الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

روحاني ، وإنكار هم حشر الأجساد. وقد لوّح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب «الجواهر والأربعين» ، وخرّج بأنه معتقد كبار الصّوفية ، في كتاب آخر ، وقال : إن معتقده كمعتقدهم ، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد. قال : وإنما كلامه في كتبه على نحو تعليم الجمهور. وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب «ميزان العمل» ، على أغلب ظنّي ، فإن لي من مطالعة الكتب مدّة. قال : ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلّا ما يشكّك في اعتقادك الموروث ، يعني التّقليد ، فإنه من لم يشكّ لم ينظر ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثّل بقول الشاعر : [البسيط]

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وذلك أنه قسّم آراءه إلى ثلاثة : رأي يجاب به كلّ مسترشد سائل بحسب سؤاله وعلى مقدار فهمه. ورأي يجاب به الخاصّة ولا يصرّح به للعامّة. ورأي بين الإنسان وبين نفسه ، لا يطّلع عليه إلّا من شريكه في اعتقاده. وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد ، رحمه الله ، فإنّه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة ، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلّة المتكلّمين ، فإنه لما تكلّم على طرق الأشعريّة والمعتزلة والفلاسفة والصّوفية والحشويّة وما أحدثه المتكلّمون من الضّرر في الشّريعة بتواليفهم ، انعطف فقال : وأما أبو حامد ، فإنه طمّ الوادي على القرى ، ولم يلتزم طريقة في كتبه ، فنراه مع الأشعرية أشعريّا ، ومع المعتزلة معتزليّا ، ومع الفلاسفة فيلسوفا ، ومع الصّوفية صوفيّا ، حتى كأني به : [البسيط]

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن

وإن لقيت معدّيا فعدنان

ثم قال : والذي يجب على أهل العلم ، أن ينهوا الجمهور عن كتبه ، فإن الضّرر فيها بالذات ، والمنفعة بالعرض. قال : وإنما ذلك لأنه صرّح في كتبه بنتائج الحكمة دون مقدّماتها ، وأفصح بالتّأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء الرّاسخون في العلم ، وهي التي لا يجوز أن تؤوّل للجمهور ، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان. وأنا أقول : إن كتبه في الأصلين ، أعني أصول الدين وأصول الفقه ، في غاية النّبل والنّباهة ، وبسط اللفظ ، وحسن التّرتيب والتّقسيم ، وقرب المسائل. وكذلك كتبه الفقهية والخلافية والمذهبيّة ، التي ألّفها على مذهب الشّافعي ، فإنه كان شافعيّ المذهب في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوّف ، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضّرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدّى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة ، ونسبها إلى المتصوّفة. وقد نبّه على

٢٠١

ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطّرطوشي (١) في كتابه الذي سماه ب «مراقي العارفين». قال : وقد دخل على السّالكين ضرر عظيم من كتب هذا الرجل الطّوسي (٢) ، فإنه تشبّه بالصّوفية ولم يلحق بمذاهبهم ، وخلط مذاهب الفلاسفة بمذاهبهم ، حتى غلط الناس فيها. على أنّني أقول : إنّ باعه في الفلسفة كان قصيرا ، وإنه حذا حذو الشيخ أبي علي بن سينا في فلسفته التي نقلها في المقاصد ، ومنطقه الذي نقله في معيار العلم ، لكن قصر عنه. وتلك الاعتقادات ، منها حقّ ومنها باطل ، وتلخيصه لا يتأتّى إلّا لصنفين من الناس ، أعني أهل البرهان وأهل المكاشفة ، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان ، أو رياضة أهل المكاشفة. ولذلك صنّف هو معيار العلم ؛ ليكون الناظر في كتبه يتقدّم ، فيتعلّم منه أصناف البراهين ، فيلحق بأهل البرهان. وقدّم أيضا تصنيف «ميزان العمل» ليكون المرتاض فيه ، وبه يلحق بأهل المكاشفة ، وحينئذ ينظر في سائر كتبه. وهذه الرسالة طويلة ، تكلم فيها على كتب أبي حامد الغزالي ، رحمه الله ، بما يدل على تفنّنه ، وعلى اضطلاعه ، رحمه الله.

ومن الغرباء في هذا الاسم

محمد بن أحمد بن أمين بن معاذ بن إبراهيم بن جميل

ابن يوسف العراقي

ثم الخلاطي ، ثم الأقشري الفارسي ، وينعت من النّعوت المشرقية بجلال الدين ، من بلاد فارس.

حاله : كان من الصّوفية المتجرّدين من المال والعيال ، ذا وقار وتؤدة ، وسكون ومحافظة على ظاهره. أكثر في بلاد المشرق من الأخذ عن الشّيوخ المحدّثين والمتصوّفين ، ثم قدم المغرب ، فاستوطن بعض بلاده ، ثم أجاز البحر إلى الأندلس عام أربعة وسبعمائة ، وأخذ عمّن بها من الشيوخ ، ودخل غرناطة. وكان شافعيّ المذهب ، يشارك في قرض الشّعر.

__________________

(١) هو الزاهد محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الطرطوشي الأندلسي ، المتوفّي سنة ٥٢٠ ه‍ ، من أشهر مؤلفاته «سراج الملوك» و «برّ الوالدين». وفيات الأعيان (ج ٤ ص ٩٢) والمغرب (ج ٢ ص ٤٢٤) والصلة (ص ٨٣٨) وبغية الملتمس (ص ١٣٥) وخريدة القصر ـ قسم شعراء المغرب (ج ٢ ص ٢١١).

(٢) المراد بالرجل الطوسي أبا حامد الغزالي الطوسي المتقدم ذكره قبل قليل.

٢٠٢

مشيخته : أخذ عن أبي مروان عبد الملك الشّريشي بفاس ، وعن أبي بكر محمد بن محمد بن قسي المومياني ، ولبس الخرقة الصّوفية من جماعة بالمشرق وبالمغرب ، منهم الإمام أبو إبراهيم الماجري ، عن أبي محمد صالح ، عن أبي مدين.

تواليفه : أخذ عنه تأليفه في نحو اللغة الفارسية وشرح ألفاظها. قال شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم : كتب إلى والدي ببابه ، وقد أحسّ بغضّ من الشيخ الإمام أبي عبد الله بن خميس ، عميد مجلس الوزارة الحكيمية : [المتقارب]

عبيد بباب العلى واقف

أيقبله المجد أم ينصرف؟

فإن قبل المجد نلت المنى

وإلّا فقدري ما أعرف

ثم كتب على لفظه : ما من ، وصحّحه ، قال : فأذن له ، واستظرف منزعه.

محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المرّاكشي (١)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن شاطر.

حاله : فقير متجرّد ، يلبس أحسن أطوار الخرقة ، ويؤثر الاصطلاح ، مليح الشّيبة ، جميل الصورة ، مستظرف الشّكل ، ملازم للمسجد ، مساكن بالمدارس ، محبّب إلى الخواص ، كثير الذّكر ، متردّد التأوّه ، شارد اللّسان ، كثير الفلتات ، مطّرح في أكثر الأحايين للسّمت ، ينزع إلى هدف تائه ، تشم عليه القحة والمجانة ، مقتحم حمى الحشمة في باب إيهام التّلبيس ، يزلق سوء الاعتقاد عن صفاته ، وإن قارب الانهماك ، وغير مبال بناقد ، ولا حافل بذام ، ولا حامد. كلما اتّبع انفرد ، ومهمى استقام شرد ، تطيب النّفس به على غرّة ، ويحسن الظّن بباطنه على سوء ظاهره ، مليح الحديث ، كثير الاعتبار ، دائم الاسترجاع والاستغفار ، فعّال الموعظة ، عجيب الانتزاع من الحديث والقرآن ، مع عدم الحفظ ، مستشهد بالأبيات الغريبة على الأحوال. قال شيخنا القاضي أبو عبد الله بن المقري : لقيت فيمن لقيت بتلمسان رجلين ، أحدهما عالم الدّنيا ، والآخر نادرتها. أما العالم ، فشيخنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي ، وأما النّادرة ، فأبو عبد الله بن شاطر. ثم قال : صحب أبا زيد الهزميري كثيرا ، وأبا عبد الله بن تجلّات ، وأبا العباس بن البنّاء (٢) وإخوانهم من

__________________

(١) ترجمة محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي في نيل الابتهاج (ص ٢٤٨) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٤).

(٢) في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٤): «البناء وأضرابه من ...».

٢٠٣

المرّاكشيين ومن جاورهم ، واختصّ بأبي زيد الهزميري ، وآثره وتبنّاه ، وكان يقول له : وألقيت عليك محبّة منّي ، فيظهر أثر ذلك عليه ، من ستر الهنات ، ووضع القبول ، فلا تجد من يستثقله من راض عنه أو ساخط. دخل الأندلس ، وقدم على غرناطة ، وتلوّم بها أياما.

نبذ من أقواله : فمن ذلك أنه إذا سئل عن نفسه يقول : أنا وليّ مفسود ، وفي هذا من النّصفة ، وخفّة الرّوح ما لا خفاء به. قال بعض شيوخنا (١) : قلت له يوما : كيف أنت؟ فقال (٢) : كيف أنا محبوس في الدّم. ومن حكمه : الليل والنهار حرسيّان (٣) ، أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، وقد أخذ (٤) بمجامع الخلق إلى (٥) يوم القيامة ، وإنّ مردّنا (٦) إلى الله. ومرّ يوما بأبي العباس (٧) بن شعيب الكاتب وهو جالس في جامع الجزيرة ، وقد ذهبت به الفكرة ، فصاح به ، فلمّا رفع رأسه ، قال ، وله نعش (٨) خاطر : انظر إلى مركب عزرائيل ، قد رفع شراعه ، والنّدا (٩) عليه ، اركبوا يا عزا. قال شيخنا أبو عبد الله المقري : وجدته يوما في المسجد ذاكرا ، فقلت له : كيف أنت؟ فقال : مهيم في روضة يجبرون ، فهممت بالانصراف ، فقال : أين تذهب من روضة من رياض الجنة ، يقام فيها على رأسك بهذا التّاج؟ وأشار إلى المنار ، مملوءا بالله أكبر. قال : وأنشدني أبو العباس بن البنّاء ، وكتبهما عنه (١٠) : [الوافر]

قصدت إلى الوجازة (١١) في كلامي

لعلمي بالصّواب في الاختصار

ولم أحذر فهم (١٢) ما دون فهمي

ولكن خفت إزراء الكبار

فشأن فحولة العلماء شأني

وشأن البسط تعليم الصّغار

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٥).

(٢) في النفح : «فقال : محبوس في الروح ، وقال : الليل ...».

(٣) الحرسي : الحارس. لسان العرب (حرس).

(٤) في النفح : «أخذا».

(٥) في النفح : «يجرّانهم إلى القيامة».

(٦) في الأصل : «مررنا» والتصويب من النفح.

(٧) في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٥): «أبي العباس أحمد بن شعيب». وهو أحمد بن شعيب الجزنائي ، تازي الدار ، نزيل فاس. توفي بتونس عام ٧٥٠ ه‍. ترجمته في نثير فرائد الجمان (ص ٣٣٥) ونيل الابتهاج (ص ٦٨) والتعريف بابن خلدون (ص ٤٨) وجذوة الاقتباس (ص ٤٧) ودرة الحجال (ج ١ ص ٢١).

(٨) قوله : «وله نعش خاطر» غير وارد في النفح.

(٩) في النفح : «ونودي عليه الطلوع يا غزي».

(١٠) ورد في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٦) صدر البيت الأول فقط.

(١١) الوجازة : الإيجار. لسان العرب (وجز).

(١٢) في الأصل : «فهو» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

٢٠٤

قال : وأخبار ابن شاطر تحتمل كرّاسة ، قلت : رأيته بفاس في أخريات عام خمسة وخمسين ، وهو الآن بحاله الموصوفة ، قد أربى على السّبعين.

محمد بن محمد بن عبد الرحمن التميمي ابن الحلفاوي

من أهل تونس ، يكنى أبا عبد الله ، نزيل غرناطة ، ويعرف بالتّونسي وبابن المؤذن ببلده.

حاله : من «العائد» : قال : وليّ الله المجاب الدعوة ، الظاهر الكرامة ، المشهود له بالولاية. ورد الأندلس في جملة من تجّار بلده ، وبيده مال كبير بذله في معاملة ربّه ، إلى أن استأصله بالصّدقة ، وأنفقه في سبيل الله ابتغاء مرضاته ، وتجرّد عن الدنيا ، وأخذ نفسه بالصّلاة والصّوم والتّلاوة وكثرة السّجود والتّطارح على ذلك ، محفوظا في ذلك كله حفظة الأولياء ، مذكّرا بمن سلفه من الزّهاد ، عازبا عن الدنيا ، أخذ نفسه بسلوك الإيتاب عنها ، رحمة للخلق ، وتمالأ للمساكين ، يقصده الناس بصدقاتهم ، فيبثّها في ذوي الحاجات ، فيتألّف في باب مسجده آلاف من رجالهم ونسائهم وصبيانهم ، حتى يعمّهم الرّفد ، وتسعهم الصّدقة. وكان غريب الأحوال ؛ إذا وصل وقت الصلاة يظهر عليه البشر والسّرور ، ويدخل مسجده الذي ابتناه واحتفل فيه ، فيخلو بنفسه آخذا في تعبّدات كثيرة غريبة شاملة لجميع أركان المسجد ، ويزدحم الناس حول المسجد ، وأكثرهم أهل الفاقة ، فإذا تمكّن الوقت أذّن أذانا مؤثّرا في القلوب ، جدى وصدقا ووقارا ، كان صدره ينصدع عند قول : لا إله إلّا الله. ثم يعبد التّعبّد والسّجود في الصّومعة وأدراجها ، حتى يفتح باب المسجد ، وينتقل إلى صدر المحراب ، فيصلي ركعات خفيفة ، فإذا أقام الصلاة ، ووقف عند المحراب ، ظهر عليه من الخوف والكآبة والحزن والانكسار والتّضرّع والتّملّق والرّغبة ، ما لا تفي العبارة بوصفه ، كأن موقفه موقف أهل الجرائم بين أيدي الملوك الجبابرة. فإذا أتمّ الصلاة على أتمّ هيئاتها ، ترى كأن الغبار على وجهه ، أو كأنه حشر من قبر ، فإذا شرع في الدّعاء بأثر الصلاة ، يتلوه بترداد الصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، في كل دعوة ، ويتوسّل به ، وتظهر عليه أحوال من الحضور والمراقبة ، وينجلي عن وجهه ما كان به. وكان يختم القرآن في شهر رمضان مائة ختمة ، فما من ليلة إلّا ويحيي اللّيل كلّه فيها بمسجده. هذا ترتيبه ، ولو تتبّعنا ما شوهد من كراماته وأحواله ، لخرجنا عن الغرض.

ولادته : ولد بتونس في حدود الأربعين وستمائة.

٢٠٥

وفاته : توفي شهر ربيع الثاني عام خمسة عشر وسبعمائة. وكان الحفل في جنازته عظيما ، استوعب الناس كافّة ، وحضر السلطان فمن دونه ، وكانت تنمّ ، زعموا ، على نعشه وقبره رائحة المسك. وتبرّك الناس بجنازته ، وقصد قبره المرضى وأهل الحاجات ، وبقي القرّاء يقرءون القرآن عليه مدة طويلة ، وتصدّق على قبره بجملة من مال ، ففدي به طائفة من الأسرى. وقبره بباب إلبيرة عن يمين الخارج إلى مقبرة العسّال ، معروف هنالك.

محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن

ابن يوسف اللّواتي (١)

من أهل طنجة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن بطّوطة (٢).

حاله : من خطّ شيخنا أبي البركات ، قال : هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطّلب ، رحل من بلاده إلى بلاد المشرق يوم الخميس الثاني من رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة ، فدخل بلاد مصر والشام والعراق ، وعراق العجم ، وبلاد الهند والسّند ، والصين ، وصين الصّين ، وبلاد اليمن. وحج عام ستة وعشرين وسبعمائة. ولقي من الملوك والمشايخ عالما ، وجاور بمكّة. واستقرّ عند ملك الهند ، فحظي لديه ، وولّاه القضاء ، وأفاده مالا جسيما. وكانت رحلته على رسم الصّوفية زيّا وسجيّة ، ثم قفل إلى بلاد المغرب ، ودخل جزيرة الأندلس ، فحكى بها أحوال المشرق ، وما استفاد من أهله ، فكذّب. وقال : لقيته بغرناطة ، وبتنا معه ببستان أبي القاسم ابن عاصم بقرية نبلة ، وحدّثنا في تلك الليلة ، وفي اليوم قبلها عن البلاد المشرقيّة وغيرها ، فأخبر أنّه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطينية العظمى ، وهي على قدر مدينة مسقّفة كلها ، وفيها اثنا (٣) عشر ألف أسقف. قلت : وأحاديثه في الغرابة أبعد من هذا. وانتقل إلى العدوة ، فدخل بلاد السّودان. ثم تعرّف أن ملك المغرب استدعاه ، فلحق ببابه ، وأمر بتدوين رحلته.

__________________

(١) نسبة إلى لواته إحدى قبائل البربر.

(٢) يلقب ابن بطوطة بشمس الدين ؛ ولد بطنجة سنة ٧٠٣ ه‍ ، وتوفي بمراكش سنة ٧٧٩ ه‍.

ترجمته في الدرر الكامنة (ج ٣ ص ٤٨٠) وهدية العارفين (ج ٢ ص ١٦٩) ودائرة المعارف الإسلامية (ج ١ ص ٩٩) والأعلام (ج ٦ ص ٢٣٥). وراجع أيضا مقدمة كتابه المسمى ب «رحلة ابن بطوطة» بقلم كرم البستاني.

(٣) في الأصل : «اثني» وهو خطأ نحوي.

٢٠٦

سائر الأسماء في حرف الميم الملوك والأمراء

وما منهم إلّا طارىء علينا أو غريب

مزدلي بن تيولتكان بن حمنى بن محمد بن ترقوت بن وربابطن

ابن منصور بن نصاله بن أمية بن واباتن الصّنهاجي اللّتموني

حاله : كان الأمير مزدلي عضد القائم بالدولة اللّمتونية يوسف بن تاشفين ، وقريبه لالتقائهما في ترقوت ، راش به وبرى ، وجزّ وفرى ، فهو شيخ الدولة اللّمتونية ، وكبير العصابة الصّنهاجية ، بطلا ثبتا ، بهمة من البهم ، بعيد الصّيت ، عظيم الجلد ، شهير الذّكر ، أصيل الرّأي ، مستحكم الحنكة. طال عمره ، وحمدت مواقعه ، وبعدت غاراته ، وعظمت في العدوّ وقائعه ، وشكرت عن سلطانه نيابته.

من مناقبه : استرجاع مدينة بلنسية من أيدي الرّوم بسعيه ، وردّه إلى ملكة الإسلام بحميد غنائه في منتصف رجب عام خمس وخمسمائة.

دخوله غرناطة : ولّي قرطبة وغرناطة وما إليهما من قبل يوسف بن تاشفين سنة خمس وخمسمائة.

قال ابن الصّيرفي : توفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال عام ثمانية وخمسمائة ، غازيا على مقربة من حصن قسطانية ، طرق به إلى قرطبة ، فوصل يوم الأربعاء ثاني يوم وفاته ، وصلّى عليه إثر صلاة العصر الفقيه القاضي بقرطبة أبو القاسم بن حمدين ، ودفنه قرب أبيه ، وبنيت عليه روضة حسنة. وكان ، نضّر الله وجهه ، البقيّة الصالحة على نهج أمير المسلمين يوسف.

موسى بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الهنتاني

السيد أبو عمران.

حاله : بيته معروف. وكان أديبا شاعرا ، جوادا ، واختصّ بالعادل ، فجلّ قدره في دولته ، وأمله الناس بإشبيلية في حوائجهم لمحلّه منهم. ولمّا انصرف عنها العادل إلى طلب الخلافة ، قدّمه عليها ، فبلغ الغاية.

وفي شوال من عام اثنين وعشرين وستمائة ، كانت على جيشه الوقيعة ، أوقعها به السيد أبو محمد البيّاسي ، وأخباره شهيرة.

وفاته : وتوفي تغريقا في البحر بعد أن ولّي بجاية ، رحمه الله وعفا عنه.

٢٠٧

شعره : قال : وكان أبو المطرّف بن عميرة ، ينشد له ، يخاطب الفقيه الأديب أبا الحسن بن حريق يستحثّه على نظم الشعر في عروض الخبب : [المتدارك]

خذ في الأشعار على الخبب

فقصورك عنه من العجب

هذا وبنو الآداب قضوا

بعلوّ مجدّك في الرّتب

فنظم له أبو الحسن القصيدة المشهورة ، منها : [المتدارك أو الخبب]

أبعيد الشّيب هوى وصبا؟

كلّا لا لهوا ولا لعبا

ذرّت الستّون برادتها

في مسك عذارك فاشتهبا

ومنها :

يا نفس أحيى أحيى تصلي أملا

عيشي روحيا تروي عجبا

وخذي في شكر الكبرة ما

لاح الإصباح وما ذهبا

فيها أحرزت معارف ما

أبليت بجدّته الحقبا

والخمر إذا أعتقت وصفت

أعلى ثمنا منها عنبا

وبقيّة عمر المرء له

إن كان بها طبّا دربا

هبني فيها بإنابته

ما هدّمه أيام صبا

دخل غرناطة ، فوجب ذكره مع مثله.

منديل بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو الأمير أبو زيّان

حاله : كان فاضلا عاقلا جوادا ، عيّنه أبوه أمير المسلمين أبو يوسف بن عبد الحقّ ، للضّرب على أحواز مالقة عند الفتنة ، فاضطرب المحلة تجاه سهيل (١) ، وضيّق على تلك الأحواز ، وبرز إليه الجيش لنظر موسى بن رحّو من قرابته النّازعين عن إيالة المغرب من بني رحّو. وكان اللقاء ، فوقعت به الدّبرة ، وانهزم جيشه ، وقبض عليه ، وسيق إلى السلطان ، فتلقّاه بالبرّ ، ورعى ما لبيته الكبير من الحقّ ، وأسكنه مجاورا لقصره بحمرائه (٢) ، مرفّها عليه ، محجوزا عن التصرّف ، إلى أن كان

__________________

(١) سهيل : بالإسبانيةfuengirola ، وهي بلدة تقع على شاطىء البحر المتوسط ، على بعد نحو ثلاثين كيلومترا إلى الغرب من مالقة.

(٢) أي قصر الحمراء ، مقرّ سلاطين بني نصر بغرناطة.

٢٠٨

ما تلاحق بهذه الحال من وفاة أبيه السلطان أبي يوسف بالجزيرة الخضراء ، وتصيّر الأمر إلى ولده السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف. وتجدّدت الألفة وتأكّدت المودّة ، وارتفعت الإحنة ، فكان ما هو معروف من التقائهما على تعبئة إجازة ملك المغرب أبي يعقوب البحر على ظاهر مربلّة (١) ، وصرف الأمير أبو زيان محبوّا بما يليق به.

حدّثني شيخنا أبو زكريا بن هذيل ، رحمه الله ، قال : نصب للسلطان أبي يعقوب خباء احتفل في اتخاذه له أمير سبتة ، فبلغ الغاية التي تستطيعها الملوك ، سموّ عماد ، وامتداد ظلّ ، وانفساح ساحة ، إلى إحكام الصّنعة ، والإعياء في الزّخرف. وقعد فيه السلطان ملك المغرب ، وأجلس السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله بن الغالب بالله ، عن يمينه ، وأخاه الأمير أبا زيّان عن يساره ، وقرأ عشاره المعروف بالوقّاد ، آية الله في حسن الصّوت ، وبعد مدى السّمع ، وطيب النّغمة ، قوله عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢))(٢). فكان مقاما مبهتا. كان السلطان ، رحمه الله ، يقول : لشدّ ما جنى عليّ عدوّ الله بقحته ، والله لقد كان يشير بيده إلى السلطان وأخيه عند قوله : أنا يوسف وهذا أخي. ثم أجاز للعدوة ، فطاح بها لعهد غير بعيد.

وكان الإيقاع بجيش الأمير أبي زيّان في أخريات ذي الحجة عام أربعة وثمانين وستمائة ، فاتصل بذلك موت والد أمير المسلمين أبي يوسف بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين بعده ، وكان لقاء السّلطانين بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين هذه ، وكان اللّقاء ، كما ذكر ، في شهر ربيع الآخر من العام المذكور.

__________________

(١) مربلّة : بالإسبانية marbella ، وهي مدينة صغيرة مسورة ، تبعد ستين كيلومترا إلى الغرب من مالقة. الروض المعطار (ص ٥٣٤).

(٢) سورة يوسف ١٢ ، الآيات ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢.

٢٠٩

ومن الطارئين

المطرّف بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية (١)

حاله : كان المطرّف ، ولد الخليفة (٢) عبد الله أمير المسلمين بالأندلس ، شجاعا مقداما ، جريّا ، صرفه والده الخليفة في الغزوات وقود العساكر ، وهو الذي بنى حصن لوشة ، ووقم كثيرا من الخوارج على والده.

دخوله غرناطة : قال ابن حيّان (٣) : غزا المطرّف ببشتر (٤) بسبب ابن حفصون ، إذ كان صالح الأمير عبد الله ، ودفع رهينة ابنه ، فلما امتحن الطّفل وجد غير ابنه ، فنهض إليه المطرّف ، وكان القائد على العسكر قبله عبد الملك بن أمية ، فنهض صحبته ، ونازل المطرّف ابن حفصون ، فهتك حوزته ، وتقدّم إلى بنية كان ابتناها بموضع يعرف باللّويّات (٥) ، فشرع في خرابها ، وخرج ابن حفصون ومن معه من النّصرانية يدافع عنها ، وعن كنيسة كانت بقربها ، فغلب ابن حفصون ، وهدمت الكنيسة ، وقتل في هذه الحرب حفص بن المرّة ، قائده ووجوه رجاله ، وعند الفراغ من ذلك انصرف المطرّف ، فدخل كورة إلبيرة ، وبنا لوشة ، وتقدّم منها إلى إلبيرة ودخلها ، ثم طاف بتلك الجهات والحصون ، ثم انصرف.

ذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب الإحنة بينه وبين أبيه.

قال (٦) : وفي هذه الحركة أوقع بعبد الملك بن أمية ؛ لما كان في نفسه لصرف والده عن عقد البيعة له وتمزيق العهد في خبر يطول. وكان والده قد أخذ عليه

__________________

(١) ترجمة المطرف وأخباره في المقتبس بتحقيق الدكتور إسماعيل العربي (ص ١٠٢ ـ ١٠٥ ، ١٣١ ـ ١٣٧) والمغرب (ج ١ ص ١٨٢) وأعمال الأعلام (القسم الثاني بتحقيق ليفي بروفنسال (ص ٢٨ ـ ٢٩) والبيان المغرب (ج ٢ ص ١٥٠).

(٢) لم يكن عبد الله بن محمد خليفة ، بل كان أميرا ، وقد حكم الأندلس من سنة ٢٧٥ ه‍ إلى سنة ٣٠٠ ه‍.

(٣) قول ابن حيان في المقتبس بتحقيق الدكتور إسماعيل العربي (ص ١٣٠ ـ ١٣١) ولكن ابن الخطيب يورده هنا بتصرف.

(٤) ببشتر : بالإسبانيةbobastro ، وهي حصن منيع بالأندلس ، بينه وبين قرطبة ثمانون ميلا. الروض المعطار (ص ٧٩).

(٥) في المقتبس : «المعروف بالعرمات».

(٦) قول ابن حيان في المقتبس بتحقيق العربي (ص ١٣٣ ـ ١٣٧) ولكن ابن الخطيب يورده هنا بتصرف. ومقتل عبد الملك بن أمية كان في سنة ٢٨٢ ه‍.

٢١٠

الميثاق عند خروجه إلى شذونة (١) ألّا يعرض إليه بمكروه ، وأقسم له بالأيمان ، لئن نال منه شيئا ليعاقبنّه بمثله ، فلمّا قتله ، عقد الوثائق عليه ، وأخذ الشّهادات فيها بالظّلم والشّؤم خوفا من أبيه ، وكتب إليه يعتذر له ، ويحكّمه في نفسه.

مقتل المطرّف : قال (٢) : وظهرت عليه فعال قبيحة ، من أذى جيرانه بما أكّد غائلة أبيه عليه ، وأعان عليه معاوية بن هشام ، لما ذكروا أنّ المطرّف كان قد خلا به ، فذكروا أنه نزل يوما عنده بمنزله ، وأخذوا في حديث الأبناء ، وكان المطرّف عقيما ، فدعا معاوية بصبيّ يكلف به ، فجات وبرأسه ذؤابتان ، فلمّا نظر إليه المطرّف حسده ، وقال : يا معاوية ، أتتشبّه بأبناء الخلفاء في بنيهم؟ وتناول السّيف فحزّ به الذّؤابة ، وكان معاوية حيّة قريش دهاء ومكرا ، فأظهر الاستحسان لصنعه وانبسط معه في الأنس ، وهو مضطغن ، فلمّا خرج كتب إلى الخليفة يسأله اتّصاله إليه ، فلما أوصله كاشفه في أمر المطرّف بما أزعجه ، وأقام على ذلك ليلا أحكم أمره عند الخليفة بلطف حيلته ، فأصاب مقتله سهم سعايته. قال ابن الفيّاض : بعث الأمير عبد الله إلى دار ولده المطرّف عسكرا للقبض عليه ، مع ابن مضر ، فقوتل في داره حتى أخذ ، وجيء به إليه ، فتشاور الوزراء في قتله ، فأشار عليه بعضهم أن لا يقتله ، وقال بعضهم : إن لم تقتله قتلك ، فأمر ابن مضر بصرفه إلى داره ، وقتله فيها ، وأن يدفنه تحت الرّيحانة التي كان يشرب الخمر تحتها ، وهو ابن سبع وعشرين وسنة ، وذلك في يوم الأحد ضحى لعشر خلون من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين.

منذر بن يحيى التّجيبي (٣)

أمير الثّغر ، المنتزي بعد الجماعة بقاعدة سرقسطة ، يكنى أبا الحكم ، ويلقّب بالحاجب المنصور ، وذي الرّياستين.

حاله : قال أبو مروان (٤) : وكان أبو الحكم رجلا من عرض الجند ، وترقّى إلى القيادة آخر دولة ابن أبي عامر ، وتناهى أمره في الفتنة إلى

__________________

(١) شذونة : بالإسبانيةsidona وهي كورة متصلة بكورة مورور ، نزلها جند فلسطين من العرب بعيد الفتح. الروض المعطار (ص ٣٣٩).

(٢) القول لابن حيان ، والنص في المقتبس بتحقيق إسماعيل العربي (ص ١٣٣ ـ ١٣٧) ولكن ابن الخطيب يورده هنا بتصرف.

(٣) ترجمة منذر بن يحيى التجيبي في المغرب (ج ٢ ص ٤٣٥) وأعمال الأعلام (القسم الثاني بتحقيق ليفي بروفنسال) (ص ١٩٦) والذخيرة (ق ١ ص ١٨٠) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٧٥).

(٤) النص في الذخيرة (ق ١ ص ١٨٠ ـ ١٨١) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٧٥ ـ ١٧٦) وأعمال ـ

٢١١

الإمارة (١). وكان أبوه من الفرسان غير النّبهاء. فأمّا ابنه منذر ، فكان فارسا نقيّ الفروسة (٢) ، خارجا عن مدى الجهل ، يتمسك بطرف من الكتابة السّاذجة. وكان على غدره ، كريما ، وهب قصّاده مالا عظيما ، فوفدوا عليه ، وعمرت لذلك حضرته سرقسطة ، فحسنت أيامه ، وهتف المدّاح بذكره.

وفيه يقول أبو عمرو بن درّاج القسطلّي قصيدته المشهورة ، حين صرف إليه وجهه ، وقدم عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة (٣) : [الكامل]

بشراك من طول التّرحّل والسّرى

صبح بروح السّفر لاح فأسفرا

من حاجب الشمس الذي حجب الدّجى

فجرا بأنهار الذّرى (٤) متفجّرا

نادى (٥) بحيّ على الندى ثم اعتلى

سبل (٦) العفاة مهلّلا ومكبّرا

لبّيك أسمعنا نداك ودوننا

نوء الكواكب مخويا أو ممطرا

من كلّ طارق ليل همّ (٧) ينتحي

وجهي بوجه من لقائك أزهرا

سار ليعدل عن سمائك أنجمي

وقد ازدهاها عن سناك محيّرا

فكأنما أعدته (٨) أسباب النّوى

قدرا لبعدي عن يديك مقدّرا (٩)

أو غار من هممي فأنحى شأوها

فلك البروج مغرّبا ومغوّرا

حتى علقت النّيّرين فأعلقا

مثنى يدي ملك الملوك النّيّرا

فسريت في حرم الأهلّة مظلما

ورفلت في خلع السّموم مهجّرا

وشعبت أفلاذ الفؤاد ولم أكد

فحذوت من حذو الثّريّا منظرا

ستّ تسرّاها (١٠) الجلاء مغرّبا

وحدا بها حادي النّجاء (١١) مشمّرا

لا يستفيق الصّبح منها ما بدا

فلقا ولا جدي الفراقد ما سرى

__________________

ـ الأعلام (ص ١٩٦).

(١) في الذخيرة : «إلى نيل الإمارة».

(٢) في الذخيرة وأعمال الأعلام : «لبق الفروسيّة».

(٣) القصيدة في ديوان ابن دراج القسطلي (ص ١٢٤ ـ ١٣١) وفي أعمال الأعلام (ص ١٩٨ ـ ٢٠٠) ٥١ بيتا. وقد أورد منها ابن بسام في الذخيرة (ص ١٨٠ ـ ١٨١) ٢٤ بيتا لم ترد هنا.

(٤) في الديوان وأعمال الأعلام : «النّدى».

(٥) في أعمال الأعلام : «ناديت حيّ».

(٦) في أعمال الأعلام : «سيل».

(٧) في الديوان : «همّي».

(٨) في الديوان : «أغرته».

(٩) رواية عجز البيت في الأصل هي :

نور الهدى عن يديك منوّرا

وكذا لا يستقيم الوزن ، والتصويب من الديوان.

(١٠) في أعمال الأعلام : «تسدّاها».

(١١) في المصدر نفسه : «النواء».

٢١٢

ظعن ألفن القفر في غول الدّجى

وتركن مألوف المعاهد مقفرا

يطلبن لجّ البحر حيث تقاذفت

أمواجه والبرّ حيث تنكّرا

هيم وما يبغين دونك موردا

أبدا ولا عن بحر جودك مصدرا

من كلّ نضو الآل محبوك المنى

يزجيه نحوك كلّ محبوك القرا (١)

بدن فدت منّا دماء نحورها

ببغائها (٢) في كلّ أفق منحرا

نحرت بنا صدر الدّبور فأنبطت

فلق المضاجع تحت جوّ أكدرا

وصبت إلى نحو (٣) الصّبا فاستخلصت

سكن الليالي والنّهار المبصرا

خوص نفخن بنا البرى حتى انثنت

أشلاؤهن كمثل أنصاف البرا

ندرت لنا أن لا تلاقي راحة

مما تلاقي أو تلاقي منذرا (٤)

وتقاسمت أن لا تسيغ حياتها

دون ابن يحيى (٥) أو تموت فتعذرا

لله أيّ أهلّة بلغت بنا

يمناك يا بدر السماء المقمرا

بل أيّ غصن في ذراك هصرته

فجرى (٦) فأورق في يديك وأثمرا

فلئن صفا ماء الحياة لديك لي

فبما شرقت إليك بالماء الصّرى (٧)

ولئن خلعت عليّ بردا أخضرا

فلقد لبست إليك عيشا أغبرا

ولئن مددت عليّ ظلّا باردا

فلكم صليت إليك جوّا (٨) مسعرا

وكفى لمن (٩) جعل الحياة بضاعة

ورأى رضاك بها رخيصا فاشترى

فمن المبلّغ عن غريب نازح

قلبا يكاد عليّ أن يتفطّرا

لهفان لا يرتدّ طرف جفونه (١٠)

إلّا تذكّر عبرتي فاستعبرا

أبنيّ ، لا تذهب بنفسك حسرة

عن غول رحلي منجدا أو مغورا

فلئن تركت الليل فوقي داجيا

فلقد لقيت الصّبح بعدك أزهرا

ولقد وردت مياه مأرب حفّلا

وأسمت خيلي وسط جنّة عبقرا

ونظمت للغيد الحسان قلائدا

من تاج كسرى ذي البهاء وقيصرا

__________________

(١) القرا : الظهر.

(٢) في أعمال الأعلام : «ببقائها». والبغاء : الطلب.

(٣) في المصدر نفسه : «نحر».

(٤) هو منذر بن يحيى ، ممدوح ابن دراج.

(٥) ابن يحيى : هو منذر بن يحيى ، المقدّم ذكره.

(٦) في الديوان : (نخر).

(٧) الماء الصّرى : الذي طال استنقاعه.

(٨) في أعمال الأعلام : «حرّا».

(٩) في الديوان : «وكفاك من».

(١٠) في أعمال الأعلام : «لا يرتد في أجفانه».

٢١٣

وحللت أرضا بدّلت حصباؤها

ذهبا يرفّ (١) لناظريّ وجوهرا

وليعلم (٢) الأملاك أنّي بعدهم

ألفيت كلّ الصّيد في جوف الفرا (٣)

ورمى عليّ رداءه من دونهم

ملك تخيّر للعلا فتخيّرا

ضربوا قداحهم عليّ ففاز بي

من كان بالقدح المعلّى أجدرا

من فكّ طرفي من تكاليف الفلا

وأجار طرفي من تباريح السّرى

وكفى عتابي من ألام معذّرا

وتذمّمي ممّن تجمّل (٤) معذرا

ومسائل عنّي الرفاق وودّه

لو تنبذ الساحات (٥) رحلي بالعرا

وبقيت في لجج الأسى متضلّلا

وعدلت عن سبل الهدى متحيّرا

كلّا وقد آنست من هود هدى

ولقيت يعرب في القيول وحميرا

وأصبت في سبإ مورّث ملكه

يسبي الملوك ولا يدبّ لها الضّرا

فكأنما تابعت تبّع رافعا

أعلامه ملكا يدين له الورى

والحارث الجفنيّ ممنوع الحمى

بالخيل والآساد مبذول القرى

وحططت رحلي بين ناري حاتم

أيام يقري موسرا أو معسرا

ولقيت زيد الخيل تحت عجاجة

تكسو (٦) غلائلها الجياد الضّمّرا

وعقدت في يمن مواثق ذمّة

مشدودة الأسباب موثقة العرى

وأتيت بحدل (٧) وهو يرفع منبرا

للدّين والدّنيا ويخفض منبرا

وحططت (٨) بين جفانها وجفونها

حرما أبت حرماته أن تخفرا

تلك البحور (٩) تتابعت وخلفتها

سعيا فكنت الجوهر المتخيّرا

ولقد نموك ولادة وسيادة

وكسوك عزّا وابتنوا لك مفخرا

__________________

(١) في أعمال الأعلام : «يروق».

(٢) في أعمال الأعلام : «ولتعلم».

(٣) أخذه من المثل : «كلّ الصّيد في جوف الفرا». يضرب لمن يفضّل على أقرانه. والفرا : الحمار الوحشي وجمعه فراء. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ١٣٦).

(٤) في الأصل : «تحمّل» بالحاء المهملة ، والتصويب من المصدرين.

(٥) في الأصل : «السانحات» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى ، والتصويب من أعمال الأعلام. وفي الديوان : «السادات».

(٦) في الأصل : «يكسو» ، وكذا في الديوان ، والتصويب من أعمال الأعلام.

(٧) هو بحدل بن أنيف الكلبي ، الذي تزوج معاوية بن أبي سفيان من بنته ميسون والدة ابنه يزيد ، وقد كان لقبيلة كلب اليمنية التي ينتسب إليها بحدل أعظم البلاء في نصرة الدعوة الأموية.

(٨) في أعمال الأعلام : «وخططت» بالخاء المعجمة.

(٩) في المصدر نفسه : «البدور».

٢١٤

فممرت بالآمال (١) أكرم أكرم

ملكا ورثت علاه أكبر أكبرا

وشمائل عبقت بها سبل الهدى

وذرت على الآفاق مسكا أذفرا

أهدى إلى شغف القلوب من الهوى

وألذّ في الأجفان من طعم الكرى

ومشاهد لك لم تكن أيّامها

ظنّا يريب ولا حديثا يفترى

لاقيت فيها الموت أسود أدهما

فذعرته بالسّيف أبيض أحمرا

ولو اجتلى في زيّ قرنك معلما

لتركته تحت العجاج معفّرا

يا من تكبّر بالتّكرّم (٢) قدره

حتى تكرّم أن يرى متكبّرا

والمنذر الأعداء بالبشرى لنا

صدقت صفاتك منذرا ومبشّرا

ما صوّر الإيمان في قلب امرئ

حتى يراك الله فيه مصوّرا

فارفع لها علم الهدى فلمثلها

رفعتك أعلام السيادة في الذّرى

وانصر نصرت من السماء فإنما

ناسبت أنصار النبيّ لتنصرا

واسلم ولا وجدوا لجوّك منفسا

في النائبات ولا لبحرك معبرا

سيرته : قال (٣) : وساس لأول ولايته عظيم الفرنحة (٤) ، فحفظت أطرافه ، وبلغ من استمالته طوائف النّصرانية ، أن جرى على يديه بحضرته عقد مصاهرة بعضهم (٥) ، فقرفته الألسنة لسعيه في نظام سلك النصارى. وعمر به الثّغر إلى أن ألوت به المنيّة. وقد اعترف له الناس بالرّأي والسّياسة.

كتّابه : واستكتب عدّة كتّاب كابن مدوّر ، وابن أزرق ، وابن واجب ، وغيرهم.

وصوله إلى غرناطة : وصل غرناطة صحبة الأمير المرتضى الآتي ذكره ، وكان ممن انهزم بانهزامه. وذكروا أنه مرّ بسليمان بن هود ، وهو مثبت للإفرنج الذين كانوا في المحلّة لا يريم موقفه (٦) ، فصاح به النّجاة : يا ابن الفاعلة ، فلست أقف عليك ، فقال له سليمان : جئت والله بها صلعا ، وفضحت أهل الأندلس ، ثم انقلع وراءه.

__________________

(١) في الديوان : «فعمرت بالإقبال».

(٢) في أعمال الأعلام : «يا من تكرّم بالتكبّر».

(٣) النص في الذخيرة (ق ١ ص ١٨١) وأعمال الأعلام (ص ١٩٧) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٧٦ ـ ١٧٧).

(٤) في الذخيرة والبيان المغرب : «عظماء الإفرنج» ، وفي أعمال الأعلام : «عظماء الفرنجة».

(٥) أجرى منذر مصاهرة بين ريموند الجليقي وشانجه القشتالي ، حيث تزوج شانجه بابنة ريموند ، حسبما جاء في الذخيرة.

(٦) لا يريم موقفه : لا يبرحه.

٢١٥

وفاته : وكانت (١) على يدي رجل من أبناء عمّه يدعى عبد الله بن حكم ، كان مقدّما في قوّاده ، أضمر غدره ، فدخل عليه ، وهو غافل في غلالة ، ليس عنده إلّا نفر من خواصّ خدمه الصّقلب ، قد أكبّ على كتاب يقرؤه ، فعلاه بسكّين أجهز به عليه. وأجفل الخدم إلّا شهم منهم أكبّ عليه فمات معه. وملك سرقسطة ، وتمسّك بها أياما ، ثم فرّ عنها ، وملكها ابن هود. وكان الإيقاع به غرة ذي حجة سنة ثلاثين وأربعمائة ، رحمة الله عليه.

موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى

ابن يغمراسن بن زيّان (٢)

الأمير بتلمسان ، يكنى أبا حمّو.

أوليته : أوّليته معروفة تنظر فيما سلف من الأسماء.

حاله : هذا السلطان مجمع على حزمه ، وضمّه لأطراف ملكه ، واضطلاعه بأعباء ملك وطنه ، وصبره لدولة قومه ، وطلوعه بسعادة قبيله. عاقل ، حازم ، حصيف ، ثابت الجأش ، وقور مهيب ، جمّاعة للمال ، مباشر للأمور ، هاجر للّذات ، يقظ ، متشمّر. قام بالأمر غرّة ربيع الأول في عام ستين (٣) ، مرتاش الجناح بالأحلاف من عرب القبلة ، معوّلا عليهم عند قصد عدوّه ، وحلب ضرع الجباية ، فأثرى بيت ماله ، ونبهت دولته ، واتّقته جيرته ، فهو اليوم ممن يشار إليه بالسّداد.

أدبه وشعره : ووجّه لهذا العهد في جملة هدايا ودّية ، ومقاصد سنيّة ، نسخة من كتابه المسمى ب «واسطة السّلوك ، في سياسة الملوك» (٤) ، افتتحه بقوله :

«الحمد لله الذي جعل نعمته على الخلق ، بما ألّفهم عليه من الحقّ ، شاملة شائعة ، ويسّر طوائف من عباده لليسرى فأتت إليها مساعدة مسارعة ، وحضّهم على الأخذ بالحسنى ولا أحسن من نفوس أرشدت فأقبلت لإرثها طالبة ولربّها طائعة ، ولا أسمى من همم نظرت بحسن السّياسة في تدبير الرّياسة التي هي لأشتات الملك

__________________

(١) قارن بالذخيرة (ق ١ ص ١٨٥ ـ ١٨٦) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٧٨).

(٢) ترجمة أبي حمّو موسى بن يوسف الزياني في التعريف بابن خلدون (ص ٩٦) وأزهار الرياض (ج ١ ص ٢٣٨ ، ٢٤٤) ونفح الطيب (ج ٩ ص ٢١٤ ، ٣٤٢) وهدية العارفين (ج ٢ ص ٤٨٠) ودائرة المعارف الإسلامية (ج ١ ص ٣٢٨) والأعلام (ج ٧ ص ٣٣١).

(٣) أي سنة سبعمائة وستين.

(٤) هذا الكتاب مطبوع ، وجاء في هدية العارفين (ج ٢ ص ٤٨٠) أن له كتابا اسمه. «قلائد الدرر في سياسة الملك».

٢١٦

جامعة ، ولأسباب الملك مانعة ، وأظهرت من معادنها درر الحكم وغرر الكلم لائحة لامعة ، فاجتلت أقمارها طالعة ، واجتنت أزهارها يانعة. وصلى الله على سيدنا محمد الكريم المبعوث بالآيات البيّنات ساطية ساطعة ، والمعجزات المعجمات قاصمة لظهور الجاحدين قاطعة ، الذي زويت له الأرض فتدانت أفكارها وهي نابية شاسعة ، واشتاقت له المياه فبرزت بين أصابعه يانعة ، وامتثل السّحاب أمره فسحّ باستسقائه دررا هامية هامعة ، وحنّ الجذع له وكان حنينه لهذه الآيات الثّلاث آية رابعة ، إلى ما لا يحصى مما أتت به متواترات الأخبار وصيحات الآثار ناصرة لنبوّته ساطعة ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وعترته التي أجابت داعي الله خاشية خاشعة ، وأذعنت لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من الاستبداد خالية وللأنداد خالعة ، صلاة ديمتها دائمة متتابعة ، وسلّم كثيرا».

جمع فيه الكثير من أخبار الملوك وسيرهم ، وخصّ به ولده ووليّ عهده ، فجاء مجموعا يستظرف من مثله ، ويدلّ على مكانه من الأدب ومحلّه.

وثبت فيه الكثير من شعره ، فمن ذلك قصيدة أجاب فيها أحد رؤوس القبائل ، وقد طلب منه الرجوع إلى طاعته ، والانتظام في سلك جماعته ، وهي : [الطويل]

تذكّرت أطلال الرّبوع الطّواسم

وما قد مضى من عهدها المتقادم

وقفت بها من بعد بعد أنيسها (١)

بصبر مناف أو بشوق ملازم

تهيم بمغناهم وتندب ربعهم

وأيّ فؤاد بعدهم غير هائم؟

تحنّ إلى سلمى ومن سكن الحمى

وما حبّ سلمى للفتى بمسالم

فلا تندب الأطلال واسل عن الهوى

ولا تقل في تذكار تلك المعالم

فإن الهوى لا يستفزّ ذوي النّهى

ولا يستبي إلّا الضّعيف العزائم

صبور على البلوى طهور من الهوى

قريب من التّقوى بعيد المآثم

ومن يبغ درك المعلوات ونيلها

يساق بخلق الشّهد مرّ العلاقم

ولائمة لمّا ركبنا إلى العلا

بحار الردى في لجّها المتلاحم

تقول بإشفاق : أتنسى هوى الدّما

وتنثر درّا (٢) من دموع سواجم؟

إليك فإنّا لا يردّ اعتزامنا

مقالة باك أو ملامة لائم

ألم تدر أنّ اللوم لوم وأننا

لنجتنب اللّوم اجتناب المحارم؟

__________________

(١) في الأصل : «أنسها» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «دررا» ، وكذا ينكسر الوزن.

٢١٧

فما بسوى العلياء (١) همنا جلالة

إذا هام قوم بالحسان النّواعم

بروق السّيوف المشرفيّات والقنا

أحبّ إلينا من بروق المباسم

وأمّا صميل السّابحات لذي الوغى

فأشجى لدينا من غناء (٢) الحمائم

وأحسن من قدّ الفتاة وخدّها

قدود العوالي أو خدود الصوارم

إذا نحن جرّدنا الصوارم لم تعد

إلى غمدها إلّا بجرّ الغلاصم (٣)

نواصل بين الهندواني الطّلاء (٤)

بتفريق ما بين الطّلى والجماجم

فيرغب منّا السّلم كلّ محارب

ويرهب منّا الحرب كلّ مسالم

نقود إلى الهيجاء كلّ مضمّر

ونقدم إقدام الأسود الضّراغم

وما كلّ من قاد الجيوش إلى العدا

يعود إلى أوطانه بالغنائم

وننصر مظلوما ونمنع ظالما

إذا شيك مظلوم بشوكة ظالم

ويأوي إلينا المستجير ويلتجي

ويحميه منّا كلّ ليت ضبارم (٥)

ألم تر إذ جاء السّبيعيّ قاصدا

إلى بابنا يبغي التماس المكارم؟

وذلك لمّا أن جفاه صحابه

وكلّ خليل ودّه غير دائم

وأزمع إرسالا إلينا رسالة

بإخلاص ودّ واجب غير واجم

وكان رأى أنّ المهامه بيننا

فخلّى لذات الخفّ ذات المناسم

وقال ألا سل من عليم مجرّب

أبثّ له ما تحت طيّ الحيازم

فيبلغ عنه الآن خير رسالة

تؤدّي إلى خير الملوك الأعاظم

على ناقة وجناء كالحرف ضامر

تخيّرها بين القلاص الرّواسم

من اللائي يظلمن الظليم إذا عدى

ويشبهه في جيده والقوائم

إذا أتلعت فوق السّحاب جوابها

تخيّلتها بعض (٦) السحاب الرّواكم

وإن هملجت بالسّير في وسط مهمه

نزلت كمثل البرق لاح لشائم

ولم يأمن الخلّان بعد اختلالهم

فأمسى وفي أكبادها أيّ جاحم

__________________

(١) في الأصل : «العليا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «غنا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) رواية عجز البيت في الأصل هي :

إلّا غمادها الأبحر الغلاصم

وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والغمد : جفن السيف. والغلاصم : جمع غلصمة وهو اللحم ما بين الرأس والعنق ، والمراد قطع الرقاب.

(٤) في الأصل : «الطّلا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٥) في الأصل : «صيارم» ، وكذا لا معنى له. والأسد الضّبارم : المجتمع الخلق موثّقه.

(٦) في الأصل : «تعضّ» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

٢١٨

فقالوا فحمّلها الحمائم قال لا

لبعد المدى أو خوف صيد الحمائم

وما القصد إلّا في الوصول بسرعة

فقالوا : فحمّلها أكفّ النواسم

فقال : لنعم المرسلات وإنّما

لها ألسن مشهورة بالنّمائم

فلم يلف فيها للأمانة موضعا

وكلّ امرئ للسّرّ ليس بكاتم

فحينئذ وافى إلينا بنفسه

فكان لدينا خير واف وقادم

يجوب إلى (١) البيداء قصدا وبشرنا

يضيء له الظّلماء في كلّ عاتم

طلاب العلا تسري مع الوحش في الفلا

ويصحب منها كلّ باغ وباغم

على سلهب (٢) ذي صورتين مطعّم (٣)

من المغربات الصّافنات الصّلادم (٤)

إذا شاء أيّ الوحش أدركه به

فتحسبه في البيد بعض النّعائم

ويقدمه طوعا إلينا رجاؤه

حمايتنا إيّاه من كلّ ظالم

ألا أيها الآتي لظلّ حناننا

نزلت برحب في عراص المكارم

وقوبلت منّا بالذي أنت أهله

وفاض عليك الجود فيض الغمائم

كذا دأبنا للقادمين محلّنا

حمى وندى ينسى به جود حاتم

وهذا جواب عن نظامك إنّنا

بعثنا به كاللؤلؤ المتناظم

ونحن ذوو التيجان من آل حمير

لعمرك من التّيجان غير العمائم

بهمّتنا العليا سمونا إلى العلا

وكم دون إدراك العلا من ملاحم

شددنا لها أزرا وشدنا بناءها

وكم مكثت دهرا بغير دعائم

نظمنا شتيت المجد بعد افتراقه

وكم بات نهبا شمله دون ناظم

ورضنا جياد الملك بعد جماحها

فذلّت وقد كانت صعاب الشّكائم

مناقب زيّانيّة (٥) موسويّة

يذلّ لها عزّ الملوك القماقم

يقصّر عن إدراكها كلّ مبتغ

ويعجز عن إحصائها كلّ ناظم

فلله منّا الحمد والشّكر دائما

وصلّى (٦) على المختار من آل هاشم

ونختصّكم منّا السّلام الأثير ما

تضاحك روض عن بكاء الغمائم

__________________

(١) في الأصل : «إلينا» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٢) الفرس السّلهب : الطويل.

(٣) في الأصل : «ذي صوتين مطعم» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) الصافنات : الخيل القائم على ثلاث. والصلادم : جمع صلدم وهو الصّلب الشديد.

(٥) نسبة إلى زيّان الذي ينتمي إليه الأمير أبو حمّو موسى بن يوسف بن زيّان.

(٦) في الأصل : «وصلّى الله على ...» ، وكذا ينكسر الوزن.

٢١٩

قلت : ولمّا تعرّفت كلفه بالأدب والإلمام بمجاورته ، عزمت على لقائه ، وتشوّقت عند العزم على الرّحلة الحجازية ، إلى زيارته ، ولذلك كنت أخاطبه بكلمة منها : [الطويل]

على قدر قد جئت قومك يا موسى

فجلّت بك النّعمى وزالت بك البوسى

فحالت دون ذلك الأحوال ، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد ، وفّقه الله ، وسائر من تولّى أمرا من أمور المسلمين.

وجرى ذكره في رجز الدول (١) من نظمي : [الرجز]

بادرها المفدي الهمام موسى

فأذهب الرحمن عنها البوسى

جدّد فيها الملك لمّا أخلقا

وبعث السّعد وقد كان لقا

ورتّب الرّتب والرّسوما

وأطلع الشّموس والنّجوما

واحتجن المال بها والعدّه

وهو بها باق لهذي المدّة

ولادته : ولد بمدينة غرناطة حسبما وقعت عليه بخط الثّقة من ناسه ، في أول عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة (٢).

مبارك ومظفّر الأميران موليا المنصور بن أبي عامر (٣)

حالهما : قال أبو مروان (٤) : ترقّيا إلى تملّك بلنسية من وكالة السّاقية ، وظهر من سياستهما وتعاوضهما (٥) صحّة الألفة طول حياتهما ، ما فاتا به في معناهما (٦) أشقّاء الأخوّة وعشّاق الأحبّة ، إذ نزلا معا بقصر الإمارة مختلطين ، تجمعهما مائدة واحدة من غير تميّز في شيء ، إلّا الحرم خاصّة. وكان التّقدّم لمبارك في المخاطبة ، وحفظ رسوم الإمارة ، أفضل صرامة وذكرا ، قصر عنهما مظفّر ، لدماثة خلقه ، وانحطاطه

__________________

(١) رجز الدول : هو نفسه كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» لابن الخطيب.

(٢) قتل أبو حمو في معركة دبّرها ابنه عبد الرحمن بالاتفاق مع بني مرين ، وذلك بموضع يقال له «الغيران» يبعد نصف يوم عن تلمسان ، في ٤ ذي الحجة سنة ٧٩١ ه‍.

(٣) أخبار مبارك ومظفر في أعمال الأعمال القسم الثاني ص ٢٢٢) والذخيرة (ق ٣ ص ١٤) والمغرب (ج ٢ ص ٢٩٩) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٥٨).

(٤) قارن بالذخيرة (ق ٣ ص ١٤ ـ ١٥ ، ١٨) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٥٨ ـ ١٥٩) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٢٢).

(٥) في أعمال الأعلام : «وتقارضهما».

(٦) في الأصل : «معناها» والتصويب من المصادر.

٢٢٠