها عليهم وعلى سلطانهم ، أن يكون تحت أمن وحفظ طول مدّته ، فأجريت القلعة في الأمن والحماية ، وكفّ أيدي التّعدّي مجرى ما لملك النّصري (٣) من البلاد ، فشمل أهلها الأمن ، واتسعت فيها العمارة ، وتنكبتها النّكبات ، وتحاشتها الغارات. ولم يزل أبو مروان بها إلى أن دخل في أمر الموحدين. ووصل هو وابنه إلى السيد أبي سعيد بغرناطة ، وحضر معه غزوة ألمريّة ، ثم دخل بجملته ، فكمل له الأمن ، وأقرّ على القلعة ، وأمر بسكنى غرناطة بولده. ثم وصل ثانية إلى مراكش صحبة السيد أبي سعيد ، ولقي من البرّ ولطف المكانة عادته ، واستكتب ابنه أحمد بن أبي مروان الخليفة في هذه الوجهة ، وانتظم في جملة الكتّاب والأصحاب.

__________________

(١) ترجمة عبد الملك بن سعيد في المغرب (ج ٢ ص ١٦١) ورايات المبرزين (ص ١٦٩) ونفح الطيب (ج ٣ ص ٩١ ، ٩٧) و (ج ٤ ص ١٦١) و (ج ٥ ص ٧٩).

(٢) قلعة يحصب : بالإسبانيةalcala la real ، أي القلعة الملكية ، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب أو القلعة السعدية ، أي قلعة بني سعيد. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٦٢).

(٣) النصري هنا النصراني ، والمراد : أن تنعم قلعة بني سعيد بالأمن كما تنعم بلاد النصارى.

٤٤٠