الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

لصاحبه في سائر أمره ، على نحلته (١) بكتابة ساذجة وفروسة (٢) ، فبلغا الغاية من اقتناء الأسلحة والآلات الملوكية ، والخيل المغربات ، ونفيس الحلي والحلل ، وإشادة البناء للقصور. واشتمل هذا الرأي على جميع أصحابهما ، ومن تعلّق بهما من وزرائهما وكتّابهما ، ولم يعرض لهما عارض إنفاق (٣) بتلك الآفاق ، فانغمسا في النّعيم إلى قمم رؤوسهما حتى انقضى أمرهما.

قال (٤) : وكان موت مبارك أنه ركب يوما من قصر بلنسية ، وقد تعرّض أهلها مستغيثين من مال افترضه عليهم ، فقال لهم : إن كنت لا أريد إنفاقه فيما يعمّ المسلمين نفعه فلا تؤخّر عقوبتي يومي هذا. وركب إثر ذلك ، فلما أتى القنطرة ، وكانت من خشب ، خرجت رجل فرسه من حدّها فرمى به أسفلها ، واعترضته خشبة ناتئة (٥) شرخت وجهه ، وسقط الفرس عليه ، ففاضت نفسه ، وكفاهم الله أمره يومئذ.

وفي مبارك ومظفّر يقول أبو عمرو بن درّاج القسطلّي ، رحمه الله (٦) : [الطويل]

أنورك أم أوقدت بالليل نارك

لباغ قراك أو لباغ جوارك؟

وريّاك أم عرف المجامر أشعلت

بعود الكباء والألوّة (٧) نارك؟

ومبسمك الوضّاح أم ضوء بارق

حداه دعائي أن يجود ديارك؟

وخلخالك استنضيت أم قمر بدا؟

وشمس تبدّت أم ألحت سوارك؟

__________________

(١) في أعمال الأعلام : «على تحلّيه».

(٢) في المصادر : «وفروسيّة».

(٣) في أعمال الأعلام : «اتفاق».

(٤) قارن بالذخيرة (ق ٣ ص ٢٠) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٦٣) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٢٥).

(٥) في الذخيرة : «نابية شدخت». وفي أعمال الأعلام : «ثانية شدخت».

(٦) ديوان ابن دراج القسطلي (ص ١٠١ ـ ١٠٨). وورد منها في الذخيرة (ق ٣ ص ١١ ـ ١٢) فقط خمسة أبيات. وفي المغرب (ج ٢ ص ٢٩٩) بيت واحد. وورد معظمها في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٢٣ ـ ٢٢٥) ولكن بروي مختلف ، فجاء بكاف مفتوحة تتبعها ألف ، أي باستعمال ضمير المخاطب المذكر ، هكذا : (جواركا).

(٧) الكباء : ضرب من العود يتبخّر به. وكذلك الألوّة.

٢٢١

وطرّة صبح أم جبينك سافرا

أعرت الصباح نوره أم أعارك؟

وأنت هجرت (١) الليل إذ هزم الضّحى

كتائبه والصّبح لمّا استجارك

فللصّبح فيما بين قرطيك مطلع

وقد سكن الليل البهيم خمارك

فيا لنهار لا يغيض (٢) ظلامه

ويا لظلام لا يغيض (٣) نهارك

ونجم الثّريّا أم لآل تقسّمت

يمينك إذ ضمّختها أم يسارك؟

لسلطان (٤) حسن في بديع محاسن

يصيد القلوب النّافرات نفارك

وجند غرام في دروع (٥) صبابة

تقلّدن أقدار الهوى واقتدارك

هو الملك لا بلقيس أدرك شأوها

مداك ولا الزّبّاء شقّت غبارك

وقادحة (٦) الجوزاء راعيت موهنا

بحرّ هواك أم ترسّمت (٧) دارك؟

وطيفك أسرى فاستثار تشوّقي

إلى العهد أم شوقي إليك استثارك؟

وموقد (٨) أنفاسي إليك استطارني

أم الرّوح لمّا ردّ فيّ استطارك؟

فكم جزت من بحر إليّ ومهمه

يكاد ينسّي المستهام ادّكارك

__________________

(١) في الديوان وأعمال الأعلام : «أجرت».

(٢) في أعمال الأعلام : «لا يغيظ».

(٣) في أعمال الأعلام : «لا يغيظ».

(٤) في أعمال الأعلام : «بسلطان».

(٥) في أعمال الأعلام : «ضلوع».

(٦) في الديوان وأعمال الأعلام : (وقادمة).

(٧) في أعمال الأعلام : «توسّمت».

(٨) في الديوان وأعمال الأعلام : «ومرتدّ».

٢٢٢

أذو (١) الحظّ من علم الكتاب حداك (٢) لي؟

أم الفلك الدّوّار نحوي أدارك (٣)؟

وكيف كتمت الليل وجهك مظلما

أشعرك أعشيت (٤) السّنا أم شعارك؟

وكيف اعتسفت (٥) البيد لا في ظعائن

ولا شجر الخطّيّ حفّ شجارك (٦)؟

ولا أذّن الحيّ الجميع برحلة

أراح لها راعي المخاض عشارك (٧)

ولا أرزمت (٨) خوص المهاري مجيبة

صهيل جياد يكتنفن قطارك (٩)

ولا أذكت الرّكبان عنك عيونها (١٠)

حذار عيون لا ينمن حذارك

وكيف رضيت الليل ملبس طارق

وما ذرّ قرن الشمس إلّا استنارك؟

وكم دون رحلي من بروج (١١) مشيدة

تحرّم من قرب المزار مزارك

وقد زأرت حولي أسود تهامست

لها الأسد أن كفّي عن السّمع زارك

وأرضي سيول من خيول مظفّر

وليلي (١٢) نجوم من سماء (١٣) مبارك

__________________

(١) في أعمال الأعلام : «إذا».

(٢) في الذخيرة : «هداك».

(٣) في أعمال الأعلام : «يحمي ادّكارك».

(٤) في الديوان وأعمال الأعلام «أغشيت» بالغين المعجمة.

(٥) في أعمال الأعلام : «عسفت».

(٦) الشّجار ، بفتح الشين وكسرها : هو خشب هوادج النساء.

(٧) العشار من الإبل : الحوامل التي مضت عليها عشرة أشهر.

(٨) في أعمال الأعلام : «أزحت».

(٩) القطار : هو أن تشدّ الإبل على نسق واحدا خلف واحد.

(١٠) إذكاء العيون : هو إرسال الطلائع.

(١١) في الديوان : «قصور».

(١٢) في أعمال الأعلام : «وليل».

(١٣) في الذخيرة : «رماح». وفي أعمال الأعلام : «سيوف».

٢٢٣

بحيث وجدت الأمن يهتف بالمنى

هلمّي إلى عينين (١) جادا سرارك (٢)

هلمّي إلى بحرين قد مرج النّدى

عبابيهما لا يسأمان انتظارك

هلمّي إلى سيفين والحدّ واحد

يجيران من صرف الحوادث جارك

هلمّي إلى طرفي رهان تقدّما

إلى الأمد الجالي عليك اختيارك

هلمّي إلى قطبي نجوم كتائب

تنادي نجوم التّعس غوري مغارك (٣)

وحيّي على دوحين جاد (٤) نداهما

ظلالك واستدنى إليك (٥) ثمارك

وبشراك قد فازت قداحك بالعلا (٦)

وأعطيت من هذا الأنام خيارك

شريكان في صدق المنى وكلاهما

إذا قارن (٧) الأقران غير مشارك

هما سمعا دعواك يا دعوة الهدى

وقد أوثق الدهر الخؤون إسارك

وسلّا سيوفا لم تزل تلتظي أسّى (٨)

بثأرك حتى أدركا لك ثارك

ويهنيك يا دار الخلافة منهما

هلالان لاحا يرفعان منارك

كلا القمرين بين عينيه غرّة

أنارت (٩) كسوفيك وجلّت سرارك

__________________

(١) في أعمال الأعلام : «غيثين».

(٢) سرار الأرض : أوسطها وأكرمها.

(٣) هذا البيت ساقط في الديوان.

(٤) في أعمال الأعلام : «مدّ».

(٥) في الديوان «إليّ».

(٦) في الديوان وأعمال الأعلام : «بالمنى».

(٧) في الديوان «بارز». وفي أعمال الأعلام : «بارزا».

(٨) في أعمال الأعلام : «أذى فثارك حتى أدركاك فثارك».

(٩) في الأصل : «أثارت» والتصويب من الديوان.

٢٢٤

فقاد إليك الخيل شعثا شوازيا

يلبّين بالنّصر العزيز انتصارك

سوابق هيجاء كأنّ صهيلها

يجاوب تحت الخافقات شعارك

بكلّ سريّ العتق سرّى عن الهدى

وكل حميّ الأنف أحمى ذمارك

تحلّوا من المنصور نصرا وعزّة

فأبلوك في يوم البلاء اختيارك

إذا انتسبوا يوم الطّعان لعامر

فعمرك يا هام العدى لا عمارك!

يقودهم منهم سراجا كتائب

يقولان للدّنيا : أجدّي افتخارك

إذا افترّت الرايات عن غرّتيهما

فيا للعدى أضللت منهم فرارك

وإن أشرق النّادي بنور سناهما

فبشرى الأماني : عينك (١) لا ضمارك (٢)

وكم كشفا (٣) من كربة بعد كربة

تقول لها النيران : كفّي أوارك

وكم لبّيا من دعوة وتداركا

شفى رمق ما كان بالمتدارك

ويا نفس غاو ، كم أقرّا نفارك

ويا رجل هاو ، كم أقالا عثارك

ولست ببدع حين قلت لهمّتي

أقلّي لإعتاب الزّمان انتظارك

__________________

(١) كذا في الأصل وفي الديوان ، ولكي يستقيم الوزن ينبغي أن ننطق هذه الكلمة بإشباع كسرة الكاف هكذا : «عينيكي».

(٢) الضمار : خلاف العيان.

(٣) في الأصل : «كشفنا» ونعتقد أنه خطأ في الطبع.

٢٢٥

فلله صدق العزم أيّة (١) غرّة

إذا لم تطيعي في «لعلّ» اغترارك

فإن غالت البيد اصطبارك والسّرى

فما غال ضيم الكاشحين اصطبارك

ويا خلّة التّسويف ، قومي فأغدفي (٢)

قناعك من دوني وشدّي إزارك

وحسبك بي يا خلّة النّاي خاطري

بنفسي إلى الحظّ النّفيس حطارك

فقد آن إعطاء النّوى صفقة الهوى

وقولك للأيّام : جوري مجارك (٣)

ويا ستر البيض النّواعم ، أعلني (٤)

إلى اليغملات والرّحال بدارك (٥)

نواجي واستودعتهنّ نواجيا

حفاظك يا هذي بذي وازدهارك (٦)

ودونك أفلاذ الفؤاد فشمّري

ودونك يا عين اللّبيب اعتبارك

صرفت الكرى عنها بمغتبق السّرى

وقلت : أديري والنجوم عقارك

فإن وجبت للمغربين جنوبها (٧)

فداوي برقراق السّراب خمارك

فأوري (٨) بزندي سدفة ودجنّة

إذا كانتا لي مرخك وعفارك (٩)

__________________

(١) في أعمال الأعلام : «آية».

(٢) في الأصل : «فأغدقي» والتصويب من المصدرين. وأغدف القناع : أرسله.

(٣) في الديوان : «حوري محارك» بالحاء المهملة.

(٤) في أعمال الأعلام : «اعملي».

(٥) في الديوان : «سرارك».

(٦) الازدهار بالشيء : الاحتفاظ به.

(٧) في أعمال الأعلام : «وجوبها».

(٨) في الديوان : «وأوري».

(٩) المرخ والعفار : ضربان من الشجر ، ذكرهما الشاعر ؛ لأن النار تقدح من أغصانهما ، ولهذا فالعرب تضرب بهما المثل في الشرف العالي. ونلاحظ هنا أن «مرخك» ينبغي أن تنطق بإشباع كسرة الكاف حتى يستقيم الوزن.

٢٢٦

وإن خلع الليل الأصائل فاخلعي

إلى الملكين الأكرمين عذارك

بلنسية مثوى الأمانيّ فاطلبي

كنوزك في أقطارها (١) وادّخارك

سينبيك زجري عن بلاء نسيته

إذا أصبحت تلك القصور قصارك

وأظفر سعي بالرّضا من مظفّر

وبورك لي في حسن رأي مبارك (٢)

قصيّ (٣) المنى قد شام بارقة الحيا

وأنشقت يا ظئر الرّجاء حوارك (٤)

وحمدا يميني قد تملّأت بالمنى

وشكرا يساري قد حويت يسارك

وقل لسماء المزن : إن شئت أقلعي

ويا أرضها (٥) إن شئت غيضي بحارك

ولا توحشي يا دولة العزّ والمنى (٦)

مساءك من نوريهما وابتكارك

وصولهما إلى غرناطة : وصلا مع أمثالهما من أمراء الشّرق صحبة المرتضى ، وكان من انهزام الجميع بظاهرها ، وإيقاع الصناهجة (٧) بهم ما هو معلوم حسبما مرّ ويأتي بحول الله.

__________________

(١) في أعمال الأعلام : «أعطانها».

(٢) هذا هو البيت الوحيد الذي ورد في المغرب (ج ٢ ص ٢٩٩) وجاءت فيه رواية صدر البيت هكذا :

وأظفرت آمالي بقصد مظفّر

(٣) في الديوان : «فظمء».

(٤) الظئر : المرضعة ، والحوار : ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم. وأنشق الدابة ولدها : قرّبه إليها حتى تشمّه.

(٥) في الديوان : «ويا أرضا».

(٦) في الديوان وأعمال الأعلام : الندى.

(٧) أي الإيقاع بجند صنهاجة.

٢٢٧

ومن ترجمة الأعيان والوزراء

بل ومن ترجمة الطارئين والغرباء منها

منصور بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو

يكنى أبا علي.

أوليّته : معروفة ، قد مرّت عند ذكر إخوته وقومه.

حاله : كان ، رحمه الله ، فتى القوم ، لسنا ، مفوّها ، مدركا ، متعاطيا للأدب والتاريخ ، مخالطا للنّبلاء ، متسوّرا خلق العلماء ، غزلا ، كلفا بالدّعابة ، طرفة من طرف أهل بيته ، قويّ الشّكيمة ، جوادا بما في وسعه ، متناهيا في البدانة. دخل غرناطة في الجملة من إخوانه وبني عمّه ، مغرّبين عن مقرّ الملوك بالمغرب ، وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وستين وسبعمائة. وركب البحر في الخامس والعشرين منه ، عندما لحق أخوه عبد الحكيم بالمغرب. وبايعه الناس ، ولاحت له بارقة لم تكد تقد حتى خبت ، فبادر إلى مظاهرته في جفن غزوي (١) من أسطول الأندلس ، وصحبه قوم ممن يخطب الخطط ، ويبتدر رمق الدول ، وهال عليهم البحر ، فطرح الجفن بأحواز غسّاسة ، وقد عادتها ملكة عدوّهم ، فتقبّض عليه ، وأدخل مدينة فاس في الثاني لربيع الآخر من العام ، مشهور المركب على الظّهر ، يضرب بين يديه طبل للشّهرة ، وناقور المثلة ، وأجلس بين يدي السلطان ، فأبلى بما راق الحاضرين من بيانه من العذر للخروج بالاستمالة حتى لرجي خلاصه ، واستقرّ مثقّفا تتعلّق به الأراجيف ، ويحوم حول مطرحة الاختبار إلى حين وفاته.

شعره : أنشدني الفقيه الأديب أبو بكر بن أبي القاسم بن قطبة من شعره ، وكان صاحبه في الرّحلة ، ومزامله في أسطول المنحسة ، وذلك قوله : [مخلع البسيط]

سوف ننال المنى ونرقى

مراقي العزّ والمعالي

إذا حططنا بأرض فاس

وحكّمت في العدى العوالي

فأنت عندي بها حقيق

يا حائز الفضل والكمال

__________________

(١) الجفن والجفنة : واحدة الأجفان ، وهو سفينة حربية دائرية شبيهة بالقصعة ، من سفن الغزو والحرب ، اهتمّ بها المغرب الإسلامي وكثر استعماله لها. وإذا أضيفت لفظة «جفن» هنا إلى صفة «غزوي» فإنها تضاف أيضا إلى «بحري» و «حربي» ، فيقال : جفن بحري ، وجفن حربي. كذلك استعمل الجفن إلى جانب الحروب ، في نقل المتاجر. راجع السفن الإسلامية على حروف المعجم (ص ٢٣ ـ ٢٧) وتكملة المعاجم العربية (ج ٢ ص ٢٣١).

٢٢٨

وفاته : في وسط جمادى الأولى من العام (١) ، دخل عليه في بيت معتقله فقتل ، ودفن ببعض مدافنهم ، رحمة الله عليه.

مقاتل بن عطية البرزالي

يكنى أبا حرب ، وقال فيه أبو القاسم الغافقي : من أهل غرناطة ، ويلقّب بذي الوزارتين ، ويعرف بالرّيّه (٢) لحمرة كانت في وجهه.

حاله : كان من الفرسان الشجعان ، لا يصطلى بناره ، وكان معه من قومه نحو من ثلاث مائة فارس من بني برزال. وولّاه الأمير عبد الله بن بلقّين بن باديس مدينة أليسّانة (٣) ، والتقى به ابن عباد وأخذ بمخنّقها ، وكان عبد الله يحذره. وعندما تحقّق حركة اللّمتونيين (٤) إليه ، صرفه عن جهته ، فقلّ لذلك ناصره ، وأسرع ذهاب أمره.

شجاعته : قال : وحضر مقاتل مع عبد الله بن بلقين ، أمير غرناطة ، وقيعة النّيبل في صدر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، فأبلى فيها بلاء عظيما ، وجرح وجهه ، ومزّق درعه بالطّعن والضّرب. وذكر من حضرها ونجا منها ، قال : كنت قد سقط الرمح من يدي ولم أشعر ، وحملت التّرس ولم أعلم به ، وحملني الله إلى طريق منجاة فركبتها ، مرّة أقع ومرّة أقوم ، فأدركت فارسا على فرس أدهم ورمحه على عاتقه ، ودرقته على فخذه ، ودرعه مهتّكة بالطّعن ، وبه جرح في وجهه يثعب دما تحت مغفره ، وهو مع ذلك ينهض على رسله ، فرجعت إلى نفسي فوجدت ثقلا ، فتذكرت التّرس ، فأخرجت حمالته عن عاتقي ، وألقيته عني ، فوجدت خفّة ، وعدت إلى العدوّ ، فصاح ذلك الفارس : خذ التّرس ، قلت : لا حاجة لي به ، فقال : خذه ، فتركته وولّيت مسرعا ، فهمز فرسه ووضع سنان رمحه بين كتفيّ ، وقال : خذ الترس ، وإلّا أخرجته بين كتفيك في صدرك ، فرأيت الموت الذي فررت منه ، ورجعت إلى التّرس فأخذته ، وأنا أدعو عليه ، وأسرعت عدوا ، فقال لي : «على ما كنت فليكن عدوّك» ، فاستعذت

__________________

(١) أي عام ٧٦٣ ه‍.

(٢) هذه الكلمة إسبانيةel rojo ، ومعناها الأحمر.

(٣) أليسّانة أو اللّسّانة : بالإسبانيةlucena ، وهي إحدى مدن غرناطة ، وتسمى مدينة اليهود ؛ لأن اليهود كانوا يسكنون بجوفها ولا يداخلهم فيها مسلم البتة ، وكان لها ربض يسكنه المسلمون وبعض اليهود. راجع مملكة غرناطة (ص ٦٣).

(٤) اللمتونيّون : هم المرابطون ، إذ تحرّكوا إلى غرناطة سنة ٤٨٣ ه‍ لمقاتلة أميرها عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس الزيري. راجع مملكة غرناطة (ص ٢٢٠ ـ ٢٢١).

٢٢٩

وقلت : ما بعثه الله إلّا لهلاكي ، وإذا قطعة من خيل الروم قد بصرت به ، فوقع في نفسه أنه يسرع الجري فيسلم وأقتل ، فلمّا ضاق الطّلق ما بينه وبين أقربهم منه ، عطف عليه كالعقاب ، وطعنه ففطره ، وتخلّص الرمح منه ، ثم حمل على آخر فطعنه ، ومال على الثالث فانهزم منه ، فرجع إليّ ، وقد بهتّ من فعله ، ورشاش دم الجرح يتطاير من قناع المغفر لشدّة نفسه ، وقال لي : يا فاعل ، يا صانع ، أتلقي الرّمح ومعك مقاتل الرّيّه؟

انتهى اختصار السفر الثامن والحمد لله رب العالمين

يتلوه في اختصار التاسع بعده

ومن ترجمة القضاة مؤمل بن رجا بن عكرمة بن رجا العقيلي من إلبيرة

* * *

ومن السّفر التاسع من ترجمة القضاة

مومّل بن رجاء بن عكرمة بن رجاء العقيلي

من إلبيرة.

حاله : كان شيخا مضعوفا يغلب عليه البله ، من أهل التّعيّن والحسب والأصالة ، عريقا في القضاء ، قاض ابن قاض ابن قاض. ولّي قضاء إلبيرة للأمير محمد.

من حكاياته : رفعت إليه امرأة كتاب صداقها ، فقال : الصّداق مفسوخ ، وأنتما على حرام ، فافترقا ، فرّق الله بينكما. ثم رمى بالصّداق إلى من حوله ، وقال : عجبا لمن يدّعي فقها ولا يعلمه ، أو يزعم أنه يوثّق ولا يتقنه ، مثل أبي فلان وهو في المجلس يكتب هذا الصّداق ، وهو مفسوخ ، ما أحقّه أن يغرّم ما فيه. فدار الصّداق على يدي كل من حضر ، وكل يقول : ما أرى موضع فسخ ، فقال : أنتم أجهل من كاتبه ، لكني أعذركم ؛ لأن كل واحد منكم يستر على صاحبه خطأه ، انظروا وأمنحكم اليوم ، فنظروا فلم يجدوا شيئا يوجب فسخا. فدنا منه محمد بن فطيس الفقيه ، فقال : أصلح الله القاضي ، إن الله منحك من العلم والفهم ما نحن مقرّون بالعجز عنه ، فأفدنا هذه الفائدة ، فقال : ادن ، فدنا منه ، فقال : أو ليس في الصداق : «ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها ، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف»؟ ولو لا معرفتي بمحبّتك ما أعلمتك. فشكره الشيخ ، وأخذ بطرف لحيته يجرّه إليه حتى قبّلها ، وكان عظيم اللحية طويلها ، شيمة أهل هذه الطّبقة. قال ابن فطيس : أنا المخصوص بالفائدة ، ولا أعرّف بها إلّا من تأذن بتعريفه إياها ، فتبسّم القاضي معجبا بما رأى ،

٢٣٠

وشفعوا إليه أن لا يفسخ الصّداق ، وقيل للزوجين : لا تطلبا به عنده شيئا. وولّي قضاء جيّان.

ومن الطارئين والغرباء

المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي

من أهل ألمريّة ، يكنى أبا القاسم.

حاله : كان من أدهى الناس وأفصحهم ، ومن أهل التّعيّن والعناية التامة ، واستقضي بألمريّة.

مشيخته : سمع من أبي محمد الأصبهاني ، ورحل وروى عن أبي ذرّ الهروي.

تواليفه : ألّف كتابا في «شرح البخاري» ، أخذه الناس عنه.

وفاته : توفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة ، وقيل سنة ... (١).

ومن ترجمة الكتاب والشعراء وهم الأصليّون

مالك بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن الفرج

ابن أزرق بن سعد بن سالم بن الفرج (٢)

المنزل بوادي الحجارة بمدينة الفرج المنسوبة إليه الآن.

قال ابن عبد الملك : كذا كتب لي بخطّه بسبتة ، وهو مصمودي ثم شصّادي مولى بني مخزوم ، مالقي ، سكن سبتة طويلا ثم مدينة فاس ، ثم عاد إلى سبتة مرة أخرى ، وبآخرة فاس ، يكنى أبا الحكم وأبا المجد ، والأولى أشهر ، ويعرف بابن المرحّل ، وصف جرى على جدّه علي بن عبد الرحمن لمّا رحل من شنتمريّة (٣) ، حين إسلامها للروم عام خمسة وستين وخمسمائة.

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) ترجمة مالك بن عبد الرحمن بن الفرج ، المعروف بابن المرحل ، في الذيل والتكملة (السفر الثامن ص ٥٢٧) وبغية الوعاة (ص ٣٨٤) وجذوة الاقتباس (ص ٢٢٣) وهدية العارفين (ج ١ ص ١).

(٣) شنتمرية : بالإسبانيةsanta maria de algarve ، وتسمى أيضا : شنتمرية الشرق ، وهي من مدن أكشونبة ، ومن حصون بنبلونة ، على ضفة نهر أرغون. الروض المعطار (ص ٣٤٧).

٢٣١

حاله : قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : شاعر رقيق مطبوع ، متقدّم ، سريع البديهة ، رشيق الأغراض ، ذاكر للأدب واللغة. تحرّف مدّة بصناعة التّوثيق ببلده ، وولّي القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها. وكان حسن الكتابة إذا كتب ، والشّعر أغلب عليه. وذكره ابن خلاد ، وابن عبد الملك ، فأما ابن عبد الملك ، فلم يستوف له ما استوفى لغيره ، وأما ابن خلّاد ، فقصر به ، إذ قال : كانت نشأته بمالقة بلده ، وقرارة مولده في ناسها ووسط أجناسها ، لم يتميّز بحسب ، ولم يتقدّم في ميدان نسب ، وإنما أنهضه أدبه وشعره ، وعوّضه بالظّهور من الخمول نظمه ونثره ، فطلع في جبين زمانه غرّة منيرة ، ونصع في سلك فصحاء أوانه درّة خطيرة ، وحاز من جيله رتبة التقديم ، وامتاز في رعيله بإدراك كلّ معنى وسيم. والإنصاف فيه ما ثبت لي في بعض التقييدات ، وهو الشيخ المسنّ المعمّر الفقيه ، شاعر المغرب ، وأديب صقعه ، وحامل الرّاية ، المعلّم بالشّهرة ، المثل في الإكثار ، الجامع بين سهولة اللفظ ، وسلاسة المعنى ، وإفادة التّوليد ، وإحكام الاختراع ، وانقياد القريحة ، واسترسال الطّبع ، والنّفاذ في الأغراض. استعان على ذلك بالعلم ، بالمقاصد اللّسانية لغة وبيانا وعربيّة وعروضا ، وحفظا واضطلاعا ، إلى نفوذ الذّهن ، وشدّة الإدراك ، وقوّة العارضة ، والتّبريز في ميدان اللّوذعية ، والقحة والمجانة ، المؤيّد ذلك بخفّة الرّوح ، وذكاء الطّبع ، وحرارة النّادرة ، وحلاوة الدّعابة ، يقوم على الأغربة والأخبار ، ويشارك في الفقه ، ويتقدّم في حفظ اللغة ، ويقوم على الفرائض. وتولّى القضاء. وكتب عن الأمراء ، وخدم واسترفد ، وكان مقصودا من رواة العلم والشّعر ، وطلّاب الملح ، وملتمسي الفوائد ، لسعة الذّرع وانفساح المعرفة ، وعلوّ السّن ، وطيب المجالسة ، مهيبا مخطوب السّلامة ، مرهوبا على الأعراض ، في شدقه شفرته وناره ، فلا يتعرّض إليه أحد بنقد ، أو أشار إلى قناته بغمز ، إلّا وناط به آبدة ، تركته في المثلات ، ولذلك بخس وزنه ، واقتحم حماه ، وساءت بمحاسنه القالة ، رحمه الله وتجاوز عنه.

مشيخته : تلا بالسّبع على أبي جعفر بن علي الفخّار (١) ، وأخذ عنه بمالقة وعن غيره. وصحب وجالس من أهلها أبا بكر عبد الرحمن بن علي بن دحمان ، وأبا عبد الله الإستجي ، وابن عسكر ، وأبا عمرو بن سالم ، وأبا النعيم رضوان بن خالد (٢) ، وانتفع بهم في الطريقة ، وبفاس أبا زيد اليرناسني الفقيه. ولقي بإشبيلية أبا

__________________

(١) في الذيل والتكملة (السفر الثامن ص ٥٢٧) : المقرئ أبو جعفر الفحام.

(٢) رضوان بن خالد المخزومي من مالقة ، كان أديبا شاعرا مجيدا ، توفي سنة ٦٤٢ ه‍. ترجمته في التكملة (ج ١ ص ٢٥٩) واختصار القدح المعلى (ص ١٨٥).

٢٣٢

الحسن بن الدّباغ ، وأبا علي الشّلوبين ، وأبا القاسم بن بقي ، وأجازوا له. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير ، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الملك ، وجماعة.

دخوله غرناطة : قال ابن الزبير (١) : تكرّر قدومه علينا بغرناطة ، وآخر انفصالاته عنها آخر سنة أربع وسبعين وستمائة. وقال لي حفيده أبو الحسين التّلمساني من شيوخنا : أنشد السلطان الغالب بالله ، بمجلسه للنّاس من المقصورة بإزاء الحمراء ، قبل بناء الحمراء. وقال غيره : أقام بغرناطة ، وعقد بها الشروط مدة. وقال لي شيخنا أبو الحسن الجيّاب : ولي القضاء بجهات من البشارات (٢) ، وشكى للسّلطان بضعف الولاية ، فأضاف إليه حصن أشكر (٣) ، يا متشو (٤) ، وأمر أن يهمل هذا الاسم ولا يشكّل ، فقال أبو الحكم ، رحمه الله ، عند وقوفه عليه : قال لي السلطان في تصحيف هذا الاسم ، «أشكر يا تيس» وهي من المقاصد النبيلة.

تواليفه : وهي كثيرة متعدّدة ، منها شعره ، والذي دوّن منه أنواع ، فمنه مختاره ، وسمّاه بالجولات ، ومنه الصدور والمطالع. وله العشريات والنّبويّات على حروف المعجم ، والتزام افتتاح بيوتها بحرف الرّوي ، وسمّاها ، «الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدّنيا والأخرى». وعشرياته الزّهديّة ، وأرجوزته المسماة «سلك المنخّل ، لمالك بن المرحّل» نظم فيها منخل أبي القاسم بن المغربي ، والقصيدة الطويلة المسماة بالواضحة ، والأرجوزة المسماة «اللّؤلؤ والمرجان» والموطّأة لمالك. والأرجوزة في العروض. وكتابه في كان ما ذا ، المسمّى «بالرّمي بالحصا» ، إلى ما يشقّ إحصاره ، من الأغراض النّبيلة ، والمقاصد الأدبية.

شعره : قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك : كان مكثرا من النّظم ، مجيدا ، سريع البديهة ، مستغرق الفكرة في قرضه ، لا يفتر عنه حينا من ليل أو نهار. شاهدت ذلك ، وأخبرني أنّه دأبه ، وأنه لا يقدر على صرفه من خاطره ، وإخلاء باله من الخوض فيه ، حتى كان من كلامه في ذلك ، أنه مرض من الأمراض المزمنة. واشتهر نظمه ، وذاع شعره ، فكلفت به ألسنة الخاصّة والعامّة ، وصار رأس مال المستمعين

__________________

(١) قارن بالذيل والتكملة (السفر الثامن ص ٥٢٧).

(٢) في الذيل والتكملة : «ولّي القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها». والبشارات أو البشارة أو البشرات ، alpujarras : هي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير ، على مقربة من البحر المتوسط. نفح الطيب (ج ١ ص ١٥٠) و (ج ٤ ص ٥٢٤ ـ ٥٢٥) ومملكة غرناطة (ص ٤٦).

(٣) أشكر ، بالإسبانيةhuescar ؛ وهو حصن يقع شمال شرقي غرناطة.

(٤) في الأصل : «نتشر» وهو تحريف. ومتشو : كلمة إسبانية : macho وتعني : التّيس.

٢٣٣

والمغنّين ، وهجير الصّادرين والواردين ، ووسيلة المكدّين ، وطراز أوراد المؤذّنين وبطائقة البطالين ، ونحن نجتزئ منه بنبذ من بعض الأغراض تدل على ما وراءها ، إن شاء الله. فمن ذلك في غرض النّسيب : [الكامل]

دنف تستّر بالغرام طويلا

حتى تغيّر رقّة ونحولا

بسط الوصال فما تمكّن جالسا

حتى أقيم على البساط دليلا

يا سادتي ، ما ذا الجزاء (١) فديتكم

الفضل لو غير الفتى ما قيلا

قالوا تعاطى الصّبر عن أحبابه

لو كان يصبر للصّدود قليلا

ما ذاق إلّا شربة من هجرنا

وكأنّه شرب الفرات شمولا

أيقول : عشت وقد تملّكه الهوى؟

لو قال متّ لكان أقوم قيلا

حلف الغرام بحبّنا وجمالنا

إن لم يدعه ميّتا فعليلا

إنّ الجفون هي السّيوف وإنما

قطعت فلم تسمع لهنّ صليلا

قل للحبيب ولا أصرّح باسمه

ما ذا الملال وما عهدت ملولا

بيني وبينك ذمّة مرعيّة

أتراك تقطع حبلها الموصولا؟

ولكم شربت صفاء (٢) ودّك خالصا

ولبست ظلّا من رضاك ظليلا

يا (٣) غصن بان بان عنّي ظلّه

عند الهجير فما وجدت مقيلا

اعطف على المضنى الذي أحرقته

في نار هجرك لوعة وغليلا

فارقته فتقطّعت أفلاذه

شوقا وما ألفى إليك سبيلا

لو لم يكن منك التّغيّر لم يسل

بالناس لو حشروا إليه قبيلا

يا راحلا عني بقلب مغضب

أيطيق قلبي غضبة ورحيلا؟

قل للصّبا : هيّجت أشجان الصّبا

فوجدت يا ريح القبول قبولا

هل لي رسول في الرياح؟ فإذا (٤) من

فارقته بعث النسيم رسولا؟

يا ليت شعري ، أين قرّ قراره؟

يا قلب ، ويك أما وجدت دليلا؟

إن لم يعد ذاك الوصال كعهدنا

نكّلت عيني بالبكا تنكيلا

وقال نسيبا ومدحا : [الكامل]

أعدى عليّ هواه خصم جفونه

ما لي به قبل ولا بفنونه

__________________

(١) في الأصل : «الجزا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «صفا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «فيا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «فاز» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

٢٣٤

إن لم تجرني منه رحمة قلبه

من ذا يجير عليه ملك يمينه؟

صاب من الأتراك أصبى مهجتي

فعبدت نور الحسن فوق جبينه

متمكّن في الحسن نون صدغه

فتبيّن التّمكين في تنوينه

تنساب عقرب صدغه في جنّة

لم يجن منها الصّبّ غير منونه

ولوى ضفيرته فولّى مدبرا

فعل الكليم ارتاع من تبيينه

قد أطمعتني فيه رقّة خدّه

لو أمكنتني فيه رقّة دينه

ورجوت لين قوامه لو لم يكن

كالرّمح شدّة طعنه في لينه

شاكي السّلاح وما الذي في جفنه

أعدى عليّ من الذي بجفونه

ناديته لمّا ندت لي سينه

وشعرت من لفظ السلام بسينه

رحماك في دنف غدا وحياته

مماته وحراكه كسكونه

إن لم تمنّ عليّ منّة راحم

فمناه أن يلقاه ريب منونه

ولذا أبيت سوى سمات عدوّه

فأمانه من ذاك ظهر أمونه

سننيخها في باب أروع ماجد

فيرى محلّ الفصل حقّ يقينه

حيث المعارف والعوارف والعلا

في حدّ مجد جامع لفنونه

بدر وفي الحسن بن أحمد التقت

نجب مررن على العطا بركوبه

تبغي مناها في مناها عنده

وتطوف بالحاجات عند حجونه

فرع من الأصل اليماني طيّب

ورث البيان وزاد في تبيينه

يبدي البشاشة في أسرّة وجهه

طورا ويحمي العزّ في عرنينه

بسطت شمائله الزمان (١) كمثل ما

بسط الغناء (٢) نفوسنا بلحونه

يثني عليه كلّ فعل سائر

كالمسك إذ يثني على دارينه

ومن النّسيب قوله : [البسيط]

هو الحبيب قضى بالجور أم عدلا

لبّى الخيار وأمّا في هواه فلا

تالله ما قصّر العذّال في عذلي

لكن أبت أذني أن تسمع العذلا

أمّا السّلوّ فشيء لست أعرفه

كفى بخلّك غدرا أن يقال سلا

جفون غيري أصحت بعدما قطرت

وقلب غيري صحا من بعد ما ثملا

وغصن بان تثنّى من معاطفه

سقيته الدّمع حتى أثمر العذلا

__________________

(١) في الأصل : «للزمان» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «الغنا».

٢٣٥

آثرته (١) ونسيم الشّعر آونة

فكلّما مال من أعطافه اعتدلا

أملت والهمّة العلياء طامحة

وليس في الناس إلّا آمل أملا

وقال : إيها طفيليّ ومقترح

ألست عبدي ومملوكي؟ فقلت : بلى

يا من تحدّث عن حسني وعن كلفي

بحسنه وبحبّي فاضرب المثلا

نيّطت خدّي خوف القبض من ملكه

إذا أشار بأدنى لحظه قتلا

تقبّل الأرض أعضائي وتخدمه

إذا تجلّى بظهر الغيب واتّصلا

يا من له دولة في الحسن باهرة

مثلي ومثل فؤادي يخدم الدّولا

ومن نظمه في عروض يخرج من دوبيتي مجزوّا ، مقصرا قوله وملحه في اختراع الأعاريض كثيرة:

الصّبّ إلى الجمال مائل

والحبّ لصدقه دلائل

والدّمع لسائلي جواب

إن روجع سائل بسائل

والحسن على القلوب وال

والقلب إلى الحبيب وابل

لو ساعد من أحبّ سعد

ما حال من الحبيب حائل

يا عاذلي ، إليك عنّي لا

تقرّب ساحتي العواذل

ما نازلني كمثل ظبي

يشفي بلحظة المنازل

ما بين دفونه حسام

مخارقه له حمائل

والسيف يبتّ ثم ينبو

واللحظ يطبق المفاصل

والسهم يصيب ثم يخطي

واللحظ يمرّ في المقاتل

مهلا فدمي له حلال

ما أقبل فيه قول قائل

إن صدّني فذاك قصدي

أو جدّلني فلا أجادل

يا حسن طلوعه علينا

والسّكر بمعطفيه مائل

ظمآن مخفّف الأعالي

ريّان مثقّل الأسافل

قد نمّ به شذا الغوالي

إذ هبّ ونمّت الغلائل

والطّيب منبّه عليه

من كان عن العيان غافل

والغنج محرّك إليه

من كان مسكّن البلابل

والسّحر رسول مقلتيه

ما أقرب عهده ببابل!

__________________

(١) في الأصل : «آثره نسيم» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

٢٣٦

والروض يعير وجنتيه

وردا كهواي غير حائل

واللين يهزّ معطفيه

كالغصن تهزّه الشّمائل

والكأس تلوح في يديه

كالنّجم بأسعد المنازل

يسقيك بريقه مداما

ما أملح ساقيا مواصل

يسبيك برقّة الحواشي

عشقا ولكافّة الشمائل

ما أحسن ما وجدت خدّا

إذ نجم صباي غير آفل

ومن مستحسن نزعاته : [البسيط]

يا راحلين وبي من قربهم أمل

لو أغنت الحليتان القول (١) والعمل

سرتم وسار اشتياقي بعدكم مثلا

من دونه السّامران الشّعر والمثل

وظلّ يعذلني في حبّكم نفر

لا كانت المحنتان الحبّ والعذل

عطفا علينا ولا تبغوا بنا بدلا

فما استوى التّابعان العطف والعمل

قد ذقت فضلكم دهرا فلا وأبي

ما طاب لي الأحمران الخمر والعسل

 

وقد هرمت أسى من هجركم وجوى

وشبّ مني اثنتان الحرص والأمل

غدرتم أو مللتم يا ذوي ثقتي

لبّتكم (٢) الخصلتان الغدر والملل

قالوا : كبرت ولم تبرح كذا غزلا

أزرى بك الفاضحان الشّيب والغزل

لم أنس يوم تنادوا (٣) للرحيل ضحى

وقرب المركبان الطّرف والجمل

وأشرقت بهواديهم هوادجهم

ولاحت الزّينتان الحلي والحلل

وودّعوني بأجفان ممرّضة

تغضّها الرّقبتان الخوف والخجل

كم عفّروا بين أيدي العيس من بطل

أصابه المضنيان الغنج والكحل

دارت عليهم كؤوس الحبّ مترعة

وما أبى (٤) المسكران الخمر والمقل

وآخرين اشتفوا منهم بضمّهم

يا حبّذا الشافيان الضّم والقبل

كأنما الرّوض منهم روضة أنف

يزهى بها المثبتان السّهل والجبل

من مسترق (٥) الرّوابي والوهاد بهم

ما راقه المعجبان الخصر والكفل

__________________

(١) في الأصل : «لي القول ...» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٢) في الأصل : «لبيست» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٣) في الأصل : «ما نادوا» ، وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.

(٤) في الأصل : «وأبا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٥) في الأصل : «لمسترق» وكذا ينكسر الوزن.

٢٣٧

يا حادي العيس خذني مأخذا حسنا

لا يستوي الضاديان (١) الرّيث (٢) والعجل

لم يبق لي غير ذكر أو بكا طلل

لو ينفع الباقيان الذّكر والطّلل

يا ليت شعري ولا أنس ولا جذل

هل يرفع الطّيّبان الأنس والجذل؟

ومن قوله على لسان ألثغ ينطق بالسّين ثاء ويقرأ بالرّويّين : [مخلع البسيط]

عمرت ربع الهوى بقلب

لقوّة الحبّ غير ناكس ث

لبثت فيه أجر ذيل النّ

حول أحبب به للابس ث

إن متّ شوقا فلي غرام

نباته بالسّقام وادس ث

أمّا حديث الهوى فحقّ

يصرف بلواه كلّ حادس ث

تعبت بالشّوق في حبيب

أنا به ما حييت يائس ث

يختال كالغصن ماس فيه

طرف فأزرى بكلّ (٣) مائس ث

دنيا تبدّت لكلّ وأي

فهو لدنياه أيّ حارس ث

يلعب بالعاشقين طرّا

والكلّ راضون وهو عابس ث

ومن شعره في الزهد يصف الدنيا بالغرور والكذب (٤) والزّور : [الكامل]

يا خاطب الدنيا ، طلبت غرورا

وقبلت من تلك المحاسن زورا

دنياك إمّا فتنة أو محنة

وأراك في كلتيهما مقهورا

وأرى السنين تمرّ عنك سريعة

حتى لأحسبهنّ صرن شهورا

بينا تريك أهلّة في أفقها

أبصرتها في إثر ذاك بدورا

كانت قسيّا ثم صرن دوائرا

لا بدّ أن ترمي الورى وتدورا

يأتي الظلام فما يسوّد رقعة

حتى ترى مسطورها منشورا

فإذا الصباح أتى ومدّ رداءه

نفض المساء رداءه المنشورا

يتعاقبان عليك ، هذا ناشر

مسكا وهذا ناشر كافورا

ما المسك والكافور إلّا أن ترى

من فعلك الإمساك والتّكبيرا

أمسى على فوديك من لونيهما

سمة تسوم كآبة وبسورا

__________________

(١) في الأصل : «الضّدّان» وكذا لا يستقيم الوزن ، والضادي : اسم فاعل ضادى ؛ يقال ضاداه أي ضادّه.

(٢) الرّيث : الإبطاء ، وهو ضد العجل.

(٣) في الأصل : «كل» وكذا لا يستقيم الوزن.

(٤) في الأصل : «والحذايح» وهو ما لا معنى له.

٢٣٨

حتى متى لا ترعوي وإلى متى؟

أو ما لقيت من المشيب نذيرا؟

أخشى عليك من الذّنوب فربما

تلفى الصّغير من الذنوب كبيرا

فانظر لنفسك إنني لك ناصح

واستغفر المولى تجده غفورا

من قبل ضجعتك التي تلقى لها

خدّ الصّغار على التّراب حقيرا

والهول ثم الهول في اليوم الذي

تجد الذي قدّمته مسطورا

وقال في المعنى (١) المذكور : [الوافر]

وأشفي (٢) الوجد ما أبكى العيونا

وأشفي الدّمع ما نكأ الجفونا

فيا ابن الأربعين اركب سفينا

من التّقوى فقد عمّرت حينا

ونح إن كنت من أصحاب نوح

لكي تنجو نجاة الأربعينا

بدا للشّيب (٣) في فوديك رقم

فيا أهل الرّقيم ، أتسمعونا؟

لأنتم أهل كهف قد ضربنا

على آذانهم فيه سنينا

رأيت الشّيب يجري في سواد

بياضا لا كعقل الكاتبينا

وقد يجري السّواد على بياض

فكان (٤) الحسن فيه مستبينا

فهذا العكس يؤذن بانعكاس

وقد أشعرتم لو تشعرونا

نبات هاج ثم يرى حطاما

وهذا اللّحظ قد شمل العيونا

نذير جاءكم عريان يعدو

وأنتم تضحكون وتلعبونا

أخي ، فإلى (٥) متى هذا التّصابي؟

جننت بهذه الدنيا جنونا

هي الدنيا وإن وصلت وبرّت

فكم قطعت وكم تركت بنينا!

فلا تخدعك (٦) أيام تليها

ليال واخشها بيضا وجونا

فذاك إذا نظرت سلاح دنيا

تعيد حراك ساكنها سكونا

وبين يديك يوم أيّ يوم

يدينك فيه ربّ الناس دينا

فإمّا دار عزّ ليس يفنى

وإمّا دار هون لن يهونا

فطوبى في غد للمتّقينا

وويل في غد للمجرمينا

__________________

(١) في الأصل : «المنى» وكذا لا معنى له.

(٢) في الأصل : «إشف» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «الشيب» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) في الأصل : «فكأنّ» ، وكذا لا يستقيم الوزن.

(٥) في الأصل : «إلى» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الأصل : «تخدعنك» ، وكذا ينكسر الوزن.

٢٣٩

وآه ثم آه ثم آه

على نفسي أكرّرها مئينا

أخيّ ، سمعت هذا الوعظ أم لا؟

ألا يا (١) ليتني في السامعينا

إذا ما الوعظ لم يورد بصدق

فلا خسر كخسر الواعظينا

وقال يتشوّق إلى بيت الله الحرام ، ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم : [البسيط]

شوق كما رفعت نار على علم

تشبّ بين فروع الضّال والسّلم

ألفّه بضلوعي وهو يحرقها

حتى يراني بريا ليس بالقلم

من يشتريني بالبشرى ويملكني

عبدا إذا نظرت عيني إلى الحرم؟

دع للحبيب ذمامي واحتمل رمقي

فليس ذا قدم من ليس ذا قدم

يا أهل طيبة ، طاب العيش عندكم

جاورتم خير مبعوث إلى الأمم

عاينتم جنّة الفردوس من كثب

في مهبط الوحي والآيات والحكم

لنتركنّ بها الأوطان خالية

ونسلكنّ لها البيداء في الظّلم

ركابنا تحمل الأوزار مثقلة

إلى محطّ خطايا العرب والعجم

ذنوبنا ، يا رسول الله ، قد كثرت

وقد أتيناك فاستغفر لمجترم

ذنب يليه على تكراره ندم

فقد مضى العمر في ذنب وفي ندم

نبكي فتشغلنا الدنيا فتضحكنا

ولو صدقنا البكا شبنا دما بدم

يا ركب مصر ، رويدا يلتحق بكم

قوم مغاربة لحم على وضم

فيهم عبيد تسوق العيس زفرته

لم يلق مولاه قد ناداه في النّسم

يبغي إليه شفيعا لا نظير له

في الفضل والمجد والعلياء والكرم

ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته

محمد خير خلق الله كلّهم

صلّى عليه إله الخلق ما طلعت

شمس وما رفعت نار على علم

ومن مقطوعاته العجيبة في شتى الأغراض ، وهي نقطة من قطر ، وبلالة من بحر ، قوله مما يكتب على حمالة سيف ، وقد كلف بذلك غيره من الشعراء بسبتة ، فلمّا رآها أخفى كل منظومه ، وزعم أنه لم يأت بشيء ، وهو المخترع المرقص : [البسيط]

جماله كرياض جاورت نهرا

فأنبتت شجرا راقت أزاهرها

كحيّة الماء عامت فيه وانصرفت

فغاب أوّلها فيه وآخرها

__________________

(١) كلمة : «يا» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

٢٤٠