المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

الدكتور عاصم حمدان علي حمدان

المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

المؤلف:

الدكتور عاصم حمدان علي حمدان


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: نادي المدينة المنوّرة الأدبي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٢

العالمين العربي والإسلامي ، في تلك الفترة.

لقد بدأ المؤلف بذكر أهم الحوادث ، التي وقعت في الفترة الزمنية ١١١١ ـ ١٢٠٣ ه‍ ، ويمكن تصنيف هذه الحوادث ، التي يسميها الكاتب بالفتن ـ كما يأتي :

١ ـ الفتنة الواقعة بين أهل المدينة ، وبني علي ، سنة ١١١١ ه‍ ، ويكتفي المؤلف في سرد تفاصيل هذه الفتنة نثرا ، وبشىء يسير من الشعر الذي قيل أثناء تلك الفتنة.

ويذكر الأستاذ «عاتق بن غيث البلادي» نقلا عن ورقة من كتاب «الأخبار» قدمها له فضيلة الأستاذ «حمد الجاسر» أن هذه الواقعة كانت السبب الرئيسي وراء هجرة بني علي من المدينة إلى نجد. (٦)

٢ ـ فتنة العهد : التي وقعت زمن شيخ الحرم «أيوب أغا» بين الأغوات وأهل المدينة ، سنة ١١٣٤ ه‍ ، ويعتمد المؤلف ـ في وصف هذه الفتنة ـ على ملحمة الشاعر جعفر البيتي ، (٧) المكونة من أربعة وتسعين بيتا من بحر الكامل.

٣ ـ فتنة بشير أغا ، بين أغوات الحرم النبوي الشريف ، وأهل المدينة ، واشتركت فيها فروع من قبيلة حرب ، سنة ١١٤٨ ه‍ ، ويعتمد المؤلف ـ كذلك في وصف أحداث هذه الفتنة ـ على ملحمة الشاعر البيتي ، التي أبدعها تحت تأثير الفتنة نفسها ، والمكونة من أربعة وستين بيتا من بحر كامل.

٤ ـ فتنة عبد الرحمن أغا الكبير ، أو فتنة كابوس ، وذلك سنة ١١٥٥ ه‍ ، واعتمد المؤلف ـ كما يذكر ـ على أفواه ثقات الناقلين لأخبار هذه الفتنة. وكذلك على قصيدة السيد البيتي ، المكونة من مائة وثلاثة وستين بيتا من بحر البسيط ، وقصيدة أخرى للشاعر محمد سعيد سفر (٨) ، مكونة من مائة وستين بيتا من بحر الطويل.

٥ ـ ويذكر المؤلف أنه فيما بين سنة ١١٨٧ ه‍ إلى سنة ١١٩٤ ه‍ وقعت في المدينة جملة فتن عظيمة فيما بين أهل المدينة بعضهم مع بعض ، وفيما بينهم ، وبين الشريف سرور (٩) وبين جماعة أهل اليمن ، الذين وضعهم في القلعة.

١٢١

النسخ الخطية من كتاب الأخبار :

* نسخة مكتبة آل الأنصاري بالمدينة (١٠) : «النسخة الأصلية» ، وتقع في حوالي مائة صفحة ، وفي كل صفحة ٢١ سطرا ، كتبت هذه النسخة بخط جيد وواضح ، وتوجد على هوامشها بعض التعليقات الموضحة لبعض المسائل.

كما تم تشكيل بعض الكلمات في القصائد الشعرية ، وقد فرغ المؤلف من كتابتها صباح يوم الثلاثاء غاية ذي الحجة الحرام سنة ١٣٠٦ ه‍.

* النسخة الثانية وتوجد بمكتبة الشيخ عبد الوهاب الدهلوي (١١) ـ رحمه‌الله ـ التابعة لمكتبة الحرم المكي ، وتقع في حوالي مائة وثماني عشرة صفحة ، وفي كل صفحة ١٧ سطرا ، ومع أنها كتبت بخط واضح إلا أنها لا تتضمن شروحا وتعليقات في هوامشها ، مقارنة بالنسخة الأصلية ، ولم يذكر فيها اسم الناسخ ، أو تاريخ النسخ ، إلا أنه ذكر ـ في نهايتها ـ أن النسخة ربما كتبت بخط المرحوم الشيخ إبراهيم الخربوتي أمين مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة.

مصادر الكتاب :

** لقد وعد المؤلف في المقدمة بذكر أسماء الكتب والمؤلفين الذين قام بالنقل عنهم في كتابه ، ومن خلال التوثيقات العلمية ، التي قام بها المؤلف ، نستطيع أن نحدد مصادر كتاب «الأخبار» كما يلي :

١ ـ مصادر تاريخية : وتشمل كتابي «أمراء البلد الحرام» و «أسنى المطالب» لأحمد دحلان.

٢ ـ كتب التراجم والأنساب : وتشمل كتاب «تحفة المحبين والأصحاب فيما للمدنيين من أنساب» وكتاب «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب» (١٢) لأحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبة الداوودي ، وكتاب «جوهرة العقدين في فضل الشرفين» (١٣) لنور الدين السمهودي.

٣ ـ مصادر أدبية : كديوان السيد البيتي ، إلا أنه لم يزودنا بأي معلومات عن النسخة الخطية لديوان هذا الشاعر ، والتي اعتمد عليها في نقل القصائد المعنية. كما أن الشاعر لم يعن بذكر مصادر القصائد الشعرية الأخرى ، والتي نظمها بعض شعراء تلك الفترة مثل محمد سعيد سفر ، ويوسف الأنصاري ، وأحمد الجامي.

١٢٢

٤ ـ هناك بعض المصادر الأخرى ، التي ذكرها الشاعر ، إلا أننا لم نوفق في الوقوف عليها لمراجعة المادة العلمية المستقاة منها ، ومن ثم تصنيفها وهي «الروض الأعطر» و «الدر النظيم».

٥ ـ لم يرجع المؤلف إلى بعض المصادر المعاصرة ، التي تحدثت عن هذه الفتن ككتاب «ذيل الانتصار لسيد الأبرار» (١٤) للسيد عمر بن علي السمهودي. (١٥)

أسلوب المؤلف في كتاب الأخبار :

* بما أن الكاتب عاش في فترة تميزت بتسرب الضعف إلى أساليب اللغة العربية : لذا فإن القارئ لكتاب «الأخبار» يمكنه ملاحظة استعمال المؤلف لبعض الكلمات العامية مثل خصماني ، للدلالة على الأعداء ، أو بعض التعبيرات الخاصة ، مثل : «ينزلون صلاة الصبح» كما يمكن ملاحظة عدم اتباعه للقواعد النحوية الخاصة بالإضافة مثلا كقوله «مشبين الفتنة» بدلا من «مشبي الفتنة» ، كما أن الكاتب ليس بدعا عن أدباء عصره الذين شغفوا بأساليب البديع في كتاباتهم ، ولهذا نجد الكاتب في عبارة كهذه : «وقال له : أين المسرى ، وقد دهمك البلاء من أمام وورا؟» يضطر إلى إسقاط الحرف الأخير لكلمة «وراء» وهو الهمزة حتى يتناسب المقطع الأول من العبارة مع مقطعها الثاني.

* يحاول الكاتب أن يبرز ثقافته الأدبية ، أثناء سرده للحوادث التاريخية فيستشهد ببعض الأبيات الشعرية : وهي استشهادات يمكن اعتبارها دليلا على ذوقه الأدبي فكثيرا ما تصادفنا أبيات الشاعر «المتنبي» وأخرى للإمام «محمد بن إدريس الشافعي».

* يمتلك الكاتب حسا أدبيا نقديا لا بأس به ؛ فنجده ينتقد الشاعر «عبيد كدك» الذي حاول احتذاء الشاعر «البيتي» في بعض قصائده وزنا وقافية ، ويصف إنتاج الأول بركاكة المعنى ، واختلال النظام.

* يؤخذ على الكاتب عدم تثبته من بعض الروايات التاريخية التي ذكرها مؤلفون سابقون كنقله العشوائي لبعض القصص ، التي ذكرها الشاعر «ابن عنبه» في ديوانه ، أو في كتاب «عمدة الطالب».

١٢٣

أهمية الكتاب العلمية :

** تنبع قيمة الكتاب العلمية من تتبع الكاتب للحوادث التاريخية في المدينة. في فترة القرن الثاني عشر الهجري ، والتي لم تحظ بالدراسة العلمية الوافية رغم أهميتها ، وتكتسب هذه الفترة أهميتها من العوامل التالية :

* ظهور عدد من الدعوات الإصلاحية ، في العالم الإسلامي ، ولقد كانت المدينة المنورة ، بحكم قدسيتها ، مركزا دينيا هاما تلقى العديد من الشخصيات الفكرية ، في مسجدها الشريف ، جزءا من دراستهم العلمية على يد بعض علمائها كالشيخ إبراهيم الكوراني (١٦) ، والشيخ أبي الطاهر الكوراني (١٧) ، والشيخ محمد حياة السندي (١٨) ، والشيخ عبد الله بن سيف والشيخ سليمان الكردي (١٩) ، رحمهم‌الله جميعا.

* وقع المجتمع المدني تحت تأثير تغييرات اجتماعية كثيرة في هذه الفترة الزمنية بسبب عامل الهجرة إليها من جميع أنحاء العالم الإسلامي. لعل في ذلك ما يلقي الضوء على ذلك الاتجاه العلمي ، الذي ظهر لدى بعض أدباء المدينة في تلك الفترة وهو التأليف في علم أنساب الأسر وما يتصل بوجودها في المجتمع المدني من حرف ، وأعمال ووظائف ، وما يتصف به أفرادها من أخلاق وطباع.

* شهدت هذه الفترة صراعا شديدا بين المواطنين في مجتمع المدينة ، وبين المسؤولين عن إدارة شؤونها الذين كانوا أغوات يتولون مشيخة الحرم النبوي الشريف ، ويبدو أن الدولة العثمانية كانت تتولى تعيين هؤلاء الأغوات الذين لم يحسنوا ، في فترة القرن الثاني عشر الهجري ، تصريف أمور البلدة المقدسة.

* لقد كانت فترة القرن الثاني عشر الهجري فترة متميزة من حيث الإنتاج العلمي ، حيث ساهم هؤلاء الأدباء في إمداد القصيدة العربية بزخم شعري جديد ، كما حافظوا على شكلها التقليدي بما أبدعوه من قصائد سموها «ملاحم شعرية» وهي قصائد تعكس ـ بكل صدق ـ الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية للمدينة في تلك الفترة وتشكل هذه القصائد مصدرا رئيسيا لتاريخ المدينة.

١٢٤

الاحالات :

__________________

(*) انتهيت ـ بتوفيق الله ـ من تحقيق هذا الكتاب ، وسوف أدفع به للنشر ـ قريبا ـ بإذن الله. ص ٤٨٨.

(١) عبد الرحمن الأنصاري : «تحفة المحبين والأصحاب فيما للمدنيين من أنساب» ، تحقيق محمد العروسي المطوي ، تونس ، ١٩٧٠.

(٢) نفس المصدر السابق ص ٤٨٨.

(٣) نفس المصدر السابق ص ٤٨٩.

(٤) يحيى هاشم المدني : «الفلك المشحون» مخطوطة مكتبة عارف حكمت بالمدينة ، رقم ٣٢٠٤.

(٥) عبد السلام هاشم حافظ : المدينة المنورة في التاريخ ، القاهرة ط ٢ ، ١٣٨١ ه‍ ، ١٩٦١ م ، ص ١٦١.

(٦) عاتق بن غيث البلادي : «نسب حرب مكة المكرمة» ، ط ٣ ، ١٤٠٤ ه‍ ، ص ١٦٥ ـ ٨١٦٦.

(٧) السيد جعفر البيتي العلوي السقاف ، ولد في المدينة سنة ١١١٠ ه‍ ، من أشهر شعراء الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري. لا يزال ديوانه الشعري مخطوطا ، وتوجد منه نسخ في مكتبة عارف حكمت بالمدينة ، ومكتبة المدينة العامة ، وطوبقبو سراى باستانبول ، وبمكتبة المرحوم السيد عبيد مدني.

انظر ترجمته في «تحفة المحبين والأصحاب» لعبد الرحمن الأنصاري ص ٧١. وفي «هدية العارفين» لإسماعيل البغدادي استانبول : ١٩٥٥ م ، ج ١ وفى «الشعر الحديث في الحجاز» للمرحوم عبد الرحيم أبي بكر ، القاهرة ١٣٩٧ ه‍ ، ص ٦٩ ـ ٧٤.

(٨) محمد سعيد بن علي بن محمد أمين سفر ، ولد في المدينة سنة ١١١٣ ه‍ ، سافر إلى مصر والشام ، ثم عاد إلى المدينة ليصبح خطيبا وإماما ، ثم تركهما ، واشتغل بالتدريس ، وكف بصره وتوفى سنة ١١٩٤ ه‍.

انظر : «تحفة المحبين والأصحاب» للأنصاري ، ص ٢٨٥.

(٩) في الحروب التي وقعت بين أهل المدينة والشريف سرور بن مساعد بن سعيد بن زيد ، انظر : «كشف الحجاب والستور عما وقع لأهل المدينة مع أمير مكة سرور» ، مجلة العرب ، ج ١١ ، ١٢ الجماديان سنة ١٤٠٦ ه‍.

(١٠) أشكر للشيخ الفاضل نذير محروس تزويدي بمصورة للنسخة الأصلية من كتاب «الأخبار الغريبة».

(١١) محمد صالح جمعة «فهرست مخطوطات الحرم المكي» تاريخ وتراجم ، ١٣٩٢ ه‍ ، ص ١٠.

(١٢) جمال الدين أحمد بن علي الحسنى «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب» ، بيروت ، لجنة إحياء التراث.

(١٣) الكتاب لا يزال مخطوطا. وقد رجعنا إلى نسخة مكتبة الأوسكريال ، رقم ١٥٣٣.

(١٤) الكتاب لا يزال مخطوطا ، وتوجد نسخة منه بمكتبة آل الصافي التابعة لمكتبة المدينة المنورة العامة.

(١٥) ترجم له الأنصاري قائلا : نشأ نشأة صالحة ، واشتغل بطلب العلوم ، ودرس بالروضة النبوية وصار مفتي الشافعية ، وخطب ، وأم ، وألف ، وصنف ، ونثر ونظم. (انظر : تحفة المحبين ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣).

(١٦) إبراهيم بن حسن الكوراني : نزيل المدينة ، ولد سنة ١٠٢٥ ه‍ ، وطلب العلم بنفسه ورحل إلى المدينة المنورة ، وتوطنها وأخذ بها عن جماعة من علمائها كأحمد بن محمد القشاشي ، درس بالمسجد النبوي ، وألف مؤلفات عديدة ، توفى بالمدينة سنة ١١٠١ ه‍.

محمد خليل المرادي سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر ـ ط بولاق ١٣٠١ ه‍ ، ج ١ ، ص ٥ ـ ٦.

١٢٥

__________________

(١٧) أبو الطاهر بن إبراهيم بن حسن الكوراني ، ولد بالمدينة في سنة ١٠٨١ ه‍ ، أخذ عن والده وعن الشيخ عبد الله بن سالم البصري ، والشيخ حسن العجيمي ، تولى إفتاء الشافعية مدة إلى أن توفى سنة ١١٤٥ ه‍.

المؤلف مجهول ، تراجم أعيان المدينة في القرن الثاني عشر الهجري ـ تحقيق الدكتور محمد التونجي ، دار الشروق ، ١٤٠٤ ه‍ ، ص ١٠٦.

(١٨) العلامة المحدث ، المعروف بتصانيفه في علم الحديث : كشرح «الترهيب والترغيب» ، و «مختصر الزواجر» ، و «شرح الأربعين النووية» ، توفي بالمدينة سنة ١١٦٣ ه‍.

نفس المصدر السابق ص ٦٨.

(١٩) الشيخ محمد بن سليمان الكردي الشافعي ، ولد بدمشق ، وحمل إلى المدينة وهو ابن سنة ، ونشأ بها ، وأخذ عن أفاضلها ، وتولى بالمدينة إفتاء الشافعية سنة ١١٨٩ ه‍ ، وتوفى بالمدينة سنة ١١٩٤ ه‍.

المصدر السابق ص ٥٥.

١٢٦

منهج الشريف العياشي

في البحث التاريخي

** عند ما أتى الشيخ حمد الجاسر على ذكر أولئك الذين تصدروا لتاريخ المدينة المنورة ، أو تراجم رجالها. نجده قد جعل كتاب «محمد بن زبالة المخزومي» الذي ألفه سنة ١٩٩ ه‍. أول كتاب عرف تاريخ هذه المدينة الطاهرة ، التي لقيت اهتماما خاصا من أشهر المؤرخين والكتاب ، على مر العصور الإسلامية ، مثل : «ابن شبة» ، و «ابن النجار» و «ابن فرحون» و «المراغي» و «السمهودي» ، و «السّخاوي» وغيرهم. (١)

** وفي العصر الحديث تناول عدد من الكتاب جوانب معينة من تاريخ المدينة المنورة الحضاري ، والإداري ، والاجتماعي ، ولكن مؤلفا واحدا ضمن هذه المؤلفات يظل متميزا ، لما بذله فيه مؤلفه من جهد غير عادي ، كان يشهد به ذلك الشحوب والهزال الباديان على مؤلف هذا الكتاب في أواخر حياته ، ثم لذلك المنهج العلمي الدقيق الذي اتبعه الشريف «إبراهيم بن علي العياشي» فيما جمعه من معلومات ، وما توصل إليه من نتائج ، تتصل بتاريخ عاصمة الإسلام الأولى ، ومنطلق حضارته ، وموئل قادته وعظمائه.

** وإذا كان «العياشي» استطاع أن يترك أثرا تاريخيا فريدا كهذا ، إلا أنه لم يعرف عنه في مطلع حياته الاشتغال بالكتابة ، أو البحث وما يتصل بهما من أمور ، فلقد كان ـ رحمه‌الله ـ موظفا إداريا في شرطة المدينة المنورة ، ثم نراه يترك المدينة ليسافر إلى الساحل الشرقي من جزيرة العرب ، ثم يعرج على مدينة «ينبع» للإقامة فيها ، ولكن الحياة لم تطب له إلا بعد أن عاد إلى مرابع صباه الأولى ، حيث نجده مدرسا في بعض مدارسها الابتدائية ، وإخاله زامل الأستاذ «ضياء الدين رجب» في التدريس ، كما ذكر لي هذا الأخير ـ رحمه‌الله ـ في إحدى رسائله الخاصة ، قبل أن ينتقل إلى الدار الآخرة.

ولعل السر في توجه «العياشي» لتدوين تاريخ المدينة المنورة يعود إلى حبه للأرض التي شهدت ربوعها انطلاقة الإسلام الأولى ، وهذا ما يمكن أن

١٢٧

نستشفه من تلك الكلمات الشاعرية التي صدّر بها مؤلّفه تحت عنوان «وهكذا كان الفضل».

يقول ـ رحمه‌الله ـ «كانت وليدة رغبة ملحة ، بدأت معها أشق طريقي للغاية المرجوة ، كنت بين جنان قباء وردهات صلحة ، منها كنت أطل على واقم ، وأسمع خرير العقيق ، وأصعد على قمم أحد ، وأسمع نشيد بنات النجار في الغيب ...».

** والتزام «العياشي» بالمنهج العلمي ، في دراسة آثار المدينة النبوية ، يظهر في ذلك النقد الذي وجهه لمن سبقه من المؤلفين الذين كانوا يكتفون بتحديد الموضع ، بقوله مثلا : «ونزل بنو فلان بدارهم المعروفة بهم» واصفا هذا التعريف للقارىء في هذا العصر ، بأنه كمن عرف الشىء بنفسه ، ولذا نجده ـ أي العياشي ـ في تحديد مساكن القبائل التي استقرت بالمدينة المنورة بدءا بالعمالقة ، ومرورا باليهود ، وانتهاء بالأنصار ، ثم المهاجرين من بعدهم ، يرجع إلى النصوص التي أوردها «الطبري» أو «ابن كثير» أو «السيد السمهودي» «يثبت ما توافق فيه النص مع التطبيق العملي ، وينفي ما خالف هذه القاعدة العلمية ، ولقد سمعته ـ في حياته ـ يتحدث عن قيمة كتب السمهودي» «وفاء الوفا» في تاريخ المدينة المنورة ، وأنه يعد «السمهودي» أستاذا له ، ولكنه أردف يقول : إنه يختلف معه عند ما يجد ما كتبه لا تؤيده شواهد واقع الموضع أو الأثر نفسه.

وإنني لأذكر تلك الدهشة التي بدت على زميلي الدكتور «رشاد مفتي» في أثناء دراستنا في جامعة «لانكستر» بالمملكة المتحدة ، بعد اطلاعه على كتاب «العياشي» ، وذلك لارتباط دراسته «الجيولوجية» بحرة المدينة الشرقية ، لقد كان سبب دهشته هو إلمام هذا الرجل بعلم «الجيولوجيا» واستفادته من بعض أسسه ، وهو الذي لم يعرف عنه تلقيه لأي دراسة «أكاديمية» في معرفة تكوين الحرار في المدينة ، وما يمكن أن تدل عليه صلابة أحجارها أو ألوانها ، ثم ما تركته عوامل التعرية على كل حرة من هذه الحرار التي تشكل مظهرا طبيعيا خاصا بأرض المدينة.

** كنت أسأل هذا العالم التاريخي ـ رحمه‌الله ـ عن غزوة من غزوات الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الهامة ، وهي غزوة «أحد» ، فلم يكتف بأسلوب السرد النظري الذي يأخذ به كثير ممن دونوا أخبار هذه الغزوات ،

١٢٨

وما يرتبط بأحداثها من مواضع وأشخاص ، بل قادني إلى منطقة أحد ، وعين على الطبيعة الميادين الأربعة لتلك المعركة الشهيرة ، حتى إذا ما سألته عن الموضع الذي كان الناس يسمونه المصرع وكان يقوم فيه بستان من بساتين المدينة القديمة ، فإذا به يستوقفني ليقول : «إن الناس يتوهمون أن سيدنا حمزة بن عبد المطلب ـ رضي‌الله‌عنه ـ قتل في هذا المكان. ولهذا يسمونه خطأ «المصرع» ، وهو في حقيقة الأمر ميدان من الميادين المذكورة التي نشب فيها القتال بين المسلمين وكفار قريش ، ثم يتوجه بي إلى مكان قديم كان يقوم بالقرب من منطقة قبور الشهداء ، ويشير إلى صخرة من الحجر الجرانيت الأحمر ، ليقول : «هذه الصخرة (٢) التي كان يختبيء ـ تحتها ـ وحشي ، عند ما عزم على قتل الشهيد حمزة بن عبد المطلب ـ رضي‌الله‌عنهما».

** ثم شاهدته يحدّد على الطبيعة ـ أيضا ـ وبالقرب من جبل «سلع» موضع الخندق الذي حفره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حول المدينة المنورة في غزوة «الأحزاب» باستشارة «سلمان الفارسي» ـ رضي‌الله‌عنه ـ لقد كان ـ يومها ـ يومىء بعصاته التي كان يتوكأ عليها ، إلى المواضع ، وكأنه شاهد تلك الأحداث العظام ، وعايش أبطالها من صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لقد حدثني كيف أن حفر ذلك الخندق في مدة وجيزة ، وبأيد محدودة ، لم يكن ليتم ، لو لا أن الله بارك لعباده المؤمنين في الزمن ، فأنجزوه في الوقت المناسب ، يصدون به العدو ، ويصونون به البلد الطاهر من أن تنتهك حرمته التي بقيت مرعية على مر العصور ، إلى وقتنا الحاضر.

** ويخرج «العياشي» كتابه «المدينة بين الماضي والحاضر» والذي لم يترك فيه منزلا من المنازل التي كان ينزلها صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا وأبرز موضعه ، ولا مسجدا من المساجد التي ذكرها المؤرخون ـ قبله ـ إلا وأجلى حقيقة تاريخه ، ولا جبلا من الجبال التي تقف شامخة في هذا البلد الطيب إلا وحدد طوله وعرضه ، من جميع الجهات ، ذاكرا الوديان التي تحيط به ، وما يتجمع فيها من سيول ، حتى إذا ندّ عن ذكراته شيء من المعلومات يصوغ عبارته الوصفية لتتناسب مع المعلومة التي لا يعتقد بجزميتها : لذا نجده ـ في تحديد طول جبل «أحد» من الجهة الشمالية ـ يقول : «أما طوله من الجهة الشمالية فقد نسيت ضبطها ، واعتقد أنه ستة ، أو يزيد شيئا بسيطا». (٣)

١٢٩

** لقد خرجت تلك الموسوعة الشاملة في تاريخ المدينة المنورة ، عام ١٣٩٢ ه‍ ، والتى استنفدت من مؤلفها ما يقرب من عقدين من الزمن ، قضاها منتقلا ـ على قدميه ـ بين جبال المدينة وأوديتها ، بعيدا عن أسرته التي أحبها ، وأبناءه الذين كانوا في مرحلة الطفولة ، ولم يحتفل بتلك الإضافة العلمية الجديدة إلا نفر محدود من الباحثين ، في مقدمتهم الشيخ «حمد الجاسر» الذي أشاد بالكتاب ومؤلفه في «مجلة العرب».

وعاش «العياشي» بقية حياته حبيس داره المتواضعة ، في حي قباء ، ولكنه كان راضيا عن الجهد الذي قدمه لتوفر عامل الإخلاص ، وأسس البحث العلمي ، في كل فصل من فصول السّفر الذي ينير سبل المعرفة بتاريخنا الحي المشرق الذي شهدت أرض المدينة المنورة عظمة أحداثه ، وبطولة رجاله ، ثم يموت «العياشي» في شهر ربيع الأول من عام ١٤٠٠ ه‍.

وتعجز صحافتنا عن الإشادة الكافية بما أبدعه هذا المؤرخ الرائد في علم توثيق الخبر ، وتتبع الأثر ، بأسلوب علمي شامل يأخذ بكل ثابت في الرواية ، ومنطبق مع حيثيات المنطق ، نائيا بهذا عن كل ضعيف لا تقوم معه الحجة ، أو أسطورة ترفضها حقائق الأشياء. (٤)

** وإنها لمناسبة كريمة في أن أتوجه إلى معالي أمين المدينة المنورة المهندس «عبد العزيز الحصيّن» ومساعده الصديق المهندس «أنور إلياس» في إطلاق اسم «الشريف إبراهيم بن علي العياشي» على معلم بارز من معالم المدينة المنورة تخليدا لذكراه ، واعترافا بجهده في تاريخ هذا البلد الذي عرف بتقدير أولئك الذين ساهموا ـ بتجرد وإخلاص ـ في خدمته ، أو شاركوا في بنائه الفكري والثقافي ، وإنني على يقين من أن رجائي سوف يجد صدى إيجابيا لديهما ، فهما أهل لكل فضل ومعروف ، والله ولي التوفيق.

١٣٠

** الاحالات :

__________________

(١) محمد بن يعقوب الفيروزآبادي : «المغانم المطابة في معالم طابة» تحقيق حمد الجاسر ، منشورات دار اليمامة ـ الرياض ، ١٣٨٩ ه‍ ، المقدمة ـ وـ ، ولمزيد من التفصيل انظر أيضا : صالح أحمد العلي «المؤلفات العربية عن المدينة والحجاز» ، مجلة المجمع العلمي العراقي ، المجلد الحادي عشر (١٣٨٤ ـ ١٩٦٤ م) مطبعة المجمع العلمي العراقي ، ١٣٨٤ ه‍ ، ص ١٢٧ ـ ١٢٩.

(٢) إبراهيم بن علي العياشي : «المدينة بين الماضي والحاضر» (بدون تاريخ) ص ٥٣١ ـ ٥٣٢.

(٣) المصدر السابق ، ص ٥٢٢.

(٤) يستثنى من هذا «ملحق التراث» ، الذي نشر بصحيفة المدينة المنورة بتاريخ ١٢ ربيع الثاني ١٤٠٠ ه‍ مقالة لكاتب هذه السطور ، بعنوان «إبراهيم العياشي موسوعة المدينة التاريخية ، ومقالة أخرى للأستاذ «علي محمد حسون».

١٣١

في رحاب المسجد النبوي

(١)

* امتد أثر الحرمين الشريفين في نشر الثقافة الإسلامية إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي وعلى مر العصور الإسلامية. ولقد كانت بداية تاريخ هذا التأثير على يد معلم البشرية الأول سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي جعل من مسجده الشريف مدرسة يتلقى فيها صحابته رضوان الله عليهم أجمعين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم ، وهي المدرسة التي تخرج فيها عبد الله بن مسعود وأبو هريرة ومعاذ بن جبل وسعد بن معاذ وعبد الله بن عمر فكانوا أمثلة حية للشخصية الإسلامية التي تجمع بين نظافة السلوك وعمق المعرفة ورحابة الأفق.

ولقد قام المسجد النبوي الشريف بدوره القيادي في أحلك الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية ، ففي القرن الحادي عشر الهجري تصدى للتدريس فيه ، الشيخ إبراهيم الكوراني ١٠٢٥ ـ ١١٠١ ه‍ الذي أخذ العلم عن الثقات من الشيوخ في بغداد ، ودمشق ، ومصر ، ثم ألقى عصا التسيار بالمدينة المنورة ليصبح حجة في علم مصطلح الحديث ، وتنتهي إليه الرواية في هذا العلم الإسلامي في عصره ، فيشد الناس رحالهم إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليجلسوا في حلقته ، ويتزودوا بزاد العلم والمعرفة الحقيقيين.

ولم ينقطع العلم عن آل الكوراني فنجد ابنه الشيخ محمد أبا الطاهر الكوراني ١٠٨١ ـ ١١٤٥ ه‍ الذي لم يكتف بطلب العلم على يدي والده ، بل ارتحل أيضا ليجتمع بعلماء عصره. من أمثال الشيخ عبد الله بن سالم البصري ، والشيخ حسن العجيمي والشيخ محمد البرزنجي ، مما أهله للإفتاء في علوم الفقه والحديث.

وعند ما قام شاه ولي الله الدهلوي رحمه‌الله بزيارة الحرمين الشريفين في الفترة ١١٤٣ ـ ١١٤٥ ه‍ اجتمع بالشيخ أبي الطاهر الكوراني في المدينة وأخذ علوم الشريعة عنه مما أهله ليكون أحد الشخصيات البارزة في تاريخ الهند الإسلامية ولقد بذل الشيخ الدهلوي ، (كما يذكر الدكتور جمال الدين

١٣٢

الشيال في كتابه عن الحركات الإصلاحية) بذل جهودا كبيرة للدفاع عن أهل السنة ، وألف كتاب «إزالة الخفاء عن تاريخ الخلفاء» حيث أثبت فضل الخلفاء الراشدين ، كما فصل فيه القول على أسس الحكومة الإسلامية الأولى وما بذلته من جهود لنشر الإسلام. وسعى الدهلوي ـ رحمه‌الله ـ لتوضيح أهمية علمي الفقه والحديث وضرورة العناية بهما ودراستهما لفهم حقيقة الإسلام ، حيث كان العلماء الهنود في عهده يعتمدون كثيرا على علم الكلام ، ويعتقدون أنه قوام الدين وروحه ، كما بدأ بدعوة مواطنيه إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وكان في دعواه ودروسه وفي مؤلفاته يسعى دائما للتوفيق بين مذاهب الأئمة فإن تعذر عليه ذلك أخذ ما يوافق الأحاديث الصحيحة ، ورجحه على غيره وقد طبق طريقته هذه تطبيقا ناجحا في كتابه الرائع «حجة الله البالغة» وفي كتيبه الصغير «الإنصاف في بيان أسباب الخلاف».

إنه أحد دعاة الإصلاح الإسلامي في القرون المتأخرة ويعد ثمرة من ثمرات الارتحال في طلب العلم إلى الديار المقدسة. وما أكثر ثمرات هذا البلد في الماضي والحاضر.

١٣٣

(٢)

* لقد حفل الحرم النبوي الشريف في القرن الثاني عشر الهجري بحلقاته العلمية المتعددة ، ومن هذه الحلقات ما كان مختصا بعلوم اللغة والأدب ، مثل حلقة الشيخ محمد بن محمد الطيب الفاسي الذي كان تلميذا من تلامذة الشيخ محمد أبي الطاهر الكوراني الذي مررنا على ذكره في الحلقة الأولى من هذه الدراسة. لقد كان الفاسي كما يصفه مؤلف كتاب تراجم أعيان المدينة في القرن الثاني عشر الهجري ، إماما في اللغة العربية في وقته. محققا. فاضلا ، متضلعا في كثير من العلوم ، ولعل قائمة أسماء مؤلفاته تؤيد هذا القول الذي ذهب إليه مؤلف كتاب التراجم ، وللشيخ الطيب شرح على معجم «القاموس» للفيروزآبادي وشرح نظم الفصيح ، وشرح كافية ابن مالك ، وشرح شواهد الكشاف للزمخشري.

كما حفل بحلقات أخرى كانت مختصة بالحديث وعلومه ، ومنها حلقة الشيخ محمد حياة السندي. الذي تلقى علومه من مشايخ عدة يأتي في مقدمتهم الشيخ أبي الحسن بن عبد الهادي السندي ، والشيخ محمد أبي الطاهر الكوراني ثم تصدى للتدريس بعد وفاة شيخه السندي واستمر يؤدي رسالة التدريس في حرم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأكثر من عشرين سنة. وأثمرت هذه السنون عن تأليفه لكتب هامة ؛ شرح الترهيب والترغيب ومختصر الزواجر لابن حجر وشرح الأربعين النووية المعروف باسم تحفة المحبين في شرح الأربعين. ولعله من المفيد أن ننقل هنا عبارات الدكتور عبد الله العثيمين في كتابه : «الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره» عن الشيخ محمد حياة السندي ، أما محمد حياة السندي فكان حجة في الحديث وعلومه وصاحب مؤلفات مشهورة في هذا الحقل. وكان أستاذا لعدد من الطلاب الذين أصبح بعضهم دعاة إصلاح أو شخصيات علمية مشهورة في مناطق إسلامية عديدة. ويؤكد الدكتور ابن عثيمين أثر الشيخين محمد بن حياة السندي ، والشيخ عبد الله بن سيف ، على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه‌الله ـ لا بالنسبة لتحصيله العلمي فقط وإنما بالنسبة لاتجاهه

١٣٤

الإصلاحي أيضا.

ومن علماء المدينة في هذه الحقبة المؤرخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري ١١٢٤ ـ ١١٩٧ ه‍ الذي تلقى علومه في مدرسة الحديث التي نشأت في المدينة خلال القرن الثاني عشر الهجري. حيث نلاحظ خلال ترجمته أنه تلقى العلم على الشيخ محمد أبي الطاهر الكوراني ، وأبي الطيب السندي. ومحمد بن الطيب الفاسي.

* ينعته المرادي في كتابه سلك الدرر. بمؤرخ المدينة في عصره كما يذكر عمر الداغستاني وهو معاصر له بالمدينة أنه ألف تاريخا جمع فيه بيوتات أهل المدينة.

وعبارة المرادي على قصرها تحمل دلالة واضحة على أهمية كتاب الأنصاري المسمى «تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من أنساب».

فهو كما ذكر محقق الكتاب الأستاذ محمد العروسي المطوي ليس مجرد كتاب أنساب فقط كما يدل عليه عنوانه ، بل هو بالإضافة إلى ذلك يصور مجتمع المدينة في القرن الثاني عشر من مختلف أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يمكّن الدارس وبخاصة الاجتماعي من تلمس العناصر والمعطيات للدراسة والتحليل والاستنتاج.

* لم يذكر الأنصاري سببا لتأليف كتابه «التحفة» إلا أنه يشير عند ترجمته لآل الأنصاري إلى أن المؤرخ السخاوي أهمل كثيرا في كتابيه «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة» و «الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع» ، من فروع هذا المجموع ـ أي آل الأنصاري ـ وذلك من قلة العلم بأصولهم وعدم تفصيلهم ولعل هذا ما حدا بالأنصاري أن يؤلف كتابه هذا وكتابا آخر في تاريخ أنساب أهل المدينة لا نعرف عنه إلا اسمه وهو «نشر كمائم الأزهار المستطابة في نشر تراجم أنصار طابة».

* والأنصاري من خلال الترجمة التي كتبها لنفسه يبدو أنه أحد أولئك العلماء الذين تجولوا في بعض البلاد العربية والإسلامية يحدوهم في ذلك الرغبة في طلب العلم والاستزادة من معطيات المعرفة فهو يسافر إلى بلاد

١٣٥

اليمن سنة ١١٧٢ / ه ويدون وقائع رحلته في كتابه المعروف باسم «قرة العيون في الرحلة إلى اليمن الميمون» كما يشير إلى اهتمامه بالأدب وبالشعر خاصة وذلك عند ذكره لزيارته لإمام اليمن ـ خلال الرحلة التي قام بها لهذا القطر ـ حيث مدحه بقصيدة بائية في سبعين بيتا وهذا يؤكد ما نذهب إليه من احتكاك علماء الحرمين الشريفين واتصالهم بنظرائهم في البلاد الإسلامية ، وهو اتصال كانت له ثمراته المباركة وآثاره الحسنة والله ولي التوفيق.

١٣٦

(٣)

* لقد استمرّ المسجد النبوي في أداء رسالته العلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين ، ولقد كان مرد تلك الاستمرارية إلى طبيعة الأجواء الفكرية والعلمية التي يتمتع بها مجتمع المدينة والتي عرف بها على مر العصور الإسلامية. ولا شك في استفادة مجتمع المدينة العلمي من هجرة العلماء الأفذاذ الذين استقر ببعضهم المقام في الأرض الطيبة ، بينما بقي البعض لفترة معينة من الزمن وفي كلتا الحالتين فإن هذه الهجرة كان لها آثارها الواضحة في إمداد المجتمع بإشعاعات العلم والمعرفة. وفي تثبيت دعائم الفكر الإسلامي بين طبقات الناس المختلفة.

* لقد جاور بالمدينة علماء أفذاذ ، وكانوا على قدم راسخة في علوم الشريعة واللغة العربية. ومن هؤلاء الأعلام ، الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطى ١٢٤٥ ـ ١٣٢٢ ه‍. وهو العالم الذي انتدبته الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني إلى باريس ، ولندن ، والأندلس ، للاطلاع على ما في خزائنها من الكتب العربية النادرة ، وتقييد أسماء ما يوجد منها بخزائن القسطنطينية لتستنسخ ، فسافر على باخرة خاصة ، وكان ينزل حيثما حل دور السفارات ولكن المشروع أهمل بعد عودته.

* وفي عام ١٣٠٦ ه‍ أرسل ملك السويد والنرويج أوسكار الثاني إلى السلطان عبد الحميد ، مبديا رغبته في أن يقوم الشيخ التركزي ـ نفسه ـ بحضور مؤتمر المستشرقين الثامن المنعقد في مدينة استكهولم ولقد قام سفير السويد بمصر في ذلك الوقت ، الكونت كارلو دى لندبرج بالإشراف على متطلبات الرحلة ، حيث اشترط الشنقيطي عدة شروط قبيل القيام برحلته منها أن يكون توجهه بصفة ترفع الإسلام وأهله ، وبأن ينتخب ثلاثة أو أربعة من أهل العلم بالعربية ، ويستصحب مؤذنا وطهاة مسلمين. كما طلب السفير المذكور أن يقوم الشنقيطي بإنشاء قصيدة على أسلوب شعر العرب السابقين لا على أسلوب الشعراء في تلك الحقبة. ولقد قام الشنقيطي بإنشاء القصيدة المطلوبة والتي قاربت حوالي مائتي بيت من الشعر الرصين ولكن

١٣٧

الرحلة لم تتم. لأن الشروط التي اشترطها أغضبت السلطان ، فأمر بسفره إلى المدينة.

* وقام الشنقيطي في المدينة باستنساخ عدة كتب منها : أساس البلاغة للزمخشري ، وبعض الدواوين الشعرية ، ويبدو من الكتاب الوحيد المطبوع له وهو «الحماسة السنية الكاملة المزية» أنه كان على صلة وثيقة في بداية أمره ، بعلماء المدينة في تلك الفترة من أمثال عبد الجليل برادة. وإبراهيم الأسكوبي ، كما تثبت مصادر أخرى قيام علاقة علمية بينه وبين الشيخ أمين ابن حسن الحلواني المدني. ولكن الشنقيطي والحلواني لم يستقرا بالمدينة ، فنزحا إلى مصر. ولقد أحضر الشنقيطي مكتبته من المدينة ، وأقبل على المطالعة والإفادة إلى أن توفي بدار سكنه القريبة من الأزهر سنة ١٣٢٢ ه‍ ومثله الحلواني الذي أحضر مكتبته التي تحتوى على نفائس المخطوطات وفي مختلف الفنون. والتي قامت مؤسسة بريل E.J.Brill في ليدن.Ledien بشرائها منه لتصبح جزءا من مقتنيات هذه المؤسسة المعروفة باحتوائها على نوادر المخطوطات العربية حتى الوقت الحاضر.

١٣٨

(٤)

مع حلول شهر رمضان تتداعى إلى ذاكرتي صورة أحد شيوخ الحرم النبوي الشريف ، تلك الصورة المكللة بجلال الإيمان ، ويتسلل إلى نفسي صوته الجهوري الأخاذ الذي كان يرتفع في مسجد المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليجسد سيرته العطرة كل صباح ومساء. وليتتبع أحاديثه الكريمة ويفند مروياتها لم يكن يومها ينظر إلى كتاب وإن كان الكتاب أمامه. ولا يتعثر في لغة فهو فصيح في عربية اللسان لغة القرآن الذي كان يستهدي بآياته. ولغة الأرض التي ينتمي إليها بعراقة الدين قبل عراقة النسب.

هو أحد الذين سمعتهم من علماء الحرمين الشريفين ، كالشيخ محمد الأمين الجكني. والشيخ محمد نور سيف ـ رحمهما‌الله ـ يتعمقون في أغوار هذه اللغة فيأتون بالفصيح منها ، ويتجتبون عثرات اللحن في أدائها. ويسلكون مسالك البلغاء الذين تنثال كلماتها على ألسنتهم بعذوبة وصفاء تأتّى لهم أن يتحدثوا إلى الناس فيسمع لهم. ويرفعوا أصواتهم فتشرئب الأعناق إليهم.

هذه نبذة يسيرة من سمات الشيخ محمد المختار بن محمد سيد الأمين الجنكي ١٣٣٧ ـ ١٤٠٥ ه‍ ، الذي أنبتته عالما أرض شنقيط ، ثم هاجر إلى المدينة المنورة في عام ١٣٥٦ ه‍ ، وتلقى العلم فيها على يد الشيخين عمر السالك ومحمد الحسن ـ رحمهما‌الله ـ ثم دخل مكة المكرمة في عام ١٣٥٩ ه‍ ، وسمع من علمائها كالشيخ حسن المشاط. والشيخ محمد العربي التباني ـ رحمهما‌الله ـ كما دخل الرياض وجلس إلى علمائها ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه‌الله ـ ولقد دعاه الشيخ ابن إبراهيم في سنة ١٣٧١ ه‍ ، للتدريس بالمعهد العلمي بالرياض. فمكث مدرسا به لمدة ست سنوات.

وفي سنة ١٣٧٨ ه‍ استقر به المقام في المدينة المنورة ، حيث عين مدرسا بدار الحديث ثم مدرسا في الجامعة الإسلامية بعد تأسيسها.

لم يكن الشيخ المختار ـ رحمه‌الله ـ شحيحا في العلم الذي مكن له أساتذته في جامعة الإسلام الأولى ، مسجد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٣٩

ـ حيث كان يلقي دروسه على طلاب العلم الذين يشدون الرحال إلى هذه البقعة المباركة طلبا للعلم. وكانت موضوعات تلك الدروس تتراوح بين علم الحديث الشريف كصحيحي البخاري ومسلم. أو في الفقه كموطأ الإمام مالك ، أو في تفسير القرآن الكريم والسيرة النبوية لابن هشام.

ولقد كان إلى جانب هذا بين الفينة والأخرى محدثا في أول مسجد أسس على التقوى ، مسجد قباء ، ولقد أحبه القوم هناك ، كما كان أسلافهم يحبون من هاجر إليهم أو أقام بينهم.

وبمثل ما كان الناس يأوون إلى درسه ويلتفون حول حلقة علمه منصتين في خشوع ، أو مناقشين في أدب ، كانت أفواج من طلبة العلم تؤم داره الكريمة التي تحوي مكتبة تزخر بأمهات الكتب في العلوم الإسلامية والعربية ، فلقد كانت تلك الدار مرجعا مكن الكثير من طالبي العلم أن يأتوا على ما يتطلبه لهم البحث ، ولقد كانت شخصية الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وملامحه الكريمة خير معوان لهم لبلوغ ذلك المقصد الذي كان يسر الشيخ ـ رحمه‌الله ـ فقد كان أحد الذين منحهم الله من الصبر والتواضع ما يجعل علمهم مشاعا بين مختلف طبقات الناس. ولقد اجتمع على حبه عامة الناس وخاصتهم.

لقد حفظ التاريخ لنا سيرة عطرة عن الشيخ نفسه ـ رحمه‌الله ـ وعن مآثره الكريمة. ومن بين هذه المآثر تلك الحسنة الجارية المتمثلة في أبنائه الذين نشأهم خير تنشئة وعلمهم فأحسن تعليمهم. ولعلها مناسبة كريمة أتوجه فيها إلى الدكتور عبد الله المختار. وشقيقه الأستاذ محمد في طبع ما تركه ذلك الرائد من مؤلفات ورسائل يتممان بذلك تلك الرسالة التي وهب والدهما حياته لها في صدق وإخلاص.

١٤٠