الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

وانتقل سلفه إلى مالقة ، فتوشّجت لهم بها عروق ، وصاهروا إلى بيوتات نبيهة.

حاله : كان من أهل الخير ، وكان على طريقة مثلى من الصّمت ، والسّمت ، والانقباض ، والذكاء ، والعدالة والتخصّص ، محوّلا في الخير ، ظاهر المروءة ، معروف الأصالة ، خالص الطّعمة ، كثير العفّة ، مشهور الوقار والعفاف ، تحرّف بصناعة التوثيق على انقباض.

دخوله غرناطة : تقدّم قاضيا بغرناطة ، بعد ولاية القضاء ببلده ، وانتقل إليها ، وقام بالرّسم المضاف إلى ذلك ، وهو الإمامة بالمسجد الأعظم منها ، والخطابة بجامع قلعتها الحمراء ؛ واستقلّ بذلك إلى تاسع جمادى الثانية من عام أحد وأربعين وسبعمائة ، على قصور في المعارف ، وضعف في الأداة ، وكلال في الجدّ ، ولذلك يقول شيخنا أبو البركات بن الحاج (١) :[الرمل]

إنّ تقديم ابن برطال دعا

طالب (٢) العلم إلى ترك الطّلب

حسبوا الأشياء عن (٣) أسبابها

فإذا الأشياء عن غير سبب

إلّا أنه أعانته (٤) الدربة والحنكة على تنفيذ الأحكام ، فلم تؤثر عنه فيها أحدوثة ، واستظهر بجزالة أمضت حكمه ، وانقباض عافاه عن الهوادة ، فرضيت سيرته ، واستقامت طريقته.

مشيخته : لقي والده ، شيخ القضاة ، وبقيّة المحدّثين ، وله الرواية العالية ، والدرجة الرفيعة ، حسبما يأتي في اسمه ، ولم يؤخذ عنه شيء فيما أعلم.

شعره : أنشدني الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم ، قال : أنشدني القاضي أبو جعفر بن برطال لنفسه ، مودّعا في بعض الأسفار (٥) : [الكامل]

أستودع اللهمّ (٦) من لوداعهم

قلبي وروحي إذ دنى لوداعي (٧)

__________________

(١) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٥) ، والكتيبة الكامنة (ص ١٢٦).

(٢) في المصدرين السابقين : «طالبي».

(٣) في الكتيبة الكامنة : «من».

(٤) في الأصل : «أعانه». وفي تاريخ قضاة الأندلس : «فأعنته».

(٥) البيتان الأول والثاني في الكتيبة الكامنة (ص ١٢٦).

(٦) في الأصل : «الله» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة : «الرحمن».

(٧) في الأصل : «دنى الوداع» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة : «قلبي وصبري آذنا بوداع.

٦١

بانوا وطرفي (١) والفؤاد ومقولي

باك ومسلوب العزاء وداع

فتولّ يا مولاي حفظهم ولا

تجعل تفرّقنا فراق وداع

وفاته : توفي ، رحمه الله وعفا عنه ، أيام الطاعون الغريب (٢) بمالقة ، في منتصف ليلة الجمعة خامس صفر عام خمسين وسبعمائة (٣) ، وخرجت جنازته في اليوم التالي ، ليلة وفاته في ركب من الأموات ، يناهز الألف ، وينيف بمائتين ، واستمرّ ذلك مدة ، وكان مولده عام تسعة وثمانين وستمائة ، رحمه الله تعالى.

أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن عميرة المخزومي (٤)

بلنسي شقوري الأصل ، يكنى أبا مطرّف.

أوّليّته : لم يكن من بيت نباهة ؛ ووقع لابن عبد الملك في ذلك نقل ، كان حقه التجافي عنه ، لو وفّق.

حاله : قال ابن عبد الملك (٥) : كان أوّل طلبه العلم شديد العناية بشأن الرواية ، فأكثر من سماع الحديث وأخذه عن مشايخ أهله ، وتفنّن (٦) في العلوم ، ونظر في العقليّات (٧) وأصول الفقه ، ومال إلى الأدب (٨) فبرع فيه (٩) براعة عدّ بها من كبار مجيدي النّظم. وأما (١٠) الكتابة ، فهو (١١) علمها المشهور ، وواحدها الذي (١٢) عجزت عن ثانيه (١٣) الدّهور ، ولا سيما في مخاطبة الإخوان ، هنالك استولى على أمد الإحسان ، وله المطوّلات المنتخبة ، والقصار المقتضبة ، وكان يملح كلامه نظما ونثرا بالإشارة إلى التاريخ (١٤) ، ويودعه إلماعات بالمسائل (١٥) العلمية

__________________

(١) في الكتيبة : «فطرفي».

(٢) أسماه النباهي في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٥): «الطاعون الكبير».

(٣) جاء في اللمحة البدرية (ص ١٠٤) أنه سدّد الخطة وأجرى الأحكام إلى الرابع من شهر ربيع الآخر عام ٧٤٣ ه‍.

(٤) ترجمة ابن عميرة في الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٥٠) وجاء فيه : «أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن أحمد بن عميرة المخزومي» ، وبغية الوعاة (ص ١٣٧) ، وأزهار الرياض (ج ٥ ص ٦٥).

(٥) الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٥٢).

(٦) في الذيل والتكملة : «ثم تفنن».

(٧) في الذيل والتكملة : «المعقولات».

(٨) في الذيل والتكملة : «الآداب».

(٩) في الذيل والتكملة : «فيها».

(١٠) في الذيل والتكملة : «فأما».

(١١) في الذيل والتكملة : «فإنه».

(١٢) في الذيل والتكملة : «التي».

(١٣) في الذيل والتكملة : «عن الإتيان بثانيه الدهور».

(١٤) في الذيل والتكملة : «التواريخ».

(١٥) في الذيل والتكملة : «بمسائل علمية».

٦٢

منوّعة المقصد (١). قلت : وعلى الجملة ، فذات أبي المطرّف فيما ينزع إليه ، ليست من ذوات الأمثال ، فقد كان نسيج وحده ، إدراكا وتفنّنا ، بصيرا بالعلوم ، محدّثا ، مكثرا ، راوية ثبتا ، سجرا في التاريخ والأخبار ، ريّان ، مضطلعا بالأصلين ، قائما على العربية واللغة ، كلامه كثير الحلاوة والطّلاوة ، جمّ العيون ، غزير المعاني والمحاسن ، وافد أرواح المعاني ، شفّاف اللفظ ، حرّ المعنى ، ثاني بديع الزمان ، في شكوى الحرفة ، وسوء الحظ ، ورونق الكلام ، ولطف المأخذ ، وتبريز النثر على النظم ، والقصور في السّلطانيات.

مشيخته : روى عن أبي الخطاب بن واجب ، وأبي الربيع بن سالم ، وأبي عبد الله بن فرج وأبي علي الشّلوبين ، وأبي عمر بن عات ، وأبي محمد بن حوط الله ، لقيهم ، وقرأ عليهم ، وسمع منهم ، وأجازوا له ؛ وأجاز له من أهل المشرق أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج وغيره.

من روى عنه : روى عنه ابنه القاسم ، وأبو بكر بن خطّاب ، وأبو إسحاق البلقيني الحفيد ، والحسن بن طاهر بن الشّقوري ، وأبو عبد الله البرّي. وحدّث عنه أبو جعفر بن الزّبير ، وابن شقيف ، وابن ربيع ، وغيرهم مما يطول ذكره.

نباهته : صحب أبا عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن خطّاب قبل توليته ما تولّى من رياسة بلده ، وانتفع به كثيرا ؛ وكتب عن الرئيس أبي جميل زيّان بن سعد وغيره من أمراء شرق الأندلس. ثم انتقل إلى العدوة (٢) ، واستكتبه الرشيد أبو محمد عبد الواحد بمراكش ، مدة يسيرة ؛ ثم صرفه عن الكتابة وولّاه قضاء مليانة من نظر مرّاكش الشرقي ، فتولّاه قليلا ، ثم نقله إلى أقصى رباط الفتح. وتوفي الرشيد ، فأقرّه على ذلك الوالي بعده ، أبو الحسن المعتضد أخوه ؛ ثم نقله إلى قضاء مكناسة الزّيتون ؛ ثم لمّا قتل المعتضد لحق بسبتة ، وجرى عليه بطريقها ما يذكر في محنته. ثم ركب البحر منها متوجّها إلى إفريقية ، فقدم بجاية على الأمير أبي زكريا يحيى بن الأمير أبي زكريا. ثم توجّه إلى تونس فنجحت بها وسائله ، وولّي قضاء مدينة الأرش. ثم انتقل إلى قابس ، وبها طالت مدة ولايته ؛ واستدعاه المستنصر بالله محمد بن أبي زكريا ، ولطف محلّه منه ، حتى كان يحضر مجالس أنسه ، وداخله بما قرفته الألسن بسببه حسبما يذكر في وصمته.

__________________

(١) في الذيل والتكملة : «المقاصد».

(٢) المراد عدوة المغرب.

٦٣

مناقبه : وهي الكتابة والشعر ؛ كان يذكر أنه رأى في منامه النبيّ ، صلى الله عليه وسلم ، فناوله أقلاما ، فكان يروى له أن تأويل تلك الرّؤيا ، ما أدرك من التّبريز في الكتابة ، وشياع الذكر ، والله أعلم.

ومن بديع ما صدر عنه ، فيما كتب في غرض التّورية ، قطعة من رسالة ، أجاب بها العبّاس بن أمية ، وقد أعلمه باستيلاء الروم على بلنسية ، فقال :

«بالله أيّ نحو ننحو ، أو مسطور نثبت أو نمحو ؛ وقد حذف الأصل والزّائد ، وذهبت الصّلة والعائد ؛ وباب التعجّب طال ، وحال اليأس لا تخشى الانتقال ؛ وذهبت علامة الرّفع ، وفقدت نون الجمع ؛ والمعتلّ أعدى الصّحيح والمثلّث أردى الفصيح ؛ وامتنعت الجموع من الصّرف ، وأمنت زيادتها من الحذف ؛ ومالت قواعد الملّة ، وصرنا جمع القلّة ؛ وظهرت علامة الخفض ، وجاء بدل الكلّ من البعض».

ومن شعره في المقطوعات التي ورّى فيها بالعلوم قوله (١) : [الخفيف]

قد عكفنا على الكتابة حينا

وأتت (٢) خطّة القضاء تليها

وبكلّ لم يبق للجهد إلّا

منزلا نابيا وعيشا كريها

نسبة بدّلت ولم تتغيّر

مثل ما يزعم المهندس فيها

وكقوله مما افتتح به رسالة (٣) : [البسيط]

يا غائبا سلبتني الأنس غيبته

فكيف صبري وقد كابدت بينهما؟

دعواي أنّك في قلبي فعارضها (٤)

شوقي إليك فكيف الجمع بينهما؟

وفي مثل ذلك استفتاح رسالته أيضا (٥) : [الكامل]

إن (٦) الكتاب أتى وساحة طرسه

روح (٧) موشّى بالبديع مرتّع (٨)

وله حقوق ضاق وقت وجوبها

ومن الوجوب مضيّق (٩) وموسّع

__________________

(١) الأبيات أيضا في الجزء الثاني من الإحاطة ، في ترجمة أبي البركات محمد بن محمد البلفيقي ، وفيها بعض اختلاف عمّا هنا.

(٢) في الأصل : «وجاءت» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) البيتان في الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٥٢).

(٤) في الذيل والتكملة : «يعارضها».

(٥) البيتان في الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٥٣).

(٦) في الذيل والتكملة : «أفدي الكتاب».

(٧) في المصدر نفسه : «روض».

(٨) في المصدر نفسه : «موشّع».

(٩) في الأصل : «ضيّق» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل والتكملة.

٦٤

وفي مثل ذلك في استفتاح رسالة أيضا (١) : [الكامل]

كبّرت بالبشرى (٢) أتت وسماعها

عيدي الذي لشهوده تكبيري

وكذلك الأعياد سنّة يومها

مختصّة بزيادة التّكبير

وفي أغراض أخر (٣) : [الخفيف]

بايعونا مودّة هي عندي

كالمرآة (٤) بيعها بالخداع

فسأقضي بردّها ثم أقضي

بعدها (٥) من مدامعي ألف صاع

وله في معنى آخر (٦) : [الطويل]

شرّطت عليهم عند تسليم مهجتي

وعند انعقاد البيع قربا يواصل

فلمّا أردت الأخذ بالشّرط أعرضوا

وقالوا يصحّ البيع والشّرط باطل

تصانيفه : له تأليف في كائنة ميرقة (٧) وتغلّب الرّوم عليها ، نحى فيه منحى العماد الأصفهاني ، في الفتح القدسي (٨) ؛ وكتابه في تعقيبه على فخر الدين بن الخطيب الرّازي في كتاب المعالم في أصول الفقه منه ؛ وردّه على كمال الدين أبي محمد بن عبد الكريم السّماكي في كتابه المسمّى بالتّبيان في علم البيان ؛ واقتضابه النبيل في ثورة المريدين (٩) ، إلى غير ذلك من التعاليق والمقالات ، ودوّن الأستاذ أبو عبد الله بن هانىء السّبتي كتابته وما يتخلّلها من الشّعر في سفرين بديعين أتقن ترتيبهما ، وسمّى ذلك «بغية المستطرف ، وغنية المتطرّف ، من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرّف».

دخوله غرناطة : قال شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب : عمير أخبر بذلك من شيوخه ، والرجل ممّن يركن إليه في أخباره فيما أحقّوا على سبيل الرواية والإخبار ، من شرّق الأندلس إلى غرناطة ، إلى غربها إلى غير ذلك ، عند رحلته ، وهو الأقرب ، وقال : قال المخبر : عهدي به طويلا ، نحيف الجسم ، مصفرّا ، أقنى الأنف ؛ أصيب

__________________

(١) البيتان في الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٥٣).

(٢) في الذيل والتكملة : «للبشرى».

(٣) في الذيل والتكملة : «كالمصراة».

(٤) في المصدر نفسه : «معها».

(٥) المقصود بها حصار الطاغية البرشلوني لمدينة ميورقة في شوّال سنة ٦٢٦ ه‍ ، فأراها من القتل والسبي ، ثم أخذ واليها ابن يحيى فعذّبه أشدّ العذاب حتى مات ، واستولى النصارى عليها في عام ٦٢٧ ه‍. الروض المعطار (ص ٥٦٨).

(٦) المراد كتاب «القدح القسي ، في الفتح القدسي» لعماد الدين أبي عبد الله محمد بن هبة الله الكاتب الأصفهاني ، المتوفّى سنة ٥٩٧ ه‍. هدية العارفين (ج ٦ ص ١٠٥).

(٧) المراد كتاب «ثورة المريدين» لأحمد بن قسي ، المتوفّى سنة ٥٤٥ ه‍.

٦٥

بمالقة ما أحوج ما كان إليه ، وقد استقبل الكبرة (١) ، ونازعه سوء الحظّ. قال الشيخ أبو الحسن الرّعيني : إنه كتب إليه يعلمه بهذه الحادثة عليه ، وأن المنهوب من ماله يعدل أربعة آلاف دينار عشرية ، وكان ورقا وعينا وحليّا وذلك أنه لمّا قتل المعتضد ، اغتنم الفطرة ، وفصل عن مكناسة ، قاصدا سبته ، فلقي الرفقة التي كان فيها جمع من بني مرين ، سلبوه وكلّ من كان معه.

مولده : بجزيرة شقر (٢) ، وقيل ببلنسية ، في رمضان اثنتين وثمانين وخمسمائة.

وفاته : توفي بتونس ليلة الجمعة الموفية عشرين ذي الحجة عام ستة وخمسين وستمائة (٣). قال ابن عبد الملك (٤) : ووهم ابن الزبير في وفاته ، إذ جعلها في حدود الخمسين وستمائة أو بعدها.

أحمد بن عبد الحق بن محمد بن يحيى

ابن عبد الحق الجدلي (٥)

من أهل مالقة ، يكنى أبا جعفر ، ويعرف بابن عبد الحق.

حاله : من (٦) صدور أهل العلم والتفنّن في هذا الصّقع الأندلسي ، نسيج وحده في الوقار والحصافة ، والتزام مثلى الطريقة ، جمّ التّحصيل ، سديد النظر ، كثير التخصّص ، محافظ على الرسم ، مقبوض العنان في التّطفيف في إيجاب الحقوق لأهلها ، قريب من الاعتدال في معاملة أبناء جنسه ، مقتصد مع ثروته ، مؤثر للترتيب في كافّة أمره ، متوقّد الفكرة مع سكون ، ليّن العريكة مع مضاء ؛ مجموع خصال حميدة مما يفيد التجريب والحنكة ؛ مضطلع بصناعة العربية ، حائز قصب السّبق فيها ، عارف بالفروع والأحكام ، مشارك في فنون من أصول ، وطبّ ، وأدب ، قائم على

__________________

(١) الكبرة : كبر السّنّ. لسان العرب (كبر).

(٢) شقر : بالإسبانيةJucar ، وهي جزيرة بالأندلس قريبة من شاطبة ، كثيرة الأشجار والأنهار. الروض المعطار (ص ٣٤٩) ونزهة المشتاق (ص ٥٥٦) ، ورسمها ابن صاحب الصلاة في تأريخ المنّ بالإمامة (ص ٤٣٠) هكذا : «شوقر».

(٣) في الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٨٠): «الحجة ثمان وخمسين وستمائة» ، وفي بغية الوعاة (ص ١٣٨): «رابع ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وستمائة».

(٤) الذيل والتكملة (ج ١ ص ١٨٠).

(٥) في الأصل : «الجذلي» بالذال المعجمة ، والتصويب من الكتيبة الكامنة (ص ١٢٣) وبغية الوعاة (ص ١٣٨) حيث ترجمته.

(٦) قارن ببغية الوعاة (ص ١٣٨ ـ ١٣٩).

٦٦

القراءة (١) ، إمام في الوثيقة ، حسن الخطّ ، مليح السّمة والشيبة ، عذب الفكاهة ، حسن العهد ، تامّ الرجولية.

نباهته : تصدّر (٢) للإقراء ببلده على وفور أهل العلم ، فكان سابق الحلبة ، ومناخ الطيّة ، إمتاعا ، وتفنّنا ، وحسن إلقاء. وتصرّف في القضاء ببلّش وغيرها من غربي بلده ، فحسنت سيرته ، واشتهرت طريقته ، وحمدت نزاهته. ثم ولّي خطّة القضاء بمالقة ، والنظر في الأحباس (٣) بها ، على سبيل من الحظوة والنّباهة ، مرجوعا إليه في كثير من مهمّات بلده ، سائمة وجوه السعادة ، ناطقة ألسن الخاصّة والعامّة بفضله ، جمّاعة نزاهته ، آويا إلى فضل بيته. واتّصلت ولايته إيّاها إلى هذا العهد ، وهي أحد محامد الوالي ، طول مدة الولاية ، لا سيما القاضي ، ممّا يدلّ على الصبر ، وقلّة القدح ، وسدّ أبواب التّهم ، والله يعينه ، ويمتّع به بمنّه.

مشيخته : قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن بكر ، وهو نجيب حلبته ، والسّهم المصيب من كنانته ، لازمه ، وبه تفقّه وانتفع ، وتلا القرآن عليه وعلى محمد (٤) بن أيوب ، وعلى أبي القاسم بن درهم علمي وقتهما في ذلك ، وعلى غيرهما ، وتعلّم الوثيقة على العاقد القاضي أبي القاسم بن العريف. وروى عن الخطيبين المحدّثين أبي عثمان بن عيسى وأبي عبد الله الطّنجالي ، وغيرهما.

دخوله غرناطة : تردّد إليها غير ما مرّة ، منها في أمور عرضت في شؤونه الخاصّة به ، ومنها مع الوفود الجلّة ، من أهل بلده ، تابعا قبل الولاية ، متبوعا بعدها.

ومن شعره قوله في جدول (٥) : [الكامل]

ومقارب الشّطّين أحكم صقله (٦)

كالمشرفيّ إذا اكتسى بفرنده

فحمائل (٧) الدّيباج منه خمائل

ومعانق (٨) فيها البهار بورده

وقد اختفى طرف (٩) له في دوحة

كالسّيف ردّ ذبابه في غمده

__________________

(١) في بغية الوعاة : «القراءات».

(٢) قارن ببغية الوعاة (ص ١٣٩).

(٣) الأحباس : الأوقاف.

(٤) في البغية : «على أبي محمد».

(٥) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٢٣).

(٦) رواية صدر البيت في الكتيبة الكامنة هي :

ومنمنم الشّطّين منه حمائل

(٧) في الكتيبة : «فخمائل».

(٨) في المصدر نفسه : «متعانق».

(٩) في المصدر نفسه : «طوق».

٦٧

وقوله في شجر نارنج مزهر (١) : [الكامل]

وثمار نارنج نرى أزهارها

مع ناتئ (٢) النّارنج في تنضيد

فإذا نظرت إلى تألّفها (٣) أتت

كمباسم أومت للثم خدود

وفاته : في زوال يوم الجمعة السابع (٤) والعشرين لرجب عام خمسة وستين وسبعمائة.

مولده : ثامن شوّال عام ثمانية وتسعين وستمائة.

أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد

ابن الصقر الأنصاري الخزرجي (٥)

يكنى أبا العباس ، من أهل الثّغر الأعلى.

أوّليته : من سرقسطة (٦) ، حيث منازل الأنصار هنالك ؛ انتقل جدّ أبيه عبد الرحمن بابنه الصغير (٧) منها لحدوث بعض الفتن بها إلى بلنسية ، فولد له ابنه عبد الرحمن أبو العباس (٨) هذا ؛ ثم انتقل أبوه إلى ألمريّة ، فولد أبو العباس بها ، ونقله أبوه إلى سبتة فأقام بها مدّة (٩).

حاله : كان (١٠) محدّثا مكثرا ثقة ، ضابطا ، مقرئا ، مجوّدا ، حافظا للفقه ، ذاكرا للمسائل (١١) ، عارفا بأصولها (١٢) ، متقدّما في علم الكلام ، عاقدا للشروط ، بصيرا بعللها ؛ حاذقا بالأحكام ، كاتبا بليغا ، شاعرا محسنا ، أتقن (١٣) أهل عصره خطّا ، وأجلّهم منزعا ، ما اكتسب قطّ شيئا من متاع الدّنيا ، ولا تلبّس بها ، مقتنعا

__________________

(١) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ١٢٣ ـ ١٢٤).

(٢) في الكتيبة : «ترى أزهاره مع قانىء ...».

(٣) في المصدر نفسه : «تآلفها».

(٤) في بغية الوعاة (ص ١٣٩): «الجمعة ثامن عشرين رجب سنة ...».

(٥) ترجمة ابن الصقر في التكملة (ج ١ ص ٦٩) ، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٠٢) ، والوافي بالوفيات (ج ٧ ص ٤٧) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٢٣) ، والديباج المذهب (ج ١ ص ٢١١) ، ونفح الطيب (ج ٦ ص ٩١).

(٦) قارن بالذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٢٣).

(٧) ابنه الصغير هو محمد ، كما ورد أعلاه في الذيل والتكملة.

(٨) في الذيل والتكملة : «أبو أبي العباس هذا».

(٩) في الذيل والتكملة : «سبتة ابن نحو سبعة أعوام ، وأقام فيها به مديدة».

(١٠) قارن بالذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٢٥).

(١١) في الذيل والتكملة : «لمسائله».

(١٢) في المصدر نفسه : «بأصوله».

(١٣) في المصدر نفسه : «آنق».

٦٨

باليسير ، راضيا بالدّون ، مع الهمّة العليّة ، والنفس الأبيّة ، على هذا قطع عمره ، وكتب من دواوين العلم ودفاتره ، ما لا يحصى كثرة ، بجودة (١) وضبط وحسن خطّ ؛ وعني به أبوه في صغره ، فأسمعه كثيرا من الشروح ، وشاركه في بعضهم. نفعه الله.

نباهته : استدعاه أبو عبد الله بن حسّون ، قاضي مرّاكش ، إلى كتابته ، إلى أن صرف ، واستقرّ هو متولّي حكمها وأحكامها ، والصلاة في مسجدها ، ثم ترك الأحكام ، واستقرّ في الإمامة. ولمّا تصيّر الأمر إلى الموحّدين ، ألحقه عبد المؤمن (٢) منهم ، بجملة طلبة العلم ، وتحفّى به ، وقدّمه إلى الأحكام بحضرة مرّاكش ، فقام بها مدّة ، ثم ولّاه قضاء غرناطة ، ثم نقله إلى إشبيلية قاضيا بها مع وليّ عهده. ولمّا صار الأمر إلى يعقوب (٣) ، ألزمه خدمة الخزانة العلمية وكانت عندهم من الخطط التي لا يعيّن لها إلّا كبار أهل العلم وعليّهم ، وكانت مواهب عبد المؤمن له جزلة ، وأعطياتهم مترافهة كثيرة.

مشيخته : قرأ القرآن على أبيه ، وأكثر عنه ، وأجاز له ، وعلى أبي الحسن التطيلي ، قال : وهو أول من قرأت عليه.

من روى عنه : روى عنه أبو عبد الله ، وأبو خالد يزيد بن يزيد بن رفاعة ، وأبو محمد بن محمد بن علي بن وهب القضاعي.

دخوله غرناطة : صحبة (٤) القاضي أبي القاسم بن جمرة ، ونوّه به واستخلفه إذ وليها ، وقبض عليه بكلتي يديه ، ثم استقضي بها أبو الفضل عياض بن موسى ، فاستمسك به ، واشتمل عليه ؛ لصحبة كانت بينهما وقرابة ، إلى أن صرف عنها أبو الفضل عياض ، فانتقل إلى وادي آش ، فتولّى أحكامها والصلاة بها ، ثم عاد إلى غرناطة سنة ست وثلاثين ، إلى أن استقضي بغرناطة في دولة أبي محمد بن

__________________

(١) في المصدر نفسه : «وجودة وضبطا».

(٢) هو عبد المؤمن بن علي ، أول خلفاء الموحدين بالمغرب والأندلس ؛ حكم المغرب سنة ٥٢٤ ه‍. وفي سنة ٥٤١ ه‍ ضمّ الأندلس إلى المغرب. توفي سنة ٥٥٨ ه‍. ترجمته في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٧٩). والمعجب (ص ٢٦٢ ، ٢٦٥ ، ٢٩٢) ، والحلل الموشية (ص ١٠٧).

(٣) هو يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، حكم المغرب والأندلس من سنة ٥٥٨ ـ ٥٨٠ ه‍. ترجمته في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٨٣) ، والمعجب (ص ٣٠٨) ، والحلل الموشية (ص ١١٩).

(٤) قارن بالذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٢٦).

٦٩

عبد المؤمن بن علي ؛ فحمدت سيرته ، وشكر عدله ، وظهرت نزاهته ، ودام بها حتى ظنّ من أهلها.

شعره : وشعره في طريقة الزهد ، وهي لا ينفذ فيها إلّا من قويت عارضته ، وتوفّرت مادّته (١) : [الطويل]

إلهي لك الملك العظيم حقيقة

وما للورى مهما منعت نقير

تجافى بنو الدنيا مكاني فسرّني

وما قدر مخلوق جداه حقير

وقالوا فقير وهو (٢) عندي جلالة

نعم صدقوا إني إليك فقير

وشعره في هذا المعنى كثير ، وكله سلس المقادة ، دالّا على جودة الطبع. ومن شعره قوله (٣) : [الكامل]

أرض العدو بظاهر متصنّع

إن كنت مضطرّا إلى استرضائه (٤)

كم من فتى ألقى بوجه (٥) باسم

وجوانحي تنقدّ (٦) من بغضائه

تصانيفه : له (٧) تصانيف مفيدة تدلّ على إدراكه وإشرافه ، كشرحه «الشّهاب» ، فإنه أبدع فيه ، وكتابه «أنوار الأفكار ، فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزّهّاد والأبرار» ، ابتدأ تأليفه ، وتوفي دون إتمام غرضه فيه ، فكمّله عبد الله ابنه.

محنته : كان ممّن وقعت عليه المحنة العظمى بمرّاكش يوم دخول الموحّدين إياها ، يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوّال عام أحد (٨) وأربعين وخمسمائة ، على الوجه المشهور في استباحة دماء كل من اشتملت عليه من الذّكور البالغين ؛ إلّا من تسترّ بالاختفاء في سرب أو غرفة أو مخبأ. وتمادى القتل فيها ثلاثة أيام ، ثم نودي بالعفو عمّن أشارته الفتكة الكبرى ، فظهر من جميع الخلق بها ، ما يناهز السبعين رجلا ، وبيعوا بيع أسارى المشركين ، هم وذراريهم ، وعفي عنهم ، فكان أبو العباس ممّن تخطّته المنيّة ، واستنقذه من الرّقّ العفو ، وحسبك بها محنة ، نفعه الله ، وضاعت له في ذلك وفي غيره كتب كثيرة بخطّه وبغير خطّه ، مما تجلّ عن القيمة.

__________________

(١) الأبيات في الذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٣٠).

(٢) في الأصل : «وهم» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل والتكملة.

(٣) البيتان في التكملة (ج ١ ص ٧٠) ، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٠٢) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٣٠) ، ونفح الطيب (ج ٦ ص ٩١).

(٤) في الذيل والتكملة : «إلى إرضائه».

(٥) في الذيل والتكملة : «بثغر».

(٦) في الأصل : «تتّقد» ، وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر.

(٧) قارن بالذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٣٠).

(٨) في الأصل : «إحدى» وهو خطأ نحوي.

٧٠

مولده : بألمريّة في أواخر شهر ربيع سنة اثنتين (١) وخمسمائة.

وفاته : توفي بمرّاكش بين صلاة الظهر والعصر ، في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة (٢). ودفن يوم الاثنين بعده عقب صلاة الظهر ، وصلّى عليه القاضي أبو يوسف حجاج ؛ وكانت جنازته عظيمة المحفل ، كثيرة الجمع ؛ برز إليها الرجال والنساء ورفعوا نعشه على الأيدي ، رحمه الله.

ومما رثاه به جاره وصديقه أبو بكر بن الطفيل (٣) ، وهو بإشبيلية ، بعث بها إلى ابنه مع كتاب في غرض العزاء (٤) : [الوافر]

لأمر ما تغيّرت الدّهور

وأظلمت الكواكب والبدور

وطال على العيون الليل حتى (٥)

كأنّ النّجم فيه لا يغور

أحمد بن أبي القاسم بن عبد الرحمن

يعرف بابن القبّاب ، من أهل فاس ، ويكنى أبا العباس.

حاله : هذا الرجل ، صدر عدول (٦) الحضرة الفاسيّة ، وناهض عشّهم ، طالب ، فقيه ، نبيه ، مدرك ، جيّد النظر ، سديد الفهم ؛ حضر الدرس بين يدي السلطان ، وولّي القضاء بجبل الفتح (٧) ، متّصفا فيه بجزالة وانتهاض. تعرّفت به بمدينة فاس ، فأعجبتني سيمته ؛ ووصل مدينة سلا في غرض اختبار واستطلاع الأحوال السلطانية ؛ واستدعيته فاعتذر ببعض ما يقبل ، فخاطبته بقولي (٨) : [الوافر]

أبيتم دعوتي إمّا لشأو (٩)

وتأبى لومه مثلى الطريقه

__________________

(١) في الأصل : «اثنين» وهو خطأ نحوي. وفي التكملة (ج ١ ص ٧٠) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٣١) : ولد سنة ٤٩٢ ه‍.

(٢) في المقتضب (ص ١٠٢) ، والتكملة (ج ١ ص ٧٠) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٣١) : توفي سنة ٥٦٩ ه‍.

(٣) هو محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي ، أحد فلاسفة المسلمين. توفي بمراكش سنة ٥٨١ ه‍. ترجمته في المعجب (ص ٣١١) ، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٢٥) ، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص ٥٣٠) في ترجمة أبي الوليد بن رشد. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.

(٤) البيتان في الذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٣١).

(٥) في الذيل والتكملة : «... على نجيّ الهمّ ليل».

(٦) العدول : جمع عدل وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم ، لسان العرب (عدل).

(٧) جبل الفتح : هو جبل طارق.

(٨) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤١٣).

(٩) في النفح : «لبأو».

٧١

وبالمختار للناس اقتداء

وقد حضر الوليمة والعقيقه

وغير غريبة أن رقّ حرّ

على من حاله مثلي رقيقه

وإمّا زاجر الورع اقتضاها

ويأبى ذاك دكان الوثيقه

وغشيان المنازل لاختبار

يطالب بالجليلة والدّقيقه

شكرت مخيلة كانت مجازا

لكم وحصلت بعد على الحقيقه

وتفرّع الكلام على قولي : «ويأبى ذاك دكان الوثيقه» ، بما دعي إلى بيانه بتصنيفي فيه الكتاب المسمّى «بمثلى الطريقة في ذمّ الوثيقه».

دخوله غرناطة : في عام اثنين وستين وسبعمائة ، موجّها من قبل سلطان المغرب أبي سالم بن أبي الحسن لمباشرة صدقة عهد بها لبعض الرّبط (١) ؛ وهو إلى الآن ، عدل بمدينة فاس ، بحال تجلّة وشهرة. ثم تعرّفت أنه نسك ورفض العيش من الشهادة ككثير من الفضلاء.

أحمد بن إبراهيم بن الزّبير بن محمد بن إبراهيم بن الحسن

ابن الحسين بن الزبير بن عاصم بن مسلم بن كعب الثّقفي (٢)

يكنى أبا جعفر.

أوّليته : كعب الذي ذكر ، هو كعب بن مالك بن علقمة بن حباب بن مسلم بن عدي بن مرّة بن عوف بن ثقيف ؛ أصله من مدينة جيّان ، منزل قنّسرين ، من العرب الداخلين إلى الأندلس ؛ ونسبه بها كبير ، وحسبه أصيل ، وثروته معروفة. خرج به أبوه عند تغلّب العدوّ عليها عام ثلاثة وأربعين وستمائة ، ولأبيه إذ ذاك إثراء وجدة أعانته على طلب العلم ، وإرفاد (٣) من أحوجته الأزمة في ذلك الزمان من جالية العلماء عن قرطبة وإشبيلية كأبي الحسن الصائغ وغيره ، فنصحوا له ، وحطبوا في حبله.

حاله : كان خاتمة المحدّثين ، وصدور العلماء والمقرئين ، نسيج وحده ، في حسن التعليم ، والصبر على التّسميع ، والملازمة للتدريس ، لم تختلّ له ، مع تخطّي

__________________

(١) الرّبط : جمع رباط ، وهو الثغر التي يرابط فيه الجيش لدفع العدو. لسان العرب (ربط).

(٢) ترجمة أحمد بن إبراهيم الثقفي في الذيل والتكملة (ج ١ ص ٣٩) ، وشذرات الذهب (ج ٦ ص ١٦) ، وبغية الوعاة (ص ١٢٦) ، والوافي بالوفيات (ج ٥ ص ١٢٣).

(٣) الإرفاد : الإعانة والعطاء ؛ من قوله : رفده وأرفده : أي أعطاه. لسان العرب (رفد).

٧٢

الثمانين ، ولا لحقته سآمة ، كثير الخشوع والخشية ، مسترسل العبرة ، صليبا في الحق ، شديدا على أهل البدع ، ملازما للسّنّة ، جزلا ، مهيبا ، معظّما عند الخاصّة والعامّة ، عذب الفكاهة ، طيّب المجالسة ، حلو النّادرة ، يؤثر عنه في ذلك حكايات ، لا تخلّ بوقار ، وتحلّ بجلال منصب.

فنونه : إليه انتهت الرّياسة بالأندلس في صناعة العربية ، وتجويد القرآن ، ورواية الحديث ، إلى المشاركة في الفقه ، والقيام على التّفسير ، والخوض في الأصلين.

مشيخته : أخذ عن الجلّة المقرئين ، كالمقرئ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مستقور (١) الغرناطي الطائي.

نباهته وخططه : ولّي قضاء المناكح ، والخطبة بالحضرة ، وبلغ من الشّهرة والإشادة بذكره ، ما لم يبلغه سواه.

تصانيفه : من تأليفه كتاب «صلة الصّلة» لابن بشكوال ، التي وصلتها بعده ، وسمّيت كتابي ب «عائد الصلة» ، وافتتحت أول الأسماء فيه باسمه ؛ وكتاب «ملاك التأويل ، في المتشابه اللفظ في التّنزيل» غريب في معناه ؛ والبرهان في ترتيب سور القرآن ؛ وشرح الإشارة للباجي في الأصول ؛ وسبيل الرّشاد في فضل الجهاد ؛ وردع الجاهل عن اغتياب المجاهل ، في الرد على الشّودية (٢) ، وهو كتاب جليل ينبئ عن التفنّن والاضطلاع ؛ وكتاب الزمان والمكان ، وهو وصمة ، تجاوز الله عنه.

شعره : وشعره مختلف عن نمط الإجادة ، مما حقّه أن يثبت أو ثبت في كتاب شيخنا أبي البركات المسمّى «شعر من لا شعر له» مما رواه ، ممّن ليس الشعر له بضاعة ، من الأشياخ الذي عدّ صدر عنهم هو. فمن شعره (٣) : [السريع]

ما لي وللتسئال لا أمّ لي

سألت (٤) من يعزل أو من يلي

حسبي ذنوب (٥) أثقلت كاهلي

ما إن أرى إظلامها (٦) ينجلي

__________________

(١) كان ابن مستقور خطيبا بليغا ، كاتبا ناظما ناثرا ، بصيرا بعقود الشروط ، سابقا في علم الفرائض. استمر قضاؤه مع الخطابة بحضرة غرناطة إلى أول الدولة الإسماعيلية. تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٥).

(٢) الشودية : فرقة من فرق الصوفية في المغرب.

(٣) البيتان الأول والثاني في بغية الوعاة (ص ١٢٧).

(٤) في الأصل : «إن سألت» وكذا ينكسر الوزن ، لذلك اقتضى حذف «إن». وفي بغية الوعاة : «إن سلت».

(٥) في بغية الوعاة : «ذنوبي».

(٦) في المصدر نفسه : «غماءها».

٧٣

يا ربّ ، عفوا إنها جمّة

إن لم يكن عفوك لا أمّ لي

محنته : نشأت بينه وبين المتغلب بمالقة من الرؤساء التّجيبيين من بني إشقيلولة (١) ، وحشة أكّدتها سعاية بعض من استهواهم رجل ممخرق من بني الشّعوذة ، ومنتحلي الكرامة ، يمتطيها ، زعموا إلى النبوّة ، يعرف بالفزاري ، واسمه إبراهيم ، غريب المنزع ، فذّ المآخذ ، أعجوبة من أعاجيب الفتن ، يخبر بالقضايا المستقبلة ، ويتسوّر سور حمى العادة في التطوّر من التقشّف والخلابة ، تبعه ثاغية وراغية ، من العوام الصّمّ البكم ، مستفزّين فيه حياته ؛ وبعد زمن من مقتله ، على يد الأستاذ بغرناطة ، قرعه بحقّه ، وبادره بتعجيل نكيره ، فاستغاث بمفتونه الرئيس ، ظهير محاله فاستعصى له ؛ وبلغ الأستاذ النياحة ، ففرّ لوجهه ، وكبس منزله لحينه ، فاستولت الأيدي على ذخائر كتبه ، وفوائد تقييده عن شيوخه ، على ما طالت له الحسرة ، وجلّت فيه الرزيّة. ولحق بغرناطة آويا إلى كنف سلطانها الأمير أبي عبد الله بن الأمير الغالب بالله بن نصر ؛ فأكرم مثواه ، وعرف حقّه ، وانثال عليه الجمّ الغفير لالتماس الأخذ عنه ، إلى أن نالته لديه سعاية ، بسبب جار له ، من صلحاء القرابة النّصرية ، كان ينتابه لنسبة الخيريّة ، نميت عنه في باب تفضيله ، واستهالت للأمر كلمة ، أوجبت امتحانه ، وتخلّل تلك الألقيّة (٢) من الشكّ ، ما قصر المحنة على إخراجه من منزله المجاور لذلك المتّهم به ، ومنعه من التصرّف ، والتزامه قعر منزل انتقل إليه بحال اعتزال من الناس ، محجورا عليه مداخلتهم ؛ فمكث على ذلك زمانا طويلا ، إلى أن سرّيت عنه النكبة ، وأقشعت الموجدة ، فتخلّص من سرارها بدره ؛ وأقلّ من شكاتها جاهه ، وأحسنت أثرها حاله ، وكثر ملتمسه ، وعظمت في العالم غاشيته ؛ فدوّن واستمع ، وروى ودرّب ، وخرّج وأدّب وعلّم ، وحلّق وجهر. وكانت له الطّايلة على عدوّه ، والعاقبة للحسنى ، بعد ثبات أمره ، والظّفر بكثير من منتهب كتبه. وآلت الدولة للأمير أبي عبد الله نصر بمالقة ، فطالب الفزاريّ المذكور ، واستظهر بالشّهادات عليه ، وبالغ في دحض دعوته ، إلى أن قتل على يده بغرناطة.

حدّثنا شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب ، قال : لما أمر بالتأهّب للقتل وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه ، جهر بتلاوة «ياسين» ، فقال له أحد الذّعرة ، ممّن

__________________

(١) بنو إشقيلولة مولدون ، كانت تربطهم ببني نصر حكام غرناطة مصاهرة ، وقد قاموا ببعض الثورات ضدّ بني نصر ، واستقلوا ببعض المدن والثغور.

(٢) الألقيّة : هي ما ألقي من التحاجيّ ، جمعها ألاقيّ. لسان العرب (لقي).

٧٤

جمع السجن بينهم «اقرأ قرآنك ؛ على أيّ شيء تتطفّل على قرآننا اليوم» أو ما هو في معناه. فتركها مثلا للوذعيّته.

مولده : ببلده جيّان في أواخر عام سبعة وعشرين وستمائة.

وفاته : وتوفي بغرناطة في الثامن لشهر ربيع الأول عام ثمانية وسبعمائة. وكانت جنازته جنازة بالغة أقصى مبالغ الاحتفال ، نفر لها الناس من كل أوب ، واحتمل طلبة العلم نعشه على رؤوسهم ، إلى جدثه ، وتبعه ثناء جميل ، وجزع كبير ، رحمه الله.

ورثاه طائفة من طلبته ؛ وممّن أخذ عنه منهم ، القاضي أبو جعفر بن أبي حبل في قصيدة أولها : [الطويل]

عزيز على الإسلام والعلم ماجد

فكيف لعيني أن يلمّ بها الكرى؟

وما لمآقي لا تفيض شؤونها

نجيعا على قدر المصيبة أحمرا؟

فو الله ما تقضي المدامع بعض ما

يحقّ ولو كانت سيولا وأبحرا

حقيق لعمري أن تفيض نفوسنا

وفرض على الأكباد أن تتفطّرا

أحمد بن عبد الولي بن أحمد الرعيني

يكنى أبا جعفر ؛ ويعرف بالعوّاد ، صنعة لأبيه الكاتب الصالح.

حاله : هو من بيت تصاون ، وعفاف ، ودين ، والتزام السّنّة ؛ كانوا في غرناطة في الأشعار ، وتجويد القرآن ، والامتياز بحمله ، وعكوفهم عليه ، نظراء بني عظيمة بإشبيلية ، وبني الباذش بغرناطة ؛ وكان أبو جعفر هذا ، المترجم له ممّن تطوى عليه الخناصر ، معرفة بكتاب الله ، وتحقيقا لحقه ، وإتقانا لتجويده ، ومثابرة على تعليمه ، ونصحا في إفادته ؛ على سنن الصالحين ، انقباضا عن الناس ، وإعراضا عن ذوي الوجاهة ، سنيّا في قوله وفعله ، خاصّيّا في جميع أحواله ، مخشوشنا في ملبسه ، طويل الصّمت إلّا في دست تعليمه ، مقتصرا في مكسبه ، متّقيا لدينه ، محافظا على أواده. سأل منه رجل يوما كتب رقعة ، ففهم من أمره ، فقال : يا هذا ، والله ما كتبت قطّ يميني إلّا كتاب الله ، فأحبّ أن ألقاه على سجيّتي بتوفيقه ، إن شاء الله ، وتسديده.

مشيخته : قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير ، والأستاذ أبي جعفر الحزموني الكفيف ، وأبي عبد الله بن رشيد وغيرهم.

٧٥

وفاته : توفي في شهر ذي الحجة من عام خمسين وسبعمائة ، ودفن بجبّانة باب الفخّارين (١) في أسفل السفح تجاه القصور الحكمية ، وأتبعه الناس أحسن الثناء.

أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري (٢)

من أهل غرناطة ؛ يكنى أبا جعفر ، ويعرف بابن الباذش.

أوّليّته : أصله من جيّان ، من بيت خيريّة وتصوّن.

حاله : قال القاضي أبو محمد بن عطية : إمام في المقرئين ، ومقدّم في جهابذة الأستاذين ، راوية ، مكثر ، متفنّن في علوم القراءة ، مستبحر ، عارف بالأدب والإعراب ، بصير بالأسانيد ، نقّاد لها ، مميّز لشاذّها من معروفها. قال ابن الزّبير : وما علمت فيما انتهى إليه نظري وعلمي ، أحسن انقيادا لطرق القراءة ، ولا أجلّ اختيارا منه ، لا يكاد أحد من أهل زمانه ، ولا ممّن أتى بعده أن يبلغ درجته في ذلك.

مشيخته : تفقّه بأبيه الإمام أبي الحسن ، وأكثر الرواية عنه ، واستوفى ما كان عنده ، وشاركه في كثير من شيوخه. أخذ القراءات عرضا عن الإمام المقرئ أبي القاسم بن خلف بن النحّاس ، رحل إلى قرطبة ولازمه ؛ وعلى المقرئ أبي جعفر هابيل بن محمد الحلاسي ، وأبي بكر بن عيّاش بن خلف المقرئ ، وأبي الحسن بن زكريا ، وأبي الحسن شريح بن محمد ، وأبي محمد عبد الله بن أحمد الهمداني الجيّاني ، رحل إليه إلى جيان ، وتلا على جميع من ذكر. وروى بالقراءة والسّماع والإجازة على عالم كثير ، كأبي داود وأبي الحسن بن أخي الرّش المقرئين ، أجازا له ؛ وأبي علي الغسّاني في الإمامة والإتقان ، وقد أسمع عليه ؛ وأبي القاسم خلف بن صواب المقرئ ، وأبي عامر محمد بن حبيب الجيّاني ، وأبي عبد الله محمد بن أحمد التّجيبي الشهير ، وأبي محمد بن السيد ، وأبي الحسن بن الأخضر ، وأبي محمد عبد الله بن أبي جعفر الحافظ ، وعالم كثير غير هؤلاء يطول ذكرهم.

من روى عنه : روى عنه أبو محمد عبد الله ، وأبو خالد بن رفاعة ، وأبو علي القلعي المعدّي ، وأبو جعفر بن حكم ، وأبو الحسن بن الضّحّاك ، وابنه أبو محمد عبد المنعم ، وهو آخر من حدّث عنه.

__________________

(١) كان باب الفخارين ضمن أبواب غرناطة الثمانية ، وكان يقع تجاه قرية الفخار الواقعة على أطراف غرناطة الشمالية. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٢٩٥).

(٢) ترجمة أحمد بن علي الأنصاري في الصلة (ج ١ ص ١٣٨) ، وذكره ابن الأبار في التكملة (ج ٤ ص ٢٥٩) في ترجمة أخته مسعدة بنت علي بن أحمد بن الباذش.

٧٦

تصانيفه : ألّف كتاب «الإقناع» في القراءات ، لم يؤلّف في بابه مثله ؛ وألّف كتاب «الطرق المتداولة» في القراءات ، وأتقنه كل الإتقان ، وحرّر أسانيده وأتقنها ، وانتقى لها ، ولم يتّسع عمره لفرش حروفهم وخلافهم من تلك الطرق. وألّف غير ما ذكر.

مولده : في ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.

وفاته : توفي ثاني جمادى الآخرة سنة أربعين وخمسمائة (١) ، وكان عمره تسعا وأربعين سنة.

أحمد بن عبد النور بن أحمد بن راشد رحمه الله

يكنى أبا جعفر ، من أهل مالقة ، ويعرف بيته بها ببني راشد. قال شيخنا أبو البركات : نقلت اسم هذا من خطّه ، ولا نعلم له نسبا إذ لم يكتبه ، وشهر بابن عبد النّور.

حاله : كان قيّما على العربية إذ كانت جلّ بضاعته ؛ يشارك مع ذلك في المنطق ، على رأي الأقدمين ، وعروض الشعر ، وفرائض العبادات من الفقه ، وقرض الشعر. وكان له اعتناء بفكّ المعمّى ، والتّنقير عن اللّغوز. وكان ذكيّ الصوت عند قراءة القرآن ، خاشعا به. رحل من بلده مالقة إلى سبتة ، ثم انتقل إلى الأندلس وأقرأ بوادي آش مدة ، وتردّد بين ألمريّة وبرجة ، يقرئ بها القرآن ، وغير ذلك مما كان يشارك فيه. وناب عن بعض القضاة وقتا ، ودخل غرناطة أثناء هذا السّفر.

مشيخته : قال : أخذ القرآن قراءة على طريقة أبي عمرو والدّاني ، على الخطيب أبي الحسن الحجاج بن أبي ريحانة المربلّي (٢) ، ولا يعلم له في بلده شيخ سواه ، إذ لم يكن له اعتناء بلقاء الشيوخ ، والحمل عنهم. ومن علمي أنه لقي أبا الحسن بن الأخضر المقرئ العروضي بسبتة ، وذاكره في العروض ، ولا أعلم هل أخذ عنه أم لا. ورأيت في تقاييدي أن القاضي أبا عبد الله بن برطال حدّثني أن ابن النّور قرأ معه الجزوليّة (٣) على ابن مفرّج المالقي تفقها ، وقيّد عليه تقييدا عرضه بعد ذلك ، على ابن

__________________

(١) في الصلة : توفي سنة ٥٤٢ ه‍.

(٢) نسبة إلى مربلّةMarbella ، وهي مدينة صغيرة مسوّرة ، تبعد ستين كيلو مترا إلى الغرب من مالقة : الروض المعطار (ص ٥٣٤).

(٣) الجزولية : نسبة إلى الجزولي ، وهو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي ، النحوي المغربي المتوفّى سنة ٦١٠ ه‍ ، وقيل : ٦٠٦ و ٦٠٧ ه‍. والجزولية هي المقدمة التي كتبها أبو موسى المذكور وسماها القانون ، وكلها رموز وإشارات ، اعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها. ـ

٧٧

مفرج هذا ؛ وهو محمد بن يحيى بن علي بن مفرج المالقي. وروى عن أبي الحجّاج المتقدّم الذّكر تيسير أبي عمرو الداني ، وجمل الزّجّاجي ، وأشعار الستّة ، وفصيح أحمد بن يحيى بن ثعلب ؛ وقفت في ذلك على رقّ أجاز فيه بعض الآخذين عنه ، ولم ينصّ فيه على كيفية أخذه لهذا الكتيّب عن أبي الحجّاج. قال : ورأيت في ذلك الرّقّ أوهاما تدلّ على عدم شعوره بهذا الباب جملة ، وقبول التّلقين فيه ، فلا ينبغي أن يركن إلى مثله فيه. ورأيت بخط بعض أصحابه ، أنه تفقّه على أبي ريحانة ، ولعلّ ذلك في صغره قبل أن يتحكّم طلبه ويتفنّن ، إذ الفنون التي كان يأخذ منها لم يكن أبو ريحانة مليّا بها ، ولا منسوبا إليها.

تصانيفه : منها كتاب «الحلية في ذكر البسملة والتصلية». وكتاب «رصف المباني في حروف المعاني» ، وهو أجلّ ما صنّف وممّا يدلّ على تقدّمه في العربية. وجزء في العروض. وجزء في شواذّه. وكتاب في شرح الكوامل لأبي موسى الجزولي ، يكون نحو الموطّأ في الجرم ، وكتاب شرح مغرب أبي عبد الله بن هشام الفهري ، المعروف بابن الشّواش ، ولم يتمّ ، انتهى فيه إلى همزة الوصل ، يكون نحو الإيضاح لأبي علي. وله تقييد على الجمل غير تام.

شعره : قال : وشعره وسط ، بعيد عن طرفي الغثّ ، والثمين أبعد ؛ وكان لا يعتني فيه ولا يتكلّفه ، ولا يقصد قصده ؛ وإنّ ذلك لعذر في عدم الإجادة. قال الشيخ : ولديّ جزء منه تصفّحته على أن أستجيد منه شيئا أثبته له في هذا التّعريف ، فرأيت (١) بعضه أشبه ببعض من الغرابة ، فكتبت من ذلك ، لا مؤثرا له على سواه من شعره ؛ بل لمرجّح كونه أوّل خاطر بالبال ، ومتلمّح خطّه بالبصر ، فمن ذلك قوله من قصيدة ، ومن خطه نقلت : [الطويل]

محاسن من أهوى يضيق لها الشرح

له الهمّة العلياء والخلق السّمح

له بهجة يغشى البصائر نورها

وتعشى بها الأبصار إن غلس الصّبح

إذا ما رنا فاللّحظ سهم مفوّق

وفي كل عضو من إصابته جرح

إذا (٢) ما انثنى زهوا وولّى تبخترا

يغار لذاك القدّ من لينه الرّمح

وإن نفحت أزهاره عند روضة

فيخجل ريّا زهرها ذلك النّفح

هو الزّمن المأمول عند ابتهاجه

فلمّته ليل ، وغرّته صبح

__________________

ـ وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩) ، ونفح الطيب (ج ٢ ص ٢٦٦ ـ ٢٦٧).

(١) في الأصل : «فرأيته».

(٢) في الأصل : «إذ» وهكذا ينكسر الوزن.

٧٨

لقد خامرت نفسي مدامة حبّه

فقلبي من سكر المدامة لا يصحو (١)

وقد هام قلبي في هواه فبرّحت

بأسراره عين لمدمعها سبح

غفلته ونوكه : كان هذا الرجل من البله في أسباب الدنيا ؛ له في ذلك حكايات دائرة على ألسنة الشقاة من الملازمين له وغيرهم ، لو لا تواترها لم يصدّق أحد بها ، تشبه ما يحكى عن أبي علي الشلوبين. منها أنه اشترى فضلة ملف فبلّها ، فانتقصت كما يجري في ذلك ، فذرعها بعد البلّ فوجدها تنقصت ، فطلب بذلك بائع الملف ، فأخذ يبيّن له سبب ذلك فلم يفهم. ومنها أنه سار إلى بعض بساتين ألمرية مع جماعة من الطلبة واستصحبوا أرزّا ولبنا ، فطلبوا قدرا لطبخه ، فلم يجدوا ، فقال : اطبخوا في هذا القدر ، وأشار إلى قدر بها بقيّة زفت مما يطلى به السّواني (٢) عندهم ، فقالوا له : وكيف يسوغ الطبخ بها ، ولو طبخ بها شيء مما تأكله البهائم لعافته ، فكيف الأرز باللبن؟ فقال لهم : اغسلوا معائدكم ، وحينئذ تدخلون فيها الطعام. فلم يدروا ممّا يعجبون ، هل من طيب نفسه بأكله مما يطبخ في تلك القدر ، أم من قياسه المعدة عليها. ومنها أنهم حاولوا طبخ لحم مرّة أخرى في بعض النّزه فذاق الطعام من الملح بالمغرفة ، فوجده محتاجا للملح ، فجعل فيه ملحا وذاقه على الفور ، قبل أن ينحلّ الملح ويسري في المرقة الأولى ، فزاد ملحا إلى أن جعل فيه قدر ما يرجح اللحم ، فلم يقدروا على أكله. ومنها أنه أدخل يده في مفجر صهريج فصادفت يده ضفدعا كبيرا ، فقال لأصحابه : تعالوا إن هنا حجرا رطبا. ومنها أنه استعار يوما من القائد أبي الحسن بن كماشة ، جوادا ملوكيّا ، قرطاسي اللّون ، من مراكب الأمراء ؛ فقال : وجّه لي تلك الدّابّة ، فتخيّل أنه يريد الرّكوب إلى بعض المواضع ، ثم تفطّن لغفلته ، وقال : أي شيء تصنع به ، قال : أجعله يسني شيئا يسيرا في السّانية ، فقال : تقضى الحاجة ، إن شاء الله بغيره ؛ ووجّه له حمارا برسم السانية ، وهو لا يشعر بشيء من ذلك كله.

قلت : وفي موجودات الله تعالى عبر ، وأغربها عالم الإنسان ، لما جبلوا عليه من الأهواء المختلفة ، والطّباع المشتّتة ، والقصور عن فهم أقرب الأشياء ، مع الإحاطة بالغوامض.

حدّثنا غير واحد ، منهم عمّي أبو القاسم ، وابن الزّبير ؛ إذنا في الجملة ، قالا : حدّثنا أبو الحسن بن سراج عن أبي القاسم بن بشكوال ، أن الفقيه صاحب الوثائق أبا

__________________

(١) في الأصل : «لا يصحّ».

(٢) السواني : جمع السانية وهي كالساقية ، ما يسقى عليه الزرع والحيوان. لسان العرب (سنا).

٧٩

عمر بن الهندي ، خاصم يوما عند صاحب الشّرطة والصلاة ، إبراهيم بن محمد ، فنكل وعجز عن حجّته ، فقال له الشرطي : ما أعجب أمرك ، أبا عمر ، أنت ذكي لغيرك ، بكيّ (١) في أمرك ؛ فقال أبو عمر : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ)(٢). ثم أنشد متمثّلا : [المنسرح]

صرت كأني ذبالة نصبت

تضيء للناس وهي تحترق

قال : وحدّثني الشيخ أبو العباس بن الكاتب ببجاية ، وهو آخر من كتبنا معه الحديث من أصحاب ابن الغمّاز ، قال : كنت آويا إلى أبي الحسن حازم القرطجاني بتونس ؛ وكنت أحسن الخياطة ، فقال لي : إن المستنصر خلع على جبّة جربيّة من لباسه ، وتفصيلها ليس من تفصيل أثوابنا بشرق الأندلس ، وأريد أن تحلّ أكمامها ؛ وتصيّرها مثل ملابسنا. فقلت له : وكيف يكون العمل؟ فقال : تحلّ رأس الكمّ ، ويوضع الضيّق بالأعلى ، والواسع بالطرف. فقلت : وبم يحيّر الأعلى؟ فإنه إذا وضع في موضع واسع ، سطت علينا فرج ما عندنا ؛ ما يصنع فيها إلا أن رقّعنا بغيرها ، فلم يفهم. فلما يئست منه تركته وانصرفت. فأين هذا الذهن الذي صنع المقصورة وغيرها من عجائب كلامه.

مولده : في رمضان من عام ثلاثين وستمائة.

وفاته : توفي بألمرية يوم الثلاثاء السابع والعشرين لربيع الآخر من عام اثنين وسبعمائة ، ودفن بخارج باب بجاية بمقبرة من تربة الشيخ الزاهد أبي العباس بن مكنون.

أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن محمد

ابن مصادف بن عبد الله

يكنى أبا جعفر ، ويعرف بابن مصادف ؛ من أهل بسطة ، واستوطن غرناطة ، وقرأ وأقرأ بها.

حاله : من أهل الطلب والسّلاطة والاجتهاد ، وممّن يقصر محصّله عن مدى اجتهاده ، خلوب (٣) اللسان ، غريب الشّكل ، وحشيّه ، شتيت الشّعر معفيه ، شديد

__________________

(١) البكيّ : الكثير البكاء ، وهنا جاءت بمعنى : العاجز والعييّ. لسان العرب (بكى).

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٨٧.

(٣) الخلوب : الخلّاب ؛ يقال : خلبه إذا أمال قلبه بألطف القول. لسان العرب (خلب).

٨٠