الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

وقوله ، وقد تناول الرئيس ابن خلاص (١) بيده مقصّا فأدمى يده فأنشده : [الوافر]

عداوة لا لكفّك من قد نمّ (٢)

فلا تعجب لقرّاض لئيم

لئن أدماك فهو لها شبيه

وقد يسطو اللّئيم على الكريم

وقوله في الخضاب : [الطويل]

سترت مشيبي بالخضاب تعلّلا

فلم يحظ شيبي (٣) وراب خضابي

كأنّي وقد زوّرت لونا على الصّبا

أعنون طرسا ليس فيه كتابي

غراب خضاب لم يقف من حذاره

وأغرب شيء في الحذار غرابي

وقوله وهو من البديع المخترع : [الكامل]

لا بدّ من ميل إلى جهة فلا

تنكر على الرجل الكريم مميلا

إنّ الفؤاد وإن توسّط في الحشا

ليميل في جهة الشّمال قليلا

وقوله وهو معنى قد قيل فيه : [الكامل]

لا تعجبوا للمرء يجهل قدره

أبدا ويعرف غيره فيصبر

فالعين تبصر غيرها مع بعده

لكنّ بؤبو نفسها لا تبصر (٤)

وقوله : [الوافر]

أرى المتعلّمين عليك أعدا (٥)

إذا أعلمتهم من كلّ عاد

فما عند الصّغير سوى عقوق

ولا عند الكبير سوى عناد

وقوله في وصفه ذي الجاه : [الخفيف]

يضع الناس صاحب الجاه فيهم

كل يوم في كفّة الميزان

__________________

(١) هو أبو علي الحسن بن أبي جعفر بن خلاص ، تولّى سبتة سنة ٦٣٧ ه‍ ، ثم ثار فيها في عهد السعيد أبي الحسن المعتضد بالله الموحدي سنة ٦٤١ ه‍ ، وبايع للأمير أبي زكريا الحفصي ، صاحب تونس. توفي سنة ٦٤٦ ه‍. البيان المغرب ، قسم الموحدين (ص ٣٤٧ ، ٣٥٣ ، ٣٦٠ ، ٣٧٨).

(٢) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.

(٣) في الأصل : «فشيب» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) رواية عجز البيت في الأصل هي : «ولكن نفسها لا تبصر» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٥) أصل القول : «أعداء» ، وكذا ينكسر الوزن.

٢٤١

إن رأوه يوما ترجّح وزنا

ضاعفوا البرّ فهو ذو رجحان

أو رأوا منه نقص حبّة وزن

ما كسوه في حبّة الجلجلان

وأنشدنا عنه غير واحد من شيوخنا وقد بلغ الثمانين : [السريع]

يا أيها الشيخ الذي عمره

قد زاد عشرا بعد سبعينا

سكرت من أكؤس خمر الصّبا

فحدّك الدّهر ثمانينا

وقال : هيهات! ما أظنّه يكملها ، وقال في الكبرة : [الكامل]

يا من لشيخ قد أسنّ وقد عفا

مذ جاوز السّبعين أضحى مدنفا

خانته بعد وفائها أعضاؤه

فغدا قعيدا لا يطيق تصرّفا

هرما غريبا ما لديه مؤانس

إلّا حديث محمد والمصطفى

وكتب إلى القاضي أبي الحجاج الطّرسوني في مراجعة : [السريع]

يا سيدي ، شاكركم مالك

قد صيّرت ميم اسمه هاء

ومن يعش خمسا وتسعين

قد أنهت (١) التعمير إنهاء

ومن نظمه في عرس صنعها بسبتة على طريقه في المجانة : [الكامل]

الله أكبر في منار الجامع

من سبتة تأذين عبد خاشع

الله أكبر للصّلاة أقيمها

بين الصّفوف من البلاط الواسع

الله أكبر محرما وموجّها

دبري (٢) إلى ربّي بقلب خاضع

الحمد لله السلام عليكم

آمين لا تفتح لكلّ مخادع

إن النّساء خدعنني ومكرن بي

وملأن من ذكر النساء مسامعي

حتى وقعت وما وقعت بجانب

لكن على رأس لأمر واقع

والله ما كانت إليه ضرورة

لكنّ أمر الله دون مدافع

فخطبن لي في بيت حسن قلن لي

وكذبن لي في بنت قبح شانع

بكرا زعمن صغيرة في سنّها

حسناء تسفر عن جمال بارع

خودا لها شعر أثيث حالك

كالليل تجلى عن صباح ساطع

__________________

(١) في الأصل : «قد أنهى في التعمير» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٢) في الأصل : «ودبرة» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

٢٤٢

حوراء يرتاع الغزال إذا رنت

بجفون خشف (١) في الخمائل رافع

تتلو الكتاب بغنّة وفصاحة

فيميل نحو الذّكر قلب السامع

بسّامة عن لؤلؤ متناسق

في ثغرها في نظمه متتابع

أنفاسها كالرّاح فضّ ختامها

من بعد ما ختمت بمسك رائع

شمّاء دون تفاوت عربيّة

ببسالة وشجاعة ومنازع

غيداء كالغصن الرّطيب إذا مشت

ناءت بردف للتعجّل مانع

تخطو على رجلي حمامة أيكة

مخضوبة تسبي فؤاد السامع

ووصفن لي من حسنها وجمالها

ما البعض منه يقيم عذر الخالع

فدنوت واستأمنت بعد توحّشي

وأطاع قلب لم يكن بمطاوع

فحملنني نحو الوليّ وجئنني

بالشّاهدين وجلد كبش واسع

وبعرفه من نافع لتعادل

والله عزّ وجلّ ليس بنافع

فشرطن أشراطا عليّ كثيرة

ما كنت في حملي لها بمطاوع

ثم انفصلت وقد علمت (٢) بأنني

أوثقت في عنقي لها بجوامع

وتركنني يوما وعدن وقلن لي

خذ في البناء ولكن بمرافع

واصنع لها عرسا ولا تحوج إلى

قاض عليك ولا وكيل رافع

وقرعت سنّي عند ذاك ندامة

ما كنت لو لا أن (٣) خدعت بقارع

ولزمتني حتى انفصلت بموعد

بعد اليمين إلى النهار الرابع

فلو أنني طلّقت كنت موفّقا

ونفضت من ذاك النكاح أصابعي

لكن طمعت بأن أرى الحسن الذي

زوّرن لي فذممت سوء مطامعي

فنظرت في أمر البناء معجّلا

وصنعت عرسا يا لها من صانع!

وطمعت أن (٤) تجلى ويبصر وجهها

ويقرّ عيني بالهلال الطّالع

وظننت ذاك كما ذكرن ولم يكن

وحصلت أيضا في مقام الفازع

وحملنني ليلا إلى دار لها

في موضع عن كل خير سامع

دار خراب في مكان توحّش

ما بين آثار هناك بلاقع

فقعدت في بيت صغير مظلم

ولا شيء فيه سوى حصير الجامع

__________________

(١) الخشف : ولد الظّبي.

(٢) في الأصل : «وعلمت» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) كلمة «أن» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

(٤) في الأصل : «بأن» ، وكذا ينكسر الوزن.

٢٤٣

فسمعت حسّا عن شمالي منكرا

وتنحنحا يحكي نقيق ضفادع

فأردت أن أنجو بنفسي هاربا

ووثبت عند الباب وثبة جازع

فلقيتهنّ وقد أتين بجذوة

فرددنني وحبسنني بمجامع

ودخلن بي في البيت واستجلسنني

فجلست كالمضرور يوم زعازع

وأشرن لي نحو السّماء (١) وقلن لي

هذي زويبعة وبنت زوابع

هذي خليلتك التي زوّجتها

فاجلس هنا معها ليوم سابع

بتنا من (٢) النّعمى التي خوّلتها

فلقد حصلت على رياض يانع

فنظرت نحو خليلتي متأمّلا

فوجدتها محجوبة ببراقع

وأتيتها وأردت نزع خمارها

فغدت تدافعني بجدّ وازع

فوجلتها في صدرها وحذوته

وكشفت هامتها بغيظ صارع

فوجدتها قرعاء تحسب أنّها

مقروعة في رأسها بمقارع

حولاء تنظر فوقها في ساقها

فتخالها مبهوتة في الشارع

فطساء تحسب أنّ روثة أنفها

قطعت فلا شلّت يمين القاطع

صمّاء تدعى بالبريح وتارة

بالطّبل أو يؤتى لها بمقامع

بكماء إن رامت كلاما صوّتت

تصويت معزى نحو جدي راضع

فقماء إن ما (٣) تلتقي أسنانها

تفسو إذا نطقت فساء الشابع

عرجاء إن قامت تعالج مشيها

أبصرت مشية ضالع أو خامع

فلقيتها وجعلت أبصق نحوها

وأفرّ نحو دجى وغيث هامع

حيران أغدو في الزّقاق كأنني

لصّ أحسّ بطالب أو تابع

حتى إذا لاح الصباح وفتّحوا

باب المدينة كنت أوّل كاسع

والله ما لي بعد ذاك بأمرها

علم ولا بأمور بيتي الضّائع

نثره : وفضّل الناس نظمه على نثره ، ونحن نسلّم ذلك من باب الكثرة ، لا من باب الإجادة. وهذه الرسالة معلمة بالشهادة بحول الله.

كتب إلى الشيخين الفقيهين الأديبين البليغين أبي بكر بن يوسف بن الفخّار ، وأبي القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري :

__________________

(١) في الأصل : «السما».

(٢) في الأصل : «وبتنا النعمى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٣) كلمة «ما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

٢٤٤

«لله درّكما حليفي صفاء ، وأليفي وفاء ، يتنازعان كأس المودّة تنازع الأكفاء ، ويتهاديان ريحان التحية تهادي الظّرفاء. قسيمي نسب ، وقريعي حسب ، يتجاوزان بمطبوع من الأدب ومكتسب ، ويتواردان على علم من الظّرف ونسب ، رضيعي لبان ، ذريعي لبان ، يحرزان ميراث قسّ وسحبان ، ويبرزان من الذّكاء ما بان على أبان ، قسيمي مجال ، فصيحي رويّة وارتجال ، يترعان في أشطان البلاغة سجالا بعد سجال ، ويصرعان في ميدان الفصاحة رجالا على رجال. ما بالكما؟ لا حرمت حبالكما ولا قصمت نبالكما ، لم تسمحا لي من عقودكما بدرّة ، ولم ترشّحاني من نقودكما بدرة ، ولم تفسحا لي بحلوة ولا مرّة. لقد ابتليت من أدبكما بنهر أقربه ولا أشربه ، وما أرده ولا أتبرّده. ولو كنت من أصحاب طالوت لا فسحت لي غرفة ، وأتيحت لي ترفة. بل لو كنت من الإبل ذوات الأظماء ، ما جليت بعد الظّمإ على الماء ، ولا دخلت بالإشفاق مدخل العجماء. كيف وأنا ولا فخر في صورة إنسان ، ناطق بلسان ، أفرّق بين الإساءة والإحسان. وإن قلت إنّ باعي في النّظم قصير ، وما لي على النّثر وليّ ولا نصير ، وصنعة النحو عني بمعزل ، ومنزل الفقيه ليس لي بمنزل ، ولم أقدم على العلم القديم ، ولا استأثرت من أهله بنديم. فأنا والحمد لله غنيّ بصنعة الجفر ، وأقتني اليراع كأنها شبابيك التّبر ، وأبري البريّة التي (١) تنيف على الشّبر ، وأزين خدود الأسطار المستوية ، بعقارب اللّامات الملتوية ، ولا أقول كأنها ، فلا ينكر السيدان أعزّ هما الله أنها نعم بعود أزاعم ، وبمثل شكسي تحضر الملاحم. فما هذا الازدراء والاجتراء في هذا الأمر مرّ المواقير. تالله لقد ظلمتماني على علم ، واستندتما إلى غير حلم ، أما رهبتما شبابي ، أما رغبتما في حسابي ، أما رفعتما بين نفح صبابي ، ولفح صبابي. لعمري لقد ركبتما خطرا ، وهجتما الأسد بطرا ، وأبحتما حمى محتضرا ، ولم تمعنا في هذا الأمر نظرا : [الطويل]

أعد نظرا يا عبد قيس لعلّما

أضاءت لك النّار الحمار المقيّدا

ونفسي عين الحمار ، في هذا المضمار ، لا أعرف قبيلا من دبير ، ولا أفرّق بحسّي بين صغير وكبير ، ولا أعهد أنّ حصاة الرّمي أخفّ من ثبير ، أليس في ذوي كبد رطبة أجر ، وفي معاملة أهل التّقوى والمغفرة تجر؟ وإذا خوّلتماني نعمة أو نفلتماني نفلا ، فاليد العليا خير من اليد السّفلى ، وما نقص مال من صدقة ، ولا جمال من لمح حدقة ، والعلم يزيد بالإنفاق ، وكتمه حرام باتفاق ، فإن قلتما لي إنّ فهمك سقيم ، وعوجك على الرّياضة لا يستقيم ، فلعلّ الذي نصب قامتي ، يمنّ

__________________

(١) في الأصل : «المغا».

٢٤٥

باستقامتي ، وعسى الذي يشقّ سمعي وبصري ، أن يزيل عييّ وحصري ، فأعي ما تقصّان ، وأجتلي ما تنصّان ، وأجني ثمار تلك الأغصان ، فقد شاهدتما كثيرا من الحيوان ، يناغى فيتعلّم ، ويلقّن فيتكلّم. هذا والجنس غير الجنس ، فكيف المشارك في نوعيّة الإنس؟ فإن قلنا إن ذلك يشقّ ، فأين الحقّ الذي يحقّ ، والمشقّة أخت المروّة ، وينعكس مساق هذه الأخوّة ، فيقال المروّة أخت المشقّة ، والحجيج يصبر على بعد الشّقّة ، ولو لا المشقّة كثر السّادة ، وقلّت الحسادة ، فما ضرّكما أيها السيّدان أن تحسبا تحويجي ، وتكتسبا الأجر في تدريجي؟ فإنكما إن فعلتما ذلك نسبت إلى ولائكما ، كما حسبت على علائكما ، وأضفت إلى نديّكما ، كما عرّفت بمنتداكما. ألم تعلما أنّ المرء يعرف بخليله ، ويقاس به في كثيرة وقليله؟ ولعلّي أمتحن في مرام ، ويعجم عودي رام ، فيقول هذا العود من تلك الأعواد ، وما في الحلبة من جواد ، فأكسوكما عارا ، وأكون عليكما شعارا. على أني إذا دعيت باسمكما استريت من الادّعاء ، فلا أستجيب لهذا الدّعاء ، ولكن أقول كما قال ابن أبي سفيان حين عرف الإدارة ، وأنكر الإمارة ، نعم أخوّتي أصحّ ، وأنّها بها أشحّ ، إلا أنّ غيري نظم في السّلك ، وأسهم في الملك ، وأنا بينكما كالمحجوب بين طلّاب ، يشاركهم في البكا لا في التّراب (١) ، إن حضرت فكنتم في الإقحام ، أو لمقعد في زحام ، وإن غبت فيقضى الأمر ، وقد سطر زيد وعمرو. ناشدتكما الله في الإنصاف أن تريعا بواد من أودية الشّحر ، في ناد من أندية الشّعر بل السّحر ، حيث تندرج الأنهار ، وتتأرّج الأزهار ، ويتبرّج الليل والنهار ، ويقرأ الطير صحفا منتثرة ، ويجلو النور ثغورا مؤشّرة ، ويغازل عيون النّرجس الوجل ، خدود الورد الخجل ، وتتمايل أعطاف البان ، على أرداف الكثبان ، فيرقد النسيم العليل ، في حجر الرّوض وهو بليل ، وتبرز هوادج الرّاح ، على الرّاح ، وقد هديت بأقمار ، وحديت بأزهار ومزمار ، وركبتها الصّبا والكميت في ذلك المضمار ، ولم تزالا في طيب ، وعيش رطيب ، من قباب وخدور ، وشموس وبدور ، تصلان الليالي والأيام أعجازا بصدور ، وأنا الطّريد منبوذ بالعراء ، موقوذ في جهة الوراء ، لا يدني محلّي ، ولا يعتنى بعقدي ولا حلّي ، ولا أدرج من الحرور إلى الظّل ، ولا أخرج من الحرام إلى الحلّ ، ولا يبعث إليّ مع النّسيم هبّة ، ولا يتاح لي من الآتي عبّة. قد هلكت لغوا ، ولم تقيما لي صفوا ، ومتّ كمدا ، ولم تبعثا لبعثي أمدا. أتراه خلفتماني جرضا ، وألقيتماني حرضا؟ كم أستسقي فلا أسقى ، وأسترقي فلا أرقى ، لا ماء أشربه ، ولا عمل في وصلكما

__________________

(١) في الأصل : «التراث».

٢٤٦

أدرّبه. لم يبق لي حيلة إلّا الدّعاء المجاب ، فعسى الكرب أن ينجاب. اللهمّ كما أمددت هذين السّيّدين بالعلم الذي هو جمال ، وسدّدتهما إلى العمل الذي هو كمال ، وجمعت فيهما الفضائل والمكارم ، وختمت بهما الأفاضل والمكارم ، وجعلت الأدب الصّريح أقلّ خصالهما ، والنّظر الصحيح أقلّ نصالهما ، فاجعل اللهمّ لي في قلوبهما رحمة وحنانا ، وابسط لي منهما وجها واشرح لي جنانا ، واجعلني اللهمّ ممّن اقتدى بهما ، وتعلّق بأهدابهما ، وكان دأبه في الصّالحات كدأبهما ، حتى أكون بهما ثالث القمرين في الآيات ، وثالث العمرين في عمل البرّ وطول الحياة ، اللهمّ آمين ، وصلّى الله على محمد خاتم النبيّين. وكأنّي أنظر إلى سيديّ عزّهما الله إذا وقفا على هذا الخطاب ، ونظرا إلى هذا الاحتطاب ، كيف يديران رمزا ، ويسيران غمزا؟ ويقال : استتبّ الفصال ، وتعاطى البيذق ما تفعل النّصال ، وحنّ جذع ليس منها (١) ، وخذ عجفاءك وسمّنها ، فأقول وطرفي غضيض ، ومحلّي الحضيض ، مثلي كمثل الفروج أو ثاني البروج ، وما تقاس الأكفّ بالسّروج ، فأضربا عني أيها الفاضلان ، ما أنا ممّن تناضلان ، والسلام».

مولده : قال شيخنا الفقيه أبو عبد الله ابن القاضي المتبحّر العالم أبي عبد الله بن عبد الملك : سألته عن مولده فأنشدني : [الرجز]

يا سائلي عن مولدي كي أذكره

ولدت يوم سبعة وعشره

من المحرّم افتتاح أربع

من بعد ستمائة مفسّرة

وفاته : في التاسع (٢) عشر لرجب عام تسعة وتسعين وستمائة ، ودفن بمقبرة فاس ، وأمر أن يكتب على قبره : [مجزوء الخفيف]

زر غريبا بمقره

نازحا ما له ولي (٣)

تركوه موسّدا

بين ترب وجندل

ولتقل عند قبره

بلسان التّدلّل

يرحم الله عبده

مالك بن المرحّل

__________________

(١) في الأصل : «منهما».

(٢) في الذيل والتكملة (السفر الثامن ص ٥٢٧): «كانت وفاته بمدينة فاس في الثامن عشر لرجب الفرد من سنة تسع وتسعين وستمائة». وفي هدية العارفين : توفي سنة ٦٧٢ ه‍.

(٣) في الأصل : «ول» بدون ياء.

٢٤٧

ومن طارئي المقرئين والعلماء

منصور بن علي بن عبد الله الزواوي

صاحبنا ، يكنى أبا علي.

حاله : هذا الرجل طرف في الخير والسلامة ، وحسن العهد ، والصّون والطهارة والعفّة ، قليل التصنّع ، مؤثر للاقتصاد ، منقبض عن الناس ، مكفوف اللسان واليد ، مشتغل بشأنه ، عاكف على ما يعنيه ، مستقيم الظاهر ، ساذج الباطن ، منصف في المذاكرة ، موجب لحقّ الخصم ، حريص على الإفادة والاستفادة ، مثابر على تعلّم العلم وتعليمه ، غير أنف عن حمله عمّن دونه ، جملة من جمل السّذاجة والرّجولة وحسن المعاملة ، صدر من صدور الطّلبة ، له مشاركة حسنة في كثير من العلوم العقلية والنّقلية ، واطّلاع وتقييد ، ونظر في الأصول والمنطق وعلم الكلام ، ودعوى في الحساب والهندسة والآلات. يكتب الشّعر فلا يعدو الإجادة والسّداد.

قدم الأندلس في عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ، فلقي رحبا ، وعرف قدره ، فتقدم مقرئا بالمدرسة (١) تحت جراية نبيهة ، وحلّق للناس متكلّما على الفروع الفقهية والتفسير ، وتصدّر للفتيا ، وحضر بالدار السلطانية مع مثله. جرّبته وصحبته ، فبلوت منه دينا ونصفة ، وحسن عشرة.

محنته : امتحن في هذا العهد الأخير بمطالبة شرعيّة ، لمتوقّف صدر عنه لما جمع الفقهاء للنّظر في ثبوت عقد على رجل نال من جانب الله والنّبوّة ، وشكّ في القول بتكفيره ، فقال القوم بإشراكه في التكفير ولطخه بالعاب الكبير ، إذ كان كثير المشاحّة لجماعتهم ، فأجلت الحال عن صرفه عن الأندلس في أواخر شعبان عام خمسة وستين وسبعمائة.

مشيخته : طلبت منه تقييد مشيخته ، فكتب مما يدل على جودة القريحة ما نصه :

«يتفضّل سيدي الأعلى الذي أهتدي بمصباحه ، وأعشو إلى غرره وأوضاحه ، جامع أشتات العلوم ، وفاتق رتق الفهوم ، حامل راية البديع ، وصاحب آيات التّورية فيه

__________________

(١) هي المدرسة العجيبة التي بنيت في عهد سلطان غرناطة أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل ، الذي حكم من سنة ٧٣٣ ه‍ إلى سنة ٧٥٥ ه‍ ، وقد عدّها ابن الخطيب بكر المدارس في حضرته غرناطة. اللمحة البدرية (ص ١٠٩).

٢٤٨

والتّرصيع ، نخبة البلغاء ، وفخر الجهابذة العلماء ، قائد جياد البلاغة من نواصيها ، وسائق شوارد الحكم من أقاصيها ، أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله للقريض يقطف زهره ، ويجتني غرره ، وللبديع يطلع قمره ، وينظم درره ، وللأدب يحوك حلله ، ويجمع تفاصيله وجمله ، وللمعاني يجوس بجيوش البراعة خلالها ، ويفتتح بعوامل اليراعة أقفالها ، وللأسجاع يقرّط الأسماع بفرائدها ، ويحلّي النحور بقلائدها ، وللنّظم يورد جياده أحلى الموارد ، ويجيلها في مضمار البلاغة من غير معاند ، وللنّثر يفترع أبكاره ، ويودعها أسراره ، ولسائر العلوم يصوغها في مفرق الآداب تاجا ، ويضعها في أسطر الطّروس سراجا ، ولا زال ذا القلم الأعلى ، وبدر الوزارة الأوضح الأجلى ، ببقاء هذه الدولة المولوية والإمامة المحمدية كعبة لملوك الإسلام ، ومقصدا للعلماء الأعلام ، ورضى عنهم خلفا وسلفا ، وبورك لنا فيهم وسطا وطرفا ، ولا زالت آمالنا بعلائهم منوطة ، وفي جاههم العريض مبسوطة ، بقبول ما نبّه عليه ، من كتب شيوخي المشاهير إليه ، فها أنا أذكر ما تيسّر لي من ذلك بالاختصار ، إذ لا تفي بذكرهم وحلاهم المجلّدات الكبار.

فمنهم مولاي الوالد علي بن عبد الله لقاه الله الرّوح والريحان ، وأوسعه الرّضا والغفران. قرأت عليه القرآن وبعض ما يتعلق به من الإعراب والضبط. ثم بعثني إلى شيخنا المجتهد الإمام علم العلماء ، وقطب الفقهاء ، قدوة النّظار ، وإمام الأمصار ، منصور بن أحمد المشدالي ، رحمه الله وقدّس روحه ، فوجدته قد بلغ السّنّ به غاية أوجبت جلوسه في داره ، إلّا أنه يفيد بفوائده بعض زوّاره ، فقرأت من أوائل ابن الحاجب (١) عليه لإشارة والدي بذلك إليه ، وذلك أول محرم عام سبعة وعشرين وسبعمائة. واشتدّ الحصار ببجاية لسماعنا أنّ السلطان العبد الوادي (٢) ينزل علينا بنفسه ، فأمرني بالخروج ، رحمه الله ، فعاقني عائق عن الرجوع إليه ؛ لأتمم قراءة ابن الحاجب عليه. ثم مات ، رحمه الله ، عام أحد وثلاثين وسبعمائة ، فخصّ مصابه البلاد وعمّ ، ولفّ سائر الطلبة وضمّ ، إلّا أنه ملأ بجاية وأنظارها بالعلوم النظرية وقساها ، وأنظارها بالفهوم النقلية والعقلية فصار من طلبته شيخنا المعظم ، ومفيدنا المقدّم ، أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي المعروف بالمفسّر ، رحمه الله ، بالطريقة الحاجبية ، والكتابة الشرعية والأدبية ، مع فضل السّنّ وتقرير حسن ، إلى معارف تحلّاها ،

__________________

(١) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن يونس المصري ، المتوفّى سنة ٦٤٦ ه‍. له مختصر في الفقه المالكي يسمّى المختصر الفقهي ، والفرعي ، والجامع بين الأمهات. حسن المحاضرة (ج ١ ص ٢١٥) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٩) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٢٦).

(٢) نسبة إلى بني عبد الواد ، أصحاب تلمسان بالمغرب الأوسط.

٢٤٩

ومحاسن اشتمل حلاها. واستمرّ في ذكر شيوخه على هذه الوتيرة من التزام السّجع ، وتقرير الحلي ، فأجاد ، وتجاوز المعتاد ، فذكر منهم محمد بن يحيى الباهلي المذكور ، وأنه أخذ عنه جملة من العلوم ، فأفرده بقراءة الإرشاد ؛ والأستاذ أبا علي بن حسن البجلي ، وقرأ عليه جملة من الحاصل ، وجملة من المعالم الدينية والفقهية ، والكتب المنطقية ، كالخونجي ، والآيات البيّنات ؛ والقاضي أبا عبد الله محمد بن أبي يوسف ، قاضي الجماعة ببجاية ؛ وأبا العباس أحمد بن عمران الساوي اليانيولي. قال : ثم ثنيت العنان بتوجّهي إلى تلمسان ، راغبا في علوم العربية ، والفهوم الهندسية والحسابية ، فأول من لقيت شيخنا الذي علمت في الدنيا جلالته وإمامته ، وعرفت في أقاصي البلاد سيادته وزعامته ، وذكر رئيس الكتّاب العالم الفاضل أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي ، والمحدّث البقيّة أبا العباس بن يربوع ، والقاضي أبا إسحاق بن أبي يحيى ، وقرأ شيئا من مبادئ العربية على الأستاذ أبي عبد الله الرّندي. ولقي بالأندلس جلّة ؛ فممّن قرأ عليه إمام الصنعة العربية شيخنا أبو عبد الله بن الفخّار الشهير بالبيري ، ولازمه إلى حين وفاته ، وكتب له بالإجازة والإذن له في التّحليق بموضع قعوده من المدرسة بعده. وقاضي الجماعة الشريف أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني ، نسيج وحده ، ولازمه ، وأخذ عنه تواليفه ، وقرأ عليه تسهيل الفوائد لابن مالك ، وقيّد عليه ، وروى عن شيخنا إمام البقية أبي البركات ابن الحاج ، وعن الخطيب المحدّث أبي جعفر الطّنجالي ، وهو الآن بالحال الموصوفة. أعانه الله وأمتع به.

شعره : زرنا معا والشيخ القاضي المتفنّن أبو عبد الله المقرئ ، عند قدومه إلى الأندلس ، رباط العقاب (١). واستنشدت القاضي ، وكتب لي يومئذ بخطّه : استنشدني الفقيه الوجيه الكامل ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب ، أطال الله بقاه كما أطال ثناه ، وحفظ مهجته ، كما أحسن بهجته ، فأنشدته لنفسي : [البسيط]

لمّا رأيناك بعد الشّيب يا رجل

لا تستقيم وأمر النفس تمتثل

زدنا يقينا بما كنّا نصدّقه

عند المشيب يشبّ الحرص والأمل

وكان ذلك بمسجد رابطة العقاب ، عقب صلاة الظهر من يوم الأحد التاسع والعشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة. وكتب الشيخ الأستاذ أبو علي يقول : منصور بن علي الزّواوي ، في رابطة العقاب في كذا ، أجزت صاحبنا

__________________

(١) رباط العقاب أو رابطة العقاب كانت تخصّص للعبادة ، وكانت على مقربة من مدينة غرناطة.

الإحاطة (ج ٣ ص ٣٢٩) حاشية رقم ١ ، من تعليق المحقق محمد عبد الله عنان.

٢٥٠

الفقيه المعظم ، أبا عبد الله بن الخطيب وأولاده الثلاثة عبد الله ، ومحمدا ، وعليّا ، أسعدهم الله ، جميع ما يجوز لي وعنّي روايته ، وأنشدته قولي أخاطب بعض أصحابنا : [الطويل]

يحيّيك عن بعض المنازل صاحب

صديق غدت تهدى إليك رسائله

مقدّمة حفظ الوداد وسيلة

ولا ودّ أن تصحّ وسائله

يسائل عنك الدارسين (١) ولم يكن

تغيب لبعد الدار عنك مسائله

وكتبت له قبل هذا مما أنشدته عند قدومي على غرناطة : [المجتث]

يا من وجدناه لفظا

حقيقة في المعالي

مقدّمات علاكم

أنتجن كلّ كمال

وكل نظم قياس

خلوت منه فخال

وهو من لدن أزعج عن الأندلس ، كما تقدّم ذكره ، مقيم بتلمسان ، على ما كان عليه من الإقراء والتدريس.

مسلم بن سعيد التّنملّي (٢)

حاله : كان غير نبيه الأبوّة. ظهر في دولة السلطان أمير المسلمين ، ثاني الملوك من بني نصر (٣) ، بمزيد كفاية ، فقلّده خطّة الحفازة ، وهي تعميم النظر في المجابي ، وضمّ الأموال ، وإيقاع النّكير في محلّ التّقصير ، ومظانّ الريب ، فنمت حاله ، وعظم جاهه ، ورهبت سطوته ، وخيف إيقاعه ، وقربت من السلطان وسيلته ، فتقدّم الخدّام ، واستوعب أطراف الحظوة ، واكتسب العقار ، وصاهر في نبيه البيوتات ، وأورث عنه أخبارا تشهد له بالجود وعلوّ الهمة ، وشرف النفس ، إلى أن قضى على هذه الوتيرة.

ذكروا أن شخصا جلب سلعة نفيسة مما يطمع في إخفائها ، حيدة عن وظيفة المغرم الباهظة في مثل جنسه ، فبينما هو يروم المحاولة ، إذ بصر بنبيه المركب والبزة ،

__________________

(١) في الأصل : «الدارين» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٢) نسبة إلى تين ملّل ، سرير ملك بني عبد المؤمن الموحدي ، بها كان أول خروج المهدي محمد بن تومرت ، الذي أقام بالدولة ، ومات فصارت لعبد المؤمن ثم لولده. معجم البلدان (ج ٢ ص ٦٩).

(٣) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، الذي حكم غرناطة من سنة ٦٧١ ه‍ إلى سنة ٧٠١ ه‍. اللمحة البدرية (ص ٥٠).

٢٥١

ينفضّ في زوايا الفحص عن مثل مضطبنه ، فظنّه رئيسا من رؤساء الجند ، فقصده ورغب منه إجازة خبيئته بباب المدينة ، وقرّر لتخوّفه من ظلم الحافز الكذا مسلم ، فأخذها منه وخبّأها تحت ثيابه ، ووكّل به. ولم يذهب المسكين إلّا يسيرا ، حتى سأل عن الرجل ، فأخبر أنّه الذي فرّ عنه ، فسقط في يده. ثم تحامل ، فألفاه ينظره في داخل السور ، فدفع إليه أمانته ، وقال : سر في حفظ الله ، فقد عصمها الله من ذلك الرجل الظالم. فخجل الرجل ، وانصرف متعجّبا. وأخباره في السّراوة ونجح الوسيلة كثيرة.

وفاته : توفي في عام ثمانية وتسعين وستمائة ، وشهد أميره دفنه ، وكان قد أسفّ ولي العهد بأمور صانعه فيها من باب خدمة والده ، فكان يتلمّظ لنكبته ، ونصب لثاته لأكله ، فعاجله الحمام قبل إيقاع نقمته به. ولمّا تصيّر إليه الأمر ، نبش قبره ، وأخرج شلوه ، فأحرق بالنار ، إغراقا في شهوة التّشفي ، رحمه الله عليه.

ومن العمال الأثراء

مؤمّل ، مولى باديس بن حبّوس

حاله ومحنته : قال ابن الصّيرفي : وقد ذكر عبد الله بن بلقّين ، حفيد باديس ، واستشارته عن أمره ، لمّا بلغه حركة يوسف بن تاشفين إلى خلعه. وكان في الجملة من أحبابه ، رجل من عبيد جدّه اسمه مؤمّل ، وله سنّ ، وعنده دهاء وفطنة ، ورأي ونظر. وقال في موضع آخر : ولم يكن في وزراء مملكته وأحبار دولته ، أصيل الرأي ، جزل الكلمة ، إلّا ابن أبي خيثمة (١) من كتبته ، ومؤمّل من عبيد جدّه ، وجعفر من فتيانه. رجع ، قال : فألطف له مؤمّل في القول ، وأعلمه برفق ، وحسن أدب ، أن ذلك غير صواب ، وأشار إليه بالخروج إلى أمير المسلمين إذا قرب ، والتّطارح عليه ، فإنه لا تمكنه مدافعته ، ولا تطاق حربه ، والاستجداء له أحمد عاقبة وأيمن مغبّة. وتابعه على ذلك نظراؤه من أهل السّن والحنكة ، ودافع في صدّ رأيه الغلمة والأغمار ، فاستشاظ غيظا على مؤمّل ومن نحا نحوه ، وهمّ بهم ، فخرجوا ،

__________________

(١) أغلب الظن أنه أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب ، المعروف بابن أبي خيثمة ، الذي ذكره ابن خير مصنّفا لكتاب تاريخ هام. فهرسة ابن خير (ص ٢٥١ ـ ٢٥٢). راجع أيضا مذكرات الأمير عبد الله (ص ١٥٨) ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٢٢٢).

٢٥٢

وقد سلّ بهم فرقا منه. فلمّا جنّهم الليل فرّوا إلى لوشة ، وبها من أبناء عبيد باديس قائدها ، فملكوها وثاروا فيها ، بدعوة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. وبادر مؤمّل بالخطاب إلى أمير المسلمين المذكور وقد كان سفر إليه عن سلطانه ، فأعجبه عقلا ونبلا ، فاهتزّ إليه ، وكان أقوى الأسباب على حركته. وبادر حفيد باديس الأمر ، فأشخص الجيش لنظر صهره ، فتغلّب عليهم ، وسيق مؤمّل ومن كان معه شرّ سوق في الحديد ، وأركبوا على دواب هجن ، وكشفت رؤوسهم ، وأردف وراء كلّ رجل من يصفعه. وتقدّم الأمر في نصب الجذوع وإحضار الرّماة. وتلطّف جعفر في أمرهم ، وقال للأمير عبد الله : إن قتلتهم الآن ، أطفأت غضبك ، وأذهبت ملكك ، فاستخرج المال ، وأنت من وراء الانتقام ، فثقّفهم ، وأطمعوا في أنفسهم ريثما شغله الأمر ، وأنفذ إليه يوسف بن تاشفين في حلّ اعتقالهم ، فلم تسعه مخالفته وأطلقهم. ولمّا ملك غرناطة على تفيئة تلك الحال ، قدّم مؤمّلا على مستخلصه (١) وجعل بيده مفاتيح قصره ، فنال ما شاء من مال وحظوة ، واقتنى ما أراد من صامت وذخيرة. ونسبت إليه بغرناطة آثار ، منها السّقاية بباب الفخّارين ، والحوز المعروف بحوز مؤمّل (٢) ، أدركتها وهي بحالها.

وفاته : قال ابن الصّيرفي : وفي ربيع الأول من هذا العام ، وهو عام اثنين وتسعين وأربعمائة ، توفي بغرناطة مؤمّل مولى باديس بن حبّوس ، عبد أمير المسلمين ، وجابي مستخلصه ، وكان له دهاء وصبر ، ولم يكن بقارئ ولا كاتب. رزقه الله عند أمير المسلمين ، أيام حياته ، منزلة لطيفة ودرجة رفيعة. ولمّا أشرف على المنيّة ، أحضر ما كان عنده من مال المستخلص ، وأشهد الحاضرين على دفعه إلى من استوثقه على حمله ، ثم أبرأ جميع عماله وكتّابه. وأنفذ رجلا من صنائعه إلى أمير المسلمين بجملة من مال نفسه ، يريه أن ذلك جميع ما اكتسبه في دولته ، أيام خدمته ، وأن بيت المال أولى به ، ورغب في ستر أهله وولده ، فلمّا وصل إليه ، أظهر الأسف عليه ، وأمضى تقديم صنيعته. ثم ذكر ما كشف البحث عنه من محتجنه ، وشقاء من خلفه بسببه ، وعدّد مالا وذخيرة.

__________________

(١) المستخلص : أملاك السلطان وأمواله.

(٢) حور مؤمل أو حوز مؤمل : كان من أجمل متنزهات غرناطة وأظرفها ، سمي بذلك نسبة إلى مؤمل أحد خدام ملك غرناطة باديس بن حبوس ، ولاحتوائه على سطر من شجر الحوز. مملكة غرناطة (ص ٣٥).

٢٥٣

حرف النون

الملوك والأمراء

نصر بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر بن أحمد

ابن محمد بن خميس بن عقيل الخزرجي الأنصاري (١)

أمير المسلمين بالأندلس ، بعد أبيه وجدّه وأخيه ، يكنى أبا الجيوش ، وقد تقدم من أوليّة هؤلاء الملوك ما يغني عن الإعادة.

حاله : من كتاب «طرفة العصر في أخبار الملوك من بني نصر» من تصنيفنا ، قال : كان فتى يملأ (٢) العيون حسنا وتمام صورة ، دمث الأخلاق ، ليّن العريكة ، عفيفا ، مجبولا على طلب الهدنة وحبّ الخير ، مغمد السّيف ، قليل الشّر ، نافرا للبطر وإراقة الدماء ، محبّا في العلم وأهله ، آخذا من صناعة التّعديل (٣) بحظّ رغيب ، يخطّ التقاويم (٤) الصّحيحة ، ويصنع الآلات الطّريقة (٥) بيده ، اختصّ في ذلك الشيخ الإمام أبا عبد الله بن الرّقّام ، وحيد عصره ، فجاء واحد دهره ظرفا وإحكاما. وكان حسن العهد ، كثير الوفاء. حمله الوفاء على اللّجاج في أمر (٦) وزيره المطلوب بعزله ، على الاستهداف للخلع.

تقدّم يوم خلع أخيه ، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة ، وسنّه ثلاث وعشرون سنة ، فكان من تمام الخلق ، وجمال الصّورة ، والتّأنق في (٧) ملوكي اللّباس ، آية من آيات الله خالقه. واقتدى (٨) برسوم أبيه وأخيه ، وأجرى الألقاب والعوائد لأول دولته. وكانت أيامه ، كما شاء الله ، أيام نحس مستمرّ ، شملت المسلمين فيها الأزمة ، وأحاط بهم الذّعر ، وكلب العدوّ. وسيمرّ من ذلك ما فيه كفاية (٩). وكان فتى أيّ فتى ، لو ساعده الجدّ ، والأمر لله من قبل ومن بعد.

__________________

(١) هذه الترجمة الكاملة لأبي الجيوش نصر وردت في اللمحة البدرية (ص ٧٠ ـ ٧٧) كما هنا.

(٢) في اللمحة البدرية (ص ٧٠): «ملأ».

(٣) صناعة التعديل : علم الفلك.

(٤) في اللمحة : «التقاويم الحسنة والجداول الصحيحة الظريفة ، ويصنع ...».

(٥) في اللمحة : «العجيبة».

(٦) كلمة «أمر» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من اللمحة البدرية ، (ص ٧٠).

(٧) في اللمحة : «في رفيع اللباس وملوكي البزة آية ...».

(٨) في اللمحة : «واحتذى مرسوم».

(٩) في اللمحة : «الكفاية».

٢٥٤

وزراء دولته : وزر له مقيم أمره ومحكم التّدبير على أخيه ، أبو (١) بكر عتيق بن محمد بن المول. وبيت بني مول بقرطبة بيت (٢) له ذكر وأصالة. ولما تغلّب عليها (٣) ابن هود اختفى بها أبوه أياما عدة (٤). ولما تملّكها السلطان الغالب بالله تلك البرهة ، خرج إليه وصحبه إلى غرناطة ، فاتّصلت قرباه بعقده على بنت للرئيس أبي جعفر المعروف (٥) بالعجلب ابن عمّ السلطان. واشتدّ عضده ، ثم تأكّدت القربى بعقد مول أخي هذا الوزير على بنت الرئيس أبي الوليد أخت الرئيس أبي سعيد ، منجب هؤلاء الملوك الكرام ، فقام (٦) بأمره ، واضطلع بأعباء سلطانه ، إلى أن كان من تغلّب أهل الدولة عليه ، وإخافة سلطانه منه ، ما أوجب صرفه إلى المغرب في غرض الرسالة ، وأشير عليه في طريقه بإقامته بالمغرب ، فكان صرفا حسنا. وتولّى الوزارة محمد بن علي بن عبد الله بن الحاج ، المسيّر (٧) لخلعه ، واجتثاث أصله وفرعه ، وكان خبّا داهية ، أعلم الناس بأخبار الرّوم وسيرهم وآثارهم. فحدثت بين السلطان وبين أهل (٨) حضرته الوحشة بسببه.

قضاته : أقرّ على خطة القضاء بحضرته قاضي أخيه الشيخ الفقيه أبا جعفر القرشي المنبز بابن فركون ، وقد تقدم التعريف به مستوفى بحول الله (٩).

كتّابه : شيخنا (١٠) الصدر الوجيه ، نسيج وحده أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن الجيّاب إلى آخر مدته.

من كان على عهده من الملوك : بالمغرب (١١) ، السلطان أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. تصيّر الأمر إليه بعد وفاة أخيه السلطان أبي ثابت عامر بأحواز طنجة ، في صفر عام ثمانية وسبعمائة. وكان (١٢) مشكورا ، مبخت الولاية. وفي دولته عادت سبتة إلى الإيالة المرينيّة. ثم توفي بتازى (١٣) في مستهل رجب (١٤) من عام عشرة وسبعمائة. وتولّى الملك بعده عمّ

__________________

(١) في اللمحة : «الوزير القائد أبو ...».

(٢) في اللمحة (ص ٧١): «بيت أصالة».

(٣) كلمة «عليها» ساقطة في اللمحة.

(٤) كلمة «عدة» ساقطة في اللمحة.

(٥) في اللمحة : «المنبز بالفجلّب».

(٦) في اللمحة : «قام».

(٧) في اللمحة : «الميسّر».

(٨) في اللمحة : «وأهل».

(٩) في اللمحة : «وقد تقدّم ذكره».

(١٠) في اللمحة البدرية : «شيخنا أبو الحسن بن الجياب نسيج وحده إلى آخر مدته».

(١١) في اللمحة البدرية : (ص ٧٢): «بالمغرب من ذلك : كان على عهده بالمغرب السلطان ...».

(١٢) في اللمحة : «وكان مشكور الولاية».

(١٣) في اللمحة : «بتازا».

(١٤) في اللمحة : «شهر رجب».

٢٥٥

أبيه السلطان الجليل الكبير ، خدن العافية ، ووليّ السلامة ، وممهّد الدولة أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. واستمرّت ولايته إلى تمام أيام هذا الأمير ، وكثيرا (١) من أيام من بعده. وقد تقدّم من ذكر السلطان أبي يوسف في اسم من تقدم من الملوك ما فيه كفاية.

وبتلمسان ، الأمير أبو حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن ، [سلطان بني عبد الواد ، مذلّل الصّقع](٢) ، والمثل (٣) السّائر في الحزم والتيقّظ ، وصلابة الوجه ، زعموا ، وإحكام القحة ، والإغراب في خبث (٤) السّيرة. واستمرّت ولايته إلى عام ثمانية عشر وسبعمائة ، إلى أن سطا به ولده عبد الرحمن أبو تاشفين.

وبتونس ، الأمير الخليفة أبو عبد الله محمد بن الواثق (٥) يحيى بن المستنصر محمد (٦) بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص (٧). ثم توفي في ربيع (٨) الآخر عام تسعة (٩) وسبعمائة. فولي الأمر قريبه الأمير أبو بكر (١٠) عبد الرحمن بن الأمير أبي يحيى (١١) زكريا ابن الأمير [أبي إسحاق بن الأمير](١٢) أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص. ونهض إليه من بجاية قريبة السلطان أبو البقاء خالد ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا يحيى (١٣) بن عبد الواحد بن أبي حفص ، فالتقيا (١٤) بأرض تونس ، فهزم أبو بكر (١٥) ، ونجا بنفسه ، فدخل بستانا لبعض أهل الخدمة ، مختفيا فيه ، فسعي به إلى أبي البقاء ، فجيء به إليه ، فأمر بعض القرابة بقتله صبرا ، نفعه الله (١٦). وتمّ الأمر لأبي البقاء في رابع جمادى الأولى منه ، إلى أن وفد (١٧) الشيخ المعظم (١٨) أبو يحيى زكريا الشهير (١٩)

__________________

(١) في اللمحة : «وكثير».

(٢) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.

(٣) في اللمحة : «المثل».

(٤) كلمة «خبث» ساقطة في اللمحة.

(٥) كلمة «الواثق» ساقطة في اللمحة.

(٦) في اللمحة : «أبي عبد الله محمد ...».

(٧) في اللمحة : «حفص بن عبد الواحد».

(٨) في اللمحة : «شهر ربيع الآخر من عام ...».

(٩) في الأصل : «تسع» وهو خطأ نحوي.

(١٠) في الأصل : «أبو بكر بن عبد الرحمن» والتصويب من اللمحة.

(١١) كلمة «يحيى» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من اللمحة البدرية.

(١٢) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.

(١٣) في اللمحة : «والتقيا».

(١٤) في اللمحة : «أبو بكر بن عبد الرحمن».

(١٥) جملة «نفعه الله» ساقطة في اللمحة (ص ٧٣).

(١٦) في اللمحة : «وصل».

(١٧) كلمة «المعظم» ساقطة في اللمحة.

(١٨) في اللمحة : «المعروف باللحياني من المشرق».

(١٩) في اللمحة : «المعروف باللحياني من المشرق».

٢٥٦

باللّحياني ، قافلا من بلاد المشرق ، وهو كبير آل أبي حفص نسبا (١) وقدرا ، فأقام بإطرابلس ، وأنفذ إلى تونس خاصّته الشيخ الفقيه أبا عبد الله المردوري (٢) محاربا لأبي البقاء ، وطالبا للأمر. فتمّ الأمر (٣) ، وخلع أبو البقاء تاسع جمادى الأولى عام أحد عشر وسبعمائة. وتمّ الأمير للشيخ أبي يحيى. واعتقل أبو البقاء ، فلم يزل معتقلا إلى أن توفي في شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة ، ودفن بالجبّانة المعروفة لهم (٤) بالزلّاج ، فضريحه (٥) فيما تعرّفنا بإزاء ضريح قتيله (٦) المظلوم أبي بكر ، لا فاصل بينهما. وعند الله تجتمع الخصوم.

واتّصلت أيام الأمير أبي يحيى ، إلى أن انقرضت مدة الأمير أبي الجيوش. وقد تضمّن الإلماع بذلك (٧) الرّجز المسمّى ب «قطع السّلوك» (٨) من نظمي. فمن (٩) ذلك فيما يختصّ بملوك (١٠) المغرب قولي في ذكر السلطان أبي يعقوب : [الرجز]

ثم تقضّى معظم الزمان

مواصلا حصر بني زيّان

حتى أتى أهل تلمسان الفرج

ونشقوا من جانب اللّطف الأرج

لما ترقّى درج السّعد درج

فانفضّ ضيق الحصر عنها وانفرج

وابن ابنه وهو المسمّى عامرا

أصبح بعد ناهيا وآمرا

وكان ليثا دامي المخالب

تغلّب (١١) الأمر بجدّ غالب

أباح بالسّيف نفوسا عدّه

فلم تطل في الملك منه المدّة

ومات حتف أنفه واخترما

ثم سليمان عليها قدّما

أبو الربيع دهره ربيع

يثني على سيرته الجميع

حتى إذا الملك سليمان قضى

تصيّر الملك (١٢) لعثمان الرّضا

فلاح نور السّعد فيها وأضا

ونسي (١٣) العهد الذي كان مضى

__________________

(١) في اللمحة : «حفص إذ ذاك سنّا وقدرا».

(٢) في اللمحة : «المزدوري».

(٣) في اللمحة : «له الأمر».

(٤) في اللمحة : «عندهم».

(٥) في اللمحة : «بضريحه».

(٦) كلمة «قتيله» ساقطة في اللمحة.

(٧) في اللمحة : «ببعض ذلك الرجز من نظمنا».

(٨) هو كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» لابن الخطيب.

(٩) في اللمحة : «فمنه».

(١٠) في اللمحة : «بذكر ملوك في ذكر السلطان ...».

(١١) في اللمحة : «يقلّب».

(١٢) في اللمحة : «الأمر».

(١٣) في الأصل : «وسنى» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من اللمحة البدرية (ص ٧٤).

٢٥٧

وفيما يختصّ ببني زيّان ، بعد ذكر أبي زيّان : [الرجز]

حتى إذا استوفى زمان سعده

قام أبو حمّو بها من بعده

وهو الذي سطا عليه ولده

حتى انتهى على يديه أمده (١)

وفيما يختصّ بآل أبي حفص بعد ذكر جملة (٢) منهم : [الرجز]

ثم الشهيد (٣) والأمير (٤) خالد

هيهات ما في الدهر حيّ خالد

وزكريّاء (٥) بها بعد ثوى

ثم نوى الرّحلة عنها والنوى

وحلّ (٦) بالشرق وبالشرق ثوى

وربما فاز امرؤ بما نوى

ومن ملوك النصارى بقشتاله : هرانده بن شانجه بن ألهنشه (٧) بن هرانده بن شانجه. ونازل على عهده الجزيرة الخضراء ، ثم أقلع عنها عن ضريبة (٨) وشروط ، ثم نازل في أخريات أمره (٩) حصن القبذاق ، وأدركه ألم الموت بظاهره ، فاحتمل من المحلّة (١٠) إلى جيّان ، وبقيت المحلّة منيخة على الحصن ، إلى أن تملّك بعد موت الطّاغية بأيام (١١) ثلاثة ، كتموا فيها موته. ولسبب (١٢) هلاكه حكاية ظريفة ، تضمنتها «طرفة العصر ، في تاريخ دولة بني نصر». وقام بعده بأمر النصرانية ولده ألهنشه ، واستمرّت أيامه إلى (١٣) عام خمسين وسبعمائة.

بعض الأحداث في أيامه : نازل على أول أمره طاغية قشتالة الجزيرة الخضراء في الحادي والعشرين من (١٤) عام تسعة وسبعمائة ، وأقام عليها إلى أخريات شعبان من العام المذكور ، وأقلع (١٥) عنها بعد ظهوره على الجبل (١٦) وفوز قداحه به. ونازل

__________________

(١) بعد هذا البيت جاء في اللمحة البدرية البيت الآتي :

وأخذ الله له بالثار

وكلّ نظم فإلى انتثار

(٢) في اللمحة : «جملة في نسق».

(٣) في اللمحة : «ثم الأمير والشهيد».

(٤) في الأصل : «الأمير» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من اللمحة.

(٥) في الأصل : «وزكريّا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من اللمحة.

(٦) في الأصل : «رحل» والتصويب من اللمحة.

(٧) في اللمحة : «ألفونشة».

(٨) في اللمحة : «عن شروط وضريبة».

(٩) في اللمحة : «أيامه».

(١٠) المحلّة هنا بمعنى : المعسكر.

(١١) في اللمحة : «بعد أيام ثلاثة إذ كتم موته».

(١٢) في اللمحة : «ولموته حكاية غريبة تضمنها كتاب طرفة العصر من تأليفنا».

(١٣) في اللمحة : «إلى عاشوراء من عام ...».

(١٤) في اللمحة البدرية (ص ٧٥): «لصفر من ...».

(١٥) في اللمحة : «ثم أقلع».

(١٦) في اللمحة : «على جبل الفتح» ، وهو جبل طارق.

٢٥٨

صاحب برجلونة مدينة ألمريّة غرّة ربيع الأول من هذا العام ، وأخذ بمخنّقها ، وتفرّقت الظبا على الخراش (١) ، ووقعت على جيش المسلمين الناهد إليه وقيعة (٢) كبيرة ، واستمرّت المطاولة إلى أخريات شعبان ، ونفّس الله الحصر ، وفرّج الكرب. وما كاد أهل الأندلس يستنشقون (٣) ريح العافية ، حتى نشأ نجم الفتنة (٤) ، ونشأت ريح الخلاف ، واستفسد وزير الدولة ضمائر أهلها ، واستهدف إلى رعيتها بإيثار النصارى والصاغية إلى العدوّ ، وأظهر الرّئيس (٥) ابن عم الأب صاحب مالقة أبو سعيد فرج (٦) بن إسماعيل ، صنو الغالب بالله (٧) ابن نصر ، الامتساك بما كان بيده ، والدعاء لنفسه ، وقدّم ولده الدّائل إلى طلب الملك. وثار أهل غرناطة ، يوم الخامس والعشرين لرمضان (٨) من العام ، وأعلن منهم من أعلن بالخلاف ثم خانهم التدبير ، وخبطوا العشواء (٩) ، ونزل الحشم ، فلاذ الناس منهم بديارهم ، وبرز السلطان إلى باب القلعة ، متقدّما بالعفّة عن الناس ، وفرّ الحاسرون عن القناع ، فلحقوا بالسلطان أبي الوليد بمالقة ، فاستنهضوه (١٠) إلى الحركة ، وقصد الحضرة ، فأجابهم وتحرّك ، فأطاعته الحصون بطريقه ، واحتلّ خارج (١١) غرناطة صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين لشوال منه (١٢) ، فابتدره الناس من صائح ومشير بثوبه ، ومتطارح بنفسه ، فدخل البلد من ناحية ربض البيّازين ، واستقرّ بالقصبة (١٣) ، كما تقدم في اسمه. وفي ظهر يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر ، نزل (١٤) الحمراء دار الملك ، وانفصل السلطان المترجم به ، موفّى له شرط عقده من انتقاله إلى وادي آش ، مستبدّا بها ، وتعيين مال مخصوص ، وغير ذلك. ورحل ليلة الثلاثاء الثالث لذي قعدة من العام. واستمرّت الحال ، بين حرب ومهادنة (١٥) ، وجرت بسبب ذلك أمور صعبة إلى حين وفاته. رحمه الله.

__________________

(١) في اللمحة : «خداش».

(٢) في اللمحة : «وقعة».

(٣) في اللمحة : «ينتشقون».

(٤) في اللمحة : «نجم شهاب الفتنة».

(٥) في الأصل : «الرّيّس» والتصويب من اللمحة.

(٦) كلمة «فرج» ساقطة في اللمحة.

(٧) في اللمحة : «بالله تعالى الامتساك بما في يده ...».

(٨) في اللمحة : «من رمضان هذا العام».

(٩) في اللمحة : «عشواء».

(١٠) في اللمحة : «واستنهضوه».

(١١) في اللمحة : «خارجها».

(١٢) في اللمحة : «من العام».

(١٣) في اللمحة (ص ٧٦): «بالقصبة القدما تجاه الحمراء. وفي ظهر ...».

(١٤) في اللمحة : «كان دخوله دار ...».

(١٥) في اللمحة : «ومهادنة إلى حين وفاته».

٢٥٩

مولده : ولد (١) في رمضان عام ستة وثمانين وستمائة. وكانت سنّه ستا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ، ودولته الجامعة خمس سنين وشهرا واحدا ، ومقامه بوادي آش تسعة أعوام وثلاثة أيام.

وفاته : توفي ، رحمه الله ، ليلة الأربعاء سادس ذي قعدة من عام اثنين وعشرين وسبعمائة بوادي آش ، ودفن بجامع القصبة منها ، ثم نقل في أوائل (٢) ذي الحجة منه إلى الحضرة ، فكان وصوله يوم الخميس السادس منه ، وبرز إليه السلطان ، والجمع الكثير من الناس ، ووضع (٣) سريره بالمصلّى العيدي ، وصلّى عليه إثر صلاة العصر ، ودفن بمقبرة سلفه بالسّبيكة ، وكان يوما من الأيام المشهودة ، وعلى قبره مكتوب في الرّخام :

«هذا قبر السلطان المرفّع (٤) المقدار ، الكريم البيت العظيم النّجار ، سلالة الملوك الأعلام الأخيار ، الصّريح النّسب في صميم الأنصار (٥) ، الملك الأوحد الذي له السّلف العالي المنار ، في الملك المنيع الذّمار ، رابع ملوك بني نصر أنصار دين المصطفى (٦) المختار ، المجاهدين في سبيل الملك الغفار ، الباذلين في رضاه كرائم الأموال ونفائس الأعمار ، المعظّم المقدّس المرحوم أبي الجيوش نصر ابن السلطان الأعلى ، الهمام الأسمى ، المجاهد الأحمى ، الملك العادل ، الطّاهر الشّمائل ، ناصر دين الإسلام ، ومبيد عبدة الأصنام ، المؤيد المنصور ، المقدّس ، المرحوم أمير المسلمين أبي عبد الله ابن السلطان الجليل (٧) ، الملك الشهير ، مؤسّس قواعد الملك على التّقوى والرّضوان ، وحافظ كلمة الإسلام وناصر دين الإيمان ، الغالب بالله ، المنصور بفضل الله ، المقدّس المرحوم ، أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر ، تغمّده الله برحمته وغفرانه ، وبوّأه منازل إحسانه ، وكتبه في أهل رضوانه ، وكان (٨) مولده في يوم الاثنين الرابع والعشرين لشهر رمضان المعظم عام ستة وثمانين وستمائة. وبويع يوم الجمعة غرّة شوال عام ثمانية وسبعمائة ، وتوفي ، رحمه الله (٩) ، ليلة يوم الأربعاء

__________________

(١) هذا النص عن مولده ساقط في اللمحة البدرية.

(٢) في اللمحة : «في أول ذي حجة».

(٣) في اللمحة : «وصلّى على سريره بالمصلّى العيدي إثر صلاة العصر من يوم الخميس السادس من الشهر ، ووري بتربة جدّه من مقبرة السبيكة ، وكان يومه من الأيام المشهودة وعلى قبره ...».

(٤) في اللمحة : «الرفيع».

(٥) في اللمحة : «الأمصار».

(٦) في اللمحة : «المدنيّ».

(٧) في اللمحة البدرية (ص ٧٧): «السلطان الملك الجليل الشهير».

(٨) في اللمحة : «كان».

(٩) جملة «رحمه الله» ساقطة في اللمحة البدرية.

٢٦٠