الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

الخضر بن أحمد بن الخضر بن أبي العافية (١)

من أهل غرناطة ، يكنى أبا القاسم.

حاله : من كتاب «عائد الصلة» (٢) : كان ، رحمه الله ، صدرا من صدور القضاة ، من أهل النظر والتقييد ، والعكوف على الطّلب ، مضطلعا (٣) بالمسائل ، مسائل الأحكام ؛ مهتديا (٤) لمظنّات النّصوص ، نسخ بيده الكثير ، وقيّد على الكثير من المسائل ، حتى عرف فضله ، واستشاره الناس (٥) في المشكلات. وكان بصيرا بعقد الشروط ، ظريف الخطاب (٦) ، بارع الأدب ، شاعرا مكثرا ، مصيبا غرض الإجادة. وتصرّف في الكتابة السلطانية ، ثم في القضاء ، وانتقل في الولايات الرفيعة النّبيهة. وجرى ذكره في «التّاج المحلّى» بما نصّه (٧) :

«فارس في ميدان البيان ، وليس الخبر كالعيان ؛ وحامل لواء الإحسان ، لأهل هذا الشّان (٨) ؛ رفل في حلل (٩) البدائع فسحب أذيالها ، وشعشع أكواس (١٠) العجائب فأدار جريالها (١١) ، واقتحم على الفحول (١٢) أغيالها (١٣) ، وطمح إلى الغاية البعيدة فنالها ، وتذوكرت المعضلات (١٤) فقال : أنا لها. عكف واجتهد ، وبرز إلى مقارعة المشكلات ونهد ، فعلّم وحصّل ، وبلغ الغاية وتوصّل ؛ وتولّى القضاء ، فاضطلع بأحكام الشّرع ، وبرع في معرفة الأصل والفرع ، وتميّز في المسائل بطول الباع ، وسعة الذّراع ؛ فأصبح صدرا في مصره ، وغرّة في صفحة عصره. وسيمرّ في بديع كلامه ، وهثّات (١٥) أقلامه ، وغرر إبداعه ، ودرر اختراعه ، ما يستنير (١٦) لعلم الحليم ، وتلقي له البلغاء يد التسليم».

__________________

(١) ترجمة الخضر بن أحمد في تاريخ قضاء الأندلس (ص ١٨٦) والكتيبة الكامنة (ص ١٧٧) ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص ٩٣).

(٢) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٦).

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس : «مضطلعا بنوازل الأحكام».

(٤) في المصدر نفسه : «مهتديا لاستخراج غرائب النصوص».

(٥) في المصدر نفسه : «القضاة».

(٦) في المصدر نفسه : «ظريف الخط».

(٧) قارن بالكتيبة الكامنة (ص ١٧٧ ـ ١٧٨).

(٨) في الكتيبة : «هذا اللسان».

(٩) في الكتيبة : «سحائب».

(١٠) في الكتيبة : «أكؤس».

(١١) في الأصل : «جريا لها» والتصويب من الكتيبة. والجريال : الخمر.

(١٢) في الأصل : «الليوث».

(١٣) الأغيال : الأجمات.

(١٤) في الكتيبة : «المخترعات».

(١٥) المراد بهثّات أقلامه : الكتابة السريعة العابرة.

(١٦) في الكتيبة : «وشعره يستفزّ حلم الحليم ، ويلقي له فرسان المجال أيدي التسليم».

٢٨١

شعره : قال في غرض الحكمة والأمثال (١) : [الكامل]

عزّ (٢) الهوى نقصان والرأي الذي

ينجيك منه ، إذا ارتأيت مروما (٣)

فإذا رأيت الرأي يتّبع الهوى

خالف وفاقهما تعدّ حكيما

وكيف تخاف من الحليم مداجيا (٤)

خف من نصيحك ذي (٥) السّفاهة شوما

واحذر معاداة الرجال توقّيا

منهم ظلوما كنت أو مظلوما

فالناس (٦) إما جاهل لا يتّقي

عارا ولا يخشى العقوبة لوما

أو عاقل يرمي بسهم مكيدة

كالقوس ترسل سهمها مسموما

فاحلم عن القسمين تسلم منهما

وتسد فتدعى سيّدا وحليما (٧)

ودع المعاداة (٨) التي من شأنها

أن لا تديم على الصّفاء قديما (٩)

أبت المغالبة الوداد فلا تكن

ممّن يغالب ما حييت نديما (١٠)

وإذا منيت بقربه (١١) فاخفض جنا

ح (١٢) الذّلّ واخضع ظاعنا ومقيما

إنّ الغريب لكالقضيب محاير (١٣)

إن لم يمل للريح عاد رميما

وارع (١٤) الكفاف ولا تجاوز حدّه

ما بعده يجني عليك هموما

وابسط يديك متى غنيت ولا تكن

فيما (١٥) يكون به المديح ذميما

وإذا بذلت فلا تبذّر إنّ ذا ال

تبذير يومئذ أخوه رجيما (١٦)

وعف الورود إذا تزاحم مورد

واحسب ورود الماء منه حميما

واصحب كريم الأصل ذا فضل فمن

يصحب لئيم الأصل عدّ لئيما

فالفضل من لبس الكرام فمن عرى

عنه فليس لما (١٧) يقول كريما

__________________

(١) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ١٧٨ ـ ١٧٩).

(٢) في الكتيبة : «عدّ».

(٣) في الكتيبة : «نئوما».

(٤) في الأصل : «مراجيا» والتصويب من الكتيبة الكامنة. ومداجيا : مداريا ؛ يقال : داجاه إذا داراه وواطأه كأنه ساتره بالعداوة. محيط المحيط (دجا).

(٥) في الكتيبة : «في السفاهة».

(٦) في الكتيبة : «والناس».

(٧) في المصدر نفسه : «وحكيما».

(٨) في المصدر نفسه : «المماراة».

(٩) في المصدر نفسه : «نديما».

(١٠) في الكتيبة : «حليما».

(١١) في الكتيبة : «بغربة».

(١٢) في الأصل : «فاخفض له جناح ...» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(١٣) في الكتيبة : «تحيّرا».

(١٤) في المصدر نفسه : «وابغ».

(١٥) في المصدر نفسه : «فيمن».

(١٦) في المصدر نفسه : «التبذير مثل أخيه كان رجيما».

(١٧) في المصدر نفسه : «كما يقال».

٢٨٢

(إنّ المقارن بالمقارن يفتدي) (١)

مثل جرى جري الرياح قديما

وجماع كلّ الخير في التّقوى فلا

تعدم حلى التّقوى تعدّ عديما

وقال يصف الشّيب من قصيدة ، وهي طويلة ؛ أولها (٢) : [الكامل]

لاح الصباح ، صباح شيب المفرق

فاحمد سراك نجوت ممّا تتّقي

هي شيبة الإسلام فاقدر قدرها

قد أعتقتك وحقّ قدر المعتق

خطّت بفودك أبيضا في أسود

بالعكس من معهود خطّ مهرق (٣)

كالبرق راع بسيفه (٤) طرف الدّجى

فأعار (٥) دهمته شتات (٦) الأبلق

كالفجر يرسل في الدّجنّة خيطه

ويجرّ (٧) ثوب ضيائه بالمشرق

كالماء يستره بقعر (٨) طحلب

فتراه بين خلاله كالزّئبق

كالحيّة الرقشاء إلّا أنه

لا يبرأ الملسوع منه إذا رقي

كالنّجم عدّ لرجم شيطان الصّبا

يا ليت شيطان الصّبا لم يحرق

كالزّهر إلّا أنه لم يستنم (٩)

إلّا بغصن (١٠) ذابل لم يورق

كتبسّم الزّنجيّ إلّا أنه

يبكي العيون بدمعه (١١) المترقرق

وكذا البياض قذى العيون ولا ترى

للعين أبكى (١٢) من بياض المفرق

ما للغواني وهو لون خدودها

يجزعن من لألائه المتألّق

وأخلته لمع السّيوف ومن يشم

لمع السّيوف على المفارق يفرق

هو ليس ذاك ولا الذي أنكرته (١٣)

كن (١٤) خائفا ما خفن منه واتّق

داء يعزّ على (١٥) الطبيب دواؤه

ويضيع خسرا فيه مال المنفق

__________________

(١) هذا من قول عدي بن زيد العبادي ، المتوفّى سنة ٣٥ ق. ه : [الطويل]

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه

فإنّ القرين بالمقارن مقتدي

معجم الشعراء للمرزباني (ص ٢٥٠).

(٢) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ١٨٠ ـ ١٨١).

(٣) في الكتيبة الكامنة : «المهرق». والمهرق : الصحيفة.

(٤) في الكتيبة الكامنة : «بسوطه».

(٥) في الكتيبة الكامنة : «فأعاد».

(٦) في الكتيبة الكامنة : «شيات».

(٧) في الكتيبة الكامنة : «ويحوك».

(٨) في الكتيبة : «بقاع».

(٩) في الكتيبة : «يبتسم».

(١٠) في الكتيبة : «لغصن».

(١١) في الكتيبة : «بدمعها».

(١٢) في الكتيبة : «أنكى».

(١٣) في المصدر نفسه : «أنكرنه».

(١٤) في الأصل : «نكن» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة : «نكرا فخف ما ...».

(١٥) في الكتيبة : «عن».

٢٨٣

لكنه والحقّ أصدق مقول

شين المسيء الفعل زين المتّقي

ومن مقطوعاته قوله (١) : [المتقارب]

أقلّي فما الفقر بالمرء عار (٢)

ولا دار من يألف الهون دارا

وما (٣) يكسب العزّ إلّا الغنى

غنى النّفس فلتتّخذه (٤) شعارا

وما اجتمع الشّمل في غيره

فيحسن إلّا وساء انتشارا

فزهرة غيرك لا تنظري (٥)

فيألم قلبك منه انكسارا

وهزّي إليك بجذع الرّضى

تساقط عليك الأماني ثمارا

وقال أيضا : [المجتث]

العلم حسن وزين

والجهل قبح وشين

والمال عزّ وعيش

والفقر ذلّ وحين

والناس أعضاء جسم

فمنهم است وعين

هذي مقالة حقّ

ما في الذي قلت مين

وقال أيضا : [الخفيف]

إن أراك الزمان وجها عبوسا

فستلقاه بعد ذلك طلقا (٦)

لا يهمّنك حاله إنّ في طر

فة عين ترتاح فيه وتشقى

أيّ عزّ رأيت أو أيّ ذلّ

لذوي الحالتين في الدهر يبقى

سل نجوم الدّجى إذا ما استنارت

ما الذي في وقت الظّهيرة تلقى

وتفكّر وقل بغير ارتياب

كلّ شيء يفنى وربّك يبقى

وقال أيضا (٧) : [الكامل]

لو أنّ أيام الشّباب تعود لي

عود النّضارة للقضيب المورق

ما إن بكيت على شباب قد ذوى

وبقيت منتظرا لآخر مونق

__________________

(١) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٨١).

(٢) في الكتيبة : «عارا».

(٣) في الكتيبة : «ولا».

(٤) في الأصل : «فاتّخذه» ، وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٥) في الأصل : «فدهر ... تنظرن» وهكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له ، والتصويب من الكتيبة.

(٦) في الأصل : «... من بعد ذاك طلقا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٧) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ١٨١).

٢٨٤

وقال في القلم (١) : [الطويل]

لك القلم الأعلى الذي طال فخره

وإن لم يكن إلّا قصيرا مجوّفا

تعلّم منه الناس (٢) أبدع حكمة

فها هو أمضى ما يكون محرّفا

وقال في التشبيه : [البسيط]

كأنما السّوسن الغضّ الذي افتتحت

منه كمائمه المبيضّة اللون

بنان كفّ فتاة قطّ ما خضبت

تلقى بها من يراها خيفة العين

وقال يعرّض بقوم من بني أرقم : [المتقارب]

إذا ما نزلت بوادي الأشى (٣)

فقل ربّ من لدغه سلّم

وكيف السلامة في موطن

به عصبة من بني أرقم؟

وقال موريا بالفقه ، وهو بديع (٤) : [الخفيف]

لي دين على الليالي قديم

ثابت الرّسم منذ خمسين حجّه (٥)

أفأعدى بالحكم بعد عليها (٦)؟

أم لها في تقادم الدّهر (٧) حجّه؟

ونختم مقطوعاته بقوله (٨) : [الطويل]

نجوت بفضل الله ممّا أخافه

ولم لا وخير العالمين شفيع؟

وما ضعت في الدنيا بغير شفاعة

فكيف إذا كان الشفيع أضيّع؟

وقال أيضا : [الطويل]

عليك بتقوى الله فيما ترومه

من الأمر تخلص بالمرام وبالأجر

ولا ترج غير الله في نيل حاجة

ولا دفع ضرّ في سرار ولا جهر

فمن أمّ غير الله أشرك عاجلا

وفارقه إيمانه وهو لا يدري (٩)

وفاته : توفي قاضيا ببرجة ، وسيق إلى غرناطة ، فدفن بباب إلبيرة عصر يوم الأربعاء آخر يوم من ربيع (١٠) عام خمسة وأربعين وسبعمائة.

__________________

(١) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ١٨٢).

(٢) في الكتيبة : «السيف».

(٣) في الأصل : «الآشي» وهكذا ينكسر الوزن.

(٤) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ١٨٢).

(٥) الحجّة ، بكسر الحاء : السنة.

(٦) في الأصل : «أقاعدا بالحكم عليها» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٧) في الكتيبة : «العهد».

(٨) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ١٨٢).

(٩) في الأصل : «لا يدر».

(١٠) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٦): «ربيع الأول».

٢٨٥

خالد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي (١)

من أهل قنتورية (٢) ، من حصون وادي المنصورة.

حاله : هذا الرجل من أهل الفضل والسذاجة ، كثير التواضع ، منحطّ في ذمّة التّخلّق ، نابه الهيئة ، حسن الأخلاق ، جميل العشرة ، محبّ في الأدب ؛ قضى ببلده وبغيره ، وحجّ وقيّد رحلته في سفر ، وصف فيه البلاد ومن لقي ، بفصول جلب أكثرها من كلام العماد الأصبهاني ، وصفوان وغيرهما ، من ملح. وقفل إلى الأندلس ، وارتسم في تونس في الكتابة عن أميرها زمانا يسيرا ؛ وهو الآن قاض ببعض الجهات الشرقية.

وجرى ذكره في الرّحلة (٣) التي صدرت عني في صحبة الرّكاب السلطاني عند تفقّد البلاد الشرقية ؛ في فصل حفظه الناس ، وأجروه في فكاهاتهم وهو :

«حتى إذا الفجر تبلّج ، والصّبح من باب المشرق تولّج ، عدنا وتوفيق الله قائد ، وكنفنا من عنايته صلة وعائد ، تتلقّى ركابنا الأفواج ، وتحيّينا الهضاب والفجاج إلى قنتورية ، فناهيك من مرحلة قصيرة كأيام الوصال ، قريبة البكر من الآصال ، كان المبيت بإزاء قلعتها السّامية الارتفاع ، الشهيرة الامتناع ؛ وقد برز أهلها في العديد والعدّة ؛ والاحتفال الذي قدم به العهد على طول المدّة ، صفوفا بتلك البقعة خيلا ورجلا كشطرنج الرّقعة ، لم يتخلّف ولد عن والد ، وركب قاضيها ابن أبي خالد ؛ وقد شهرته النّزعة الحجازيّة ، وقد لبس من الحجازيّ ، وأرخى من البياض طيلسانا ، وتشبّه بالمشارقة شكلا ولسانا ، وصبغ لحيته بالحنّاء والكتم (٤) ، ولاث عمامته واختتم ، والبداوة تسمه على الخرطوم ، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم ، فداعبته مداعبة الأديب للأديب ؛ والأريب للأريب ، وخيّرته بين خصلتين ، وقلت : نظمت مقطوعتين ، إحداهما مدح ؛ والأخرى قدح ؛ فإن همت ديمتك ، وكرمت شيمتك ، فللذين أحسنوا الحسنى ، وإلّا فالمثل الأدنى. فقال : أنشدني لأرى على أيّ امرئ أتيت ، وأفرق بين ما جنّيتني وما جنيت ، فقلت : [الكامل]

قالوا وقد عظمت مبرة خالد

قاري الضيوف بطارف وبتالد

__________________

(١) ترجمه خالد البلوي في الكتيبة الكامنة (ص ١٣٤) ونفح الطيب (ج ٣ ص ٢٧٧).

(٢) في الكتيبة الكامنة : «القتوري». وقنتورية : بالإسبانية : Cantoria.

(٣) هذا السّفر هو رحلة البلوي المسماة ب «تاج المفرق في تحلية أهل المشرق».

(٤) الكتم : نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه. محيط المحيط (كتم).

٢٨٦

ما ذا تممت به فجئت بحجّة

قطعت بكل مجادل ومجالد

أن يفترق نسب يؤلّف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

وأما الثانية فيكفي من البرق شعاعه ، وحسبك من شرّ سماعه. ويسير التنبيه كاف للنّبيه ؛ فقال : لست إلى قراي بذي حاجة ، وإذا عزمت فأصالحك على دجاجة ؛ فقلت : ضريبة غريبة ، ومؤنة قريبة ؛ عجّل ولا تؤجّل ، وإن انصرم أمد النهار فأسجل ؛ فلم يكن إلّا كلّا ولا ، وأعوانه من القلعة تنحدر ، والبشر منهم بقدومها يبتدر ، يزفّونها كالعروس فوق الرّءوس ، فمن قائل يقول : أمّها يمانيّة ، وآخر يقول : أخوها الخصيّ الموجّه إلى الحضرة العليّة ، وأدنوا مرابطها من المضرب ، بعد صلاة المغرب ، وألحفوا في السؤال ، وتشطّطوا في طلب النّوال ؛ فقلت : يا بني اللّكيعة جئتم ببازي ، بماذا كنت أجازي ، فانصرفوا وما كادوا يفعلون ، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ؛ حتى إذا سلّت لذبحها المدى ، وبلغت من طول أعمارها المدى ، قلت : يا قوم ، ظفرتم بقرّة العين ، وأبشروا باقتراب اللقاء فقد ذبحت لكم غراب البين».

ولقد بلغني أنه لهذا العهد بعد أن طال المدى ، يتظلّم من ذلك ، وينطوي من أجله على الوجدة ؛ فكتبت إليه : وصل الله عزّة الفقيه النّبيه ، العديم النظير والتّشبيه ؛ وارث العدالة عن عمّه وابن أبيه ، في عزّة تظلّله ، وولاية تتوّج جاهه وتكلّله.

داود بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان

ابن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي الأندي (١)

يكنى أبا سليمان.

أوّليّته : قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : من بيت علم وعفاف ، أصله من أندة (٢) ، حصن بشرقي الأندلس ، وانتقل أبو سليمان هذا مع أخيه أبي محمد إلى حيث يذكر بعد.

حاله : قال ابن عبد الملك : كان حافظا للقراءة ، عارفا بإقراء القرآن بها ، أتقن ذلك عن أبيه ، ثم أخيه كبيره أبي محمد ، محدّثا متّسع الرواية ، شديد العناية بها ، كثير

__________________

(١) نسبة إلى أندةOnda ، وهي مدينة من أعمال بلنسية بالأندلس ، كثيرة المياه والشجر ، وبخاصة التين ، فإنه يكثر بها. معجم البلدان (ج ١ ص ٢٦٤) والروض المعطار (ص ٤١). وترجمة داود بن سليمان بن حوط الله في التكملة (ج ١ ص ٢٥٦) والوافي بالوفيات (ج ١٣ ص ٤٦) وشذرات الذهب (ج ٥ ص ٩٤).

(٢) أندة : عمل بلنسية. التكملة (ج ١ ص ٢٥٦).

٢٨٧

السّماع ، مكثرا ، عدلا ، ضابطا لما ينقله ، عارفا بطرق الحديث. أطال الرّحلة في بلاد الأندلس ، شرقها وغربها ، طالبا العلم بها ، ورحل إلى سبتة وغيرها من بلاد الأندلس العدوية (١). وعني بلقاء الشيوخ كبارا وصغارا والأخذ منهم أتمّ عناية ، وحصل له بذلك ما لم يحصل لغيره. وكان فهيما بصيرا بعقد الشروط ، حاذقا في استخراج نكتها ، تلبّس بكتبها زمانا طويلا بمسجد الوحيد من مالقة ، وكان محبّا في العلم وأهله ، حريصا على إفادته إيّاهم ، صبورا على سماع الحديث ، حسن الخلق ، طيّب النفس ، متواضعا ، ورعا ، منقبضا ، ليّن الجانب ، مخفوض الجناح ، حسن الهدى ، نزيه النفس ، كثير الحياء ، رقيق القلب ، تعدّد الثّناء عليه من الجلّة.

قال ابن الزّبير : كان من أهل العدالة والفضل ، وحسن الخلق ، وطيب النفس والتّواضع ، وكثرة الحياء. وقال ابن عبد المجيد : كان ممّن فضّله الله بحسن الخلق والحياء على كثير من العلماء. وقال أبو عبد الله بن سلمة مثل ذلك. وقال ابن (٢) ... بمثله.

مشيخته : قال الأستاذ : أقرأ (٣) بمرسية ، وأخذ بها ، وبقرطبة ، ومالقة ، وإشبيلية ، وغرناطة وسبتة ، وغيرها من بلاد الأندلس ، وغرب العدوة ، واعتناؤه يعينه وأخاه بباب الرّواة ، والأخذ عن الشيوخ ، حتى اجتمع لهما ما لم يجتمع لأحد من أهل عصرهما ؛ فمن ذلك أبوهما أبو داود ، وأبو الحسن صالح بن يحيى بن صالح الأنصاري ، وأبو القاسم بن حسن ، وأبو عبد الله بن حميد ، وأبو زيد السّهيلي ، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عراق الغافقي ، وأبو العباس يحيى بن عبد الرحمن المجريطي ، وعن ابن بشكوال. وأخذ عن أبي بكر بن الجد ، وأبي عبد الله بن زرقون ، وأبي محمد بن عبد الله ، وأبي عبد الله بن الفخّار الحافظ ، وأبي العباس بن مضاء ، وأبي محمد بن بونة ، وأبي محمد بن عبد الصمد بن يعيش الغسّاني ، وأبي بكر بن أبي حمزة ، وأبي جعفر بن حكم الزاهد ، وأبي خالد بن يزيد بن رفاعة ، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس ، وأبي الحسن بن كوثر ، وأبي عبد الله بن عروس ، وأبي بكر بن أبي زمنين ، وأبي محمد بن جمهور ، وأبي بكر بن النّيار ، وأبي الحسن بن محمد بن عبد العزيز الغافقي الشّقوري ، وأبي القاسم الحوفي القاضي ، وأبي بكر بن بيبش بن محمد بن بيبش العبدري ، وأبي الوليد بن جابر بن هشام الحضرمي ، وأبي

__________________

(١) بلاد الأندلس العدوية : الجهات التي كانت على ضفة بحر المتوسط ، المقابلة للجزيرة الخضراء ، وهي سبتة ومليلة وغيرهما.

(٢) بياض في الأصل.

(٣) قارن بالتكملة (ج ١ ص ٢٥٦ ـ ٢٥٧).

٢٨٨

بكر بن مالك الشّريشي ، وأبي عبد اليسر الجزيري ، وأبي بكر بن عبد الله السكسكي ، وأبي الحجاج ابن الشيخ الفهري ، وغيرهم ممّن يطول ذكرهم.

قضاؤه وسيرته فيه : قال ابن أبي الربيع : لازمت (١) ابني حوط الله ، فكان أبو محمد يفوق أخاه والناس في العلم ، وكان أبو سليمان يفوق أخاه والناس في الحلم.

واستقضي بسبتة وألمريّة والجزيرة الخضراء ، وقام قاضيا بها مدة ، ثم نقل منها إلى قضاء بلنسية آخر ثمان وستمائة ، ثم صرف بأبي القاسم بن نوح ، وقدّم على القضاء بمالقة في حدود إحدى عشرة (٢) وستمائة ، فشكرت أحواله كلها ، وعرف في قضائه بالنّزاهة. قال أبو عبد الله بن سلمة : كان إذا حضر خصوم ، ظهر منه من التواضع ، ووطأة الأكناف ، وتبيين المراشد ، والصبر على المداراة ، والملاطفة ، وتحبيب الحقّ ، وتكريه الباطل ، ما يعجز عنه. ولقد حضرته. وقد أوجبت الأحكام عنده الحدود على رجل ، فهاله الأمر ، وذرفت عيناه ، وأخذ يعتب عليه ويؤنّبه على أن ساق نفسه إلى هذا ، وأمر بإخراجه ليحدّ بشهود في موضع آخر لرقّة نفسه ، وشدّة إشفاقه. واستمرّت ولايته بمالقة إلى أن توفي.

مولده : ببلدة أندة سنة ستين وخمسمائة (٣).

وفاته : قال أبو عبد الرحمن بن غالب : توفي إثر صلاة الصبح من يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وستمائة ، ودفن إثر صلاة العصر يوم وفاته ، بسفح جبل فاره (٤) ، في الروضة المدفون بها أخوه أبو محمد ، فأتبعه الناس ثناء جميلا ؛ ذكر ، واختلفوا في جنازته ، وخرج إليها النساء والصبيان داعين متبكّين.

رضوان النّصري الحاجب المعظّم (٥)

حسنة الدولة النصرية ، وفخر مواليها.

أوّليّته : روميّ الأصل ، أخبرني أنه من أهل القلصادة (٦) ، وأن انتسابه يتجاذبه القشتالية من طرف العمومة ، والبرجلونيّة (٧) من طرف الخؤولة ، وكلاهما نبيه في

__________________

(١) قارن بالتكملة (ج ١ ص ٢٥٧).

(٢) في الأصل : «عشر» وهو خطأ نحوي.

(٣) في التكملة (ج ١ ص ٢٥٧): «ومولده بأنده سنة ٥٥٢».

(٤) جبل فاره : بالإسبانيةGibral faro ، يعلو مدينة مالقة وهو إلى الآن معروف بجبل الفارو ، أي المنارة. نزهة المشتاق (ص ٥٧٠) والتكملة (ج ٣ ص ١٧٩).

(٥) راجع أخبار رضوان النصري في اللمحة البدرية (ص ٩٤ ، ١٠٣ ، ١١٥).

(٦) قلصادة : بالإسبانيةla Calzada de calatrava ، وهي بلدة واقعة جنوب قشتالة.

(٧) نسبة إلى برجلونة ، أي برشلونة.

٢٨٩

قومه ، وأن أباه ألجأه الخوف بدم ارتكبه في محلّ أصالته من داخل قشتالة إلى السّكنى بحيث ذكر. ووقع عليه سباء (١) في سنّ الطفوليّة ، واستقرّ بسببه بالدار السلطانية ، ومحض إحراز رقّه ، السلطان دايل قومه ، أبو الوليد المارّ ذكره ، فاختصّ به ، ولازمه قبل تصيير الملك إليه ، مؤثرا له مغتبطا بمخايل فضله ، وتماثل استقامته ، ثم صيّر الملك إليه فتدرّج في معارج حظوته ، واختصّ بتربية ولده ، وركن إلى فضل أمانته ، وخلطه في قرب الجوار بنفسه ، واستجلى الأمور المشكلة بصدقه ، وجعل الجوائز السّنيّة لعظماء دولته على يده ، وكان يوجب حقّه ويعرف فضله ، إلى أن هلك ، فتعلّق بكنف ولده ، وحفظ شمله ، ودبّر ملكه ، فكان آخر اللّخف ، وسترا للحرم ، وشجى للعدا ، وعدّة في الشّدة ، وزينا في الرّخاء ، رحمة الله عليه.

حاله وصفته : كان هذا الرجل مليح الشّيبة والهيئة ، معتدل القدّ والسّحنة ، مرهب البدن ، مقبل الصورة ، حسن الخلق ، واسع الصدر ، أصيل الرأي ، رصين العقل ، كثير التجمّل ، عظيم الصبر ، قليل الخوف في الهيعات (٢) ، ثابت القدم في الأزمات ، ميمون النّقيبة (٣) ، عزيز النّفس ، عالي الهمّة ، بادي الحشمة ، آية في العفّة ، مثلا في النزاهة ، ملتزما للسّنّة ، دؤوبا على الجماعة ، جليس القبلة ؛ شديد الإدراك مع السكون ، ثاقب الذّهن مع إظهار الغفلة ؛ مليح الدّعابة مع الوقار والسكينة ، مستظهرا لعيون التاريخ ، ذاكرا للكثير من الفقه والحديث ، كثير الدّالّة (٤) على تصوير الأقاليم وأوضاع البلاد ، عارفا للسياسة ، مكرما للعلماء ، متركا للهوادة ، قليل التصنّع ، نافرا من أهل البدع ؛ متساوي الظاهر والباطن ، مقتصدا في المطعم والملبس.

مكانته من الدين : اتّفق على أنه لم يعاقر مسكرا قطّ ولا زنّ بهناة ، ولا لطخ بريبة ، ولا وصم بخلّة تقدح في منصب ، ولا باشر عقاب جاز ، ولا أظهر شفاء من غائظ ، ولا اكتسب من غير التّجر والفلاحة مالا.

آثاره : أحدث المدرسة بغرناطة ، ولم تكن بها بعد ، وسبّب إليها الفوائد ، ووقف عليها الرّباع المغلّة ، وانفرد بمنقبها (٥) ، فجاءت نسيجة وحدها بهجة وصدرا وظرفا وفخامة ، وجلب الماء الكثير إليها من النهر ، فأبّد سقيه عليها ، وأدار السّور (٦)

__________________

(١) السّباء : الأسر. محيط المحيط (سبى).

(٢) الهيعات : جمع هيعة وهي كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع. محيط المحيط (هيع).

(٣) ميمون النقيبة : مبارك النفس. محيط المحيط (نقب).

(٤) كثير الدالّة : جريء. محيط المحيط (دلل).

(٥) المنقب : الطريق في الجبل ، والمراد أنه انفرد بفضلها. محيط المحيط (نقب).

(٦) ما تزال تقوم حتى اليوم بقية من هذا السور خلف ربض البيازين بغرناطة.

٢٩٠

الأعظم على الرّبض الكبير المنسوب للبيّازين ، فانتظم منه النّجد والغور ، في زمان قريب ، وشارف التمام إلى هذا العهد. وبنى من الأبراج المنيعة في مثالم الثّغور وروابي مطالعها المنذرة ، ما ينيف على أربعين برجا ، فهي ماثلة كالنجوم ما بين البحر الشرقي من ثغر بيرة (١) ، إلى الأحواز العربية. وأجرى الماء بجبل مورور ، مهتديا إلى ما خفي على من تقدّمه ، وأفذاذ أمثال هذه الأنقاب يشقّ تعداده.

جهاده : غزا في السادس والعشرين من محرم عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة بجيش مدينة باغة (٢) ، وهي ما هي من الشّهرة ، وكرم البقعة ، فأخذ بمخنّقها ، وشدّ حصارها ، وعاق الصريخ عنها ، فتملّكها عنوة ، وعمّرها بالحماة ، ورتّبها بالمرابطة ، فكان الفتح فيها عظيما. وفي أوائل شهر المحرم من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة غزا بالجيش عدو المشرق ، وطوى المراحل مجتازا على بلاد قشتالة ، لورقة ، ومرسية ، وأمعن فيها. ونازل حصن المدوّر ، وهو حصن أمن غائلة العدو ، مكتنف بالبلاد ، مدّ بالبسيني (٣) ، موضوع على طيّة التجارة ، وناشبه القتال ، فاستولى عنوة عليه منتصف المحرم من العام المذكور ، وآب مملوء الحقائب سبيا وغنما.

وغزواته كثيرة ، كمظاهرة الأمير الشهير أبي مالك على منازلة جبل الفتح ، وما اشتهر عنه فيه من الجدّ والصبر ، وأوثر عنه من المنقبة الدّالة على صحة اليقين ، وصدق الجهاد ، إذ أصابه سهم في ذراعه وهو يصلّي ، فلم يشغله عن صلاته ، ولا حمله توقع الإغارة على إبطال عمله.

ترتيب خدمته وما تخلّل عن ذلك من محنته :

لمّا استوثق أمر الأمير المخصوص بتربيته ، محمد ، ابن أمير المسلمين أبي الوليد نصر ، وقام بالأمر وكيل أبيه الفقيه أبو عبد الله محمد بن المحروق ، ووقع بينه وبين المترجم عهد على الوفاء والمناصحة ، ولم يلبث أن نكبه وقبض عليه ليلة كذا من رجب عام ثمانية وعشرين وسبعمائة ، وبعثه ليلا إلى مرسى المنكّب ، واعتقله في المطبق من قصبتها بغيا عليه ، وارتكب فيه أشنوعة أساءت به العامّة ،

__________________

(١) بيرة : بالإسبانيةVera ، وهي بلدة صغيرة تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة ألمرية.

(٢) باغه : بالإسبانيةPriego ، وقد عدّها أبو الفداء بلدة. تقديم البلدان (ص ١٧٧). وجعلها ابن الدلائي قرية. نصوص عن الأندلس (ص ٩٣). ويبدو من كلام ابن الدلائي الذي كان معاصرا لبني زيري بغرناطة في عصر ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري ، أن باغة كانت آنذاك قرية. وذهب الحميري مذهب ابن الخطيب ، فجعلها مدينة. الروض المعطار (ص ١٢٢).

(٣) هي الآلات والتجهيزات الضخمة.

٢٩١

وأنذرت باختلال الحال ، ثم أجازه البحر ، فاستقرّ بتلمسان ، ولم يلبث أن قتل المذكور ، وبادر سلطانه الموتور بفرقته عن سدّته ، فاستدعاه ، فلحق محلّه من هضبة الملك متملّيا ما شاء من عزّ وعناية ، فصرفت إليه المقاليد ، ونيطت به الأمور ، وأسلم إليه الملك ، وأطلقت يده في المال. واستمرّت الأحوال إلى عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة ، والتأث الأمر ، وظهر من سلطانه التنكّر عليه ، فعاجله الحمام فخلّصه الله منه ، وولي أخوه أبو الحجاج من بعده ، فوقع الإجماع على اختياره للوزارة أوائل المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة ، فرضي الكلّ به ، وفرحت العامّة والخاصّة للخطة ، لارتفاع المنافسات بمكانه ، ورضي الأضداد بتوسّطه ، وطابت النفوس بالأمن من غائلته ، فتولّى الوزارة وسحب أذيال الملك ، وانفرد بالأمر ، واجتهد في تنفيذ الأحكام ، وتقدّم الولاة ، وجواب المخاطبات وقوّاد الجيوش ، إلى ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب عام أربعين وسبعمائة ، فنكبه الأمير المذكور نكبة ثقيلة البرك ، هائلة الفجأة من غير زلّة مأثورة ، ولا سقطة معروفة ، إلّا ما لا يعدم بأبواب الملوك من شرور المنافسات ، ودبيب السّعايات الكاذبة. وقبض عليه بين يدي محراب الجامع من الحمراء إثر صلاة المغرب ، وقد شهر الرّجال سيوفهم فوقه يحفّون به ، ويقودونه إلى بعض دور الحمراء ، وكبس ثقات السلطان منزله ، فاستوعبوا ما اشتمل عليه من نعمة ، وضمّ إلى المستخلص عقاره ، وسوّغ الخبر عظيم غلاته. ثم نقل بعد أيام إلى قصبة ألمرية محمولا على الظّهر ، فشدّ بها اعتقاله ، ورتّب الحرس عليه إلى أوائل شهر ربيع الثاني من عام أحد وأربعين وسبعمائة ، فبدا للسلطان في أمره واضطر إلى إعادته. ووجد فقد نصحه ، وأشفق لما عدم من أمانته ، والانتفاع برأيه ، وعرض عليه بما لنوم الكفّ والإقصار عن ضرّه ، فعفا عنه ، وأعاده إلى محلّه من الكرامة ، وصرف عليه من ماله ، وعرض الوزارة فأباها ، واختار بردّ العافية ، وأنس لذّة التخلّي ، فقدم لذلك من سدّ الثغور ، فكان له اللفظ ، ولهذا الرجل المعنى ، فلم يزل مفزعا للرأي ، محلّى في العظة على الولاية ، كثير الآمل والغاشي ، إلى أن توفي السلطان المذكور غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة ، فشعب الثّأي (١) ، وحفظ البلوى ، وأخذ البيعة لولده سلطاننا الأسعد أبي عبد الله ، وقام خير قيام بأمره ، وجرى على معهود استبرائه ، وقد تحكّمت التجربة ، وعلت السّنّ ، وزادت أنّة الخشية ، وقربت من لقاء

__________________

(١) الثأي : الضعف والركاكة وآثار الجرح. لسان العرب (ثأى).

٢٩٢

الله الشّقّة ، فلا تسأل عمّا حطّ من خل ، وأفاض من عدل ، وبذل من مداراة. وحاول عقد السلم ، وسدّ أمور الجند على القل ، ودامت حاله متصلة على ما ذكر ، وسنّه تتوسّط عشر التسعين إلى أن لحق بربّه. وقد علم الله أني لم يحملني على تقرير سيرته ، والإشادة بمنقبته داعية ، وإنما هو قول بالحق ، وتسليم لحجّة الفضل ، وعدل في الوصف ، والله ، عزّ وجلّ ، يقول : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)(١).

وفاته : في ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان من عام ستين وسبعمائة ، طرق منزله بعد فراغه من إحياء ثلث الليل ، متبذّل اللّبسة ، خالص الطويّة ، مقتضيا للأمن ، مستشعرا للعافية ، قائما على المسلمين بالكلّ ، حاملا للعظيمة ، وقد بادره الغادرون بسلطانه ، فكسروا غلقه بعد طول معالجة ، ودخلوا عليه وقتلوه بين أهله وولده ، وذهبوا إلى الدايل برأسه ، وفجعوا الإسلام ، بالسائس الخصيب المتغاضي ، راكب متن الصبر ، ومطوق طوق النزاهة والعفاف ، وآخر رجال الكمال والستر ، الضافي على الأندلس ، ولوئم من الغد بين رأسه وجسده ، ودفن بإزاء لحود مواليه من السبيكة (٢) ظهرا. ولم يشهد جنازته إلّا القليل من الناس ، وتبرّك بعد بقبره. وقلت عند الصلاة عليه ، أخاطبه دون الجهر من القول لمكان التقية : [الطويل]

أرضوان ، لا توحشك فتكة ظالم

فلا مورد إلّا سيتلوه مصدر

ولله سرّ في العباد مغيّب

يشهّد بخافيه القضاء المقدّر

سميّك مرتاح إليك مسلّم

عليك ورضوان من الله أكبر

فحثّ المطا ليس النعيم منغّص

ولا العيش في دار الخلود مكدّر

زاوي (٣) بن زيري بن مناد الصّنهاجي

الحاجب المنصور ، يكنى أبا مثنّى.

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ ، الآية ١٥٢.

(٢) السبيكة : موضع خارج غرناطة. وقد ذكره الشعراء ، ومنهم أبو جعفر الإلبيري الرعيني. راجع : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٣٧).

(٣) حكم زاوي غرناطة من سنة ٤٠٣ ه‍ إلى سنة ٤١٠ ه‍. وترجمته في الذخيرة (ق ١ ص ٤٥٣) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١١٣ ، ١٢٨ ، ١٦٣ ، ١٦٤) والمغرب (ج ٢ ص ١٠٦) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ١١٩ ، ٢٢٨). ونفح الطيب (ج ٢ ص ٢٩) واللمحة البدرية (ص ٣١) وكتاب العبر (م ٤ ص ٣٢٤ ، ٣٤٥ ، ٣٤٦ ، ٣٥٤). وهناك دراسة مفصلة عن زاوي بن زيري في كتاب مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٨٣ ـ ١٠٤) فلتنظر.

٢٩٣

أوّليّته : قد مرّ (١) ما حدث بين أبيه زيري وبين قرابته من ملوك إفريقية ، وباديس بن منصور من المشاحنة التي أوجبت مخاطبة المظفر بن أبي عامر في اللّحاق بالأندلس ، وإذنه في ذلك ، فدخل الأندلس منهم على عهده جماعة وافرة من مساعير الحروب وآثار الحتوف ، مع شيخهم هذا وأميرهم ، ودخل منهم معه أبناء أخيه ماكسن وحباسة وحبّوس ، وقاموا في جملة المظفّر ، وزاوي مخصوص باسم الحجابة ؛ فلمّا اختلّ بناء الخلافة ، بمحمد بن عبد الجبار الملقّب بالمهدي ، أذلّهم وتنكّر لهم ، وأشاع بينهم وبين أمثالهم من البرابر ، المغايرة ، فكان ذلك سبب الفتنة التي يسمّيها أهل الأندلس بالبربرية ؛ فانحاشوا ، ونفروا عهده ، وبايعوا سليمان بن الحكم ، واستعانوا بالنصارى ، وحرّكوا على أهل قرطبة خصوصا ، وعلى أهل الأندلس عموما ، ما شاء الله من استباحة ، وإهلاك النفوس ، وغلبوا على ملك الأندلس ، وما وراء البيضة ، واقتسموا أمّهات الأقطار ، وانحازوا إلى بلاد تضمّهم ، فانحازت صنهاجة مع رئيسهم المذكور إلى غرناطة ، فأووا إليها ، واتخذوها ملجأ ، وحماها زاوي المذكور ، وأقام بها ملكا ، وأثّل بها سلطانا لذويه ، فهو أوّل من مدّن غرناطة ، وبناها وزادها تشييدا ومنعة ، واتصل ملكه بها ، وارتشحت عروقه ، إلى أن كان من ظهوره بها وأحوازها ، على عساكر الموالي ، الراجعين بإمامهم المرتضى إلى قرطبة ، البادين بقتاله ، والآخذين بكظمه ، بما تقرّر ويتقرّر في اسم المرتضى ، من باب المحمّدين.

وكان زاوي كبش الحروب ، وكاشف الكروب ، خدم قومه شهير الذّكر أصيل المجد ، المثل المضروب في الدهاء ، والرأي ، والشجاعة ، والأنفة ، والحزم.

قال بعضهم : أحكم التدبير ، والدولة تسعده ، والمقادر تنجده ، وحكيت له في الحروب حكايات عجيبة.

بعض أخباره في الرأي : قال أبو مروان : وقد مرّ ذكر الفتنة البربرية ؛ لمّا خلص ملأ القوم ، لتشاور أميرهم ، وهم فرض في خروجهم من قرطبة ، عندما انتهوا إلى فحص هلال ، واجتمعوا على التّأسّي ، وضرب لهم زعيمهم زاوي بن زيري بن مناد الصّنهاجي ، مثلا بأرماح خمسة جمعها مشدودة ، ودفعها لأشدّ من حضره منهم ، وقال : اجهد نفسك في كسرها كما هي وأغمزها ، فعالج ذلك فلم

__________________

(١) مرّ ذلك في ترجمة بلكين بن باديس بن حبوس بن ماكسن بن زيري.

٢٩٤

يقدر عليه ، فقال له : حلّها وعالجها رمحا رمحا ، فلم يبعد عليه دقّها ، فأقبل على الجماعة ، فقال : هذا مثلكم يا برابرة ، إن جمعتم لم تطاقوا ، وإن تفرّقتم لم تبقوا ، والجماعة في طلبكم ، فانظروا لأنفسكم وعجّلوا ، فقالوا : نأخذ بالوثيقة ، ولا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ، فقال لهم : بايعوا لهذا القرشي سليمان ، يرفع عنكم الأنفة في الرياسات ، وتستميلون إليه العامّة بالجنسية ، ففعلوا ، فلمّا تمّت البيعة قال : إن مثل هذا الحال لا يقوى على أهل الاستطالة ، فيقيّد له رئيس كل قبيلة منكم ، قبيلة يتكفّل السلطان بتقويمهم ، وأنا الكفيل بصنهاجة ، قال : وامتارت بطون القبائل على أرحامها ، وقبائلها إلى أفخاذها وفصائلها ، فاجتمع كل فريق منهم على تقديم سيّده ، فاجتمعت صنهاجة على كبيرها زاوي ، ولم تزل تلك القبائل المتألّفة بالأندلس لطاعة أميرها ، المنادين له إلى أن أورثوهم الإمارة.

التوقيع : قالوا (١) : ولمّا نازله المرتضى الذي أجلب به الموالي العامريين بظاهر غرناطة ، خاطبه بكتاب يدعوه فيه إلى طاعته ، وأجمل موعده فيه ؛ فلما قرىء على زاوي قال لكاتبه : اكتب على ظهر رقعته : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) السورة (٢). فلمّا بلغت المرتضى أعاد عليه كتابا يعده فيه بوعيده ، فلمّا قرىء على زاوي ، قال : ردّ عليه : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) (٣) إلى آخرها ، فازداد المرتضى غيظا ، وناشبه القتال ، فكان الظّهور لزاوي.

قال المؤرّخ (٤) : واقتتلت صنهاجه مع أميرهم مستميتين لما دهمهم من بحر العساكر ، على انفرادهم وقلّة عددهم ، إلى أن انهزم أهل الأندلس ، وطاروا على وجوههم ، مسلموهم وإفرنجهم ، لا يلوون على أحد ، فأوقع البرابر (٥) بهم السيف ، ونهبوا تلك المحلّات ، واحتووا على ما لا كفاء له اتساعا وكثرة ؛ ظلّ الفارس يجيء من أتباع المنهزمين ومعه العشرة ، ولا تسل عمّا دون ذلك من فاخر النّهب ، وخير الفساطيط ، ومضارب الأمراء والرؤساء.

__________________

(١) قارن بالذخيرة (ق ١ ص ٤٥٣ ـ ٤٥٤) ومذكرات الأمير عبد الله (ص ٢٢) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٢٥ ـ ١٢٦) ونفح الطيب (ج ٢ ص ٢٩ ـ ٣٠).

(٢) سورة الكافرون ١٠٩ ، الآية ١.

(٣) سورة التكاثر ١٠٢ ، الآية ١.

(٤) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٤٥٤) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٢٦) ولكن ببعض الاختلاف عمّا هنا.

(٥) في الذخيرة : «البرابرة». وهكذا كان ابن الخطيب يستعمل مرة كلمة «البرابر» ومرة أخرى كلمة «البرابرة» للتعبير عن البربر.

٢٩٥

قال ابن حيّان (١) : فحلّ بهذه الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبة (٢) أنست ما قبلها ، ولم يجتمع لهم (٣) جمع بعدها وفرّوا بإدبار (٤) ، وباؤوا بالصّغار.

منصرفه عن الأندلس :

قال المؤرّخ (٥) : ولهول ما عاينه زاوي من اقتدار أهل الأندلس في أيّام (٦) تلك الحروب وجعاجعهم ، وإشرافهم على التغلّب عليه ، هان سلطانه عنده بالأندلس ، وخرج (٧) عنها نظرا إلى عاقبة أمره ، ودعا بجماعة (٨) من قومه لذلك فعصوه ، وركب البحر بجيشه وأهله ، فلحق بإفريقية وطنه. قال : فكان من أغرب الأخبار في (٩) الدولة الحمّودية انزعاج ذلك الشيخ زاوي (١٠) عن سلطانه بعد ذلك الفتح العظيم الذي ناله على أهل الأندلس ، وعبوره البحر بعد أن استأذن ابن عمّه المعز بن باديس ، فأذن له. وحرص بنو عمّه بالقيروان ، على رجوعه لهم لحال سنّه ، وتقريبهم (١١) يومئذ من مثله من مشيختهم لمهلك جميع إخوتهم ، وحصوله هو على مقرّر (١٢) بني مناد ، الغريب الشأن (١٣) ، في أن لا تحجب عنهم نساؤهم وكنّ زهاء ألف امرأة في ذلك الوقت ، هنّ ذوات محرم من بنات إخوته وبناتهنّ وبني بنيهنّ. وكان رحيل زاوي عن الأندلس سنة عشر (١٤) وأربعمائة. قال ابن حيّان (١٥) : وأخبار هذا الداهية كثيرة ، وأفعاله ونوادره مأثورة.

زهير العامريّ ، فتى المنصور بن أبي عامر (١٦)

حاله : كان شهما داهية ، سديد المذهب ، مؤثرا للأناة ، ولي بعد خيران صاحب ألمريّة ، وقام بأمره أحمد قيام ، سنة تسع (١٧) عشرة وأربعمائة ، يوم الجمعة لثلاث

__________________

(١) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٤٥٥) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٢٧).

(٢) في الذخيرة : «مصيبة سوداء».

(٣) في الذخيرة : «لهم على البربر جمع بعد».

(٤) في الذخيرة : «بالإدبار». وفي البيان المغرب : «وأقرّوا بالإدبار».

(٥) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٤٥٧ ـ ٤٥٩).

(٦) كلمة «أيام» ساقطة في الذخيرة.

(٧) في الذخيرة : «وعزم على الخروج عنها نظرا في ...».

(٨) في الذخيرة : «جماعة».

(٩) في الذخيرة : «في تلك الدولة».

(١٠) في الذخيرة : «زاوي ابن زيري».

(١١) في الذخيرة : «وتعرّيهم يومئذ عن مثيله».

(١٢) في الذخيرة : «هو قعدد».

(١٣) في الذخيرة : «شأنه».

(١٤) في الأصل : «سنة ستة عشر وأربعمائة» ، والتصويب من الذخيرة.

(١٥) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٤٦٠) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٢٩).

(١٦) ترجمة زهير العامري في مذكرات الأمير عبد الله (ص ٣٤) والمغرب (ج ٢ ص ١٩٤) والذخيرة (ق ١ ص ٦٥٦) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٦٨) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢١٦).

(١٧) في الأصل : «تسعة عشر» وهو خطأ نحوي.

٢٩٦

خلون من جمادى الأولى. وكان أميرا بمرسية ، فوجّه عنه خيران حين أحسّ بالموت ، فوصل إليه ، وكان عنده إلى أن مات. فخرج زهير مع ابن عباس (١) إلى الناس ، فقال لهم : أمّا الخليفة خيران فقد مات ، وقد قدّم أخاه زهيرا هذا ، فما تقولون؟ فرضي الناس به ، فدامت مدة ولايته عشرة أعوام ونصف عام إلى أن قتل.

مناقبه : قال أبو القاسم الغافقي (٢) : وكان حسن السّيرة جميلها ؛ بنى المسجد في ألمريّة ، ودار (٣) فيه من جهاته الثلاث ، المشرق والمغرب والجوف ؛ وبنى مسجدا ببجّانة ، وشاور الفقهاء ، وعمل بقولهم ؛ وملك قرطبة ، ودخل قصرها ، يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة خمس وعشرين وأربعمائة ، ودام سلطانه عليها خمسة عشر شهرا ونصف شهر.

قال ابن عذاري (٤) : وأما زهير الفتى فامتدّت (٥) أطناب مملكته من ألمريّة إلى قرطبة (٦) ونواحيها ، وإلى بيّاسة ، وإلى الفجّ من أول طليطلة. وقالوا (٧) : قرّ ما بينه وبين باديس فأرسل باديس (٨) إلى زهير رسوله مكاتبا مستدعيا تجديد المحالفة ، فسارع زهير ، وأقبل نحوه ، وضيّع الحزم ، واغترّ بالعجب ، ووثق بالكثرة ، أشبه شيء بمجيء الأمير الضخم إلى عامل (٩) من عمّاله ، قد ترك رسم (١٠) الالتقاء بالنّظراء وغير ذلك من وجوه الحزم ، وأعرض عن ذلك كله ؛ وأقبل ضاربا بسوطه ، حتى تجاوز الحدّ الذي جرت (١١) العادة بالوقوف عنده من عمل باديس دون إذنه ؛ وصيّر الأوعار والمضايق خلف ظهره ، فلا يفكّر فيها ، واقتحم البلد ، حتى صار (١٢) إلى باب غرناطة. ولمّا وصل خرج باديس في جمعه ، وقد أنكر اقتحامه عليه ، وعدّه حاصلا

__________________

(١) هو أبو جعفر أحمد بن عباس ، وترجمته في الذخيرة (ق ١ ص ٦٥٦) والمغرب (ج ٢ ص ٢٠٥) والبيان المغرب (ج ٣ ص ٢٩٣) ونفح الطيب (ج ٥ ص ٨١).

(٢) قارن بأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢١٦).

(٣) في أعمال الأعلام : «وزاد فيه».

(٤) البيان المغرب (ج ٣ ص ١٦٨ ـ ١٦٩).

(٥) في البيان المغرب : «فكان قد امتدّت».

(٦) في البيان المغرب : «إلى شاطبة ، وما يليها إلى بياسة ، وما وراءها إلى الفج من أول عمل طليطلة».

(٧) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٦٥٦ ـ ٦٥٩) والبيان المغرب (ج ٣ ص ١٦٩ ـ ١٧١) وكلاهما تصرّف في النص.

(٨) في الذخيرة : «وأرسل رسوله إلى زهير ملطفا في العتاب ، مستدعيا ...».

(٩) في الذخيرة : «العامل».

(١٠) في الذخيرة : «رسوم».

(١١) في الذخيرة : «جرت به العادة من الوقوف ...».

(١٢) في الذخيرة : «وصل».

٢٩٧

في قبضته ؛ فبدأه بالجميل والتّكريم ، وأوسع عليه وعلى رجاله في (١) العطاء والقرى والتعظيم بما مكّن اغترارهم ، وثبّت طمأنينتهم. ووقعت المناظرة بين زهير وباديس (٢) ، ومن حضرهما من رجال دولتيهما ، فنشأ (٣) بينهما عارض الخلاف لأول وهلة ، وحمل زهير أمره على التّشطّط ، فعزم باديس على اللقاء (٤) ووافقه عليه قوم من خدّامه ، فأقام المراتب ، ونصب الكتائب ، وقطع قنطرة لا محيد عنها لزهير ، والحائن (٥) لا يشعر ؛ وغاداه عن تعبئة محكمة ، فلم يرعه إلّا رجّة القوم راجعين ، فدهش زهير وأصحابه ، إلّا أنه أحسن تدبير الثبات لو استتمّه ، وقام فنصب الحرب ، وثبت في قلب العسكر ، وقدّم خليفته هذيلا في وجوه أصحابه إلى الموالي ، فلمّا رأتهم صنهاجة ، علموا أنهم الحماة والشّوكة (٦) ، ومتى حصدوا لم يثبت من وراءهم ، فاختلطوا بهم (٧) ، واشتدّ القتال ، فحكم الله لأقلّ الطائفتين من صنهاجة ليري الله (٨) قدرته ، فانهزم زهير وأصحابه وتقطّعوا ، وعمل السيف فيهم فمزّقوا ، وقتل زهير ، وجهل مصرعه ؛ وغنم رجال باديس من المال والمرافق (٩) والأسلحة والحلية والعدّة والغلمان والخيام (١٠) ، ما لا يحاط بوصفه. وكانت وفاة زهير يوم الجمعة عقب شوّال ، سنة تسع وعشرين وأربعمائة بقرية ألفنت خارج غرناطة.

طلحة بن عبد العزيز بن سعيد البطليوسي وأخواه أبو بكر

وأبو الحسن بنو القبطرنة (١١)

يكنى أبا محمد.

__________________

(١) في الذخيرة : «في القرى والتعظيم ، ما مكّن ...».

(٢) في الذخيرة : «بين باديس وزهير».

(٣) في الذخيرة : «ففشا».

(٤) «باديس عند ذلك على القتال ، ووافقه قومه صنهاجة ، فأقام مراتبه ونصب كتائبه ...».

(٥) في البيان المغرب : «والخائن».

(٦) في الذخيرة : «أنهم حمته وشوكته ، وأنهم متى خضدوها ...». وفي البيان المغرب : «أنهم حماته وشوكته وأنهم متى حصدوها ...».

(٧) في المصدرين : «فاختلط الفريقان».

(٨) كلمة «الله» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من المصدرين.

(٩) في البيان المغرب : «والخزائن».

(١٠) في البيان المغرب : «والخيام وسائر أنواع الأموال ما لا يحيط به الوصف».

(١١) تراجم الإخوة الثلاثة في المغرب (ج ١ ص ٣٦٧) وقلائد العقيان (ص ١٤٨) والمطرب (ص ١٨٦) ونفح الطيب (ج ٢ ص ١٦٩). وترجمة أبي محمد طلحة في التكملة (ج ١ ص ٢٧٠) والذخيرة (ق ٢ ص ٧٥٣) والمغرب (ج ١ ص ٣٦٧). وترجمة أبي بكر عبد العزيز في التكملة (ج ٣ ص ٩٠). وترجمة الأخوين أبي بكر وأبي الحسن في رايات المبرزين (ص ٩٦ ، ٩٧).

٢٩٨

حالهم : كانوا عيونا من عيون الأدب بالأندلس ، ممّن اشتهروا بالظرف ، والسّرو والجلالة. وقال أبو الحسن بن بسّام وقد ذكر أبا بكر منهم ، فقال (١) : أحد فرسان الكلام (٢) ، وحملة السيوف والأقلام ، من أسرة أصالة ، وبيت جلالة ، أخذوا العلم أولا عن آخر ، وورثوه كابرا عن كابر. ثلاثة كهقعة الجوزاء ، وإن أربوا عن الشهر (٣) في السّنا والسناء (٤). كتب أبو محمد عبد العزيز وأخواه عن ملك لمتونة ، ودخلوا معه غرناطة. ذكر ذلك غير واحد. واجتزأت بذكر أبي محمد ، وأتبعه أخويه اختصارا.

شعره : من شعر أبي محمد ، قوله في الاستدعاء (٥) : [المتقارب]

هلمّ إلى روضنا يا زهر (٦)

ولح في سماء المنى (٧) يا قمر

وفوّق (٨) إلى الأنس سهم الإخاء

فقد عطّلت قوسه والوتر (٩)

إذا لم تكن عندنا حاضرا

فما بغصون (١٠) الأماني ثمر (١١)

وقعت من القلب وقع المنى

وحزت (١٢) من العين حسن الحور

قال أبو نصر (١٣) : بات مع أخويه في أيام صباه ، واستطابة جنوب الشّباب وصباه ، بالمنية المسمّاة بالبديع ، وهي (١٤) روض كان المتوكل يكلف بموافاته ، ويبتهج بحسن صفاته ، ويقطف ريحانه (١٥) وزهره ، ويقف (١٦) عليه إغفاءه وسهره ، ويستفزّه الطرب متى ذكره ، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره ، ويدير حميّاه على ضفة نهره ، ويخلع سرّه فيه لطاعة جهره ، ومعه أخواه ، فطاردوا اللذّات حتى أنضوها ، ولبسوا برود السرور فما (١٧) نضوها ، حتى صرعتهم العقار ، وطلّحتهم تلك

__________________

(١) الذخيرة (ق ٢ ص ٧٥٣ ـ ٧٥٤).

(٢) في الذخيرة : «فرسان الكلوم والكلام».

(٣) في الذخيرة : «على الشمس».

(٤) هنا ينتهي النقل عن الذخيرة.

(٥) الأبيات في المغرب (ج ١ ص ٣٦٨) وقلائد العقيان (ص ١٥١).

(٦) في الأصل : «يا زهير» والتصويب من المصدرين.

(٧) في المغرب : «العلا».

(٨) في القلائد : «هلمّ».

(٩) هذا البيت غير وارد في المغرب.

(١٠) في القلائد : «لغصون». وفي المغرب : «لعيون».

(١١) في المغرب : «ممر».

(١٢) في المصدرين : «وحسّنت في العين».

(١٣) أبو نصر : هو ابن خاقان ، والنص في كتابه قلائد العقيان (ص ١٥٠ ـ ١٥١). وورد أيضا في نفح الطيب (ج ٢ ص ١٦٩).

(١٤) في الأصل : «وهو» والتصويب من القلائد.

(١٥) في القلائد والنفح : «رياحينه».

(١٦) في النفح : «ويوقف».

(١٧) في القلائد والنفح : «وما».

٢٩٩

الأوقار (١) ؛ فلمّا همّ رداء الفجر أن يندى ، وجبين الصبح أن يتبدّى (٢) ، قام الوزير أبو محمد فقال (٣) : [الخفيف]

يا شقيقي وافى (٤) الصّباح بوجه (٥)

ستر اللّيل نوره وبهاؤه

فاصطبح ، واغتنم مسرّة يوم

لست (٦) تدري بما يجيء مساؤه

ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال : [الخفيف]

يا أخي ، قم تر النّسيم عليلا

باكر الرّوض والمدام شمولا (٧)

في رياض تعانق الزّهر فيها

مثل ما عانق الخليل خليلا (٨)

لا تنم واغتنم مسرّة يوم

إنّ تحت التّراب نوما طويلا

ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن وقد ذهب (٩) من عقله الوسن ، فقال : [البسيط]

يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي

قم نصطبح قهوة (١٠) من خير ما ذخروا

وبادرا غفلة الأيّام واغتنما

فاليوم خمر ويبدو في غد خبر (١١)

وقال أبو بكر في بقرة أخذها له الرنق (١٢) صاحب قلمورية ، وقد أعاد أرضه (١٣) : [الطويل]

__________________

(١) كذا في النفح ، وفي القلائد : «الأوتار».

(٢) في الأصل : «يبتدى» والتصويب من المصدرين.

(٣) هذان البيتان وأبيات أبي بكر وأبي الحسن التالية وردت أيضا في المغرب (ج ١ ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨) والمطرب (ص ١٨٦ ـ ١٨٧) والذخيرة (ق ٢ ص ٧٧٣) ونفح الطيب (ج ٢ ص ١٦٩ ـ ١٧٠).

(٤) في المغرب والمطرب : «أتى».

(٥) في الأصل : «بوجهه» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر الخمسة.

(٦) في القلائد والمغرب : «ليس».

(٧) في المغرب : «الشمولا».

(٨) هذا البيت ساقط في المغرب والمطرب والذخيرة.

(٩) في النفح : «وقد هبّ».

(١٠) في المصادر الخمسة : «خمرة».

(١١) يشير هنا إلى قول امرئ القيس : «اليوم خمر وغدا أمر» ، وقد قاله عندما أبلغ أن بني أسد ثاروا على أبيه وقتلوه ، وكان آنذاك في مجلس شراب. وقد أخذ هذا المعنى بشار بن برد فقال :

اليوم خمر ويبدو في غد خبر

والدهر ما بين إنعام وإبآس

ديوان بشار بن برد (ص ١٤٣).

(١٢) الرنق أو الريق هو ألفونسو هنريكزAlfonso Enrique صاحب قلمورية أو قلمريةCoimbra ، وكانت حينئذ عاصمة البرتغال.

(١٣) الأبيات في الذخيرة (ق ٢ ص ٧٦٩).

٣٠٠