المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

الدكتور عاصم حمدان علي حمدان

المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

المؤلف:

الدكتور عاصم حمدان علي حمدان


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: نادي المدينة المنوّرة الأدبي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٢

١
٢
٣
٤

٥
٦
٧

تقديم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من توارى جثمانه وورى ثرى طيبة الطيبة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبارك على آله وصحبه وسائر الأنبياء والمرسلين.

جرت العادة في تقسيم الأطراف ذوات العلاقة في الأعمال التدوينية إلى ١ ـ مؤلّف. ٢ ـ ومؤلّف. ٣ ـ قارىء. بيد أن العمل الذي بين أيدينا يتميز بإضافة عنصر رابع لتصبح عناصره :

١ ـ موضع. ٢ ـ موضع. ٣ ـ مؤلف. ٤ ـ قارىء.

فالموضع هو المدينة المنورة.

ولم يكن ليتأتى للمدينة أن تحظى بما حظيت به لو لا أن اختارها الله عزوجل لتكون موضع الهجرة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتستحيل حمّاها الموهنة إلى قوة متدفقة في شريان الكيان الإسلامي فتمتد اطناب دولته حتى غشيت جل أصقاع الكرة الأرضية وتصبح طيبة أول عاصمة للدولة الإسلامية.

ولن أستفيض في ذكر فضائل المدينة ومزاياها فالمرء يجل مكة والمدينة عن أن يمر بهما مر الكرام في التوطئة لمؤلف وقد أفردت لهما المتون الضخام وعم خبر فضلهما القاصي والداني فهما العينان اللتان نظر بهما الإسلام إلى الدنيا ويشرئب إلى النظر إليهما كل مسلم. حتى غدا التأليف فيهما شرفا يغبط به من ناله وفضلا يتوق إليه من لم ينله.

والموضوع يتمحور حول تاريخ وأدب المدينة المنورة خلال فترة زمنية امتدت من القرن الثاني عشر الهجري حتى العصر الحديث لتشمل حقبة منيت بالكثير من الحيف والظلم خلال تاريخنا الأدبي في مجمله حتى وسمت جورا بعصر الجمود والانحطاط عوضا عن العصر المملوكي والعثماني فجل نتاج هذه الفترة لا زال متواريا ومخطوطا كما أن الباحثين انصرفوا إلى العصور الأخرى وتنكبوا عن هذا العصر فكما أن الحكم على الشيء جزء من تصوره فإن الحكم على هذا العصر مرتهن بإبراز نتاجه وتحقيق مخطوطاته والعكوف على موضوعاته وشخصياته دراسة وتحليلا ليتسنى إصدار الحكم له أو عليه.

ولقد وفق المؤلف في العزوف عن التوجه النمطي السائد في دراسة الأدب بأن

٨

جنح عن المنحى الأفقي في الدراسة لتغطي مرحلة متعاصرة وركز على التوجه العمودي في انتقاء التوجه العمودي للشخصيات والقضايا المتواشجة والمترابطة لتمتد حتى المرحلة المعاصرة كمسار متتابع يفضي بعضه إلى بعض وهو توجه يتوق بعض من الدارسين إلى تسويده واحتذائه.

أما المؤلف فهو خير من يتصدى لهذه المهمة على عسرها وصعوبتها فهو ابن المدينة مولدا ونشأة وابن بجدتها في الأدب تخصصا وتمرسا وعلى الرغم من أنه أخذ بالمفهوم السائد في تعريف الأدب من لدن الجاحظ وامتدادا إلى ابن خلدون من أنه (الأخذ من كل علم بطرف) إلا أنه تعمق في كل علم امتدت له رؤاه وتطلعاته حتى بدا فيه خبيرا متمكنا يتضح في ذكاء التناول العصري والأسلوب المتدفق في معالجة الشخصيات معالجة علمية موضوعية تقوم على العبارة الموجزة والفكرة المكثفة مهتبلا فرصة الود والعلاقات الحميمة في الاستفادة من المصادر الشفهية قبيل تواريها عن عالم الشهود موثقا النصوص بأقوال أصحابها أو من عاصروهم وهو أمر لا يتأتى إلا لمن حباه الله خلق المؤلف في بناء جسور الود ودأبه في الانكباب على العلم احتسابا وقربى وهو بذلك يرود سبيلا بكرا يتيح للآخرين فرصة سلوكه وانتهاجه ويغرينا بمطالبته بالمزيد للكشف عن هذه الكنوز التي كنا نتوق إلى الاطلاع عليها ومعرفتها.

وآصرة العلاقة التلازمية بين مكة والمدينة تفسر وشيجة الإخاء والود التي ربطتني بأخي وصديقي وزميلي الدكتور عاصم وأقسرتني على الاستجابة لتفضله بطلب تدوين هذه المقدمة سائلا الله له التوفيق والعون في مستقبل أعماله وحياته وأن يجعلها في ميزان أعماله خالصة لوجهه الكريم.

وصلى الله وسلم وبارك على خير من احتضنته تربة طيبة الطيبة سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسائر الأنبياء والمرسلين.

د. جميل محمود مغربي

أستاذ مادة النقد بكلية الآداب

بجامعة الملك عبد العزيز بجدة

٩

تمهيد

لم تحظ مدينة كما حظيت مدينة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بتوجيه العناية الى كتابة تاريخها والمتمثل في تدوين أخبار وسيرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ كما فعل عمر بن شبة النميري (١٧٣ ـ ٢٦٢ ه‍) في كتابه «أخبار المدينة النبوية» ، وفي الاعتناء كذلك بتتبع الآثار النبوية الصحيحة بين ربوعها الطيبة كما نجد ذلك عند الحافظ محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي (٥٧٨ ـ ٦٤١ ه‍) في كتابه «الدرة الثمينة في أخبار المدينة» وعند جمال الدين محمد ابن أحمد المطري (٦٧٦ ـ ٧٤١ ه‍) في كتابه «التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة». وعند زين الدين أبي بكر بن الحسين بن عمر المراغي (٧٢٧ / ٨١٦ ه‍) في كتابه «تحقيق النّصرة بتلخيص معالم دار الهجرة».

كما نلاحظ أيضا اهتماما يبدو في الاهتمام بتاريخ رجالها كما هو عند عبد الله بن محمد بن فرحون (٦٩١ ـ ٦٦٩ ه‍) في كتابه المخطوط بمكتبة عارف حكمت بالمدينة والمعروف باسم «نصيحة المشاور وتعزية المجاور». وعند مؤرخ آخر هو محمد بن عبد الرحمن السخاوي (٨٣١ ـ ٩٠٢ ه‍) في كتابه «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة» بأجزائه الثلاثة التي نشرها أسعد طرابزوني ـ يرحمه‌الله ـ أما العناية بتاريخها الأدبي فنجد نموذجا له عند الشيخ عمر بن عبد السلام الداغستاني المتوفى بعد سنة (١٢٠١ ه‍ ـ ١٧٧٦ م) الذي ألف كتابه «تحفة الدهر ونفحة الزهر في شعراء المدينة من أهل العصر» وهو كتاب هام يبرز مدى اهتمام مثقفي المدينة في فترة القرن الثاني عشر الهجري بفنون الشعر والنثر المختلفة ، وتعاطيهم لتلك الفنون حسب المقاييس الأدبية لعصرهم ، كما أن التأريخ لجوانب الحياة الاجتماعية فيها لم يخل هو الآخر من اهتمام خاص ، كما يبرزه لنا جعفر ابن هاشم الحسينى من أدباء المدينة في القرن الثالث عشر الهجري في كتابه المخطوط «الأخبار الغريبة فيما وقع بطيبة الحبيبة».

* ولقد أخذت منذ زمن في تقصي هذه المصادر بجانبيها التاريخي والأدبي ـ المخطوط منها والمطبوع ـ ودراستها دراسة أكاديمية ، فرأيت أن أضم هذه الدراسات التي يجمعها نسق واحد في هذا الكتاب الذي آمل أن يجد فيه المهتمون بدراسة فكر وأدب وتاريخ هذه البقعة المطهرة شيئا مما يتطلعون إليه أو يوجهون إليه اهتماماتهم العلمية.

١٠

* ولعله من الواجب أن أتقدم ـ هنا ـ بالشكر الجزيل لصديقي الدكتور محمد يعقوب تركستاني ـ الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة ـ على احتفائه ببعض هذه الدراسات ونشره لها في ملحقه العلمي المعروف بصحيفة المدينة المنورة ، وشكرا آخر أسديه إلى زميلي الشاعر الدكتور جميل محمود مغربي الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز على تكرمه بقراءة أصول هذا الكتاب واقتراحاته المفيدة حول النشر النهائي ، ولعله من الواجب أيضا أن أخص بالشكر الصديق الدكتور يحيى محمود الساعاتي ـ رئيس تحرير مجلة عالم الكتب ـ الذي رحبت مجلته بنشر بحثي عن العالم أمين بن حسن الحلواني ـ رحمه‌الله ـ والذي يدخل ضمن مواد هذا الكتاب.

والله ولي التوفيق.

عاصم حمدان

جدة : ٢٤ / ٨ / ٤١١ ه

١١

القسم الأول

الدّراسات الفكرية والأدبية

١٢

شعراء المدينة المنورة والشعر الملحمي

في القرن الثاني عشر الهجري

(١)

** من الإنتاج الأدبي غير المنشور ، في القرن الثاني عشر الهجري ـ الثامن عشر الميلادي. عدد من القصائد الطويلة الذي احتفظت لنا بتاريخ الحوادث الاجتماعية ، التي شهدها مجتمع المدينة المنورة في تلك الآونة. لقد استثارت الحوادث قرائح كثير من الشعراء في ذلك الحين : الذين استهلوا قصائدهم تلك بالإشارة إلى أسباب الحادثة الاجتماعية وتاريخها ويكون هذا التاريخ مفصلا ـ أحيانا ـ بذكر اليوم والشهر والسنة ، ثم التعرض إلى الجماعات التي شاركت في هذه الحادثة. وبشيء من التفصيل عن سلوكهم وأخلاقياتهم ، ثم تنتقل القصيدة للحديث عن تطور هذه الحادثة. والآثار الذي تركتها على البيئة المحلية ، وعلى الأخص على إنسان تلك البيئة.

* ولقد دفعت المعالم المتميزة لهذه القصائد ناقدا كالسيد «عبيد مدني» ـ رحمه‌الله ـ إلى إطلاق ملحمة (١) على بعض تلك القصائد ، ولعله شيء أساسي أن نعرض للتعريف الحقيقي لمصطلح «ملحمة» وبدايات استعماله في تاريخ الأدب العربي ، وصلة هذا المصطلح نفسه بمفهوم الشعر الملحمي في ثقافات الأمم الأخرى.

** يذهب ابن منظور إلى تعريف الملحمة بأنها الحرب ذات القتل الشديد ، ويضيف كذلك تعريفا آخر لها بأنها الوقعة العظيمة في الفتنة (٢).

** وفسر الشريشى القول الوارد في المقامة الثالثة عشرة من مقامات الحريري ، والمعروفة بالمقامة البغدادية «قد فتن كلامك فيكف إلحامك» أن إلحامك تعني نسجك الشعر. (٣)

١٣

** «د. ب. ماكدونالد» يعلق على جذور كلمة «ملحمة» وتطور معناها ، كما يلي : «يحيط كثير من الغموض بالأصل الاشتقاقي لكلمة ملحمة ، وتطور معناها ، فالكلمة لم تظهر في القرآن الكريم ، أو بالأصل الجذري للحم ولحوم ، أي ذلك المتمثل في المعني المادي الخالص ، علاوة على ذلك فالجذر ـ ل ، ح ، م ـ يكتسب ـ كما في الأصل اللغوي العبري للكلمة نفسها ـ معنيين قديمين ، ولكنهما منفصلان ، وهما : الطعام ، والقتال ، يضاف إلى ذلك فإن أصل الكلمة الدالة على الطعام في اللغة العبريةLehem هو : الخبز ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يعد معنى مرادفا لكلمة ـ لحم ـ بالعربية.

وربما ذلك يوحي بإمكانية انفصال المعنيين بعضهما عن بعض في الأصل السامي ، أكثر مما يوحى بعملية الاستعارة أو الاقتباس.

وفي العربية ـ قديما ـ تعطينا كلمة ـ ملحمة ـ معنى القتال الحاسم ، الذي يقود إلى الهزيمة ، أو المطاردة ، التي تتسبب في إلحاق الذبح والقتال بالطرف الآخر».

كما ذكر «ماكدونالد» ـ أيضا ـ تعريف «ابن خلدون» للملحمة ، وهو «كتب متعددة في الحوادث والتغييرات المتصلة بالأسر الحاكمة ، وتكون صياغتها شعرا ، أو نثرا ، أو رجزا». (٤)

** ولكن هل يحق لنا أن نقارن القصائد الجاهلية القديمة ، والمعروفة بالمعلقات ، والتي تتعرض لحوادث تاريخية معينة معلقة زهير بن أبي سلمى وما أجالته حول حرب داحس والغبراء بملاحم «هومر» Homer الإغريقية : الإلياذة (ILiad) ، والأوديسةThe Odyssey ، أو الملاحم التاريخية الفارسية ، كالشاهنامة للفردوسي؟

الناقد «مارون عبود» يرى أن قصة الإلياذة شديدة الشبه بقصة عنترة (٥) ، بينما يعتقد د. س. مرجليوث أن حظ المعلقات من المعلومات التاريخية يكاد يكون ضئيلا.

أما «جورج غريب» فيذهب «إلى أن في مطولات عمرو بن كلثوم وعنترة والحارث بن حلزة من مميزات الملاحم ما ليس في غيرها» ولكنه يعود إلى القول بأنه «من الإنصاف اعتبار المطولات العربية من قبيل الفخر والحماسة لا من قبيل الملاحم». (٦)

١٤

ولقد ناقش «سليمان البستاني» في مقدمة ترجمة إلياذة «هومر» قضية التقارب بين جاهلية العرب وجاهلية اليونان ، إلا أنه خلص إلى أن «المشارقة لم ينظموا الملاحم بالمعنى الصحيح ، فرغم ما توفر للأعراب من أدوات الفصاحة ، فعدم التطلع إلى ما وراء الطبيعة وقف حاجزا دونهم ودون تحقيق هذا النوع من الأدب ، بيد أننا ـ ونحن نلقي نظرة على بعض كتب الأدب بعامة ، وجمهرة أشعار العرب بخاصة ـ نستطيع القول بشيء من التوسع إنه كان للمشارقة ، من جاهليين ومولدين ، نوع من الملاحم القصيرة تناولوا فيها حوادث معينة» (٧).

ولكن «د. س مرجليوث» في محاضرته الموسومة بعنوان : «الشعر أداة فكرية للتاريخ» أوضح أن هناك نوعا من المماثلة بين بعض الإنتاج الشعري ، في مرحلة العصر الإسلامي ، وبعض الأعمال الملحمية العالمية ، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الانتاج العربي الشعري الذي يتوجه لتخليص الحوادث التاريخية ، يظل مفتقدا لبعض السّمات الملحمية ، كالحبكة أو العقدة ولهذا نجده يعقد مقارنة بين القصيدة التاريخية عند الشاعر العباسي عبد الله ابن المعتز «أرجوزة المعتضد» (٨) وبين ملحمة الشاعر (Tasso) تاسو ، والمعروفة باسم (jerusalem ,Delivered) «تحرير القدس» والتي تعرض فيها لحوادث الحملة الصليبية الأولى.

ويدّعى «مرجليوث» أن بناء القصيدة العربية هو أكثر ملاءمة لتعدد الموضوعات منه إلى الموضوع الواحد ، كما هو ضروري في البناء الملحمي ولهذا فإن القصائد التاريخية الملحمية في الأدب العربي تمت صياغتها في بحر الرجز (٩) لأنه الوحيد الذي يتلاءم مع هذا الفن الشعري.

** وسوف نتعرض بالتفصيل لرأي «مرجليوث» هذا الذي يتجنى فيه على القصيدة العربية ، وذلك ناشئ من عدم إحاطته بتاريخ الأدب العربي ، وسوف تقدم الأمثلة الشعرية من إنتاج شعراء الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر «الدليل الواضح على أن القصيدة العربية ذات البحر الشعري الطويل قادرة على استيعاب الموضوع الواحد ذي الصبغة الملحمية التاريخية ، وأن هذه القصيدة ـ في الوقت نفسه ـ احتفظت بروائها الشعري ، وصياغتها الفنية الجميلة.

***

١٥

الاحالات :

__________________

(١) بحوث المؤتمر الأول للأدباء السعوديين ، جدة ، ١٣٩٤ ه‍ ص : ٧٢٣ ـ ٧٤٠.

(٢) جمال الدين محمد بن مكرم ، ابن منظور : لسان العرب ، (دار صادر ، بيروت) ، المجلد الثاني عشر ، ص ٥٣٧ ، مادة لحم.

(٣) أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن الشريشي : شرح مقامات الحريري ، ط الأولى ـ دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م.

(٤) مادة ملحمة في «الموسوعة الإسلامية» الطبعة الإنجليزية الأولى ص ١٨٨ ، ومادة حماسة ـ أيضا ـ في الموسوعة نفسها ، الطبعة الثانية.

(٥) مارون عبود : أدب العرب ، بيروت ط ٣ ، ١٣٩٨ ه‍ ، ص ٧٨.

(٦) جورج غريب ، الشعر الملحمي ، تاريخه وأعلامه ، بيروت ط ٣ ، ص ١٠.

(٧) جورج غريب ، سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة ، بيروت ـ بدون تاريخ ـ ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٨) يصفه الدكتور طه حسين بالشعر التعليمي ، تاريخ الأدب العربي ، بيروت ط ٢ ، ١٩٧٦ ، ج ٢ ، ص ٣٩٩.

(٩) ديفيد صمويل مرجليوث : محاضرات عن المؤرخين العرب «الطبعة الإنجليزية» كلكتا ١٩٣٠ ، ص ٨٠.

١٦

(٢)

** في الحلقة الماضية ، التي خصصت لدراسة تحديد المصطلح الشعري «ملحمة» رأينا أن هناك نماذج من الشعر الجاهلي والإسلامي ، مما يمكن إدخاله ضمن دائرة الشعر الملحمي من منظور النقد العربي.

ولا بد من الإشارة إلى أن تجارب شعراء المدينة ، في القرن الثاني عشر الهجري ، في هذا العمل الشعري الخاص ، إنما هي محاولة لإحيائه ، ونفض الغبار عنه ، وتكتسب المحاولة أهميتها أنها أتت في عصر من عصور الركود الفكري والأدبي.

** ولكن السؤال الذي يمكن طرحه : هل كان هؤلاء الشعراء واعين بالفن ، الذي توجهت ملكاتهم للإبداع فيه؟

لقد ورد لفظ «ملحمة» في مطولة من مطولات الشاعر السيد جعفر إبراهيم البيتي (١) وجاءت اللفظة مقترنة باسم شاعر من أشهر شعراء العصر المملوكي ، وهو شمس الدين بن دانيال (٢) (٦٤٦ ـ ٧١٠ ه‍) والبيت ورد عند الشاعر «البيتى» كما يلي :

حوادث ما رآها دانيال ولا

قصت «ملاحمه» شيئا يساويها

واشتمال البيت على اسم هذا الشاعر ـ بعينه ـ فيه دلالة علي مصادر الثقافة الشعرية لشعراء تلك الفترة ، ومدى تأثيرها في إنتاجهم الشعري ، أإن الشاعر كان واعيا بأنه يقوم بوصف حوادث ملحمية ، وأن هذا الوصف كان نتيجة طبيعية لتفاعل الشاعر مع تلك الحوادث ، التي شهدها مجتمع المدينة ، في فترة القرن الثاني عشر الهجري ، أو ما أسمته المصادر الشعرية «بالفتن» وهي تسمية لها دلالتها التاريخية إذا ما ربطنا بينها وبين الفتن ، التي شهدها المجتمع المدني في العصر الإسلامي الأول.

وأشهر هذه الفتن ثلاث : وقعت الأولى منها سنة ١١٣٤ ه‍ ، وتسمى بفتنة «العهد» ، والثانية في سنة ١١٤٨ ه‍ ، وتسمى بفتنة «بشير أغا» الذي كان

١٧

حاكما من حكام المدينة في تلك الفترة ، والثالثة في سنة ١١١٥ ه‍ ، وهي فتنة «عبد الرحمن أغا الكبير».

هذه الحوادث جميعها لم تتعرض لها ـ بالتفصيل ـ المصادر التاريخية وربما كان ذلك راجعا إلى ضياع مؤلفات ذلك العصر ، التي كانت تحتفظ بها بعض المكتبات الخاصة في المدينة. ولربما افتقدنا المؤرخ ـ نفسه ـ للظروف السيئة ، التي كان يمر بها المجتمع ـ آنذاك ـ إلا أننا لم نفتقد الشاعر الذي عمل على تطويع القصيدة الشعرية لمقتضيات العصر ، ويبتعد بها عن الموضوعات المبتذلة ، التي كانت سمة من سمات بعض الإنتاج الشعري لفترة العصر العثماني ، أو بعبارة أخرى : وجدت الملكة الشعرية القوية ، فكانت عينا تسجل ، وأذنا تسمع ، ولسانا ينطق.

لقد كان السيد جعفر البيتي ذلك اللسان الذرب ، الذي وصف تلك الفتن ، فجاء وصفه مليئا بالصور الشعرية الرائعة ، التي يمكننا من خلالها معرفة ما كان يزعج ذلك المجتمع الآمن ، ويقض مضجعه.

** وقبل أن نختار ملحمة من ملاحم شاعرنا المذكور ، لنتعرف من خلالها على الحالة السيئة ، التي وصل إليها الوضع الاجتماعي في المدينة ، ولندرسها دراسة تحليلية نتلمس من خلالها تلك الوسائل الفنية التي استخدمها الشاعر في عمله الشعري ، ومدى نجاحه في هذا الجانب التطبيقي الهام ، قبل أن نختار المثال الذي سوف نخضعه لهذه الدراسة ، سوف نذكر نبذة موجزة عن جميع الملاحم ، التي شكلت مصدرا رئيسيا لدراسة الجانبين التاريخي والأدبي ، في المدينة المنورة ، في حقبة هامة من أحقاب تاريخنا العلمي والثقافي في الجزيرة العربية.

الملحمة الأولى : التي أبدعها الشاعر «البيتي» ، تحت تأثير أحداث فتنة ١١٣٤ ه‍ ـ ١٧٢١ م ، وتتكون هذه الملحمة من أربعة وتسعين بيتا ، من بحر الكامل ، ويفتتح الشاعر ملحمته هذه قائلا :

المجد تحت ظلال سمر الذبل

وظبا القواضب والجياد القفل

الموريات العاديات ضوابحا

الصامتات الزافرات الجفل

١٨

والخوض في غمرات بطنان النوى

يوم التصادم في القتام المسبل

وتواتر العزمات في طلب العلا

والفوز في أقصى فيافي الهوجل

والفخر ما ترك الأعادي خشعا

رفل المحازم كالجياد العزل

بين القنا وورود أحواض الردى

لقوا العلاقم في تراقي الحوصل

لا عاش من ترضى المذلة نفسه

طوعا ، وعن شأو المفاخر يأتل

تعست حياة لا تشاب بعزة

غبراء بين مهابة وتذلل

العز أجمل ما اقتناه أولو النهى

والذل بالأحرار ليس بمجمل (٣)

الملحمة الثانية : التي أبدعها الشاعر «البيتى» تحت تأثير أحداث فتنة سنة ١١٤٨ ه‍ ـ ١٧٣٥ م ، وتتكون من أربعة وستين بيتا من بحر الطويل ، وقد افتتحها الشاعر قائلا :

قفوا تنظروا آثار ما صنع الظلم

وجوسوا خلال الدار تنبيكم الأكم

قفوا بالرسوم الدارسات فربما

تحققتم منها وما نطق الرسم

قفوا نشتكي ما قد أصاب فإنه

عظيم ، وإن الأمر حادثه ضخم

على كل دعوى فى الظلامة حجة

يصدقها التحريف والهدم والردم

ومنها أيضا :

سلوا فلسان الحال من كل مسلم

أصيب ببلوى ، عنده خبر جم

١٩

سلوا عن حديث الابتلا من بلى به

وأولى بنعت السقم من مسه السقم

سلوا كل درب بالمدينة ما الذي

لقينا ، فعند الدار من أهلها علم

سلوها عن الهتك الذي قد أصابها

قريبا ، فمن لقياه في وجهها وشم (٤)

الملحمة الثالثة التي أنشأها الشاعر تحت تأثير فتنة سنة ١١٥٥ ه‍ ـ ١٧٤٢ م ، وتتكون من مائة وثلاثة وستين بيتا من بحر البسيط ، وسوف نرجىء الاستشهاد ، أو الحديث عنها ، لأنها الملحمة التي سوف نختارها كمثال لدراستنا الفنية عن قصيد الملحمة ، وهذا موضوع الحلقة القادمة من هذه الدراسة ـ بتوفيق الله.

الاحالات :

__________________

(١) السيد جعفر البيتي العلوي السقاف ، ولد في المدينة سنة ١١١٠ ه‍ ـ ١٥٩٨ م ، من أشهر شعراء الجزيرة العربية في فترة القرن الثاني عشر الهجري ، لا يزال ديوانه الشعري مخطوطا ، وتوجد منه نسخ في مكتبة عارف حكمت بالمدينة ، ومكتبة المدينة العامة ، وطوبقبو سراي باستانبول ، وبمكتبة المرحوم السيد عبيد عبد الله مدني.

انظر ترجمته في «تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من أنساب «لعبد الرحمن الأنصاري ، تحقيق محمد العروسي المطوي. تونس ، ١٣٩٠ ه‍ ـ ١٩٧٠ م ، ص ٧١.

وفي هدية العارفين ، لإسماعيل البغدادي ، استانبول ١٩٥١ م ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، وفي الشعر الحديث في الحجاز لعبد الرحيم أبي بكر ، القاهرة ١٣٩٧ ه‍ ، ص ٦٩ ـ ٧٤.

(٢) انظر ترجمته في «فوات الوفيات» والذيل عليه لابن شاكر الكتبي ، تحقيق د. إحسان عباس ، بيروت ١٩٧٤ م ، ج ، ص : ٣٣٠ ، وفي «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» ليوسف بن تغري بردي ، (القاهرة) ج ٦ ، ص : ٢١٥ ، والأعلام ، لخير الدين الزركلي ، بيروت ، ١٣٧٦ ه‍ ، ج ٦ ، ص : ٥٤.

(٣) الأخبار الغريبة في ذكر ما وقع بطيبة الحبيبة ، للسيد جعفر بن حسين بن يحيى هاشم الحسينى المدني ، (مخطوط) ص : ٤ ، وهو الجزء الأول «دراسة وتحقيق» من رسالة تقدم بها الكاتب لجامعة مانشستر بالمملكة المتحدة لنيل درجة الدكتوراه في عام ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

(٤) المصدر السابق : ص ٢١.

٢٠