الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٥٦

حاله : كان فاضلا وقورا ، مشاركا ، خطيبا ، فقيها ، مجوّدا للقرآن ، قديم الطّلب ، شهير البيت ، معروف التّعيّن ، نبيه السّلف في القضاء ، والخطابة والإقراء ، مضى عمره خطيبا بمسجد بلده الجزيرة الخضراء ، إلى أن تغلّب العدوّ عليها ، وباشر الحصار بها عشرين شهرا ، نفعه الله. ثم انتقل إلى مدينة سبتة ، فاستقرّ خطيبا بها إلى حين وفاته.

مشيخته : قرأ على والده ، رحمه الله ، وعلى شيخه ، وشيخ أبيه أبي عمر ، وعباس بن الطّفيل ، الشهير بابن عظيمة ، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير ، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد بغرناطة عند قدومه عليها ، والقاضي أبي المجد بن أبي الأحوص ، قاضي بلده ، وكتب له بالإجازة الوزير أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع ، وأجازه الخطباء الثلاثة أبو عبد الله الطّنجالي ، وأبو محمد الباهلي ، وأبو عثمان بن سعيد. وأخذ عن القاضي بسبتة أبي عبد الله الحضرمي ، والإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث ، والمحدّث أبي القاسم التّجيبي ، والأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم ، والأخوين أبي عبد الله وأبي إبراهيم ، ابني يربوع. قال : وكلّهم لقيته وسمعت منه. وأجاز لي إجازة عامة ما عدا الإمام ابن حريث فإنه أجاز لي ، ولقيته ولم أسمع عليه شيئا ، وأجاز لي غيرهم كناصر الدين المشدالي ، والخطيب ابن عزمون وغيرهما ، ممن تضمنه برنامجه.

تواليفه : قال : وكان أحد بلغاء عصره ، وله مصنّفات منها : «النّفحة الأرجيّة ، في الغزوة المرجيّة» ، ودخل غرناطة مع مثله من مشيخة بلده في البيعات ، أظن ذلك.

وفاته : توفي في الطّاعون بسبتة آخر جمادى الآخرة من عام خمسين وسبعمائة.

محمد بن أحمد بن عبد الله العطار

من أهل ألمريّة.

حاله : من بعض التّقييدات ، كان فتى وسيما ، وقورا ، صيّبا ، متعفّفا ، نجيبا ، ذكيّا. كتب عن شيخنا أبي البركات بن الحاج ، وناب عنه في القضاء ، وانتقل بانتقاله إلى غرناطة ، فكتب بها. وكان ينظم نظما مترفّعا عن الوسط. وجرى ذكره في «الإكليل» بما نصّه : ممّن نبغ ونجب ، وخلق له البرّ بذاته ووجب ، تحلّى بوقار ، وشعشع للأدب كأس عقار ، إلّا أنه اخترم في اقتبال ، وأصيب الأجل بنبال.

١٤١

ومن شعره قوله من قصيدة : [الطويل]

دعاني على طول البعاد هواها

وقد سدّ أبواب اللّقاء (١) نواها

وقد شمت برقا للّقاء (٢) مبشّرا

وقد نفحت ريح الصّبا بشذاها

وجنّ دجى ليل بخيل بصبحه

كما بخلت ليلى بطيف سراها

وقاد زماني قائد الحبّ قاصدا

ربوعا ثوت ليلى بطول قناها

وناديت والأشواق بالوجد برّحت

ودمعي أجرى سابغا للقاها

أيا كعبة الحسن التي النفس (٣) ترتجي

رضاها وحاشى أن يخيب رجاها

أحبك يا ليلى على البعد والنوى

وبي منك أشواق تشبّ لظاها

لئن حجبت ليلى عن العين إنني

بعين فؤادي لا أزال أراها

إلى أن بدا الصبح المشتّت شملنا

وما بلغت نفس المشوق مناها

فمدّت يمينا للوداع ودمعها

يكفكفه خوف الرقيب سراها

وقالت : وداعا لا وداع تفرّق

لعلّ الليالي أن تديل نواها

تذكّرنا ليلى معاهد باللّوى

رعى الله ليلات اللّوى ورعاها

وفاته : توفي في الطاعون الأعظم عام خمسين وسبعمائة.

محمد بن أحمد بن المراكشي

من أهل ألمريّة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالمرّاكشي.

حاله : كان فتى جميل الرؤيا ، سكوتا ، مطبوعا على المغافصة (٤) والغمز ، مهتديا إلى خفيّ الحيلة ، قادرا على المباحثة ، ذكيّا ، متسوّرا على الكلام في الصّنائع والألقاب ، من غير تدرّب ولا حنكة ، دمث الأخلاق ، ليّن العريكة ، انتحل الطب ، وتصدّر للعلاج والمداواة ، واضطبن أغلوطة صارت له بها شهرة ، وهي رقّ يشتمل على أعداد وخطوط وزايرجة ، وجداول غريبة الأشكال ، تحتها علامات فيها اصطلاحات الصّنائع والعلوم ، ويتصل بها قصيدة رويّها لام الألف أولها ، وهي منسوبة لأبي العباس السبتي : [الطويل]

يقول لسبتيّ (٥) ويحمد ربّه

مصلّ على هاد إلى الناس أرسلا

__________________

(١) في الأصل : «اللقا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «للقا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «للنفس» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٤) المغافصة : المفاجأة. لسان العرب (غفص).

(٥) في الأصل : «سبتيّ» ، وكذا ينكسر الوزن.

١٤٢

وأنها مدخل للزّيرجة ، ذكر أنه عثر عليها في مظنّة غريبة ، وظفر برسالة العمل بها ، وتحرى بالإعلام بالكنايات ، والإخبار بالخفيّ وتقدمة المعرفة ، والإنذار بالوقائع ، حتى استهوى بذلك جماعة من المشيخة ، ممن كان يركن إلى رجحان نظره ، وسلامة فطرته ، واستغلّت الشهادة له بالإصابة سجيّة النفوس في حرصها على إثبات دعاوى المتحرّفين. أخبرني بعضهم أنه خبّأ له عظما صغيرا ، يكون في أطراف أجنحة الطّير ، أخذه من جناح ديك ، وزعم أرباب الخواصّ أنه يزيل الإعياء إذا علّق ، فتصرّف على عاداته من الدخول في تلك الجداول ، وأخذ الأعداد الكثيرة ، يضربها آونة ، ويقسمها أخرى ، ويستخرج من تلك الجداول جيوبا وسهاما ، ويأخذ جذورا ، وينتج له العمل آخرا حروفا مقطعة ، يبقيها الطرح ، يؤلف منها كلاما تقتنص منه الفائدة ، فكان في ذلك بيت شعر : [الطويل]

وفي يدكم عظم صغير مدوّر

يزيل به الإعياء (١) من كان في السّفر

وأخبرني آخرون أنه سئل في نازلة فقهية لم يلق فيها نص ، فأخبر أن النص فيها موجود بمالقة ، فكان كذلك. وعارض ذلك كله جلّة من أشياخنا ، فذكّرني الشيخ نسيج وحده أبو الحسن بن الجياب أن سامره يخرج خبيئته سواد ليلة ، فتأمّل ما يصنعه ، فلم يأت بشيء ، ولا ذهب إلى عمل يتعقّل ، وظاهر الأمر أن تلك الحال كانت مبنيّة على تخيّل وتخمين ، تختلف فيه الإصابة وضدها ، بحسب الحالة والقائل ، لتصرّف الحيلة فيه ، فاقتضى ذلك تأميل طائفة من أهل الدول إياه ، وانتسخوا نظائر من تلك الزيرجة المموّهة ، ممطولين منه بطريق التصرّف فيها إلى اليوم ، واتصل بالسلطان ، فأرسم ببابه ، وتعدّى الإنس إلى طبّ الجن ، فافتضح أمره ، وهمّ به ، فنجا مفلتا. ولم تزل حاله مضطربة ، إلى أن دعي من العدوة وسلطانها ، منازل مدينة تلمسان ، ووصلت الكتب عنه ، فتوجّه في جفن هيّئ له ، ولم ينشب أن توفي بالمحلّة في أوائل عام سبعة وثلاثين وسبعمائة.

محمد بن بكرون بن حزب الله

من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله.

حاله : من أهل الخصوصيّة والفضل ، ظاهر الاقتصاد ، كثير التخلّق ، حسن اللقاء ، دائم الطريقة ، مختصر الملبس والمأكل ، على سنن الفضلاء وأخلاق الجلّة.

__________________

(١) في الأصل : «الإعيا» وكذا ينكسر الوزن.

١٤٣

انتظم لهذا العهد في نمط من يستجاز ويجيز. وكان غفلا فأقام رسما محمودا ، ولم يقصّر عن غاية الاستعداد.

مشيخته : منهم الأستاذ ، مولى النعمة على أهل بلده ، أبو محمد عبد الواحد بن أبي السّداد الباهلي ، قرأ عليه القرآن العظيم أربع عشرة (١) ختمة قراءة تجويد وإتقان بالأحرف السّبعة ، وسمع عليه كتبا كثيرة ، وقال عند ذكره في بعض الاستدعاءات : ولازمته ، رضي الله عنه وأرضاه ، إلى حين وفاته ، ونلت من عظيم بركاته وخالص دعواته ما هو عندي من أجلّ الوسائل ، وأعظم الذخيرة ، وأفضل ما أعددته لهذه الدّار والدار الآخرة. وكان في صدر هذا الشيخ الفاضل كثير من علم اليقين. وهو علم يجعله الله في قلب العبد إذا أحبّه ؛ لأنه يؤول بأهله إلى احتمال المكروه ، والتزام الصّبر ، ومجاهدة الهوى ، ومحاسبة النّفس ، ومراعاة خواطر القلب ، والمراقبة لله ، والحياء من الله ، وصحّة المعاملة له ، ودوام الإقبال عليه ، وصحّة النّيّة ، واستشعار الخشية. قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٢) فكفى بخشية الله علما ، وبالإقبال عليه عزّا. قلت : وإنما نقلت هذا ؛ لأنّ مثله لا يصدر إلّا عن ذي حركة ، ومضطبن بركة ، ومنهم الشيخ الخطيب الفاضل ولي الله أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الطّنجالي.

دخل غرناطة راويا ، وفي غير ذلك في شؤونه ، وهو الآن ببلده مالقة يخطب ببعض المساجد الجامعة بها على الحال الموصوفة.

محمد بن الحسن بن أحمد بن يحيى الأنصاري الخزرجي

الميورقي (٣) الأصل ، سكن غرناطة.

حاله : كان محدّثا ، عالي الرّواية ، عارفا بالحديث وعلله ، وأسماء رجاله ، مشهورا بالإتقان والضبط ، ثقة فيما نقل وروى ، ديّنا ، زكيا ، متحاملا ، فاضلا ، خيّرا ، متقلّلا من الدّنيا ، ظاهريّ المذهب داوديّة (٤) ، يغلب عليه الزهد والفضل.

مشيخته : روى بالأندلس عن أبي بكر بن عبد الباقي بن محمد الحجاري ، وأبي علي الصدفي الغساني ، وأبي مروان الباجي ، ورحل إلى المشرق وحجّ ، وأخذ

__________________

(١) في الأصل : «أربعة عشر» وهو خطأ نحوي.

(٢) سورة فاطر ٣٥ ، الآية ٢٨.

(٣) نسبة إلى ميورقة mallorca ، وهي إحدى الجزر الثلاث : منورقة ويابسة وميورقة. الروض المعطار (ص ٥٤٩).

(٤) نسبة إلى خلف بن داود الأصفهاني ، مؤسس المذهب الظاهري.

١٤٤

بمكة ، كرّمها الله ، عن أبي ثابت وأبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم العمراني. قلت : وغيرهم اختصرتهم لطولهم ، وقفل إلى الأندلس فحدّث بغير بلده منها ؛ لتجواله فيها.

من روى عنه : روى عنه أبو بكر بن رزق ، وأبو جعفر بن الغاسل ، وغيرهما (١).

محنته : امتحن من قبل علي بن يوسف بن تاشفين ، فحمل إليه صحبة أبي الحكم بن يوجان ، وأبي العباس بن العريف ، وضرب بالسّوط عن أمره ، وسجنه وقتا ، ثم سرّحه وعاد إلى الأندلس ، وأقام بها يسيرا ، ثم انصرف إلى المشرق ، فتوقف بالجزائر ، وتوفي بها في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.

محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم

الأنصاري الساحلي

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف ببلده مالقة بالمعمّم.

حاله : كان طبقة من طبقات الكفاة ، ظرفا ورواء وعارضة وترتيبا ، تجلّل بفضل شهرة أبيه ، وجعل بعض المترفين من وزراء الدّول بالمغرب أيام وجّهته إليه صحبة الشيخ الصالح أبيه في غرض السفارة ، مالا عريضا لينفقه في سبيل البرّ ، فبنى المدرسة غربي المسجد الأعظم ، ووقف عليها الرّباع ، وابتنى غيرها من المساجد ، فحصلت الشهرة ، ونبه الذّكر وتطوّر ، ورام العروج في مدارج السّلوك ، وانقطع إلى الخلوة ، فنصلت الصّبغة ، وغلبت الطّبيعة ، وتأثّل له مال جمّ اختلف في سبب اقتنائه ، وأظهر التجر المرهف الجوانب بالجاه العريض ، والحرص الشّديد ، والمسامحة في باب الورع ، فتبنّك به نعيما من ملبس ومطعم وطيب وترفّه ، طارد به اللّذة ما شاء في باب النّكاح استمتاعا وذواقا يتبع رائد الطّرف ، ويقلّد شاهد السّمع ، حتى نعي عليه ، وولّي الخطابة بالمسجد الأعظم بعد أبيه ، فأقام الرسم ، وأوسع المنبر ما شاء من جهوريّة وعارضة ، وتسوّر على أعراض ، وألفاظ في أسلوب ناب عن الخشوع ، عريق في نسب القحة. ثم رحل إلى المشرق مرة ثانية ، وكرّ إلى بلده ، مليح الشّيبة ، بادي الوقار ، نبيه الرّتبة ، فتولّى الخطابة إلى حين وفاته.

__________________

(١) في الأصل : «وغيرهم».

١٤٥

مشيخته : حسبما قيّدته من خطّ ولده أبي الحسن ، وارثه في كثير من خلاله ، وأغلبها الكفاية. فمنهم والده ، رحمه الله ، قرأ عليه وتأدّب به ، ودوّن في طريقه ، حسبما يتقرر ذلك ، ومنهم الأستاذ أبو محمد بن أبي السداد الباهلي ، ومنهم الشيخ الرّاوية أبو عبد الله بن عيّاش ، والخطيب الصالح أبو عبد الله الطّنجالي ، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات ، والأستاذ ابن الفخار الأركشي ، والقاضي أبو عمرو بن منظور ، والأستاذ ابن الزبير وغيرهم ، كابن رشيد ، وابن خميس ، وابن برطال ، وابن مسعدة ، وابن ربيع ، وبالمشرق جماعة اختصرتهم لطولهم.

تواليفه : وتسوّر على التأليف ، بفرط كفايته ، فمما ينسب إليه كتاب : «التجر الرّبيح ، في شرح الجامع الصحيح». قال : منه ما جرّده من المبيّضة ، ومنه ما لم يسمح الدهر بإتمامه ، وكتاب «بهجة الأنوار» ، وكتاب «الأسرار» ، وكتاب «إرشاد السّائل ، لنهج الوسائل» ، وكتاب «بغية السّالك ، في أشرف المسالك» في التّصوف ، وكتاب «أشعة الأنوار ، في الكشف عن ثمرات الأذكار». وكتاب «النّفحة القدسيّة» ، وكتاب «غنية الخطيب ، بالاختصار والتّقريب» في خطب الجمع والأعياد ، وكتاب «غرائب النّجب ، في رغايب الشّعب» ، شعب الإيمان ، وكتاب «في مناسك الحج» ، وكتاب «نظم سلك الجواهر ، في جيّد معارف الصّدور والأكابر» ، فهرسة تحتوي على فوائد من العلم وما يتعلق بالرواية ، وتسمية الشيوخ وتحرير الأسانيد.

دخوله غرناطة : دخلها مرات تشذّ عن الإحصاء. ولد عام ثمانية وسبعين وستمائة ، وتوفي بمالقة في صبيحة ليلة النصف من شعبان عام أربعة وخمسين وسبعمائة.

محمد بن محمد بن يوسف بن عمر الهاشمي

يكنى أبا بكر ، ويعرف بالطّنجالي ، ولد الشيخ الولي أبي عبد الله.

حاله : من ذيل تاريخ مالقة للقاضي أبي الحسن بن الحسن ، قال : كان هذا العالم الفاضل ممن جمع بين الدّراية والرّواية والتراث والاكتساب ، وعلو الانتساب ، وهو من القوم الذين وصلوا الأصالة بالصّول ، وطول الألسنة بالطّول ، وهدوا إلى الطّيّب من القول ، أثر الشّموخ يبرق من أنفه ، ونسيم الرّسوخ يعبق من عرفه ، وزاجر الصّلاح يومي بطرفه ، فتخاله من خوف الله ذا لمم ، وفي خلقه دماثة وفي عرنينه شمم. ووصفه بكثير من هذا النّمط.

ومن «العائد» : كان من أهل العلم والتّفنّن في المعارف والتّهمّم بطلبها ، جمع بين الرّواية والدّراية والصلاح. وكانت فيه خفّة ، لفرط صحّة وسذاجة وفضل رجولة

١٤٦

به ، بارع الخطّ ، حسن التّقييد ، مهيبا جزلا ، مع ما كان عليه من التّواضع ، يحبّه الناس ويعظمونه ، خطب بالمسجد الأعظم من مالقة ، وأقرأ به العلم.

مشيخته : قرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي ، وأبيه الولي الخطيب ، رحمه الله. وروى عن جدّه أبي جعفر ، وعن الرّاوية الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير ، والرّاوية أبي عبد الله بن عيّاش ، والقاضي أبي القاسم بن السّكوت ، وغيرهم ممن يطول ذكره ، من أهل المشرق والمغرب.

وفاته : توفي بمالقة في أول صفر من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة ، وكان عمره نحوا من تسع وخمسين سنة.

محمد بن محمد بن ميمون الخزرجي

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بلا أسلم ؛ لكثرة صدور هذه اللفظة عنه ، مرسي الأصل ، وسكن غرناطة ووادي آش وألمريّة.

حاله : من كتاب «المؤتمن» (١) : كان دمث الأخلاق قبل أن يحرجه شيء من مضيّقات الصّدور ، يشارك في العربية ، والشعر النازل عن الدرجة الوسطى لا يخلو بعضه عن لحن. وكان يتعيش من صناعة الطّب. وجرت له شهرة بالمعرفة نرفع به بتلك الصّناعة على حدّ شهرة ترك النّصيحة فيها ، فكانت شهرته بالمعرفة ترفع به. وشهرته بترك النصيحة تنزله ، فيمرّ بين الحالتين بشظف العيش ، ومقت الكافّة إيّاه.

قلت : كان لا أسلم ، طرفا في المعرفة بطرق العلاج ، فسيح التّجربة ، يشارك في فنون ، على حال غريبة من قلّة الظّرف ، وجفاء الآلات ، وخشن الظاهر ، والإزراء بنفسه وبالناس ، متقدّم في المعرفة بالخصوم ، يقصد في ذلك. وله في الحرب والحيل حكايات ، قال صاحبنا أبو الحسن بن الحسن : كانت للحكيم لا أسلم خمر مخبّأة ، في كرم كان له بألمريّة ، عثر عليها بعض الدّعرة ، فسرقها له. قال : فعمد إلى جرّة وملأها بخمر أخرى ، ودفنها بالجهة ، وجعل فيها شيئا من العقاقير المسهّلات ، وأشاع أن الخمر العتيقة التي كانت له لم تسرق ، وإنما باقية بموضع كذا ، فعمد إليها أولئك الدّعرة ، وأخذوا في استعمالها ، فعادت عليهم بالاستطلاق القبيح المهلك ، فقصدوا الحكيم المذكور ، وعرضوا عليه ما أصابهم ، فقال لهم : إيه ، أدّوا إليّ ثمن الشّريبة ،

__________________

(١) هو كتاب «المؤتمن ، على أنباء أبناء الزمن» لأبي البركات ابن الحاج البلفيقي ، أحد شيوخ لسان الدين ابن الخطيب.

١٤٧

وحينئذ أشرع لكم في الدواء ، ويقع الشّفاء بحول الله ، فجمعوا له أضعاف ما كان يساويه خمره ، وعالجهم حتى شفوا بعد مشقّة. وأخباره كثيرة.

وفاته : توفي عقب إقلاع الطّاغية ملك برجلونة عن ألمريّة عام تسعة وسبعمائة (١). وخلفه ابن كان له يسمى إبراهيم ، ويعرف بالحكيم ، وجرى له من الشّهرة ما جرى لأبيه ، مرّت عليه ببخت وقبول ، وتوفي بعد عام خمسين وسبعمائة.

محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري (٢)

جيّاني الأصل مالقيه ، يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشّديد على بنية التصغير ، وهو كثير التردّد والمقام بحضرة غرناطة.

حاله : من (٣) أهل الطّلب والذكاء والظّرف والخصوصيّة ، مجموع (٤) خلال من خطّ حسن واضطلاع بحمل كتاب الله. بلبل دوح السّبع المثاني ، وماشطة عروس أبي الفرج الجوزي ، وآية صقعه في (٥) الصّوت ، وطيب النّغمة ، اقتحم لذلك دسوت الملوك ، وتوصّل إلى صحبة الأشراف ، وجرّ أذيال الشهرة. قرأ القرآن والعشر بين يدي السلطان ، أمير المسلمين بالعدوة ، ودنا منه محلّه ، لو لا إيثار مسقط رأسه. وتقرّب بمثل ذلك إلى ملوك وطنه ، وصلّى التّراويح بمسجد قصر الحمراء ، غريب المنزع ، عذب الفكاهة ، ظريف المجالسة ، قادر (٦) على الحكايات ، متسوّر (٧) حمى الوقار ، ملبّ (٨) داعي الانبساط ، على استرجاع واستقامة ، مبرور الوفادة ، منوّه الإنزال ، قلّد شهادة الدّيوان بمالقة ، معوّلا عليه في ذلك ، فكان مغار حبل (٩) الأمانة ، صليب العود ، شامخا (١٠) ، صادق (١١) النّزاهة ، لوحا للألقاب ، محرزا للعمل.

__________________

(١) في غرّة ربيع أول من هذا العام نازل صاحب برجلونه (برشلونة) مدينة ألمرية وأخذ بمخنقها ، ووقعت على جيش أمير المسلمين نصر بن محمد بن نصر ، صاحب غرناطة ، وقعة كبيرة ، ثم رفع الحصار. اللمحة البدرية (ص ٧٥).

(٢) ترجمة محمد بن قاسم الأنصاري في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٠٢).

(٣) النصّ في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٠٢ ـ ٣٠٤) بتصرف.

(٤) في النفح : «جملة جمال».

(٥) في النفح : «صقعه ، ونسيج وحده ، في حسن الصوت ...».

(٦) في النفح : «قادرا».

(٧) في الأصل : «مستور». وفي النفح : «متسوّرا».

(٨) في النفح : «ملبّيا».

(٩) في الأصل : «جبل» والتصويب من النفخ.

(١٠) في النفح : «شامخ».

(١١) في النفح : «مارن».

١٤٨

وولّي الحسبة بمالقة ، حرسها الله تعالى ، فخاطبته في ذلك أداعبه ، وأشير إلى قوم من أجداده ، وأولي الحمل عليه بما نصّه : [السريع]

يا أيها المحتسب الجزل

ومن لديه الجدّ والهزل

تهنيك (١) والشكر لمولى الورى

ولاية ليس لها عزل

كتبت أيها المحتسب ، المنتمي إلى النزاهة المنتسب ، أهنّيك ببلوغ تمنّيك ، وأحذّرك من طمع نفس بالغرور تمنّيك ، فكأني (٢) وقد طافت بركابك الباعة (٣) ، ولزم لأمرك (٤) السّمع والطّاعة ، وارتفعت في مصانعتك الطّماعة ، وأخذت أهل الرّيب بغتة كما تقوم الساعة ، ونهضت تقعد وتقيم ، وسكوتك (٥) الريح العقيم ، وبين يديك القسطاس (٦) المستقيم ، ولا بدّ من شرك ينصب ، وجماعة على ذي جاه تعصب (٧) ، وحالة (٨) كيت بها الجناب الأخصب ، فإن غضضت طرفك ، أمنت عن الولاية صرفك ، وإن ملأت ظرفك (٩) ، رحّلت عنها حرفك ، وإن كففت فيها كفّك ، حفّك العزّ فيمن حفّك. فكن لقالي المجبّنة قاليا (١٠) ، ولحوت السّلّة ساليا. وأبد لدقيق الحوّارى زهد حواريّ (١١) ، وازهد فيما بأيدي الناس من العواري ، وسر في اجتناب الحلواء (١٢) ، على السبيل السّواء ، وارفض في الشّواء ، دواعي الأهواء ، وكن على الهرّاس (١٣) ، وصاحب ثريد (١٤) الرّاس ، شديد المراس ، وثب على بائع (١٥) طبيخ الأعراس ، ليثا مرهوب الافتراس ، وأدّب أطفال الفسوق (١٦) ، في السوق ، سيّما من

__________________

(١) في النفح : «يهنيك».

(٢) في النفح : «فكأنني بك وقد ...».

(٣) في الأصل : «الساعة» والتصويب من النفح.

(٤) في النفح : «أمرك».

(٥) في النفح : «وسطوتك».

(٦) القسطاس : الميزان المستقيم. محيط المحيط (قسطس).

(٧) في الأصل : «تتعصّب» والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «ودالّة يمتّ بها ...».

(٩) ملأت ظرفك : كناية عن قبول الهدية والرشا.

(١٠) قاليا : مبغضا. لسان العرب (قلا).

(١١) الحوّارى : لباب الدقيق وخالصه. والحواريّ : من يكون من أنصار الأنبياء. لسان العرب (حور).

(١٢) في الأصل : «الحلو» والتصويب من النفح.

(١٣) الهرّاس : صانع الهريسة. لسان العرب (هرس).

(١٤) في الأصل : «فريد» والتصويب من النفح. والثريد : كسرة الخبز المتلطخة بماء اللحم. محيط المحيط (ثرد).

(١٥) كلمة «بائع» غير واردة في النفح.

(١٦) في الأصل : «السوق» والتصويب من النفح.

١٤٩

كان قبل البلوغ والسّبوق (١) ، وصمّم في (٢) استخراج الحقوق ، والناس أصناف ، فمنهم خسيس يطمع منك في أكلة ، ومستعد عليك بوكزة أو ركلة. وحاسد في مطيّة تركب ، وعطيّة تسكب ، فاخفض للحاسد جناحك ، وسدّد إلى حربه رماحك ، وأشبع الخسيس منهم مرقة دسمة (٣) فإنه حنق ، ودسّ له فيها عظما لعلّه يختنق ، واحفر لشرّيرهم حفرة عميقة ، فإنه العدوّ حقيقة ، حتى إذا حصل ، وعلمت أنّ وقت الانتصار قد وصل (٤) ، فأوقع وأوجع ، ولا ترجع ، وأولياء من (٥) حزب الشيطان فأفجع ، والحقّ أقوى ، وإن تعفو أقرب للتقوى. سدّدك الله تعالى (٦) إلى غرض التّوفيق ، وأعلقك (٧) من الحقّ بالسّبب الوثيق ، وجعل قدومك مقرونا برخص اللّحم والزّيت والدّقيق ، بمنّه وفضله (٨).

مشيخته : قرأ القرآن على والده المكتّب النّصوح ، رحمه الله ، وحفظ كتبا كرسالة أبي محمد بن أبي زيد ، وشهاب القضاعي ، وفصيح ثعلب ، وعرض الرّسالة على ولي الله أبي عبد الله الطّنجالي ، وأجازه. ثم على ولده الخطيب أبي بكر ، وقرأ عليه من القرآن ، وجوّد بحرف نافع على شيخنا أبي البركات. وتلا على شيخنا أبي القاسم بن جزي. ثم رحل إلى المغرب ، فلقي الشيخ الأستاذ الأوحد في التّلاوة ، أبا جعفر الدرّاج ، وأخذ عن الشّريف المقرئ أبي العباس الحسنى بسبتة ، وأدرك أبا القاسم التّجيبي ، وتلا على الأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم (٩) ولازمه ، واختصّ بالأستاذ ابن هاني السّبتي ، ولقي بفاس جماعة كالفقيه أبي زيد الجزولي ، وخلف الله المجاصي ، والشيخ أبا العباس المكناسي ، والشيخ البقية أبا عبد الله بن عبد الرازق ، وقرأ على المقرئ الفذّ الشهير في التّرنّم بألحان القرآن أبي العباس الزّواوي سبع ختمات ، وجمع عليه السّبع ، والمقرئ أبي العباس بن حزب الله ، واختصّ بالشيخ الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي.

شعره : من شعره ما كتب به إلى وزير الدولة المغربيّة في غرض الاستلطاف : [الكامل]

يا من به أبدا عرفت ومن أنا

لولاه لي دامت علاه وداما

__________________

(١) في النفح : «والبسوق».

(٢) في النفح : «على».

(٣) كلمة «دسمة» غير واردة في النفح.

(٤) في النفح : «قد اتّصل».

(٥) في النفح : «من الشياطين فأفجع».

(٦) كلمة «تعالى» غير واردة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.

(٧) في الأصل : «وأعلقنا» والتصويب من النفح.

(٨) قوله : «بمنّه وفضله» غير وارد في النفح.

(٩) هو الكاتب محمد بن محمد بن عبد المنعم ، وترجمته في الكتيبة الكامنة (ص ٢٧٧).

١٥٠

لا تأخذنّك في الشّديد لومة

فشخيص نشأته بفضلك قاما

ربّيته علّمته أدّبته

قدّمته للفرض منك إماما

فجزاك ربّ الخلق خير جزاية

عنّي وبوّأك الجنان مقاما

وهو الآن بالحالة الموصوفة ، مستوطنا حضرة غرناطة ، وتاليا الأعشار القرآنية ، بين يدي السلطان ، أعزّه الله ، مرفّع الجانب ، معزّز الجراية بولايته أحباس المدرسة ، أطروفة عصره ، لو لا طرش نقص الأنس به ، نفعه الله.

مولده : ولد بمالقة في عاشر ربيع الأول من عام عشرة وسبعمائة.

ومن الغرباء في هذا الاسم

محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التّلمساني الأنصاري

السّبتي الدّار ، الغرناطي الاستيطان ، يكنى أبا الحسين ، ويعرف بالتّلمساني.

حاله : طرف في الخير والسلامة ، معرق في بيت الصّون والفضيلة ، معمّ (١) تخوّل في العدالة ، قديم الطّلب والاستعمال ، معروف الحقّ ، مليح البسط ، حلو الفكاهة ، خفيف إلى هيعة الدّعابة ، على سمت ووقار ، غزل ، لوذعي ، مع استرجاع وامتساك ، مترف ، عريق في الحضارة ، مؤثر للراحة ، قليل التّجلّد ، نافر عن الكدّ ، متّصل الاستعمال ، عريض السعادة في باب الولاية ، محمول على كتد المبرّة ، جار على سنن شيوخ الطّلبة والمقتاتين من الأرزاق المقدّرة ، أولى الخصوصيّة والضّبط من التّظاهر بالجاه على الكفاية. قدم على الأندلس ثمانية عشر وسبعمائة ، فمهد كنف القبول والاستعمال ، فولّي الحسبة بغرناظة ، ثم قلّد تنفيذ الأرزاق وهي الخطّة الشرعية والولاية المجدية ، فاتّصلت بها ولايته. وناب عنّي في العرض والجواب بمجلس السلطان ، حميد المنأى في ذلك كله ، يقوم على كتاب الله حفظا وتجويدا ، طيّب النّغمة ، راويا محدّثا ، أخباريا ، مرتاحا للأدب ، ضاربا فيه بسهم يقوم على كتب السّيرة النّبوية ، فذّا في ذلك. قرأه بالمسجد الجامع للجمهور ، عند لحاقه بغرناطة ، معربا به عن نفسه ، منبّها على مكانه ، فزعموا أن رجلا فاضت نفسه وجدا لشجو نغمته ، وحسن إلقائه. وقرأ التّراويح بمسجد قصر السلطان إماما به ، واتّسم بمجلسه بالسّلامة والخير ، فلم تؤثر عنه في أحد وقيعة ، ولا بدرت له في الحمل على أحد بنت شفه.

__________________

(١) المعمّ : الذي يعمّ القوم بالعطية ، أي يشملهم. لسان العرب (عم).

١٥١

مشيخته : منهم الشّريف أبو علي الحسن بن الشريف أبي التّقى طاهر بن أبي الشّرف ربيع بن علي بن أحمد بن علي بن أبي الطاهر بن حسن بن موهوب بن أحمد بن محمد بن طاهر بن أبي الشرف الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ومنهم والده المترجم به ، ومنهم أبوه وجدّه ، ومنهم الأمير الصالح أبو حاتم أحمد بن الأمير أبي القاسم محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد العزفي ، والمقرئ أبو القاسم بن الطيب ، وإمام الفريضة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حريث ، والأستاذ ملحق الأبناء بالآباء أبو إسحاق الغافقي ، والكاتب النّاسك أبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري ، والأستاذ المعمر أبو عبد الله بن الخضّار ، والخطيب المحدّث أبو عبد الله بن رشيد ، والخطيب الأديب أبو عبد الله الغماري ، والأستاذ أبو البركات الفضل بن أحمد القنطري ، والوزير العابد أبو القاسم محمد بن محمد بن سهل بن مالك ، والولي الصالح أبو عبد الله الطّنجالي ، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات ، والقاضي الأعدل أبو عبد الله بن برطال ، والشيخ الوزير المعمر أبو عبد الله بن ربيع ، والصّوفي الفاضل أبو عبد الله بن قطرال ، والأستاذ الحسابي أبو إسحاق البرغواطي ، هؤلاء لقيهم وقرأ وسمع عليهم. وممن كتب له بالإجازة ، وهم خلق كثير ، كخال أبيه ، الشيخ الأديب أبي الحكم مالك بن المرحّل ، والخطيب أبي الحسن فضل ابن فضيلة ، والأستاذ الخاتمة أبي جعفر بن الزبير ، والعدل أبي الحسن بن مستقور ، والوزير المعمر أبي محمد بن سماك ، والخطيب أبي محمد مولى الرئيس أبي عثمان بن حكم ، والشيخ الصالح أبي محمد الحلاسي ، والقاضي أبي العباس بن الغمّاز ، والشيخ أبي القاسم الحضرمي اللّبيدي ، والعدل المعمر الراوية أبي عبد الله بن هارون ، والمحدث الراوية أبي الحسن القرافي ، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن هبة الله بن أبي المنصور ، والإمام شرف الدين أبي محمد الدّمياطي ، وبهاء الدين بن النّحاس ، وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد ، وضياء الدين أبي مهدي عيسى بن يحيى بن أحمد ، وكتب في الإجازة له : [الطويل]

ولدت لعام من ثلاث وعشرة

وستّ مئين هجرة لمحمد

تطوّفت قدما بالحجاز وإنني

بمصر هو المربى (١) وسبتة مولدي (٢)

__________________

(١) في الأصل : «المريليّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٢) في الأصل : «مولد» بدون ياء.

١٥٢

إلى عالم كثير من أهل المشرق ، يشقّ إحصاؤهم ، قد ثبت معظمهم في اسم صاحبه أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي ، رحمه الله.

محنته : نالته محنة بجري الأمور الاشتغالية وتبعاتها ، قال الله فيها لعثرته لغا ، فاستقلّ من النّكبة ، وعاد إلى الرّتبة. ثم عفّت عليه بآخرة ، فهلك تحت بركها بعد مناهزة التسعين سنة ، نفعه الله.

مولده : ولد عام ستة وسبعين وستمائة ، وتوفي في شهر محرم من أربعة وستين وسبعمائة.

محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف

ابن قطرال الأنصاري

من أهل مرّاكش ، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن قطرال.

حاله : من «العائد» : كان ، رحمه الله ، فاضلا صوفيا ، عارفا ، متحدّثا ، فقيها ، زاهدا ، تجرّد عن ثروة معروفة ، واقتصر على الزّهد والتّخلّي ، وملازمة العبادة ، والغروب عن الدنيا. وله نظم رائق ، وخطّ بارع ، ونثر بليغ ، وكلام على طريقة القوم ، رفيع الدّرجة ، عالي القدر. شرح قصيدة الإسرائيلي بما يشهد برسوخ قدمه ، وتجوّل في لقاء الأكابر على حال جميلة من إيثار الصّمت والانقباض والحشمة. ثم رحل إلى المشرق حاجا صدر سنة ثلاث وسبعمائة.

مشيخته : من شيوخه القاضي العالم أبو عبد الله محمد بن علي ، والحافظ أبو بكر بن محمد المرادي ، والفقيه أبو فارس الجروي ، والعلّامة أبو الحسين بن أبي الربيع ، والعدل أبو محمد بن عبيد الله ، والحاج أبو عبد الله بن الخضّار ، وأبو إسحاق التّلمساني ، وأبو عبد الله بن خميس ، وأبو القاسم بن السّكوت ، وأبو عبد الله بن عيّاش ، وأبو الحسن بن فضيلة ، وأبو جعفر بن الزبير ، وأبو القاسم بن خير. هؤلاء كلهم لقيهم ، وأخذ عنهم. وكتب له بالإجازة جملة ، كالقاضي أبي علي بن الأحوص ، وأبي القاسم العزفي ، وأبي جعفر الطّنجالي ، وصالح بن شريف ، وأبي عمرو الدّاري ، وأبي محمد بن الحجّام ، وأبي بكر بن حبيش ، وأبي يعقوب بن عقاب ، وعز الدين الجداي ، وفخر الدين بن البخاري ، وابن طرخان ، وابن البوّاب ، وأمين الدين بن عساكر ، وقطب الدين بن القسطلانيّ ، وغيرهم.

١٥٣

شعره : وأما شعره فكثير بديع. قال شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين : كتبت إليه : [المنسرح]

يا معمل السّير أيّ إعمال

سلّم على الفاضل ابن قطرال

من أبيات راجعني عنها بأبيات منها : [المنسرح]

زارت فأزرت بمسك دارين

تفتنّ للحسن في أفانين

ومثلها في شتّى محاسنها

ليست ببدع من ابن شبرين

وفاته : توفي بحرم الله عاكفا على الخير وصالح الأعمال ، معرضا عن زهرة الحياة الدنيا ، إلى أن اتصل خبر وفاته ، وفيه حكاية ، عام تسعة وسبعمائة.

ودخل غرناطة برسم لقاء الخطيب الصالح أبي الحسن بن فضيلة. وغير ذلك.

العمال في هذا الاسم وأولا الأصليون

محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل (١)

يكنى أبا يحيى.

حاله : شيخ (٢) حسن الشّيبة ، شامل البياض ، بعيد مدى الذّقن ، خدوع الظاهر ، خلوب اللفظ ، شديد الهوى إلى الصّوفية ، والكلف بإطراء الخيريّة (٣) ، سيما عند فقدان شكر الولاية ، وجماح الحظوة ، من بيت صون وحشمة ، مبين عن نفسه في الأغراض ، متقدّم في معرفة الأمور العملية ، خائض مع الخائضين في غمار طريق (٤) التصوّف ، وانتحال كيمياء السّعادة ، راكب متن دعوى عريضة في مقام التّوحيد ، تكذّبها أحواله الرّاهنة جملة ، ولا تسلم له منها نبذة ، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشّره ، وغلب (٥) سلطان الشّهوة ، فلم يجن من جعجاعه المبرم فيها إلّا استغراق الوقت في القواطع عن الحق ، والأسف على ما رزته الأيام من متاع الزّور ، وقنية الغرور ، والمشاحة أيام الولاية ، والشّباب (٦) الشاهد بالشّره ، والحلف المتصل بياض اليوم ، في ثمن الخردلة باليمين التي تجرّ فساد الأنكحة ، والغضب الذي يقلب

__________________

(١) ترجمة ابن الأكحل في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٣).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٣) بتصرف.

(٣) في النفح : «بإطراء أهل الخير».

(٤) كلمة «طريق» غير واردة في النفح.

(٥) في النفح : «وغلبة».

(٦) في النفح : «والسباب».

١٥٤

العين ، والبذا الذي يصاحب الشّين ، مغلوب عليه في ذلك ، ناله بسببه ضيق واعتقال ، وتقويت جدة ، وإطباق روع ، وقيد للعذاب ، فألقيت عليه ردائي ، ونفّس الله عنه بسببي ، محوا للسّيئة بالحسنة ، وتوسّلا إلى الله بترك الحظوظ ، والمنّة لله جلّ جلاله على ذلك.

شعره : خاطبني بين يدي نكبته أو خلفها بما نصّه ، ولم أكن أظنّ الشّعر مما تلوكه جحفلته (١) ، ولكن الرجل من أهل الكفاية (٢) : [الطويل]

رجوتك (٣) بعد الله يا خير منجد

وأكرم مأمول وأعظم مرفد (٤)

وأفضل من أملت للحادث الذي

فقدت به صبري وما ملكت يدي (٥)

وحاشا وكلّا أن يخيب مؤمّلي (٦)

وقد علقت بابن الخطيب محمد

وما أنا إلّا عبد أنعمه (٧) التي

عهدت بها يمني وإنجاح مقصدي (٨)

وأشرف من حضّ الملوك على التّقى

وأبدى لهم نصحا وصيّة (٩) مرشد

وساس الرّعايا الآن خير سياسة

مباركة في كل غيب ومشهد (١٠)

وأعرض عن دنياه زهدا وإنها

لمظهرة طوعا له عن تودّد

وما هو إلّا اللّيث والغيث إن أتى

له خائف أو جاء مغناه مجتدي (١١)

وبحر علوم درّه كلماته

إذا ردّدت في الحفل أيّ تردّد

صقيل مرائي (١٢) الفكر ربّ لطائف

محاسنها تجلى بحسن تعبّد

بديع عروج النفس للملإ الذي

تجلّت به الأسرار في كلّ مصعد

شفيق رقيق دائم الحلم راحم

وأيّ جميل للجميل معوّد

صفوح عن الجاني على حين قدرة

يواصل (١٣) تقوى الله في اليوم والغد

__________________

(١) الجحفلة للدابة بمنزلة الشفة للإنسان. لسان العرب (جحفل).

(٢) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٣٣ ـ ٢٣٥).

(٣) في الأصل : «راجوتك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) المرفد : المعطي. لسان العرب (رفد).

(٥) في الأصل : «يد» والتصويب من النفح.

(٦) في الأصل : «ماملي» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٧) في النفح : «نعمته».

(٨) في الأصل : «مقصد» والتصويب من النفح.

(٩) في النفح : «نصيحة».

(١٠) المشهد : الحضور. لسان العرب (شهد).

(١١) في الأصل : «مجتد» والتصويب من النفح. والمجتدي : طالب النوال والعطاء. لسان العرب (جدا).

(١٢) في الأصل : «مرأى» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٣) في النفح : «مواصل».

١٥٥

أيا سيدي يا عمدتي عند شدّتي

ويا مشربي (١) متى ظمئت وموردي

حنانيك وألطف بي وكن لي راحما

ورفقا على شيخ ضعيف منكّد

رجاك رجاء (٢) للذي أنت أهله

ووافاك يهدي للثّناء (٣) المجدّد

وأمّك مضطرّا لرحماك شاكيا

بحال كحرّ الجمر (٤) حين توقّد

وعندي افتقار لا يزال (٥) مواصلا

لأكرم مولى حاز أجرا وسيّد

ترفّق بأولاد صغار بكاؤهم

يزيد لوقع الحادث المتزيّد

وليس لهم إلّا إليك تطلّع

إذا مسّهم ضرّ أليم التّعهّد

أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق

وجد بالرّضا وانظر لشمل مبدّد

وقابل أخا الكره (٦) الشّديد برحمة

وأسعف بغفران الذّنوب وأبعد (٧)

ولا تنظرن إلّا لفضلك ، لا إلى

جريمة شيخ عن محلّك مبعد

وإن كنت قد أذنبت إني تائب

فعاود (٨) لي الفعل الجميل وجدّد

بقيت بخير لا يزال (٩) وعزّة

وعيش هنيء كيف شئت وأسعد

وسخّرك الرحمن للعبد ، إنّه

لمثن (١٠) وداع للمحل المجدّد

وقد ولّي خططا نبيهة ، منها خطة الاشتغال على عهد الغادر المكايد للدّولة ، إذ كان من أولياء شيطانه وممدّيه في غيّه ، وسماسير شعوذته ، فلم يزل من مسيطري (١١) ديوان الأعمال ، على تهوّر واقتحام كبرة ، وخطّ لا غاية وراءه في الرّكاكة ، كما قال المعرّي (١٢) : [الوافر]

تمشّت (١٣) فوقه حمر المنايا

ولكن بعد ما مسخت نمالا

__________________

(١) في الأصل : «شربي» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «رجا الذي» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٣) في الأصل : «الثنا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) في النفح : «كجرّ الشمس حال توقّد».

(٥) في الأصل : «افتقار لأنوال» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٦) في النفح : «الكرب».

(٧) في النفح : «وأسعد».

(٨) في النفح : «فعوّد».

(٩) في الأصل : «لأنوال» ، وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٠) في الأصل : «لمتن» والتصويب من النفح.

(١١) في النفح : «ج ٨ ص ٢٣٥): «مسطري».

(١٢) شروح سقط الزند (ص ١٠٤).

(١٣) في شروح السقط : «ودبّت». وهذا البيت في وصف السيف ويقول فيه : إنّ إفرنده كأنما دبّت فوقه النمل.

١٥٦

استحضرته يوما بين يدي السلطان ، وهو غفل لفكّ ما أشكل من معمّياته في الأعمال عند المطالعة ، فوصل بحال سيئة ، ولما أعتب بسببه ونعيت عليه هجنته ، أحسن الصّدر عن ذلك الورد ، ونذر في نفسه وقال : حيّا الله رداءة الخطّ إذا كانت ذريعة إلى دخول هذا المجلس الكريم ، فاستحسن ذلك ، لطف الله بنا أجمعين.

وفاته : توفي عام سبعة وستين وسبعمائة.

محمد بن الحسن بن زيد بن أيوب بن حامد الغافقي

يكنى أبا الوليد.

أوليته : أصله من طليطلة ، انتقل منها جدّ أبيه ، وسكنوا غرناطة ، وعدّوا في أهلها.

حاله : كان أبو الوليد طالبا نبيلا ، نبيها ، سريّا ، ذكيّا ، ذا خطّ بارع ، ومعرفة بالأدب والحساب ، ونزع إلى العمل فكان محمود السّيرة ، مشكور الفعل. وولّي الإشراف في غير ما موضع. قلت : وآثاره في الأملاك المنسوبة إليه ، التي من جملة المستخلص السلطاني بغرناطة وغيرها ، مما يدل على قدم وتعمّة أصيلة.

وفاته : توفي بمدينة إشبيلية سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ، وسنّه دون الخمسين.

محمد بن محمد بن حسّان الغافقي (١)

إشبيلي الأصل ، غرناطي المنشأ ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن حسان.

حاله : من «العائد» : كان من أهل السّرو والظّرف والمروءة ، وحسن الخلق ، تولّى الإشراف بغرناطة ، وخطّة الأشغال ، فحسن الثناء عليه. وله أدب ومشاركة.

حدّثني بعض أشياخنا ، قال : كنت على مائدة الوزير ابن الحكيم ، وقد تحدّث بصرف ابن حسّان عن عمل كان بيده ، وإذا رقعة قد انتهت إليه أحفظ منها : [مخلع البسيط]

لكم أياد لكم أياد

كرّرتها إنها كثيرة

__________________

(١) ترجم ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص ٢٤٥) لرجل يحمل الاسم نفسه تحت عنوان : «الشيخ الكاتب أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسان الغافقي ، رحمه الله تعالى» ؛ والذي ترجم له في الكتيبة الكامنة كان قد بعث إليه شعرا في بعض المناسبات ، يعني أنه كان صديقه ، بينما المترجم له هنا في الإحاطة توفي سنة ٧١٣ ه‍ ، وابن الخطيب توفي سنة ٧٧٦ ه‍. فاعلم.

١٥٧

فإن عزمتم على انتقالي

ريّة أبغي أو الجزيره

وإن أبيتم إلى (١) مقامي

فنعمة منكم كبيرة

وقال لي بعضهم : جرى بين ابن حسّان هذا ، وبين أحد بني علّاق ، وهم أعيان ، كلام وملاحة ، فقال ابن حسان : إنما كان جدّكم مولى بني أضحى ، وجدّ بني مشرف ، فاستعدى عليه ، ورفعه إلى الوزير ابن الحكيم فيما أظن ، فلما استفهمه عن قوله ، قال : أعزّك الله ، كنت بالكتبيين ، وعرض عليّ كتاب قديم في ظهره أبيات حفظتها وهي : [البسيط]

أضحى الزمان بأضحى وهو مبتسم

لنوره في سماء المجد إشراق

فلم يزل ينتمي للمجد كل فتى

تطيب منه مواليد وأعراق

فإن ترد شرفا يمّم مشرّفه

وإن ترد علق مجد فهو علّاق

فعلم الوزير أن ذلك من نظمه ، ونتيجة بديهته ، فعجب من كفايته ، وترضّى خصمه ، وصرفهما بخير. وتوفي في شهر رجب ثلاثة عشر وسبعمائة.

محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم

ابن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد

ابن أسد بن قاسم النّميري ، المدعو بابن الحاج

يكنى أبا عمرو ، وقد مرّ ذكر أخيه.

حاله : تولّى خطّة الإشراف بلوشة وأندرش ومالقة. وولّي النظر في مختص ألمريّة ، والأعشار الرومية بغرناطة. وكان له خط حسن ، وجودة كاملة ، وحسن خلق ، ووطأة أكناف تشهد له بجلالة قدره ، ورفيع خطره. وضاهر في أعيان كالوزير أبي عبد الله بن أبي الحسن ، فاضل ، سريّ ، متخلّق ، حسن الضريبة ، متميّز بخصال متعددة ، من خطّ بديع ، ونظم ، ومشاركة في فنون ، من طبّ وتعديل ، وارتياض سماع ، وذكر التاريخ. حجّ وجال في البلاد ، ولقي جلّة. وتولّي بالمغرب خططا نبيهة علية. ثم كرّ إلى الأندلس عام ستين وسبعمائة ، فأجرى من الاستعمال على رسمه. ثم اقتضت له العناية السلطانية بإشارتي ، أن يوجه في غرض الرسالة إلى تونس وصاحب مصر ، لما تقدّم من مرانه على تلك البلاد ، وجولاته في أقطارها ، وتعرّفه بملوكها والجلّة من أهلها ، فآب بعد أعوام ، مشكور التصرّفات ، جاريا على سنن

__________________

(١) في الأصل : «إلّا» وكذا ينكسر الوزن.

١٥٨

الفضلاء ، مضطلعا بالأحوال التي أسندت إليه من ذلك. فلم يزل معتنى به ، مرشّحا إلى الخطط التي تطمح إليها نفس مثله ، مسندا النّظر في زمام العسكر الغربي إلى ولده الذي يخلفه عند رحلته نائبا عنه ، معزّزا ذلك بالمرتبات والإحسان ، تولّاه الله وأعانه.

شعره : مدح السلطان ، وأنشد له في المواليد النبوية. ورفع إلى السلطان بحضرتي هذه الأبيات : [البسيط]

مولاي ، يا خير أعلام السلاطين

ومن له الفضل في الدنيا وفي الدّين

ومن له سير ناهيك من سير

وافت بأكرم تحسين وتحصين

شرّفت عبدك تشريفا له رتب

فوق النجوم التي للأفق (١) تعليني

وكان لي موعد مولاي أنجزه

وزاد في العزّ بعد الرّتبة الدّون

والله ما الشّكر مني قاضيا وطري

ولو أتيت به حينا على حين

ولا الثّناء موفّ حقّ أنعمه

ولو ملأت به كل الدّواوين

لكن دعائي وحبّي قد رضيتهما

كفاء (٢) أفعاله الغرّ الميامين

وعند عبدك إخلاص يواصله

في خدمة لم يزل للخير تدنيني

وسوف أنصح كل النصح مغتنما

رضى إمام له فضل يرجّيني

جوزيت عني أمير المسلمين بما

ترضاه للملك من نصر وتمكين

وأنت أكرم من ساس الأنام ومن

عمّ البلاد بتسكين وتهدين

ومن كمثل أبي عبد الإله إذا

أضحى الفخار لنا رحب الميادين

محمد بن أبي الحجّاج خيرة من

أهدي له (٣) مدحا بالسّعد يحظيني

وجه جميل وأفعال تناسبه

ودولة دولة المأمون تنسيني

لا زال في السّعد والإسعاد ما سجعت

ورق الحمام على قضب البساتين

محمد بن عبد الرحمن الكاتب

يكنى أبا عبد الله ، من أهل غرناطة ، أصله من وادي آش.

حاله : كان طالبا نبيها كاتبا جليلا ، جيّد الكتابة. كتب عن بعض أبناء الخليفة أبي يعقوب ، واختصّ بالسيد أبي زيد بغرناطة ، وبشرق الأندلس ، وكان أثيرا عنده

__________________

(١) في الأصل : «التي فوق الأفق ...» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «كفا» وكذا ينسكر الوزن.

(٣) في الأصل : «إليه» وكذا ينكسر الوزن.

١٥٩

مكرّما. وكان ، رحمه الله ، شاعرا ، مطبوعا ، ذا معرفة جيدة بالعدد والمساحة ، ثم نزع عن الكتابة ، واشتغل بالعمل ، فراش فيه ، وولّي إشراف بنيات غرناطة. ثم ولّي إشراف غرناطة ، فكفّ يده ، وظهرت نصيحته. ثم نقل إلى حضرة مرّاكش ، فولي إشرافها مدة ، ثم صرف عنها إلى غرناطة ، وقدّم على النظر في المستخلص إلى أن توفي.

مناقبه : أشهد لما قربت وفاته ، أنه كان قد أخرج في صحّته وجوازه ، أربعة آلاف دنير من صميم ماله لتتميم القنطرة التي بنيت على وادي شنجيل (١) بخارج غرناطة. وكان قبل ذلك قد بنى مسجد دار القضاء من ماله ، وتأنّق في بنائه ، وأصلح مساجد عدة ، وفعل خيرا ، نفعه الله.

شعره : ومن شعره ما كتب به إلى الشيخ أبي يحيى بن أبي عمران ، وزير الخلافة ، وهو بحال شكاية أصابته : [الطويل]

شكوت فأضنى المجد برح شكاته

وفارق وجه الشمس حسن آياته (٢)

وعادت ببعديك (٣) الزّمان زمانة

تعدّت إلى عوّاده (٤) وأساته

وغيّض ما للبشر لمّا تبسّطت

يد السّقم (٥) في ساحات كافي كفاته

فكيف بمقصوص وصلت جناحه

وأدهم قد سربلته بشاته؟

وممتحن لولاك أذعن خبرة

وهان على الأيام غمز قناته

أمعلق أمالي ومطمح همّتي

وواهب نفسي في عداد مباته

سأستقبل النّعمى ببرّك غضّة

ويصغر ذنب الدهر في حسناته

وتسطو عين الحقّ منك بمرهف

تراع الخطوب الجور من فتكاته

وتطلع في أفق الخلافة نيّرا

تطالعنا الأقمار من قسماته

حرام على الشكوى اعتياد مطهّر

حياة الدّنا والدين طيّ حياته

فما عرضت في قصده بمساءة

ولكن ترجّت أن ترى في عفاته

__________________

(١) سمي أيضا نهر شنيل ، وشنجل ، وسنجل ، واسمه بالإسبانية اليوم genil ، وهو نهر غرناطة الكبير ، وينبع من جبل شلير ، ثم يخترق مرج غرناطة ويصل إلى إشبيلية فيصب في نهرها الشهير بالوادي الكبير. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٤٧ ـ ٤٨).

(٢) في الأصل : «آياته» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «بعديك» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) في الأصل : «عوّاد» ، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٥) في الأصل : «يدّ للسّقم» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

١٦٠