الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

عدو الله (١) ، وسدّ ثلم ثغوره (٢) ، فكان غرّة في قومه ، ودرّة في بيته ، وحسنة من حسنات دهره. وسيرد نبذ من أحواله ، مما يدلّ على فضل جلاله».

صفته : كان معتدل القدّ ، وسيم الصورة ، عبل اليدين ، أبيض اللون ، كثير اللحية ، بين السواد والصهوبة (٣) أنجل أعين أفوه مليح العين ، أقنى الأنف ، جهير الصوت ؛ أمه الحرّة الجليلة ، العريقة في الملوك ، فاطمة بنت أمير المؤمنين أبي عبد الله نخبة الملك ، وواسطة العقد ، وفخر الحرم ، البعيدة الشّأو في العزّ والحرمة ، وصلة الرّعي ، وذكر التراث. واتصلت حياتها ، ملتمسة الرأي ، برنامجا للفوائد ، تاريخا للأنساب ، إلى أن توفيت في عهد حفيدها السلطان أبي الحجّاح ، رحمها الله ، وقد أنفت على تسعين من السنين ، فكان الحفل في جنازتها ، موازيا لمنصبها ، ومتروكها ، المفضي إليه خطيره ، وقلت في رثائها : [الطويل]

نبيت على علم بغائلة الدهر

ونعلم أنّ الخلق في قبضة الدّهر

ونركن للدنيا اغترارا بقهرها

وحسبك من يرجو الوفاء من الغدر

ونمطل بالعزم الزّمان سفاهة

فيوم إلى يوم ، وشهر إلى شهر

وتغري بها نفسي المطامع والهوى

ونرفض ما يبقى ضيعة العمر

هو الدهر لا يبقى على حدثانه

جديد ولا ينفكّ من حادث نكر

وبين الخطوب الطارقات تفاضل

كفضل من اغتالته في رفعة القدر

ألم تر أنّ المجد أقوت ربوعه

وصوّح من أدواحه كل مخضرّ

ولاحت على وجه العلاء كآبة

فقطّب من بعد الطلاقة والبشر

وثبتّ اسمها في الوفيات من الكتاب المذكور بما نصّه :

«السلطانة الحرّة ، الطاهرة ، فاطمة بنت أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين الغالب بالله ، بقيّة نساء الملوك ، الحافظة لنظام الإمارة ، رعيا للمتات (٤) ، وصلة للحرمة ، وإسداء للمعروف ، وسترا للبيوتات ، واقتداء بسلفها الصالح ، في نزاهة النفس ، وعلوّ الهمّة ، ومتانة الدين ، وكشف الحجاب ، ونفاذ العزم ، واستشعار الصبر. توفّيت في كفالة حفيدها أمير المسلمين أبي الحجاج ، مواصلا برّها ، ملتمسا دعاءها ،

__________________

(١) في اللمحة : «عدوه الله وعدوه».

(٢) في اللمحة : «ثغره».

(٣) الصهوبة : هي احمرار الشعر.

(٤) المتات : ما يمتّ به كالحرمة والقرابة. محيط المحيط (متت).

٢٠١

مستفيدا تجربتها وتاريخها ، مباشرا مواراتها بمقبرة الجنان ، داخل الحمراء ، سحر يوم الأحد السابع لذي حجة ، من عام تسعة وأربعين وسبعمائة».

أولاده : تخلّف (١) من الولد أربعة ؛ أكبرهم محمد ، وليّ الأمر (٢) من بعده ، وفرج شقيقه التالي له بالسنّ ، المنصرف عن الأندلس بعد مهلك أخيه المذكور ، المتقلب في الإيالات ، الهالك أخيرا في سجن قصبة ألمرية عام أحد وخمسين وسبعمائة ، مظنونا به الاغتيال ، ثم أخوه أمير المسلمين أبو الحجاج ، تغمّده الله برحمته ، أقعد القوم في الملك ، وأبعدهم أمدا في السعادة ، ثم إسماعيل أصغرهم سنّا ، المبتلي في زمان (٣) الشبيبة في الثّقاف (٤) المخيف مدة أخية ، المستقرّ الآن موادعا مرفودا ، بقصر المستخلص من ظاهر شالوبانية ، وبنتين ثنتين من حظيّته علوة ، عقد عليهما أخوهما أبو الحجاج ، لرجلين من قرابته.

وزراؤه : وزر (٥) له أول أمره القائد البهمة (٦) أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الفهري ، وبيت هؤلاء القوّاد شهير ، ومكانتهم من الملوك النصريين مكينة. أشرك معه في الوزارة الفقيه الوزير أبا الحسن علي بن مسعود بن علي بن مسعود المحاربي ، من أعيان الحضرة ، وذوي النباهة ، فجاذب رفيقه حبل الخطّة ، ونازعه لباس الحظوة ، حتى ذهب باسمها ومسمّاها. وهلك القائد أبو عبد الله بن أبي الفتح ، فخلص له شربها ، وسيأتي التعريف بكل على انفراد.

كتابه : كتب (٧) عنه لأول أمره بمالقة ، ثم بطريقه إلى غرناطة ، وأياما يسيرة بها ، الفقيه الكاتب أبو جعفر بن صفوان المتقدّم ذكره. ثم ألقى المقادة إلى كاتب الدولة قبل ، شيخنا أبي الحسن بن الجيّاب فاصل الخطّة ، وباري القوس ، واقتصر عليه إلى آخر أيامه.

قضاته : استقضى (٨) أخا وزيره ، الشيخ الفقيه أبا بكر بن يحيى بن مسعود بن علي ، رجل الجزالة ، وفيصل الحكم ، فاشتدّ في إقامة الحكم (٩) ، وغلظ بالشرع ، واستعان بالجاه ، فخيفت (١٠) سطوته ، واستمرّ قاضيا إلى آخر أيامه.

__________________

(١) النص في اللمحة البدرية (ص ٧٨ ـ ٧٩).

(٢) في اللمحة : «وليّ عهده والأمير من بعده».

(٣) في اللمحة : «المبتلي زمن شبيبته بالاعتقال».

(٤) الثّقاف : الاعتقال. لسان العرب (ثقف).

(٥) النص في اللمحة البدرية (ص ٧٩).

(٦) كلمة «البهمة» ساقطة في اللمحة البدرية.

(٧) النص في اللمحة البدرية (ص ٧٩).

(٨) النص في اللمحة البدرية (ص ٧٩ ـ ٨٠).

(٩) في اللمحة : «الحقّ».

(١٠) في الأصل : «فخيف» والتصويب من اللمحة البدرية.

٢٠٢

رئيس جنده الغربي : الشيخ (١) البهمة (٢) ، لباب قومه ، وكبير بيته ، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء (٣) إدريس بن عبد الله (٤) بن عبد الحق ، مشاركا له في النعمة ، ضاربا بسهم في المنحة ، كثير التجنّي والدّالّة ، إلى أن هلك المخلوع ، وخلا الجوّ ، فكان منه بعض الإقصار.

الملوك على عهده : وأولا (٥) بعدوة المغرب : كان على عهده من ملوك المغرب السلطان الشهير ، جواد الملوك ، الرّحب الجناب ، الكثير الأمل ، خدن العافية ، ومحالف الترفية ، مفحم (٦) النّعيم ، السعيد على خاصته وعامته ، أبو سعيد عثمان بن السلطان الكبير ، المجاهد ، المرابط ، أبي يوسف (٧) بن عبد الحق. وجرت بينه (٨) وبينه المراسلات ، واتصلت أيامه بالمغرب بعد مهلكه وصدرا من أيام ولده أبي عبد الله حسبما مرّ (٩) عند ذكره.

وبمدينة تلمسان ، وطن القبلة ، الأمير أبو حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان. ثم توفي قتيلا (١٠) على عهده بأمر ولده المذكور ، واستغرقت أيام ولده المذكور الوالي بعده ، إلى أن هلك في صدر أيام أبي الحجاج ؛ وجرت بينه وبين الأمير مراسلات وهدايات.

وبمدينة تونس ، الشيخ المتلقّب بأمير المؤمنين أبو يحيى زكريا بن أبي حفص المدعو باللّحياني ، المتوثّب بها على الأمير أبي البقاء خالد بن أبي زكريا بن أبي حفص ، وهو كبير ، إلّا أن أبا حفص أكبر سنّا وقدرا ، وقد تملّك تونس تاسع جمادى الآخرة من عام ظهر له اضطراب من بها ، أحد عشر وسبعمائة ، وتمّ له الأمر. واعتقل أبا البقاء بعد خلعه ، ثم اغتاله في شوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة ، ثم رحل عن تونس لما ظهر له من اضطراب أمره بها ، وتوجّه إلى طرابلس (١١) في وسط عام خمسة عشر (١٢) ، واستناب صهره الشيخ أبا عبد الله بن أبي

__________________

(١) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٠).

(٢) البهمة : الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى له من شدة بأسه. لسان العرب (بهم).

(٣) في اللمحة : «العلى».

(٤) في المصدر نفسه : «عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق».

(٥) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٠ ـ ٨٢). وفي الأصل : «وأولاد» والتصويب من اللمحة.

(٦) في اللمحة : «ومتبحبح النعيم».

(٧) في اللمحة : «أي يوسف يعقوب بن ...».

(٨) في اللمحة : «وجرت بينهما».

(٩) في اللمحة : «يمرّ».

(١٠) في اللمحة : «قتيلا بأمر ولده على عهده سادس عشر جمادى الثانية من عام ثمانية عشر وسبعمائة».

(١١) في اللمحة : «أطرابلس».

(١٢) في اللمحة : «وسبعمائة».

٢٠٣

عمر (١) ، ولم يعد بعد إليها. ثم اضطرب أمر إفريقية ، وتنوّبه (٢) عدة من الملوك الحفصيين ، منهم الأمير أبو عبد الله بن أبي عمر (٣) المذكور ، وأبو عبد الله بن (٤) اللّحياني ، والسلطان أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق ، لبنة تمامهم ، وآخر رجالهم ، واستمرّت أيامه إلى أيام ولده الأمير بالأندلس ومعظم أيام ولديه ، رحم الله الجميع.

ومن ملوك الروم بقشتاله ؛ كان على عهده مقرونا بالعهد القريب من ولايته ، الطاغية هرانده بن شانجة بن ألهنشة (٥) بن هراندة المجتمع له ملك قشتالة وليون (٦) ، وهو المتغلّب على إشبيلية ، وقرطبة ، ومرسية ، وجيّان ؛ ابن الهنشة (٧) الذي جرت له وعليه هزيمة الأرك (٨) والعقاب (٩) ، ابن شانجه بن الهنشة المسمّى إنبرذور ، وهو الذي أفرد صهره وزوج بنته بملك برتقال ، إلى أجداد ، يخرجنا تقصّي ذكرهم عن الغرض.

ومن ملوك رغون (١٠) من شرق الأندلس ، الطّاغية جايمش بن بطره بن جايمش الذي تغلب على بلنسية ، ابن بطره بن الهنشة (١١) ، إلى أجداد عدة كذلك. ثم هلك في أخريات أيامه ، فولّي ملك أرغون (١٢) بعده ألهنشة (١٣) بن جايمش إلى أخريات (١٤) أيامه.

وببرتقال ألهنشة (١٥) بن يومس (١٦) بن ألهنشة (١٧) بن شانجة بن ألهنشة (١٨) بن شانجة بن ألهونشة (١٩) ، وتسمّى (٢٠) أولا دوقا.

ذكر تصيّر الأمر إليه : لما ولي (٢١) الأمر بالأندلس ، حرسها الله ، السلطان أبو الجيوش نصر بن السلطان أبي عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أبي عبد الله بن

__________________

(١) في اللمحة : «عمران».

(٢) في اللمحة : «وتناوبه».

(٣) كلمة «بن» ساقطة في اللمحة.

(٤) في اللمحة : «ألفونش».

(٥) في اللمحة : «ملك ليون وقشتالة».

(٦) في اللمحة : «ابن الهونش».

(٧) كانت وقعة الأرك سنة ٥٩١ ه‍ بين الموحدين بقيادة الخليفة المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن ، وكان النصر فيها للموحدين. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢١٨ ـ ٢٢١).

(٨) كانت وقعة العقاب سنة ٦٠٩ ه‍ ، بين الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين ، فكانت السبب في هلاك الأندلس. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٦٣).

(٩) مملكة رغون : هي نفسها أراغون.

(١٠) في اللمحة : «الهونش».

(١١) في اللمحة : «رغون».

(١٢) في اللمحة : «الهونش».

(١٣) في اللمحة : «آخر».

(١٤) في الأصل : «ويسمو» والتصويب من اللمحة .. (١٥) قارن باللمحة البدرية (ص ٨٢ ـ ٨٤).

٢٠٤

نصر ، يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة ، بالهجوم على أخيه أبي عبد الله الزّمن المقعد ، الآمن في ركن بيته ، واغتيال ابن الحكيم وزيره ببابه ، والإشادة بخلعه حسبما يأتي في موضعه ، استقرّ الأمر على ضعف أخيه ، وسارع دخلته ، فساءت السّيرة لمنافسة الخاصّة ، وكان الرئيس الكبير عميد القرابة ، وعلم الدولة أبو سعيد فرج ، ابن عمّ السلطان المخلوع ، وأخيه الوالي بعده ، راسخا قدمه وعرفه ، بمثوبة الوارث ، ولنظره عن أبيه المسوّغ عن جدّه مالقة وما إليها ، ولنظره مدينة سبتة ، المضافة إلى إيالة المخلوع عن عهد قريب ، قد أفرد بها ولده المترجم به ، وجميعهم تحت طاعته ، وفي زمان انقياد سوغ مديد الدولة ، بل مدّ سروها لما شاء عزّ وجلّ من احتوائهم في حبل هذا الدايل ، يتعقبون على الرئيس الكبير أمورا تثرّ مخيمة الصدور ، وتستدعي فرض الطاعة ، وتحتوي على مظنّات مخلة ، واحترسوا صافيات منافعه ، وأوعزوا إلى ولاة الأعمال بالتضييق على رجاله ، وصرفوا سننه عن نظره. ولمّا بادر إلى الحضرة لإعطاء صفقة البيعة وتهنئة السلطان نصر عن روحه وابن عمّه ، على عادته ، داخله بعض أرباب الأمر ، محذّرا ، ومشيرا بالامتناع ببلده ، والدّعاء لنفسه ، ووعده بما وسعه ، فاستعجل الانصراف إلى بلده ، ولم تمرّ إلّا برهة ، واشتعلت نار الفتنة ، وهاجت مراجل الحفيظة ، فتلاحق به ولده ، وأظهر الانفراد والاستعداد في سابع عشر رمضان من هذا العام. وأقام ولده إسماعيل ، برسم الملك والسلطان ، ورتّب له ألقاب الملك ، ودوّن ديوان الملك بحسبه ، ونازل حضرة أنتقيرة ، وناصبها القتال ، فتملّكها ؛ ودخلت مربلّة في طاعته ، وتحرّك إلى بلّش فنازلها ، ونصب عليها المجانيق فدانت ، فضخمت الدعوة ، ومكنت الجباية ، والتفّ إليه من مساعير الحروب ومن أجاب.

وتحرّك إلى غرناطة في أول شهر محرم ، عام اثني عشر وسبعمائة ، ونزل بقرية العطشا من مرجها. وبرز السلطان نصر في جيش خشن (١) ، مستجاد العدّة ، وافر الرّجل (٢) ، فكان اللقاء ثالث عشر الشهر ، فأظهر الله أقلّ الفئتين (٣) ، وانجرّت على الجيش الغرناطي الهزيمة ، وكبا بالسلطان نصر فرسه في مجرى سقي لبعض الفدن ، فنجا بعد لأي ودخل البلد مفلولا ، وانصرف الجيش المالقي ظاهرا إلى بلده. وطال بالرئيس وولده الأمر وضرّستها الفتنة ، وعظم احتياجه إلى المال ، وكادت تفضحه المطاولة ، وزاحمه الملك بمكلف ضخم ، فاقتضى ذلك إذعانه إلى الصلح ، وإصغاره المهادنة ، على سبيله من المقام ببلده ، مسلّما للسلطان في جبايته ، جارية وطائفة في رئاسته ، وأرزاق جنده ، فتمّ ذلك في ربيع الأول من العام المذكور. ثم لقحت فتنة في العام

__________________

(١) في اللمحة : «أخشن».

(٢) الرّجل : الجنود المشاة.

(٣) في اللمحة : «الطائفتين».

٢٠٥

بعده ، فعادت جذعة ، وكانت ثورة الأشياخ في غرناطة في رمضان من العام المذكور هاتفين بخلعان السلطان ، وطاعة مخلوعهم ، وطالبين منه إسلام وزيره خدن الروم ، المتهم على الإسلام أبي عبد الله (١) بن الحاجّ. ثم لحق زعماؤهم بمالقة عند اختلال ما أبرموه ، فكانت الحركة الثانية لغرناطة بعد أمور اختصرتها ، من استبداد السلطان أبي الوليد بأمره (٢) ، والانحطاط في القبض على أبيه ، إلى هوى جنده ، والتصميم في طلب حقّه ، فاتصل سيره ، واحتلّ بلوشة سرار شوال فتملّكها. ورحل قافلا إلى وطنه ، طريد كلب الشتاء ، وافر الخزانة ، واقتضى الرأي الفائل ممّن له النظر الجاش من زعيم شيوخ جندها ، اتّهاما له بالطاغية ، فسجنه. ثم بدا له في أمره ، ثم سرّحه بعد استدعاء يمينه ، فوغرت صدور حاشيته ، وتبعهم من كان على مثل رأيهم ، وهو شوكة حادّة ، فصرفوا الوجوه إلى السلطان المقبل الحظ ، المحبوب إليه هوى الملك ، بما راعه ، ثانيا من عنانه بأحواز أرجدونة ، إلّا تثويب داعيهم ، فكرّ إلى المدينة وبرز إليه جيشها ، ملتفّا على عبد الحق بن عثمان ، فأبلى (٣) ، وصدق الحملة ، فكادت تكون الدائرة ؛ فلو لا ثبوت السلطان لما استقبلت بأسفلهم الحملة ، فولّوا منهزمين ، وتبعهم إلى سور المدينة ، وقد خفت اللّفيف والغوغاء النّاعقون (٤) بالخلعان ، الشّرهون إلى تبديل الدّعوات ، وإلى (٥) تسنّم المآذن والمنارات (٦) والرّبا. وبرز أهل ربض البيّازين ، الهافّون إلى مثل هذه البوارق ، إلى شرف ربوتهم (٧) ، كلّ يشير مستدعيا إعلانا بسوء الجوار ، وملل الإيالات ، والانحطاط ، وبعد التلوّن والتقلّب ، وسآمة العافية ؛ شنشنة معروفة في الخلق مألوفة. وبودر غلق باب إلبيرة ، ففضّ (٨) قفله ، ودخلت المدينة ، وجاء (٩) السلطان إلى معقل الحمراء بأهله وذخيرته وخاصّته ، وبرز السلطان أبو الوليد بالقصبة القدمى تجاهها ، بالدار الكبرى المنسوبة لابن المول ، ينفذ الصكوك ، ويذيع العفو ، ويؤلف الشّارد ، وضعفت بصائر المحصورين ، وفشلوا على وجود الطعمة ، ووفور المال ، وتمكّن المنعة ، فالتمسوا لهم ولسلطانهم عهدا نزلوا به ، منتقلين إلى مدينة وادي آش ، في سبيل العوض بمال معروف ، وذخيرة موصوفة ؛ وتمّ ذلك ، وخرج السلطان رحمه الله مخلوعا ، ساء به القرار ، جانيا على ملكه الأخابيث والأغمار ، ليلة الثامن والعشرين من شوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة ، واستقرّ بها

__________________

(١) في اللمحة : «الإسلام محمد ابن الحاج».

(٢) في اللمحة : «بنفسه».

(٣) في اللمحة : «وأبلى في الدفاع ، فكادت تقع به الدبرة لو لا ثبوت ...».

(٤) في اللمحة : «والناعقون».

(٥) في اللمحة : «إلى».

(٦) في اللمحة : «والمنازه».

(٧) في اللمحة : «بيوتهم».

(٨) في اللمحة : «فنقض».

(٩) في اللمحة : «ولجأ».

٢٠٦

موادعا مرة ، ومحاربا أخرى ، إلى أن هلك حسبما يأتي ذكره. وخلا للسلطان (١) الجوّ ، وصرفت (٢) إليه المقادة ، وأطاعه القاصي والدّاني ، ولم يختلف عليه اثنان ، والبقاء الخلص لله وحده.

مناقبه : اشتدّ (٣) ، رحمه الله ، على أهل البدع ، وقصر الخوض على ما تضطر إليه الملّة. ولقد تذوكر بين يديه أهل البيت ، فبذل في فدية بعضهم ما يعزّ بذله ، ونقل منهم بعضا من حرف خبيثة ، فزعموا أنه رأى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في النوم ، فشكر (٤) له ذلك. واشتدّ في إقامة الحدود ، وإراقة المسكرات ، وحظر تجلّي القينات للرجال في الولائم ، وقصر طربهنّ على أجناسهنّ من الناس ، وأخذ يهود الذمّة بالتزام سمة تشهرهم ، وشارة تميّزهم ، وليوفّى (٥) حقّهم من المعاملة التي أمر بها الشّارع في الخطاب والطّرق (٦) ، وهي شواشي صفر.

ولقد حدّث من يخفّ حديثه ، من الشيوخ أولي المجانة والدّعابة ، قال : كنّا عاكفين على راح ، وبرأسي شاشيّة ملف حمراء ، فحاول أصحابي إنامتي ، حتى أمكن ذلك ، وبادروا إلى رقاع من ثوب أصفر ، فصنعوا منها شاشية ، ووضعوها في رأسي ، مكان شاشيتي ، وأيقظوني ، فقمت لشأني ، وقد هيّئوا ثمنا لشراء بقل وفاكهة ، وجهّزوني لشرائه ، فخرجت حتى أتيت دكان السوق ، فساومته ، فلمّا نظر إليّ قال لصاحبه : جزى الله هذا السلطان خيرا ، والله لقد كنت أبادر هذا اللّعين بالسلام عند لقائه ، أظنّه مسلما ، وبصق عليّ ؛ فهممت أن أوقع به ، ثم فطنت للحلية ، فانتزعتها ، وبادرت فأوسعتهم ذمّا ، وعظم خجلي ، وسبقني إليهم عين لهم عليّ ، فكاد الضحك يهلكهم عند دخولي. ومناقبه كثيرة.

جهاده وبعض الأحداث في مدته : والتأثت (٧) الأمور ، لأول مدته ، فجرت على جيشه بمظاهرة جيش المخلوع لجيش الرّوم ، الهزيمة الشنيعة ، بوادي فرتونة ؛ أوقع بهم الطاغية بطره ، كافل ملك الروم ، المملك صغيرا على عهد أبيه ، وعمّه الذّابّ عنه ، ففشا في الأعلام القتل ، وذلك في صفر من عام ستة عشر وسبعمائة ، وظهر العدوّ بعدها فغلب على حصن شتمانس (٨) وحصن بجيج (٩) ، وحصن طشكر ،

__________________

(١) في اللمحة : «للسلطان أبي الوليد».

(٢) في اللمحة : «وضربت».

(٣) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٤).

(٤) في اللمحة : «يشكر».

(٥) في اللمحة : «ليوفّوا».

(٦) في اللمحة : «في الطرق والخطاب».

(٧) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٤ ـ ٨٥).

(٨) في اللمحة البدرية : «وظهر العدو بعدها على حصن قنبل وحصن متمانس».

(٩) في المصدر نفسه : «وحصن نجيح».

٢٠٧

وثغر (١) روط. ثم صرفت المطامع عزمه إلى الحضرة ، فقصد مرجها ، وكفّ الله عاديته ، وقمعه ، ونصر الإسلام عليه ، ودالت للدين عليه الهزيمة العظمى بالمرج من ظاهر غرناطة على بريد منها ، واستولى على محلّته (٢) النّهب ، وعلى فرسانه ورجاله القتل ، وعظم الفتح ، وبهر الصنع وطار الذكر ، وثاب السّعد. وكانت الوقيعة سادس جمادى الأولى من عام تسعة عشر وسبعمائة ، وفي ذلك يقول كاتبه شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب :

الحمد حقّ الحمد للرحمن

كافي العدو وناصر الإيمان

ومكيّف الصنع الكريم ودافع ال

خطب العظيم وواهب الإحسان

في كل أمر للمهيمن حكمة

أعيت على الأفكار والأذهان

واستقرّ ملكهم القتيل بأيدي المسلمين بعد فرارهم ، فجعل في تابوت خشب ، ونصب بالسور المنازل من الحمراء يسار الداخل بباب يعقوب من أبوابها ، إذاعة للشّهرة ، وتثبّتا لتخليد الفخر.

ومن الغريب أنني في هذه الأيام بعد خمسين سنة تماما (٣) ، تفقدت ذلك المكان في بعض ما أباشره ، أيام نيابتي عن السلطان بدار ملكه على عادتي ، فألفيته قد علا عليه كوم من الحجارة ، رجم الصبيان إياه ، فظهر لي تجديد الإشادة به ، والاستفتاح بوقوع مثله ، ولمّا كشف عن الرّمة لتنقل إلى وعاء ثان ، ألفي بعظم القطن (٤) العريض منها سنان مرهب ثبت في العظم ، انتزع منه ، وقد غالبتني الرقّة والإجهاش ، وقلت اللهمّ ادّخر رضوانك لمن أودع في هذه الرّمّة الطاغية ، سنان جهادك إلى اليوم ، وأثبه وارفع درجته ، إنك أهل لذلك.

رجع (٥) : واستقامت الأيام ، وهلك المخلوع ، فصفا الجو ، واتّحدت الكلمة ، وأمكن الجهاد ، فتحرّك في شهر (٦) رجب من عام أربعة وعشرين وسبعمائة ، وأعمل القصد (٧) إلى بلاد العدو ، ونازل حصن إشكر (٨) ، الشّجى المعترض (٩) في حلق

__________________

(١) في المصدر نفسه : «وحصن روط».

(٢) في المصدر نفسه : «محلّاته».

(٣) أي بعد خمسين سنة من تاريخ وقيعة وادي فرتونة من عام ٧١٩ ه‍ ، وهو ما يوافق سنة ٧٦٩ ه‍.

(٤) عظم القطن : عظم ما انحدر من ظهر الإنسان واستوى. محيط المحيط (قطن).

(٥) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٥).

(٦) كلمة «شهر» غير واردة في اللمحة البدرية.

(٧) في اللمحة : «الحركة».

(٨) إشكر : بالإسبانيةHuescar ، وهي من مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٥٤).

(٩) في اللمحة : «المتعرض».

٢٠٨

بسطة ، فأخذ بمخنّقه (١) ، ونشر الحرب عليه (٢) ، ورمى بالآلة العظمى المتخذة بالنفط كرة حديد محماة طاق (٣) البرج المنيع من معقله ، فاندفعت يتطاير شررها ، واستقرّت بين محصوريه ، فعاثت عياث الصواعق السموية ، فألقى الله الرعب في قلوبهم ، وأتوا بأيديهم ، ونزلوا قسرا على حكمه في الرابع والعشرين من الشهر ، وأقام بظاهره ، فصيّره دار جهاد ، وعمل في خندقه بيده ، وانصرف ، فكانت غزاة جمّة البركة عظمت بها على الشرق الجدوى ، وأنشد الشعراء في هذه الوجهة قصائد أشادت بفضلها ، وشهرت من ذكرها ، فمن ذلك عن كاتب سرّه (٤) قوله (٥) : [الكامل]

أمّا مداك فغاية لم تلحق (٦)

أعيت على غرّ الجياد السّبق (٧)

ورفع إليه شيخنا الحكيم أبو زكريا بن هذيل ، قصيدة أولها (٨) : [الطويل]

بحيث القباب (٩) الحمر والأسد الورد

كتائب سكان السماء لها جند

أنشدني منها في وصف النفط قوله :

وظنّوا بأنّ الصّعق (١٠) والرّعد في السما

فحاق بهم من دونها الصّعق والرّعد

غرائب أشكال سما هرمس بها

مهنّدة (١١) تأتي الجبال فتنهدّ

ألا إنها الدنيا تريك عجائبا

وما في القوى منها فلا بدّ أن يبدو

وفي (١٢) العاشر لشهر رجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة ، تحرّك للغزو (١٣) بعد أخذ الأهبة والاستكثار والاجتهاد للمطوعة ، وقصد مدينة مرتش العظيمة الساحة ، الطيبة البقعة ، فأضرب بها المحلّات وكان القصد (١٤) إجمام الناس ، فصوّب (١٥) الحشود ووجّهها إلى ما بها من بحر (١٦) الكروم والملتفّات ، وأدواح

__________________

(١) في اللمحة : «بمخنقها».

(٢) في اللمحة : «عليها».

(٣) في اللمحة : «طاقة».

(٤) كاتب سرّه : هو الحكيم أبو زكريا بن هذيل كما جاء في اللمحة البدرية.

(٥) البيت في اللمحة البدرية (ص ٨٦).

(٦) في اللمحة البدرية : «لم تسبق».

(٧) جاء في اللمحة البدرية بعد هذا البيت ، البيت التالي :

فاشرح بسعدك كل معنى مشكل

وافتح بسيفك كل باب مغلق

(٨) الأبيات في اللمحة البدرية (ص ٨٥).

(٩) في اللمحة : «البنود».

(١٠) في اللمحة : «بأن الرعد والصعق ...».

(١١) في اللمحة : «مهندمة».

(١٢) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٦).

(١٣) في اللمحة : «إلى الغزو ، وأخذ الأهبة ...».

(١٤) في اللمحة : «قصده».

(١٥) في اللمحة : «فصرفت».

(١٦) في اللمحة : «شكر».

٢٠٩

الأشجار ، فأمعنوا في إفسادها ، وبرز حاميتها ، فناشبت الناس القتال ، فحميت النفوس ، وأريد منع الناس ، فأعيا أمرهم وسال منهم البحر ، فتعلّقوا بالأسوار ، وقيل للسلطان : بادر بالركوب ، فقد دخل الرّبض (١) ، فركب ووقف بإزائها ، فدخل البلد (٢) عنوة ، واعتصم أهله بالقصبة ، فدخلت أيضا القصبة عنوة ، وانطلقت أيدي الغوغاء على من بها من ذكر وأنثى كبيرا أو صغيرا (٣) ، فساءت القتلة ، وقبحت الأحدوثة ، ورفعت من الغد آكام من الجثث صعد ذراها المؤذّنون ، وقفل إلى غرناطة بنصر لا كفاء (٤) له ، فكان (٥) دخوله من هذه الغزاة في الرابع والعشرين لرجب المذكور.

وفاته : ولما (٦) فصل من مرتش نقم على أحد الرؤساء من قرابته ، وهر ابن عمّه محمد بن إسماعيل ، المعروف بصاحب الجزيرة ، أمرا تقرّعه عليه ، وبالغ في الإهمال له (٧) ، وتوعّده بما أثار حفيظته ، فأقدم عليه بالفتكة الشّنعاء التي ارتكبها منه بباب قصره ، بين عبيده وأرباب دولته (٨) ، آمن ما كان سربا ، وأعزّ سلطانا (٩) وجندا ؛ وذلك يوم الاثنين ثالث يوم من دخوله من مرتش ، بعد أن عاهد في الأمر جملة من القرابة والخدّام ، فوثب به ، وهو مجتاز بين السّماطين من ناسه إلى مجلس (١٠) كان يجلس فيه للناس ، فاعتنقه وانتضى (١١) خنجرا كان ملصقا في ذراعه ، فأصابه بجراحات ثلاث ؛ إحداهنّ في عنقه ، بأعلى ترقوته ، فخرّ صريعا. وصاح بكر وزيره ، فعمّته سيوف الحاضرين من أصحاب الفاتك ، ووقعت الرّجّة ، وسلّت السيوف ، وتشاغل كلّ بمن يليه ، واستخلص السلطان من يديه ، وحيل بينه وبينه ؛ وحين تشاغل القوم بالوزير ، رفع السلطان وظنّ أنه قد أفلت جريحا ، فوقع البهت ، وبادروا الفرار ، فسدّت المذاهب ، فقتلوا حيث وجدوا. وأخذت الظّنّة قوما من أبريائهم ، فامتحنوا (١٢) ، ونهب (١٣) الغوغاء دورهم ، وعلّقت بالجدران أشلاؤهم ، وكان يوما عصيبا ، وموقفا صعبا ، واحتمل السلطان إلى بعض دور قصره ، وبه صبابة روح ، أشبه

__________________

(١) في اللمحة : «البلد».

(٢) في اللمحة : «الحصن».

(٣) في اللمحة : «صغير أو كبير».

(٤) في الأصل : «لا كفا» والتصويب من اللمحة البدرية.

(٥) في اللمحة : «وكان».

(٦) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٧ ـ ٨٨).

(٧) في اللمحة : «وبالغ في تأنيبه ، وتوعّده ...».

(٨) قوله : «وأرباب دولته» ساقط في اللمحة البدرية.

(٩) في اللمحة : «وأعزّ نفرا وأمكن امتناعا ، غدوة يوم الاثنين الثالث من يوم دخوله ...».

(١٠) في اللمحة : «إلى مجلس القعود الخاص ، فاعتنقه ...».

(١١) في اللمحة : «وسلّ».

(١٢) في اللمحة : «فاستحلفوا».

(١٣) في اللمحة : «ونهبت».

٢١٠

شيء بالعدم ، للزوق العمامة بفوهة شريانه المبتور ، ففاض لحينه بنفس زوال العمامة ، رحمه الله.

وكان من أخذ البيعة لولده الأمير أبي عبد الله من بعده ، ما هو معروف في موضعه. ودفن غلس ليلة (١) الثلاثاء ، ثاني يوم وفاته ، بروضة الجنة (٢) من قصره ، إلى جانب جدّه ؛ وتنوهي الاحتفال بقبره نقشا ، وتخريما (٣) ، وإحكاما ، وحليا ، وتمويها ، يشقّ (٤) على الوصف ، وكتب بإزاء رأسه في لوح الرخام ما نصّه ، من كلام شيخنا ، بعد سطر الافتتاح :

«هذا قبر السلطان الشهيد ، فتّاح الأمصار ، وناصر ملّة المصطفى المختار ، ومحيي سبيل آبائه الأنصار ، الإمام العادل ، الهمام الباسل ، صاحب الحرب والمحراب ، الطاهر الأنساب والأثواب ، أسعد الملوك دولة ، وأمضاهم في ذات الله صولة ، سيف الجهاد ، ونور البلاد الحسام (٥) المسلول في نصرة الإيمان ، والفؤاد المعمور بخشية الرحمن ، المجاهد في سبيل الله ، المنصور بفضل الله ، أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن الهمام الأعلى الطاهر الذات والفخار (٦) ، الكريم المآثر والآثار ، كبير الإمامة النّصرية ، وعماد الدولة الغالبية ، المقدّس ، المرحوم أبي سعيد فرج ، ابن علم الأعلام ، وحامي حمى الإسلام ، صنو الإمام الغالب ، وظهيره (٧) العليّ المراتب ، المقدّس ، المرحوم أبي الوليد إسماعيل بن نصر ، قدّس الله روحه الطيّب ، وأفاض عليها (٨) غيث رحمته الصيّب ، ونفعه بالجهاد والشهادة ، وحباه (٩) بالحسنى والزيادة ، جاهد في سبيل الله حقّ الجهاد ، وصنع له في فتح البلاد ، وقتل كبار الأعاد (١٠) ، ما يجده مذخورا يوم التناد ، إلى أن قضى الله بحضور أجله ، فختم عمره بخير عمله ، وقبضه إلى ما أعدّ له من كرامته وثوابه ، وغبار الجهاد طيّ أثوابه ، فاستشهد (١١) رحمه الله شهادة أثبتت له في الشّهداء من الملوك قدما ، ورفعت له في أعلام السعادة علما.

__________________

(١) في اللمحة : «ليلة يوم الثلاثاء».

(٢) في اللمحة : «الجنان».

(٣) في اللمحة : «وتنجيدا».

(٤) في اللمحة : «يشذّ عن الوصف».

(٥) في الأصل : «ذي الحسام» والتصويب من اللمحة.

(٦) في اللمحة : «والنّجار».

(٧) في الأصل : «وظهيره المقدس العلي ...» والتصويب من اللمحة.

(٨) في اللمحة : «عليه».

(٩) في الأصل : «وحيّاه» والتصويب من اللمحة.

(١٠) في اللمحة : «كبار ملوك الأعاد».

(١١) في اللمحة : «استشهد».

٢١١

«ولد رضي الله عنه ، في الساعة المباركة بين يدي الصبح من يوم الجمعة سابع عشر شوّال (١) عام سبعة وسبعين وستمائة ، وبويع يوم الخميس السابع والعشرين لشوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة ، واستشهد في يوم الاثنين السادس والعشرين لشهر رجب (٢) عام خمسة وعشرين وسبعمائة. فسبحان الملك الحق ، الباقي بعد فناء الخلق».

وبعده من جهة اللوح الأخير (٣) : [البسيط]

تخصّ قبرك يا خير السلاطين

تحيّة كالصّبا مرّت بدارين

قبر به من بني نصر إمام هدى

عالي المراتب في الدنيا وفي الدين

أبو الوليد ، وما أدراك من ملك

مستنصر واثق بالله مأمون

سلطان عدل وبأس غالب وندى

وفضل تقوى وأخلاق ميامين

لله ما قد طواه الموت من شرف

وسرّ مجد بهذا اللحد مدفون

ومن لسان بذكر الله منطلق

ومن فؤاد بحبّ الله مسكون

أما الجهاد فقد أحيا معالمه

وقام منه بمفروض ومسنون

فكم فتوح له تزهى (٤) المنابر من

عجب بهنّ وأوراق الدواوين

مجاهد نال من فضل الشهادة ما

يجبي عليه بأجر غير ممنون

قضى كعثمان في الشهر الحرام ضحى

وفاة مستشهد في الدار مطعون

في عارضيه غبار الغزو تمسحه

في جنّة الخلد أيدي حورها العين

يسقى بها عين تسنيم (٥) ، وقاتله

مردّد بين زقّوم وغسلين

تبكي البلاد عليه والعباد معا

فالخلق ما بين أحزان أفانين

لكنه حكم ربّ لا مردّ له

فأمره الجزم بين الكاف والنون

فرحمة الله ربّ العالمين على

سلطان عدل بهذا القبر مدفون

بعض ما رثي به : وعظمت (٦) فيه فجيعة المسلمين لما ثكلوا من جهاده وعزمه ، وبلوه من سعده وعزّ (٧) نصره ، فكثرت فيه المراثي ، وتراهنت (٨) في شجوه القرائح ، وبكاه الغادي والرائح. فمن المراثي التي أنشدت على قبره ، قول كاتبه شيخنا

__________________

(١) في اللمحة : «شهر شوّال».

(٢) في اللمحة : «رجب الفرد».

(٣) القصيدة في اللمحة البدرية (ص ٨٨ ـ ٨٩).

(٤) في الأصل : «تزهو» والتصويب من اللمحة.

(٥) في الأصل : «تسليم» والتصويب من اللمحة.

(٦) النص في اللمحة البدرية (ص ٨٩).

(٧) في اللمحة : «وعزّة».

(٨) في اللمحة : «وتراهقت».

٢١٢

أبي الحسن بن الجيّاب (١) : [الطويل]

أيا عبرة العين امزجي الدّمع بالدّم

ويا زفرة الحزن احكمي وتحكّمي

ويا قلب ذب وجدا وغمّا ولوعة

فإنّ الأسى فرض على كل مسلم

ويا سلوة الأيّام لا كنت فابعدي

إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم

وصح بأناة الصبر سحقا تأخري

وقل لشكاة الحزن أهلا تقدّمي

ولم لا وشمس الملك والمجد والهدى

وفتّاح أبواب النّدى والتكرّم

ثوى بين أطباق الثرى رهن غربة

وحيدا وأصمته الليالي بأسهم

على ملك الإسلام فاسمح بزفرة

تساقط درّا بين فذّ وتوأم

على علم الأعلام والقمر الذي

تجلّى بوجه العصر غرّة أدهم

على أوحد الأملاك غير منازع

أصالة أعراق وفضل تقدّم

ومن مثل إسماعيل نور لمهتد

وبشرى لمكروب وعفو لمجرم

وما مثل إسماعيل للبأس والندى

لإصراخ مذعور وإغناء معدم

وما مثل إسماعيل للحرب يجتنى

به الفتح من غرس القنا المتحطّم

وما مثل إسماعيل سهم سعادة

أصاب به الإسلام شاكلة الدم

شهيد سعيد صبّحته شهادة

تبوّأ منها في الخلود التنعم

أتت وغبار الغزو طيّ ثيابه

ظهير أمان من دخان جهنّم

فتبّا لدار لا يدوم نعيمها

فما عرسها إلّا طليعة مأتم

ولا أنسها إلا رهين بوحشة

ولا شهدها إلّا مشوب بعلقم

فيا من يرى الدنيا مجاجة نحلة

ألا فاعتبرها فهي نبتة أرقم

فمن شام منها اليوم برق تبسّم

ففي الغد تلقاه بوجه جهنّم

فضاحكها باك وجذلانها شج

وطالعها هاو ومبصرها عم

وسرّاؤها تفنى وضرّاؤها معا

فكلتاهما طيف الخيال المسلّم

سطت بملوك الأرض من بعد آدم

تبدّد منهم كلّ شمل منظم

فكم من قصير قصّرت شأو عمره

فخرّ صريعا لليدين وللفم

وكم كسرت كسرى وفضّت جيوشه

فلم تحمه منها كتائب رستم

ولو أنها ترعى إمام هداية لأعفت

عليّا من حسام ابن ملجم (٢)

__________________

(١) ورد منها في اللمحة البدرية فقط البيتان الأول والثاني.

(٢) هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، قاتل الإمام علي بن أبي طالب.

٢١٣

وما قتلت عثمان في جوف داره

فقدس من مستسلم ومسلّم

وما أمكنت فيروز (١) من عمر الرّضى

فهدّت من الإسلام أرفع معلم

إلى آخرها. وتضمن إجمال ما ذكر من ذلك ، التاريخ المسمّى ب «قطع السلوك» (٢) المنظوم رجزا من تأليفي بما نصّه : [الرجز]

وعندما خيف انتثار السّلك

ووزر الرّوم وزير الملك

تدارك الأمر الإمام الطّاهر

فعالج الدار طبيب ماهر

وهو أبو الوليد إسماعيل

والشمس لا يفقدها دليل

ابن الرئيس الماجد الهمام

فرد العلا وعلم الأعلام

وجدّه صنو الإمام الغالب

مناقب كالشّهب الثواقب

فقاد من مالقة الجنودا

ونشر الأعلام والبنودا

وعاد نصر بمدى حمرائه

أتى وأمر الله من ورائه

فخلع الأمر وألقى باليد

من بعد عهد موثّق مؤكّد

وسار في الليل إلى وادي الأشى

والملك لله يعزّ من يشا

ولم يزل فيها إلى أن ماتا

وطلّق الدنيا بها بتاتا

واتّسق الأمر وقرّ الملك

وربما جرّ الحياة الهلك

ومن الرجز المذكور في وصف جهاده ومقتله : [الرجز]

وكان يوم المرج في دولته

ففرّق الأعداء من صولته

وفتح المعاقل المنيعه

وابتهجت بعدله الشريعه

وانتبه الدهر له من نومه

على يدي طائفة من قومه

بكى عليه الحرب والمحراب

وندبته الضّمّر العرّاب

إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر (٣)

السلطان الذي احتال على أخيه ، المتوثّب على ملكه ، يكنى أبا الوليد.

__________________

(١) هو أبو لؤلؤة فيروز قاتل الخليفة عمر بن الخطاب.

(٢) هو اسم كتاب ابن الخطيب : «رقم الحلل في نظم الدول».

(٣) معظم هذه الترجمة ورد في اللمحة البدرية (ص ١٢٦ ـ ١٢٩).

٢١٤

حاله : كان صبيّا كما اجتمع وجهه ، بادنا (١) دمث الخلق ، ليّن الجانب ، شديد البياض ، كثيف الحاشية ، متصلا بالجفوة ، لطول الحجبة ، وبعد التمرّن والحنكة ، غرّا ، فاقدا لحسن الأدب ، عريقة ألفاظه في العجمة. تصيّر الأمر إلى أخيه السلطان خيرتهم ولباب بيتهم ، يوم قتل أبوهما ؛ وله مزية السّنّ والرّجاحة والسكنى بمحل وفاة الأب ؛ فأبقى عليه ، وأسكنه بعض القصور لصقه ، ولم يضايق أمّه فيما استأثرت به من بيت المال ، إذ كان إقليده في يدها ، وبيضاؤه وصفراؤه في حكمها ، ورفّه متبوّأه ، واستدعى له ولأخيه المعلم الذي كان السبب في إفاتة إرماقهما ، وإعدام حياتهما ، الشيخ السّفلة محمد البطروجي البائس ، فردّ ذلك السّرب ، فاستمرّت أيام احتجابه وانتظاره على قصره ، إلى رمضان من عام ستّين وسبعمائة. وحرّك سماسرة الفتنة له ولأمّه جواز الطمع في الملك ، ودندنوا لها حتى رقصت على إيقاعهم ، وخفّت إلى مواعدهم ، وشمّروا إلى خلاص الأمر ؛ وأحام الوثبة صهره الرئيس أبو عبد الله ، حلف الشؤم زوج أخته ، محمد بن إسماعيل ، الشهير الكائنة ، المذكور في موضعه من حرف الميم ، فسيّرت إليه أمّه المال ، فبثّه في الدعرة والشرار ، حتى تمّ غرضه ، واقتحم القلعة من بعض أسوارها عند البالية ، وقد هدم منها شيء في سبيل إصلاحه ، ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من عام ستين وسبعمائة ؛ والسلطان ليلتئذ غير حالّ بها ، فملؤوها لجبا ولغطا وصراخا وهولا وتنويرا ، في جملة تناهز المائة ؛ وانضاف إليهم أخوان رأيهم من حرّاسها وسكانها ؛ فألبس الناس ، وسقط في أيديهم. وأهدى الليل فتكتة هائلة ، وأدّاها شنيعة ، فاقتصر كل على النظر لنفسه ، وانقسموا فرقتين ؛ قصدت إحداهما دار كبير الدولة ، وقيّوم التّفويض ، وشيخ رجال الملك رضوان ، المستبدّ بإحالة كورتها ، الشيخ الذّهول ، معزوز القدر ، ورائب النّكتة ، ومعود الإقالة ، وجرّار رسن الأطواد ، وطول الإملا ، الماشي على خدّ الدنيا ، المغضوض البصر عن النّظر ، المستهين بكل سبّة وحيّة تسعى ، المعوّل على نظره ، وقوة سعده وإجابة دعوته ، مع كونه نسيج وحده في عفافه وديانته ، ورضى الناس به ، وسقوط منافستهم من أجله ، ومأويهم على مولّ لفظه ، وبساط معاملته ، وصحة عقده. فعالجوا بابه طويلا وتولّجوا داره ، وقتلوه بين أهله وولده.

وقصدت الأخرى دار الأمير المترجم به ومعها صهره ، فأخرجوه ، وأركبوه على فرس ، راعد الفرائض ، ممتقع اللون ، مختلط القول ، تحفّ به داياته بين مولولة ،

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١٢٦): «بدينا».

٢١٥

وتافلة ومعوّذة ، قد جعلوا به سيفا مصلتا على سبيل اللّواعب بالنّصول والرّواقص ، في مدارج اللهو ؛ واستخرجت طبول الملك فقرعت ، وقيدت الخيل من مرابطها فركبت ، وقصدت الخزائن السلاحية ففرقت ، وتمّ الأمر ، وحلّ من الريب على دار الإمارة القصد ، وخرجت الكتب إلى البلاد والقواعد ، فالتقت باليد أمهاتها لقطع من بها من أولي الأمانة ، بتمام الأمر ، وهلاك السلطان ، فتمّ له الأمر ، وبادر أخوه السلطان لحينه لظهر سابق كان مرتبطا عند مجرّ له من الجنّة لصق القلعة ، فاستأجر الليل ، ووافق الحزم ، فاستقرّ بوادي آش ، وكان أملك بها ، ونازلته المحلّات ، وأخذ بمخنّقه الحصص ، واستنصرت لمنازلته الناس ، وأعملت الحيل ؛ وتأذّن الله بثبوت قدمه ، وانتقاله إلى ملك المغرب صبح عيد النحر من العام المذكور ؛ إلى أن أعاد الله إليه أمره وردّ عليه حقّه ، وتولّى بعد اليأس جبره ، حسبما يذكر في موضعه ، إن شاء الله.

وخلا الجو لهذا الأمير المضعوف ، واستولى على أريكة الملك الأغمار وأولو البطالة ، وأولياء صهره الرئيس ، خاطبها له ابتداء ثم ناقلها إلى نفسه انتهاء ، وحاملها إلى غايته درجا ، وإلى إعاقته سلّما ؛ وهو ما هو من غشّ الحبيب ، وسوء العقد ، ودخل السريرة ، واستيطان المكروه ، فأغرى منه بالعهد نفسا مطاوعة للشهوة ، متبرّمة بالامتحان والخلوة ، بريّة من نور العلم وتهذيب الحكمة ، ناشئة بين أخابيث القسوة ، جانية أماني الشهوة والمخالفة ، مضادّة للفلاح ، حايدة عن سبيل النجاة ، بمحل اغتراب عن النّصحاء ، وانتباذ عن مقاعد الأحرار ؛ فجرى طلق الجموح في التخلّف ، حتى كبا لفيه ويديه ، وأعان نسمة السوء الرئيس على نفسه ؛ وقد كان اصطنع الرجال ، واستركب أولي البسالة ، وأسالف الدّعرة ؛ واختصّ في سبيل خدمته والذبّ عنه ، بالبؤساء والمساعير ، يشركهم في الأكلة ، ويصافيهم النعمة. وأظلم ما بينهما ، فحذر كلّ جانب أخيه ، إلّا أن المهين كا أضعف من أن يستأثر بخطة المعالجة ، ويهتدي إلى سبيل الحزم. وفي عشيّ يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر شعبان ، شارفه من مكمن غدره الرّحب بجوار قصره ، وارتبط به الخيل واستكثر من الحاشية ، وأخفى المساعير ، وداخل الموروري المشؤوم على الدولة ، فبادر رجاله سدّ الأبواب ، وانخرط في جملة أوباشه من باب السلطان ، من الرّجل لنظر ممالئه في العناء ، وعونه على الهول الموروري ، فأحاط به ، وقد بادر الاعتصام بالمصنع ثاني الصرح المنسوب إلى هامان سموّا ونفالا في السّكاك (١) وسعة ذرع. وبعدما رقي وصرخ بالناس ،

__________________

(١) السّكاك : الهواء الملاقي عنان السماء ، والسماء. محيط المحيط (سكك).

٢١٦

يناشدهم الذّمام ، فخفّ إليه منهم الكثير ، وتراكموا بالطريق تحته ، وتولّى استنزاله عن سويّه مملوك أبيه ، العلج المخذول عبّاد ، وقد تحصّل في قبضته الغادر ، فقتل له في الغارب والذّروة ، ووعده الحياة ، فنزل عن أمان فسحة الغدر الصّراح ، والوفاء المستباح. ولحين استهاله ، أمر نقله إلى المطبق ، فقيد مختبلا كثير الضراعة ، إلى الأريّ (١) لصق قصره ، وتعاورته السيوف ، وألحق به صغيره قيس ، استخرج من بعض الخزائن ، وقد جهدت أمّه في إخفائه ؛ فمضى لسبيله ، وطرح رأسه على الرّعاع المجيبين لندائه ، فانفضّوا لحينه ، وبقي مطروحا موارى بحلس (٢) دابّة من دواب الظهر ، إلى يوم بعده ، فووري هو وأخوه بمقربة من مدفن أبيهما ، فكان من أمرهما عبرة. وقد استوفى ذلك الكتاب المسمى ب «نفاضة الجراب» من تأليفنا.

وزراء دولته : قدّم للوزارة عشية (٣) يوم ولايته ، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري ، بطالع الشؤم ، ونعبة النحس. عهد بالطبيب الإسرائيلي الحبري العظيم المهارة في الفن النجومي ، إبراهيم بن زرزار ، يتطاير بتلك الولاية بكون النّحس الأعظم في درجة طالعها ، جذوا انفرد بنحز أديمه الجهّالة ، المعدودون في البهم والهمج ، الذين لا يعبأ الله بهم ؛ فكان الخبر وفوق الخبر ، فلم ير في الأندلس وزارة أثقل وطأة ، ولا أخبث عهدا ، ولا أعظم شرها ، ولا أكثر حجرا منها. ثم كانت عاقبتهما أنهما في النار خالدان فيها ، وذلك جزاء الظالمين من رجل حبركى (٤) ، كمد اللون ، تنطف سحنته مرّة وسمّا ، غائر العين ، مطأطئ الرأس ، طرف في الحقد والطمع وعيّ المنطق وجمود الكفّ ، معدن من معادن الجهل ، مثل في الخيانة ؛ تناول الأمر مزاحما فيه بالرئيس المتوثّب ، وابن عمّ نفسه ، الغادر ، الضخم الجرارة ، بالوعث المهين ، وثور النقل ، وثعبان الفواكه ، وصاعقة الأخونة (٥) ، ووكيل الدولة المنحطّ عن خلالهم بالأبوّة والنشأة ؛ فجرت أمورها أسوأ مجاريها ، إلى أن كان ما أذن الله به ، من مداخلة الرئيس الغادر ، على قتل أميره المسكين المهين ، مقلّده أنوه الرّتب ، وتاركه وخطة الخيانة ؛ ثم أخذه الأخذة الرابية بيد من أمدّه في الغيّ ، وظاهره في الخزي ؛ فجعله نكالا لما بين يديه وما خلفه ، وموعظة للمتّقين ، حسبما يأتي في اسمه ، بحول الله تعالى.

__________________

(١) الأريّ : محبس الدواب. لسان العرب (أري).

(٢) الحلس : كساء تجلّل به الدابّة تحت البردعة. لسان العرب (حلس).

(٣) في اللمحة البدرية (ص ١٢٧): «عشيّ».

(٤) الحبركى : الغليظ الرقبة والضعيف الرّجلين كأنه مقعد لضعفهما. لسان العرب (حبرك).

(٥) الأخونة : جمع خوان وهو المائدة. لسان العرب (خون).

٢١٧

كاتبه : واستعمل في الكتابة صاحبنا الرجل الأخرق ، الطّوال ، الأهوج ، البريّ من الخلال الحميدة ، إلّا ما كان من وسط الخط وسوقيّ السجع ، والدرك الأسفل من النظم ، عبد الحق (١) بن محمد بن عطية المحاربي ، الآتي ذكره (٢). وهو الذي أفرده الله ، جلّ جلاله ؛ بالغاية البعيدة من مجال سوء العهد ؛ وقلّة الوفاء. وتولّى القضاء أبو جعفر (٣) أحمد بن أبي القاسم بن جزي أياما ، ثم شهّر به قوم من الفقهاء منافسيه ، ورشقوه بما أوجب صرفه ؛ وقدّم للقضاء الشيخ المسنّ ، الطويل السّباحة في بحر الأحكام ، المفري الودجين والحلقوم بسكّين القضاء ، المنبوز (٤) بالموبقات فيه ، تجاوز الله عنه ، سلمون بن علي بن سلمون. وشيخ الغزاة على عهده ، يحيى بن عمر بن عبد الله بن عبد الحق ، شيخ الغزاة لأخيه ، أصبح يوم الكائنة في قياده ، ونصح له فأمر له ؛ وضاعف برّه.

الملوك على عهده

مولده : في يوم الاثنين الثامن والعشرين لربيع الأول من عام أربعين وسبعمائة.

وفاته : حسبما تقرّر آنفا في يوم الأربعاء السابع والعشرين لشعبان من عام أحد وستين وسبعمائة.

أبو بكر بن إبراهيم ، الأمير أبو يحيى المسوفي الصحراوي (٥)

من أمراء المرابطين ، صهر علي بن يوسف بن تاشفين ، زوج أخته ، وأبو ولده منها يحيى ، المشهور بالكرم.

أوّليّته : معروفة تستقرأ عند ذكر ملوكهم.

حالهم : كان مثلا في الكرم ، وآية في الجود ، أنسى أجواد الإسلام والجاهلية إلى الغاية ؛ في الحياء والشجاعة والتّبريز في ميدان الفضائل. استوزر الوزير الحكيم الشهير أبا بكر بن الصائغ ، واختصّه ؛ فتجمّلت دولته ونبه قدره. وأخباره معه شهيرة.

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١٢٧): «الفقيه أبو محمد عبد الحق بن أبي القاسم بن عطية المحاربي».

(٢) ستأتي ترجمته في الجزء الثالث من الإحاطة.

(٣) في اللمحة البدرية (ص ١٢٨): «الفقيه أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزي».

(٤) المنبوز : المعروف ، المشهور.

(٥) أخبار أبي بكر بن إبراهيم ، المشور بابن تيفلويت ، صاحب سرقسطة ، في البيان المغرب (ج ٤ ص ٦١) والمغرب (ج ١ ص ٦١) و (ج ٢ ص ١١٩) ، والحلة السيراء (ج ٢ ص ٢٧٦). والمسوفي : نسبة إلى مسوفة وهي قبيلة بربرية من بطون صنهاجة.

٢١٨

ولايته : ولّي غرناطة سنة خمسمائة. ثم انتقل منها إلى سرقسطة عند خروج المستعين بن هود إلى روطة (١) ، فأقام بها مراسم الملك ، وانهمك في اللذّات ، وعكف على المعاقرة ، وكان يجعل التّاج بين ندمائه ، ويتزيّا بزيّ الملوك ، إلى أن هلك بها تحت مضايقة طاغية الروم المستولي عليها بعد.

خروجه من الصحراء : قال المؤرّخ : كان أبو بكر هذا رئيسا على بعض قبيله في الصحراء ، وكان ابن عمّه منفردا بالتدبير ؛ فاتفق يوما أن دخل على ابن عمّه في خبائه ، وزوج ابن عمّه تمتشط في موضع قريب من الخباء ؛ فاشتغلت نفس أبي (٢) بكر بالمرأة لحسنها وجمالها ، فحين دخل قال لابن عمّه : فلانة تريد الوصول إليك ؛ وإنما قصد الاستئذان لرجل من أصحابه ، فنطق باسم المرأة لشغل باله بها ، فقال له ابن عمّه بعد طول صمت وفكرة ، وقد أنكر ذلك : عهدي بهذا الشخص لا يستأذن علينا. فرجع عقله ، وثاب لبّه ، وعلم قدر ما من القبيح وقع فيه ، فخرج من ذلك المجلس ، وركب جمله ، وهان عليه مفارقة وطنه من أجل العار ، واستصحب نفرا قليلا من أصحابه على حال استعجال ، ورحل ليلا ونهارا ، حتى وصل سجلماسة (٣) أولي عمالات علي بن يوسف ابن عمّه ؛ واتصل به قدومه ، فأوجب حقّه ، وعرف قدره ، وعقد له على أخته ، وولّاه على سرقسطة دار ملك بني هود بشرق الأندلس ، بعد ولاية غرناطة.

نبذة من أخباره في الكرم : قالوا : لمّا حلّ بظاهر سجلماسة ، مجهول الوفادة ، خافي الأمر ، نزل بظلّ نخلة بظاهرها ، لا يعرف أحدا ولا يقصده ، فجاء في ذلك الموضع رجل حداد فقراه (٤) بعنز كان عنده ، وتعرّف له ، وأبو بكر يستغرب أمره ؛ فلمّا فرغوا من أكلهم ، قال للحداد : ألا تصحبنا لموضع أملنا ، وتكون أحد إخواننا ، حتى تحمد لقاءنا؟ فأجابه ؛ وصحبه الحداد ، وخدمه ، فلمّا قربوا من مرّاكش ، استأذن أبو بكر عليّ بن يوسف بن تاشفين ، وأعلمه بنفسه ، فأخرج له عليّ بن يوسف فرسا من عتاق خيله ، وكسوة من ثيابه وألف دينار ، فأمر أبو بكر بدفعها للحداد ، فبهت

__________________

(١) روطة ، بالإسبانيةRueda ؛ وهي معقل أو حصن أو ثغر كان قد لجأ إليه صاحب سرقسطة عماد الدولة عبد الملك بن أحمد بن المؤتمن بن المقتدر بن هود ، عندما أخرجه أهل سرقسطة من مدينتهم واستدعوا عامل علي بن يوسف بن تاشفين سنة ٥٠٣ ه‍. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ١٧٥) ، والمغرب (ج ٢ ص ٤٢٨).

(٢) في الأصل : «أبو» وهو خطأ نحوي.

(٣) سجلماسة : مدينة في جنوب المغرب في طرق بلاد السودان. آثار البلاد (ص ٤٢).

(٤) قراه : أضافه وأكرمه. لسان العرب (قرا).

٢١٩

الحداد ؛ وانصرف الرسول موجّها إلى مرسله فأخبره بما عاين من كرمه وفعله ، فأعاده إليه في الحين بفرس أخرى ، وكسى كثيرة ، وآلاف من المال ، فلمّا دخل مرّاكش ، ولقي عليّ بن يوسف وأنزله ، أنزل الحداد مع نفسه في بيت واحد ، وشاركه في الأموال التي توجّه بها ، فانصرف يجرّ وراءه دنيا عريضة.

ولمّا ملك سرقسطة (١) ، اختصّ الوزير الحكيم أبا بكر بن الصائغ ، ولطف منه محلّه. ذكر أنه غاب يوما عنه وعن حضور مجلسه بسرقسطة ، ثم بكر من الغد ، فلمّا دخل قال له : أين غبت يا حكيم عنّا؟ فقال : يا مولاي ، أصابتني سوداء واغتممت ، فأشار إلى الفتى الذي كان يقف على رأسه ، وخاطبه بلسان عجمي (٢) ، فأحضره طبقا مملوءا مثاقيل محشمة ، وعليها نوادير ياسمين ، فدفعه كلّه إليه ، فقال ابن باجة : يا مولاي ، لم يعرف جالينوس من هذا الطّب ، فضحك.

وذكر أنه أنشد شعرا في مدحه ، وقد قعد للشراب ، فاستفزّه الطرب ، وحلف أن لا يمشي إلّا من فوق المال إلى منزله في طريقه ، فالتمس الخدّام برنسه بأن كانوا يطرحون من المال شيئا له خطر ، على أوعيته حتى يغمرها ، فيمشي خطوا إلى أن وصل إلى منزله ؛ وحسد الحكيم أصحابه ، ولم يقدروا على مطالبته. واتفق أن سار الأمير أبو بكر ، وأمر أصحابه بالتأهّب والاستعداد ، فاستعدّ ابن باجة ، واتخذ الأقبية والأخبية ، واستفره الجياد من بغال الحمولة ، فكانت له منها سبعة صفر الألوان ، حمل عليها الثياب والفرش والمال ؛ فلمّا نزل الأمير بمقرّه ، مرّت عليه البغال المذكورة في أجمل الهيئات ، فقال لجلسائه : لمن هذه البغال؟ ومن يكون من رجالنا هذا فأصابوا العزّة؟ فقالوا : هي للحكيم ابن الصائغ ، صاحب سرقسطة ، وليعلم مولانا أنّ في وسط كل حمل منها ألف دينار ذهبا سوى المتاع والعدّة ؛ فاستحسن ذلك. وقال : أهذا حقّ؟ قالوا : نعم ، فدعا الخازن على المال ، وقال له ادفع لابن باجة خمسة آلاف دينار ليكمل له ذلك اثني عشر ألفا ، فقد سمعته غير ما مرة يتمنّى أن يكون له ذلك ؛ ثم بعث عنه في الحين وقال له : يا حكيم ، ما هذا الاستعداد ، فقال له : يا مولاي ، كل ذلك من هباتكم وأعطياتكم ، ولما علمت أن إظهار ذلك يسرّكم ، فسرّ بذلك. وأخباره رحمه الله كثيرة.

محنته : قالوا : ولمّا ولّي غرناطة سنة خمسمائة ، ثار بها ، وانبرى على قومه لأمر رابه ، فانتبذ عنه قومه ، وناصبوه الحرب ، حتى استنزلوه عنوة ، وقبضوا عليه ،

__________________

(١) ملكها سنة ٥١٠ ه‍ ، كما جاء في البيان المغرب (ج ٤ ص ٦١).

(٢) في الأصل : «عجمية».

٢٢٠