الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

حاله : من نبهاء أدباء البادية ، خشن الظاهر ، منطو على لوذعيّة متوارية في مظهر جفوة ، كثير الانطباع عند الخبرة ، قادر على النظم والنثر ، متوسّط الطّبقة فيهما ، مسترفد بالشعر ، سيّال القريحة ، مرهوب الهجاء ، مشهور المكان ببلده ، يعيش من الخدم المخزنيّة ، بين خارص وشاهد ، وجدّ بذلك وقته ، يوسّط رقاعته ، فتنجح الوسيلة ، ويتمشّى له بين الرّضا والسّخط الغرض.

وجرى ذكره في «التاج» بما نصّه (١) : «طويل القوادم والخوافي ، كلف على كبر سنّه بعقائل القوافي ، شاب في الأدب وشبّ ، ونشق ريح البيان لمّا هبّ ، فحاول رفيعه (٢) وجزله ، وأجاد جدّه ، وأحكم هزله. فإن مدح صدح ، وإن وصف أنصف ، وإن عصف قصف ، وإن أنشأ ودوّن ، وتقلّب في أفانين البلاغة وتلوّن ، أفسد ما شاء الله وكوّن ، فهو شيخ الطريقة الأدبيّة وفتاها ، وخطيب حفلها كلّما أتاها ، لا يتوقّف عليه من أغراضها غرض ، ولا يضيع لديه منها مفترض. ولم تزل بروقه تتألّق ، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلّق ، حتى برّز في أبطال الكلام وفرسانه ، وذعرت القلوب لسطوة (٣) لسانه ، وألقت إليه الصّناعة زمامها ، ووقفت عليه أحكامها. وعبر البحر منتجعا بسعره (٤) ، ومنفقا في سوق الكساد من شعره (٥) ، فأبرق وأرعد ، وحذّر وتوعّد (٦) ، وبلغ جهد إمكانه ، في التّعريف بمكانه ، فما حرّك ولا هزّ ، وذلّ في طلب الرّفد وقد عزّ ، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده ، رجوع الحديث إلى قتاده.

شعره : قال في «التاج» : وقد أثبتّ من نزعاته ، وبعض مخترعاته ، ما يدلّ على سعة باعه ، ونهضة ذراعه. فمن النسيب قوله (٧) : [البسيط]

ما للمحبّ دواء يذهب الألما

عنه سوى لمم فيه ارتشاف لمى

ولا يردّ عليه نوم مقلته

إلّا الدّنوّ إلى من شفّه سقما

يا حاكما والهوى فينا يؤيّده

هواك فيّ بما ترضاه قد حكما

أشغلتني بك شغلا شاغلا فلم (٨)

تناسى ، فديتك ، عنّي بعد ذاك لما؟

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٩٢ ـ ٣٩٣).

(٢) في النفح : «رقيقه».

(٣) في النفح : «بسطوة».

(٤) في النفح : «بشعره».

(٥) في النفح : «سعره».

(٦) في النفح : «وأوعد».

(٧) ورد في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٩٣) فقط الأبيات الأول والثاني والثالث.

(٨) في الأصل : «فلما» ، وكذا ينكسر الوزن.

٣٢١

ملكت روحي فأرفق قد علمت بما

يلقى ولا حجّة تبقى لمن علما

ما غبت عنّي إلّا غاب عن بصري

بدرا إذا لاح يجلي نوره الظّلما

ما لحت لي فدنا طرفي لغيرك يا

مولى لحا فيه جفني النوم قد حرما

طوعا لطيعك لا أعصيك فافض بما

ترضاه أرضى بما ترضى ولا جرما

إنّ الهوى يقتضي ذلّا لغيرك لو

أفادني فيك قربا يبرّد الألما

سلمت من كل عيب يا محمد لا

كن قلب صبّك من عينيك ما سلما

ومن مخاطباته الأدبية ، ما كتب به إلى شيخ الصّوفية ببلده مع طالع من ولده : [الطويل]

مماليكم قد زاد فيكم مرابع

من الأفق الكوني باليمن طالع

بأنواركم يهدى إلى سبل الهدى

ويسمو لما تسمو إليه المطالع

فواسوه منكم بالدّعاء فإنه

مجاب بفضل الله للخلق نافع

أفاض عليه الله من بركاتكم

وأبقاكم ذو العرش ما جنّ ساجع

فوقّع له الشيخ المخاطب بها ، أبو جعفر بن الزيات ، رحمه الله ، بما نصّه : [الطويل]

عسى الله يؤتيه من العلم حصّة

تصوّب على الألباب منها ينابع

ويجعله طرفا لكلّ سجيّة

مطهّرة للناس فيها منافع

ويلحقه في الصالحات بجدّه

فيثني عليه الكلّ دان وشاسع

وذو العرش جلّ أسما عميم نواله

وخير الورى في نصّ ما قلت شافع

فما أنت دوني يا أباه مهنّأ

به فالسرور الكلّ بابنك جامع

وله يستدعي إلى الباكور : [الوافر]

بدار بدار قد آن البدار

إلى أكواس باكور تدار

تبدّت رافلات في مسوح

له لون الدّياجي مستعار

وقد رقمت بياضا في سواد

كأنّ الليل خالطه النّهار

وقد نضجت وما طبخت بنار

وهل يحتاج للباكور نار؟

ولا تحتاج مضغا لا وليس

عجيب لا يشقّ له غبار

فقل للخلق قل للضّرس دعني

ففي البلع اكتفاء واقتصار

٣٢٢

وممّا وقع له أثناء مقامات تشهد باقتداره ، مقطوعة سهلة وهي (١) : [المتقارب]

رعى الله عهدا حوى ما حوى

لأهل الوداد وأهل الهوى

أراهم أمورا حلا وردها

وأعطاهم السؤل كيف نوى (٢)

ولمّا حلا الوصل صالوا له

وراموه مأوى وماء روى (٣)

وأوردهم سر أسرارهم

وردّ إلى كلّ داء دوا (٤)

وما أمل طال إلّا وهى

ولا آمل (٥) صال إلّا هوى

وقال يرثي ديكا فقده ، ويصف الوجد الذي وجده ، ويبكي من عدم أذانه ، إلى غير ذلك من مستطرف شانه (٦) : [البسيط]

أودى به الحتف لمّا جاءه الأجل

ديكا فلا عوض منه ولا بدل

قد كان لي أمل في أن يعيش فلم

يثبت مع الحتف في بغيا لها (٧) أمل

فقدته فلعمري إنها عظة

وبالمواعظ تذري دمعها المقل

كأنّ مطرف وشي فوق ملبسه

عليه من كلّ حسن باهر حلل

كأنّ إكليل كسرى فوق مفرقه

وتاجه فهو عالي الشّكل محتفل

مؤقّت لم يكن يحزى (٨) له خطأ

فيما يرتّب من ورد ولا خطل (٩)

كأنّ زرقيل (١٠) فيما مرّ علّمه

علم المواقيت فيما (١١) رتّب الأول

__________________

(١) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨).

(٢) في النفح : «... السؤل كلّا سوا».

(٣) في الأصل : «ملوا وما روا» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح. والرّوى : الماء الكثير المروي. لسان العرب (روا).

(٤) رواية البيت في الأصل هي :

وأوردهم سرّا سرارهم

ورودا إلى الكل ذا دوا

وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى ، والتصويب من النفح.

(٥) في الأصل : «أمل» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٦) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩).

(٧) في النفح : «في بقياه لي أمل».

(٨) في الأصل : «بطريق» وهكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له ، والتصويب من النفح.

(٩) في النفح : «خلل».

(١٠) في النفح : «زرقال». وهو إبراهيم بن يحيى النقاش الزرقالي القرطبي ، ويعدّ من أعظم أهل الفلك ، وقد وضع جداول فلكية واخترع أجهزة دقيقة كالزرقالية والصفيحة. تاريخ الفكر الأندلسي (ص ٤٥١).

(١١) في النفح : «ممّا».

٣٢٣

يرحّل الليل يحيى بالصراخ فما

يصدّه كلل عنه ولا ملل

رأيته قد وهت (١) منه القوى فهوى

للأرض فعلا يريه الشّارب الثّمل

لو يفتدى بديوك الأرض قلّ له

ذاك الفداء (٢) ولكن فاجأ الأجل

قالوا الدّواء فلم يغن الدّواء (٣) ولم

ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا

أمّلت فيه ثوابا أجر محتسب

إن قلت (٤) ذلك (٥) صحّ القول والعمل

وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النّصريين في بعض أسفاره ، وقد نظر إلى شلير (٦) ، وتردّى بالثلج وتعمّم ، وكمل ما أراد من بزّته وتمّم ، أن ينظم أبياتا في وصفه ، فقال بديهة (٧) : [الطويل]

وشيخ جليل القدر قد طال عمره

وما عنده علم بطول ولا قصر

عليه لباس أبيض باهر السّنا

وليس بثوب أحكمته يد البشر

وطورا (٨) تراه كلّه كاسيا به

وكسوته فيها لأهل النّهى عبر

وطورا تراه عاريا ليس يشتكي (٩)

لحرّ (١٠) ولا برد من الشمس والقمر

وكم مرّت الأيام وهو كما ترى

على حاله لم يشك ضعفا ولا كبر

فذاك (١١) شلير شيخ غرناطة التي

لبهجتها في الأرض ذكر قد انتشر (١٢)

بها ملك سامي المراقي أطاعه

كبار ملوك الأرض في حالة الصّغر

تولّاه ربّ العرش منه بعصمة

تقيه مدى الأيام من كلّ ما ضرر

نثره : ونثره كثير ما بين مخاطبات ، وخطب ، ومقطعات ، ولعب ، وزرديّات شأنها عجب. فمن ذلك ما خاطب به الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجدي أضحية :

__________________

(١) في الأصل : «وهنت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «الفدا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٣) في الأصل : «الدوا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) في النفح : «نلت».

(٥) في الأصل : «ذاك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٦) جبل شلير ، بالإسبانيةsierra nevada ، وهو أحد مشاهير جبال الأرض. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٤٣) ففيه دراسة مفصلة عن هذا الجبل.

(٧) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠).

(٨) في النفح : «فطورا».

(٩) في النفح : «يكتسي».

(١٠) في النفح : «بحرّ».

(١١) في النفح : «وذاك».

(١٢) في النفح : «اشتهر».

٣٢٤

يقول شاكر الأيادي : وذاكر فخر كل نادي ، وناشر غرر الغرر للعاكف والبادي ، والرائح والغادي ، اسمعوا مني حديثا تلذّة الأسماع ، ويستطرفه الاستماع ، ويشهد بحسنه الإجماع ، ويجب عليه الاجتماع ، وهو من الأحاديث التي لم تتفق إلّا لمثلي ، ولا ذكرت عن أحد قبلي ، وذلك يا معشر الألبّاء ، والخلصاء الأحبّاء ، أني دخلت في هذه الأيام داري ، في بعض أدواري ، لأقضي من أخذ الغذاء أوطاري ، على حسب أطواري ، فقالت لي ربّة البيت : لم جئت ، وبما أتيت؟ قلت : جئت لكذا وكذا ، فهات الغذا ، فقالت : لا غذا لك عندي اليوم ، ولو أودى بك الصّوم ، حتى تسل الاستخارة ، وتفعل كما فعل زوج الجارة ، طيّب الله نجاره ، وملأ بالأرزاق وجاره. قلت : وما فعل قريني ، وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني. قالت : إنه فكّر في العيد ، ونظر في أسباب التّعييد ، وفعل في ذلك ما يستحسنه القريب والبعيد ، وأنت قد نسيت ذكره ومحوته من بالك ، ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك ، وعيد الأضحى في اليد ، والنّظر في شراء الأضحية اليوم أوفق من الغد. قلت : صدقت ، وبالحقّ نطقت ، بارك الله فيك ، وشكر جميل تحفّيك ، فلقد نبّهت بعلك لإقامة السّنة ، ورفعت عنه من الغفلة منّة. والآن أسير لأبحث عمّا ذكرت ، وأنظر في إحضار ما إليه أشرت ، ويتأتّى ذلك إن شاء الله بسعدك ، وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك ، والجدّ ليس من الهزل ، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل. قالت : دعني من الخرافات ، وأخبار الزّرافات ، فإنّك حلو اللسان ، قليل الإحسان ، تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان ، فتهاونت بالنّساء ، وأسأت فيمن أساء ، وعوّدت أكل خبزك في غير منديل ، وإيقاد الفتيل دون قنديل ، وسكنى الخان ، وعدم ارتفاع الدّخان ، فما تقيم موسما ، ولا تعرف له ميسما ، وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض ، وكلانا في طرفي نقيض ، إلى أن قلت لها : إزارك وردائي ، فقد تفاقم بك أمر دائي ، وما أظنّك إلّا بعض أعدائي ، قالت : ما لك والإزار ، شطّ بك المزار؟ لعلك تريد إرهانه في الأضحية والأبزار ، اخرج عني يا مقيت ، لا عمرت معك ولا بقيت ، أو عدمت الدّين ، وأخذ الورق بالعين. يلزمني صوم سنة ، لا أغفيت معك سنة ، إلّا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي ، وأرى لك الرّبح في تجارتي. فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت ، وابتدرت وهرولت ، وجالت في العتاب وصوّلت ، وضمّت بنتها وولدها ، وقامت باللّجج والانتصار بالحجج أودها ، فلم يسعني إلّا أن عدوت أطوف السّكك والشوارع ، وأبادر لما غدوت بسبيله وأسارع ، وأجوب الآفاق ، وأسأل الرّفاق ، وأخترق الأسواق ، وأقتحم زريبة بعد زريبة ، وأختبر منها البعيدة والقريبة ، فما استرخصته استنقصته ، وما استغليته استعليته ، وما وافق غرضي ، اعترضني دونه عدم عرضي ، حتى انقضى ثلثا يومي ، وقد عييت بدوراني وهومي ، وأنا لم أتحصل من

٣٢٥

الابتياع على فائدة ، ولا عادت عليّ فيه من قضاء الأرب عائدة ، فأومأت الإياب ، وأنا أجد من خوفها ما يجد صغار الغنم من الذّئاب ، إلى أن مررت بقصّاب يقصب في مجزره ، قد شدّ في وسطه مئزره ، وقصّر أثوابه حتى كشف عن ساقيه ، وشمّر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه ، وبين يديه عنز قد شدّ يديه في رقبته وهو يجذبه فيبرك ، ويجرّه فما يتحرّك ، ويروم سيره فيرجع القهقرى ، ويعود إلى ورا ، والقصاب يشدّ على إزاره ، خيفة من فراره ، وهو يقول : اقتله من جان باغ ، وشيطان طاغ ، ما أشدّه ، وما ألذّه وما أصدّه ، وما أجدّه ، وما أكثره بشحم ، وما أطيبه بلحم ، الطّلاق يلزمه إن كان عاين تيسا مثله ، أو أضحية تشبهه قبله ، أضحية حفيلة ، ومنحة جليلة. هنّأ الله من رزقها ، وأخلف عليها رزقها. فاقتحمت المزدحم أنظر مع من نظر ، وأختبر فيمن اختبر. وأنا والله لا أعرف في التقليب والتّخمين ، ولا أفرّق بين العجف والسّمين ، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار ، وهيكلا يخبرك عن صورة العمّار ، فقلت للقصّاب : كم طلبك فيه ، على أن تمهل الثّمن حتى أوفيه؟ فقال : ابغني فيه أجيرا ، وكن له الآن من الذّبح مجيرا ، وخذه بما يرضي ، لأول التقضّي. قلت : استمع الصوت ، ولا تخف الفوت. قال : ابتعه مني نسيّة ، وخذه هديّة ، قلت : نعم ، فشقّ لي الضمير ، وعاكسني فيه بالنّقير والقطمير ، قال : تضمن لي فيه عشرين دينارا ، أقبضها منك لانقضاء الحول دنيّرا دنيّرا ، قلت : إنّ هذا لكثير ، فاسمح منه بإحاطة اليسير. قال : والذي فلق الحبّة ، وبرّأ النّسمة ، لا أنقصك من هذا ، وما قلت لك سمسمة ، اللهمّ إن شئت السّعة في الأجل ، فأقضي لك ذلك دون أجل ، فجلبني للابتياع منه الإنساء في الأمد ، وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأي والد ولا ولد ، ولا أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد ، وقلت : قد اشتريته منك فضع البركة ، ليصحّ النّجح في الحركة. فقال : فقيه بارك الله فيه قد بعته لك ، فاقبض متاعك ، وثبّت ابتياعك ، وها هو في قبضك فاشدد وثاقه ، وهلمّ لنعقد عليك الوثاقة. فانحدرت معه لدكان التّوثيق ، وابتدرت من السّعة إلى الضّيق ، وأوثقني بالشادّة تحت عقد وثيق ، وحملني من ركوب الدّين ولحاق الشّين في أوعر طريق. ثم قال لي : هذا تيسك فشأنك وإياه ، وما أظنّك إلّا تعصياه ، وأت بحمّالين أربعة فإنك لا تقدر أن ترفعه ، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه ، ولم يبق لك من الكلفة إلّا أن يحصل في محلّك ، فيكمل سرور أهلك. وانطلقت للحمّال وقلت : هلم إليّ ، وقم الآن بين يديّ ، حتى انتهينا إلى مجزرة القصّاب ، والعنز يطلب فلا يصاب ، فقلت : أين التّيس ، يا أبا أويس؟ قال : إنه قد فرّ ، ولا أعلم حيث استقرّ. قلت : أتضيع عليّ مالي ، لتخيب آمالي ، والله لا يحزنك بالعصا ، كمن عصا ، ولا رفعتك إلى الحكّام ، تجري عليك منهم الأحكام. قال : ما لي علم به ، ولا بمنقلبه ، لعلّه فرّ لأمّه وأبيه ، وصاحبته

٣٢٦

وبنيه ، فعليك بالبريح. فاتجهت أنادي بالأسواق ، وجيران الزّقاق ، من ثقف لي تيسا فله البشارة ، بعد ما أتى بالأمارة ، وإذا برجل قد خرج من دهليز ، وله هدير وهزيز ، وهو يقول : من صاحب العنز المشوم؟ لا عدم به الشّوم ، إن وقعت عليه عيني ، يرتفع الكلام بينه وبيني. قلت : أنا صاحبه فما الذي دهاك منّي ، أو بلغك عنّي. قال : إن عنزك حين شرد ، خرج مثل الأسد ، وأوقع الرّهج في البلد ، وأضرّ بكل أحد ، ودخل في دهليز الفخّارة فقام فيه وقعد ، وكان العمل فيه مطبوخا ونيّا ، فلم يترك منه شيا ، ومنه كانت معيشتي ، وبه استقامت عيشتي ، وأنت ضامن مالي ، فارتفع معي إلى الوالي ، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور ، ويكرّ كرّة العفريت المزجور ، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدّهليز من الطّواجن والقدور ، والخلق قد انحسروا للضجيج ، وكثر العياط والعجيج ، وأنت تعرف عفرطة الباعة ، وما يحوون من الوضاعة ، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع ، وأروم الإطاعة من غير مطيع ، والباعة قد أكسبته من الحماقة ، ما لم يكن لي به طاقة. ورجل يقول : المحتسب ، واعرف ما تكتسب ، وإلى من تنتسب ، فقد كثر عنده بك التّشكّي ، وصاحب الدهليز قبالته يبكي ، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى ، وأيقن أنك كسرت الدّعوى ، وأمر بإحضارك ، وهو في انتظارك ، فشدّ وسطك ، واحفظ إبطك ، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على الباعة ونصب لأرباب البراهين ، على أرباب الشّواهين ، ورفع على طبقة ، ليملأ طبقة ، ثم أمسكني باليمين ، حتى أوصلني للأمين ، فقال لي : أرسلت التّيس للفساد ، كأنك في نعم الله من الحسّاد. قلت : إنه شرد ، ولم أدر حيث ورد. قال : ولم لا أخذت ميثاقه ، ولم تشدّد وثاقه ، يا شرطي طرّده ، واطرح يدك فيه وجرّده. قلت : أتجرّدني الساعة ، ولست من الباعة؟ قال : لا بدّ من ذاك ، أو تضمن ما أفسده هناك؟ قلت : الضّمان الضّمان ، الأمان الأمان. قال : قد أمّنت ، إن ضمنت ، وعليك الثّقاف ، حتى يقع الإنصاف ، أو ضامن كاف ، فابتدر أحد إخواني ، وبعض جيراني ، فأدّى عني ما ظهر بالتّقدير ، وآلت الحال للتّكدير. ثم أردت الانصراف بالتّيس ، لا كان كيانه ، ولا كوّن مكانه ، وإذا بالشّرطي قد دار حولي ، وقال لي : كلف فعلي بأداء جعلي ، فقد عطّلت من أجلك شغلي ، فلم يك عندي بما تكسر سورته ، ولا بما تطفي جمرته ، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته. وتوجّهت لداري ، وقد تقدّمت أخباري ، وقدمت بغباري ، وتغيّر صغاري وكباري ، والتّيس على كاهل الحمّال يرغو كالبعير ، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير ، فلقت للحمال : أنزله على مهل ، فهلال التّعييد قد استهلّ ، فحين طرحه في الأسطوان ، كرّ إلى العدوان ، وصرخ كالشيطان ، وهمّ أن يقفز الحيطان ، وعلا فوق الجدار ، وأقام الرّهجة في الدار ، ولم تبق في الزقاق عجوز إلّا وصلت لتراه ، وتسأل عمّا اعتراه ، وتقول : بكم اشتراه ، والأولاد قد دارت به

٣٢٧

وأرهقهم لهفه ، ودخل قلوبهم خوفه ، فابتدرت ربّة البيت ، وقالت : كيت وكيت ، لا خلّ ولا زيت ، ولا حيّ ولا ميت ، ولا موسم ولا عيد ، ولا قريب ولا بعيد ، سقت العفريت إلى المنزل ، ورجعت بمعزل ، ومن قال لك اشتره ، ما لم تره ، ومن قال لك سقه ، حتى توثّقه ، ومتى تفرح زوجتك ، والعنز أضحيتك ، ومتى تطبخ القدور ، وولدك منه معذور ، وبأيّ قلب تأكل الشّويّة ، ولم تخلص لك فيه النيّة ، ولقلّة سعدها ، وأخلف وعدها ، والله لو كان العنز ، يخرج الكنز ، ما عمر لي دارا ، ولا قرب لي جوارا ، اخرج عني يا لكع ، فعل الله بك وصنع ، وما حبسك عن الكباش السّمان ، والضّأن الرّفيعة الأثمان ، يا قليل التّحصيل ، يا من لا يعرف الخياطة ولا التّفصيل ، أدلّك على كبش سمين ، واسع الصدر والجبين ، أكحل عجيب ، أقرن مثل كبش الخطيب ، يعبق من أوداكه كلّ طيب ، يغلب شحمه على لحمه ، ويسيل الودك من عظمه ، قد علف بالشّعير ، ودبّر عليه أحسن تدبير ، لا بالصّغير ولا بالكبير ، تصلح منه الألوان ، ويستطرف شواه في كل أوان ، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان ، قلت : بيّني لي قولك ، لأتعرّف فعلك ، وأين توجد هذه الصّفة ، يا قليلة المعرفة. قالت : عند مولانا ، وكهفنا ومأوانا ، الرئيس الأعلى ، الشّهاب الأجلى ، القمر الزّاهر ، الملك الظّاهر ، الذي أعزّ المسلمين بنعمته ، وأذلّ المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية.

وفاته : في كائنة الطاعون ببلده بلّش في أواخر عام خمسين وسبعمائة ، ودفن بها.

عبد الله بن إبراهيم بن وزمّر الحجاري (١) الصّنهاجي

الأديب المصنّف ، يكنى أبا محمد.

حاله وأوليته : أبوه أديب مدينة الفرج بوادي الحجارة (٢) ، المصنّف للمأمون بن ذي النون (٣) كتاب «مغنيطاس الأفكار ، فيما تحتوي عليه مدينة الفرج من النظم والنثر

__________________

(١) عبد الله بن إبراهيم الحجاري ، ينسب إلى وادي الحجارة بالأندلس ، توفي سنة ٥٢٠ ه‍ ، وترجمته في المغرب (ج ٢ ص ٣٥) ونفح الطيب (ج ٣ ص ٩١) و (ج ٤ ص ١٦١) و (ج ٤ ص ١١٢ ، ٢٦٥) ، وكشف الظنون (ص ٦٤٦ ، ١٦٨٥) وهدية العارفين (ج ١ ص ٤٥٧).

(٢) وادي الحجارة : بالإسبانيةguadalajara ، وهي مدينة أندلسية تعرف بمدينة الفرج ، بينها وبين طليطلة ٦٥ ميلا. الروض المعطار (ص ٦٠٦).

(٣) المأمون بن ذي النون هو يحيى بن إسماعيل ، أحد ملوك الطوائف بالأندلس ، حكم طليطلة من سنة ٤٣٥ ه‍ إلى سنة ٤٦٧ ه‍. ترجمته في البيان المغرب (ج ٣ ص ١٦٥) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٢٠٧). وفي مواطن متفرقة من الذخيرة.

٣٢٨

والأخبار». وكان أبو محمد هذا ماهرا ، كاتبا ، شاعرا ، رحّالا. سكن مدينة شلب (١) بعد استيلاء العدو على بلاده بالثّغر. وله (٢) في التّحوّل أشعار وأخبار. قدم غرناطة وقصد عبد الملك بن سعيد ، صاحب القلعة (٣) من بنيّاتها ، واستأذن عليه في زيّ موحش ، واستخفّ به القاعدون ببابه ، إلى أن لاطف بعضهم ، وسأله أن يعرّف به القائد ، فلما بلّغ عنه ، أمر بإدخاله ، فأنشده قصيدة مطلعها (٤) : [الوافر]

عليك أحالني الذّكر الجميل

فجئت ومن ثنائك لي دليل (٥)

أتيت ولم أقدّم من رسول

لأنّ القلب كان هو الرّسول

منها في وصف زيّه البدوي المستقل وما في طيّه :

ومثّلني بدنّ فيه خمر (٦)

يخفّ بها (٧) ومنظره ثقيل

فأكرم نزله ، وأحسن إليه ، وأقام عنده سنة ، حتى ألّف بالقلعة كتاب «المسهب ، في غرائب (٨) المغرب» ، وفيه التّنبيه على الحلى البلادية والعبّادية. وانصرف إلى قصد ابن هود بروطة ، بعد أن عذله عن التّحوّل عنه ، فقال : النّفس توّاقة ، وما لي بالتّغرّب طاقة ، ثم أفكر وقال : [الطويل]

يقولون لي : ما ذا الملال تقيم في

محلّ فعند الأنس تذهب راحلا

فقلت لهم : مثل الحمام إذا شدا

على غصن أمسى بآخر نازلا

نكبته : قال علي بن موسى بن سعيد (٩) : ولمّا قصد الحجاري روطة ، وحلّ لدى أميرها المستنصر بن عماد الدولة بن هود (١٠) ، وتحرّك لغزو من قصده من

__________________

(١) شلب : بالإسبانيةsilves ، وهي قاعدة كورة أكشونبة ، بجنوب مدينة باجة. الروض المعطار (ص ٣٤٢).

(٢) قارن بالمغرب (ج ٢ ص ٣٥) ونفح الطيب (ج ٤ ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦).

(٣) هي قلعة بني سعيد. وتعرف أيضا بقلعة يحصب ، alcala la real أي القلعة الملكية ، نسبة إلى قبيلة يحصب ، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب ، أو القلعة السعدية ، وهي إحدى مدن غرناطة في عهد بني زيري البربر. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٦٢).

(٤) الأبيات الثلاثة في المغرب (ج ٢ ص ٣٥). وورد في نفح الطيب (ج ٤ ص ٢٦٦) أربعة أبيات ، من ضمنها البيت الأول لا غير.

(٥) رواية عجز البيت في الفتح هي :

فصحّ العزم واقتضى الرحيل

(٦) في المغرب : «سرّ».

(٧) في المغرب : «به».

(٨) في المغرب : «فضائل».

(٩) علي بن موسى بن سعيد الأندلسي ، هو صاحب كتاب «المغرب» و «رايات المبرزين» ، وغيرهما.

(١٠) المستنصر بن هود : هو أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن هود ، آخر ملوك بني هود بسرقسطة ، ـ ـ وقد حكمها سنة ٥١٣ ه‍ ، ومات سنة ٥٣٦ ه‍. الأعلام (ج ١ ص ١٦٤) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.

٣٢٩

البشكنس ، فهزم جيشه ، كان (١) الحجاري أحد من أسر في تلك الوقيعة ، فاستقرّ ببسقاية (٢) ، وبقي بها مدّة ، يحرّك ابن هود بالأشعار ويحثّه على خلاصه من الإسار ، فلم يجد عنده ذمامة ، ولا تحرّك له اهتمامه ، فخاطب عبد الملك بن سعيد بقوله : [السريع]

أصبحت في بسقاية مسلما

إلى الأعادي لا أرى مسلما

مكلّفا ما ليس في طاقتي

مصفّدا منتهرا مرغما

أطلب بالخدمة ، وا حسرتي!

وحالتي تقضي بأن أخدما

فهل كريم يرتجى للأسير

يفكّه ، أكرم به منتمى

وقوله : [الخفيف]

أرئيس الزمان أغفلت أمري

وتلذّذت تاركا لي بأسر؟

ما كذا يعمل الكرام ولكن

قد جرى على المعوّد دهري

فاجتهد في فدائه ، ولم يمرّ شهر إلّا وقد تخلص من أسره ، واستقرّ لديه ، فكان طليق آل سعيد ، وفيهم يقول (٣) :

وجدنا سعيدا منجبا خير عصبة

هم في بني أعصارهم (٤) كالمواسم

مشنّفة أسماعهم بمدائح (٥)

مسوّرة أيمانهم بالصّوارم

فكم لهم في الحرب من فضل ناثر!

وكم لهم في السّلم من فضل ناظم

تواليفه : وتواليف الحجاري بديعة ، منها «الحديقة» في البديع ، وهو كتاب مشهور ، ومنها «المسهب في غرائب المغرب» ، وافتتح خطبته بقوله : «الحمد لله الذي جعل العباد ، من البلاد بمنزلة الأرواح من الأجساد ، والأسياف من الأغماد». وهو في ستة مجلدات.

__________________

(١) في الأصل : «وكان».

(٢) بسقاية : بالإسبانيةVizcaya ، وهي إحدى ولايات مملكة نبرة.

(٣) الأبيات في المغرب (ج ٢ ص ٣٦).

(٤) في المغرب : «أزمانهم».

(٥) في المغرب : «بفضائل».

٣٣٠

عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله

ابن سعيد بن الخطيب السّلماني (١)

يكنى أبا محمد.

أوّليّته : تنظر في اسم جدّه.

حاله : حسن (٢) الشّكل ، جيّد الفهم ، يغطّي منه رماد السّكون جمرة حركة ، منقبض عن الناس ، قليل البشاشة ، حسن الخطّ ، وسط النّظم. كتب عن الأمراء بالمغرب ، وأنشدهم ، واقتضى (٣) خلعهم وصكوكهم بالإقطاع والإحسان. ثم لما كانت الفتنة كتب عن سلطان وطنه ، معزّز الخطّة بالقيادة ، وأنشدهم.

مشيخته : قرأ (٤) على قاضي الجماعة ، الشيخ (٥) الأستاذ الخطيب أبي القاسم الحسني ، والأستاذ (٦) الخطيب أبي سعيد فرج بن لب التّغلبي ، واستظهر بعض (٧) المبادىء في العربية ، واستجيز له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب.

شعره : وشعره (٨) مترفّع عن الوسط إلى الإجادة ، بما يكفله (٩) عذر الحداثة. وقد ثبت في اسم السلطان لهذا العهد ، أبي عبد الله بن نصر (١٠) ، أيّده الله ، ما يدلّ على جودة قريحته ، وذكاء طبعه. وممّا دوّن الذي ثبت له حيث ذكر قوله (١١) :

لمن طلل بالرّقمتين محيل

عفت دمنتيه شمأل وقبول (١٢)

يلوح كباقي الوشم غيّره البلى

وجادت عليه السّحب وهي همول (١٣)

__________________

(١) ترجمة عبد الله بن محمد بن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص ٢٧٩) ونفح الطيب (ج ١٠ ص ١٤٣) وجاء فيه أنه : «عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن الخطيب التلمساني».

(٢) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٤٣).

(٣) في النفح : «وأقبض صكوكهم بالإقطاعات والإحسان ، واختال في خلعهم. ثم لمّا ...».

(٤) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٤٣).

(٥) قوله : «الشيخ الأستاذ» ساقط في النفح.

(٦) في النفح : «والخطيب».

(٧) في النفح : «ببعض».

(٨) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٤٣).

(٩) في النفح : «الإجادة ، يكلّله ...».

(١٠) هو الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل. ترجمته في اللمحة البدرية (ص ١١٣ ، ١٢٩).

(١١) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٢٨٠ ـ ٢٨١) وقال إنه قالها في الأغراض السلطانية أيام كتابته عن السلطان ملك المغرب. وهي أيضا في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٤٦).

(١٢) المحيل : المتغيّر. الدّمنة : الموضع القريب من الدار. الشمال : ريح الشمال. القبول : الريح التي تقابل الشمال. لسان العرب (حيل) و (دمن) و (شمأل) و (قبل).

(١٣) همول : منهمرة. لسان العرب (همل).

٣٣١

فيا سعد ، مهلا بالرّكاب لعلّنا

نسائل ربعا فالمحبّ سؤول

قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى

ويشفى بها بين الضّلوع غليل

وعرّج على الوادي المقدّس بالحمى (١)

فطاب لديه مربع ومقيل

فيا حبّذا تلك الديار وحبّذا

حديث بها للعاشقين طويل

دعوت لها سقي الحمى عندما سرى (٢)

وميض وعرف للنسيم عليل

وأرسلت دمعي للغمام مساجلا

فسال على الخدّين منه مسيل

فأصبح ذاك الرّبع من بعد محله

رياضا بها الغصن المروح يميل

لئن حال رسم الدار عمّا عهدته

فعهد الهوى في القلب ليس يحول (٣)

وممّا شجاني بعد ما سكن الهوى

بكاء حمامات لهنّ هديل

توسّدن فرع البان والنّجم مائل

وقد آن من جيش الظلام رحيل

فيا صاحبي ، دع عنك لومي فإنّه

كلام على سمع المحبّ ثقيل

تقول اصطبارا عن معاهدك الألى

وهيهات صبري ما إليه سبيل

فلله عينا من رآني وللأسى

غداة استقلّت بالخليط حمول

يطاول ليل التّمّ مني مسهّد

وقد بان عنّي منزل وخليل

فياليت شعري هل يعودنّ ما مضى؟

وهل يسمحنّ الدهر وهو بخيل؟

نثره : أجابني لما خاطبت الجملة من الكتّاب ، والسلطان ، رضي الله عنه ، بالمنكّب ، في رحلة أعملها بما نصّه :

«لله من فذّة المعاني ، حيث مشوق الفؤاد عاني ، لما أنارت بها المغاني ، غنين عن مطّرب الأغاني ، يا صاحب الإذعان ، أجب بالله من دعاني ، إذا صرت من كثرة الأماني ، بالشوق والوجد مثل ماني. وردت سحّات سيدي التي أنشأت لغمام الرحمة عند اشتداد الأزمة رياحا ، وملأت العيون محاسنا والصّدور انشراحا ، وأصبح رحيب قرطاسها وعميم فضلها ونوالها وأيناسها لفرسان البلاغة مغدى ومراحا. فلم أدر أصحيفة نسخت مسطورة ، أم روضة نفحت ممطورة ، أطيب من المسك منتشقا ، وأحسن من السلك متّسقا ، فملّكتها مقادة خاطري ، وأودعتها سواد قلبي وناظري ، وطلعت عليّ طلوع الصّبح على عقب السّري ، وخلصت خلوص الخيال مع سنة الكرى. فلله ما جلبت من أنس ، وأذهبت لطائفة الشيطان من مسّ ، وهاجت من

__________________

(١) في الكتيبة : «والحمى».

(٢) في النفح : «الحمى وربوعه».

(٣) يحول : يتغيّر. لسان العرب (حول).

٣٣٢

الشوق ، الذي شبّ عمره عن الطّوق ، والوجد الذي أصبح واري الزّند. فأقسم بباري النّسم ، وواهب الحظوظ والقسم ، لو أعطيت للنّفس مقادتها ، وسوّغتها إرادتها ، ما قنعت بنيابة القرطاس والمداد ، عن مباشرة الأرواح والأجساد ، وإن أعرضت عقبة للشّعير ورأس المزاد ، وشمخ بأنفه وزاد ، وما بين ذلك من علم باذخ ، وطود شامخ ، قد أذكرت العقاب عقابه ، وصافحت النجوم هضابه ، قد طمح بطرفه ، وشمخ بأنفه ، وسال الوقار على عطفه : [الكامل]

ملكت عنان الرّيح راحته

فجيادها من تحته تجري

وأما الحمل الهائج ، والبحر المتمايج ، والطّلل المائل ، والذّنب الشّائل ، فمساجلة مولاي في ذلك المجال ، من المحال ، إذ العبد قصاراه ألفاظ مركّبة ، غير مرتّبة : [الخفيف]

هو جهد المقلّ وافاك منّي

إنّ جهد المقلّ غير قليل

وأقرأ على مولاي ، أبقاه الله ، سلاما عميما ، تنسّم روضه نسيما ، ورفّ نظره وعبق شميما ، والأوفر الأذكى منه عليه معادا ، ما سحّ السّحاب إرعادا ، وأبرق الغمام رعدا والحسام أبعادا ، ورحمة الله وبركاته. من عبده الشّبق لوجهه ، عبد الله بن الخطيب ، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين وسبعمائة.

مولده : بحضرة غرناطة ، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة.

عبد الله بن محمد بن سارة البكري (١)

شنتريني (٢) ، سكن ألمرية وغرناطة ، وتردّد مادحا ومنتجعا شرقا ومغربا ، ويضرب في كثير من البلاد.

__________________

(١) ترجمة ابن سارة أو ابن صارة في وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٧٦) وبغية الملتمس (ص ٣٣٨) وزاد المسافر (ص ٦٦) وقلائد العقيان (ص ٢٥٨) والتكملة (ج ٢ ص ٢٥١) والمطرب (ص ٧٨ ، ١٣٨) والمغرب (ج ١ ص ٤١٩) والذخيرة (ق ٢ ص ٨٣٤) ومسالك الأبصار (ج ١١ ، الورقة ٣٨٣) وشذرات الذهب (ج ٤ ص ٥٥) ومعجم السفر للسلفي (ص ٢٠٥) وخريدة القصر ـ قسم المغرب (ج ٢ ص ٢٥٦) والفلاكة والمفلوكون (ص ٩٠) ورايات المبرزين (ص ١٠٦) وبغية الوعاة (ص ٢٨٨) ونفح الطيب (ج ٢ ص ٤٣) و (ج ٤ ص ٢٨٤) وصفحات أخرى متفرقة.

(٢) نسبة إلى مدينة شنترين البرتغاليةsantaren ، وهي بلدة في غرب جزيرة الأندلس. وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٧٩).

٣٣٣

حاله : كان ذا حظّ صالح من النحو واللغة ، وحفظ الأشعار ، أديبا ماهرا ، شاعرا مجيدا ، مطبوع الاختراع والتّوليد. تجوّل في شرق الأندلس وغربها معلّما للنحو ، ومادحا ولاتها ، وكتب عن بعضهم ، وتعيّش بالوراقة زمانا ، وكان حسن الخطّ ، جيّد النقل والضّبط.

مشيخته : روى عن أبي الحسن بن الأخضر.

من روى عنه : روى عنه أبو بكر بن مسعود ، وأبو جعفر بن الباذش ، وأبو عثمان بن هارون ، وأبو الطاهر التّميمي ، وأبو العباس بن علي اللص ، وأبو العلاء بن الجنّان ، وأبو محمد بن يوسف القضاعي ، وإبراهيم بن محمد السّبتي.

شعره : وشعره كثير جيد شهير. منه في حرفة الوراقة قوله (١) : [الكامل]

أمّا الوراقة فهي أيكة (٢) حرفة

أغصانها (٣) وثمارها الحرمان

شبّهت صاحبها بإبرة (٤) خائط

يكسو (٥) العراة وظهره عريان

وقال في نجم الرّحيم ، وهو من التّشبيه العقيم (٦) : [البسيط]

وكوكب أبصر العفريت مسترقا

فانقضّ (٧) يذكي (٨) سريعا خلفه لهبه

كفارس حلّ إحصار (٩) عمامته

فجرّها (١٠) كلّها من خلفه عذبه

وقال منه في المواعظ (١١) : [البسيط]

يا من يصيخ إلى داعي السّفاه (١٢) وقد

نادى به النّاعيان : الشّيب والكبر

إن كنت لا تسمع الذّكرى ففيم ثوى (١٣)

في رأسك الواعيان : السّمع والبصر؟

__________________

(١) البيتان في الذخيرة (ق ٢ ص ٨٣٥) والمطرب (ص ٧٨) والفلاكة والمفلوكون (ص ٩٠).

(٢) في الذخيرة والمطرب : «أنكد».

(٣) في الذخيرة : «أوراقها».

(٤) في الذخيرة : «بصاحب إبرة».

(٥) في الذخيرة والمطرب : «تكسو العراة وجسمها ...».

(٦) البيتان في قلائد العقيان (ص ٢٦٨).

(٧) في الأصل : «فانقضى» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من القلائد.

(٨) في القلائد : «يذكي له في أثره لهبه».

(٩) في الأصل : «إخصارا» والتصويب من القلائد.

(١٠) في الأصل : «تجرّها» والتصويب من القلائد.

(١١) الأبيات في قلائد العقيان (ص ٢٦٤) ووفيات الأعيان (ج ٣ ص ٧٨) ونفح الطيب (ج ٦ ص ٩٦).

(١٢) في القلائد : «السقاة». والسّفاه : الجهل.

(١٣) في الأصل : «... الذكر ففيم ترى» والتصويب من المصادر الثلاثة.

٣٣٤

ليس الأصمّ ولا الأعمى سوى رجل

لم يهده الهاديان : العين والأثر

لا الدهر يبقى على حال (١) ولا الفلك ال

أعلى ولا النّيّران : الشمس والقمر

لأرحلنّ (٢) عن الدنيا ولو كرها (٣)

فراقها الثاويان : البدو والحضر

وقال في موت ابنة له (٤) : [الوافر]

ألا يا موت ، كنت بنا رؤوفا

فجدّدت السّرور (٥) لنا بزوره

حمدنا (٦) سعيك المشكور لمّا

كفيت (٧) مؤنة وسترت عوره

فأنكحنا الضّريح بلا صداق

وجهّزنا العروس (٨) بغير شوره

وفاته : توفي عبد الله بن سارة سنة تسع عشرة وخمسمائة (٩).

عبد الله بن محمد الشرّاط (١٠)

يكنى أبا محمد ، من أهل مالقة.

حاله : طالب جليل ، ذكي ، مدرك ، ظريف ، كثير الصّلف والختروانة (١١) والإزراء بمن دونه ، حادّ النّادرة ، مرسل عنان الدّعابة ، شاعر مكثر ، يقوم على الأدب والعربية ، وله تقدّم في الحساب ، والبرهان على مسائله. استدعي إلى الكتابة بالباب السلطاني ، واختصّ بولي العهد ، ونيط به من العمل ، وظيف نبيه ، وكاد ينمو عشبه ويتأشّب (١٢) جاهه ، لو أن الليالي أمهلته ، فاعتبط لأمد قريب من ظهوره ، وكانت بينه وبين الوزير أبي عبد الله بن الحكيم ، إحنة ، تخلّصه الحمام لأجلها ، من كفّ انتقامه.

__________________

(١) في المصادر الثلاثة : «... يبقى ولا الدنيا ولا ...».

(٢) في المصادر الثلاثة : «ليرحلنّ».

(٣) في المصادر الثلاثة : «إن كرها» ويقال لغويا : «وإن كره فراقها الثاويان».

(٤) الأبيات في قلائد العقيان (ص ٢٦٨) ونفح الطيب (ج ٦ ص ٩٦ ـ ٩٧).

(٥) في المصدرين : «الحياة».

(٦) في المصدرين : «حماد لفعلك المشكور ...».

(٧) في القلائد : «كففت».

(٨) في المصدرين : «الفتاة».

(٩) في وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٧٩): «وكانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة بمدينة ألمرية من جزيرة الأندلس». وهكذا جاء في التكملة (ج ٢ ص ٢٥٢).

(١٠) ترجمة ابن الشراط في نثير فرائد الجمان (ص ٣٢٥).

(١١) لم نقف على هذه الكلمة في كتب اللغة ، وجاء فيها في مادة (ختر) : الختر : أقبح الغدر وأشدّه.

(١٢) يتأشّب : يتجمّع.

٣٣٥

شعره : وشعره كثير ، لكني لم أظفر منه إلّا باليسير. نقلت من خطّ صاحبنا القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن ، من نظم أبي محمد الشراط ، في معنى كان أدباء عصره قد كلفوا بالنظم فيه ، يظهر من هذه الأبيات في شمعة : [الوافر]

وكنت ألفت قبل اليوم إلفا

أنادي مرة فيجيب ألفا

وكنّا مثل وصل العهد وصلا

وكنّا مثل وصف الشّهد وصفا

ففرّق بيننا صرف الليالي

وسوّغنا كؤوس البين صرفا

فصرت غداة يوم البين شمعا

وسار فصار كالعسل المصفّا

فدمعي لا يتم أسى وجسمي

يغص بنار وجدي ليس يطفا

ثم في المعنى أيضا (١) : [البسيط]

حالي وحالك أضحت آية عجبا

إن كنت مغتربا (٢) أو كنت مقتربا (٣)

إذا دنوت فإني مشعر طربا

وإن نأيت فإني مشعل لهبا

كذاك الشّمع لا تنفكّ (٤) حالته

إلّا إلى الناس مهما فارق الضّربا

ومن ذلك أيضا : [الطويل]

رحلتم وخلّفتم مشوفكم نسيا

رهين هيام لا يموت ولا يحيا

فضاقت عليّ الأرض واعتاص مذهبي

وما زلت في قومي ولا ضاقت الدنيا

وما باختيار شتّت الدهر بيننا

وهل يملك الإنسان من أمره شيّا؟

فذا أضلعي لم تخب من أجلكم جوى

وذا أدمعي لم تأل من بعدكم جريا

كأنّني شمع في فؤاد وأدمع

وقد فارقت من وصلكم ريّا

وذكر لي أن هذا صدر عنه في مجلس أنس مع الوزير أبي عبد الله بن عيسى بمالقة ، بحضرة طائفة من ظرفاء الأدباء.

وفاته : كان حيّا سنة سبعمائة ، وتوفي بغرناطة ، وهو على حاله من الكتابة ، رحمه الله.

__________________

(١) الأبيات في نثير فرائد الجمان (ص ٣٢٦).

(٢) في الأصل : «مغرّبا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من نثير فرائد الجمان.

(٣) في الأصل : «مغتربا» والتصويب من النثير.

(٤) في النثير : «لا ينفك».

٣٣٦

عبد الله بن يوسف بن رضوان بن يوسف

ابن رضوان النّجاري (١)

يكنى أبا القاسم ، ويعرف باسم جدّه ، من أهل مالقة ، وصاحب القلم الأعلى لهذا العهد بالمغرب.

حاله : هذا الفاضل نسيج وحده ، فهما وانطباعا ، ولوذعيّة ، مع الدّين والصّون ، معمّ ، مخول في الخير ، مستول على خصال حميدة ، من خطّ وأدب وحفظ ، مشارك في معارف جملة. كتب ببلده عدلا رضى ، وأنشد السلطان عند حلوله ببلده. ورحل عن بلده إلى المغرب ، فارتسم في كتابة الإنشاء بالباب السلطاني ، ثم بان فضله ، ونبه قدره ، ولطف محلّه ، وعاد إلى الأندلس ، لما جرت على سلطانه الهزيمة بالقيروان ، ولم ينتشله الدهر بعدها مع جملة من خواصّه. فلمّا استأثر الله بالسلطان المذكور ، موسوم التّمحيص ، وصيّر أمره إلى ولده بعده ، جنح إليه ، ولحق ببابه ، مقترن الوفادة ، بيمن الطّائر ، وسعادة النّصبة ، مظنّة الاصطناع ، فحصل على الحظوة ، وأصبح في الأمد القريب ، محلا للبثّ وجليسا في الخلوة ، ومؤتمنا على خطّة العلامة (٢) ، من رجل ناهض بالكلّ ، جلد على العمل ، حذر من الذّكر ، متقلّص ذيل الجاه ، متهيّب ، غزير المشاركة ، مطفّف في حقوق الدّول عند انخفاض الأسعار ، جالب لسوق الملك ما ينفق فيها ، حارّ النّادرة ، مليح التّندير ، حلو الفكاهة ، غزل مع العفة ، حافظ للعيون ، مقدّم في باب التّحسين والتنقيح ، لم ينشب الملك أن أنس منه بهذه الحال ، فشدّ عليه يد الغبطة ، وأنشب فيه براثن الأثرة ، ورمى إليه بمقاليد الخدمة ، فسما مكانه ، وعلا كعبه ، ونما عشّه. وهو الآن بحاله الموصوفة ، من مفاخر قطره ، ومناقب وطنه ، كثّر الله مثله.

مشيخته : قرأ ببلده على المقرئ أبي محمد بن أيوب ، والمقرئ الصالح أبي عبد الله المهندس ، والأستاذ أبي عبد الله بن أبي الجيش ، والقاضي أبي جعفر بن عبد الحق. وروى عن الخطيب المحدّث أبي جعفر الطّنجالي ، والقاضي أبي

__________________

(١) ترجمة ابن رضوان النجاري في نيل الابتهاج (ص ١٢٣) والتعريف بابن خلدون (ص ٢٠ ، ٤١) وجذوة الاقتباس (ص ٢٤٧) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٤٠) والكتيبة الكامنة (ص ٢٥٤) وفيه : «البخاري» بدل «النجاري». ولم يشر ابن الخطيب هنا إلى سنة وفاته ؛ لأنه توفي في سنة ٧٨٣ ه‍ ، أي بعد وفاة ابن الخطيب بسبع سنوات.

(٢) هي العلامة التي كانت توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات ، وبعضها كان السلطان يضعه بخطه. التعريف بابن خلدون (ص ٢٠).

٣٣٧

بكر بن منظور. وبغرناطة عن جلّة ؛ منهم شيخنا رئيس الكتاب أبو الحسن ابن الجيّاب ، وقاضي الجماعة أبو القاسم بن أحمد الحسني ، ولازم بالمغرب الرئيس أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي ، والقاضي أبا إسحاق إبراهيم بن أبي يحيى ، وأبا العباس بن يربوع السّبتي. وبتلمسان عن أبي عبد الله الآبلي ، وأبي عبد الله بن النّجار ، وغيرهما. وبتونس عن قاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد السلام ، وعن جماعة غيرهم.

شعره : ونظمه ونثره متجاريان لهذا العهد في ميدان الإجادة. أما شعره ، فمتناسب الوضع ، سهل المأخذ ، ظاهر الرّواء ، محكم الإمرة للتّنقيح. وأما نثره ، فطريف السّجع ، كثير الدّالة ، مطيع لدعوة البديهة ، وربما استعمل الكلام المرسل ، فجرى يراعه في ميدانه ملء عنانه.

وجرى ذكره في «التاج» أيام لم يفهق (١) حوضه ، ولا أزهر روضه ، ولا تباينت سماؤه ولا أرضه ، بما نصه (٢) : أديب أحسن ما شاء ، وفتح قليبه (٣) فملأ الدّلو وبلّ الرّشاء (٤) ، وعانى على حداثته الشعر والإنشاء ، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة ، ومجد وديانة. ونشأ هذا الفاضل على أتمّ العفاف والصّون ، فما مال إلى فساد بعد الكون. وله خطّ بارع ، وفهم إلى الغوامض مسارع. وقد أثبتّ من كلامه ، ونفثات أقلامه ، كلّ محكم العقود ، زاريا (٥) بنت العنقود. فمن ذلك قصيدة (٦) أنشدها للسلطان أمير المسلمين (٧) ، مهنّئا بهلاك الأسطول الحربي بالزّقاق الغربي (٨) ، أجاد أغراضها ، وسبك المعاني وراضها ، وهي قوله (٩) : [الطويل]

لعلّكما أن ترعيا لي وسائلا

فبالله عوجا بالرّكاب وسائلا

بأوطان أوطار قفا ومآربي

وبالحبّ خصّا بالسّلام المنازلا

ألا فانشدا بين القباب من الحمى

فؤاد شج أضحى عن الجسم راحلا

__________________

(١) فهق حوضه : امتلأ. لسان العرب (فهق).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٤١).

(٣) القليب : البئر. لسان العرب (قلب).

(٤) الرّشاء : الحبل. لسان العرب (رشا).

(٥) في النفح : «زار بابنة».

(٦) في النفح : «فمن ذلك قوله» وأورد الشعر مباشرة.

(٧) أمير المسلمين هنا هو السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري ، وقد حكم غرناطة من سنة ٧٣٣ ه‍ إلى سنة ٧٥٥ ه‍. راجع اللمحة البدرية (ص ١٠٢).

(٨) المقصود بالزقاق الغربي جبل الفتح ، أو جبل طارق ، الذي نازله ألفونش بن هرانده ، فهلك فيه حتف أنفه عام ٧٥١ ه‍. اللمحة البدرية (ص ١٠٨).

(٩) ورد في نفح الطيب من هذه القصيدة خمسة أبيات فقط.

٣٣٨

وبثّا صبّا بات هنالك واشرحا

لهم من أحاديثي عريضا وطائلا

رعى الله مثواكم على القرب والنّوى

ولا زال هامي السّحب في الرّبع هاملا

وهل لزمان باللّوى قد (١) سقى اللّوى

مآرب فما ألقى مدى الدّهر حائلا؟

فحظّي بعيد الدّار منه بقربه

ويورد فيه من مناه مناهلا

لقد جار دهري أن (٢) نأى بمطالبي

وظلّ بما أبقى (٣) من القرب ماطلا

وحمّلني من صرفه ما يؤدني

ومكّن منّي الخطوب شواغلا

عتبت عليه فاغتدى لي عاتبا

وقال : أصخ لي لا تكن لي (٤) عاذلا

أتعتبني إذ (٥) قد أفدتك موقفا

لدى أعظم الأملاك حلما ونائلا؟

مليك حباه الله بالخلق الرّضا

وأعلى له في المكرمات المنازلا

مليك علا فوق السّماك فطرفه

غدا كهلال الأفق يبصرنا علا

إذا ما دجا ليل الخطوب فبشره

صباح وبدر لا يرى الدهر آفلا

نماه من الأنصار غرّ أكابر

لهم شيم ملء الفضاء فضائلا

تلوا سور النّعماء في حزبهم كما

جلوا صور الأيام غرّا جلائلا

تسامت لهم في المعلوات مراتب

يرى زحل دون المراتب زاحلا

عصابة نصر الله طابت أواخرا

كما قد زكت أصلا وطابت أوائلا

لقد كان ربع المجد من قبل خاليا

ومن آل نصر عاد يبصر آهلا

إذا يوسف منهم تلوح يمينه

تقول سحاب الجود والبأس هاطلا

كتائبه في الفتح تكتب أسطرا

تبين من الأنفال فيها المسائلا

عوامله بالحذف تحكم في العدا

كما حكموا في حذف جزم عواملا

يبدّد جمع الكفر رعبا وهيبة

كما بدّدت منه اليمين النّوافلا

ومنها في وصفه الأسطول واللقاء :

ولمّا استقامت بالزّقاق أساطي

ل ثم (٦) استقلّت للسّعود محافلا

رآها عدوّ الله فانفضّ جمعه

وأبصر أمواج البحار أساطلا

ومن دهش ظنّ السّواحل أبحرا

ومن رعب خال البحار سواحلا

__________________

(١) كلمة «قد» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

(٢) في النفح : «إذ».

(٣) في النفح : «أبغي».

(٤) في النفح : «قطّ».

(٥) في النفح : «أن».

(٦) في الأصل : «واستقلّت» ، وكذا ينكسر الوزن.

٣٣٩

ومن جندكم هبّت عليه عواصف

تدمّر أدناها الصّلاب الجنادلا

تفرّقهم أيدي سبا وتبيدهم

فقد خلّفت فيهم حساما وذابلا

وعهدي بمرّ الريح للنار موقدا

فقد أطفأت تلك الحروب المشاعلا

وكان لهم برد العذاب ولم يكن

سلاما وما كادوه قد عاد باطلا

حداهم هواهم للإسار وللفنا

فما أفلتوا من ذا وذاك حبائلا

فهم بين عان في القيود مصفّد

وفان عليه السّيف أصبح صائلا

ستهلك ما بالبرّ منهم جنودكم

كما أهلكت من كان بالبحر عاجلا

وقال أيضا يمدحه : [الطويل]

نشرت لواء النّصر واليمن والسّعد

وأطلعت وجه اليسر والأمن والرّفد

أعدت لنا الدّنيا نعيما ولذّة

ألا للمعالي ما تعيد وما تبدي

بنوركم والله يكلأ نوركم

تبدّت لنا سبل السعادة والرّشد

تحلّى لكم بالملك نحر ولبّة

فراق كذاك الجيد يزدان بالعقد

مآثركم قد سطّرتها يد العلا

على صفحات الفخر أو مفرق الحمد

بمدحكم القرآن (١) أثنى منزّلا

وقد حزتم مجدا بجدّكم سعد

كفاكم فخارا أنه لكم أب

ومن فخره إن أنت تدعوه بالجدّ

ثناؤكم هذا أم المسك نافح؟

وذكركم أم عاطر العنبر الورد؟

أجل ذكركم أزكى وأذكى لناشق

كما أنكم أجلى وأعلى لمشهد

طلعت على الآفاق نورا وبهجة

فما أنت إلّا البدر في طالع السّعد

وفي جملة الأملاك عزّ ورفعة

ودم في خلود الملك والنصر والسعد

ولو أنني فقت سحبان وائل

وأربيت في شعري على الشاعر الكندي

لما قمت بالمعشار من بعض ما لكم

من الجود والأفضال والبذل والرّفد

وقال في شيخه أبي بكر بن منظور ، رحمه الله : [الطويل]

جلالك أولى بالعلا للمخلّد (٢)

وذكرك أعلى الذّكر في كلّ مشهد

لمجدك كان العزّ يذخر والعلى

وأنّك للأولى بأرفع سؤدد

أبى الله إلّا أن تكون مشرّفا

بمقعد خير العالمين محمد

__________________

(١) في الأصل : «للقرآن» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «المخلّد» وهكذا ينكسر الوزن.

٣٤٠