الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

فهنّئت بالفخر السّنيّ محلّه

وهنّئت بالمجد الرّفيع المجدّد

شهدت بما أوليتني من عوارف

وخوّلت من نعمى وأسديت من يد

وما حزت من مجد كريم نجاره

وما لك من مجد ورفعة محتد

لقد نبّأتني بالرّواح لعزّكم

مخايل إسعاد تروح وتغتدي (١)

تحدّثني نفسي وإنّي لصادق

بأن سوف تلقى كاملا كلّ مقصد

دليلي بهذا أنّك الماجد الذي

تسامى علوّا فوق كلّ ممجّد

ليفخر أولو الفخر المنيف بأنّكم

لهم علم أعلى ، به الكلّ مقتدي

إمام علوم معتلي القدر لم يزل

رداء المعالي والعوارف يرتدي (٢)

وقاض إذا الأحكام أشكل أمرها

جلا لي (٣) برأي الحقيقة مرشدي (٤)

إذا الحقّ أبدى نوره عند حكمه

رأيت له حدّ الحسام المهنّد

وإنّ جميع الخلق في الحقّ عنده

سواسية ما بين دان وسيّد

هنيّا لنا بل للقضاء وفضله

بقاض حليم في القضاء مسدّد

أمات به الرحمن كلّ ضلالة

وأحيا بما أولاه شرعة أحمد

وكائن تراه لا يزال ملازما

لأمر بعرف أو لزام بمسجد

وما زال قدما للحقيقة حاميا

وللشّرعة البيضاء يهدى ويهتدي

ويمنح أفضالا ويولي أياديا

وإحسانه للمعتفين بمرصد

يقيّد أحرارا بمنطق جوده

فما إن يني عن مطلق أو مقيّد

نعم إن يكن للفضل شخص فإنما

بشيمته الغرّاء في الفضل يبتدي

أيا ناثرا أسنى المعارف والغنا

ويا طارقا يطوي السّرى كلّ فدفد

ألا الق عصا التّسيار واعش لناره

تجد خير نار عندها خير موقد

ومن مقطوعاته قوله (٥) : [الطويل]

تبرّأت من حولي إليك وأيقنت

برحماك آمالي فصحّ (٦) يقيني

فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأي (٧)

وحسبي يقيني باليقين (٨) يقيني

__________________

(١) في الأصل : «وتغتد» بدون ياء.

(٢) في الأصل : «يرتد» بدون ياء.

(٣) في الأصل : «لها» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «مرشد» بدون ياء.

(٥) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٥٩) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٤٢).

(٦) في المصدرين : «أصحّ».

(٧) في النفح : «ملجأ».

(٨) في الكتيبة : «فاليقين».

٣٤١

ومن شعره لهذا العهد منقولا من خطّه ، قال مما نظمه فلان ، يعني نفسه في كتاب الشّفا ، نفع الله به : [الكامل]

سل بالعلى وسنى المعارف يبهر

هل زانها إلّا الأئمّة معشر؟

وهل المفاخر (١) غير ما شهدت به

آي الكتاب وخارتها الأعصر؟

هم ما هم شرفا ونيل مراتب

يوم القيام إذا يهول المحشر

ورثوا الهدى عن خير مبعوث به

فخرا هديّهم النعيم (٢) الأكبر

وعياض (٣) الأعلى قداحا في العلى

منهم وحوّله الفخار الأظهر

بشفائه (٤) تشفى الصدور وإنه

لرشاد نار بالشّهاب (٥) النّيّر

هو للتّوالف روح صورتها وقل

هو تاج مفرقها البهيّ الأنور

أفنت محاسنه المدائح مثل ما

لمعيده بعد الثناء الأعطر

وله اليد البيضاء في تأليفه

عند الجميع ففضلها لا ينكر

هو مورد الهيم العطاش هفت

بهم أشواقهم فاعتاض منه المصدر

فبه ننال من الرضى ما نبتغي

وبكونه فينا نغاث ونمطر

انظر إليه تميمة من كل ما

تخشى من الخطب المهول وتحذر

لكأنّني بك يا عياض مهنأ

بالفوز والملأ العليّ مبشّر

لكأنّني بك يا عياض منعّما

بجوار أحمد يعتلي بك مظهر

لكأنّني بك يا عياض متوّجا

تاج الكرامة عند ربّك تخبر

لكأنّني بك راويا من حوضه

إذ لا صدى ترويه إلّا الكوثر

فعلى محبّته طويت ضمائرا

وضحت شواهدها بكتبك تؤثر

ها إنّهن لشرعة الهادي الرّضا

صدف يصان بهن منها جوهر

فجزاك ربّ العالمين تحية

يهب النعيم سريرها والمنبر

وسقى هزيم الودق مضجعك الذي

ما زال بالرّحمى يؤمّ ويعمر

__________________

(١) في الأصل : «للمفاخر» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «هديهم للنعيم» وهكذا ينكسر الوزن. والهديّ : ما أهدي إلى الحرم من النّعم.

(٣) هو الفقيه عياض بن موسى اليحصبي السبتي (٤٧٦ ـ ٥٤٤ ه‍). وسوف يترجم له ابن الخطيب فيما بعد في الإحاطة. ويبدو أن القصيدة في مدح القاضي عياض والتنويه بكتابه «الشفا».

(٤) يشير إلى كتاب القاضي عياض وهو «الشفا بتعريف حقوق المصطفى».

(٥) في الأصل : «به الشهاب» وهكذا ينكسر الوزن.

٣٤٢

وقال في محمل الكتب : [الطويل]

أنا الحبر في حمل العلوم وإن تقل

بأني حليّ عن حلاهنّ تعدل

أقيّد ضروب العلم ما دمت قائما

وإن لم أقم فالعلم عنّي بمعزل

خدمت بتقوى الله خير خليفة

فبوّأني من قربه خير منزل

أبا سالم لا زال في الدهر سالما

يسوّغ من شرب المنى كلّ منهل

وكان قد رأى ليلة الاثنين الثانية لجمادى الأولى عام ستين وسبعمائة في النوم ، كأنّ الوزير أبا علي بن عمر بن يخلف بن عمران الفدودي ، يأمره أن يجيب عن كلام من كتب إليه ، فأجاب عنه بأبيات نظمها في النوم ، ولم يحفظ منها غير هذين البيتين : [المتقارب]

وإني لأجزي بما قد أتاه

صديقي احتمالا لفعل الحفاء (١)

بتمكين ودّ وإثبات عهد

وإجزال حمد وبذل حياء

ومن نظمه في التورية (٢) : [الخفيف]

وبخيل لمّا دعوه لسكنى

منزل بالجنان ضنّ بذلك

قال لي مخزن بداري فيه

جلّ (٣) مالي فلست للدار تارك (٤)

لا تعرّج على الجنان بسكنى

ولتكن ساكنا بمخزن مالك (٥)

ومن ذلك أيضا (٦) : [الكامل]

يا ربّ منشأة عجبت لشأنها

وقد احتوت في البحر أعجب شان

سكنت بجنبيها (٧) عصابة شدّة

حلّت محلّ الروح في الجثمان

فتحرّكت بإرادة مع أنها

في جنسها (٨) ليست من الحيوان

__________________

(١) في الأصل : «الحرفاء» وهو لا معنى لها ، وكذلك ينكسر الوزن. والحفاء : البرّ.

(٢) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٤٥).

(٣) في النفح : «كلّ».

(٤) في الأصل : «شاك» وهكذا بدون معنى ، وكذلك ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٥) تورية بجهنّم ؛ لأن اسم خازنها من الملائكة مالك.

(٦) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٢٥٨) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٤٥). وقد قيلت في وصف مركب أو سفينة.

(٧) في الأصل : «بجنبها» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٨) في الأصل : «حسنها» والتصويب من المصدرين.

٣٤٣

وجرت كما قد شاءه (١) سكّانها

فعلمت أنّ السّر في السّكان (٢)

ومن ذلك أيضا قوله (٣) : [الوافر]

وذي خدع دعوه لاشتغال

وما عرفوه غثّا من سمين

فأظهر (٤) زهده وغنى بمال

وجيش الحرص منه في كمين

وأقسم لا فعلت (٥) يمين (٦) خبّ

فيا عجبا لحلاف (٧) مهين

يقدّ بسيره ويمين حلف (٨)

ليأكل باليسار وباليمين

شيء من نثره

خاطبته من مدينة سلا بما نصه ، حسبما يظهر من غرضه : [الطويل]

مرضت فأيّامي لذاك مريضة

وبرؤك مقرون ببرئي اعتلالها

فما راع ذاك الذّات للضّرّ رائع

ولا وسمت بالسّقم غرّ خلالها

وينظر باقي الرسالة في خبر التّعريف بمؤلّف الكتاب.

فراجعني عن ذلك بما نصّه : [الطويل]

متى شئت ألقى من علائك كل ما

ينيل من الآمال خير منالها

كبر اعتلال من دعائك زارني

وعادات برّ لم ترم عن وصالها

أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطوّلا بتأكيد البرّ ، متفضّلا بموجبات الحمد والشكر. وردتني سمات سيدي المشتملة على معهود تشريفه ، وفضله الغنيّ عن تعريفه ، متحفّيا في السؤال عن شرح الحال ، ومعلنا ما تحلّى به من كرم الخلال ، والشّرف العال ، والمعظّم على ما يسرّ ذلك الجلال ، الوزاري ، الرئاسي ، أجراه الله على أفضل ما عوّده ، كما أعلى في كل مكرمة يده ، ذلك ببركة دعائه الصالح ، وحبّه

__________________

(١) في الأصل : «شاء» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٢) أخذه من المثل : «الشأن في السكان لا في المكان». وهنا يورّي بكلمة «السكان» التي تعني أيضا الخشبة التي تدار بها السفينة ، أي دفّة السفينة.

(٣) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٤٥٨) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٤٦).

(٤) في الكتيبة : «فيظهر».

(٥) في الكتيبة : «قبلت».

(٦) في الأصل : «بمن خبّ» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين. والخبّ : الخدّاع.

(٧) في الأصل : «لخلاف» ، والتصويب من المصدرين.

(٨) في المصدرين : «يغرّ بيسره ويمين حنث».

٣٤٤

المخيّم بين الجوانح. والله سبحانه المحمود على نعمه ، ومواهب لطفه وكرمه ، وهو سبحانه المسؤول أن يسنى لسيدي قرار الخاطر ، على ما يسرّه في الباطن والظاهر ، بمنّ الله وفضله ، والسلام على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته. كتبه المعظّم الشاكر ، الداعي المحبّ ، ابن رضوان وفّقه الله.

ومما خاطبني به ، وقد جرت بيني وبين المتغلب على دولتهم ، رقاع ، فيها سلم وإيقاع ، ما نصه :

يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا ، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا ، وسما فخره في المراتب الدينيّة والدنيوية حمدا وأجرا ، أبقاك الله جميل السّعي ، أصيل الرأي ، سديد الرمي ، رشيد الأمر والنّهي ، ممدوحا من بلغاء زمانك ، بما يقصر بالنّوابغ والعشي ، مفتوحا لك باب القبول ، عند الواحد الحقّ. وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية ، وللإحسان غاية ، ولشاهد الحسن تبريز ، ولثوب الأدب تطريز ، وفي النّقد إبريز ، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجائبه ، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه ، من كل أسلوب طار في الجو إعرابا وإغرابا ، وملك من سحر البيان خطابا ، وحمد ثناه مطالا وحديثا مطابا ، شأن من قصر عن شأو البلغاء ، بعد الإغياء ، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء ، فلم يشقّ غباره ، ولا اقتفيت إلّا بالوهم آثاره ، فلله من سيدي إتحاف سرّ ما شاء ، وأحكم الإنشاء ، وبرّ الأكابر والإنشاء ، فما شئت من إفصاح وكتابة ، وبرّ ورعاية ، وفهم وإفهام ، وتخصيص وإبهام ، وكبح لطرف النّفس وقمع ، وحفض في الجواب ورفع ، وتحرّج وتورّع ، وترقّص وتوسّع ، وجماع وأصحاب ، وعتب وإعتاب ، وإدلال على أحباب ، إلى غير ذلك من أنواع الأغراض ، والمقاصد السّالمة جواهرها من الأعراض ، جملة جمعت المحاسن ، وأمتعت السامع والمعاين ، وحلّت من امتناعها مع السهولة الحرم ، إلّا من زاد الله تلك المعارف ظهورا ، وجعلها في شرع المكارم هدى ونورا. وأما شكر الجناب الوزاري ، أسماه الله ، بحكم النّيابة عن جلالكم ، فقد أبلغت فيه حمدي ، وبذلت ما عندي ، وودّي لكم ودي ، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي ، وكل حالات ذلك الكمال ، مجمع على تفضيله ، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله. وأما مؤدّيه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم ، قاضي الحضرة وخطيبها ، أبو الحسن ، أدام الله عزّته ، وحفظ أخوّته ، فقد قرّر من أوصاف كمالاتكم ، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولي العلم بتلك السّجايا الغرّ ، والشّيم الزّهر ، وما تحلّيتم به من التقوى والبرّ ، والعدل والفضل ، والصبر والشكر ، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد ، وترك الملاذ والدّعة في مرضاة

٣٤٥

ربّ العباد ، والإعراض عن الفانية ، والإقبال على الباقية ، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها ، وأجزلت عوارفها ، وجمعت لكم تالدها وطارفها ، زكّى الله ثوابها وجدّد أثوابها ، ووصل بالقبول أسبابها. وذكر لي أيضا من حسناتكم ، المنقبة الكبيرة ، والقربة الأثيرة ، في إقامة المارستان (١) بالحضرة ، والتّسبّب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة ، التي هي من مهمّات المسلمين بالمحلّ الأعلى ، ومن ضروريات الدين بالمزيّة الفضلى ، وما ذخره القدر لكم من الأجر في ذلك السعي المشكور ، والعمل المبرور ، فسرّني لتلك المجادة إحراز ذلك الفضل العظيم ، والفوز بثوابه الكريم ، وفخره العميم. ومعلوم ، أبقاكم الله ، ما تقدّم من ضياع الغرباء والضعفاء من المضي فيما سلف هنالك ، وقبل ما قدّر لهم من المرتفق العظيم وبذلك ، حتى أن من حفظ قول عمر ، رضي الله عنه ، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات لخفت أن يسأل الله عنها عمر. لا شك في أن من تقدّم من أهل الأمر هنالكم ، لا بدّ من سؤاله عمّن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل. والحمد لله على ما خصّكم به من مزية قوله صلى الله عليه وسلم : إذا أراد الله بخليفة خيرا ، جعل له وزيرا صالحا ، إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه.

وأما «كتاب المحبة» (٢) ، فقد وقف المعظّم على ما وجّهتهم منه ، وقوفا ظهر بمزية التّأمل ، وعلم منه ما ترك للآخر الأول ، ولم يشكّ في أنّ الفضل للحاكي ، وشتّان بين الباكي والمتباكي. حقّا لقد فاق التأليف جمعا وترتيبا ، وذهب في الطّرق الصوفية مذهبا عجيبا. ولقد بهرت معانيه كالعرائس المجلوّة حسنا ونضارة ، وبرعت بدائعه وروائعه سنى وإنارة ، وألفاظا مختارة ، وكؤوسا مدارة ، وغيوثا من البركات مدرارة ، أحسن بما أدّته تلك الغرر السّافرة ، والأمثال السائرة ، والخمائل النّاظرة ، واللآلئ المفاخرة ، والنجوم الزّاهرة. أما إنه لكتاب تضمّن زبدة العلوم ، وثمرة الفهوم ، وإن موضوعه للباب اللّباب ، وخلاصة الألباب ، وفذلكة الحساب ، وفتح الملك الوهّاب ، سنى الله لكم ولنا كماله ، وبلّغ الجميع منّا آماله ، وجعل السّعي فيه

__________________

(١) هو المارستان الكبير الذي أقامه ابن الخطيب بالحاضرة غرناطة في أثناء توليه الوزارة في عهد الغني بالله السلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري. وقد تحدّث عنه ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة عند ترجمة الغني بالله في عنوان : «بعض مناقب الدولة لهذا العهد».

(٢) «كتاب المحبة» لابن الخطيب ، وله اسم آخر هو «روضة التعريف بالحب الشريف».

٣٤٦

خالصا لوجهه ، وكفيلا بمعرفته بمنّه وكرمه ، وهو سبحانه يبقي بركتكم ، ويكلأ ذاتكم الكريمة وحوزتكم ، بفضله وطوله وقوته ، والسلام الكريم يخصّكم به كثيرا أثيرا ، معظّم مقداركم ، وملتزم إجلالكم وإكباركم ، ابن رضوان ، وفّقه الله ، وكتب في الثامن والعشرين لرجب من عام سبعة وستين وسبعمائة.

وهو الآن بحاله الموصوفة ، أعانه الله. وله تردّد إلى حضرة غرناطة ، واجتياز وإلمام.

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد

ابن خلف بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن

ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر

غرناطي ، قلعي (١) الأصل ، سكن مالقة.

حاله : قال صاحب «الطالع» (٢) : هو المشهور باليربطول (٣) ، زاد على أخيه بخفّة الروح ، وطيب النوادر ، واختار سكنى مالقة ، فما زال بها يمشي على كواهل ما تعاقب فيها من الدول ، ويقلّب طرفه مما نال من ولاياتها بين الخيل والخول ، حتى أنّ ابن عسكر ، قاضي مالقة وعالمها ، كان من جملة من مدحه ، وتوسّل بها إلى بلوغ أغراضه عند القوم ، وصنّف له شجرة الأنساب السّعيدية. وكان قبيح المنظر ، مع كونه من رياحين الفضل والأدب. فمن الحكايات المتعلقة بذلك ، أنه دخل يوما على الوالي بغرناطة ، السّيد أبي إبراهيم (٤) ، وجعل يساره ، وكان مختصّا به ، واقتضى ذلك أن ردّ ظهره للشيخ الفقيه الجليل ، عميد البلدة ، أبي الحسن سهل بن مالك ، ثم التفت فردّ وجهه إليه ، وقال : أعتذر لكم بأمر ضروري ، فقال أبو الحسن : إنما تعتذر لسيّدنا ، فانقلب المجلس ضحكا. ومنها أنه خرج إلى سوق الدواب مع ابن يحيى الحضرمي

__________________

(١) نسبة إلى قلعة يحصب alcala la real أي القلعة الملكية ، ويحصب قبيلة ، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب ، أو القلعة السعدية ، أي قلعة بني سعيد. وهي إحدى مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٦٢).

(٢) هو كتاب «الطالع السعيد ، في تاريخ بني سعيد» لابن سعيد الأندلسي ، صاحب كتابي المغرب ورايات المبرزين.

(٣) أغلب الظن أنها كلمة إسبانية.

(٤) هو السيد أبو إبراهيم ابن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الموحدي. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٣٨٧).

٣٤٧

المشهور أيضا بخفّة الروح ، وكان مسلّطا على بني سعيد ، فبينما هو واقف ، إذ النخّاس ينادي على فرس : فم يشرب من القادوس ، وعين تحصد بالمنجل ، فقال له : يا قائد ، أبا محمد ، سر بنا من هنا لئلّا تؤخذ من يدي ، ولا أقدر لك بحيلة ، فعلم مقصده ، ولم يخف عليه أنّ تلك صورته ، فقال : سل جارتك عنها ، فمضى لأمّه ، وأوقع بينها وبينه ، فحلف أن لا يدخل عليها الدار. قال أبو عمران بن سعيد : واتفق أن جزت بدار أمّ الحضرمي ، فرأيته إلى ناحية ، وهو كئيب منكسر ، فقلت له : ما خبرك يا أبا يحيى؟ فقال لي عن أمّه وعن نفسه : النساء يرمين أبناء الزّنا صغارا ، وهذه العجوز الفاعلة الصّانعة ، ترميني ابن خمسين سنة ، فقلت له : وما سبب ذلك؟ فقال : ابن عمّك يوسف الجمال ، لا أخذ الله له بيد ، فما زلت حتى أصلحت بينها وبينه.

ومن نوادر أجوبته المسكتة ، أنّه كان كثير الخلطة بمرّاكش لأحد السّادة ، لا يفارقه ، إلى أن ولي ذلك السّيد ، وتموّل ، واشتغل بدنياه عنه ، فقيل له : نرى السيد فلانا أضرب عن صحبتك ومنادمتك ، فقال : كان يحتاج إليّ وقتا كان يتبخّر بي ، وأمّا اليوم ، فإنه يتبخّر بالعود والنّدّ والعنبر. وقال له شخص كان يلقّب ب «فسيوات» في مجلس خاص : أي فائدة في «اليربطول»؟ وفيم ذا يحتاج إليه؟ فقال له : لا تقل هذا ، فإنه يقطع رائحة الفسا ، فودّ أنه لم ينطق. وتكلّم شخص من المترفين فقال : أمس بعنا الباذنجان التي بدار خالتي ، بعشرين مثقالا ، فقال : لو بعتم الكريز التي فيها لساوى أكثر من مائة.

وأخباره شهيرة ؛ قال أبو الحسن علي بن موسى : وقعت في رسائل الكاتب الجليل ، شيخ الكتاب أبي زيد الفازازي ، على رسائل في حق أبي محمد اليربطول ، ومنه إليه ، فمنها في رسالة عن السّيد أبي العلاء ، صاحب قرطبة ، إلى أخيه أبي موسى صاحب مالقة ، ويصلكم به إن شاء الله ، القائد الأجلّ الأكرم ، الحسيب الأمجد الأنجد ، أبو محمد أدام الله كرامته ، وكتب سلامته ، وهو الأكيد الحرمة ، القديم الخدمة ، المرعي الماتّة والذّمّة ، المستحق البرّ في وجوه كثيرة ، ولمعان أثيرة ، منها أنه من عقب عمّار بن ياسر ، رضوان الله عليه ، وحسبكم هذا مجدا مؤثّلا ، وشرفا موصلا ، ومنها تعيّن بيته وسلفه ، واختصاصهم من النّجابة والظهور ، بأنوه الاسم وأشرفه ، وكونهم بين معتكف على مضجعه ، أو مجاهد بمرهفه ومثقّفه ، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز ، وتميّزهم بأثرة الشّفوف والتّمييز ، ومنها الانقطاع إلى أخيكم ، ممدّ مورده ومصدره ، وكرم مغيبه ومحضره ، وهذه وسائل شتى ، وأذمّة قلّ ما تتأتّى لغيره.

٣٤٨

وفاته : كانت وفاته بمالقة بعد عشرين وستمائة ؛ قال الرئيس أبو عمر بن حكم : شاهدته قد وصل إلى السيد أبي محمد البيّاسي (١) أيام ثورته ، وهو بشنتلية (٢) مع وفد مالقة بالبيعة سنة ثنتين وعشرين وستمائة.

ومن الصوفية والفقراء

عبد الله بن عبد البر بن سليمان بن محمد بن محمد

ابن أشعث الرّعيني (٣)

من (٤) أهل أرجدونة (٥) من كورة ريّه ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن أبي المجد.

حاله : كان (٦) من أعلام الكور (٧) سلفا ، وترتّبا ، وصلاحا ، وإنابة ، ونيّة في الصالحين ، متّسع الذّرع للوارد ، كثير الإيثار بما تيسّر ، مليح التخلّق ، حسن السّمت ، طيّب النفس ، حسن الظنّ ، له حظّ من الطّلب ، من فقه وقراءات وفريضة ، وخوض في طريقة الصوفية ، وأدب لا بأس به ، قطع عمره خطيبا وقاضيا ببلده ، ووزيرا ، وكتب بالدار السلطانية ، في كل ذلك لم يفارق السّداد.

مشيخته : قرأ (٨) على الأستاذ الجليل أبي جعفر بن الزّبير ؛ رحل إليه من وطنه عام اثنين وتسعين وستمائة ، ولازمه وانتفع به ، أخذ عنه الكتاب العزيز والعربية ، وسمع عليه الكثير من الحديث ، وعلى الخطيب الصوفي المحقّق أبي الحسن فضل بن محمد بن فضيلة المعافري ، وعلى الخطيب المحدّث أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد ، وسمع على الشيخ القاضي الرّاوية أبي محمد النّبعدي ، والوزير المعمر

__________________

(١) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن ، عرف بالبياسي نسبة إلى بياسة التي استولى عليها. ولّاه العادل الموحدي قرطبة ، فخلع دعوة العادل في سنة ٦٢٣ ه‍ ، وخرج عن طاعة الموحدين ، واستعان بالنصارى عليهم ، فقام أهل قرطبة عليه وقتلوه وبعثوا برأسه إلى العادل بمراكش. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٧١ ـ ٢٧٣).

(٢) شنتلية أو شنت ياله : حصن قريب من حصن بلاي ، يبعد عن قرطبة ٢٣ ميلا ، ويقع غربي مدينة استجة ويبعد عنها ١٥ ميلا. نزهة المشتاق (ص ٥٧٢).

(٣) ترجمة الرعيني في الكتيبة الكامنة (ص ٥٢) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣٢) وهو فيه : «عبد الله بن عبد البرّ بن علي بن سليمان بن محمد بن أشعب الرعيني».

(٤) قارن بنفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣٢).

(٥) أرجدونه أو أرشذونة : بالإسبانيةarchidona وهي قاعدة كورة ريّه ، تقع قبليّ قرطبة. الروض المعطار (ص ٢٥).

(٦) قارن بنفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣٢).

(٧) في النفح : «الكورة».

(٨) قارن بنفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣٢).

٣٤٩

المحدّث الحسيب أبي محمد عبد المنعم بن سماك العاملي ، والعدل الرّاوية أبي الحسن بن مستقور. وقرأ بمالقة على الأستاذ أبي بكر بن الفخّار ، وأجازه من أهل المشرق طائفة.

شعره : ممّا حدّثني ابن أخته صاحبنا أبو عثمان بن سعيد ، قال : نظم الفقيه القاضي الكاتب أبو بكر بن شبرين ببيت الكتّاب مألف الجملة ، رحمهم الله ، هذين البيتين (١) : [الطويل]

ألا يا محبّ المصطفى ، زد صبابة

وضمّخ لسان الذّكر منه بطيبه

ولا تعبأن بالمبطلين فإنما

علامة حبّ الله حبّ حبيبه

فأخذ الأصحاب في تذييل ذلك. فقال الشيخ أبو الحسن بن الجيّاب ، رحمه الله (٢) : [الطويل]

فمن يعمر الأوقات طرّا بذكره

فليس نصيب في الهدى كنصيبه

ومن كان عنه معرضا طول دهره (٣)

فكيف يرجّيه شفيع ذنوبه؟

وقال أبو القاسم بن أبي القاسم بن أبي العافية (٤) : [الطويل]

أليس الذي جلّى دجى الجهل هديه

بنور أقمنا بعده نهتدي به؟

ومن لم يكن من دأبه (٥) شكر منعم

فمشهده (٦) في الناس مثل مغيبه

وقال أبو بكر بن أرقم (٧) : [الطويل]

نبيّ هدانا من ضلال وحيرة

إلى مرتقى سامي المحلّ خصيبه

فهل يذكر (٨) الملهوف فضل مجيره

ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه؟

وانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد بن أبي المجد ، فقال ، رحمه الله ، مذيّلا كذلك (٩) : [الطويل]

ومن قال مغرورا : حجابك ذكره

فذلك مغمور طريد عيوبه

وذكر رسول الله فرض مؤكّد

وكلّ محقّ قائل بوجوبه

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣٠).

(٢) البيتان في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣١).

(٣) في النفح : «عمره».

(٤) البيتان في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣١).

(٥) في النفح : «من ذاته».

(٦) المراد ب «مشهده» : شهوده ، أي حضوره.

(٧) البيتان في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣١).

(٨) في النفح : «ينكر».

(٩) البيتان في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣١).

٣٥٠

وقال يوما شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب هذين البيتين على عادة الأدباء في اختبار الأذهان (١) : [الخفيف]

جاهد النّفس جاهدا فإذا ما

فنيت عنك فهي عين الوجود

وليكن حكمك (٢) المسدّد فيها

حكم سعد (٣) في قتله لليهود

قال : فأجابه أبو محمد بن أبي المجد (٤) : [الخفيف]

أيها العارف المعبّر ذوقا

عن معان غزيرة في الوجود

إنّ حال الفناء (٥) عن كلّ غير

كمقام (٦) المراد غير المريد

كيف لي بالجهاد غير معان

وعدويّ (٧) مظاهر بجنود؟

ولو أنّي حكمت فيمن ذكرتم

حكم سعد لكنت جدّ سعيد

فأراها صبابة (٨) بي فتونا

وأراني في حبّها كيزيد

سوف أسلو بحبكم (٩) عن سواها

ولو أبدت فعل المحبّ الودود

ليس شيء سوى إلهك يبقى

واعتبر صدق ذا بقول لبيد (١٠)

وفاته : توفي ، رحمه الله ، ليلة النصف من شعبان المكرم عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. وكان يجمع الفقراء ويحضر طائفتهم ، وتظهر عليه حال لا يتمالك معها ، وربما أوحشت من لا يعرفه بها.

عبد الله بن فارس بن زيان

من بني عبد الوادي ، تلمساني ، يكنى أبا محمد ، وينتمي إلى بني زيّان من بيت أمرائهم.

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣١).

(٢) في النفح : «حكمها».

(٣) هو سعد بن معاذ ، سيّد الأنصار ، حكّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في يهود بني قريظة.

(٤) الأبيات في نفح الطيب (ج ٧ ص ٤٣١ ـ ٤٣٢).

(٥) في الأصل : «الفنا» وكذا لا يستقيم الوزن ، والتصويب من النفح.

(٦) في الأصل : «لمقام» والتصويب من النفح.

(٧) في الأصل : «وعدوّه» ، والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «حبابة».

(٩) في النفح : «بنصحكم عن هواها».

(١٠) يشير إلى قول لبيد بن ربيعة العامري : [الطويل]

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم ، لا محالة ، زائل

ديوان لبيد بن ربيعة العامري (ص ١٣٢).

٣٥١

كذا نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الطاهر ... (١) قاضي الجماعة أبي جعفر بن فركون ، وله بأحواله عناية ، وله إليه تردّد كثير وزيارة. قال : ورد الأندلس مع أبيه ، وهو طفل صغير ، واستقرّ بقتّورية في ديوان غزانها. ولما توفي أبوه سلك مسلكه برهة ، ورفض ذلك ، وجعل يتردّد بين الولد ، وانقطع لشأنه.

حاله : هذا الرجل غريب النّزعة في الانقطاع عن الخلق ، ينقطع ببعض جبال بني مشرف ، واتخذ فيها كهوفا وبيوتا من الشّعر أزيد من أربعين عاما ، وهلمّ جرّا ، منفردا ، لا يداخل أحدا ، ولا يلابسه من العرب ، ويجعل الحلفاء في عنقه ... (٢) اختلف فيه ، فمن ناسب ذلك إلى التّلبيس وإلى لوثة تأتيه ، وربما أثاب بشيء ، ويطلبون دعاءه ومكالمته ، فربما أفهم ، وربما أبهم.

محنته : ذكروا أنه ورث عن أخ له مالا غنيّا ، وقدم مالقة ، وقد سرق تاجر بها ذهبا عينا ، فاتّهم بها ، فجرت عليه محنة كبيرة من الضّرب الوجيع ، ثم ظهرت براءته ، وطلب الحاكم الجائر منه العفو ، فعفا عنه ، وقال : لله عندي حقوق وذنوب ، لعلّ بهذا أكفّرها ، وصرف عليه المال فأباه ، وقال : لا حاجة لي به فهو مال سوء ، وتركه وانصرف ، وكان من أمر انقطاعه ما ذكر.

شيء من أخباره : استفاض عنه بالجهة المذكورة شفاء المرضى ، وتفريج الكربات ... (٣) ، إلى غير ذلك من أخبار لا تحصى كثيرة. وهو إلى هذا العهد بحاله الموصوفة ، وهو عام سبعين وسبعمائة.

مولده : بتلمسان عام تسعين وستمائة. ودخل غرناطة غير ما مرة.

عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي (٤)

يعرف بابن العسّال ، ويكنى أبا محمد ، طليطلي الأصل. سكن غرناطة واستوطنها ، الصالح المقصود التّربة ، المبرور البقعة ، المفزع لأهل المدينة عند الشّدة.

__________________

(١) بياض في الأصول.

(٢) بياض في الأصول.

(٣) بياض في الأصول.

(٤) ترجمة ابن العسال في الصلة (ص ٤٣٥) والمغرب (ج ٢ ص ٢١) ورايات المبرزين (ص ١٤٠) وفيهما : «أبو محمد عبد الله العسال». ومعجم السفر (ص ٢٢٣) وفيه أنه : «عبد الله بن محمد بن أحمد الطليطلي الواعظ ، المعروف بابن العسال» ونفح الطيب (ج ٤ ص ١٨٣ ، ٢٠٠) و (ج ٦ ص ١٢١).

٣٥٢

حاله : قال ابن الصّيرفي : كان ، رحمه الله ، فذّا في وقته ، غريب الجود ، طرفا في الخير والزهد والورع ، له في كل جو متنفّس ، يضرب في كل علم بسهم ، وله في الوعظ تواليف كبيرة ، وأشعاره في الزهد مشهورة ، جارية على ألسنة الناس ، أكثرها كالأمثال جيّدة الرّصعة ، صحيحة المباني والمعاني. وكان يحلّق في الفقه ، ويجلس للوعظ. وقال الغافقي (١) : كان فقيها جليلا ، زاهدا ، متفنّنا ، فصيحا لسنا ، الأغلب عليه حفظ الحديث والآداب والنحو ، حافظا ، عارفا بالتفسير ، شاعرا مطبوعا. كان له مجلس ، يقرأ عليه فيه الحفظ والتفسير ، ويتكلّم عليه ، ويقصّ (٢) من حفظه أحاديث. وألّف في أنواع من العلوم ، وكان يعظ الناس بجامع غرناطة ، غريبا في قوته ، فذّا في دهره ، عزيز الوجود.

مشيخته : روى (٣) عن أبي محمد مكّي بن أبي طالب ، وأبي عمرو المقرئ الدّاني ، وأبي عمر بن عبد البرّ ، وأبي إسحاق إبراهيم بن مسعود الإلبيري الزاهد ، وعن أبيه فرج ، وعن أبي زيد الحشاء القاضي ، وعن القاضي أبي الوليد الباجي.

شعره : وشعره كثير ، ومن أمثل ما روي منه قوله : [مخلع البسيط]

لست وجيها لدى إلهي

في مبدإ الأمر والمعاد

لو كنت وجها (٤) لما براني

في عالم الكون والفساد

وفاته : توفي ، رحمه الله ، يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان عام سبعة وثمانين وأربعمائة ، وألحد ضحى يوم الثلاثاء بعده بمقبرة باب إلبيرة بين الجبانتين. ويعرف المكان إلى الآن بمقبرة العسّال. وكان له يوم مشهود ، وقد نيّف على الثمانين ، رحمه الله ، ونفع به.

ومن الملوك والأمراء والأعيان والوزراء

عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله [بن محمد](٥)

ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن

ابن معاوية ، أمير المؤمنين ، الناصر لدين الله (٦)

الخليفة الممتّع ، المجدود ، المظفّر ، البعيد الذكر ، الشهير الصيت.

__________________

(١) قارن بالصلة (ص ٤٣٥).

(٢) في الصلة «وينصّ».

(٣) قارن بالصلة (ص ٤٣٥).

(٤) في الأصل : «وجيها» وهكذا ينكسر الوزن.

(٥) ما بين قوسين ساقط في الأصول ، وقد أضفناه من المصادر التي ترجمت لعبد الرحمن الناصر.

(٦) ترجمة عبد الرحمن الناصر في تاريخ علماء الأندلس (ص ٣١) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ـ

٣٥٣

حاله : كان أبيض ، أشهل ، حسن الوجه ، عظيم الجسم ، قصير الساقين. أول من تسمّى أمير المؤمنين ، ولي الخلافة فعلا جدّه ، وبعد صيته ، وتوطّأ ملكه ، وكأن خلافته كانت شمسا نافية للظلمات ، فبايعه أجداده وأعمامه وأهل بيته ، على حداثة السّن ، وجدة العمر ، فجدّد الخلافة ، وأحيا الدعوة ، وزيّن الملك ، ووطّد الدولة ، وأجرى الله له من السّعد ما يعظم عنه الوصف ويجلّ عن الذكر ، وهيّأ له استنزال الثوار والمنافقين واجتثاث جراثيمهم.

بنوه : أحد عشر (١) ، منهم الحكم الخليفة بعده ، والمنذر ، وعبد الله ، وعبد الجبار.

حجّابه : بدر مولاه ، وموسى بن حدير.

قضاته (٢) : جملة ، منهم : أسلم بن عبد العزيز ، وأحمد بن بقيّ ، ومنذر بن سعيد البلوطي.

نقش خاتمه : «عبد الرحمن بقضاء الله راض».

أمّه : أمّ ولد تسمى مزنة. وبويع له في ربيع الأول من سنة تسع وتسعين ومائتين (٣).

دخوله إلبيرة : قال المؤرخ (٤) : أول غزوة غزاها بعد أن استحجب بدرا مولاه ، وخرج إليها يوم الخميس رابع (٥) عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثمائة ، مفوّضا إليه ، ومستدعيا نصره ، واستئلاف الشّاردين ، وتأمين الخائفين ، إلى ناحية كورة جيّان ، وحصن المنتلون ، فاستنزل منه سعيد بن هذيل ، وأناب إليه من كان نافرا عن الطاعة ، مثل ابن اللّبّانة ، وابن مسرّة ، ودحون الأعمى. وانصرف إلى قرطبة ، وقد تجوّل ، وأنزل كلّ من بحصن من حصون كورة جيان ، وبسطة ، وناجرة ، وإلبيرة ، وبجّانة ،

__________________

ـ ص ٢٨) والحلة السيراء (ج ١ ص ١٩٧) وأخبار مجموعة (ص ١٣٥) وجذوة المقتبس (ص ١٢) وبغية الملتمس (ص ١٧) والمعجب (ص ٥٤) ووفيات الأعيان (ج ٤ ص ٤٧٩) وجمهرة أنساب العرب (ص ١٠٠) وكتاب العبر (م ٤ ص ٢٩٨) والمغرب (ج ١ ص ١٨١) والبيان المغرب (ج ٢ ص ١٥٦) ورسائل ابن حزم (ج ٢ ص ١٩٣) وجمهرة أنساب العرب (ص ١٠٠) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٢٥٧) وصفحات متفرقة من نفح الطيب.

(١) أي أحد عشر ذكرا ، كما جاء في الجمهرة.

(٢) قارن بالبيان المغرب (ج ٢ ص ١٥٦).

(٣) الصواب مستهل ربيع الأول سنة ثلاثمائة ، كما جاء في مصادر ترجمته.

(٤) قارن بالبيان المغرب (ج ٢ ص ١٦٠ ـ ١٦١).

(٥) في البيان المغرب : «يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت ...».

٣٥٤

والبشرّة ، وغيرها ، بعد أن عرض نفسه عليها. وعلى عهده توفي ابن حفصون (١). وجرت عليه هزيمة الخندق في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة (٢) ، وطال عمره ، فملك نيفا وخمسين سنة ، ووجد بخطّه : أيام السّرور التي صفت لي دون كدر يوم كذا ويوم كذا ، فعدّت ، فوجدت أربعة عشر يوما.

وفاته : في أول رمضان من سنة خمسين وثلاثمائة (٣).

عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن

الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية (٤)

يكنى أبا المطرّف ، ويلقب بالمرتضى.

حاله وصفته : كان أبيض أشقر أقنى ، مخفّف البدن ، مدوّر اللحية ، خيّرا ، فاضلا ، من أهل الصلاح والتّقى ، قام بدولته خيران العامري ، بعد أن كثر السؤال عن بني أمية ، فلم يجد فيهم أسدى للخلافة منه ، بورعه وعفافه ووقاره ، وخاطب في شأنه ملوك الطوائف على عهده ، فاستجاب الكلّ إلى الطاعة بعد أن أجمع الفقهاء والشيوخ وجعلوها شورى ، وانصرفوا يريدون قرطبة ، وبدأوا بصنهاجة بالقتال ، فكان نزوله بجبل شقشتر على محجة واط.

وفاته : (٥) يوم لثلاث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربعمائة. وكانت الهزيمة على عساكر المرتضى ، فتركوا المحلات وهربوا ، وفشى فيهم القتل ، وظفرت صنهاجة من المتاع والأموال بما يأخذه الوصف ، وقتل المرتضى في تلك الهزيمة ، فلم يوقع له على أثر ، وقد بلغ سنّه نحو أربعين.

__________________

(١) توفي عمر بن حفصون سنة ٣٠٦ ه‍.

(٢) جاء في أخبار مجموعة (ص ١٣٧) أن الناصر هزم عام ٣٢٦ ه‍ في غزاة اسمها القدرة ، أقبح هزيمة ، لم تكن له بعدها غزوة بنفسه.

(٣) في الحلة السيراء : توفي في ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ٣٥٠ ه‍.

(٤) ترجمة المرتضى في جذوة المقتبس (ص ٢٢) وبغية الملتمس (ص ٢٧) ورسائل ابن حزم (ج ٢ ص ٥٨) وجمهرة أنساب العرب (ص ١٠١) والمعجب (ص ٩٨) والكامل في التاريخ (ج ٩ ص ٢٧١) وأعمال الأعلام ـ القسم الثاني (ص ١٣٠) وصبح الأعشى (ج ٥ ص ٢٣٧) وفيها اسم جدّه : «عبد الملك» بدلا من «عبد الله» ، والمغرب (ج ٢ ص ٢٤٧) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٢١) والذخيرة (ق ١ ص ٤٥٣) ونفح الطيب (ج ٢ ص ٢٩).

(٥) هنا نقص كلمة وهي تعيين اليوم الذي توفي فيه المرتضى ، وعن ذلك قارن : بالبيان المغرب (ج ٣ ص ١٢٦) والذخيرة (ق ١ ص ٤٥٤) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ١٣١ ، ١٣٨ ، ٢٢٩). وجاء في الكامل في التاريخ (ج ٩ ص ٢٧١) : توفي المرتضى سنة ٤٠٧ ه‍.

٣٥٥

عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان

ابن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس (١)

يكنى أبا المطرّف ، وقيل : أبا زيد ، وقيل : أبا سليمان ، وهو الداخل إلى الأندلس ، والمجدّد الخلافة بها لذريته ، والملقّب بصقر بني أمية (٢).

حاله : قال ابن مفرّج : كان الأمير عبد الرحمن بن معاوية راجح العقل ، راسخ العلم ، ثابت الفهم ، كثير الحزم ، فذّ العزم ، بريئا من العجز ، مستخفّا للثّقل ، سريع النهضة ، متّصل الحركة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى دعة ، ولا يكل الأمور إلى غيره ، ثم لا ينفرد بإبرامها برأيه. وعلى ذلك فكان شجاعا ، مقداما ، بعيد الغور ، شديد الحذر ، قليل الطّمأنينة ، بليغا ، مفوّها ، شاعرا محسنا ، سمحا ، سخيا ، طلق اللسان ، فاضل البنان ، يلبس البياض ، ويعتمّ به ويؤثره. وكان أعطي هيبة من وليّه وعدوّه لم يعطها واحد من الملوك في زمانه. وقال غيره : وألفى الأمير عبد الرحمن الأندلس ثغرا من أنأى الثغور القاصية ، غفلا من سمة الملك ، عاطلا من حلية الإمامة ، فأرهب أهله بالطاعة السلطانية ، وحرّكهم بالسّيرة الملوكية ، ورفعهم بالآداب الوسطية ، فألبسهم عمّا قريب المودّة ، وأقامهم على الطريقة. وبدأ يدوّن الدواوين ، وأقام القوانين ، ورفع الأواوين ، وفرض الأعطية ، وأنفذ الأقضية ، وعقد الألوية ، وجنّد الأجناد ، ورفع العماد ، وأوثق الأوتاد ، فأقام للملك آلته ، وأخذ للسلطان عدّته.

نبذة من أوليّته : لمّا ظهر بنو العباس بالمشرق ، ونجا فيمن نجا من بني أمية ، معروفا بصفته عندهم ، خرج يؤمّ المغرب لأمر كان في نفسه ، من ملك الأندلس ، اقتضاه حدثان ، فسار حتى نزل القيروان ، ومعه بدر مولاه ، ثم سار حتى لحق بأخواله من نفزة ، ثم سار بساحل العدوة في كنف قوم من زناتة ، وبعث إلى الأندلس بدرا ، فداخل له بها من يوثق به ، وأجاز البحر إلى المنكّب ، وسأل عنها ، فقال : نكبوا عنها ، ونزل بشاط من أحوازها ، وقدم إليه أولو دعوته ، وعقد اللّوا ،

__________________

(١) ترجمة عبد الرحمن الداخل في أخبار مجموعة (ص ٤٩) وتاريخ افتتاح الأندلس (ص ٤٦) وجذوة المقتبس (ص ٨) وبغية الملتمس (ص ١٢) ووفيات الأعيان (ج ٤ ص ٢٢٦) وصبح الأعشى (ج ٥ ص ٤٤٨) وفوات الوفيات (ج ٢ ص ٢٦٧) والبيان المغرب (ج ٢ ص ٤٧) والحلة السيراء (ج ١ ص ٣٥) وكتاب العبر (م ٤ ص ٢٦٢) ورسائل ابن حزم (ج ٢ ص ١٩١) ونفح الطيب (ج ٤ ص ٤٥) وصفحات أخرى متفرقة.

(٢) لقبه في المصادر التي ترجمت له هو : «صقر قريش».

٣٥٦

وقصد قرطبة في خبر يطول ، وحروب مبيرة ، وهزم يوسف الفهري ، واستولى على قرطبة ، فبويع له بها يوم عيد الأضحى من سنة ثمان وثلاثين ومائة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة.

دخوله إلبيرة : قالوا : ولمّا انهزم الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، لحق بإلبيرة ، فامتنع بحصن غرناطة ، وحاصره الأمير عبد الرحمن بن معاوية ، وأحاط به ، فنزل على صلح ، وانعقد بينهما عقد ، ورهنه يوسف ابنيه ؛ أبا زيد وأبا الأسود ، وشهد في الأمان وجوه العسكر ، منهم أمية بن حمزة الفهري ، وحبيب بن عبد الملك المرواني ، ومالك بن عبد الله القرشي ، ويحيى بن يحيى اليحصبي ، ورزق بن النّعمان الغسّالي ، وجدار بن سلامة المذحجي ، وعمر بن عبد الحميد العبدري ، وثعلبة بن عبيد الجذامي ، والحريش بن حوار السلمي ، وعتّاب بن علقمة اللخمي ، وطالوت بن عمر اليحصبي ، والجرّاح بن حبيب الأسدي ، وموسى بن خالد ، والحصين بن العقيلي ، وعبد الرحمن بن منعم الكلبي ، إلى آخرين سواهم ، بتاريخ يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائة. نقلت أسماء من شهد ، لكونهم ممن دخل البلدة ، ووجب ذكره ، فاجتزأت بذلك ، فرارا من الإطالة ، إذ هذا الأمر بعيد الأمد ، والإحاطة لله.

بلاغته ونثره وشعره : قال الرّازي : قام بين يديه رجل من جند قنّسرين ، يستنجد به ، وقال له : يا ابن الخلائف الراشدين والسّادات الأكرمين ، إليك فررنا ، وبك عذت من زمن ظلوم ، ودهر غشوم قلّل المال ، وذهب الحال ، وصيّر إليّ بذاك المنال ، فأنت وليّ الحمد ، وربى المجد ، والمرجو للرّفد. فقال له ابن معاوية مسرعا : قد سمعنا مقالتك ، فلا تعودنّ ولا سواك لمثله ، من إراقة وجهك ، بتصريح المسألة ، والإلحاف في الطّلبة ، وإذا ألمّ بك خطب أو دهاك أمر ، أو أحرقتك حاجة فارفعه إلينا في رقعة لا تعدو ذكيا ، تستر عليك خلّتك ، وتكفّ شماتة العدوّ بك ، بعد رفعها إلى مالكنا ومالكها عن وجهه ، بإخلاص الدّعاء ، وحسن النية. وأمر له بجائزة حسنة. وخرج الناس يعجبون من حسن منطقه ، وبراعة أدبه.

ومن شعره : قوله ، وقد نظر إلى نخلة بمنية الرّصافة ، مفردة ، هاجت شجنه إلى تذكر بلاد المشرق (١) : [الطويل]

تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلة

تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل

__________________

(١) الأبيات في الحلة السيراء (ج ١ ص ٣٧) والبيان المغرب (ج ٢ ص ٦٠) ونفح الطيب (ج ٤ ص ٤٦).

٣٥٧

فقلت : شبيهي في التغرّب والنّوى

وطول التّنائي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة

فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك (١) غوادي المزن من صوبها (٢) الذي

يسحّ ويستمري (٣) السّماكين بالويل

وفاته : توفي بقرطبة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين لربيع الآخر (٤) سنة اثنتين وسبعين ومائة ، وهو ابن تسعة وخمسين عاما ، وأربعة أشهر ، وكانت مدّة ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر (٥) ، وأخباره شهيرة.

وجرى ذكره في الرّجز المسمى بقطع السلوك ، في ذكر هذين من بني أمية ، قولي في ذكر الداخل : [الرجز]

وغمر الهول كقطع الليل

بفتنة الفهريّ والصّميل

وجلّت الفتنة في أندلس

فأصبحت فريسة المفترس

فأسرع السّير إليها وابتدر

وكلّ شيء بقضاء وقدر

صقر قريش عابد الرحمن

باني المعالي لبني مروان

جدّد عهد الخلفاء فيها

وأسّس الملك لمترفيها

ثم أجاب داعي الحمام

وخلّف الأمر إلى هشام

وقام بالأمر الحفيد الناصر

والناس محصور بها وحاصر

فأقبل السّعد وجاء النّصر

وأشرق الأمن وضاء القصر

وعادت الأيام في شباب

وأصبح العدو في تباب

سطا وأعطى وتغاضى ووفا

وكلّما أقدره الله عفا

فعاد من خالف فيها وانتزى

وحارب الكفّار دأبا وغزا

وأوقع الرّوم به في الخندق

فانقلب الملك بسعي مخفق

واتصلت من بعد ذا فتوح

تغدو على مثواه أو تروح

فاغتنموا السّلم لهذا الحين

ووصّلت إرسال قسطنطين

__________________

(١) في البيان المغرب : «سقاك».

(٢) في النفح : «في المنتأى» بدلا من : «من صوبها».

(٣) في الأصل : «ويستمرئ» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر.

(٤) في فوات الوفيات (ج ٢ ص ٣٠٣): «توفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة».

(٥) جاء في كتاب العبر (م ٤ ص ٢٦٩) أن مدة حكمه ثلاث وثلاثون سنة.

٣٥٨

وساعد السّعد فنال واقتنى

ثم بنى الزّهرا فيما قد بنى

حتى إذا ما كملت أيامه

سبحان من لا ينقضي دوامه

عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن سعيد

ابن محمد اللخمي

من أهل رندة وأعيانها ، يكنى أبا القاسم ، ويعرف بابن الحكيم ، وجدّه يحيى ، هو المعروف بابن الحكيم ، وقد تقدم ذكر جملة من هذا البيت.

حاله : كان ، رحمه الله ، عين بلده المشار إليه ، كثير الانقباض والعزلة ، مجانبا لأهل الدنيا ، نشأ على طهارة وعفّة ، مرضي الحال ، معدودا في أهل النّزاهة والعدالة ، وأفرط في باب الصّدقة بما انقطع عنه أهل الإثراء من المتصدّقين ، ووقفوا دون شأوه. ومن شهير ما يروى من مناقبه في هذا الباب ، أنه أعتق بكل عضو من أعضائه رقبة ، وفي ذلك يقول بعض أدباء عصره :

أعتق بكل عضو منه رقبه

واعتدّ ذلك ذخرا ليوم العقبه

لا أجد منقبة مثل هذه المنقبه

مشيخته : روى عن القاضي الجليل أبي الحسن بن قطرال ، وعن أبي محمد بن عبد الله بن عبد العظيم الزهري ، وأبي البركات بن مودود الفارسي ، وأبي الحسن الدّباج ، سمع من هؤلاء وأجازوا له. وأجاز له أبو أمية بن سعد السّعود بن عفير ، وأبو العباس بن مكنون الزاهد. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : وكان شيخنا القاضي العالم الجليل أبو الخطّاب بن خليل ، يطنب في الثناء عليه ، ووقفت على ما خاطبه به معربا عن ذلك.

شعره : منقولا من «طرفة العصر» من قصيدة يردّدها المؤذنون منها : [البسيط]

كم ذا أعلل بالتّسويف والأمل

قلبا تغلّب بين الوجد والوجل

وكم أجرّد أذيال الصّبا مرحا

في مسرح اللهو وفي ملعب الغزل

وكم أماطل نفسي بالمتاب ولا

عزم فيوضح لي عن واضح السّبل

ضللت والحقّ لا تخفى معالمه

شتّان بين طريق الجدّ والهزل

وفاته : يوم الاثنين التاسع والعشرين لجمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة.

٣٥٩

عبد الرحيم بن إبراهيم بن عبد الرحيم الخزرجي (١)

يكنى أبا القاسم ، ويعرف بابن الفرس ، ويلقّب بالمهر ، من أعيان غرناطة.

حاله : كان (٢) فقيها جليل القدر ، رفيع الذّكر ، عارفا بالنحو واللغة والأدب ، ماهر (٣) الكتابة ، رائق الشعر ، بديع التّوشيح ، سريع البديهة ، جاريا على أخلاق الملوك في مركبه وملبسه وزيّه. قال ابن مسعدة (٤) : وطىء من درجات العزّ والمجد أعلاها ، وفرع من الأصالة منتماها. ثم علت همّته إلى طلب الرّئاسة والملك ، فارتحل إلى بلاد العدوة ، ودعا إلى نفسه ، فأجابه إلى ذلك الخلق الكثير ، والجمّ الغفير ، ودعوه باسم الخليفة ، وحيّوه بتحيّة الملك. ثم خانته الأقدار ، والدهر بالإنسان غدّار ، فأحاطت به جيوش الناصر (٥) بن المنصور ، وهو في جيش عظيم من البربر ، فقطع رأسه ، وهزم جيشه ، وسيق إلى باب الخليفة ، فعلّق على باب مرّاكش ، في شبكة حديد ، وبقي به مدة من عشرين سنة (٦).

قال أبو جعفر بن الزبير : كان أحد نبهاء وقته لو لا حدّة كانت فيه أدّت به إلى ما حدّثني به بعض شيوخي من صحبه. قال : خرجنا معه يوما على باب من أبواب مراكش برسم الفرجة ، فلمّا كان عند الرجوع نظرنا إلى رؤوس معلّقة ، وتعوّذنا بالله من الشّرّ وأهله ، وسألناه سبحانه العافية. قال : فأخذ يتعجب منّا ، وقال : هذا خور طريقة وخساسة همّة ، والله ما الشرف والهمّة إلّا في تلك ، يعني في طلب الملك ، وإن أدّى الاجتهاد فيه إلى الموت دونه على تلك الصّفة. قال : فما برحت الليالي والأيام ، حتى شرع في ذلك ، ورام الثورة ، وسيق رأسه إلى مراكش ، فعلق في جملة تلك الرءوس ، وكتب عليه ، أو قيل

__________________

(١) ترجمة عبد الرحيم الخزرجي في التكملة (ج ٣ ص ٦٠) والحلة السيراء (ج ٢ ص ٢٧٠) والمغرب (ج ٢ ص ١١١ ، ١٢٢) وكتاب العبر (م ٦ ص ٥٢٢) وبغية الوعاة (ص ٣٠٥).

(٢) قارن ببغية الوعاة (ص ٣٠٥).

(٣) في البغية : «باهر».

(٤) ابن مسعدة : هو أحد شيوخ عبد الرحيم الخزرجي ، وقد أخذ عنه النحو. بغية الوعاة (ص ٣٠٥).

(٥) هو الخليفة الموحدي محمد بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة ٥٩٥ ه‍ إلى سنة ٦١٠ ه‍. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٣٦).

(٦) جاء في بغية الوعاة أن رأسه قطع وعلّق على باب مراكش في سنة إحدى وستمائة ، وهو ابن ست وثلاثين سنة. وجاء في التكملة والحلة السيراء أنه قتل في نحو الستمائة.

٣٦٠