المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

الدكتور عاصم حمدان علي حمدان

المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

المؤلف:

الدكتور عاصم حمدان علي حمدان


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: نادي المدينة المنوّرة الأدبي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٢

(٣)

** أوردت ـ في الحلقة الثانية : من هذه الدراسة ـ نبذة موجزة عن جميع الملاحم الشعرية ، التي شكلت مصدرا رئيسيا لدراسة الجانبين : التاريخي ، والأدبي ، في حقبة القرن الثاني عشر الهجري ، ووعدت بدراسة تحليلية للملحمة الثالثة التي أنشأها الشاعر جعفر البيتي العلوي السقاف. تحت تأثير أحداث فتنة سنة ١١٥٥ ه‍ ـ ١٧٤٢ م. وتتكون الملحمة من مائة وثلاثة وستين بيتا من بحر البسيط.

وسوف نوطىء للدراسة التحليلية التي سوف تحاول الكشف عن الجوانب الفنية للملحمة ـ بنبذة قصيرة عن الوضع الإداري في المدينة ، في تلك الفترة ، والذي كان سببا وراء نشوب نوع من الحروب الداخلية التي استطاع الشعراء أن يستوعبوا أحداثها استيعابا جيدا ، مكنهم من الانتقال بها من مستوى الحدث التاريخي إلى مستوى العمل الفني ، كما سوف نعرض لأجزاء معينة من الملحمة نفسها.

** يبدو ـ من خلال المقدمة التوضيحية ،. التي كتبها مؤلف «الأخبار الغريبة فيما وقع بطيبة الحبيبة» ، لقصيدة السيد «البيتي» المذكورة ـ وجود سلطتين رئيسيتين تتنازعان إدارة شؤون المدينة (في القرن الثاني عشر الهجري).

إحداهما ؛ السلطة العسكرية بقيادة قائد عسكري يسمى «الأغا». وتتبع هذا «الأغا» قوة عسكرية كان مقرها «القلعة» التي كانت تقوم في المنطقة التي تعرف باسم «باب الشامي».

أما السلطة الأخرى فهي السلطة المدنية ، وكان يتولى شؤونها صاحب الوظيفة المعروفة باسم «مشيخة الحرم».

كما تشير المقدمة التوضيحية ـ نفسها ـ إلى حدوث مفاسد مالية من قبل بعض رجال القوة العسكرية. مما دفع بالسلطة المدنية أن تتدخل في البحث عن المشاكل المترتبة على مثل هذه المفاسد ، مطالبة بإبعاد الشخصيات المتوسطة.

٢١

وكانت هذه المطالب سببا في نشوب القتال بين الفريقين ، وتوسعت دائرة هذا القتال لتشمل ـ في المرحلة الأولى ـ الأفراد العاديين في المجتمع ، ثم ـ في مرحلة ثانية ـ قبيلة «حرب» التي تقطن بعض المناطق المحيطة بالمدينة ، وقد اتخذت هذه القبيلة موقفا محددا من الطائفتين المتقاتلتين.

** لا بد أن يكون لمبدع القصيدة «السيد البيتي» موقف معين من الأحداث الدامية التي كان يشهدها مجتمعه ، وتمتد آثارها ـ كما ذكرنا ـ إلى الأفراد الذين لا ينتمون إلى إحدى المجموعتين المتصارعتين.

ولعل الشاعر استطاع أن يقدم ـ مدفوعا بحبه لهذا المجتمع ـ صورة حية للحالة التي أصبحت عليها «المدينة» بعد أن شوهت وجهها تلك الحروب الدامية ، ولهذا نجده يفتتح ملحمته بمقدمة يرثي بها أرض الهجرة والايمان. وهي مقدمة تتكون من ثلاثة وعشرين بيتا ، يقول الشاعر في هذه المقدمة الحزينة :

بكى على الدار لما غاب حاميها

وجر حكامها فيها أعاديها

بكى لطيبة إذ ضاعت رعيتها

وراعها بكلاب البر راعيها

بكى لمن هاجروا بالكرة وارتحلوا

عنها ، وكانوا قديما هاجروا فيها

واها لكربتها ، واها لغربتها

واها لجائعها ، واها لعاريها

واها لحالي لما قمت أنشدها

الدار أطبق إخراس على فيها

يا دمنة سلبت منها بشاشتها

وألبست من ثياب المحل باقيها

وقفت فيها أعزيها لكربتها

اعجب على جلدي أني أعزيها

فمن معينى بأحزان يضاعفها

على؟ من لعيوني؟ من يواسيها؟

٢٢

يا صاح ناد البواكي وابك أنت معي

ولا تصبرن نفسي. لا تسليها

ما مثل طيبة ، ما مثل الذي لقيت

من الأسى ، فبمن ترجو تآسيها

حاشا لمختلف الأملاك من غير الد

نيا وما صنعت فيها لياليها

بأبي الفداء لها من كل حادثة

لو كان ينفعها أني أفديها

وغاية الجهد أن أبكي لها أسفا

حتى تجف دموعي في مآقيها

كان التغزل في جيران ذي سلم

واليوم قد كثرت فيها مراثيها

هي المدينة أمست بعد عزتها

كسيرة ، غاب عنها اليوم حاميها

ويختتم الشاعر مقدمته الحزينة بهذا البيت :

أشد دار خرابا لا عمار له

دار أتى هدمها من كف بانيها

لقد أنشد «البيتي» قطعة شعرية تتردد ـ في مقاطعها ـ عبارات البكاء والحزن ، وكأنه يبحث ـ من خلال هذه العبارات ـ عن أجوبة لأسئلته الحائرة.

فهل كان الشاعر يطمح ـ من خلال هذه المقدمة البكائية ـ إلى إثارة انتباه السلطات العثمانية ، التي كانت مشغولة بهمومها الخاصة عن مثل هذا الوضع السيىء ، الذي أصبح المجتمع المدني يعايشه طيلة قرن كامل من الزمن؟ أم أن الشاعر الذي كان يعرف ـ مسبقا ـ بموقف السلطات المحلية وغيرها ، البعيد ـ كما يصوره الشاعر ـ عن أي سمة من سمات التعاطف والتجاوب مع آلام المواطن ، الذي كان يصطلى ـ وحده ـ بآثار تلك المشاكل الاجتماعية ، والتي عملت على إضعاف نفسيته ، وأبعدته عن دائرة العمل والانتاج.

فكان ـ عليه ـ أي على الشاعر ـ أن يبحث عن القارىء ، أو المستمع ، خارج إطار السلطة ، ذلك الفرد المسلم الذي كانت تفصله

٢٣

المسافات عن هذه الأرض المقدسة ، ولكنها تعيش في وجدانه ، ذلك الوجدان ، الذي تغذى بأحاديث المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الداعية إلى احترام قدسيتها ، وشد الرحال إلى مسجدها ، وعدم التورط في إيذاء أهلها.

ولعل الشاعر نجح في إيصال صوته ـ عبر هذه القرون الطويلة ـ إلينا وتبقى مصداقية ما كان يريد أن يبلغه بصوته الشعري أمرا آخر يحتاج منا إلى البحث عن قرائن أخرى تؤيده أو تنقضه ، وخصوصا أن الشاعر يشير ـ في ملحمته ـ إلى استخدام جماعات القتال للحرم النبوي الشريف ، كمنطلق لهذه الحرب الآثمة التي يبدو أنها لم تحترم مقتضيات المكان والزمان.

يقول الشاعر في ذلك :

لا جمعة ، لا صلاة ، لا أذان بها

إلا البنادق ترمى في نواحيها

فصاحت الناس شرع الله وابتدروا

إلى الخصومة قاصيها ودانيها

وبادروا مجلس القاضي لينظر في

فصل القضا ولنار الحرب يطفيها

فصدر الحاكم الشرعي نحوهم

رسالته تقتضى الدعوة وتحويها

فلم يردوا خطابا عن رسالته

إلا الرصاص جوابا في حواشيها

وترسوا مسجد الهادي ، وثار به

بين الفريقين حرب لست أحكيها

فيا لها زلة منهم وفاقرة

جاءت على رغم مفتيها وقاضيها

لقد طغى صوت الحرب على صوت العقل والحكمة ، فلم يستمع المحاربون إلى قول الشرع في القضايا ، التي كانت سببا في ذلك القتال ، الذي احتدم ، وخلف وراءه دماء تراق ، ونفوسا تتألم.

بل كان على المجتمع ـ أيضا ـ أن يقع تحت تأثير طائلة النزوات الشخصية المدفوعة بإغراءات السلطة ، كان على الناس أن يتفرغوا لهذه

٢٤

الحرب ستة أشهر أخرى ، فلربما كان عند أمير الحاج الشامي ، الذي تعود الناس فصله في القضايا المعضلة ، حل شاف للمأساة ، التي ظلوا يعانون منها ردحا من الزمن.

وعند ما ضاقت الحيلة بهم ، لم يجدوا بدا من أن يقارنوا مأساتهم تلك بالمآسي الأخرى ، التي شهدتها الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل. وتلك المقارنة ، التي يعقدها شاعرهم «البيتي» تعكس لنا دلالات عديدة منها ؛ قدرة الشاعر على قراءة التراث قراءة واعية ، واستخدامه له استخداما موفقا في الربط بينه وبين الحاضر المأساوي ، الذي كان يعيشه إنسان تلك البيئة. في القرن الثاني عشر.

ثم نلمس ـ أيضا ـ أن الشاعر قصد من وراء هذا الربط بين الصور المتشابهة. في الماضي والحاضر ، تنبيه الدولة العثمانية إلى النتائج المترتبة على استمرار ذلك الصراع في مجتمع المدينة من حيث تأثيره ـ سلبيا ـ على مسيرة العثمانيين الذين وثقوا ارتباطهم ـ في بداية الأمر ـ بتعاليم الدين الإسلامي ، واحترام مقدساته ، والعطف على رعاياه.

** لقد قال لهم ـ أي للعثمانيين ـ ما سوف يسمعونه ، بعد قرن من الزمن ، في القرن الثالث عشر الهجري ـ من شاعر آخر من شعراء المدينة وهو «إبراهيم الأسكوبي» الذي نبه الدولة العثمانية إلى المخاطر العظيمة التي تحيط بها من جراء بعدها عن العقيدة الإسلامية ، وارتمائها في أحضان الغرب.

فماذا قال جعفر البيتي؟

يا للكبائر من أدعو فيسمعني

حتى أصرح عنها أو أكنيها

من للمدينة إن غصت بريقتها

ومن يجيب نداها ، من يلبيها؟

ما أفقر الصيد إلا بعد مسلمة

أعطت محاسنها الدنيا لماضيها

مصيبة عرضت للمسلمين غدت

عن «كربلاء» و «يوم الدار» تلهيها

عادت لنا سيرة التيمور في حلب

أيام صبيانها شابت نواصيها

٢٥

ويومه وهو في بغداد يهتكها

ويوم جنكيز بالتاتار يرميها

وبخت نصر من قبل الذي ذكروا

في مصر والقدس تقريبا وتشبيها

ويوم تهماز ما أدراك ما صنعت

في شاه جهان الموالي مي مواليها

شأن عظيم مضى في الجور أعظمه

شأن المدينة من أيدي شوانيها

حوادث ما رآها «دانيال» ولا

قصت ملاحمه شيئا يساويها

يا شدة ليس إلا الله يكشفها

وغمة ليس إلا الله يجليها

أين الحجاز ـ وأين الروم تسمع لي

صوتي ، إذا قمت من كربي أناديها؟

يا آل عثمان عين في ممالككم

مطروفة ، لطمتها كف واليها

عين لدولتكم ، عين لدينكم

قد كان لو لا دفاع الله يعميها

أمنتموها فضاعت عنده سفها

ويل الأمانة ممن لا يؤديها

نمتم ولا نوم عبود الذي ذكروا

عن المدينة ، حتى قام ناعيها

أحوالنا علمتها الصين واعجبا

من كان يمنعها عنكم ويثنيها

تالله لو كان هذا الدين مبدؤه

على التساهل والإغفال تمويها

ما صدق الرسل في الدنيا مصدقها

ولا جبي ساحة الإفرنج جابيها

سلوا ففي كي قباد الفرس معتبر

يغني الملوك إذ شاءته تنبيها

٢٦

وأين تلك من الدار التي شرفت

على الممالك إعظاما وتنزيها

ما أحوج الأرض للفتح الجديد فقد

عم البلا وطغى طوفان عاصيها

من باب مصر إلى بصرى إلى عدن

إلى العراق يمانيها وشاميها

ومن سواكم وعين الناس ترقبكم

قد وجهوا لكم الآمال توجيها

بخدمة المصطفى أسلافكم شرفت

على الملوك ، وهناها مهنيها

تميمة علقت في جيد دولتكم

تذب عنها أعاديها وتحميها

عضوا عليها وصونوها ، فإن سقطت

تفزعت ، وغدت لا شىء يشفيها

وإن تروا حادثا في الدهر أو قلقا

من العدا فهو من عقبى تناسيها

لم يختم الشاعر قصيدته إلا بعد أن باح لنا بتلك الأحاسيس الرقيقة ، التي تحملها نفسه عن البلد الذي أحب ، ووضع ـ أمامنا ـ كل تصوراته لما يجب أن يكون عليه مسؤولية الحاكم من حيث التيقظ والقوة حتى لا تفقد الدولة هيبتها ، وتصبح مطمعا لأعدائها الذين يتربصون بها ، وهو ما حدث بعد أكثر من قرن من الزمن ، عند ما تقاسم الإفرنج ميراث الدولة العثمانية ، وكان ذلك نتيجة طبيعية للتساهل والتغافل ، الذي صاحب امتداد الدولة في مناطق كثيرة ومتباعدة.

ولم يفرغ السيد «البيتي» من ملحمته إلا بعد أن سكب بين سطورها نفسا شعريا جميلا ، قوامه موهبة الشاعر القوية. وثقافته التراثية الواسعة. ويأتي ـ في مقدمتها ـ العبارة اللغوية ، التي وفّق في تطويعها لتكون وسيلة نطل ـ من خلالها ـ على أحداث التاريخ ، دون أن نفقد استمتاعنا بروائها الشعري ، وسوف نفرغ لدراسة ذلك في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ عند دراسة البناء الفني لقصيدة الملحمة.

٢٧

(٤)

البناء الفني لقصيدة الملحمة

(١)

** لقد استخدم الشاعر السيد البيتي عددا من الوسائل الفنية ، في ملحمته التي استعرضنا ـ في الحلقة السابقة من هذه الدراسة ـ الأجزاء المكونة لبنائها : وهدفنا ـ هنا ـ هو الإشارة إلى تلك الوسائل ، ومدى نجاحه في تطبيقها ضمن إطار عمله الفني.

عند ما نوجه اهتمامنا إلى الطريقة التي اهتدى إليها الشاعر في اختيار كلمات قصيدته ، يجب أن نأخذ في اعتبارنا أنه ـ أي الشاعر ـ كان يسعى ، من خلال ملكاته الشعرية ، أن يبلغ مستوى معينا في تصوير حجم المشاكل المعقدة ، التي كان يعاني منها مجتمع المدينة المنورة ، في القرن الثاني عشر الهجري ، ولهذا فهو ـ في البيت الأول من افتتاحية ملحمته ـ يشير إلى المدينة بكلمة «الدار» حيث يقول :

بكى على الدار لما غاب حاميها

وجرّ حكامها فيها أعاديها

مشبها البلدة بالدار ، التي تستحق البكاء بسبب غياب صاحبها أو حاميها ثم نراه ينعتها ـ في البيت الثاني «بطيبة» ـ وهو اسم من أسمائها ، الذي اكتسبته بعد هجرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى ربوعها ، وحيث بدأت تتشكل ملامح تاريخها الإسلامي المتميز :

بكى لطيبة إذ ضاعت رعيتها

وراعها بكلاب البر راعيها

وكأنه من خلال هذا الاسم «طيبة» يرسم لنا صورة الأمن والسلام ، الذي كانت تعيشه البلدة على مر العصور والأزمان ، أصبح ـ فجأة ـ معرضا للخطر والتغيير بسبب نوع غريب من الأعداء ، وهو يلمح ـ فقط ـ إليهم دون تصريح بكلمة «راعيها» وقد أشرنا ـ في الحلقة السابقة ـ إلى أن مصدر السلطة في

٢٨

المدينة كانت تشكله مجموعة الأغوات والحامية العسكرية التركية : وهم من ينعتهم «بالأجانب» في موضع آخر من القصيدة ، حيث يقول :

سوسوا البلاد بعين من نفوسكم

دعوا الأجانب ، أعطوا القوس باريها

وكلمات راعي «ورعية» التي استعملها الشاعر ـ في البيت السابق ـ تشكل لنا ـ بصورة رمزية ـ صورة شعرية للسكان الآمنين ، الذين وقعوا في شراك عدوين ، أحدهما من الداخل ، والآخر من الخارج.

وعند ما نأتي إلى البيت السادس من مقدمة القصيدة ، والذي يقول فيه :

يا دمنة سلبت منها بشاشتها

وألبست من ثياب المحل باقيها

نجد الشاعر يدعو مدينته باسم «دمنة» والجملة التي عقبت كلمة «دمنة» توضح لماذا استعمل الشاعر هذه الكلمة الدالة على الأثر ، لقد فقدت البلدة سمات فرحها أو سرورها ، أو تم اغتصاب مظاهر الحياة فيها لتحل محلها صورة أخرى ـ كما عبر الشطر الثاني من البيت وهي صورة البؤس والشقاء والحرمان ، ولقد كان لبناء الفعل للمجهول في قوله : «سلبت» و «ألبست» ، دور في تكثيف الصورة الشعرية ، وما ترمز إليه من إيحاءات ، كان يهدف الشاعر إلى التأثير بها في نفوس قارئيه عن الوضع السيء للبلدة ، بعيدا عن المباشرة والتقريرية.

(٢)

** لقد كان «البيتي» واعيا بأهمية العبارة المجازية ، ودورها في التأثير على نفس القارىء ، إلا أن نوعية هذه العبارة من حيث قوتها وأصالتها هي التي تجعلنا نصل إلى رأي في تحديد شاعرية المبدع. كما يعبر عن ذلك الناقد «هيربيرت رييد» (HERBERT READ) في مجموعة مقالاته النقدية المعروفة ، وهذا يدفعنا إلى أن نقف عند الأسلوب الشعري الذي عمل الشاعر ، من خلاله ، على البرهنة على غفلة الحكام العثمانيين.

لقد نأى الشاعر عن المباشرة في خطابه الشعري لهؤلاء الحكام واعتمد

٢٩

على الصورة البلاغية ، التي تكتفي بتصوير الأثر عن طريق ترك الحرية للقارىء لاستنتاج الحقيقة ، أو الحكم على القضية التي كان يسعى الشاعر ـ بوعيه العميق ـ أن يبرهن عليها ، من خلال الصورة البسيطة المنتزعة من التجربة الإنسانية.

يقول الشاعر رامزا إلى تغاضي العثمانيين عن المفاسد ، التي كانت تتعرض لها البلدة الطاهرة :

يا آل عثمان عين في ممالككم

مطروفة لطمتها كف واليها

(٣)

** ينوع الشاعر في وسائله الفنية ، التي أحكم من خلالها البناء الشعري لقصيدته فهو إضافة إلى وعيه بأهمية العبارة المجازية والبسيطة في الوقت نفسه ، في رسم أبعاد الأجواء السياسية والاجتماعية للمدينة في تلك الفترة ، نجده ـ أيضا ـ لا يغفل عن الموروث الشعري ، ذي الصلة الوثيقة بالتاريخ الإسلامي للبلدة ، فهو يشير إليه عن طريق استعارة بعض عباراته أو تضمينها ، ولكن هل هو التضمين غير الواعي؟ أو هي الاستعارة الزائفة التي لا تتعدى الصور والأشكال؟

أعتقد أن الشاعر وفق إلى ـ حد ما ـ في أن يستفيد من بعض الأساليب الشعرية القديمة ، وذلك لوعيه المتمثل في حسن استخدامه لها. فلئن قال الشاعر «البوصيري» شعرا يتشوق فيه إلى ديار الإسلام ، ويتغنى بربوعها في وقت كانت تنعم هذه الديار ـ فيه ـ بالسلام والأمن :

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

فإن الشعر في عهد «البيتي» يتوجه لرثاء المواطن ، التي كانت تتجاوب بكل طمأنينة وسرور مع شعر المدح والحنين.

يقول «البيتي» موضحا الفرق بين عصرين مختلفين من خلال الفرق بين نوعين متغايرين ـ أيضا ـ من الشعر ، شعر قاله الأقدمون غزلا ، وشعر يقوله شاعرنا رثاء :

٣٠

كان التغزل في جيران ذي سلم

واليوم قد كثرت فيها مراثيها

(٤)

** ومن وسائل الشاعر الفنية : سعيه في أن يتمثل بحوادث التاريخ ، وهو تمثل يربط فيه الشاعر بين الوضع الذي آلت إليه البلدة في عصره ، وبين الوضع الذي سبق أن مرت به في عصور سابقة ، أو هو تمثل يحاول من خلاله ـ وبطريق غير مباشر ـ أن يعقد مقارنة بين الحكام ، الذين يتغافلون ـ عن عمد أو غير عمد ـ عن مجريات الأحداث في المدينة ، وذلك التغافل الذي أقدم عليه حكام سابقون ، مما تسبب في ضياع مقاليد الأمور من أيديهم ، وهو نفس المسار الشعري الذي سلكه الشاعر من حيث بعده عن المباشرة في الصياغة الشعرية ، أو في الربط بين الأمور ومجريات الأحداث ، محبذا في ذلك الأساليب الأكثر قدرة في التأثير في القارىء أو الشخص المسؤول على حد سواء.

ولا أظن أن الشاعر لجأ إلى ذلك خوفا ورهبة. ولكن أميل إلى أن وعيه وعمق ثقافته ، دفعاه لأن يختار لعمله الشعري من الأساليب ما جعله متميزا عن كثير من الأعمال الشعرية ، التي انتجها شعراء العصر العثماني.

يقول الشاعر في معرض تصويره للأهوال ، التي شهدتها المدينة من خلال أحداث القرن الثاني عشر ، ويقارنها في الوقت ـ نفسه ـ بتلك الأحداث التي جرت على أرض المدينة كيوم مقتل الخليفة «عثمان بن عفان» رضي‌الله‌عنه ، في العصر الإسلامي الأول ، وهو يوم الدار ، أو في بلاد الإسلام الأخرى ، كالقدس ، وبغداد ، وكربلاء ، وحلب ، ومصر :

مصيبة عرضت للمسلمين غدت

عن «كربلاء» و «يوم الدار» تلهيها

عادت لنا سيرة «التيمور» في حلب

أيام صبيانها شابت نواصيها

ويومه وهو في بغدد يهتكها

ويوم «جنكيز» بالتاتار يرميها

٣١

وبخت نصر من قبل الذي ذكروا

في مصر ، والقدس ، تقريبا وتشبيها

(٥)

** إضافة إلى قدرة الشاعر على قراءة التاريخ الإسلامي قراءة واعية مكنته من استخدامه استخداما موفقا ـ فإنه عمل على تدعيم بناء ملحمته الشعرية ـ أيضا باستخدام المصطلحات الإسلامية الخاصة بأمثال : شرع الله ، أصحاب بدر ، الأنصار ، أو ذكر بعض الأماكن ، التي تثير شعورا دينيا خاصا عند القارىء المسلم. كمنبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروضته الشريفة :

وأصبح الحرم العالي وروضته

كالجبخانة بالبارود يحشيها

كما أن الشاعر انطلاقا من ثقافته الدينية ، عمل على تضمين قصيدته معاني بعض الآيات القرآنية ، عند حديثه عن سمات أولئك المعتدين على حرمة المدينة ومسجدها :

وجاءهم كل من في قلبه مرض

يسعى بعلته معهم يداويها

وهو المعنى المستفاد من قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)(١)

(٦)

** وإذا كانت ثقافة الشاعر الدينية انعكست على أبيات هذه الملحمة الشعرية ، فإن ثقافته بالأدب العربي ، أو اللغة الفارسية ، كانت واضحة ـ من خلال تضمينه لبعض الأمثال العربية والفارسية ـ فعند ما أراد ـ مثلا ـ أن يصور غفلة الحكام العثمانيين ، وتغاضيهم عن حماقات ولاتهم في الأرض المقدسة ، نجد ذاكرته تلجأ إلى المثل العربي القائل : «نام نومة عبود أو «أنوم من عبود» ويضمنه قصيدته قائلا :

٣٢

نمتم ولا نوم عبود الذي ذكروا

عن المدينة حتى قام ناعيها

وعند تعريضه بالفئة ، التي عمل الشاعر ـ من خلال ملحمته ـ على نقد تصرفاتها السلبية تجاه المدينة ، ومقارنتها بالفئة الناجية التي دافعت عن البقعة المقدسة ، فإننا نجده يستعمل المثل الفارسي : «نمك حرام» أي : الشخص الذي ليس جديرا بالمعاشرة ، والمخالطة ، وليس مكانا للثقة والاعتماد ، وكان تضمينه لهذا المثل على النحو التالي :

هم المحامون دون الدار لا فئة

«نمك حرام» وتكفيها مخازيها

(٧)

** بعد هذه الدراسة التي استعرضنا فيها مضامين العمل الشعري للسيد جعفر البيتي ، وحللنا جوانب من البناء الفني لهذا العمل ، مراعين أهميته ضمن إطار الأعمال الشعرية الأخرى ، في فترة القرن الثاني عشر الهجري ـ الثامن عشر الميلادي ، وكذلك صلته بالأعمال الأخرى ، التي ربما شابهته في اتجاهاتها أو بنائها ، سوف نبتدىء بطرح السؤال الآتي :

هل إبداع السيد «البيتي» في ملحمته الأخيرة يدخل ضمن إطار الأعمال الشعرية الطويلة؟

إذا ما أخذنا في الاعتبار موضوع القصيدة كأساس في تحديد طول القصيدة ، فإنه اعتمادا على رأي الناقد الخليل بن أحمد الفراهيدي ، هناك عدد من الموضوعات التي تكون ملائمة لمعالجة شعرية طويلة ، مثل موضوعات الترهيب والترغيب ، أو الموضوعات التي تستوعب فكرة حسم الخلافات الناشئة بين القبائل ، مثل قصائد زهير بن أبي سلمى ، والحارث بن حلّزة.

اعتمادا على هذا المقياس الخليلي ، فإنه يمكننا إدخال قصيدة السيد البيتي ضمن الإطار الملحمي ، لأن موضوعها يتناول أحداث التاريخ الاجتماعي للمدينة المنورة ، في فترة القرن الثاني عشر الهجري ، حيث حاول

٣٣

الشاعر من خلال قصيدته أن ينبه السلطات المسؤولة في استانبول ، أو الحجاز للقضاء على الخلافات الموجودة بين فصائل معينة في المجتمع وإعادة سمة الإسلام والطمأنينة إلى المجتمع.

الناقد الإنجليزي (HERBERT READ) هيربيرت رييد ، يعتبر المقياس الكيفي أساسا للتفريق بين القصيدة الطويلة ، والقصيرة ، التي غالبا ما تدعى غنائية (LYRIC) فهذه الأخيرة تجسم ـ من وجهة نظر الشاعر ـ موقفا عاطفيا فرديا أو بسيطا ، قصيدة تعبر مباشرة عن إلهام أو حالة مستمرة ، أما القصيدة الطويلة فهي التي يمكن أن تعبر عن فكرة واحدة غالبة تكون ـ في ذاتها ـ وحدة عاطفية. (٢)

وإذا ما أخذنا قصيدة السيد البيتي ، التي نحن بصدد دراستها ، نجد الشاعر قد خصصها لموضوع واحد ، وهو طبيعة الخلاف في مجتمع المدينة خلال حقبة القرن الثاني عشر الهجري ، وهذا الموضوع يكاد يسيطر على تطور القصيدة الطبيعي ، من خلال مراحل الحدث ، ولقد استطاعت القصيدة استيعاب هذه المراحل استيعابا جيدا.

وهذه المراحل التي يمكن ملاحظتها في البحث عن العوامل التي كانت خلف نشوب القتال بين الأطراف المتنازعة ثم ما كان من أمر المفاوضات بين هذه الأطراف ، ثم تطور الأمر إلى القتال المفاجىء أثناء الليل ، ثم كيف تم الاتصال بين شيخ الحرم ، وشيخ قبائل حرب ، والذي أدى إلى دخول هذه القبيلة الى المدينة لمساندة هذا الحاكم ، الذي جعل من الحرم النبوي الشريف مركزا لقيادة الهجوم ضد أعدائه من الأطراف الأخرى.

وعلى الرغم من الموضوعات المتعددة التي عالجتها القصيدة إلا أنه من الواضح أن التجربة الشعرية ، التي تنتظم أجواء القصيدة هي تجربة الغضب واليأس ، وهذا ما يجعلنا نصل إلى القول بأن قصيدة السيد البيتي هي قصيدة طويلة بالمعيار الشعري الحديث (٣).

في الحلقة الأولى من هذه الدراسة ، التي خصصتها لمناقشة تعريف الملحمة بين الأدبين العربي والأوروبي ، رأينا أن المستشرق «د. س. مرجليوث» يدعى أن القصائد التاريخية الملحمية في الأدب العربي تمت صياغتها في بحر الرجز ، لأنه الوحيد الذي يتلاءم مع هذا الفن الشعري. (٤)

٣٤

التحليل العروضي لقصيدة السيد البيتي يجعلنا نؤكد أن الشاعر نأى بقصيدته عن هذا البحر ـ أي : الرجز ـ واختار بحرا شعريا آخر لصياغتها ، وهو : البحر البسيط ، وهو بحر يتسع ـ مثل الطويل ـ للحماسة والتشابيه والاستعارات ، وسرد الحوادث. (٥)

ولقد استطاع الشاعر البيتي بلوغ مستوى شعري جيد في وصف حوادث الحقبة التي عاشها ، دون الهبوط إلى المستوى النظمي ، الذي غالبا ما يصاحب مثل هذه التجارب.

لقد كان الجانب الموسيقي المتناغم هو الذي يلامس أذن القارىء خلال قراءته لتفاصيل هذه الملحمة.

وفوق هذا فقد استطاع الشاعر أن يستخدم أدواته الفنية ، بعيدا عن سمات الصنعة والتكلف ، وكانت هذه الأدوات عاملا هاما تساعد القارىء في التحليق في الأجواء التي أراد له الشاعر أن يرتفع إليها ، وأن يتخيل ـ بكل بساطة وتلقائية ـ حوادث مضى عليها حوالي قرنين ونصف من الزمن. إلا أن الشاعر لم يسلم من الوقوع في بعض الأخطاء الفنية ، وخصوصا من حيث انصياعه ـ أحيانا ـ للضغوط الاضطرارية ، التي تشكلها القافية ، وهو أمر غير مستبعد في قصيدة تتكون أبياتها من مائة وثلاثة وستين بيتا.

تظهر ملحمة السيد البيتي : كقصيدة بلغت مستوى جيدا من الصياغة اللغوية ، والخصائص التركيبية ، واستطاعت أن تصور لنا بهذه المقدرات الفنية الحياة الإنسانية في صراعها الأبدي للحفاظ على القيم الأصيلة ، في مجتمع تعرضت جوانب الحياة فيه لنوع من التصادم المنفعي أو الشخصي ، ولكنه التصادم الذي يتبعه الاستقرار ، ويتميز ـ بعد معركته ـ الجيد من الردىء.

لكن بناء القصيدة الملحمي عند السيد البيتي لم ينتج عنه ظهور بطل متميز عن بقية الأبطال ، من حيث قوته أو شجاعته ، وذلك من خلال الأحداث التي عرضتها القصيدة ، ولعل ذلك ناتج من أن القصيدة كانت ترصد أحداثا واقعية ، وليست أحداثا متخيلة أو أسطورية وإذ كان تشكيل صورة بطل متميّز ، (٦) من خلال أحداث القصائد الملمحية في الآداب الأخرى ، يعد أمرا أساسيا في بناء تلك الملاحم ، وتميز ملامحها. إلا أن ذلك لا يمنع القول من

٣٥

إن ملحمة «البيتي» تعتبر إضافة قوية وجادة في تاريخ قصيدة الملحمة من منظور النقد العربي.

لقد كانت محاولة موفقة من «البيتي» وغيره من شعراء المدينة المنورة ، في القرن الثاني عشر ، وهي أن يحاولوا نفض الغبار عن هذا النوع المتميز من الشعر.

ولا شك أن المحاولة تكتسب أهميتها ـ كما ذكرنا في الحلقة الثانية من هذه الدراسة ـ أنها أتت في عصر من العصور ، التي اصطلح النقاد على تسميتها بعصور الركود الفكري والأدبي ، مع أنه لو توجهت المحاولات لدراسة أدب هذه الحقبة توجها جادا لتغيرت مفاهيم كثيرة لا تستند إلى أسس نقدية قوية ، تحدد المسارات الأدبية والاتجاهات الشعرية تحديدا واضحا ومتميزا.

الاحالات :

__________________

(١) Herbert Read : Essays in Litorary Criticism ٢ nd, ed London. ١٥٩١. P. ٨٩

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٠.

(٣) الدكتور يوسف حسين بكار ، بناء القصيدة في النقد العربي القديم ، ط ٣ ، بيروت ١٤٠٣ ه‍ ، ص : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٤) ملحق التراث ، العدد الحادي والعشرون ، من السنة الحادية عشرة جريدة المدينة ، الخميس ٢٣ جمادى الآخرة ، ١٤٠٨ ه‍.

(٥) جورج غريب ، سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة ، بيروت ، ص ٣٤.

(٦) C.M.Bowra.Herolc Poetry ,London ٢٥٩١ ـ P.٩

٣٦

من معالم الفكر والأدب

في المدينة المنورة

لقد أعطت الهجرة النبوية للمدينة المنورة ، وما رافقها من احتضان أهلها للعقيدة الإسلامية ، وتفانيهم في الدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه السامية في جميع أقطار الأراضي ، أعطتها كل تلك المعطيات الحضارية والخصائص الثقافية التي عرفت بها على مر العصور الإسلامية وحتى بعد أن فقدت المدينة البلد مركزها السياسي ، حيث انتقل مركز الخلافة إلى دمشق أولا ، ثم إلى بغداد ثانيا ، فإنها لم تفقد ذلك الدور العلمي المتمثل في توجه أهل العلم والمعرفة إليها كلما احتاجوا إلى معرفة أوسع بالدين وصاحب الرسالة ، وبالأحكام والحديث والسنن والتفسير وأحاديث الدعوة الإسلامية الأولى وتفاصيل الهجرة والمغازى ، هذا الجو العلمي هو الذي تأسست في رحابه مدرسة المدينة برعاية الصحابي الجليل عبد الله بن العباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ وكان من روادها أيضا بعض من أبناء الصحابة الذين تخصصوا في رواية التاريخ والمغازي ونذكر منهم : سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي ، وسهل بن أبي خيثمة المدني الأنصاري وسعيد بن المسيب المخزومي ، وأبان بن عثمان بن عفان ، وعروة بن الزبير بن العوام ، وقد تلا هذه المجموعة الأولى جيل ثان برز فيه عدة علماء منهم عبد الله بن أبي بكر بن (ابن حزم) ، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، وأبو روح يزيد بن رومان الأسدي المدني ، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (١) ـ رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

وسنقف في دراستنا هذه وقفات عابرة عند بعض الشخصيات الفكرية والأدبية التي اضطلعت بدور رائد في المجالات العلمية والثقافية بدءا من القرن الحادي عشر الهجري فهي الفترة التي تحتاج إلى قدر كبير من البحث والدراسة والتحليل لما أصابها من إغفال ولحق بها من نقص. وما ذلك إلا لوقوعها في فترة ما يسمى بعصور الانحطاط الفكري ، مع أن الشواهد التاريخية تثبت أن المدينة ممثلة في مسجدها النبوي الشريف ظلت تؤدي

٣٧

دورا هاما في نشر العلم والثقافة الإسلامية ، وليس أدل على ذلك من بروز عالم متمكن في علوم الشريعة الإسلامية وهو الشيخ إبراهيم بن حسن ابن شهاب الدين الكردي الكوراني (١٠٢٥ / ١١٠٣ ه‍). الذي تتلمذ على أحد العلماء المجاورين بالمدينة وهو الشيخ أحمد القشاشي ثم درّس بالمسجد النبوي ، وتلقى العلم عنه عدد كبير من أبناء الأمة الإسلامية ، وترك ثروة علمية تقدر بما يزيد على مائة كتاب كما يذكر المؤرخ المرادي. (٢) إضافة إلى ذرية صالحة حملت العلم عنه ، وكان منهم الشيخ محمد سعيد بن إبراهيم الكوراني (٣) (١١٣٤ / ١١٩٦ ه‍) والشيخ محمد أبو الطاهر الكوراني (٤) (١٠٨٥ / ١١٤٥ ه‍) وقد أخذ العلم عن هذا الأخير العلامة المجدد الشيخ ولي الله الدهلوي ـ صاحب : «حجة الله البالغة» الذي استقر بالمدينة في الفترة ١١٤٣ / ١١٤٥ ه‍ ، وكان ملازما طوال تلك الفترة للشيخ أبي الطاهر الكوراني. (٥)

كما حفل الحرم النبوي الشريف في القرن الثاني عشر الهجري بحلقاته العلمية المتعددة. ومن هذه الحلقات ما كان مختصا بعلم اللغة والأدب مثل حلقة الشيخ محمد بن محمد الطيب الفاسي الذي كان تلميذا من تلامذة الشيخ محمد أبي الطاهر الكوراني ، ولقد كان الفاسي إماما في اللغة العربية في وقته ، ومحققا متضلعا في كثير من العلوم كما تدل على ذلك قائمة الكتب التي تنسب إليه. كشرحه على معجم القاموس ، وشرح «نظم الفصيح» وشرح «كافية بن مالك» وشرح «شواهد الكشاف» للزمخشري. (٦)

كما حفل المسجد ـ في الفترة نفسها ـ بحلقات أخرى كانت مختصة بالحديث وعلومه ، ومنها حلقة الشيخ محمد حياة السندي (٧) الذي تلقى علومه من مشائخ عدة يأتي في مقدمتهم الشيخ أبو الحسن بن عبد الهادي السندي (٨) والشيخ محمد أبو الطاهر الكوراني ، ثم تصدى للتدريس بعد وفاة شيخه السندي ، وأثمرت هذه الدروس ، عن تأليفه لكتب هامة منها شرح الترهيب والترغيب ، ومختصر الزواجر لابن حجر ، وشرح الأربعين ، ولعله من المفيد هنا أن ننقل عبارات الدكتور عبد الله العثيمين أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض في كتابه (الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ حياته وفكره ـ عن الشيخ محمد حياة السندي) ، أما محمد حياة السندي فكان حجة في الحديث وعلومه صاحب مؤلفات مشهورة في هذا الحقل ، وكان أستاذا لعدد

٣٨

من الطلاب الذين أصبح بعضهم دعاة إصلاح أو شخصيات علمية مشهورة في مناطق إسلامية متعددة (٩) ويؤكد الدكتور العثيمين أثر الشيخين محمد ابن حياة السندي ، والشيخ عبد الله بن سيف (١٠) على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه‌الله ـ لا بالنسبة لتحصيله العلمي فقط وإنما بالنسبة لاتجاهه الإصلاحي أيضا.

ومن علماء المدينة في هذه الحقبة المؤرخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري (١١٢٤ / ١١٩٧ ه‍) الذي تلقى علومه في مدرسة الحديث التي نشأت في المدينة خلال القرن الثاني عشر الهجري ، حيث نعرف من ترجمته أنه تلقى العلم على الشيخ أبي الطاهر الكوراني ، وأبي الطيب السندي ، ومحمد بن الطيب الفاسي.

ينعته المرادي في كتابه «سلك الدرر» بمؤرخ المدينة في عصره (١١) كما يذكر عمر الداغستاني وهو معاصر له بالمدينة ، أنه ألّف تاريخا جمع فيه بيوتات أهل المدينة (١٢) وعبارة المرادي على قصرها تحمل دلالة واضحة على أهمية كتاب الأنصاري المسمى «تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من أنساب» فهو كما ذكر محقق الكتاب الأستاذ محمد العروسي المطوي ليس مجرد كتاب أنساب فقط كما يدل عليه عنوانه بل هو بالاضافة إلى ذلك يصور مجتمع المدينة في القرن الثاني عشر من مختلف أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يمكن الدارس وبخاصة الاجتماعي من تلمس العناصر والمعطيات للدراسة والتحليل والإنتاج (١٣).

لم يذكر الأنصاري سببا لتأليف كتابه التحفة إلا أنه يشير عند ترجمته لآل الأنصاري إلى أن المؤرخ السخاوي أهمل كثيرا في كتابيه «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة» و «الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع» من فروع هذا المجموع ـ أي آل الأنصاري ـ وذلك من قلة العلم بأصولهم وعدم تفصيلهم (١٤) ، ولعل هذا ما حدا بالأنصاري أن يؤلف كتابه هذا وكتابا آخرا في تاريخ أنساب أهل المدينة لا نعرف عنه إلا اسمه وهو «نشر كمائم الأزهار المستطابة في نشر تراجم أنصار طابة». (١٥)

والأنصاري من خلال الترجمة التي كتبها لنفسه يبدو أنه أحد أولئك العلماء الذين تجولوا في بعض البلاد العربية والإسلامية ، يحدوهم في ذلك الرغبة في طلب العلم والاستزادة من معطيات المعرفة ، فهو يسافر إلى بلاد

٣٩

اليمن سنة ١١٧٢ ه‍ ، ويسدون وقائع رحلته في كتابه المعروف باسم «قرة العيون في الرحلة إلى اليمن الميمون» كما يشير إلى اهتمامه بالأدب والشعر خاصة ، وذلك عند ذكره للزيارة التي قام بها لإمام اليمن «المهدي العباسي» حيث مدحه بقصيدة بائية في سبعين بيتا (١٦) ، وهذا يؤكد ما نذهب إليه من احتكاك علماء الحرمين الشريفين ـ في تلك الفترة ـ واتصالهم بنظرائهم في البلاد العربية والإسلامية وهو اتصال كانت له ثمراته المباركة وآثاره الحسنة.

وكتاب الأنصاري ـ التحفة ـ يعتبر دليلا واقعيا على خطأ الرأي الذي ذهب إليه بعض الباحثين وخصوصا المستشرق «فرانز روزنتال» (١٧) من أن كتابة تاريخ المدينة المنورة لم تحظ بالجانب السيري ، ويعتبر مؤلف الأنصاري حلقة في سلسلة من الكتب التي عنيت بتدوين تراجم رجال البلدة الطاهرة ، بدءا من القرن الثامن الهجري ، وكان من أهمها كتاب ابن فرحون (١٨) المعروف باسم «نصيحة المشاور وتعزية المجاور» (١٩) وكتاب «الأعلام فيمن دخل المدينة من الأعلام» للمطري (٢٠) ثم تبع هذين المؤلفين المؤرخ السخاوي (٢١) فألف كتابه «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة» (٢٢) وعني فيه بتراجم رجال المدينة منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عهد المؤلف وهو القرن التاسع الهجري.

وممن برز في المدينة من العلماء ، في حقبة القرن الثاني عشر ، محمد ابن زين العابدين بن عبد الله بن عبد الكريم الخليفتي (٢٣) وعالمنا هذا كما يذكر المرادي (٢٤) تلقى علومه الدينية على يد عدد من مشائخ العصر الأجلاء كالشيخ محمد حياة السندي ، والسيد إبراهيم أسعد وبعد أن تكونت مقومات شخصيته العلمية أخذ في تدريس العلوم مما هيأ له بعد فترة من المراس والدربة أن يتولى وظيفة الخطابة والإمامة كما تولى منصب الإفتاء في المدينة.

أما من حيث إنتاج الخليفتي العلمي فنجد مصدرا ككتاب تراجم أعيان المدينة ، يذكر أنه كان ناظما وناثرا (٢٥) أما البغدادي (٢٦) فإنه الوحيد بين المصادر التي ترجمت له نجده ينفرد بذكر مؤلفه في تاريخ المدينة ، ولا نجد ذكرا لهذا الكتاب عند معاصره عبد الرحمن الأنصاري وهو أمر غريب ، فلقد عني الأخير بتدوين معظم الآثار العلمية التي دونها أصحابها إبان القرن

٤٠