الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

وفاته : سافر من بلده إلى غرناطة في بعض وجهاته إليها ، وذهب سحرا يرتاد ماء لوضوئه ، فتردى في حفرة تردّيا أوهن قواه ، وذلك بخارج بلّش (١) ، فردّ إلى مالقة ، فكانت بها وفاته قبل الفجر من ليلة يوم الجمعة الرابع عشر لشعبان عام تسعة وأربعين وسبعمائة.

محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري (٢)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالسّاحلي.

حاله : من «عائد الصلة» : المثل السائر في عمران أوقاته كلها بالعبادة ، وصبره على المجاهدة. قطع عمره في التّبتّل والتّهجّد ، لا يفتر لسانه عن ذكر الله والصلاة على نبيّه ، صلى الله عليه وسلم. خرج عن متروك والده ، واقتصر على التّعيّش من حرفة الخياطة. ثم تعدّاها إلى النّسخ والتّعليم ، وسلك على الشيخ أبي القاسم المريد ، نفع الله به ، حتى ظهرت عليه سيما الصالحين ، وأقام عمره مستوعبا ضروب الخير ، وأنواع القرب من صوم وأذان وذكر ونسخ وقراءة وملازمة خلوة ، ذا حظّ من الفصاحة ، وجرأة على الوعظ في صوت جهير وعارضة صليبة. اقتدى به طوائف من أصناف الناس على تباعد الدّيار ، وألزمهم الأذكار ، وحوّلهم للسلوك ، فأصبح كثير الأتباع ، بعيد الصّيت. وولّي الخطابة بالمسجد الجامع من بلده ، ونقل إلى الخطابة بجامع غرناطة في نبوة عرضت له بسبب ذنابى ذرّية طرقوا الكدر إلى سربه ، ثم عاد إلى بلده متين ظهر الحظوة ، وثيق أساس المبرّة.

مشيخته : قرأ ببلده مالقة على الخطيب أبي محمد بن عبد العظيم بن الشيخ ، وأبي عبد الله بن لب ، وأبي جعفر الحرّار ، وأبي عبد الله بن الحلو ، والخطيب أبي عبد الله بن الأعور.

محنته : ابتلي بعد السبعين من عمره بفقد بصره ، فظهر منه من الصبر والشكر والرّضا بقضاء الله ما يظهر من مثله. وأخبرني بعض أصحابه أنه كان يقول : سألت الله أن يكفّ بصري خوفا من الفتنة. وفي هذا الخبر نظر لمكان المعارضة في أمره ، صلى الله عليه وسلم ، بسؤال العافية والإمتاع بالإسماع والإبصار.

__________________

(١) هي بلّش مالقةvelez malaga ، وقد ذكرها ياقوت مكتفيا بالقول : «بلّش ، بالفتح وتشديد اللام والشين معجمة : بلد بالأندلس ينسب إليه يوسف بن جبارة البلشي». معجم البلدان (ج ١ ٤٨٤).

(٢) ترجمة محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي في نيل الابتهاج (ص ٢٣٠) والكتيبة الكامنة (ص ٤٥).

١٨١

شهرته : وجعل الله له في قلوب كثير من الخلق ، الملوك فمن دونهم ، من تعظيمه ما لا شيء فوقه ، حتى أن الشيخ المعمر الحجّة الرّحلة أبا علي ناصر الدين المشدالي كتب إليه من بجاية بما نصه : يا أيها العزيز ، مسّنا وأهلنا الضّر ، وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل ، وتصدّق علينا ، إن الله يجزي المتصدّقين. وبعده : من العبد الأصغر والمحبّ الأكبر فلان ، إلى سيّد العارفين ، وإمام المحققين ، في ألفاظ تناسب هذا المعنى.

حدّثني شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب ، وكان من أعلام تلاميذه ، وصدور السالكين على يديه ، قال : قصدت منه خلوة ، فقلت : يا سيدي ، أصحابنا يزعمون أنك ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرني واشف صدري ، هل هذه الرؤيا عينيّة أو قلبية؟ قال : فأفكر ساعة ، ثم قال : عندي شك في رؤية ابن الجيّاب الساعة ومحادثته ، فقلت : لا ، فقال : كذلك الحال ، قلت : وهذا أمر غريب ، ولا يصح إلّا رؤية القلب ، ولكن غلبت عليه حتى تخيّل في الحسّ الصورة الكريمة ، إذ وجود جوهر واحد في محلّين اثنين محال.

شعره : نظم الكثير من شعر منحطّ لا يصلح للكتب ولا للرّواية ، ابتلي به ، رحمه الله ، فمن لبابه قوله ، وهو من الوسط (١) : [الكامل]

إن كنت تأمل (٢) أن تنال وصالهم

فامح الهوى في القيل والأفعال

واصبر على مرّ الدواء فإنه

يأتيك بعد بخالص السّلسال

تواليفه : ألّف كتابا سمّاه «إعلان الحجّة ، في بيان رسوم المحجّة».

وفاته : توفي يوم الجمعة الرابع والعشرين لشوال عام خمسة وثلاثين وسبعمائة ، وكانت جنازته مشهودة ، تزاحم الناس على نعشه ، وتناولوه تمزيقا على عادتهم من ارتكاب القحة الباردة في مسلاخ حسن الظّن.

محمد بن أحمد بن قاسم الأمي

من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالقطّان ، الفقيه الأوّاب المتكلم المجتهد.

حاله : من «العائد» : كان هذا الرجل غريب المنزع ، عجيب التّصوّف. قرأ وعقد الشروط ، وتصدّر للعدالة ، ثم تجرّد ، وصدق في معاملته لله ، وعوّل عليه ،

__________________

(١) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٤٥).

(٢) في الكتيبة : «تطلب».

١٨٢

واضطلع بشروط التّوبة ، فتحلّل من أهل بلده ، واستفاد واسترحم ، واستغفر ، ونفض يديه من الدّنيا ، والتزم عبادة كبيرة ، فأصبح يشار إليه في الزّهد والورع ، لا تراه إلّا متبسّما ، ملازما لذكر الله ، متواضعا لأصاغر عباده ، محبّا في الضّعفاء والمساكين ، جميل التّخلّق ، مغضيا عن الهنات ، صابرا على الإفادة. وجلس للجمهور بمجلس مالقة ، يتكلم في فنون من العلم ، يعظ الناس ، ويرشدهم ، ويزهّدهم ، ويحملهم على الإيثار ، في أسلوب من الاستنفار والاسترسال والدلالة والفصاحة والحفظ ، كثير التأثير في القلوب ، يخبر بإلهام وإعانة ، فمال الخلق إليه ، وتزاحموا على مجلسه ، وأعلنوا بالتّوبة ، وبادر مترفوهم إلى الإقلاع عن إجابة الشهوات ، والاستقالة من الزّلّات ، ودهم الوباء ، فبذلوا من الأموال في أبواب البرّ والصّدقة ، ما لا يأخذه الحصر ولا يدركه الإحصاء ، ولو لا أن الأجل طرقه ، لعظم صيته ، وانتشر نفعه.

وفاته : توفي شهيد الطّاعون عصر يوم الأربعاء الرابع لصفر من عام خمسين وسبعمائة ، ودفن بجبانة جبل فاره (١) ، ضحى يوم الخميس الثاني من يوم وفاته ، وصلّى عليه خارج باب قنتنالة ، وألحده في قبره الخطيب القاضي الصالح أبو عبد الله الطّنجالي ، رحم الله جميعهم.

وممّن رثاه الشيخ الأديب أبو الحسن الورّاد فقال : [الطويل]

أبعد وليّ الله دمعي يسجم

وغمار قلبي من كلوم تترجم؟

فؤادي مكلوم بحزني لفقده

لذاك جفوني دمعها كلّه دم

وما ذا عسى يغني التفجّع والبكا

وما ذا عسى يجدي الأسى والتّبرّم؟

سأصبر للبلوى وإن جلّ خطبها

فصبر الفتى عند الشّدائد يعلم

كذا العلم بالسيف الصّقيل لدى الوغى

فويق الذي من حسنه لا يوسّم (٢)

على قدر صبر المرء تصغر عنده

خطوب من الدنيا على الناس تعظم

ألا إنها الدّنيا تعلّة باطل

ومحمض (٣) أحلام لمن بات يحلم

تجنّبها أهل العقول فأقصروا

وأغرق فيها الجاهلون وأشأموا (٤)

__________________

(١) جبل فاره : بالإسبانيةgibralfaro ، يعلو مدينة مالقة. نزهة المشتاق (ص ٥٧٠).

(٢) كلمة «لا» ساقطة في الأصل.

(٣) في الأصل : «ومخمضة» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) في الأصل : «وأشأم».

١٨٣

أعد نظرا فيها تجبك براحة

وإنس (١) بما تقضي عليك وتحكم

أعدّ لها درياق صبرك إنها

من البؤس والتّلوين والله أرقم

تلفّت إلى تعذيبها لمحبّها

وما ذا بها يلقى كئيب ومغرم

يظنّ بها ريحانة وهي سدرة

ولا منتهى إلّا الرّدى والتّندم

عجبت لها تخفى علينا عيوبها

وذاك لأنّا في الحقيقة نوّم

أليس عجيبا أن يعوّل عاقل

على عاجل من وصلها يتصرّم؟

وما وصلها معشار عشر صدورها

ولكنه صرف وللدّهر (٢) أدوم

إذا ابتسمت يوما ترقّب عبوسها

فما إن لنا منها يدوم التّبسّم

ضحى كان وجه الدّهر سبر بشرّه

فلم يمس حتى بان منه التّجهّم

ذرينا بعقد من وليّ مكانه

مكين لدى العلياء سام معظّم

هوى مثل ما هوى من الأفق كوكب

فجلّلنا ليل من الخطب مظلم

تساوى لديه صيدها وعبيدها

وعالمها النّحرير والمتعلّم

هو الموت لا ينفكّ للخلق طالبا

يروح ويغدو كلّ حين عليهم

وما هو إلّا الدّاء عزّ دواؤه

فليس لشيء في البسيطة يحسم

دها كل مخلوق فما منه سيّد

له الجاه عند الله ينجو ويسلم (٣)

ولو كان ذا كان النّبيّ محمد

تجنّبه ، صلّوا عليه وسلّموا (٤)

تعنّى به موسى ويوسف قبله

ونوح وإدريس وشيث وآدم

به باد بهرام وتبّر بهرم

وكسّر من كسرى سوار ومعصم

وكم من عظيم الشّأن حلّ بربعه

فإن تختبره فهو ربّ وأعظم

ولكنّنا ننسى ونأبى حديثه

وننجد في الإعراض عنه ونتهم

فحتّى إذا حلّ ساحة ماجد

نطلّ بها من حسرة نتكلّم

نسينا حديث الموت جهلا بغدره

فألهمنا إذ هزّنا منه ملهم

وفاة ورميّ في التّراب موسّد

وآثاره فوق السّماك تخيّم

خبا ضوء ناديّ فأقفر (٥) ربعه

من العلم والتّعليم ربع ومعلم

__________________

(١) في الأصل : «وأنس» ، وكذا ينكسر الوزن ، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع.

(٢) في الأصل : «للدهر» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «فسلّم».

(٤) في الأصل : «وسلّم».

(٥) في الأصل : «أقفر» وكذا ينكسر الوزن.

١٨٤

تردّى فأردى فقده أهل ريّة (١)

فما منهم إلّا كئيب ومغرم

غدا أهلها من فجعة بمصابه

وعيشهم صاب قطيع وعلقم

وهل كان إلّا والد مات عنهم؟

فيا من لقوم يتّموا حين أيّموا (٢)

قضى نحبه الأستاذ واحد عصره

فكاد الأسى يقضي إلى الكلّ منهم

قضى نحبه القطّان فالحزن قاطن

مقيم بأحناء الضّلوع محكّم

وهل كان إلّا روضة رفّ ظلّها

أتيح له قيظ من الجون صيلم؟

وهل كان إلّا رحمة عاد فقدها

علامة فقد العلم والله أعلم؟

سل التّائبين العاكفين على الهدى

لكم منّة أسدى وأهدى إليهم

أفادهم من كلّ علم لبابه

وفهّمهم أسراره فتفهّموا (٣)

جزى الله ربّ الناس خير جزائه

دليلا بهم نحو الهدى حيث يمّموا (٤)

أبان لهم طرق الرّشاد فأقدموا

وحذّرهم عن كل غيّ فأحجموا (٥)

وجاء من التّعليم للخير كله

بأبين من يأتي به من يعلّم

فصاحة ألفاظ وحسن عبارة

مضيّ كما يمضي الحسام المصمّم

يصيب فلا يخطي إذا مقصدا

ومن (٦) يجيب فلا يبطي ولا يتلعثم

يحدّث في الآفاق شرقا ومغربا

فأخباره أضحت تخطّ وترسم

سرى في الورى ذكر له ومدائح

يكاد بها طير العلى يترنّم

لعمرك ما يأتي الزمان بمثله

وما ضرّني لو كنت بالله أقسم

فقيه نزيه زاهد متواضع

رؤوف عطوف مشفق مترحّم

يودّ لو أنّ الناس أثرى جميعهم

فلم يبق مسكين ولم يبق معدم

يودّ لو أنّ الله تاب على الورى

فتابوا فما يبقى من الكلّ مجرم

عليه من الرّحمن أوسع رحمة

فقد كان فينا الدّهر يحنو ويرحم

__________________

(١) ريّه reyo : كورة من كور الأندلس في قبلي قرطبة. الروض المعطار (ص ٢٧٩).

(٢) في الأصل : «حين أو يتّم» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن. وأيّم الرجل أو المرأة : قتل زوجه أو جعله أيّما. محيط المحيط (أيم).

(٣) في الأصل : «فتفهّم».

(٤) في الأصل : «يمّم».

(٥) في الأصل : «فأحجم».

(٦) في الأصل : «ولمن» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

١٨٥

محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي

ابن خالد بن عبد الرحمن بن حميد الهاشمي الطّنجالي (١)

لوشي (٢) الأصل ، مالقي النشأة والاستيطان.

أوليته : بيتهم نبيه إلى هاشميّة النّبه ، وهم ببلدنا لوشة أشراف ، وكانت لهم فيها ثروة وثورة اجتثّها الدهر ببعض طوارقه في أبواب المغالبات. ويمتّ سلفنا إليهم بصحبة ومصاهرة في حديث يستدعي طولا ، وانتقل خلفهم إلى مالقة.

حاله : من «عائد الصلة» : كان هذا الولي الفاضل ، المجمع على ولايته وفضله ، سهل اللقاء ، رفيقا بالخلق ، عطوفا على الضعفاء ، سالكا سنن الصّالح من السّلف سمتا وهديا ، بصره مغضوض ، ولسانه صامت إلّا من ذكر الله ، وعلمه نافع ، وثوبه خشن ، وطعمته قد نفدها الورع الشّديد حتى اصطفاها مختارة ، إذا أبصرت بها العين ، سبقتها العبرة. بلغ من الخلق الملوك فمن دونهم الغاية ، فكان يلجأ إليه المضطرّ ، وتمدّ إلى عنايته الأيدي ، وتحطّ بفنائه الوسائل ، فلا يرتفع عن كلف الناس ولا حوائجهم ، ولا ينقبض عن الشّفاعة لهم ، وإصلاح ذات بينهم ؛ له في ذلك كلّه أخبار طريفة. واستعمل في السّفارة بين ملكي العدوة والأندلس في أحوال المسلمين ، فما فارق هيئته ، وركوب حماره واستصحاب زاده ، وليس الخشن من ثوبه. وكان له حظّ رغيب من فقه وحديث ، وتفسير ، وفريضة. ولّي الخطابة ببلده مالقة ، واستسقى في المحول ، فسقي الناس.

حدّثني بعض أشياخنا ، قال : حضرت مقامه مستسقيا ، وقد امتنع الغيث ، وقحط الناس ، فما زاد عند قيامنا أن قال : أستغفر الله ، فضجّ الخلق بالبكاء والعجيج ، ولم يبرحوا حتى سقوا. وكراماته كثيرة ، ذائعة من غير خلاف ولا نزاع.

حدّث بعض أشياخنا عن الخطيب الصّالح أبي جعفر الزيات ، قال : رأيت في النّوم قائلا يقول : فقد اللّيلة من يعمر بيت الإخلاص بالأندلس ، فما انتصف النهار من تلك الليلة حتى ورد الخبر بموته.

__________________

(١) له حفيد يحمل اسمه ، ترجم له أبو الحسن النباهي والمقري ؛ هو القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي ، ولي قضاء بلده مالقة صدر عام ٧٥٠ ه‍. تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٣) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٤).

(٢) نسبة إلى لوشه Loja ، وهي مدينة من إقليم إلبيرة ، بينها بين إلبيرة ثلاثون ميلا. الروض المعطار (ص ٥١٣).

١٨٦

مشيخته : من شيوخه الذين قرأ عليهم وأسند إليهم الرواية والده ، رحمه الله ، وأبو عمرو بن حوط الله ، والخطيب ابن أبي ريحانة المربلّي ، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص ، والراوية أبو الوليد بن العطار ، والراوية المحدّث أبو بكر بن مشليون ، والمقرئ أبو عبد الله بن مستقور الطائي ، والأستاذ أبو جعفر الطبّاع ، وأبو الحسين بن أبي الربيع ، والمحدّث أبو عبد الله بن عيّاش ، والأستاذ أبو الحسن السّفّاج الرّندي ، والخطيب بألمريّة أبو الحسن الغزّال. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير. وأجازه من أهل المشرق جماعة منهم أبو عبد الله بن رزيق الشافعي ، والعباس أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري ، وأبو اليمن عبد الصمد بن أبي الحسن عبد الوهاب بن أبي البركات ، المعروف بالنجام ، والحسن بن هبة الله بن عساكر ، وإبراهيم بن محمد الطّبري ، إمام الخليل ، ومحمد بن محمد بن أحمد بن عبد ربه الطّبري ، ومحمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري ، وأبو الفتح تقيّ الدين بن أبي الحسن فخر الدين ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكيّ الشّافعي وغيرهم.

ميلاده : بمالقة في رجب سنة أربعين وستمائة.

وفاته : بمالقة في يوم الخميس الثامن لجمادى الأولى من عام أربعة وعشرين وسبعمائة ، وقد ناهز الثمانين سنة ، لم ينتقص شيء من أعماله المقرّبة إلى الله ، من الصوم والصلاة ، وحضور الجماعات ، وملازمة الإقراء والرّواية ، والصبر على الإفادة.

حدّث من يوثق به أنّ ولده الفقيه أبا بكر دخل عليه ، وهو في حال النّزع ، والمنيّة تحشرج في صدره ، فقال : يا والدي ، أوصني ، فقال : وعيناه تدمعان : يا ولدي ، اتّق الله حيث كنت واتبع السّيئة بالحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن.

محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم البلفيقي (١)

ابن الحاج

والد شيخنا أبي البركات. وقد مرّ في ذكر النّسب المتّصل بعباس بن مرداس ، والأوّليّة النّبيهة ما يغني عن الإعادة.

__________________

(١) نسبة إلى بلفيق vellefique ، وهي بلدة تابعة لمدينة ألمرية. الإحاطة (ج ٣ ص ٣٤٨) بتحقيق عنان.

١٨٧

حاله : من خطّ ولده شيخنا على الاختصار ، قال يخاطبني في بعض ما كتب به إليّ : ذكر أبي ، وهو ممن طلبتم ذكره إلي في أخباره جزءا من نحو سبعين ورقة في المقسوم ، لخّصت لك من مبيّضته ما يذكر :

نشأ ، رحمه الله ، بسبتة على طهارة تامة ، وعفّة بالغة وصون ظاهر ، كان بذلك علما لشبّان مكتبه. قرأ القرآن بالقراءات السّبع ، وحفظ ما يذكر من المبادىء ، واتّسم بالطلب. ثم تاقت نفسه إلى الاعتلاق بالعروة الوثقى التي اعتلق بها سلفه ، فنبذ الدّنيا ، وأقبل على الآخرة ، وجرى على سنن المتّقين ، آخذا بالأشدّ من ذلك والأقوى ، طامحا بهمّته إلى أقصى ما يؤمّله السّالكون ، فرفض زي الطّلبة ، ولبس الخشنية ، وترك ملابسة الخلق بالجملة ، وبالغ في الانقباض عنهم ، وانقطع إلى الله برباطات سبتة وجبالها ، وخصوصا بمينائها ، وعكف على ذلك سنين ، ثم سافر إلى المغرب ، سائحا في الأرض ، على زي الفقهاء للقاء العبّاد وأهل العلم ، فأحرز من ذلك ما شاء. ثم أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس ، وورد ألمريّة ، مستقرّ سلفه ، وأخذ في إيثار بقايا أملاك بقيت لأسلافه بها ، على ما كان عليه من التّبتّل والإخبات. وكان على ما تلقينا من أصحابه وخدّانه ، صوّاما ، قوّاما ، خاشعا ، ذاكرا ، تاليا ، قوّالا للحق ، وإن كان مرّا كبيرا في إسقاط التّصنّع والمباهاة ، لا يضاهى في ذلك ، ولا يشقّ غباره. وقدم على غرناطة ، ودخل على أمير المسلمين ، وقال له الوزير : يقول لك السلطان ما حاجتك؟ فقال : بهذا الرسم رحلت ، ثم ظهر لي أن أنزل حاجتي بالله ، فعار على من انتسب إليه أن يقصد غيره. ثم أجاز البحر وقد اشتدّت أحوال أهل الأندلس بسبب عدوّهم ، وقدم على ملكه ، ووعظه موعظة أعنف عليه فيها ، فانفعل لموعظته ، وأجاز البحر بسببه إلى جزيرة الأندلس ، وغزا بها ، وأقام بها ما شاء الله ، وتأدب الروم لو تمّ المراد ، قال : وأخبره السلطان أبو يوسف ملك المغرب ، قال : كل رجل صالح دخل عليّ كانت يده ترعد في يدي ، إلّا هذا الرجل ، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته.

كراماته : وجلب له كرامات عدّة ، فقال في بعضها : ومن ذلك ما حدّثني الشيخ المعلم الثّقة أبو محمد قاسم الحصّار ، وكان من الملازمين له ، المنقطعين إلى خدمته ، والسّفر معه إلى البادية ، فقال : إني لأحفظ لأبيك أشياء من الأحوال العظيمة ، منها ما أذكره ، ومنها ما لا أستطيع ذكره. ثم قال : حدّثني أهل وادي الزّرجون ، وهو حشّ (١) من أعمال سبتة ، قالوا : انصرف السيد أبو عبد الله من هنا ، هذا لفظه ، فلما استقرّ في

__________________

(١) الحش : البستان. محيط المحيط (حشش).

١٨٨

رأس العقبة المشرفة على الوادي ، صاح عليه أهل القرى ، إذ كانوا قد رأوا أسدا كبيرا جدا قد تعرّض في الطريق ، ما نجا قط من صادفه مثله ، فلما سمع الصياح قال : ما هذا؟ فقيل له : أهل القرى يصيحون عليه خيفة من السّبع ، قال : فأعرض عنهم بيده ، ورفع حاجبه كالمتكبّر على ذلك ، وأسكتهم ، وأخذ في الطّريق حتى وصل إلى الأسد ، فأشار عليه بالقضيب ، وقال له : من ههنا ، من ههنا ، اخرج عن الطريق ، فخرج بإذن الله عن الطريق ، ولم يوجد هنالك بعد. وأمثال ذلك كثيرة.

مشيخته : قرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع القرشي ، وأجازه والده أبو إسحاق إجازة عامة. ومن شيوخه القاضي المسنّ أبو عبد الله الأزدي ، والمحدّث أبو بكر بن مشليون ، وأبو عبد الله بن جوهر ، وأبو الحسين بن السراج ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزرجي ، وأبو عبد الله بن الأبار ، وأبو الوليد بن العطار ، وأبو العباس بن عبد الملك ، وأبو إسحاق بن عياش ، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عطيّة ، وأبو بكر القرطبي حميد ، وأبو إبراهيم الطّرسي ، والقاضي أبو عبد الله بن عياض ، والكاتب أبو الحسن الرّعيني ، وأبو الحسن الشّاري ، وأبو يحيى بن الفرس ، وأبو إسحاق بن عبيد الله ، وأبو الحسن الغزّال ، وجماعة من الأندلس غير هؤلاء.

ومن أهل العدوة كأبي يعقوب المحاسبي ، وابن فرتون ، وغيرهما (١).

محنته : نمي عنه إلى السلطان بالأندلس ، أنه أغرى به ملك المغرب ، وتخلّص بعد لأي في خبر طويل ، وانتهب السلطان ماله ، وألحق أملاكه بالمختص (٢) ، واستمرّ ، وذلك إلى دولة والده ، وامتحن السّاعون به ، فعجّل الله عقوبتهم.

مولده : قال شيخنا : نقلت من خطّ أبيه ما نصّه : ولد ابني أبو بكر محمد ، أسعده الله ووفّقه ، في النصف الأول من ليلة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي قعدة من سنة ست وأربعين وستمائة.

وفاته : قال : ألفيت بخط القاضي الأديب الكاتب أبي بكر بن شبرين ، وكان ممن حضر جنازته بسبتة ، وكانت وفاة الفقيه النّاسك السّالك الصالح أبي بكر محمد بن الشيخ الفقيه المحدّث أبي إسحاق السلمي البلفيقي في العشر الأواخر من رمضان أربعة وتسعين وستمائة ، بمحروسة سبتة ، ودفن إثر صلاة العصر بجبّانة الخرّوبة من منارتها بمقربة من قبر ريحان الأسود العبد الصالح ، نفع الله به. وصلّى عليه الإمام أبو عبد الله بن حريث.

__________________

(١) في الأصل : «وغيرهم».

(٢) المختص : المستخلص ، وهو الأملاك السلطانية.

١٨٩

محمد بن يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن مالك

ابن إبراهيم بن يحيى بن عبّاد النّفزي (١)

من أهل رندة ، يكنى أبا عمرو ، ويعرف بابن عبّاد ، الحاجّ الصّوفي.

حاله : نشأ ببلده رندة ، وهو من ذوي البيوتات الأصيلة بها ، ثم رحل إلى المشرق ، ولقي العلماء والصّوفية ، وحضر عند المشيخة ، ثم كرّ إلى الأندلس ، فتصوف ، وجال في النّواحي ، واطّرح السّموت ، وفوّت ما كان بيده من متاع الدّنيا ، وكان له مال له خطر ، وألقى التّصنّع لأهله رأسا. وكان فيه تولّه وحدّة ، وله ذهن ثاقب ، يتكلم في المعقولات والمنقولات ، على طريقة الحكماء والصّوفية ، ويأتي بكل عبارة غريبة ، وآثاره هائلة من غير تمكّن علم ، ولا وثاقة إدراك ، غير أنك لا تسمع منه إلّا حسنا ، وهو مع ذلك طوّاف على البلاد ، زوّار للرّبط ، صبّار على المجاهدة طوعا وضرورة ، ولا يسأل ثيابا البتّة إلّا بذلة من ثوب أو غيره ، صدقة واحد في وقته.

محنته وفضله وشعره : نمي عنه كلام بين يدي صاحب المغرب ، أسف به مدبّر الدولة يومئذ ، فأشخص عند إيابه إلى رندة وسجن بسجن أرباب الجرائم ، فكتب إلى وليّ الأمر : [الطويل]

تركت لكم عزّ الغنى فأبيتم

وأن تتركوني للمذلّة والفقر

ونازعتموني في الخمول وإنه

لذي مهجتي أحلى من البنى والأمر

ثم قال : يا من رماني بسهمه الغرب ، قد ردّ عليك مخضوبا بالدّم. قال : فو الله ما مرّت ثلاثة ، حتى نفذ حكم الله فيمن عدا عليه.

وشعره حسن يدلّ على طبع معين ، فمن ذلك : [الكامل]

سرى يسرّ إليّ أنك تاركي

نفسي الفداء للطفك المتدارك

يا مالكي ولي الفخار بأنني

لك في الهوى ملك وأنّك مالكي (٢)

التّرك هلك فاعفني منه وعد

بالوصل تحيي ذا (٣) محبّ هالك

__________________

(١) ولد ابن عباد النفزي برنده عام ٧٣٣ ه‍ وتوفي عام ٧٩٢ ه‍ ، وترجمته في الكتيبة الكامنة (ص ٤٠) ونيل الابتهاج (ص ٢٨٧) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٨).

(٢) في الأصل : «مالك» بدون ياء.

(٣) في الأصل : «ذما» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

١٩٠

وأعد جميلا في الهوى عوّدتني

إن لم تعده إليّ من للهالك؟

يا منية القلب الذي بجماله

فتن الورى من فاتك أو ناسك

آتيه (١) دونك أو أحار وفي سنى

ذاك الجمال جلا الظلام الحالك؟

ولكم سلكت إليك لكن حين لم

تكن الدّليل اختلّ قصد السّالك

ولقد عرفت بستر سرّي في الهوى

فهجرتني فكسيت ثوب الهاتك

ما السّتر إلّا ما يحوك رضاك لا

ما حاكه للبتر كفّ الحائك

ما الفضل إلّا ما حكمت به فصن

واهتك وصل إن شئت أو كن تاركي (٢)

ما لي سوى حبّيك يا حبّي فدع

تركي فهلك الملك ترك المالك

وقال أيضا (٣) : [الكامل]

هذا العقيق فسل معاطف بانه

هل نسمة عادته من نعمانه؟

واسأله إن زارته ما ذا أخبرت

عن أجرع العلمين أو سكّانه

وأصخ لحسن حديثها وأعده لل

مضني ففيه البرء من أشجانه

يا حبّذا ذاك الحديث وحبّذا

من قد رواه (٤) وحبّذا ببيانه

وسقى الإله زمانه ومكانه

ويعزّ قدر زمانه ومكانه

يا سعد ، ساعد مستهاما فيه لا

ذقت الهوى ونجوت من عدوانه

وأصخ لما يتلو (٥) الوجود عليك من

أنبائهم بلسان حال كيانه (٦)

وأبنه لي واقبل ذمامي بشارة

ويقلّ بذل ذماي في تبيانه

وسل النّسيم يهبّ من واديهم

بشذا (٧) خزاماه وطيب ليانه (٨)

ارحم بروح منه روحي تحيه

وبسقمه (٩) سقمي فديتك عانه

وبنشره انشر نفس مشتاق قضت

شوقا لنفحة نسمة (١٠) من بانه

يا سعد ، حدّثني فكلّ مخبّر

عن خسر من أهواه أو إحسانه (١١)

__________________

(١) في الأصل : «أأيته» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «تارك» بدون ياء.

(٣) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٤١ ـ ٤٢).

(٤) في الأصل : «رفاه» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٥) في الكتيبة : «يجلو».

(٦) في الكتيبة : «بيانه».

(٧) في الأصل : «شذا» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٨) في الأصل : «لبانه» بالباء الموحدة ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٩) في الأصل : «ويسقمه» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(١٠) في الكتيبة الكامنة (هبّة).

(١١) هذا البيت غير وارد في الكتيبة الكامنة.

١٩١

يا سعد ، حدّثني حديثا (١) عنهم

ويجلّ قدر الحبّ عن نسيانه

يا سعد ، طارحنيه واملأ مسمعي

من سرّه إن شئت أو إعلانه

أنا في الغرام أخوك حقا والفتى

لا يكتم الأسرار عن (٢) إخوانه

قل كيف وادي ودّ (٣) سكّان الحمى

ومنى أمانيه وروض لسانه؟ (٤)

هل قلّصت أيدي النّوى من ظلّه؟

أو ما جرى هل عاث في جريانه؟

وهل الربوع أواهل بحمى لهم (٥)

فسقى (٦) الربوع الودق (٧) من هتّانه؟

وهل التقى بان على عهد النّوى (٨)

وهل اللّوى يلوي بعود زمانه؟

فبروض أنسهم عهدت (٩) نضارة

نزّهت منها الطّرف (١٠) في بستانه

وأرى هجير الهجر أذبل يانعا

منه وأذوى الغضّ من ريحانه

وأحال حال الأنس فيه وحشة

وطوى بساط الأنس في هجرانه

آها ووالهفي وويحي أن مضى

عهد عرفت الأنس في أزمانه

وبأجرع العلمين من شرقيّه

حبّ غذاني حبّه بلبانه

حاز المحاسن كلّها فجمعن لي

كلّ الهوى فحملت (١١) كلّ هوانه

وزها عليّ بعزّة (١٢) فبواجب

أزهو (١٣) بذلّي في يدي سلطانه

وقضى بأن أقضي وليت بما قضى

يرضى فطيب العيش في رضوانه

واختار لي أن لا أميل لسلوة

عن حبّه فسلوت عن سلوانه

يا عاذلي أو ناصحي أو لائمي

تبغي السّلوّ ولات حين أوانه

غلب الغرام وعزّ سلطان الهوى

فالكلّ فيه عليّ من أعوانه

__________________

(١) في الأصل : «... حدّثني فكلّ حديث عنهم» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٢) في الأصل : «من» والتصويب من الكتيبة.

(٣) في الكتيبة الكامنة : «واد».

(٤) في المصدر نفسه : «أمانه».

(٥) في الأصل : «بجمالهم» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٦) في الأصل : «فسقى للربوع ...» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٧) الودق : المطر.

(٨) في الكتيبة «الهوى».

(٩) في الأصل : «غمدت» والتصويب من الكتيبة.

(١٠) في الكتيبة «القلب».

(١١) في الكتيبة الكامنة : «وحملت».

(١٢) في الكتيبة الكامنة : «بعزّه».

(١٣) في الكتيبة الكامنة : «أزهى».

١٩٢

فعلام تعتب مستهاما ، كلّ ما (١)

في الكون عاذره على هيمانه (٢)

دع عنك لومي إنني لك ناصح

أبدى الجمال العذر عن هيمانه

وإذا الفتى قام الجمال بعذره

في الحبّ فاتركه وثني عنانه

من سام قلبي في هواه سلوة

قد سامه ما ليس في إمكانه

وقال في الغرض المذكور (٣) : [البسيط]

يا للرّجال ، ألا حبّ يساعدني

في ذا الغرام فأبكيه ويبكيني؟ (٤)

غلبت فيه وما أجدت مغالبتي

وهنت والصّبّ أولى الناس بالهون

ركبت لجّته وحدي فأدهشني

ومتّ (٥) في يده فردا فدلّوني (٦)

واضيعة العمر والبلوى مضاعفة

ما بين يأس وآمال ترجّيني (٧)

والهف نفسي إن أودت وما ظفرت

في ذا الهوى بتمنّ أو بتأمين

فليت (٨) شعري وعمري ينقضي طمعا

في ذا الهوى (٩) بين مغلوب ومغبون

هل الألى (١٠) ملكوا رقيّ وقد علموا

بذلّتي (١١) وافتقاري أن يواسوني؟

فكم أكفكف دمعي بعدهم وأرى

مجدّدا نار يأسي وهي تبليني

وكم أمرّ على الأطلال أندبها

وبالمنازل من خيف ودارين

وفي الفؤاد لهم ما ليس يعلمه

هم ، علمهم بالحال يكفيني

أهمي المدامع كي أروى فتعطشني

وألزم الذّكر للسّلوى فيشجيني

وكلّ من لمحت عيني أسائله

عنهم فيغري بهم قلبي ويغريني

يا أهل نجد وفخري (١٢) أن أحبّكم

لا أطلب الوصل عزّ الحبّ يغنيني

هل للهوى (١٣) من سبيل للمنى فلقد

عزّت أمانيه في الدّنيا وفي الدّين

__________________

(١) في الأصل : «كلّما» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٢) في الأصل : «شيمانه» والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٣) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٤٣).

(٤) في الأصل : «ويبكين» بدون ياء ، والتصويب من الكتيبة.

(٥) في الكتيبة : «وتهت».

(٦) في الأصل : «فدلّون» بدون ياء.

(٧) في الأصل : «ترجين» بدون ياء.

(٨) في الكتيبة الكامنة : «وليت».

(٩) في الكتيبة : «في الحبّ ما بين ...».

(١٠) في الأصل : «الأولى» والتصويب من الكتيبة.

(١١) في الأصل : «بذلّي» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(١٢) في الكتيبة الكامنة : «ومجدي».

(١٣) في الكتيبة الكامنة : «في الهوى».

١٩٣

محمد بن يوسف بن خلصون

يكنى أبا القاسم ، روطيّ (١) الأصل ، لوشيّه (٢) ، سكن لوشة وغرناطة ومالقة.

حاله : كان من جلّة المشيخة وأعلام الحكمة ، فاضلا ، منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية ، متبحرا في الإلهيات ، إماما في طريقة الصّوفية ، من أهل المقامات والأحوال ، كاتبا بليغا ، شاعرا مجيدا ، كثير الحلاوة والطّلاوة ، قائما على القرآن ، فقيها أصوليا ، عظيم التخلّق ، جميل العشرة. انتقل من حصن روطة إلى الخطابة والإمامة بلوشة ، كثير الدؤوب على النّظر والخلوة ، مقصودا من منتحلي ما لديه ضرورة. لم يتزوج ، وتمالأت عليه طائفة ممن شانها الغضّ من مثله ، فانزعج من لوشة إلى مالقة ، فتحرّف بها بصناعة الطّب ، إلى حين وفاته.

حدّثني والدي ، وكان خبيرا بأحواله ، وهو من أصحاب أبيه ، قال : أصابت الناس شدّة قحط ، وكانت طائفة من أضداده تقول كلاما مسجّعا ، معناه : إنكم إن أخرجتم ابن خلصون من بينكم ، مطرتم. قال : فانزعج عنها ، ولما كان على أميال نزل الغيث الرغد ، قال : فسجد بموضعه ذلك ، وهو معروف ، وقال : سيدي ، وأساوي عندك هذا المقدار ، وأوجب شكرانا. وقدم غرناطة ، وبها الأستاذ أبو عبد الله الرّقوطي ، وله استيلاء على الحظوة السلطانية ، وشأنه اختبار من يرد على الحضرة ممن يحمل فنّا ، وللسلطان على ابن خلصون موجدة ، لمدحه في حداثته أحد الثوار عليه بقمارش (٣) ، بقصيدة شهيرة. فلمّا حضر ، سأله الأستاذ : ما صناعتك ، فقال : التصوّف ، فالتفت إلى السلطان وقال : هذا رجل ضعيف لا شيء لديه ، بحيث لا يفرّق بين الصّناعة وغيرها ، فصرفه رحمه الله.

تواليفه : وتواليفه كثيرة ، تدل على جلالته وأصالة معرفته ، تنطق علما وحكمة ، وتروق أدبا وظرفا. فمن ذلك كتابه في «المحبة» ، وقفت عليه بخط جدّي الأقرب سعيد ، وهو نهاية. وكتاب «وصف السلوك ، إلى ملك الملوك» ، عارض به معراج

__________________

(١) نسبة إلى روطة : rueda ، وهي حصن يقع شمال مدينة شريش. وهي غير روطة أحد حصون سرقسطة.

(٢) نسبة إلى لوشةloja ، وهي مدينة بالأندلس ، بينها وبين إلبيرة ثلاثون ميلا. الروض المعطار (ص ٥١٣).

(٣) قمارش : بالإسبانيةcomares ، وهي بلدة بالأندلس تقع شمال شرقي مالقة في سفح جبل الثلج (سييرا نفادا).

١٩٤

الحاتمي ، فبان له الفضل ، ووجبت المزيّة ، ورسالة «الفتق والرّتق ، في أسرار حكمة الشرق».

شعره : من ذلك قوله : [الكامل]

هل تعلمون مصارع العشّاق

عند الوداع بلوعة الأشواق؟

والبين يكتب من نجيع دمائهم

إن الشّهيد لمن يمت بفراق

لو كنت شاهد حالهم يوم النّوى

لرأيت ما يلقون غير مطاق

منهم كئيب لا يملّ بكاؤه

قد أغرقته مدامع الآماق

ومحرّق الأحشاء أشعل ناره

طول الوجيب بقلبه الخفّاق

ومولّة لا يستطيع كلامه

مما يقاسي في الهوى ويلاقي (١)

خرس اللسان فما يطيق عبارة

ألم المرور وما له من راق؟

ما للمحبّ من المنون وقاية

إن لم يغثه حبيبه بتلاق

مولاي ، عبدك ذاهب بغرامه

فادرك (٢) بوصلك من دماه الباقي (٣)

إني إليك بذلّتي متوسّل

فاعطف بلطف منك أو إشفاق

ومن شعره أيضا : [الكامل]

أعد الحديث إذا وصفت جماله

فبه تهيّج للمحبّ خياله

يا واصف المحبوب كرّر ذكره

وأدر على عشّاقه جرياله

فبذكر من أهوى وشرح صفاته

لذّ الحديث لمسمعي وخلاله

طاب السّماع بوصفه لمسامعي

وقررت عينا مذ لمحت هلاله

قلبي يلذّ ملامة في حبّه

ويرى رشادا في هواه ضلاله

يا عاذلي أو ما ترقّ لسامر

سمع الظّلام أنينه فرثا له؟

ومن شعره أيضا : [الكامل]

إن كنت تزعم حبّنا وهوانا

فلتحملنّ مذلّة وهوانا

فاسجر لنفسك إن أردت وصالنا

واغضب عليها إن طلبت رضانا

__________________

(١) في الأصل : «ويلاق» بدون ياء.

(٢) أصل القول : «فأدرك» ؛ لأن الفعل رباعي ، وكذا ينكسر الوزن ، لذا حذفنا همزة القطع وجعلناها همزة وصل.

(٣) في الأصل : «الباق» بدون ياء.

١٩٥

واخلع فؤادك في طلاب ودادنا

واسمح بموتك إن هويت لقانا

فإذا فنيت عن الوجود حقيقة

وعن الفناء فعند ذاك ترانا

أو ما علمت الحبّ فيه عبرة

فاخلص لنا عن غيرنا وسوانا

وابذل لبابك إن وقفت ببابنا

واترك حماك إذا فقدت حمانا

ما لعلع ما حاجر ما رامة

ما ريم أنس يسحر الأذهانا

إنّ الجمال مخيّم بقبابنا

وظباؤه محجوبة بظبانا

نحن الأحبّة من يلذ بفنائنا

نجمع له مع حسننا إحسانا

نحن الموالي فاخضعنّ لعزّنا (١)

إنّا لندفع في الهوى من هانا

إنّ التّذلّل للتّدلّل سحر

فاخلد إلينا عاشقا ومهانا

واصبر على ذلّ المحبّة والهوى

واسمع مقالة هائم قد لانا

نون الهوان من الهوى مسروقة

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

ومن لطيف كلامه ورقيق شعره : [الرمل]

لو خيال من حبيبي طرقا

لم يدع دمعي بخدّي طرفا

ونسيم الريح منه لو سرى

بشذاه لأزال الحرقا

ومتى هبّت عليلات الصّبا

صحّ جسمي فهي (٢) لي نفث رقا

عجبا يشكو فؤادي في الهوى

لهب النار وجفني الفرقا

يا أهيل (٣) الحيّ ، لي فيكم رشا

لم يدع لي رمقا مذ رمقا

بدر تمّ طالع أثمره

غصن بان تحته دعص نقا

راق حسنا وجمالا مثلما

رقّ قلبي في هواه ورقا

أنّس (٤) الشمس ضياه ذهبا

وكسا البدر سناه ورقا

حلل الحسن عليه خلعت

فارتداها ولها قد خلقا

ومن شعره : [البسيط]

دعوت من شفتي رفقا على كبدي

فقال لي : خلق الإنسان في كبد

قلت الخيال ولو في النّوم يقنعني

فقال : قد كحلت عيناك بالسّهد

__________________

(١) في الأصل : «لعزّ نالنا» وكذا لا يستقيم الوزن.

(٢) في الأصل : «فهنّ» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «يا أهل» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «أنسى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

١٩٦

فقلت : حسبي بقلبي في تذكّره

فقال : لي القلب والأفكار ملك يدي

قلت الوصال حياتي منك يا أملي

قال الوصال فراق الروح للجسد

فقلت : أهلا بما يرضى الحبيب به

فإنّ قلبي لا يلوى على أحد

ومن أقواله الصّوفية ، وكلها تشير إلى ذلك المعنى : [الطويل]

ركبنا مطايا شوقنا نبتغي السّرى

وللنّجم قنديل يضيء لمن سرى

وعين الدّجى قد نام لم يدر ما بنا

وأجفاننا بالسّهد لم تطعم الكرى

إلى أن رأينا اللّيل شاب قذاله

ولاح عمود الفجر غصنا منوّرا

لمحنا برأس البعد نارا منيرة

فسرنا لها نبغي الكرامة والقرا

وأفضى بنا السير الحثيث بسحرة

لحانة دير بالنواقس دورا

فلمّا حللنا حبوة السير عنده

وأبصرنا القسّيس قام مكبّرا

وحرّك ناقوسا له أعجم الصّدا

فأفصح بالسّر الذي شاء مخبرا

وقال لنا : حطّوا حمدتم مسيركم

وعند الصّباح يحمد القوم السرى (١)

نعمتم صباحا ما الذي قد أتى بكم

فقلنا له : إنا أتيناك زوّرا

وراحتنا في الرّاح إن كنت بائعا

فإنّ لدينا فيه أربح مشترى

فقال لكم : عندي مدام عتيقة

مخلّدة من قبل آدم أعصرا

مشعشعة كالشمس لكن تروحنت

وجلّت عن التجسيم قدما فلا ترى

وحلّ لنا في الحين ختم فدامها

فأسدى لنا مسكا فتيقا وعنبرا

وقلنا : من السّاقي فلاح بوجهه

فأدهش ألباب الأنام وحيّرا

وأشغلنا عن خمره بجماله

وغيّبنا سكرا فلم ندر ما جرى

ومن شعره في المعنى : [البسيط]

يا نائما يطلب الأسرار إسرارا

فيك العيان ونبغي بعد آثارا

أرجع إليك ففيك الملك مجتمع

والفلك والفلك العلوي قد دارا

أنت المثال وكرسي الصّفات فته

على العوالم إعلانا وإسرارا

والطّور والدّرّ منثورا وقد كتبت

أقلام قدرته في اللّوح آثارا

__________________

(١) عجز البيت مثل يضرب لمن يحتمل المشقّة رجاء الراحة ، ويضرب أيضا في الحثّ على مزاولة الأمر والصبر. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ٣).

١٩٧

والبيت يعمره سرّ الملائك في

مشكاة قلبك قد أسرجن أنوارا

ورفع الله سقفا أنت تسكنه

سماؤه أطلعت شهبا وأقمارا

وبحر فكرك مسجور بجوهره

فغص به مخرجا للدّرّ أسرارا

فإن رأيت بوادي القدس نار هدى

فاثبت فنورك فيها مازج النّارا

واخلع لسمع النّدا نعليك مفتقرا

إلى المنادي تنل عزّا وإكبارا

وغب عن الكون بالأسماء متّصفا

واطلب من الكلّ ربّ الدار لا الدّارا

ومن ذلك في هذا المعنى : [الطويل]

أطالب ما في الرّوح من غامض السّرّ

وقارع باب العلم من عالم الأمر

عرضت لعلم أبهم الشّرع بابه

لكلّ جهول للحقائق لا يدري

ولكنّ خبيرا قد سألت محقّقا

فدونك فانظم ما نثرت من الدّرّ

وبين يدي نجواك قدّم وسيلة

تقى الله واكتم ما فهمت من السّرّ

ولا تلتفت جسما ولا ما يخصّه

من الحسّ والتخييل والوهم والفكر

وخذ صورة كلّية جوهريّة

تجلّ عن التمييز بالعكس والسّبر

ولكن بمرآة اليقين تولّدت

وليست بذاتي إن سألت ولا غير

كذلك لم تحدث وليست قديمة

وما وصفت يوما بشفع ولا وتر

ولكن بذات الذّات كان ظهورها

إذا ما تبدّت في الدّجى غرّة الفجر

ومن هذا الغرض قوله : [الطويل]

مشاهدتي مغناك ، يا غايتي ، وقت

فما أشتكي بعدا وحبّك لي نعت

مقامي بقائي عاكفا بجمالكم

فكلّ مقام في الحقيقة لي تحت

لئن حالت الأحوال دون لقائكم

فإنّي على حكم المحبّة ما حلت

وإن كان غيري في الهوى خان عهده

فإني وأيم الله عهدي ما خنت

وما لي رجاء غير نيل وصالكم

ولا خوف إلّا أن يكون له فوت

نعم إن بدا من جانب الأنس بارق

يحرّكني بسط به نحوكم طرت

ومهما تذكّرت العتاب يهزّني

لهيبتكم قبض يغيب به النّعت

تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا

ولاح وجود للحقيقة إذ غبت

فها أنا بين الصّحو والمحو دائر

أقول : فلا حرف هناك ولا صوت

١٩٨

قصودي إليكم والورود عليكم

ومنكم سهودي والوجود إذا عدت (١)

وفي غيبتي عنّي حضوري لديكم

وعند امتحان الرّسم والمحو أثبتّ

وفي فرقتي الباني بحقّ جمعتني

وفي جمع جمعي في الحقيقة فرّقت

تجلّيت (٢) لي حتى دهشت مهابة

ولما رددت اللّحظ بالسّرّ لي عشت

موارد حقّ بل مواهب غاية

إذا ما بدت تلك البداءة لي تهت

لوائح أنوار تلوح وتختفي

ولكن وميض البرق ليس له ثبت

ومهما بدت تلك الطّوالع أدهشت

وإن غيّبت تلك اللّوامع أظلمت

وهيهات هيبات الجلال تردّني

وعند التجلّي لا محالة دكدكت

نسفن جبالي فهي قاع وصفصف (٣)

وليس يرى فيهنّ زيغ ولا أمت

ولي أدمع أجّجن نار جوانحي

ولي نفس لولاه من حبّكم ذبت

ألا فانظروا قلب العيان حقيقة

فنائي وجودي (٤) والحياة إذا متّ

مراتب في التّلوين نلت جميعها

وفي عالم التّمكين عن كلّها بنت

وعند قيامي عن فنائي وجدتكم

فلا رتبة علويّة فوق ما نلت

ورود وشرب ثم لا ريّ بعده

لئن كنت أروى من شرابك لا كنت

شربت كئاس (٥) الوجود مدامة

فلست أجلّي عن ورود متى شئت

وكيف وأقداح العوالم كلّها

ولكنني (٦) من صاحب الدّير أسكرت

تعلّق قوم بالأواني وإنّني

جمال المعاني لا المغاني علّمت

وأرضعت كأسا لم تدنّس بمزجها

وقد نلتها صرفا لعمري (٧) ما ضعت

شراب بها الأبرار طاب مزاجهم

وأرضعتها صرفا لأنّي قرّبت

بها آدم نال الخلافة عندما

تبدّت له شمسا لها نحوه سمت

ونجت لنوح حين فرّ لفلكه

ومن بان عن أسرارها لي (٨) عمد الموت

__________________

(١) في الأصل : «عدمت» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٢) في الأصل : «تجليته» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٣) في الأصل : «صفصف» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٤) في الأصل : «ووجودي» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٥) في الأصل : «أكواس» ، وكذا ينكسر الوزن ، ثم إن كأس تجمع على أكؤس وكؤوس وكئاس.

لسان العرب (كأس).

(٦) في الأصل : «ولكنّي» وكذا ينكسر الوزن.

(٧) في الأصل : «... صرفا فيا لعمري ...» وكذا لا يستقيم الوزن.

(٨) كلمة «لي» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.

١٩٩

وقد أخمدت نار الخليل بنورها

وكان لموسى عن أشعّتها بهت

وهبّت لروح الله روح نسيمها

فأبصره الأعمى وكلّمه الميت

وسار بها المختار سيري لربّه

إلى حيث لا فوق هناك ولا تحت

هنيئا لمن قد أسكرته بعرفها

لقد نال ما يبغي وساعده البخت

ومن نثر الأستاذ الجليل أبي القاسم بن خلصون المترجم به ، قوله من رسالة :

وصلني أيها الابن النّجيب ، المخلص الحبيب ، كتابك الناطق بخلوص ودّك ، ورسوخ عهدك ، وتلك سجيّة لائقة بمجدك ، وشنشنة تعرف من والدك وجدّك ، وصل الله أسباب سعدك ، وأنهض عزم جدّك ، بتوفيق جدّك ، وبلّغك من مأمولك أقصى قصدك. فلتعلم أيها الحبيب أن جناني ، ينطوي لكم أكثر مما ينشره لساني ، فإني مغرى بشكركم وإن أعجمت ، ومفصح بجميل ذكركم وإن جمجمت ، لا جرم أنّ الوقت حكم بما حكم ، واستولى الهرج فاستحكم ، حتى انقطعت المسالك ، وعدم الوارد والسّالك ، وذلك تمحيص من الله جار على قضيّة قسطه ، وتقليب لقلوب عباده بين إصبعي قبضه وبسطه ، حين مدّ على الخليقة ظلّ التّلوين ، ولو شاء لجعله ساكنا ، ثم جعل شمس المعرفة لأهل التّمكين ، عليه دليلا باطنا ، ثم قبض كل الفرق عن خاصيته قبضا يسيرا ، حتى أطلع عليهم من الأنس بدرا منيرا. وإلى ذلك يا بنيّ ، فإني أحمد الله تعالى إليك على تشويقه إيّاك إلى مطالعة كتب المعارف ، وتعطّشك للورود على بحر اللّطائف. وإنّ الإمام أبا حامد (١) ، رحمه الله ، لممن أحرز خصلها ، وأحكم فرعها وأصلها ، لا ينكر ذلك إلّا حاسد ، ولا يأباه إلّا متعسّف جاحد. هذا وصفه ، رحمه الله ، فيما يخصّه في ذاته. وأما تعليمه في تواليفه ، وطريقه التي سلكها في كافّة تصانيفه ؛ فمن علمائنا ، رضي الله عنهم ، من قال : إنه خلط النّهاية بالبداية ، فصارت كتبه أقرب إلى التّضليل منها إلى الهداية ، وإن كان لم يقصد فيها إلّا النّفع فيما أمّه من الغرض ، فوجد في كتبه الضّرر بالعرض ، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطّفيل (٢) ، قال : وأما أبو حامد ، فإنه مضطرب التأليف ، يربط في موضع ، ويحلّ في آخر ، ويتمذهب بأشياء ، ويكفر بها ، مثل أنه كفّر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد

__________________

(١) هو حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، الفيلسوف الصوفي ، ولد بطوس بخراسان سنة ٤٥٠ ه‍ وتوفي بها سنة ٥٠٥ ه‍. وفيات الأعيان (ج ٤ ص ٥٨) والوافي بالوفيات (ج ١ ص ٢٧٤).

(٢) هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي ، المتوفّى سنة ٥٨١ ه‍ ، وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.

٢٠٠