الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

تحت جناح سيفه العمران ، واتّسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر ، وانفسخ الملك ، وكان ميمون الطائر ، مطعم الظّفر (١) ، مصنوعا له في الأعداء ، يقنع أقتاله بسلمه ، ولا يطمع أعداؤه في حربه. قال ابن عسكر (٢) : يكنى أبا مسعود ، وكان من أهل الحزم وحماية الجانب ، وكان يخطب ويدعو للعلويّين بمالقة (٣) ، فلمّا توفي إدريس بن يحيى العالي (٤) ، ملك مالقة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة (٥).

وقال الفتح في قلائده (٦) : «كان باديس بن حبّوس بغرناطة عاتيا في فريقه ، عادلا عن سنن العدل وطريقه ؛ يجترئ على الله غير مراقب ، ويسري (٧) إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب ؛ قد حجب سنانه لسانه ، وسبقت إساءته إحسانه ؛ ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم ، ولم (٨) يشرب الماء إلّا من قليب دم ؛ أحزم من كاد ومكر ، وأجرم من راح وابتكر ؛ وما زال متّقدا في مناحيه ، متفقّدا لنواحيه ، لا يرام بريث ولا عجل ، ولا يبيت له جار إلّا على وجل».

أخباره في وقائعه : ينظر إيقاعه بزهير العامري ومن معه في اسم زهير ، فقد ثبت منه هنالك نبذة ، وإيقاعه بجيش ابن عبّاد بمالقة عندما طرق مالقة وتملّكها ، واستصرخ من استمسك بقصبتها من أساودتها ، وغير ذلك مما هو معلوم ، وشهرته مغنية عن الإطالة.

ومن أخباره في الجبرية والقسوة ، قال ابن حيّان : عندما استوعب الفتكة بأبي نصر بن أبي نور اليفرني أمير رندة المنتزي بها وقتله ، ورجوعها إلى ابن عباد ؛ حكى أبو بكر الوسنشاني الفقيه عن ثقة عنده من أصادقة التّجّار ، أنه حضر مدينة غرناطة ، حضرة باديس بن حبّوس الجبار ، أيام حدث على أبي نصر ، صاحب تاكرنّا ، ما حدث ، وأن أميرها باديس قام للحادثة وقعد ، وهاج من داء عصبيّته ما قد سكن ، وشقّ أثوابه ، وأعلن أعواله ، وهجر شرابه الذي لا صبر له عنه ، وجفا ملاذّه ؛ وأوهمته

__________________

(١) مطعم الظفر : كثير الظفر.

(٢) النص في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٢١).

(٣) العلويون هم بنو حمود ، أصحاب مالقة والجزيرة الخضراء. راجع : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ١٢٢).

(٤) بويع العالي إدريس بن يحيى بن علي بن حمود بمالقة سنة ٤٣٤ ه‍. أخباره في مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ١٢١ ـ ١٢٣). وذهب القلقشندي إلى أن العالي إدريس بويع في عام ٤٣٩ ه‍. صبح الأعشى (ج ٥ ص ٢٣٨).

(٥) قضى باديس بن حبوس الصنهاجي على بني حمود بمالقة وضمّ مملكتهم إلى غرناطة سنة ٤٤٩ ه‍. انظر في ذلك : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ١٢٥ ـ ١٢٦).

(٦) قلائد العقيان (ص ١٨).

(٧) في القلائد : «ويجري».

(٨) في القلائد : «ولا شرب».

٢٤١

نفسه الخبيثة تمالؤ رعيّته من أهل الأندلس ، على الذي دهى أبا نصر ، فسوّلت له نفسه حمل السيف على أهل حضرته جميعا ، مستحضرا لهم ، وكيما ينبرهم ، ويخلص برابرته وعبيده فيريح نفسه ، ودبر أن يأتي ذلك إليهم عند اجتماعهم بمسجدهم الجامع الأقرب أيام الجمعة ، من قوة همومه ؛ وشاور وزيره اليهودي يوسف بن إسماعيل ، مدبّر دولته الذي لا يقطع أمرا دونه ، مستخليا مستكتما بسرّه ، مصمّما في عزمه ، إن هو لم يوافقه عليه ؛ فنهاه عن ذلك وخطّأ رأيه فيه ، وسأله الأناة ومحض الرويّة ، وقال له : هبك وصلت إلى إرادتك ممّن بحضرتك ، على ما في استباحتهم من الخطر ، فأنّى تقدر على الإحاطة بجميعهم من أهل حضرتك ، وبسائط أعمالك؟ أتراهم يطمئنون إلى الذّهول عن مصائبهم ، والاستقرار في موضعهم؟ ما أراهم إلّا سيوفا ينتظمون عليك في جموع ، يغرقونك في لججها أنت وجندك ؛ فردّ نصيحته ، وأخذ الكتمان عليه ، وتقدّم إلى عارضه باعتراض الجند في السلاح ، والتّعبئة لركوبه يوم الفتكة ، يوم تلك الجمعة ، فارتجّ البلد. وذكر أن اليهودي دسّ نسوانا إلى معارف لهنّ من زعماء المسلمين بغرناطة ، ينهاهم عن حضور المسجد يومهم ، ويأمرهم بإخفاء أنفسهم ؛ وفشا الخبر فتخلّف الناس عن شهود الجمعة ؛ ولم يأته إلّا نفر من عامّتهم ، اقتدوا بمن أتاه من مشيخة البربر وأغفال القادمين ؛ وجاء إلى باديس الخبر ، والجيش في السلاح حوالي قصره ، فساءه وفتّ في عضده ، ولم يشكّ في فشوّ سرّه ، وأحضر وزيره وقلّده البوح بسرّه فأنكر ما قرفه به ؛ وقال : ومن أين ينكر على الناس الحذر ، وأنت قد استركبت جندك وجميع جيشك في التّعبئة ، لا لسفر ذكرته ، ولا لعدوّ وثب إليك ، فمن هناك حدس القوم على أنك تريدهم ، وقد أجمل الله لك الصّنع في نفارهم ، وقادك إصارهم ، فأعد نظرك يا سيدي ، فسوف تحمد عاقبة رأيي وغبطة نصحي. فنصّح وزيره شيخ من موالي صنهاجته ، فانعطف لذلك بعد لأي ، وشرح الله صدره. ويجري التعريف بشيء من أمور وزيره.

قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمى ب «البيان المغرب» (١) : أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي (٢) ، وعمالا متصرّفين من أهل ملّته ، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين. قال ابن حيّان : وكان هذا اللعين في ذاته ، على ما زوى الله عنه من هدايته ، من أكمل الرجال علما وحلما وفهما ، وذكاء ، ودماثة ، وركانة ، ودهاء ، ومكرا ، وملكا لنفسه ، وبسطا من خلقه ، ومعرفة

__________________

(١) البيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٤).

(٢) هو إسماعيل بن نغرالة اليهودي كما في البيان المغرب. وله ترجمة في المغرب (ج ٢ ص ١١٤) ، ولابنه يوسف بن إسماعيل ترجمة في المغرب (ج ٢ ص ١١٥).

٢٤٢

بزمانه ، ومداراة لعدوّه ، واستسلالا لحقودهم بحلمه ؛ ناهيك من رجل كتب بالقلمين ، واعتنى بالعلمين ، وشغف باللسان العربي ، ونظر فيه ، وقرأ كتبه ، وطالع أصوله ؛ فانطلقت يده ولسانه ، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي ، فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى ، والصلاة على رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، والتزكية لدين الإسلام ، وذكر فضائله ، ما يريده ، ولا يقصر فيما ينشئه عن أوسط كتّاب الإسلام ؛ فجمع لذلك «السّجيج في علوم الأوائل الرياضية» وتقدم منتحليها بالتدقيق للمعرفة النّجومية ؛ ويشارك في الهندسة والمنطق ، ويفوق في الجدل كلّ مستول منه على غاية ؛ قليل الكلام مع ذكائه ، ماقتا للسباب ، دائم التفكّر ، جمّاعة للكتب. هلك في العشر الثاني لمحرم سنة تسع وخمسين وأربعمائة (١) ، فجلّل اليهود نعشه ، ونكّسوا لها أعناقهم خاضعين ، وتعاقدوه جازعين ، وبكوه معلنين ؛ وكان قد حمل ولده يوسف المكنّى بأبي حسين على مطالعة الكتب ، وجمع إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية ، يعلّمونه ويدارسونه ، وأعلقه بصناعة الكتابة ، ورشّحه لأول حركته ، لكتابة ابن مخدومه بلكّين برتبة المترشّح لمكانه ، تمهيدا لقواعد خدمته ؛ فلما هلك إسماعيل في هذا الوقت ، أدناه باديس إليه ، وأظهر الاغتباط به ، والاستعاضة بخدمته عن أبيه.

ذكر مقتل اليهودي يوسف بن إسماعيل بن نغرالة الإسرائيلي :

قال صاحب البيان (٢) : وترك ابنا له يسمى (٣) يوسف لم يعرف ذلّ (٤) الذّمّة ، ولا قذر اليهودية. وكان جميل الوجه ، حادّ الذّهن ، فأخذ (٥) في الاجتهاد في الأحوال ، وجمع (٦) المال ، واستخراج الأموال ، واستعمال (٧) اليهود على الأعمال ، فزادت منزلته عند أميره (٨) ، وكانت له عليه (٩) عيون في قصره من نساء وفتيان ، يشملهم (١٠) بالإحسان ، فلا يكاد باديس يتنفس ، إلّا وهو يعلم ذلك (١١). ووقع ما تقدم ذكره ، في

__________________

(١) هنا يخلط ابن الخطيب بين إسماعيل بن النغرالة وبين ابنه يوسف بن إسماعيل ابن النغرالة ، وجعل وفاته عام ٤٥٩ ه‍ ، وهو عام وفاة ابنه يوسف. كذلك شاركه في هذا الوهم النباهي في المرقبة العليا (ص ٩١) وابن خلدون في كتاب العبر (م ٤ ص ٣٤٦).

(٢) البيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥).

(٣) في البيان المغرب : «اسمه».

(٤) في البيان المغرب : «ذلّة».

(٥) في البيان المغرب : «فأخذ نفسه بالاجتهاد ...».

(٦) قوله : «وجمع المال» ساقط في البيان المغرب.

(٧) في البيان المغرب : «واستعمل اليهود إخوانه على ...».

(٨) في البيان المغرب : «أميره باديس».

(٩) في البيان المغرب : «له عيون عليه».

(١٠) في البيان المغرب : «شغلهم الملعون بالإحسان».

(١١) هنا ينتهي النقل عن ابن عذاري.

٢٤٣

ذكر بلكّين من اتّهامه بسمّه ، وتولّيه التهمة به عند أبيه ، للكثير من جواريه وخدّامه ، وفتك هذا بقريب له ، تلو له في الخدمة والوجاهة ، يدعى بالقائد ، شعر منه بمزاحمته إياه فتكة شهيرة ؛ واستهدف للناس فشغلت به ألسنتهم ، وملئت غيظا عليه صدورهم ، وذاعت قصيدة الزاهد أبي إسحاق الإلبيري ، في الإغراء بهم ، واتفق أن أغارت على غرناطة بعوث صمادحية تقول إنها باستدعائه ، ليصير الأمر الصّنهاجيّ إلى مجهزها الأمير بمدينة ألمريّة. وباديس في هذه الحال منغمس في بطالته ، عاكف على شرابه.

ونمي هذا الأمر إلى رهطه من صنهاجة ، فراحوا إلى دار اليهودي مع العامّة ، فدخلوا عليه ، فاختفى ، زعموا في بيت فحم ، وسوّد وجهه ، يروم التنكير فقتلوه لمّا عرفوه ، وصلبوه على باب مدينة غرناطة ، وقتل من اليهود في يومه ، مقتلة عظيمة ، ونهبت دورهم ، وذلك سنة تسع وخمسين وأربعمائة (١). وقبره اليوم وقبر أبيه يعرف أصلا من اليهود ينقلونه بتواتر عندهم ، أمام باب إلبيرة ، على غلوة ، يعترض الطريق ، على لحده حجارة كدان جافية الجرم ؛ ومكانه من الترفّه والتّرف والظّرف والأدب معروف ؛ وإنما أتينا ببعض أخباره لكونه ممّن لا يمنع ذكره في أعلام الأدباء والأفراد إلا نحلته.

مكان باديس من الذكاء وتولّعه بالقضايا الآتية :

قال ابن الصّيرفي : حدّثني أبو الفضل جعفر الفتى ، وكان له صدق ، وفي نفسه عزّة وشهامة وكرم ، وأثنى عليه ، وعرّف به ، حسبما يأتي في اسم جعفر المذكور ، قال : خاض باديس مع أصحابه في المجلس العلي ، من دار الشّراب بقصره ، واصطفّت الصّقاليب (٢) والعبيد بالبرطل (٣) المتصل به لتخدم إرادته ، فورد عليه نبأ قام لتعرّفه عن مجلسه ، ثم عاد إلى موضعه وقد تجهّم وجهه ، وخبثت نفسه ، فحذر ندماؤه على أنفسهم ، وتخيّلوا وقوع الشّرّ بهم ، ثم قال : أعلمتم ما حدث؟ قالوا : لا ، والله يطلع على خير ، قال : دخل المرابط (٤) الدّمنة ، فسري عن القوم ، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء بنصره ، وفسحة عمره ، ودوام دولته ، ثم وجموا لوجومه ، فلمّا رأى

__________________

(١) في أعمال الأعلام لابن الخطيب (القسم الثاني ص ٢٣٣) : قتلوه وصلبوه سنة ٤٦٩ ه‍ ، وقيل : سنة ٤٦٥ ه‍.

(٢) الصقاليب : هم الصقالبة ، وهم أولئك الأرقّاء الذين ينتسبون إلى جنسيات أوروبية مختلفة.

راجع : مملكة ألمرية في عهد المعتصم بن صمادح (ص ٦٨).

(٣) البرطل : كلمة إسبانية وهي Portal ، وتعني البوّابة ومدخل البيت والبهو ذا الشّرفات المعقودة على الأعمدة.

(٤) يشير إلى دخول يوسف بن تاشفين المرابطي الأندلس.

٢٤٤

تكدّر صفوهم ، قال : أقبلوا على شأنكم ، ما نحن وذاك ، اليوم خمر وغدا أمر (١) ، بيننا وبينه أمداد الفجو ، والنّشور الجبال وأمواج البحار ، ولكن لا بدّ له أن يتملّك بلدي ، ويقعد منه مقعدي ، وهذا أمر لا يلحقه أحد منّا ، وإنما يشقى أحفادنا. قال جعفر : فلمّا دخل الأمير القصر ، عند خلعه حفيد باديس برحبة مؤمّل (٢) ، طاف بكل ركن ومكان منه ، وأنا في جملته حتى انتهى إلى ذلك المجلس ، فبسط له ما قعد عليه ، فتذكرت قول باديس ، وتعجبت منه تعجّبا ظهر عليّ ، فالتفت إليّ أمير المسلمين منكرا ، وسألني ما بي ، فأخبرته وصدقته ، وقصصت عليه قول باديس ، فتعجّب ، وقام إلى المسجد بمن معه ، فصلّى فيه ركعات ، وأقبل يترحّم على قبره.

وفاته : قال أبو القاسم بن خلف : توفي باديس ليلة الأحد الموفي عشرين من شوّال سنة خمس وستين وأربعمائة (٣) ، ودفن بمسجد القصر. قلت : وقد ذهب أثر المسجد ، وبقي القبر يحفّ به حلق له باب ، كل ذلك على سبيل من الخمول ، وجدث القبر رخام ، إلى جانب قبر الأمير المجاهد أبي زكريا يحيى بن غانية ، المدفون في دولة الموحّدين به.

وقد أدال اعتقاد الخليفة في باديس بعد وفاته ، قدم العهد بتعرّف أخبار جبروته وعتوّه على الله سبحانه ، لما جبلهم عليه من الانقياد للأوهام والانصياع للأضاليل ، فعلى حفرته اليوم من الازدحام بطلاب الحوائج والمستشفين من الأسقام ، حتى أولو الدّواب الوجيعة ، ما ليس على قبر معروف الكرخي ، وأبي يزيد البسطامي.

ومن أغرب ما وقفت عليه رقعة رفعها إلى السلطان على يدي رجل من أهل الخبر مكتّب (٤) يؤمّ في مسجد القصبة القدمى من دار باديس ، يعرف بابن باق ، وهو يتوسّل إلى السلطان ويسأل منه الإذن في دفنه مجاورا لقبره. وعفو الله أوسع من أن يضيق على مثله ، ممّن أسرف على نفسه ، وضيّع حقّ ربّه. ودائره اليوم طلول قد

__________________

(١) قوله : «اليوم خمر وغدا أمر» لامرىء القيس ، وقد قاله عندما بلغ أن بني أسد ثاروا على أبيه وقتلوه ، وكان آنذاك في مجلس شراب.

(٢) رحبة مؤمل أو حور مؤمل أو حوز مؤمل : كان من أجمل متنزهات غرناطة ، سمّي بذلك نسبة إلى مؤمل أحد خدّام ملك غرناطة باديس بن حبوس ، ولاحتوائه على سطر من شجر الحور. مملكة غرناطة (ص ٣٥).

(٣) كذا ورد في اللمحة البدرية (ص ٣١). ويرى ابن خلدون أن باديس توفي سنة ٤٦٧ ه‍. ويتردد القلقشندي في تاريخ الوفاة ، فمرة يذكر أنه توفي سنة ٤٦٧ ه‍ ، ويذكر مرة أخرى أنه توفي عام ٤٧٧ ه‍. كتاب العبر (م ٤ ص ٣٤٦) و (م ٦ ص ٣٦٩) ، وصبح الأعشى (ج ٥ ص ٢٤٢ ، ٢٤٨).

(٤) المكتّب : معلّم الكتابة. محيط المحيط (كتب).

٢٤٥

تغيّرت أشكالها وقسّم التملّك جنّاتها ، ومع ذلك فمعاهدها إليه منسوبة ، وأخباره متداولة.

وقد ألمعت في بعض مشاهده بقولي من قصيدة ، غريبة الأغراض ، تشتمل على فنون ، أثبتها إحماضا وفكاهة ، لمن يطالع هذا الكتاب ، وإن لم يكن جلبها ضروريّا فيه ، فمنها (١) : [الطويل]

عسى خطرة (٢) بالرّكب يا حادي العيس

على الهضبة الشّمّاء من قصر باديس

بكرون بن أبي بكر بن الأشقر الحضرمي

يكنى أبا يحيى.

حاله : كان من ذوي الأصالة ومشايخ الجند ، فارسا نجدا حازما سديد الرأي ، مسموع القول ، شديد العضلة (٣) ، أيّدا (٤) ، فحلا وسيما ، قائدا عند الجند الأندلسي ، في أيام السلطان ثاني ملوك بني نصر ، من أحفل ما كان الأمر ، يجرّ وراءه دنيا عريضة ، وجبى الجيش على عهده مغانم كثيرة.

قال شيخنا ابن شبرين في تذكرة ألفيتها بخطه : كان له في الخدمة مكان كبير ، وجاه عريض ، ثم صرفه الأمر عن رسمه ، وأنزله الدهر عن حكمه ، تغمّدنا الله وإياه برحمته.

وفاته : في عام أربعة عشر وسبعمائة ، ودفن بمقبرة قومه بباب إلبيرة.

بدر مولى عبد الرّحمن بن معاوية الداخل

يكنى أبا النصر ، رومي الأصل.

حاله : كان شجاعا داهية ، حازما فاضلا ، مصمّما تقيّا ، علما من أعلام الوفاء. لازم مولاه في أعقاب النكبة ، وصحبه إلى المغرب الأقصى ، مختصّا به ذابّا عنه ، مشتملا عليه ، وخطب له الأمر بالأندلس ، فتمّ له بما هو مذكور.

__________________

(١) البيت مطلع قصيدة من ٣٦ بيتا وردت في نثير فرائد الجمان (ص ٢٤٥ ـ ٢٤٨) ، وأزهار الرياض (ج ١ ص ٢٣٤ ـ ٢٣٧) ، ونفح الطيب (ج ٩ ص ١٩١ ـ ١٩٤). وسترد في الجزء الرابع من الإحاطة.

(٢) في النثير : «خطوة».

(٣) شديد العضلة : كثير الدهاء. لسان العرب (عضل).

(٤) الأيّد : القوي. لسان العرب (أيد).

٢٤٦

قال أبو مروان في المقتبس : إن عبد الرّحمن لمّا شرّده الخوف إلى قاصية المغرب ، وتنقّل بين قبائل البربر ، ودنا من ساحل الأندلس ـ وكان بها همّه ـ يستخبر من قرب ، فعرف أن بلادها مفترقة بفرقتي المضرية واليمانية ، فزاد ذلك في أطماعه ، فأدخل إليهم بدرا مولاه يحسّس عن خبرهم ، فأتى القوم ويلي ما عندهم ، فداخل اليمانيين منهم ، وقد عصفت ريح المضريين بظهور بني العباس بالمشرق ، فقال لهم : ما رأيكم في رجل من أهل الخلافة يطلب الدولة بكم ، فيقيم أودكم ويدرّككم آمالكم؟ فقالوا : ومن لنا به في هذه الديار ، فقال بدر : ما أدناه منكم ، وأنا الكفيل لكم به ، هذا فلان بمكان كذا وكذا يقدّمنّ نفسه فقالوا : فجىء به أهلا ، إنّا سراع إلى طاعته ، وأرسلوا بدرا بكتبهم يستدعونه ، فدخل إليه بأيمن طائر ، واستجمع إليه خلق كثير من أنصاره قاتل بهم يوسف الفهري ، فقهره لأول وقائعه ، وأخذ الأندلس منه وأورثها عقبه.

محنته : قال الراوي : وكان من أكبر من أمضى عليه عبد الرحمن بن معاوية حكم سياسته وقوّمه معدلته ، مولاه بدر المعتق منه بكل ذمّة محفوظة ، الخائض معه لكل غمرة مرهوبة ، وكل ذلك لم يغن عنه نقيرا لما أسلف في إدلاله عليه ، وكثير من الانبساط لحرمته ، فجمع مركب تحامله حتى أورده ألما يضيق الصدر عنه ، وآسف أميره ومولاه ، حتى كبح عنانه عن نفسه بعد ذلك كبحة أقعى بها أو شارف حمامه ، لو لا أن أبقى الأمير على نفسه التي لم يزل مسرفا عليها. قال : فانتهى في عقابه لمّا سخط عليه أن سلب نعمته ، وانتزع دوره وأملاكه وأغرمه على ذلك كله أربعين ألفا من صامته ، ونفاه إلى الثّغر ، فأقصاه عن قربه ، ولم يقله العثرة ، إلى أن هلك ، فرفع طمع الهوادة عن جميع ثقله وخدمته ، وصيّر خبره مثلا في الناس بعده.

تاشفين بن علي بن يوسف أمير المسلمين (١) بعد أبيه بالعدوة

صالي حروب الموحدين.

أوّليّته : فيما يختصّ به التعريف بأوّليّة قومه ، ينظر في اسم أبيه وجدّه إن شاء الله. قال ابن الورّاق في كتاب المقياس وغيره (٢) : وفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ، ولّى الأمير علي بن يوسف أمير لمتونة ، الشهير بالمرابط ، ولده الأمير

__________________

(١) ترجمة تاشفين بن علي بن يوسف المرابطي في الحلل الموشية (ص ٩٠) ، والبيان المغرب (ج ٤ ص ٧٩) ، والذخيرة (ق ٢ ص ٤٠٧).

(٢) قارن بالبيان المغرب (ج ٤ ص ٧٩).

٢٤٧

المسمّى بسير عهده من بعده. وجعل له الأمر في بقية حياته ؛ ورأى أن يولي ابنه تاشفين الأندلس ، فولّاه مدينة (١) غرناطة ، وألمريّة ثم قرطبة مضافة إلى ما بيده. قلت : وفي قولهم رأي أن يولّى الأندلس فولّاه مدينة غرناطة ، شاهد كبير على ما وصفناه من شرف هذه المدينة ؛ فنظر في مصالحها ، وظهر له بركة في النصر على العدو ، وخدمه الجدّ الذي أسلمه. وتبرّأ منه في حروبه مع الموحّدين حسبما يتقرّر في موضعه ، فكانت له على النصارى وقائع عظيمة بعد لها الصّيت ، وشاع الذّكر حسبما يأتي في موضعه. قال : فكبر ذلك على أخيه سير وليّ عهد أبيه ، وفاوض أباه في ذلك وقال له : إن الأمر الذي أهّلتني إليه (٢) لا يحسن لي مع تاشفين ، فإنه قد حمل الذكر والثّناء دوني ، وغطّى على اسمي ، وأمال إليه جميع أهل (٣) المملكة ، فليس لي معه اسم ولا ذكر ، فأرضاه بأن عزله عن الأندلس وأمره بالوصول إلى حضرته ، فرحل عن الأندلس في أواسط سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ووصل مرّاكش ، وصار من جملة من يتصرّف بأمر أخيه سير ويقف ببابه كأحد حجّابه ؛ فقضى الله وفاة الأمير سير على الصورة القبيحة حسبما يذكر في اسمه ، وثكله أبوه واشتدّ جزعه عليه ، وكان عظيم الإيثار والإرضاء لأمّه قمر ، وهي (٤) التي تسبّبت في عزل تاشفين وإخماله نظرا إلى ابنها ، فقطع المقدار بها عن أملها بهلاكه.

ولمّا توفي الأمير سير ، أشارت الأمّ المذكورة على أبيه بتقديم ولده إسحاق ، وكان رؤوما لها ، قد تولّت تربيته عند هلاك أمّه وتبنّته ، فقال لها : هو صغير السّن لم يبلغ الحلم ؛ ولكن حتى أجمع الناس في المسجد خاصّة وعامّة ، وأخبرهم فإن صرفوا الخيار إليّ ، فعلت ما أشرت به. فجمع الناس وعرض عليهم الأمر ؛ فقالوا كلهم في صوت واحد : تاشفين ، فلم توسعه السياسة مخالفتهم ؛ فعقد له الولاية بعده ونقش اسمه في الدنانير والدراهم مع اسمه ، وقلّده النظر في الأمور السلطانية ، فاستقرّ بذلك. وكتب إلى العدوة والأندلس وبلاد المغرب ببيعته ، فوصلت البيعات من كل جهة. ثم رمى به جيوش الموحّدين الخارجين عليه ، فنبا جدّه ومرضت أيامه ، وكان الأمر عليه لا له ، بخلاف ما صنع الله له بالأندلس.

__________________

(١) في البيان المغرب : «فولّاه إمارة أغرناطة ...».

(٢) في البيان المغرب : «له».

(٣) كلمة «أهل» ساقطة في البيان المغرب.

(٤) راجع البيان المغرب (ج ٤ ص ٩٧).

٢٤٨

قال أبو مروان الورّاق (١) : وكان (٢) أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين قد أمل في ابنه تاشفين ما لم تكن الأقدار تساعده به ، فتشاءم به وعزم على خلعه وصرف عهده إلى إسحاق (٣) ولده الأصغر ، ووجّه إلى عامله على إشبيلية عمر (٤) ، أن يصل إليه ليجعله شيخ ابنه ، إلى أن وافاه خبر أمضّه وأقلقه ولم يمهله ، فأزعج تاشفين إلى عدوّه على غير أهبة بتفويضه إياه ، وصرف المدد في إثره ، وتوفي لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين (٥) لفعله ذلك.

ملكه ووصف حاله : فأفضى إليه ملك أبيه ، بتفويضه إياه في حياته ، لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة ، وكان بطلا شجاعا حسن الرّكبة والهيئة ، سالكا ناموس الشريعة ، مائلا إلى طريقة المستقيمين ، وكتب المريدين ؛ قيل إنه لم يشرب قطّ مسكرا ولا استمع إلى قينة ، ولا اشتغل بلذّة ممّا يلهو به الملوك.

الثّناء عليه : قال ابن الصيرفي (٦) : وكان بطلا شجاعا ، أحبّه الناس ، خواصّهم وعوامّهم ، وحسنت سياسته فيهم ، وسدّ الثّغور ، وأذكى (٧) على العدو العيون ، وآثر الجند ، ولم يكن منه إلّا الجدّ ، ولم تنل عنده الحظوة (٨) ، إلّا بالعناء والنجدة. وبذلك حمل على الخيل ، وقلّد الأسلحة ، وأوسع الأرزاق ، واستكثر من الرّماة (٩) وأركبهم وأقام همّتهم (١٠) للاعتناء بالثغور ومباشرة الحرب ، ففتح الحصون وهزم الجيوش وهابه العدو. ولم ينهض إلا ظاهرا ولا صدر إلّا ظافرا. وملك الملك ومهد بالحزم وتملّك (١١) نفوس الرعيّة بالعدل (١٢) ، وقلوب الجند بالنّصفة. ثم قال : ولو لا الاختصار الذي اشترطناه لأوردنا من سنى خلاله ما يضيق عنه الرّحب ، ولا يسعه الكتب.

دينه : قال المؤرّخ : عكف على زيارة قبر أبي وهب الزاهد بقرطبة ، وصاحب أهل الإرادة ، وكان وطئ الأكناف (١٣) ، سهل الحجاب ، يجالس الأعيان ويذاكرهم.

__________________

(١) النص في البيان المغرب (ج ٤ ص ٩٩ ـ ١٠٠) بتصرّف.

(٢) في البيان المغرب : «وقد كان».

(٣) كلمة «إسحاق» ساقطة في البيان المغرب.

(٤) في الأصل : «أغمار» والتصويب من البيان المغرب.

(٥) كذا جاء في البيان المغرب (ج ٤ ص ٨٠) و (ص ١٠٠).

(٦) قارن بالحلل الموشية (ص ٩٠).

(٧) في الحلل الموشية : «وأذكى العيون على العدو».

(٨) في الحلل الموشية : «الخطوة».

(٩) في الحلل الموشية : «الرمات».

(١٠) في الحلل الموشية : «هممهم».

(١١) في الحلل الموشية : «وملك».

(١٢) في الحلل الموشية : «بالمعدلة».

(١٣) الأكناف : جمع كنف وهو الناحية. لسان العرب (كنف).

٢٤٩

قال ابن الصيرفي : ولمّا قدم غرناطة أقبل على صيام النهار ، وقيام الليل ، وتلاوة القرآن ، وإخفاء الصّدقة ، وإنشاء العدل ، وإيثار الحق.

دعابته : قالوا : مرّ يوما بمرج القرون ، من أحواز قلعة يحصب ، فقال لزمّال من عبيده كان يمازحه : هذا مرجك ؛ فقال الزمّال : ما هو إلّا مرجك ومرج أبيك ، وأما أنا فمن أنا؟ فضحك وأعرض عنه.

دخوله غرناطة : قالوا (١) : وفي عام ثلاثة وعشرين وخمسمائة ، ولّي الأمير أبو محمد تاشفين بن أمير المسلمين عليّ بن أمير المسلمين يوسف ، ووافاها في السابع عشر (٢) لذي حجة ؛ فقوّى الحصون وسدّ الثغور وأذكى العيون (٣) ، وعمد إلى رحبة القصر ، فأقام بها السقائف والبيوت ، واتخذها لخزن السلاح ومقاعد الرجال ، وضرب السّهام ؛ وأنشأ السّقي ، وعمل التّراس ، ونسج الدّروع ، وصقل البيضات والسيوف ، وارتبط الخيل ، وأقام المساجد في الثغور ، وبنى لنفسه مسجدا بالقصر ، وواصل الجلوس للنظر في الظّلامات ، وقراءة الرّقاع ، وردّ الجواب ؛ وكتب التوقيعات ، وأكرم الفقهاء والطلبة ، وكان له يوم في كل جمعة ، يتفرّغ فيه للمناظرة.

وزراؤه : قال أبو بكر : وقرن الله به ممّن ورد معه ، الزبير بن عمر اللّمتوني ، ندرة الزمان كرما وبسالة ، وحزما وأصالة ، فكان كما جاء في الحديث عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : «من ولّي شيئا من أمور المسلمين فأراد الله به خيرا ، جعل الله له بطانة خير ، وجعل له وزيرا صالحا ، إن نسي شيئا ذكّره ، وإن ذكره أعانه».

عمّاله : الوزير أبو محمد الحسين بن زيد بن أيوب بن حامد بن منحل بن يزيد.

كتّابه : الرئيس العالم أبو عبد الله بن أبي الخصال ، والكاتب المؤرّخ أبو بكر الصيرفي وغيرهما (٤).

ومن أخبار جهاده : خرج (٥) الأمير تاشفين في رمضان عام أربعة وعشرين وخمسمائة بجيش غرناطة ومطوعتها ، واتصل به جيش قرطبة إلى حصن السّكّة من عمل طليطلة ، وقد اتخذه العدو ركابا لإضراره بالمسلمين ، وشحنه وجمّ به شوكة

__________________

(١) النص في البيان المغرب (ج ٤ ص ٨٠) وبعضه في الحلل الموشية (ص ٩٠).

(٢) في البيان المغرب : «في السابع والعشرين».

(٣) في البيان المغرب : «العيون على العدو ...».

(٤) في الأصل : «وغيرهم».

(٥) قارن بالبيان المغرب (ج ٤ ص ٨٣ ـ ٨٦).

٢٥٠

حادّة بقومس مشهور ؛ فأحدق به ، ونشر الحرب عليه ، فافتتحه عنوة وقتل من كان به ؛ وأحيا قائده «فرند» ومن معه من الفرسان ، وصدر إلى غرناطة ، فبرز له الناس بروزا لم يعهد مثله. وفي شهر صفر من عام خمسة وعشرين أوقع بالعدو المضيق على أوّليته. وفي ربيع الأول من عام ستة وعشرين ، تعرّف خروج عدو طليطلة إلى قرطبة ؛ فبادر الأمير تاشفين إلى قرطبة ، ثم نهد (١) إلى العدو في خفّ ، وترك السيقة والثقل بأرجونة. وقد اكتسح العدوّ بشنت إشطبين (٢) والوادي الأحمر. وأسرى الليل ، وواصل الركض ، وتلاحق بالعدو بقرية براشة. فتراءى الجمعان صبحا ، وافتضح الجيش ، ونشرت الرّماح والرّايات ، وهدرت الطبول ، وضاقت المسافة ، وانتبذ العدو عن الغنيمة ؛ والتفّ الجمع ، فتقصرت الرّماح ، ووقعت المسابقة ، ودارت الحرب على العدو ، وأخذ السيف مأخذه ، فأتى القتل على آخرهم ، وصدر إلى غرناطة ظافرا. وفي (٣) آخر هذا العام خرج العدو «للنمط» وقد احتفل في جيشه إلى بلاد الإسلام ، فصبح إشبيلية يوم النصف من رجب ، وبرز إليه الأمير أبو حفص عمر بن علي بن الحاج ، فكانت به الدّبرة (٤) في نفر من المسلمين استشهد جميعهم ؛ ونزل العدو على فرسخين من المدينة فجلّلها نهبا وغارة ؛ فقتل عظيما ، وسبى عظيما ؛ وبلغ الخبر الأمير تاشفين ، فطوى المراحل ، ودخل إشبيلية ، وقد أسرّها ؛ واستؤصلت باديتها ، وكثر بها التأديب والتنكيل فأخذ أعقاب العدو ، وقد قصد ناحية بطليوس وباجة ويابرة في ألف (٥) عديده من أنجاد الرجال ، ومشهور الأبطال ، فراش جولا عهدا بالرّوع ، فظفر بما لا يحصيه أحد ، ولا يقع عليه عدد ؛ وانثنى على رسل لثقل (٦) السيقة ، وثقته ببعد الصّارخ (٧) ، وتجشمت بالأمير تاشفين الأدلاء كل ذروة وثنيّة ، وأفضى به الإعداد (٨) إلى فلاة بقرب الزّلاقة ، وهو المهيع الذي يضطر العدو إليه ، ولم يكن إلّا كلّا ولا ، حتى أقبلت الطلائع منذرة بإقبال العدوّ ، والغنيمة في يده قد ملأت الأرض ؛ فلما تراءى

__________________

(١) نهد : برز.

(٢) شنت إشطبين أو إشتبين : بالإسبانيةSan Esteban ، وهي حصن بالأندلس تحت أصل جبل ممتنع. الروض المعطار (ص ٦٠).

(٣) قارن بالحلل الموشية (ص ٩١) والبيان المغرب (ج ٤ ص ٨٨ ـ ٨٩).

(٤) الدبرة : الهزيمة.

(٥) في الحلل الموشية : «تألفهم جيش يحتوي على آلاف من أنجاد رجالهم ومشهور أبطالهم».

(٦) في الأصل : «انتقل» والتصويب من البيان المغرب.

(٧) في البيان المغرب : «وثقتهم ببعد الصارخ منهم ...».

(٨) في البيان المغرب : «الإغذاذ به إلى فدان بقرب ...».

٢٥١

الجمعان ، واضطربت (١) المحلات ، ورتبت المراكب فأخذت مصافّها ، ولزمت الرجال مراكبها (٢) ، فكان القلب مع الأمير ووجوه المرابطين وأصحاب الطاعات ؛ وعليه البنود الباسقات ، مكتّبة (٣) بالآيات ، وفي المجتبين (٤) كبار الدولة من أبطال الأندلس ، عليهم حمر الرّايات بالصور الهائلة (٥) ، وفي الجناحين أهل الثغر والأوشاب من أهل الجلادة ، عليهم الرّايات المرقّعات بالعذبات المجزّعات. وفي المقدمة مشاهير زناته ولفيف الحشم بالرايات المصبغات المنبّقات (٦). والتقى الجمعان ، ونزل الصبر ، وحميت النفوس ، واشتدّ الضرب والضراب وكثرت الحملات ؛ فهزم الله الكافرين ، وأعطوا رقابهم مدبرين ، فوقع القتل ، واستلحم العدوّ السيف ، واستأصله الهلاك والأسار ؛ وكان فتحا جليلا لا كفاء له ، وصدر الأمير تاشفين ظافرا إلى (٧) بلده في جمادى من هذا العام. ولو ذهبنا لاستقصاء حركات الأمير تاشفين وظهوره لاستدعى ذلك طولا كثيرا.

بعض ما مدح به : فمن ذلك (٨) : [الكامل]

أمّا وبيض الهند عنك خصوم

فالرّوم تبذل ما ظباك تروم

تمضي سيوفك في العدا ويردّها

عن نفسه حيث الكلام وخيم (٩)

وهذه القصائد قد اشتملت على أغراضها الحماسية ، والملك سوق يجلب إليها ما ينفق عندها.

وفاته : قد تقدّم انصرافه عن الأندلس سنة إحدى وثلاثين وخمسماية ، وقيل : سنة اثنتين (١٠) ، واستقراره بمرّاكش مرءوسا لأخيه سير ، إلى أن أفضى إليه الأمر بعد أبيه. قال : واستقبل تاشفين مدافعة جيش أمير الموحدين ، أبي محمد عبد المؤمن بن

__________________

(١) في البيان المغرب : «اضطربت المحلتان ، وترتبت المواكب ...».

(٢) في البيان المغرب : «مراكزها فكان في القلب ...».

(٣) في الحلل الموشية : «مكتوبة».

(٤) في المصدرين : «وفي الجانبين كفاة الدولة وحماة الدعوة من أبطال ...».

(٥) في المصدرين : «الهائلات».

(٦) في البيان المغرب : «بالرايات المصنفة ...». والمنبقّات : المزركشات. لسان العرب (نبق).

(٧) في الحلل الموشية : «إلى قرطبة عزيزا ظافرا ، وكان ذلك سنة ثمان وعشرين وخمسمائة». وفي البيان المغرب : «إلى قرطبة ثم إلى أغرناطة ، وذلك في جمادى الأولى من سنة ثمان وعشرين ...».

(٨) البيتان في البيان المغرب (ج ٤ ص ٨٩).

(٩) في البيان المغرب : «رحيم».

(١٠) في الأصل : «اثنين».

٢٥٢

علي خليفة مهديهم ، ومقاومة أمر قضى الله ظهوره ، والدفاع عن ملك بلغ مداه ، وتمّت أيامه. كتب الله عليه ، فالتأث سعده ، وفلّ جدّه ، ولم تقم له قائمة إلى أن هزم ، وتبدّد عسكره ، ولجأ إلى وهران ، فأحاط به الجيش ، وأخذه الحصار. قالوا : فكان من تدبيره أن يلحق ببعض السواحل ، وقد تقدّم به وصول ابن ميمون قائد أسطوله ، ليرفعه إلى الأندلس ؛ فخرج ليلا في نفر من خاصّته فرّقهم الليل ، وأضلّهم الرّوع ، وبدّدتهم الأوعار ، فمنهم من قتل ، ومنهم من لحق بالقطائع البحرية ؛ وتردّى بتاشفين فرسه من بعض الحافّات ، ووجد ميّتا في الغد ، وذلك ليلة سبع وعشرين لرمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ؛ وصلبه الموحّدون ، واستولوا على الأمر من بعده ، والبقاء لله تعالى.

ثابت بن محمد الجرجاني ثم الأسترآباذي (١)

يكنى أبا الفتوح.

حاله : قال ابن بسّام (٢) : كان الغالب على أدواته علم اللّسان ، وحفظ الغريب ، والشعر الجاهلي والإسلامي ، إلى المشاركة في أنواع التعاليم ، والتصرّف في حمل السلاح ، والحذق بأنواع (٣) الجندية ؛ والنّفاذ في أنواع (٤) الفروسيّة ، فكان الكامل في خلال جمّة. قال أبو مروان : ولم يدخل الأندلس أكمل من أبي الفتوح في علمه وأدبه. قال ابن زيدون : لقيته بغرناطة ، فأخذت عنه أخبار المشارقة ، وحكايات كثيرة ؛ وكان غزير الأدب ، قويّ الحفظ في اللغة ، نازغا إلى علم الأوائل من المنطق والنجوم والحكمة ، له بذلك قوة ظاهرة.

طروؤه على الأندلس : قال صاحب الذخيرة (٥) : طرأ على الحاجب (٦) منذ صدر الفتنة للذائع من كرمه ، فأكرمه (٧) ورفع شأنه ، وأصحبه ابنه (٨) المرشّح لمكانه (٩) ،

__________________

(١) ترجمة ثابت بن محمد الجرجاني في بغية الوعاة (ص ٢١٠) ، وجذوة المقتبس (ص ١٨٤ ، ٣٥٢) ، والذخيرة (ق ٤ ص ١٢٤) ، وبغية الملتمس (ص ٢٥٣) ، والصلة (ص ٢٠٦) ، ومعجم الأدباء (ج ٢ ص ٣٦٦) ، ومملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٢٧٠).

(٢) الذخيرة (ق ٤ ص ١٢٤).

(٣) في الذخيرة : «بالآلات».

(٤) في الذخيرة : «معاني».

(٥) الذخيرة (ق ٤ ص ١٢٤ ـ ١٢٥).

(٦) في الذخيرة : «الجانب». ويستفاد من النص أنه طرأ على علي بن حمود الحسني ، الذي كان خليفة ولم يكن حاجبا. بويع له بقرطبة سنة ٤٠٧ ه‍ وقتله الصقالبة في العام التالي في حمام قصره.

(٧) في الذخيرة : «فأكرم نزله ، ورفع من شأنه».

(٨) هو ابنه يحيى بن علي بن حمود.

(٩) في الذخيرة : «المرشح ـ كان ـ لسلطانه».

٢٥٣

فلم يزل له بهما (١) المكان المكين ، إلى أن تغيّر عليه يحيى لتغيّر الزمان ، وتقلّب الليالي والأيام بالإنسان ، ولحق (٢) بغرناطة بعسكر البرابرة ، فحلّت به من أميرهم باديس الفاقرة (٣).

من روى عنه : قال أبو الوليد : قرأت عليه بالحضرة الحماسة في اختيار أشعار العرب ، يحملها عن أحمد بن عبد السلام بن الحسين البصري ، ولقيه ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ، عن أبي رياش أحمد بن أبي هشام بن شبل العبسي بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة ، وله في الفضائل أخبار كثيرة.

محنته ووفاته : لحقه عند باديس مع عمه يدّير بن حباسه تهمة في التدبير عليه ، والتسوّر على سلطانه ، دعتهما إلى الفرار عن غرناطة ، واللّحاق بإشبيلية. قال أبو يحيى الورّاق : واشتدّ شوق أبي الفتوح إلى أهله عند هربه مع يدّير إلى إشبيلية لمّا بلغه أن باديس قبض على زوجته وبنيه وحبسهم بالمنكّب عند العبد قدّاح صاحب عذابه ، وكان لها من نفسه موقع عظيم ، وكانت أندلسيّة جميلة جدّا لها طفلان ذكر وأنثى ، لم يطق عنهما صبرا وعمل على الرجوع إلى باديس طمعا في أن يصفح عنه ، كما عمل مع عمّه من أبي ريش ؛ فاستأمن إلى باديس يوم نزوله على باب إستجة إثر انهزام عسكر ابن عباد ، وفارق صاحبه يدّير ، ورمى هو بنفسه إلى باديس من غير توثّق بأمان أو مراسلة ؛ فلما أدخل عليه وسلم ، قال له : ابتدئ ، بأي وجه جئتني يا نمّام؟ ما أجرأك على خلقك ، وأشدّ اغترارك بسحرك ، فرّقت بين بني ماكسن ، ثم جئت تخدعني كأنك لم تصنع شيئا ؛ فلاطفه ، وقال اتّق الله يا سيدي ، وارع ذمامي ، وارحم غربتي وسوء مقامي ، ولا تلزمني ذنب ابن عمّك ؛ فما لي سبب فيه ، وما حملني على الفرار معه إلّا الخوف على نفسي لسابق خلطته ؛ ولقد لفظتني البلاد إليك مقرّا بما لم أجنه رغبة في صفحك ، فافعل أفعال الملوك الذين يجلّون عن الحقد على مثلي من الصعاليك ؛ قال : بل أفعل ما تستحقّه إن شاء الله ؛ أن تنطلق إلى غرناطة ، فدم على حالك ، والق أهلك إلى أن أقبل ، فأصلح من شأنك. فاطمأنّ إلى قومه ، وخرج إلى غرناطة وقد وكّل به فارسان ، وقد كتب إلى قدّاح بحبسه ؛ فلمّا شارف إلى غرناطة قبض عليه ، وحلق رأسه ، وأركب على بعير ، وجعل خلفه أسود فظّ ضخم يوالي صفعه ، فأدخل البلد مشهّرا ، ثم أودع حبسا ضيّقا ، ومعه رجل من أصحاب يدّير أسر في الوقعة من صنهاجة ، فأقاما في الحبس معا إلى أن قفل باديس.

__________________

(١) في الذخيرة : «بها».

(٢) في الذخيرة : «ففارقه ولحق في غرناطة ...».

(٣) الفاقرة : الداهية.

٢٥٤

مقتله : قال أبو مروان في الكتاب المسمّى بالمتين : واستراح باديس أياما في غرناطة يهيم بذكر الجرجاني ، ويعض أنامله ، فيعارضه فيه أخوه بلكّين ، ويكذب الظنون وسعى في تخليصه ، فارتبك باديس في أمره أياما ، ثم غافض أخاه بلكين فقتله وقتا أمن فيه أمر معارضته ؛ لاشتغاله بشراب وآلة ، وكانت من عادته ؛ فأحضر باديس الجرجاني إلى مجلسه ، وأقبل يشتمه ويسبّه ويبكّته ، ويطلق الشماتة ويقول ، لم تغن عنك نجومك يا كذّاب ، ألم يعد أميرك الجاهل؟ يعني يدّير ، أنه سوف يظفر بي ويملك بلدي ثلاثين سنة ، لم لم تدقّق النظر لنفسك وتحذر ورطتك؟ قد أباح الله لي دمك. فأيقن أبو الفتوح بالموت ؛ وأطرق ينظر إلى الأرض ، لا يكلّمه ولا ينظر إليه ؛ فزاد ذلك في غيظ باديس ، فوثب من مجلسه والسيف في يده ، فخبط به الجرجاني حتى جدّ له وأمر بحزّ رأسه ؛ قال : وقدّم الصّنهاجي الذي كان محبوسا معه إلى السيف ، فاشتدّ جزعه ، وجعل يعتذر من خطيئته ، ويلحّ في ضراعته ؛ فقال له باديس : أما تستحي يا ابن الفاعلة ؛ يصبر المعلم الضعيف القلب على الموت مثل هذا الصبر ، ويملك نفسه عن كلامه لي واستعطافي ، وأنت تجزع مثل هذا الجزع؟ وطال ما أعددت نفسك في أشدّاء الرجال ، لا أقال الرجال ، لا أقال الله مقيلك ؛ فضرب عنقه ، وانقضى المجلس.

ومن تمام الحكاية ممّا جلبه ابن حيّان ، قال : وكلّم الصنهاجيّون باديس في جثّة صنهاجهم المقتول مع أبي الفتوح ، فأمرني بإسلامها إليهم ، فخرجوا بها من فورهم إلى المقبرة على نعش ، فأصابوا قبرا قد احتفر لميت من أهل البلد ، فصبّوا صاحبهم الصّنهاجي فيه ، وواروه من غير غسل ولا كفن ولا صلاة ، فعجب الناس من تسحّيهم في الاغتصاب حتى الموتى في قبورهم.

مولده : سنة خمسين وثلاثمائة.

وفاته : كما ذكر ليلة السبت لاثنتين بقيتا من محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. قال برهون من خدّام باديس : أمرني بمواراة أبي الفتوح إلى جانب قبر أحمد بن عباس ، وزير زهير العامري ، فقبراهما في تلك البقعة متجاوران ، وقال : اجعل قبر عدوّ إلى جانب عدو إلى يوم القصاص ، فيا لهما قبران أجمّا أدبا لا كفاء له ، والبقاء لله سبحانه.

جعفر بن أحمد بن علي الخزاعي

من أهل غرناطة ، ويعسوب الثاغية والراغية (١) من أهل ربض البيّازين ، يكنى أبا

__________________

(١) يعسوبهم : سيدهم ورئيسهم. والثاغية : الشاة ؛ يقال : ما له ثاغية ولا راغية : أي ليس له شاة ولا ـ

٢٥٥

أحمد الشهير ذكره بشرق الأندلس ، المعروف بكرامة الناس ، المقصود الحفرة ، المحترم التّربة حتى من العدوّ ، والرائق بغير هذه الملّة. خرج قومه من وطنهم عند تغلّب العدو على الشرق ، فنزلوا ربض البيّازين جوفي (١) المدينة ، وارتاشوا ، وتلثّموا (٢) ، وبنوا المسجد العتيق ، وأقاموا رسم الإرادة ، يرون أنهم تمسكوا من طريق الشيخ أبي أحمد بآثاره ، فلا يغبّون بيته ، ولا يقطعون اجتماعا ، على حالهم المعروفة من تلاوة حسنة ، وإيثار ركعات ، ثم ذكر ثم ترجيع أبيات في طريق التصوّف ، مما ينسب للحسين بن منصور الحلاج (٣) وأمثاله ، يعرفونها منهم مشيخة ، قوّالون ، هم فحول الأجمة وضرائك (٤) تلك القطيعة يهيجون بلابلهم ، فلا ينشبون أن يحمى وطيسهم ، ويخلط مرعيّهم (٥) بالهمل ، فيرقصون رقصا غير مساوق للإيقاع الموزون ، دون العجال الغالبة منهم ، بإفراد كلمات من بعض المقول ، ويكرّ بعضهم على بعض ، وقد خلعوا خشن ثيابهم ، ومرقوعات قباطيهم ودرانيكهم (٦). فيدوم حالهم حتى يتصبّبوا عرقا. وقوّالهم يحرّكون فتورهم ، ويزمرون روحهم ، يخرجون بهم من قول إلى آخر ، ويصلون الشيء بمثله ، فربما أخذت نوبة رقصهم بطرفي الليل التمام ، ولا تزال المشيّعة لهم يدعونهم ، ويحاجّونهم إلى منازلهم ، وربما استدعاهم السلطان إلى قصره محمضا في لطائف نعيمه باخشيشانهم ، مبديا التبرّك بألويتهم. ولهم في الشيخ أبي أحمد والد نحلتهم ، وشحنة قلوبهم ، عصبيّة له وتقليد بإيثاره ، أنفجت (٧) لعقده أيمانهم ، وشرط في صحّة دينهم ، وارتكبوا في النفور عن سماع المزمار القصبي المسمّى بالشّبابة الذي أرخص في حضور الولائم ، مع نفخ برعه العدد الكثير من الجلّة الصلحاء القدوة مرتكبا ، حتى ألحقوه بالكبائر الموبقة ، وتعدّوا اجتنابه جبلة وكراهة طباعيّة ، فتزوى عند ذكره الوجوه. وتقتحم عند الاتّهام به الدّور ، وتسقط فيما

__________________

ـ ناقة ، أي ليس له شيء. لسان العرب (عسب) و (ثغا).

(١) الجوف في اصطلاح المغاربة الجهة المقابلة للقبلة ، أي الشمال. اللمحة البدرية (ص ٢٢ ، حاشية ٣).

(٢) أغلب الظن أنه يريد أن يقول إنهم ساروا على طريقة الملثمين أي المرابطين.

(٣) أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج زاهد مشهور ، توفي سنة ٣٠٩ ه‍. ترجمته في وفيات الأعيان (ج ٢ ص ١١٨) وفيه ثبت المصادر التي ترجمت له.

(٤) الضرائك : جمع ضريك وهو النسر الذكر. محيط المحيط (ضرك).

(٥) في الأصل : «مريعهم». وهذا مأخوذ من المثل : «اختلط المرعي بالهمل». والمرعيّ : الذي له راع. والهمل من الإبل : السّدى المتروك ليلا ونهارا يرعى بلا راع. محيط المحيط (همل).

(٦) القباطي : جمع قبطية وهي ثياب بيض رقاق من كتّان تنسج بمصر. والدرانيك : جمع درنك وهي الطنفسة. محيط المحيط (قبط) و (درنك).

(٧) أنفجه : أثاره. محيط المحيط (نفج).

٢٥٦

بينهم بفلتة سماعه أخوّة الطريق. وهم أهل سذاجة وسلامة ، أولو اقتصاد في ملبس وطعمة واقتيات بأدنى بلغة ، ولهم في التعصّب نزعة خارجيّة (١) ، وأعظمهم ما بين مكتسب متسبّب ؛ وبين معالج مدرة ، ومريع حياكة ، وبين أظهرهم من الذّعرة والصعاليك كثير ، والطّرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق ، جعلنا الله ممّن قبل سعيه ، وارتضى ما عنده ، ويسّره لليسرى.

حاله : قام هذا الرجل مقام الشيخ أبي تمام قريبه على هيئة مهلكه ، فسدّ مسدّه ، على حال فتور وغرارة ، حتى لان متن الخطة ، وخفّ عليه بالمران ثقل الوظيفة ، فأمّ وخطب ، وقاد الجماعة من أهل الإرادة. وقضى في الأمور الشرعية بالرّبض ، تحت ضبن (٢) قاضي الجماعة ، وهو الآن بعده على حاله ، حسن السّجيّة ، دمث الأخلاق ، ليّن العريكة ، سهل الجانب ، مقترن الصدق والعفّة ، ظاهر الجدّة ، محمود الطريقة ، تطأه أقدام الكلف ، وتطرّح به المطارح القاصية ، حوى على الشفاعات ، مستور الكفاية في لفق الضعف ، متوالي شعلة الإدراك في حجر الغفلة ، وجه من وجوه الحضرة في الجمهورية ، مرعيّ الجانب ، مخفّف الوظائف ، مقصودا من منتامي (٣) أهل طريقه بالهدايا ، مستدعى إلى من بالجهات منهم في كثير من الفصول ، ظاهر الجدوى في نفير الجهاد ، رحمه الله ، ونفع بأهل الخير.

مولده : عام تسعة وسبعمائة.

وفاته : يوم الاثنين التاسع والعشرين لرمضان خمسة وستين وسبعمائة.

جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة الخزاعي (٤)

من أهل شرق الأندلس ، من نظر دانية ، يكنى أبا أحمد ، الوليّ الشهير.

حاله : كان (٥) أحد الأعلام المنقطعي (٦) القرين في طريق كتاب الله ، وأولي الهداية الحقّة ، فذّ ، شهير ، شائع الخلّة ، كثير الأتباع ، بعيد الصيت ، توجب حقّه حتى الأمم الدائنة بغير دين الإسلام ، عند التغلّب على قرية مدفنه بما يقضى منه بالعجب.

__________________

(١) النزعة الخارجية : نسبة إلى مذهب الخوارج.

(٢) الضّبن : ما بين الكشح والإبط. محيط المحيط (ضبن).

(٣) منتامو هذه الطريقة : أنصارها الذين يطمئنون إليها.

(٤) ترجمة ابن سيد بونة الخزاعي في التكملة (ج ١ ص ١٩٧) ، والوافي بالوفيات (ج ١١ ص ١١٠) ، ونفح الطيب (ج ٣ ص ٢٥٣ ، ٣٥٩).

(٥) قارن بنفح الطيب (ج ٣ ص ٣٥٩).

(٦) في النفح : «المنقطعين المقرّبين».

٢٥٧

قال الأستاذ أبو جعفر بن الزّبير عند ذكره في الصّلة (١) : أحد أعلام (٢) المشاهير فضلا وصلاحا ؛ قرأ ببلنسية (٣) ، وكان يحفظ نصف «المدوّنة» وأقرأها ، ويؤثر (٤) الحديث والتفسير والفقه ، على غير ذلك من العلوم.

مشيخته : أخذ (٥) القراءات السبع عن المقرئ أبي الحسن بن هذيل ، وأبي الحسن بن النّعمة ، ورحل إلى المشرق ، فلقي في رحلته جلّة ، أشهرهم وأكبرهم في باب الزهد وأنواع سني الأحوال ، ورفيع المقامات ، الشيخ الجليل ، الوليّ لله تعالى ، العارف ، أبو مدين شعيب (٦) بن الحسين ، المقيم ببجاية ، صحبه وانتفع به ، ورجع من عنده بعجائب دينية ، ورفيع أحوال إيمانية ، وغلبت عليه العبادة ، فشهر بها حتى رحل إليه الناس للتبرّك بدعائه ، والتيمّن برؤيته ولقائه ، فظهرت بركته على القليل والكثير منهم وارتووا زلالا من ذلك العذب النّمير ، وحظّه من العلم مع عمله الجليل موفور ، وعلمه نور على نور. لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن حسين بن سيدبونة حين ورد غرناطة ، فكان يحدّث عنه بعجائب.

دخوله غرناطة : وذكر المعتنون بأخباره بالحضرة إلى طريقه ، أنه دخل الحضرة وصلّى في رابطة الرّبط من باب (٧) ... وأقام بها أياما ، فلذلك المسجد المزية عندهم إلى اليوم. وانتقل الكثير من أهله وأذياله عند تغلّب العدو على الشرق على بلدهم ، إلى هذه الحضرة ، فسكنوا منها ربض البيّازين ، على دين وانقباض وصلاح ، فيحجّون بكنوز من أسراره ، ومبشّراته مضنون بها على الناس. وبالحضرة اليوم منهم بقية تقدّم الإلماع بذكرهم.

وفاته : توفي ، رحمه الله ، بالموضع المعروف بزناتة ، في شوّال سنة أربع وعشرين وستمائة ، وقد نيّف على الثمانين (٨).

__________________

(١) المراد : صلة الصلة لابن الزبير ، وليس الصلة لابن بشكوال.

(٢) في النفح : «الأعلام».

(٣) في النفح : «ببلنسية وتفقّه ، وحفظ نصف ...».

(٤) في النفح : «وكان يؤثر التفسير والحديث والفقه على غيرها».

(٥) قارن بالتكملة (ج ١ ص ١٩٧) ، ونفح الطيب (ج ٣ ص ٢٥٣ ، ٣٥٩).

(٦) شعيب بن الحسين أندلسي تلمساني ، من مشاهير الصوفية. توفي بتلمسان سنة ٥٩٤ ه‍. الأعلام (ج ٣ ص ١٦٦) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.

(٧) بياض في الأصل.

(٨) في التكملة : (ج ١ ص ١٩٨): «وتوفي عن سنّ عالية تقارب المئة ...».

٢٥٨

الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص

القرشي الفهري

نشأ بغرناطة ، يكنى أبا علي ، ويعرف بابن الناظر (١).

حاله : كان متفنّنا في جملة معارف ، أخذ من كل علم سنا بحظّ وافر ، حافظا للحديث والتفسير ، ذاكرا للأدب واللغة والتواريخ ، شديد العناية بالعلم ، مكبّا على استفادته وإفادته ، حسن اللقاء لطلبة العلم ، حريصا على نفعهم ، جميل المشاركة لهم. وقال الأستاذ : كان من بقايا أهل الضبط والإتقان لما رواه ، وآخر مقرئي القرآن ، ممّن يعتبر في الأسانيد ومعرفة الطرق والروايات ، متقدّما في ذلك على أهل وقته ، وهو أوفر من كان بالأندلس في ذلك. أقرأ القرآن والعربية بغرناطة مدة ، ثم انتقل إلى مالقة (٢) فأقرأ بها يسيرا ، ثم انقبض عن الإقراء ، وبقي خطيبا بقصبة مالقة نحوا من خمس (٣) وعشرين سنة ، ثم كرّ منتقلا إلى غرناطة (٤) ، فولي قضاء ألمريّة ، ثم قضاء بسطة ، ثم قضاء مالقة.

وصمته : قال الأستاذ : إلّا أنه كان فيه خلق أخلّت به ، وحملته على إعداء ما ليس من شأنه ، عفا الله عنه ، فكان ذلك مما يزهّد فيه.

مشيخته : روى عن الأستاذ المقرئ أبي محمد عبد الله بن حسين الكوّاب ، أخذ عنه قراءة السبع وغير ذلك ، وعن أبي علي وأبي الحسن بن سهل بن مالك الأزديّ ، وأبي عبد الله محمد بن يحيى ، المعروف بالحلبي ، وجماعة غير هؤلاء ، ورحل إلى إشبيلية فروى بها عن الشيخ الأستاذ أبي علي (٥) أكثر كتاب سيبويه تفقّها ، وغير ذلك. وأخذ عن جماعة كثيرة من أهلها ، وقدم عليها. إذ ذاك القاضي أبو القاسم بن بقيّ ، فلقيه بها وأخذ عنه ، ورحل إلى بلنسية ، فأخذ بها عن الحاج أبي الحسن بن خيرة ، وأبي الربيع بن سالم ، وسمع عليه جملة صالحة ، كأبي عامر بن يزيد بن أبي العطاء بن يزيد وغيرهم ، وبجزيرة شقر عن أبي بكر بن وضّاح ، وبمرسية

__________________

(١) ترجمة ابن الناظر في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٦٢ ـ ١٦٣).

(٢) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٦٣) أنه ارتحل عن غرناطة لغرض عنّ له بها ؛ فلم يقض ، فأنف من ذلك ، فاستقرّ بمالقة.

(٣) في الأصل : «خمسة» وهو خطأ نحوي.

(٤) يذكر النباهي في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٦٣) أن ابن الناظر فرّ من مالقة إلى غرناطة لتغيير كان سببه فتنة الخلاف بها.

(٥) هو أبو علي الشلوبيني كما جاء في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٦٣).

٢٥٩

عن جماعة من أهلها ، وبأوريولة عن أبي الحسن بن بقيّ ، وبمالقة عن آخرين ، وتحصّل له جماعة نيّفوا على الستين.

تصانيفه : منها المسلسلات ، والأربعون حديثا ، والترشيد في صناعة التّجويد ، وبرنامج رواياته وهو نبيل.

شعره : كان يقرض شعرا لا يرضى لمثله ، ممّن برّز تبريزه في المعارف.

مولده : يوم الخميس لاثنتي عشرة (١) ليلة بقيت من شوّال سنة خمسين وستمائة.

وفاته : توفي بغرناطة لأربع عشرة (٢) ليلة خلت من جمادى الآخرة (٣) سنة تسع وتسعين وستمائة.

الحسن بن محمد بن الحسن النباهي الجذامي (٤)

من أهل مالقة ، يكنى أبا علي.

أوّليّته : قال القاضي المؤرّخ أبو عبد الله بن أبي عسكر فيه : من حسباء مالقة وأعيانها وقضاتها ، وهو جدّ بني الحسن المالقيين ، وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة ، لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر ، استقضى جدّه المنصور بن أبي عامر ، وكانت له ولأصحابه حكاية مع المنصور.

قال القاضي ابن بياض : أخبرني أبي ، قال : اجتمعنا يوما في متنزّه لنا بجهة الناعورة بقرطبة مع المنصور بن أبي عامر في حداثة سنّه ، وأوان طلبه ، وهو مرتج مؤمّل ، ومعنا ابن عمّه عمرو بن عبد الله بن عسكلاجة ، والكاتب ابن المرعزى ، والفقيه أبو الحسن المالقي ، وكانت سفرة فيها طعام ، فقال ابن أبي عامر من ذلك الكلام الذي كان يتكلّم به : لا بدّ أن نملك الأندلس ، ونحن نضحك منه ومن قوله. ثم قال : يتمنّى كلّ واحد منكم عليّ ما شاء أولّيه ؛ فقال عمرو : أتمنى أن تولّيني المدينة ، نضرب ظهور الجنّات. وقال ابن المرعزى : وأنا أشتهي الأسفح (٥) ، القضاء في أحكام السّوق. وقال أبو الحسن : وأنا أحب هذه ، أن توليني قضاء مالقة بلدي.

__________________

(١) في الأصل : «لاثني عشر» وهو خطأ نحوي.

(٢) في الأصل : «عشر» وهو خطأ نحوي.

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٦٣) : جمادى الأولى.

(٤) ترجمة الحسن بن محمد بن الحسن النباهي في الصلة (ص ٢٢٥).

(٥) الأسفح : الأصلع ، والمراد هنا الأرض الأقل عطاء. لسان العرب (سفح).

٢٦٠