الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

ووجّهوه إلى علي بن يوسف ، فآثر الإبقاء عليه ، وعفا عنه ، واستعمله بسرقسطة ؛ كذا ذكره الملّاحي ، وأشار إليه. وعندي أن الأمر ليس كذلك ، وأنّ الذي جرى له ذلك ، أبو بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين ، فيتحقّق.

وفاته : توفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة بعد أن ضاق ذرعه بطاغية الروم ، الذي أناخ عليه بكلكله. وعندما تعرّف خبر وفاته ، واتصلت بالأمير أبي إسحاق إبراهيم بن تاشفين ، وهو يومئذ والي مرسية ، بادر إلى سرقسطة ، فضبطها ، ونظر في سائر أمورها ، ثم صدر إلى مرسية.

رثاؤه : ورثاه الحكيم أبو بكر بن الصائغ (١) بمراث اشتهر عنه منها قوله (٢) : [الطويل]

سلام وإلمام ووسميّ مزنة (٣)

على الجدث النائي (٤) الذي لا أزوره

أحقّ أبو بكر تقضّى فلا ترى (٥)

تردّ جماهير الوفود ستوره

لئن أنست تلك اللحود بلحده (٦)

لقد أوحشت أقطاره (٧) وقصوره

ومن ذلك قوله (٨) : [الخفيف]

أيها الملك قد (٩) لعمري نعى المج

د نواعيك (١٠) يوم قمنا فنحنا

__________________

(١) هو محمد بن يحيى بن باجّة ، فيلسوف الأندلس وإمامها في الألحان ، استوزره أبو بكر بن إبراهيم ، المعروف بابن تيفلويت صاحب سرقسطة. توفي سنة ٥٣٣ ه‍. وترجمته في قلائد العقيان (ص ٢٩٨) ، والمغرب (ج ٢ ص ١١٩) واسمه فيه : محمد بن الحسين بن باجه ، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص ٥١٥) ، ووفيات الأعيان (ج ٤ ص ٤٢٢) ، وخريدة القصر ـ قسم شعراء المغرب (ج ٢ ص ٢٨٣) ، والوافي بالوفيات (ج ٢ ص ٤٢٠) ، ومطمح الأنفس (ص ٣٩٧) ، ومعجم الأدباء (ج ٤ ص ٥٤٧ في ترجمة ابن خاقان). وسترد ترجمته في الجزء الرابع من الإحاطة في ترجمة ابن خاقان.

(٢) الأبيات في المغرب (ج ٢ ص ١١٩) ، وقلائد العقيان (ص ٣٠٣).

(٣) في المغرب : «... وإلمام وروح ورحمة على الجسد النائي ...».

(٤) في الأصل : «الثاني» والتصويب من المصدرين.

(٥) في المصدرين : «أحقّا أبا بكر تقضّى فما يرى ...».

(٦) في القلائد : «القبور بلحده» ، وفي المغرب : «... تلك القبور بقبره».

(٧) في الأصل : «أقصاره» والتصويب من القلائد. وفي المغرب : «أمصاره».

(٨) الأبيات في قلائد العقيان (ص ٣٠٠ ـ ٣٠١).

(٩) في الأصل : «المفدّى» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من القلائد.

(١٠) في الأصل : «ناعيك» والتصويب من القلائد.

٢٢١

كما تقارعت والخطوب إلى أن

غادرتك الخطوب في التّرب رهنا (١)

غير أني إذا ذكرتك والدّه

ر أخال اليقين في ذاك ظنّا

وسألنا متى اللقاء فقيل (٢) ال

حشر قلنا صبرا إليه وحزنا

إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ،

أمير المؤمنين ، الملقب بالمأمون ، مأمون الموحدين (٣)

أوّليّته : جدّه عبد المؤمن ، جذع الشجرة ، وينبوع الجداول ؛ هو ابن علي بن علوي بن يعلى بن موار بن نصر بن علي بن عامر بن موسى بن عون الله بن يحيى بن ورجايغ بن سطفور بن نفور بن مطماط بن هزرج بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وكان طالبا بربريّا ضعيفا ، خرج مع عمّه يؤمّ للشرق ، وكان رأى رؤيا هالته تدلّ على ملك ، إذ كانت صفحته من طعام على ركبتيه ، يأكل منها الناس ، وكانت أمه رأت وهي حامل ، كأنّ نارا خرجت منها أحرقت المشرق والمغرب ؛ فكانت في نفسه حركة ، لأجل هذه الرؤيا ؛ فلمّا حلّ بسجلماسة ، سمع بها عن المهدي ، وكان رجلا يعرف بأبي عبد الله السّوسي ، ووصف له بالعلم ، فتشوّف إلى لقائه ، ليرى ما عنده في تأويل رؤياه ؛ فانصرف إليه مع بعض الطلبة ، فلقي رجلا قد وسمه ، على ما يزعم الناس ، حدثان من أبي حامد الغزالي ، وعلقت به دعوة منه ، في إذهاب ملك أهل اللّثام (٤) ، لحرق كتابه على أيديهم ، فهو مغرّى بالخروج عليهم ، مهيأ في عالم الغيب إلى تخريب دعوتهم ؛ فوافق شنّ طبقة (٥) ، وما اجتمع الدّاآن إلّا ليقتتلا ، والله غالب على أمره ، فأجلسه ، وسأله عن اسمه ، وبلده ، وسنّه ، ونسبه ، بالتعريف ؛ وأمره أن يخفي من أمره ، وعبّر له رؤياه ، بأنه يملك الأرض ؛ فاهتزّت الآمال وتعاضدت ؛ ونفذت مشيئة الله ؛ بأن دالت الدولة ، وهلك محمد بن تومرت المهدي ؛ فأفضى الأمر إلى عبد المؤمن ، واستولى على ملك اللّمتونيين ، فأباد خضراءهم ، واستأصل شأفتهم ، واستولى على

__________________

(١) في الأصل : «وهنا» والتصويب من القلائد.

(٢) في القلائد : «فقالوا».

(٣) يكنّى المأمون إدريس بن يعقوب الموحدي بأبي العلاء ، وترجمته في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٧٤) ، والحلل الموشية (ص ١٢٣) ، ورايات المبرزين (ص ٥٩) ، والاستقصاء (ج ٢ ص ٢٣٦).

(٤) أهل اللّثام : هم المرابطون.

(٥) هو مثل ؛ شنّ : رجل من دهاة العرب وعقلائهم ، وطبقة : بنت هذا الرجل ، يضرب للمتوافقين.

مجمع الأمثال (ج ٢ ص ٣٥٩).

٢٢٢

ملك المغرب ، فأقام به رسما عظيما ، وأمرا جسيما ، وأورثه بنيه من بعده ، والله يؤتي ملكه من يشاء.

حاله : كان ، رحمه الله ، شهما شجاعا ، جريئا ، بعيد الهمّة ، نافذ العزيمة ، قويّ الشكيمة ، لبيبا ، كاتبا أديبا ، فصيحا ، بليغا ، أبيّا ، جوادا ، حازما. وذكره ابن عسكر المالقي في تاريخ بلده ؛ قال : دخل مالقة من قبل أخيه ، فوصل إليها في الحادي عشر من محرم ، وهو شاب حدث ، فكان منه من نباهة القدر وجلالة النفس ، وأبّهة الملك ما يعجز عنه كثير من الملوك. ولحين وصوله عقد مجلس مذاكرة ، استظهر له نبهاء الطلبة ، وكان الشيخ علي بن عبد المجيد يحضره. وكان يبدو منه ، مع حداثة سنّه ، من الذكاء والنّبل والتفطّن ، ما كان يبهت الحاضرين ، وكانوا ينظرون منه إلى بدريّ الحسن ، وأسديّ الهيبة ، وكهليّ الوقار والتؤدة ؛ واشتغل بما يشتغل به الملوك من تفخيم البناء ، كبنيان رياض السيّد الذي على ضفة الوادي (١) بمالقة المعروف باسمه ، لله ورسوله ، وكان عرفاء البنّائين لا يتصرفون إلّا بنظره ؛ واستمرّت ولايته مفخّم الأمر ، عظيم الولاية ، إلى أن نقل منها إلى قرطبة ، ثم نقل إلى إشبيلية وفيها بويع الخلافة (٢).

تصيّر الأمر إليه ، وجوازه إلى العدوة :

قام على أخيه العادل بين يدي مقلعة ، ببمالأة أخيه السيد أبي زيد ، أمير بلنسية وتحريكه إياه ، فتمّ له ذلك ؛ وعقدت له البيعة بمرّاكش والأندلس. ثم إن الموحدين في مراكش بدا لهم في أمره ، وعدلوا عنه إلى ابن عمّه أبي زكريا بن الناصر ؛ واتصل به خبر خلعهم إياه فهاجت نفسه ، ووقدت جمرته ، واستعدّ لأخذ ثأره ، ورحل من إشبيلية ، واستصحب جمعا من فرسان الروم ، واستجاز البحر سنة ست وعشرين وستمائة ، قاصدا مراكش ؛ وبرز ابن عمّه إلى مدافعته ، والتقى الجمعان فكانت الهزيمة على يحيى بن الناصر ، وفرّ إلى الجبال ، واستولى القتل على جيشه ، ودخل المأمون مراكش فأمر بتقليد شرفاتها بالرؤوس فعمّتها على اتّساع السّاحة ؛ واستحضر النّاكثين لبيعته وبيعة أخيه ، وهم كبار الدولة ، واستفتى قاضيه (٣) بمرأى منهم ، واستحضر

__________________

(١) قال في الحلل الموشية (ص ١٢٤) إن المأمون بنى قصر السيد بمالقة حين كان واليا عليها سنة ٦٢٣ ه‍. والمراد بالوادي : وادي المدينةGuadalmedina ، وهو نهر يخترق الحاضرة مالقة.

(٢) في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٧٤): «بويع بإشبيلية يوم الخميس ثاني شهر شوّال من سنة أربع وعشرين وستمائة».

(٣) في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٨٥) ، والحلل الموشية (ص ١٢٤) : القاضي المكيدي.

٢٢٣

خطوطهم وبيعاتهم ، فأفتى بقتلهم ، فقتل جماعتهم ، وهم نحو مائة رجل (١) ، واتّصل البحث عمّن أفلت منهم ، وصرف عزمه إلى محو آثار دولة الموحّدين ، وتغيير رسمها ، فأزال اسم مهديها عن الخطبة والسّكّة والمآذن ، وقطع النداء عند الصلاة «تاصليت الإسلام» وكذلك «منسوب رب» «وبادرى» (٢) ، وغير ذلك ، مما جرى عليه عمل الموحّدين ؛ وأصدر في ذلك رسالة حسنة ، من إنشائه ، يأتي ذكرها في موضعه. وعند انصرافه من الأندلس ، خلا للأمير أبي عبد الله بن هود الجوّ ، بعد وقائع خلت بينهما ، وانتهز النصارى الفرصة ؛ فعظمت الفتنة ، وجلّت المحنة.

دخوله غرناطة : لم يصحّ عندي أنه دخل غرناطة ، مع غلبة الظن القريب من العلم بذلك ، إلّا طريقه إلى مدافعته المتوكل بن هود بجهة مرسية ؛ فإنه تحرك لمعالجة أمره في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد ، والي بلنسية ، بعد هزائم جرت بصقع الشرق لابن هود ؛ فتحرك المأمون إليه ، واحتلّ غرناطة ، في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة ، وأنفذ منها كتابه إلى أخيه ، يقوّي بصيرته ، ويعلمه بنفوذه إليه ؛ والتفّ عليه جيش غرناطة وما والاها ، واتصل سيره إلى الشرق ، فبرز ابن هود إلى لقائه ، فكان اللقاء بخارج لورقة ، فانهزم ابن هود ، وفرّ إلى مرسية ، وعساكر الموحدين في عقبه ؛ واستقصاء مثل هذا يخرج عن الغرض.

وخاطب لأول أمره ، وأخذ الناس ببيعته من بأقطار الأندلس ، صادعا بالأمر المعروف ، والنّهي عن المنكر ، والحضّ على الصلوات وإيتاء الزكاة ، وإيتاء الصدقات ، والنهي عن شرب الخمر والمسكرات والتحريض على الرعاية ، فمن كتابه : «الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر أصلين يتفرّع منهما مصالح الدنيا والدين ، وأمر بالعدل والإحسان ، إرشادا إلى الحق المبين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد النبي الكريم ، المبعوث بالشريعة التي طهرت الجيوب من الأدران ، واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان ، طورا بالشدة ، وتارة باللّين ؛ القائل ، ولا عدول عن قوله : «ومن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه» تنبيها على ترك الشكّ لليقين ؛ وعلى آله أعلام الإسلام ، الملقين راية الإسلام باليمين ، الذين مكّنهم الله في الأرض ، فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وفاء بالواجب لذلك التمكين.

__________________

(١) في البيان المغرب (ص ٢٨٥) : مائة شخص من أعيانهم. أما الذين قتلوا ، يقول ابن عذاري ، أمم لا تحصى. وقدّر صاحب الحلل الموشية (ص ١٢٤) عددهم بأربعة عشر ألف فارس وأكثر.

(٢) يبدو أن هذه الكلمات بربرية.

٢٢٤

ومن فصل : «وإذا كنّا نوفي الأمة تمهيد دنياها ، ونعنى بحماية أقصاها وأدناها ، فالدين أهمّ وأولى ، والتهمّم بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها ، أحقّ أن يقدّم وأحرى ، وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع ، ونتبع السّنن المشروعة ونذر البدع.

ولنا أن لا ندّخر عنها نصيحة ، ولانغبنها أداة من الأدوات مريحة ، ولنا عليها أن تطيع وتسمع».

ومن فصل : «وأول ما يتناول به الأمر النافذ ، الصلاة لأوقاتها ، والأداء لها على أكمل صفاتها ، وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعتها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : «أحبّ الأعمال إليّ الصلاة لأوقاتها». وقال : «أول ما ينظر فيه من أعمال العيد الصلاة». وقال عمر : إن أهمّ أموركم عندي الصلاة ، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع. وقال : «لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، وهي الركن الأعظم من أركان الإيمان ، والسور الأوثق لأعمال الإنسان ، والمواظبة على حضورها في المساجد ، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزية على صلاة الواحد ، أمر لا يضيّعه المفلحون ، ولا يحافظ عليها إلّا المؤمنون. قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : لقد رأينا ، وما يتخلّف عنها إلّا المنافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى يتهادى بين الرّجلين ، حتى يقام في الصّف. وشهود الصبح ، وعشاء الآخرة شاهد بمحضر الإيمان. ولقد جاء : حضور الصبح في جماعة يعدل قيام ليلة ، وحسبكم بهذا الرّجحان. ومن الواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدين ، ويأخذ بها في جميع الأمصار الصغير والكبير من المسلمين ، ونيط في إلزامها قوله عليه الصلاة والسلام : «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين». وهي طويلة في معاني متعددة.

نثره ونظمه : ولمّا غيّر رسوم الموحّدين وأوقع بأرباب دولتهم خبر النكث ببيعته وبيعتي أخيه وعمّه ، كتب إلى الأقطار عن نفسه ، ولم يكمل إنشاءه بكتابة رسالة بديعة اشتملت على فصول كثيرة تنظر في كتاب «المغرب» و «البيان المغرب» وغير ذلك. وكتابا بخطّه إلى أهل أندوجر (١) : «إلى الجماعة والكافّة من أهل فلانة ، وقاهم الله عثرات الألسنة ، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة ؛ أما بعد فإنّه قد وصل من قبلكم كتابكم الذي (٢) جدّد لكم أسهم الانتقاد ، ورماكم من السّهاد (٣) ، بالداهية النّاد (٤) ؛

__________________

(١) الرسالة في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦).

(٢) في البيان المغرب : «كتاب جدد».

(٣) في المصدر نفسه : «من العناد».

(٤) في الأصل : «الساد» ، والتصويب من البيان المغرب.

٢٢٥

أتعتذرون من المحال بضعف الحال ، وقلّة (١) الرجال؟ إذا نلحقكم بربّات الحجال. كأنّا لا نعرف مناحي أقوالكم ، وسوء (٢) منقلبكم وأحوالكم ؛ لا جرم أنكم سمعتم بالعدوّ قصمه الله ، وقصده إلى (٣) ذلك الموضع عصمه الله ؛ فطاشت قلوبكم خورا ، وعاد صفوكم كدرا ، وشممتم ريح الموت وردا وصدرا ؛ وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب (٤) ، وأن الفضاء قد غصّ بالتفاف القنا واصطفاف المناكب (٥) ، ورأيتم غير شيء فتخيّلتموه (٦) طلائع الكتائب. تبّا لهمّتكم (٧) المنحطّة ، وشيمتكم (٨) الرّاضية بأدون خطّة ؛ أحين (٩) ندبتم إلى حماية إخوانكم ، والذبّ (١٠) عن كلمة إيمانكم ، نسّقتم الأقوال وهي مكذوبة ، ولفّقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة ؛ لقد آن لكم أن تتبدلوا جلّ الخرصان (١١) ، إلى مغازل النّسوان ؛ وما لكم ولصهوات الخيول ، وإنما على الغانيات جرّ الذيول. أتظهرون العناد (١٢) تخريصا ، بل تصريحا وتلويحا ، ونظنّ أن لا يجمع لكم شتّا ، ولا يدني منكم نزوجا. أين المفرّ وأمر الله يدرككم ، وطلبنا الحثيث لا يترككم؟ فأزيلوا (١٣) هذه النزعة النّفاقيّة من (١٤) خواطركم قبل أن نمحو بالسيف أقوالكم وأفعالكم ، ونستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ، ونحن نقسم بالله لو اعتسفتم كل بيداء سملق ، واعتصمتم بأمنع معقل ، وأحفل فيلق ، ما ونينا عنكم زمانا ، ولا ثنينا عن استئصال العزم منكم (١٥) عنانا فلا يغرّنكم الإمهال ، أيّها الجهّال». وهي طويلة. وقال عند الإيقاع بالأشياخ أولي الفساد على الدول ، وصلبهم في الأشجار والأسوار ، مما كلف السّلمي بحفظها واستظرافها (١٦) : [الكامل]

أهل الحرابة والفساد من الورى

يعزون في التشبيه بالذّكّار (١٧)

__________________

(١) في البيان المغرب : «وبقلة الرجال ، فألحقكم ...».

(٢) في البيان المغرب : «ولا نعلم بتقلّبكم في أحوالكم».

(٣) كلمة «إلى» ساقطة في البيان المغرب.

(٤) في البيان المغرب : «الجوانب».

(٥) في المصدر نفسه : «المقانب».

(٦) في المصدر نفسه : «فحسبتموه».

(٧) في المصدر نفسه : «لهممكم».

(٨) في المصدر نفسه : «وشيمكم».

(٩) في المصدر نفسه : «حين».

(١٠) في المصدر نفسه : «والذبّ بالكلمة عن مقتضى إيمانكم».

(١١) في المصدر نفسه : «أن تمدوا ذيل الحرمان».

(١٢) في المصدر نفسه : «العناد تصريحا وتلويحا ، وتظنون أنكم إذا تفرّقتم لا نجمع لكم شتاتا ، ولا ندني ...».

(١٣) في الأصل : «فأميطوا».

(١٤) في الأصل : «عن».

(١٥) في الأصل : «عنكم».

(١٦) الأبيات في الحلل الموشية (ص ١٢٥) ، والبيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٨٥).

(١٧) في المصدرين : «للذكار».

٢٢٦

ففساده فيه الصلاح لغيره

بالقطع والتّعليق في الأشجار

ذكّارهم ذكري إذا ما أبصروا

فوق الجذوع وفي (١) ذرى الأسوار

لو عمّ عفو (٢) الله سائر (٣) خلقه

ما كان أكثرهم من اهل النّار

توقيعه : قال ابن عسكر : وكانت تصدر منه توقيعات نبيلة ، فمنها أن امرأة رفعت رقعتها بأحد من الأجناد ممّن نزل دارها ، وصدر لها أمر ينكر ؛ فوقّع على رقعتها : «يخرج هذا النازل ، ولا يعوّض بشيء من المنازل». وغير ذلك مما اختصرناه.

بنوه : أبو محمد عبد الواحد وليّ عهده ، وأمير المؤمنين بعد وفاته ، الملقّب بالرشيد ؛ وعبد العزيز ، ومان ؛ وأبو الحسن علي ، الملقّب بالسعيد ، الوالي بعد أخيه الرشيد.

بناته : ابنة العزيز ، وصفية ، ونجمة ، وعائشة ، وفتحونة ؛ وأمّهات الجميع روميّات ، وسرّيّات مغربيات.

وزراؤه : وزر له الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر وغيره.

كتّابه : كتب له جملة من مشاهير الكتّاب ، منهم أبو زكريا الفازازي ، وأبو المطرّف بن عميرة ، وأبو الحسن الرّعيني ، وأبو عبد الله بن عيّاش ، وأبو العباس بن عمران ، وغيرهم. وما منهم إلّا شهير كبير.

وفاته : توفي ، رحمه الله ، بوادي أم الربيع ، وقد طوى المراحل من ظاهر سبتة ، مقلعا عن حصارها ، مبادرا إلى مرّاكش ، وقد اتصل به دخول يحيى بن الناصر إياها ، فأعدّ السير وقد اشتدّ حنقه على أهلها ، وأقسم أن يبيح حماها للرّوم ، ويذهب اسمها ومسمّاها ، فهلك عند دنوّه منها فجأة ، فكانت عند أهل مراكش من غرر الفرج بعد الشدة ؛ وكتمت زوجه حبابة الرومية ، أم الرشيد ولده ، خبر وفاته إلّا عن الأفراد من قوّاد النصارى وبعض الأشياخ ، واتفق القول على مبايعة ابنها المذكور ، بيعة خاصّة ثاني يوم وفاته ؛ ثم جعل في هودج وأشيع أنه مريض ، وزحفت الجيوش على تعبئته ؛ وبرز يحيى بن الناصر من مراكش إلى لقائه ، والتقى الجمعان فانهزم يحيى ، واستولى الرشيد عليه ، ودخل مراكش فاستقام الأمر ؛ وكانت

__________________

(١) في الحلل الموشية : «في» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الحلل الموشية : «حكم». وفي البيان المغرب : «حلم».

(٣) في البيان المغرب : «كافة».

٢٢٧

وفاة المأمون أبي العلا ، رحمه الله ، ليلة الخامس عشر لمحرم عام ثلاثين وستمائة (١).

وجرى ذكر المأمون والمهدي وأوّليّتهم في الرجز المتضمّن ذكر المسلمة (٢) من نظمي بما نصّه بعد ذكر الدولة اللّمتونية : [الرجز]

ونجم المهديّ وهو الدّاهيه

فأصبحت تلك المباني واهيه

وانحكم الأمر له وانجمعا

في خبر نذكر منه لمعا

لم يأل فيها أن دعا لنفسه

وكان في الحزم فريد جنسه

أغرب في ناموسه ومذهبه

وفي الذي سطّره من نسبه

وعنده سياسة وعلم

وجرأة وكلام وحلم

ووافقت أيامه في الناس

لدولة المسترشد العبّاسي

ثم انقضت أيامه المنيفه

وكان عبد المؤمن الخليفة

فضاء لون سعده ووضحا

ولاح مثل الشمس في وقت الضّحى

ثم تلمسان وفاسا فتحا

وملك أصحاب اللثام قد محا

ولما انتهى القول إلى المأمون المترجم به ، بعد ذكر من يليه وعبد المؤمن جدّه ، قلت : [الرجز]

ثم تولّى أمرهم أبو العلا

فسلّط البيض على بيض الطّلا

وهو الذي أركب جيش الروم

وجدّ في إزالة الرسوم

أسباط بن جعفر بن سليمان بن أيوب بن سعد السعدي سعد

ابن بكر بن عفان الإلبيري

هذا هو جدّ سعيد بن جودي بن سوادة بن جودي بن أسباط ، أمير المغرب. وقدرهم بهذه المدينة شهير.

__________________

(١) في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٧٤): «توفي يوم السبت منسلخ ذي الحجة من سنة تسع وعشرين وستمائة ، فكانت دولته خمسة أعوام وثلاثة أشهر». وهكذا جاء في الحلل الموشية (ص ١٢٣ ، ١٢٥).

(٢) هو كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» وهو عبارة عن تاريخ منظوم للدول الإسلامية ؛ الخلفاء الأوائل ، وبني العباس ، وبني الأغلب ، وبني أمية بالأندلس ، والطوائف والمرابطين والموحدين وبني نصر وبني مرين. وقد شرح ابن الخطيب نفسه هذه القصائد نثرا بقلمه.

٢٢٨

حاله : وكان من أهل العلم والفقه ، والدين المتين ، والورع الشديد ، والصلاح الشهير.

نباهته : ولّاه الأمير عبد الرحمن قضاء إلبيرة حين بلغه زهده وورعه ، وأنّه لم يشرك إخوته في شيء من ميراث أبيه ، إذ كان لم يحضر الفتح ، فبرىء به إليهم ، وابتاع موئلا بوطنه أنيط به ماء ، وانفرد به للعبادة والتبتّل ، فاستقدمه هشام ، فركب حماره وقدم عليه في هيئة رثّة بذلّة ، فتوسّم فيه الخير ، وقدّمه ووسّع له في الرّزق ، ووهب له ضياعا كثيرة تعرف اليوم باسمه. وتوفي هشام وهو قاض بإلبيرة ، فأقرّه ابنه الحكم ثم ولّاه شرطته ، إلى أن توفي أسباط. قلت : انظر حال الشرطة عند الخلفاء من كان يختار لها لولايتها.

أسلم بن عبد العزيز بن هشام بن خالد بن عبد الله بن خالد

ابن حسين بن جعفر بن أسلم بن أبان

مولى عثمان بن عفّان ، رضي الله عنه ؛ يكنى أبا الجعد.

أوّليّته : من أهل شرق الأندلس ، أصلهم من لوشة فتيّة غرناطة (١) ، وموضعهم بها معروف ، وإلى جدّهم ينسب جبل أبي خالد المطلّ عليها ، وكان لهم ظهور هنالك ، وفيهم أعلام وفضلاء.

حاله : كان أسلم من خيار أهل إلبيرة ، شريف البيت ، كريم الأبوّة ، من كبار أهل العلم ، وكانت فيه دعابة ، لم ينسب إليه قطّ بسببها خزية في دين ولا زلّة. قال أبو الفضل عياض (٢) : كان أسلم من خيار أهل إلبيرة ، رفيع الدرجة في العلم ، وعلوّ الهمّة في الإدراك ، والرواية والدّيانة ، والصّحبة ، وبعد الرّحلة في طلب العلم ، معروف النّصيحة والإخلاص للأمراء.

مشيخته : لقي بمصر ، المدني ، ومحمد بن عبد الحكم ، ويونس ، والربيع بن سليمان المؤذن ، وأحمد بن عبد الرحيم البرقي. وسمع من علي بن عبد العزيز ، وسليمان بن عمران بالقيروان.

__________________

(١) لوشة : بالإسبانيةLoja ، وهي مدينة ضخمة ، أسماها ابن الخطيب فتية غرناطة أو بنت غرناطة ، اعتزازا بها كونه منها. راجع : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٦٣).

(٢) هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي ، المتوفّى سنة ٥٤٤ ه‍. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.

٢٢٩

من روى عنه : سمع منه عثمان بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن يونس ، ومحمد بن قاسم ، وغير واحد ، وانصرف إلى الأندلس من رحلته ، فنال الوجاهة العظيمة.

ولايته : ولّاه قضاء الجماعة بغرناطة ، الناصر لدين الله ، أول ولايته ، وسط سنة ثلاثمائة ، إلى أن استعفى سنة تسع وثلاثمائة فأعفاه ، ثم أعاده. وكان في قضائه صارما لا هوادة عنده. قال المؤرّخ : كان الناصر يستخلفه في سطح القصر إذا خرج إلى مغازيه. وحكى ابن حارث أن ابن معاذ وابن صالح أتيا يوما ، فلمّا أخذا مجلسهما نظر إليهما وقال : ألقوا ما أنتم ملقون فأبهتهما. ودخل عليه محمد بن وليد يوما ، فكلّمه في شيء ، فقال أسلم : سمعنا وعصينا. فقال ابن وليد : ونحن قلنا واحتسبنا. وأتاه في بعض مجالسه شهود ، بعضهم من أهل المدينة بقرطبة ، وبعضهم من شلار من الرّبض الشرقي ، يشهدون في ترشيد امرأة من الرّبض الغربي ، فلما أخذوا مجالسهم ، فتح باب الخوخة التي في المجلس الذي يجلس بدهليزه ، ونادى من بخارجه فاجتمعوا ؛ اسمعوا ، عجبا لله درّ الشاعر حيث يقول : [الكامل]

راحت مشرّقة ورحت مغرّبا

شتّان بين مشرّق ومغرّب

هؤلاء من أهل المدينة وشلار ، يشهدون في ترشيد امرأة من ساكنات آخر بلاط مغيث ، ثم سكت فدهش القوم وتسلّلوا. وبلغه عن بعض الشهود المتّهمين أنه أرشي في شهادته ببساط ، فلما أتى ليؤدّيها ، ودخل على أسلم ، جعل يخلع نعليه عند المشي على بساط القاضي ، فناداه : أبا فلان ، البساط ، الله الله ؛ فتنبّه بأن أمره عند القاضي ، ولم يجسر على أداء شهادته تلك. وخاصم فقيه عند أسلم رجلا في خادم أغربها ، وجاء بشاهد أتى به من إشبيلية ، فقال : يا قاضي ، هذا شاهدي فاسمع منه ، فصعّد أسلم في الشاهد وصوّب ، وقال : أمحتسب (١) أو مكتسب أصلحك الله؟ فقال الشاهد : أحسن الظنّ أيها القاضي ، فليس هذا إليك ، هذا إلى الله المطّلع على ما في القلوب ، ولم تقعد هذا المقعد لتسأل عن هذا وشبهه ، وإنما عليك الظاهر ، وتكل الباطن إلى الله ، فإن شئت ، فاسمع الشهادة كما يلزمني أداؤها ، ثم اقبلها أو اضرب بها الحائط. وفي رواية أخرى ، وليس لك أن تكشف السّتر المنسدل بينك وبيني ، فإن هذا التفسير للشهود يوقف عن الشهادة عندك ، ويعرّض لإهانتك أهل لائقة ، وفي ذلك من ضياع الحقوق ما لا يخفى ، فأخجل أسلم كلامه ، وقال له : لك ما قلت ، فأدّ

__________________

(١) المحتسب هنا بمعنى المدّخر أجره عند الله تعالى.

٢٣٠

شهادتك ، يرحمك الله. قال : فأين الخادم؟ تحضر حتى أشهد على عينها ، قال أسلم وفقيه أيضا : هاتوا الخادم ، فجاءت من عند الأمين ، فلمّا مثلت بين يديه ، نظر منها مليّا ، ثم قال : أعرف هذه الخادم ملكا لهذا الرجل ، لا أعرف ملكه ، زال عنها بوجه من الوجوه ، إلى حين شهادتي هذه ، سلام على القاضي ، ثم خرج ، فبقي أسلم متعجّبا منه.

محنته : كفّ بصره في أخريات أيامه ، فطلب لأجل ذلك الإعفاء فأعفي ، ولزم بيته صابرا محتسبا إلى حين وفاته.

مولده : سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

أسد بن الفرات بن بشر بن أسد المرّي

من أهل قرية الصّير مورته (١) ، من إقليم البساط من قرى غرناطة.

حاله : كان عظيم القدر والشرف والشّهرة ، أصيل المعرفة والدين.

مشيخته : خرج إلى المشرق ، ولقي مالك بن أنس ، رضي الله عنه ، روى عنه سحنون بن سعيد.

تآليفه : ألّف كتاب «المختلطة» ، وولّي القضاء بالقيروان أجمل ما كانت وأكثر علما ، وولّاه زيادة الله (٢) غزو صقلية ، ففتحها وأبلى بلاء حسنا.

وفاته : توفي ، رحمه الله ، محاصرا سرقوسة منها سنة ثلاث عشرة (٣) ومائتين. هذا ما وقع في كتاب أبي القاسم الملّاحي. وذكره عياض فذكر خلافا في اسمه وفي أوّليته.

أبو بكر المخزومي الأعمى الموروري المدوّري (٤)

حاله : كان أعمى (٥) ، شديد القحة والشّرّ ، معروفا بالهجاء ، مسلّطا على

__________________

(١) الصير مورته : بالإسبانيةsierra murada.

(٢) هو أبو محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب ، صاحب إفريقية من سنة ٢٠١ ه‍ إلى سنة ٢٢٣ ه‍. البيان المغرب (ج ١ ص ٩٦) ، والكامل في التاريخ (ج ٦ ص ٣٢٨ ، ٤٩٣).

(٣) في الأصل : «عشر» وهو خطأ نحوي.

(٤) ترجمة أبي بكر المخزومي في المغرب (ج ١ ص ٢٢٨) ، ورايات المبرزين (ص ١٦٠) ، ونفح الطيب (ج ١ ص ١٨٥ ، ٢٧٨).

(٥) هذا النص في نفح الطيب (ج ١ ص ١٨٥).

٢٣١

الأعراض ، سريع الجواب ، ذكيّ الذهن ، فطنا للمعاريض (١) ، سابقا في ديوان (٢) الهجاء ، فإذا مدح ضعف شعره.

دخوله غرناطة : وذكر شيء من شعره ، ومهاترته مع نزهون بنت القلاعي.

قال (٣) أبو الحسن بن سعيد ، في كتابه المسمّى ب «الطالع السعيد» : قدم على غرناطة أيام ولاية أبي بكر بن سعيد عمل غرناطة ، ونزل قريبا منه ، وكان يسمع به ؛ فقال : صاعقة يرسلها الله ، عزّ وجلّ ، على من يشاء من عباده ، ثم رأى أن يبدأه بالتأنيس والإحسان ، فاستدعاه بهذه الأبيات : [المجتث]

يا ثانيا للمعرّي

في حسن نظم ونثر

وفرط ظرف ونبل

وغوص فهم وفكر

صل ثم واصل حفيّا

بكلّ شكر وبرّ (٤)

وليس إلّا حديث

كما زها عقد درّ

وشادن قد تغنّي (٥)

على رباب وزمر

وما يسامح فيه ال

غفور من كأس خمر

وبيننا عقد حلف

لبان شرك وكفر (٦)

فقم نجدّده عهدا

بطيب شكر وسكر (٧)

والكأس مثل رضاع

ومن كمثلك يدري؟

ووجّه (٨) له الوزير أبو بكر بن سعيد عبدا صغيرا قاده ، فلمّا استقرّ به المجلس ، وأفعمته روائح النّدّ (٩) والعود والأزهار ، وهزّت عطفه الأوتار ، قال : [البسيط]

دار السّعيديّ ذي أم دار رضوان (١٠)

ما تشتهي النّفس فيها حاضر دان

__________________

(١) المعاريض : جمع معراض وهو التورية ، والمعراض من الكلام : فحواه. محيط المحيط (عرض).

(٢) في النفح : «ميدان».

(٣) النص والأبيات في النفح (ج ١ ص ١٨٥ ـ ١٨٦).

(٤) في النفح : «... بكلّ برّ وشكر».

(٥) في النفح : «وشادن يتغنّى على ...».

(٦) رواية البيت في النفح هي :

وبيننا عهد حلف

لياسر حلف كفر

(٧) في النفح : «نعم فجدّده ... ويسر».

(٨) النص والشعر في نفح الطيب (ج ١ ص ١٨٦ ـ ١٨٨) ببعض الاختلاف عمّا هنا.

(٩) النّدّ : بفتح النون وتشديد الدال : الطّيب. مختار الصحاح (ندد).

(١٠) رضوان ، بكسر الراء وسكون الضاد : اسم بوّاب الجنة وخازنها ، والمراد هنا الجنّة. محيط ـ

٢٣٢

سقت أبارقها للنّدّ سحب ندى

تحدو برعد لأوتار وألحان (١)

والبرق من كلّ دنّ (٢) ساكب مطرا

يحيي به ميت أفكار وأشجان

هذا النعيم الذي كنّا نحدّثه

ولا سبيل له إلّا بآذان

فقال أبو بكر بن سعيد : «ولا سبيل له إلّا بآذان» (٣) ، فقال : حتى يبعث الله ولد زنا كلما أنشدت هذه الأبيات ، قال : وإن قائلها أعمى ، فقال : أمّا أنا ، فلا أنطق بحرف في ذلك ، فقال : من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي ، الآتي ذكرها ، حاضرة ، فقالت : ونراك يا أستاذ ، قديم النغمة (٤) ، بندّ وغناء وطيب شراب ، تتعجب من تأتّيه ، وتشبّهه بنعيم الجنة ، وتقول : ما كان يلمّ إلّا بالسّماع ، ولا يبلغ إليه إلّا بالعيان؟ لكن من يجيء من حصن المدوّر ، وينشأ بين تيوس وبقر ، من أين له معرفة بمجالس النّغم (٥)؟ فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى ، فقالت له : دعه (٦) ، فقال : من هذه الفاعلة (٧)؟ فقالت : عجوز مقام أمّك ، فقال : كذبت ، ما هذا صوت عجوز ، إنما هذه نغمة قحبة محترقة تشمّ روائح كذا (٨) منها على فرسخ (٩) ، فقال له أبو بكر : يا أستاذ ، هذه نزهون بنت القلاعي الشّاعرة الأديبة ، فقال : سمعت بها لا أسمعها الله خيرا ، ولا أراها إلّا أيرا (١٠). فقالت له : يا شيخ سوء تناقضت ، وأيّ خير أفضل للمرأة ممّا ذكرت (١١)؟ ففكّر المخزومي ساعة ثم قال : [الطويل]

على وجه نزهون من الحسن مسحة

وإن كان قد أمسى من الضّوء عاريا (١٢)

__________________

ـ المحيط (رضي).

(١) في النفح : «سقت أباريقها ... تحدى ... وعيدان».

(٢) الدّنّ : الراقود العظيم. القاموس المحيط (دنن).

(٣) هنا تعريض بأن المخاطب أعمى يعتمد على الأذن.

(٤) في النفح : «النعمة» بالعين غير المعجمة.

(٥) في النفح : «النعيم».

(٦) في النفح : «ذبحة».

(٧) في النفح : «الفاضلة».

(٨) في النفح : «هنها». والهن ، بفتح الهاء : الفرج. القاموس المحيط (هنن).

(٩) في النفح : «فراسخ».

(١٠) بياض في الأصل ، وقد أشار عنان إلى حذفها لأنها كلمة نابية. وقد أخذناها من النفح.

(١١) قوله : «ممّا ذكرت» أضفناه من نفح الطيب ليستقيم المعنى والسجعة معا.

(١٢) أخذ معنى هذا البيت من قول ذي الرّمّة في صاحبته ميّ : [الطويل]

على وجه ميّ مسحة من ملاحة

وتحت الثياب الشّين لو كان باديا

الشعر والشعراء (ص ٤٣٩).

٢٣٣

قواصد نزهون توارك (١) غيرها

ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا (٢)

فأعملت فكرها وقالت (٣) : [المجتث]

قل للوضيع مقالا

يتلى إلى حين يحشر

من المدوّر أنشئ

ت والخرا (٤) منه أعطر

حيث البداوة أمست

في أهلها (٥) تتبختر

لذاك (٦) أمسيت صبّا

بكلّ شيء مدوّر (٧)

خلقت أعمى ولكن

تهيم في كلّ أعور

جازيت شعرا بشعر

فقل لعمري من أشعر (٨)

إن كنت في الخلق أنثى

فإنّ شعري مذكّر

فقال لها اسمعي (٩) : [المتقارب]

ألا قل لنزهونة ما لها

تجرّ من التّيه أذيالها

ولو أبصرت فيشة (١٠) شمّرت

كما عوّدتني ، سربالها

__________________

(١) في الأصل : «تدارك» ، وقد صوّبناه من النفح.

(٢) عجز هذا البيت تضمين لبيت المتنبي من قصيدة قالها في مدح كافور : [الطويل]

قواصد كافور توارك غيره

ومن قصد البحر استقلّ السواقيا

العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب (ص ٤٧٤).

(٣) الأبيات أيضا في المغرب (ج ١ ص ٢٢٨) ببعض الاختلاف عمّا هنا.

(٤) الخرا : كلمة عامّيّة ، وبالفصحى : «الخرء» وهو العذرة. القاموس المحيط (خرىء).

(٥) في النفح : «مشيها». وفي المغرب : «جهلها».

(٦) في الأصل : «لذلك» وهكذا ينكسر الوزن والتصويب من المغرب والنفح.

(٧) رواية البيت في المغرب هي :

لذاك أمسيت تهوى

حلول كلّ مدور

(٨) في الأصل : «من أشعر» بهمزة أصلية ، وهكذا ينكسر الوزن. ورواية البيت في المغرب هي :

جاوبت هجوا بهجو

فقل لعنت من اشعر

(٩) البيتان أيضا في المغرب (ج ١ ص ٢٢٨).

(١٠) في الأصل : «بشّة» ، والتصويب من المغرب والنفح. والفيشة ، بفتح الفاء والشين وسكون الياء : رأس الذّكر. محيط المحيط (فيش).

٢٣٤

فحلف أبو بكر بن سعيد ألّا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمة ، فقال المخزومي : أكون هجّاء الأندلس وأكفّ عنها دون شيء؟ فقال : أنا أشتري منك عرضها فاطلب ، فقال : بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك ، فإنه ليّن القدّ رقيق الملمس (١). فقال أبو بكر : لو لا أنه صغير كنت أبلّغك فيه مرادك ، وأهبه لك ؛ ففطن لقصده ، وقال : أصبر عليه حتى يكبر ، ولو كان كبيرا ما آثرتني على نفسك ؛ فضحك أبو بكر وقال : قد هجوت نثرا ، وإن لم تهج نظما ، فقال : أيها الوزير ، لا تبديل لخلق الله. وانفصل المخزومي بالعبد بعدما أصلح بينه وبين نزهون.

وقال يمدح القاضي بغرناطة أبا الحسن بن أضحى (٢) ، رحمهما الله (٣) :

عجبا للزمان يطلب هضمي (٤)

وملاذي منه عليّ بن أضحى

جاره قد سما على النّطح عزّا

ليس يخشى من حادث الدهر (٥) نطحا

فكأنّي علوت قرن فلان

أيّ تيس مطوّل القرن ألحى

فقال له ابن أضحى : هلّا اقتصرت على ما أنت بسبيله ، فكم تقع في الناس؟ فقال : أنا أعمى وهم حفر فلا أزال أقع فيها ، فقال : فأعجبني كلامه على قبحه.

وحديث مقامه بغرناطة يقتضي طويلا.

وفاته : قال أبو القاسم بن خلف ، كان حيّا بعد الأربعين وخمسمائة.

أصبغ بن محمد بن الشيخ المهدي

يكنى أبا القاسم ؛ عالم مشهور.

حاله : كان محقّقا بعلم العدد والهندسة ، مقدّما في علم الهيئة والفلك وعلم النجوم ، وكانت له مع ذلك عناية بالطّب.

__________________

(١) في النفح : «فإنه ليّن اليد ، رقيق المشي».

(٢) الوزير أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى ، من بيت عظيم بغرناطة ، ثار بها ودعا لنفسه بعد مقتل تاشفين بن يوسف بن تاشفين المرابطي سنة ٥٣٩ ه‍. وتوفي سنة ٥٤٠ ه‍. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.

(٣) الأبيات في المغرب (ج ١ ص ٢٣٠).

(٤) في المغرب : «ثاري».

(٥) في المغرب : «من طالب الثّأر».

٢٣٥

تواليفه : تواليفه حسان ، وموضوعاته مفيدة ؛ منها كتاب «المدخل إلى الهندسة» في تفسير كتاب أقليدس. ومنها كتاب ثمار العدد المعروف ب «المعاملات». ومنها كتابه الكبير في الهندسة ، تقصّى فيه أجزاءها. ومنها كتاب في الآلة المعروفة بالأسطرلاب. ومنها تاريخه الذي ألّفه وهو تاريخ كبير.

وفاته : قال ابن جماعة في تاريخه : أخبرني أبو مروان سليمان بن عيسى الناشىء المهندس ، أنه توفي بمدينة غرناطة قاعدة الأمير حبّوس ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت لرجب سنة ست وعشرين وأربعمائة ، وهو ابن ست وخمسين سنة شمسية. وعدّه من مفاخر الأندلس.

أبو علي بن هدية

من أهل غرناطة.

حاله : قال أبو القاسم الملّاحي فيه : من أهل الدين ، والفضل ، والأمانة ، والعدالة ، والمعرفة بالتكسير والأعمال السلطانية ، وولّي «المستخلص» (١) بغرناطة ، فثقب وأجاد النظر. قال ابن الصّيرفي : ولما ولي الوزير أبو علي بن هديّة المستخلص ، وباشر جلائل الأمور ودقائقها بنفسه ، حمى المناصفين ، ورفع المؤن والكلف عنهم ، ووسّع بسليف البذر عليهم ، وآثرهم بالنّصفة بالتزام حصّة بيت المال ؛ ولم يكن له حجّاب ولا بوّاب ، فكان القويّ والضعيف ، والمشروف والشريف ، والكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، شرعا سواء في الوصول إليه ، والتكلّم في مجلسه ، فلم يهتضم جانب ، ولا دحضت حجة ؛ إلّا أنه ارتفعت الرّقبة ، وزالت الهيبة ، وأمحق نور الخطّة ؛ وخصّ أحباس (٢) جامع غرناطة بنظره ، بفضل مال كثير من غلّته ، ونبّه باجتماعه ليزيد به بلاطين في مسقفه من شرقه وغربه ، فأكمل الله ذلك بسعيه وعلى يديه ؛ ورام ربع المستخلص ، وزاد به في حمّاماته ؛ ورمّ حوانيته ، واستحدث منيحة سمّاها المستحدثة ، وغرس قضبان الجوز في مواضع المياه ، وعوّض بما ذهب ، وشمّر في جمع المال ، ووالى الحفز على العمل ، ونصح بمقتضى جهده ، ومنتهى وسعه ، ولم تمدّ يده في مصانعة ، ولا مالت إلى مداخلة ، ولكنه لم يحمل في حق ، ولا نوقش في باطل.

__________________

(١) هو مستخلص السلطان ، أي أملاكه الخاصة.

(٢) الأحباس : هي ما يحبس لأغراض الخير ، وهي الأوقاف.

٢٣٦

أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطّنجالي

من أهل لوشة.

نبيلة حسيبة ، تجيد قراءة القرآن ، وتشارك في فنون من الطّلب ، من مبادئ غريبة ، وخلف وإقراء مسائل الطّبّ ، وتنظم أبياتا من الشعر. وذكرتها في خاتمة «الإكليل» (١) بما نصّه : «ثالثة حمدة وولّادة ، وفاضلة الأدب والمجادة ، تقلّدت المحاسن من قبل ولّادة ، وأولدت أبكار الأفكار قبل سنّ الولادة. نشأت في حجر أبيها ، لا يدّخر عنها تدريجا ولا سهما ، حتى نهض إدراكها وظهر في المعرفة حراكها ، ودرّسها الطبّ ففهمت أغراضه ، وعلمت أسبابه وأعراضه». وفي ذكر شعرها :

«ولمّا قدم أبوها من المغرب ، وحدّث بخبرها المغرب ، توجّه بعض الصدور إلى اختبارها ، ومطالعة أخبارها ، فاستنبل أغراضها واستحسنها ، واستطرف لسنها ، وسألها عن الخطّ ، وهو أكسد بضاعة جلبت ، وأشحّ درّة حلبت. فأنشدته من نظمها : [البسيط]

الخطّ ليس له في العلم فائدة

وإنّما هو تزيين بقرطاس

والدرس سؤلي لا أبغي به بدلا

بقدر علم الفتى يسمو على الناس

وراجعها بعض المجّان ، يغفر الله له : [مجزوء البسيط]

إن فرط الدرس يا أمّي سحق

وهذا هو المشهور في الناس (٢)

فخذ من الدرس شيئا تافها

خطّا وبالفهم كلّ الناس (٣)

ومن شعرها في غرض المدح : [الكامل]

إن قيل من للناس (٤) ربّ فضيلة

حاز العلا والمجد منه أصيل

فأقول رضوان وحيد زمان

إنّ الزمان بمثله لبخيل

__________________

(١) هو كتاب ابن الخطيب المسمّى : «الإكليل الزاهر فيمن فصل عند نظم الجواهر».

(٢) عجز هذا البيت مختلّ الوزن.

(٣) في الأصل : «خطّا وبالفهم يحيى كل الناس» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.

(٤) في الأصل : «الناس» وهكذا ينكسر الوزن.

٢٣٧

بلكّين بن باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري

ابن مناد الصّنهاجي (١)

الأمير الملقّب بسيف الدولة ، صاحب أمر والده والمرشح للولاية بعده.

حاله : قال المؤرّخ (٢) : كان زيري بن مناد ، ممّن ظهر في حرب ابن يزيد بإفريقية ، واتّسم هو وقومه بطاعة العبيديين أمراء الشيعة ، فكانوا حربا لأضدادهم من زناتة الموالين لأملاك المراونة (٣) لتحقّق جدّهم خزر بولايته عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ فلمّا صار الأمر إلى بني مناد بعد انتقال ملك الشيعة إلى المشرق ، وولّي الأمر باديس بن منصور بن بلكّين بن زيري ، ذهب أعمامه وأعمام أبيه إلى استضعافه ، فلم يعطهم ذلك من نفسه ، ووقعت بينهم الحرب التي قتل فيها عمّ أبيه ماكسن بن زيري ، فرهب الباقون منهم صولة باديس ، وخافوا عاديته على أنفسهم ، على صغر سنّه ؛ فخاطب شيخ بيته يومئذ زاوي بن زيري ومعه أبناء أخيه ، المظفّر بن أبي عامر ليجوز إليه إلى الأندلس رغبة في الجهاد ، فألفى همّة بعيدة ، وملكا شامخا ، يذهب إلى استخدام الأشراف واصطناع الملوك ، فأذن في ذلك ؛ فدخل منهم جماعة الأندلس مع أميرهم زاوي بن زيري ، ومعه أبناء أخيه حباسة وحبّوس وماكسن ؛ فأنزلهم المظفّر وأكرمهم ، إلّا أنهم كابدوا مشقّة من دهرهم الذي أصارهم يخدمون بأبواب الملوك من أعدائهم غيرهم ؛ فلمّا انهدمت الإمامة ، وانشقّت عصا الجماعة ، سعوا في الفتنة سعي غيرهم ؛ من سائر قبائل البرابرة ، عند تشديد أهل الأندلس للبربر ؛ وانحازوا عند ظهورهم على أهل الأندلس ، بملوك بني حمّود ، إلى بلاد تضمّهم ، فانحازت صنهاجة مع شيخهم ورئيسهم زاوي بن زيري إلى مدينة غرناطة. ثم آثر زاوي العودة إلى وطنه إفريقية ، فخرج عن الأندلس حسبما يتفسر في موضعه. والتفّ قومه على ابن أخيه حبّوس بن ماكسن ، في جماعة عظيمة تحمي حوزته ، وأقام بها ملكا ؛ وغلب على ما اتصل بمدينته من الكور ، فتملّك قبرة (٤) ، وجيّان (٥) ، واتّسع نظره ، وحمى وطنه ورعيّته ممّن جاوره من البرابر ؛ وكان داهية شجاعا ، فدامت رئاسته ، واتصل ملكه ،

__________________

(١) بلكين أو بلقين بن باديس ولّاه أبوه على مالقة بعد أن ضمّها إلى غرناطة عام ٤٤٩ ه‍ ، واستمرت ولايته عليها إلى سنة ٤٥٦ ه‍ حيث توفي مسموما. انظر أخباره في كتاب : مملكة غرناطة في عهد بني زيري للدكتورة مريم قاسم طويل (ص ١٦٢ وما بعدها).

(٢) قارن بالبيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٣).

(٣) المراونة : هم بنو مروان الأمويون.

(٤) قبرة : بالإسبانيةCabra ، وتتصل بأعمال قرطبة من قبليّها. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٦٢).

(٥) جيان : بالإسبانيةJaen ، وتسمّى قنّسرين لشبهها بها. راجع المرجع السابق (ص ٥٩).

٢٣٨

إلى أن هلك. فولى بعده ابنه باديس ، وسيأتي التعريف به ؛ وولد له ابنه بلكّين هذا المترجم به ، فرشّحه إلى ملكه ، وأخذ له بيعة قومه ، وأهّله للأمر من بعده. قال المؤرّخ (١) : ونشأ لباديس بن حبّوس ، ولد اسمه بلكّين ، وكان عاقلا نبيلا ، فرشّحه للأمر من بعده ؛ وسمّاه سيف الدولة ؛ وقال : ولّي مالقة في حياة أبيه ، وكان نبيلا جليلا ؛ ووقعت على كتاب بخطه نصّه بعد البسملة :

«هذا ما التزمه واعتقد العمل به ، بلكّين بن باديس ، للوزير القاضي أبي عبد الله بن الحسن الجذامي سلّمه الله. اعتقد به إقراره على خطّة الوزارة ، والقضاء في جميع كوره (٢) ، وأن يجري من الترفيع والإكرام له إلى أقصى غاية ، وأن يحمل (٣) على الجراية في جميع أملاكه بالكور (٤) المذكورة ، حاضرتها وباديتها ، الموروثة منها ، والمكتسبة ، القديمة الاكتساب والحديثة ، وما ابتاع منها من العالي (٥) ، رحمه الله وغيره ، لا يلزمها وظيف بوجه ، ولا يكلّف منها كلفة ، على كل حال ، وأن يجري في قرابته ، وخوله وحاشيته وعامري ضيعه ، على المحافظة والبرّ والحرية. وأقسم على ذلك كلّه بلكّين بن باديس بالله العظيم ، والقرآن (٦) الحكيم ، وأشهد الله على نفسه وعلى التزامه له ، وكفى بالله شهيدا. وكتب بخطّ يده مستهل شهر رمضان العظيم سنة ثمان (٧) وأربعين وأربعمائة ، والله المستعان». ولا شكّ أن هذا المقدار يدلّ على نبل ، ويعرف عن كفاية.

سبب وفاته : قال صاحب البيان المغرب وغيره (٨) : وأمضى باديس كاتب أبيه ووزيره(٩) إسماعيل بن نغرالة (١٠) اليهودي على وزارته وكتابته وسائر أعماله ، ورفعه

__________________

(١) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٢١ ـ ١٢٢).

(٢) في تاريخ قضاة الأندلس : «جميع كورة ريّة».

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس : «وأن يجري على الجزية ...».

(٤) في تاريخ قضاة الأندلس : «بكورة ريّة».

(٥) العالي : هو خليفة الأندلس إدريس بن يحيى بن حمود ، وقد حكم غرناطة وقرمونة سنة ٤٣٤ ه‍ ، وخلع سنة ٤٣٨ ه‍ ، بعد أربع سنين من حكمه.

(٦) في تاريخ قضاة الأندلس : «وبالقرآن».

(٧) في تاريخ قضاة الأندلس : «سنة ٤٤٩».

(٨) البيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٦).

(٩) في البيان المغرب : «فأمضى باديس وزيرا له وكاتبا ، وزير أبيه إسماعيل ...».

(١٠) إن الذين ترجموا لإسماعيل اختلفوا في رسم اسم شهرته ؛ فأسماه ابن حزم ابن النغرال ، ثم قال : ابن النغريلة. وذكره صاعد الأندلسي ابن الغزال. وجعله الأمير عبد الله كابن الخطيب ابن نغرالة ، وكتبه ابن عذاري : نغرالة. وهو عند ابن خلدون : نعزلة. وعند المقري : نغدلة. وأغلب الظن أن هذا التباين في رسم شهرته عائد إلى طبيعة النطق أو إلى تصحيف الناسخ أو المحقّق أو المترجم. انظر الفصل في الملل والأهواء والنّحل (ج ١ ص ١٥٢) ، ورسائل ابن حزم (ج ٣ ـ

٢٣٩

فوق كل منزلة ؛ وكان لولده بلكّين (١) خاصّة من المسلمين يخدمونه ، وكان مبغضا في اليهودي (٢) ، فبلغه أنه تكلّم في (٣) ذلك لأبيه ، فبلغ منه كلّ مبلغ ؛ فدبّر (٤) الحيلة ، فذكروا أنه دخل عليه يوما فقبّل الأرض بين يديه ، فقال له الغلام : ولم ذلك؟ فقال : يرغب العبد (٥) أن تدخل داره مع من أحببت من عبيدك ورجالك ، فدخل إليه بعد ذلك ، فقدّم له ولرجاله طعاما وشرابا ، ثم جعل السّم في الكأس لابن باديس ، فرام القيء ، فلم يقدر عليه ، فحمل إلى قصره وقضى (٦) نحبه في يومه ؛ وبلغ الخبر إلى أبيه ولم يعلم السبب ، فقرّر اليهوديّ عنده أنّ أصحابه وبعض جواريه سمّوه ، فقتل باديس جواري (٧) ولده ، ومن فتيانه وبني عمّه جماعة كبيرة ، وخافه سائرهم ففرّوا عنه. وكانت وفاته سنة ست وخمسين وأربعمائة. وبعده قتل اليهودي في سنة تسع وخمسين.

باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي (٨)

كنيته أبو مناد ، ولقبه الحاجب المظفّر بالله ، الناصر لدين الله.

أوّليّته : قد تقدّم الإلماع بذلك عند ذكر ابنه بلكّين.

حاله : كان رئيسا يبسا ، طاغية ، جبّارا ، شجاعا ، داهية ، حازما ، جلدا ، شديد الأمر ، سديد الرأي ، بعيد الهمّة ، مأثور الإقدام ، شره السيف ، واري زناد الشرّ ، جمّاعة للمال ؛ ضخمت به الدولة ، ونبهت الألقاب ، وأمنت لحمايته الرعايا ، وطمّ

__________________

ـ ص ٤١) ، وطبقات الأمم (ص ١٣٦) ، ومذكرات الأمير عبد الله (ص ٣٦) ، وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٣٠) ، والبيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٤) ، وكتاب العبر (ج ٤ ص ٣٤٦) ، ونفح الطيب (ج ٦ ص ٩٣). وكان إسماعيل الوزير الأول في عهد حبوس بن ماكسن ابن زيري وولده باديس بن حبوس ، وبوفاة إسماعيل عام ٤٤٨ ه‍ ارتقى ابنه يوسف بن إسماعيل ابن نغرالة إلى خطة الوزارة التي تبوّأها أبوه.

(١) في البيان المغرب : «بلقين».

(٢) في البيان المغرب : «في هذا اليهودي».

(٣) في البيان المغرب : «فيه عند أبيه فبلغ ذلك من اليهودي كلّ مبلغ».

(٤) في البيان : «ودبّر الحيلة عليه فدخل اللعين يوما على الفتى وقبّل ...».

(٥) في البيان : «عبدك منك أن ...».

(٦) في البيان : «فقضى نحبه في غد يومه».

(٧) في البيان : «من جواري».

(٨) حكم باديس بن حبوس غرناطة من عام ٤٢٩ ه‍ إلى عام ٤٦٧ ه‍. وترجمته في المغرب (ج ٢ ص ١٠٧) ، والبيان المغرب (ج ٣ ص ٢٦٢ ، ٢٦٤) ، واللمحة البدرية (ص ٣١) ، وكتاب العبر (م ٤ ص ٣٤٥) واسمه فيه : باديس بن حسون ، وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٢٩). وقد قامت الدكتورة مريم قاسم طويل بدراسة وافية عنه في كتابها : مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ١١٩ ـ ١٦٩) فلتنظر.

٢٤٠