الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

أخوه الأمير أبو زكريا مقعده ، وأخذ بيعة الجند والخاصّة لنفسه ، مستبدّا بأمره ، ورحل إلى تونس ، فأخذ بيعة العامّة ، وقتل السّيد الذي كان بقصبتها ؛ وقبض أهل بجاية حين بلغهم الخبر على واليها السّيد أبي عمران ، فقتلوه تغريقا ؛ وانتظمت الدولة ، وتأثّل الأمر. وكان حازما داهية مشاركا في الطّلب ، أديبا راجح العقل ، أصيل الرأي ، حسن السياسة ، مصنوعا له ، موفقا في تدبيره ؛ جبى الأموال ، واقتنى العدد ، واصطنع الرجال ، واستكثر من الجيش ، وهزم العرب ، وافتتح البلاد ، وعظمت الأمنة بينه وبين الخليفة بمراكش الملقّب بالسّعيد. وعزم كلّ منهما على ملاقاة صاحبه ، فأبى القدر ذلك ؛ فكان من مهلك السعيد بظاهر تلمسان ما هو معروف. واتصل بأبي زكريا هلك ولده وليّ العهد أبي يحيى ببجاية ، فعظم عليه حزنه وأفرط جزعه ، واشتهر من رثائه فيه قوله : [الطويل]

ألا جازع يبكي لفقد حبيبه

فإني لعمري قد أضرّ بي الثّكل

لقد كان لي مال وأهل فقدتهم

فهأنا لا مال لديّ (١) ولا أهل

سأبكي وأرثي حسرة لفراقهم

بكاء قريح لا يملّ ولا يسلو (٢)

فلهفي ليوم فرّق الدهر بيننا

ألا فرج يرجى فينتظم الشّمل؟

وإني لأرضى بالقضاء وحكمه

وأعلم ربّي أنه حاكم عدل

نسبه ابن عذاري المراكشي في البيان المغرب (٣). واعتلّ بطريقه فمات ببلد العنّاب لانقضاء أربعة من مهلك السعيد ؛ وكان موت السعيد ؛ يوم الثلاثاء ، منسلخ صفر سنة ست وأربعين وستمائة. وبويع ولده الأمير أبو عبد الله بتونس وسنّه إحدى وعشرين سنة ، فوجد ملكا مؤسّسا ، وجندا مجنّدا ، وسلطانا قاهرا ومالا وافرا ؛ فبلغ الغاية في الجبروت والتّيه والنّخوة والصّلف ، وتسمّى بأمير المؤمنين ، وتلقّب بالمستنصر بالله ؛ ونقم عليه أرباب دولته أمورا أوجبت مداخلة عمّه أبي عبد الله بن عبد الواحد ، المعروف باللّحياني. ومبايعته سرّا بداره ، وانتهى الخبر للمستنصر ، فعاجل الأمر قبل انتشاره برأي الحزمة من خاصّته ، كابن أبي الحسين ، وأبي جميل بن أبي الحملات بن مردنيش ، وظافر الكبير ، وقصدوا دار عمّه فكبسوها ، فقتلوا من كان بها ، وعدّتهم تناهز خمسين ، منهم عمّه ، فسكن الإرجاف ، وسلم المنازع ، وأعطت

__________________

(١) في الأصل : «... لديّ أهل ولا أهل». وهكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.

(٢) في الأصل : «ولا يسل».

(٣) نسب أبي عبد الله الناصر لدين الله محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٣٦).

١٦١

مقادها ، واستمرّت أيّامه. وأخباره في الجود والجرأة والتّعاظم على ملوك زمانه ، مشهورة. وكانت وفاته سنة أربع وسبعين وستمائة وولي أمره بعده ابنه الملقّب بالواثق بالله ، وكان مضعوفا ، ولم تطل مدته.

عاد الحديث ، وكان عمّه المترجم ، لمّا اتصل به مهلك أخيه المستنصر ، قد أجاز البحر من الأندلس ، ولحق بتلمسان ، وداخل كثيرا من الموحّدين بها ، كأبي هلال ، فهيّأ له أبو هلال تملّك بجاية ، ثم تحرّك إلى تونس ، فتغلّب عليها ، فقتل الواثق وطائفة من إخوته وبنيه ، منهم صبيّ يسمّى الفضل ، وكان أنهضهم ، واستبدّ بالأمر ، وتمّت بيعته بإفريقية ، وكان من الأمر ما يذكر.

حاله : كان أيّدا (١) ، جميلا وسيما ، ربعة بادنا ، آدم اللون ، شجاعا بهمة ، عجلا غير مراخ ، ولا حازم ، منحطّا في هوى نفسه ، منقادا للذّته ، بريئا من التشمّت في جميع أمره. وولي الخلافة في حال كبره ، ووخطه الشيب ، وآثر اللهو ، حتى زعموا أنه فقد فوجد في مزرعة باقلا مزهرة ألفي فيها بعد جهد ، نائما بينها ، نشوان يتناثر عليه سقطها ؛ واحتجب عن مباشرة سلطانه ؛ فزعموا أن خالصته (٢) أبا الحسن بن سهل ، داخل الناس بولده أبي فارس في خلعه ، والقيام مكانه ، وبلغه ذلك ، فاستعدّ وتأهّب ، واستركب الجند ، ودعا ولده ، فأحضره ينتظر الموت من يمينه وشماله ، وأمر للحين فقتل وطرح بأزقّة المدينة ، وعجّل بإزعاج ولده إلى بجاية ، وعاد إلى حاله.

دخوله غرناطة : قالوا : ولمّا أوقع الأمير المستنصر بعمّه أبي عبد الله ، كان أخوه أبو إسحاق ، ممّن فرّ بنفسه إلى الأندلس ؛ ولجأ إلى أميرها أبي عبد الله بن الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر ، ثاني ملوكهم (٣) فنوّه به ، وأكرم نزله ، وبوّأه بحال عنايته ، وجعل دار ضيافته لأول نزوله القصر المنسوب إلى السّيد (٤) خارج حضرته ،

__________________

(١) الأيّد : القوي. لسان العرب. (أيد).

(٢) الخالصة هنا : الصفيّ وموضع الثقة. لسان العرب (خلص).

(٣) هو محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، وقد حكم غرناطة من سنة ٦٧١ ه‍ إلى سنة ٧٠١ ه‍. ترجمته في اللمحة البدرية (ص ٥٠) وسترد له ترجمة إضافية في هذا الجزء من الإحاطة.

(٤) هو أبو إسحاق بن يوسف الموحدي ، ولّي غرناطة سنة ٦١٥ ه‍ ، وبنى قصرا خارج مدينة غرناطة عرف باسمه. وفي عصر بني نصر استعمل هذا القصر للضيافة. وما يزال حتى يومنا هذا بعض منه وقد زرته غير مرة ، وهو عبارة عن بهو مربع ذي قبة عالية على جوانبها شعار بني نصر : «لا غالب إلّا الله».

١٦٢

وهو آثر قصوره لديه ، وحضر غزوات أغزاها ببلاد الروم ، فظهر منه في نكاية العدو وصدامه سهولة وغناء.

ولمّا اتصل به موت أخيه تعجّل الانصراف ، ولحق بتلمسان ، وداخل منها كبيرا من الموحّدين ، يعرف بأبي هلال بباجة كما تقدم ، فملّكه أبو هلال منها بجاية ، ثم صعد تونس فملكها ، فاستولى على ملك ابن أخيه وما ثمّ من ذمّه ، وارتكب الوزر الأعظم فيمن قتل معه ، وكان من أمره ما يأتي ذكره إن شاء الله.

إدبار أمره بهلاكه على يد الدّعيّ الذي قيّضه الله لهلاك حينه :

قالوا : واتّهم بعد استيلائه على الأمر فتى من أخصّاء فتيان المستنصر ؛ اسمه نصير ، بمال وذخيرة ؛ وتوجّه إليه طلبه ، ونال منه. وانتهز الفتى فرصة لحق فيها بالمغرب واستقرّ بحلال المراعمة من عرب دبّاب ، وشارع الفساد عليه ، بجملة جهده ، حريصا على إفساد أمره ، وعثر لقضاء الله وقدره بدعيّ من أهل بجاية يعرف بابن أبي عمارة.

حدّثني الشيخ المسنّ الحاج أبو عثمان اللّواتي من عدول المياسين ، متأخر الحياة إلى هذا العهد ؛ قال : خضت مع ابن أبي عمارة ببعض الدكاكين بتونس ، وهو يتكهّن لنفسه ما آل إليه أمره ، ويعدّ بعض ما جرى به القدر. وكان أشبه الخلق بأحد الصبية الذين ماتوا ذبحا ، بالأمير أبي إسحاق ، وهو الفضل ، فلاحت لنصير وجه حيلته ، فبكى حين رآه ، وأخبره بشبهه بمولاه ، ووعده الخلافة ؛ فحرّك نفسا مهيّأة في عالم الغيب المحجوب إلى ما أبرزته المقادر ، فوجده منقادا لهواه ، فأخذ في تلقينه ألقاب الملك ، وأسماء رجاله ، وعوائده ، وصفة قصوره ، وأطلعه على إمارات جرت من المستنصر لأمراء العرب سرّا كان يعالجها نصير ، وعرضه على العرب ، بعد أن أظهر العويل ، ولبس الحداد ، وأركبه ، وسار بين يديه حافيا ، حزنا لما ألفاه عليه من المضيعة ، وأسفا لما جرى عليه ، فبايعته العرب النافرة ، وأشادوا بذكره ، وتقوّوا بما قرّره من إمارته ؛ فعظم أمره ، واتصل بأبي إسحاق نبأه فبرز إليه ، بعد استدعاء ولده من بجاية ، فالتقى الفريقان ، وتمّت على الأمير أبي إسحاق الهزيمة ، واستلحم الكثير ممّن كان معه ؛ وهلك ولده ، ولجأ أخوه الأمير أبو حفص لقلعة سنان ، وفرّ هو لوجهه ؛ حتى لحق ببجاية ؛ وعاجله ابن أبي عمارة ؛ فبعث جريدة من الجند لنظر أشياخ من الموحّدين ، أغرت إليهم الإيقاع ، فوصلت إلى بجاية ، فظن من رآه من الفلّ المنهزم ، فلم يعترضه معترض عن القصبة. وقبض على الأمير أبي إسحاق ، فطوّقه الحمام ، واحتزّ رأسه ، وبعث إلى ابن أبي عمارة به ، وقد دخل تونس ، واستولى على ملكها ،

١٦٣

وأقام سنين ثلاثة ، أو نحوها في نعماء لا كفاء له ، واضطلع بالأمر ، وعاث في بيوت أمواله ، وأجرى العظائم على نسائه ورجاله إلى أن فشا أمره ، واستقال الوطن من تمرّته فيه ؛ وراجع أرباب الدولة بصائرهم في شأنه ، ونهد إليه الأمير أبو حفص طالبا بثأر أخيه ، فاستولى ، ودحض عاره ، واستأصل شأفته ، ومثل به ؛ والملك لله الذي لا تزن الدنيا جناح بعوضة عنده.

وفي هذا قلت عند ذكر أبي حفص في الرجز المسمّى ب «نظم (١) الملوك» ، المشتمل على دول الإسلام أجمع ، على اختلافها إلى عهدنا ، فمنه في ذكر بني حفص : [الرجز]

أوّلهم يحيى بن عبد الواحد

وفضلهم ليس له من جاحد

وهو الذي استبدّ بالأمور

وحازها ببيعة الجمهور

وعظمت في صقعه آثاره

ونال ملكا عاليا مقداره

ثم تولّى ابنه المستنصر

وهو الذي علياه لا تنحصر

أصاب ملكا رئيسا أوطانه

وافق عزّا ساميا سلطانه

ودولة أموالها مجموعه

وطاعة أقوالها مسموعه

فلم تخف من عقدها انتكاثا

وعاث في أموالها عياثا

هبّت بنصر عزّه الرياح

وسقيت بسعده الرّماح

حتى إذا أدركه شرك الرّدى

وانتحب النّادي عليه والنّدى

قام ابنه الواثق بالتّدبير

ثم مضى في زمن يسير

سطا عليه العمّ إبراهيم

والملك في أربابه عقيم

وعن قريب سلب الإماره

عنه الدعيّ ابن أبي عماره

عجيبة من لعب الليالي

ما خطرت لعاقل ببال

واخترم السيف أبا إسحاقا

أبا هلال لقي المحاقا

واضطربت على الدّعي الأحوال

والحق لا يغلبه المحال

ثم أبو حفص سما عن قرب

وصيّر الدّعي رهين التّرب

ورجع الحق إلى أهليه

وبعده محمد يليه

__________________

(١) المراد كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» وهو لابن الخطيب ، وقد تقدم ذكره في غير مكان.

١٦٤

وهذه الأمور تستدعي الإطالة ، مخلّة بالغرض ، ومقصدي أن أستوفي ما أمكن من التواريخ التي لم يتضمنها ديوان ، وأختصر ما ليس بقريب ، والله وليّ الإعانة بمنّه.

إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد

ابن سهل بن مالك بن أحمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي

يكنى أبا إسحاق.

أوّليّته : منزل جدّهم الداخل إلى الأندلس قرية شون (١) من عمل ، أو قيل من إقليم إلبيرة. قال ابن البستي : بيتهم في الأزد ، ومجدهم ما مثله مجد ، حازوا الكمال ، وانفردوا بالأصالة والجلال ، مع عفّة وصيانة ووقار ، وصلاح وديانة ، نشأ على ذلك سلفهم ، وتبعهم الآن خلفهم. وذكرهم مطرّف بن عيسى في تاريخه (٢) ، في رجال الأندلس. وقال ابن مسعدة (٣) : وقفت على عقد قديم لسلفي ، فيه ذكر محمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي ، وقد حلّي فيه بالوزير الفقيه أبي أحمد بن الوزير الفقيه أبي عمرو إبراهيم. وتاريخ العقد سنة ثلاث وأربعمائة ، فناهيك من رجال تحلّوا بالجلالة والطهارة منذ أزيد من أربعمائة سنة ، ويوصفون في عقودهم بالفقه والوزارة منذ ثلاثمائة سنة ، في وقت كان فيه هذا المنصب في تحلية الناس ، ووصفهم ، في نهاية من الضّبط والحرز ، بحيث لا يتّهم فيه بالتّجاوز لأحد ، لا سيما في العقود ، فكانوا لا يصفون فيه الشخص إلّا بما هو الحقّ فيه والصدق ، وما كان قصدي في هذا إلّا أن شرفهم غير واقف عليه ، أو مستند في الظهور إليه ، بل ذكرهم على قديم الزمان شهير وقدرهم خطير.

قلت : ولمّا عقد لولدي عبد الله أسعده الله ، على بنت الوزير أبي الحسن بن الوزير أبي الحسن القاسم بن الوزير أبي عبد الله بن الفقيه العالم الوزير ، حزم فخارهم ، ومجدّد آثارهم ، أبي الحسن سهل بن مالك ، خاطبت شيخنا أبا البركات بن

__________________

(١) شون : بالإسبانيةJun ، وتقع شمال غرناطة.

(٢) هو أبو القاسم مطرف بن عيسى بن لبيب بن محمد بن مطرف الغساني الإلبيري الغرناطي ، من قضاة الأندلس وأدبائها ومؤرّخيها. توفي سنة ٣٥٦ ه‍ وقيل : ٣٥٧ ه‍. من مؤلفاته «فقهاء إلبيرة» و «شعراء إلبيرة» و «أنساب العرب النازلين في إلبيرة وأخبارهم». تاريخ علماء الأندلس (ص ٨٣٧) ، وبغية الوعاة (ص ٣٩٢) ، والأعلام (ج ٧ ص ٢٥٠).

(٣) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن مسعدة العامري ، وقد سبق وترجم له ابن الخطيب في هذا الجزء.

١٦٥

الحاجّ ، أعرض ذلك عليه ، فكان من نصّ مراجعته : فسبحان الذي أرشدك لبيت السّتر والعافية والأصالة ، وشحوب الأبرار ، قاتلك الله ما أجلّ اختيارك. وخلف هذا البيت الآن على سنن سلفهم من التحلّي بالوزارة ، والاقتياد من العظمة الزاكية ، والاستناد القديم الكريم ، واغتنام العمر بالنّسك ، عناية من الله ، اطّرد لهم قانونها ، واتصلت عادتها ، والله ذو الفضل العظيم.

حاله : كان من أهل السرّ والخصوصيّة ، والصّمت والوقار ، ذا حظّ وافر من المعرفة بلسان العرب ، ذكيّ الذّهن ، متوقّد الخاطر ، مليح النادرة ، شنشنته معروفة فيهم. سار بسيرة أبيه ، وأهل بيته ، في الطهارة والعدالة ، والعفاف والنّزاهة.

وفاته (١) : ....

إبراهيم بن فرج بن عبد البر الخولاني

من أهل قرطبة ، يكنى أبا إسحاق ، ويعرف بابن حرّة.

أوّليّته : من أهل البيوتات بالحضرة ، ولي أبوه القهرمة لثاني (٢) الملوك من بني نصر ، فتأثّل مالا ونباهة.

حاله : هذا الرجل من أعيان القطر ، ووزراء الصّقع ، وشيوخ الحضرة ، أغنى هذه المدرة يدا ، وأشغلهم بالعرض الأدنى نفسا ، تحرّف بالتّجر المربوب في حجر الجاه ، ونما ماله ، تحاط به الجدات ، وتنمو الأموال ، ففار تنّورها ، وفهق حوضها ، كثير الخوض في التصاريف الوقتية ، والأدوات الزمانية ، وأثمان السلع ، وعوارض الأسعار ، متبجّح بما ظهرت به يده من علق مضنّة هرى المدينة ، الذي ينفق على أسواقها ، عند ارتفاع القيم ، وتمييز الأسعار ، وبلوغها الحدّ الذي يراه كفؤ حبّته ، ومنتهى ثمن غلّته. غرق الفكر ، يخاطب الحيطان والشّجر والأساطين ، محاسبا إياها على معاملات وأغراض فنيّة ، يري من التلبّس شيئا من المعارف والآداب والصنائع ، وحجة من الحجج في الرّزق. تغلب عليه السّذاجة والصحّة ، دمث ، متخلّق ، متنزّل ، مختصر الملبس والمطعم ، كثير التبذّل ، يعظم الانتفاع به في باب التوسعة بالتسلّف

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) ثاني سلاطين بني نصر هو محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، وقد حكم غرناطة من سنة ٦٧١ ه‍ إلى سنة ٧٠١ ه‍. ترجمته في اللمحة البدرية (ص ٥٠) وسترد ترجمته في هذا الجزء من الإحاطة.

١٦٦

والمداينة ، حسن الخلق ، كثير التجمّل مبتلى بالموقب والطّانز (١) ، يسمع ذي القحة ، ويصمّ على ذوي المسألة.

ظهوره وحظوته : لبس الحظوة شملة ، لم يفارق طوقها رقبته ، إذ كان صهرا للمتغلب على الدولة أبي عبد الله بن المحروق (٢) ، صار بسهم في جذور خطته ، وألقى في مرقة حظوته ، مشتملا على حاله ، بعباءة جاهه. ثم صاهر المصيّر الأمر إليه بعده القائد الحاجب أبا النعيم رضوان ، مولى الدولة النصرية ، وهلمّ جرّا ، بعد أن استعمل في السّفارة إلى العدوة وقشتالة ، في أغراض تليق بمبعثه ، مما يوجب فيه المياسير والوجوه ، مشرّفين معزّزين بمن يقوم بوظيفة المخاطبة والجواب ، والردّ والقبول. وولّي وزارة السلطان ، لأول ملكه في طريق من ظاهر جبل الفتح إلى حضرته ، وأياما يسيرة من أيام اختلاله ، إلى أن رغب الخاصّة من الأندلسيين في إزالته ، وصرف الأمر إلى الحاجب المذكور الذي تسقّط مع رئاسته المنافسة ، وترضّى به الجملة.

محنته : وامتحن هو وأخوه ، بالتّغريب إلى تونس ، عن وطنهما ، على عهد السلطان الثالث من بني نصر (٣). ثم آب عن عهد غير بعيد ، ثم أسن واستسرّ أديمه ، وضجر عن الركوب إلى فلاحته التي هي قرّة عينه ، وحظّ سعادته ، يتطارح في سكّة المتردّدين بإزاء بابه ، مباشر الثّرى بثوبه ، قد سدكت (٤) به شكاية شائنة ، قلّما يفلت منها الشيوخ ، ولا من شركها ، فهي تزفه بولاء ، بحال تقتحمها العين شعثا ، وبعدا عن النظر ، فلم يطلق الله يده من جدته على يده ، فليس في سبيل دواء ولا غذاء إلى أن هلك.

وفاته : في وسط شوّال عام سبعة وخمسين وسبعمائة.

مولده : في سنة خمس وسبعين وستمائة.

__________________

(١) الموقب : اسم فاعل أوقب ، وهو القادح الذي يذمّ الآخرين. والطانز : الذي يسخر من الآخرين. لسان العرب (وقب) و (طنز).

(٢) هو محمد بن أحمد بن محمد بن المحروق ؛ تولى الوزارة لسلطان غرناطة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري عام ٧٢٥ ه‍ ، ثم قتل بأمر السلطان المذكور عام ٧٢٩ ه‍. اللمحة البدرية (ص ٩٤).

(٣) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، الملقّب بالمخلوع ، وقد حكم غرناطة من سنة ٧٠١ ه‍ حتى سنة ٧٠٨ ه‍. اللمحة البدرية (ص ٦٠).

(٤) سدكت به : لزمته ولم تفارقه. لسان العرب (سدك).

١٦٧

إبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي (١)

يكنى أبا إسحاق ، ويعرف بابن المرأة.

حاله : سكن مالقة دهرا طويلا ، ثم انتقل إلى مرسية ، باستدعاء المحدّث أبي الفضل المرسي والقاضي أبي بكر بن محرز ، وكان متقدما في علم الكلام ، حافظا ذاكرا للحديث والتفسير ، والفقه والتاريخ ، وغير ذلك. وكان الكلام أغلب عليه ، فصيح اللسان والقلم ، ذاكرا لكلام أهل التصوّف ، يطرّز مجالسه بأخبارهم. وكان بحرا للجمهور بمالقة ومرسية ، بارعا في ذلك ، متفنّنا له ، متقدّما فيه ، حسن الفهم لما يلقيه ، له وثوب على التمثيل والتّشبيه ، فيما يقرب للفهم ، مؤثرا للخمول ، قريبا من كل أحد ، حسن العشرة ، مؤثرا بما لديه. وكان بمالقة يتّجر بسوق الغزل. قال الأستاذ أبو جعفر وقد وصمه : وكان صاحب حيل ونوادر مستظرفة ، يلهي بها أصحابه ، ويؤنسهم ، ومتطلّعا على أشياء غريبة من الخواص وغيرها ، فتن بها بعض الحلبة ، واطّلع كثير ممّن شاهده على بعض ذلك ، وشاهد منه بعضهم ما يمنعه الشرع من المرتكبات الشّنيعة ، فنافره وباعده بعد الاختلاف إليه ، منهم شيخنا القاضي العدل المسمّى الفاضل ، أبو بكر بن المرابط ، رحمه الله ؛ أخبرني من ذلك بما شاهد مما يقبح ذكره ، وتبرّأ منه من كان سعى في انتقاله إلى مرسية ، والله أعلم بغيبه وضميره.

تواليفه : منها (٢) شرحه كتاب الإرشاد لأبي المعالي ، وكان يعلقه من حفظه من غير زيادة وامتداد. وشرح الأسماء الحسنى. وألّف جزءا في إجماع الفقهاء ، وشرح محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن العريف. وألّف غير ذلك. وتواليفه نافعة في أبوابها ، حسنة الرصف والمباني.

من روى عنه : أبو عبد الله بن أحلى ، وأبو محمد عبد الرحمن بن وصلة.

وفاته : توفي بمرسية سنة إحدى (٣) عشرة وستمائة.

إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري

تلمساني وقرشي الأصل ، نزل بسبتة ، يكنى أبا إسحاق ، ويعرف بالتلمساني.

__________________

(١) ترجمة ابن دهاق في التكملة (ج ١ ص ١٤٠) ، والوافي بالوفيات (ج ٦ ص ١٧١) ، والديباج المذهب (ج ١ ص ٢٧٣).

(٢) قارن بالتكملة (ج ١ ص ١٤٠).

(٣) في الأصل : «أحد عشر» وهو خطأ نحوي.

١٦٨

حاله : كان فقيها عارفا بعقد الشروط ، مبرّزا في العدد والفرائض ، أديبا ، شاعرا ، محسنا ، ماهرا في كل ما يحاول. نظم في الفرائض ، وهو ابن ثمان (١) وعشرين سنة ، أرجوزة محكمة بعلمها ، ضابطة ، عجيبة الوضع. قال ابن عبد الملك : وخبرت منه في تكراري عليه ، تيقّظا وحضور ذهن ، وتواضعا ، وحسن إقبال وبرّ ، وجميل لقاء ومعاشرة ، وتوسّطا صالحا فيما يناظر فيه من التواليف ، واشتغالا بما يعنيه من أمر معاشه ، وتخاملا في هيئته ولباسه ، يكاد ينحطّ عن الاقتصاد ، حسب المألوف والمعروف بسبتة. قال ابن الزبير : كان أديبا لغويّا ، فاضلا ، إماما في الفرائض.

مشيخته : تلا بمالقة على أبي بكر بن دسمان ، وأبي صالح محمد بن محمد الزّاهد ، وأبي عبد الله بن حفيد ، وروى بها عن أبي الحسن سهل بن مالك ، ولقي أبا بكر بن محرز ، وأجاز له ، وكتب إليه مجيزا أبو الحسن بن طاهر الدباج ، وأبو علي الشلوبين. ولقي بسبتة الحسن أبا العباس بن علي بن عصفور الهواري ، وأبا المطرّف أحمد بن عبد الله بن عفيرة ، فأجازا له. وسمع على أبي يعقوب بن موسى الحساني الغماري.

من روى عنه : روى عنه الكثير ممّن عاصره ، كأبي عبد الله بن عبد الملك وغيره.

تواليفه : من ذلك الأرجوزة الشهيرة في الفرائض ، لم يصنّف في فنّها أحسن منها. ومنظوماته في السّير ، وأمداح النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من ذلك المعشّرات على أوزان العرب ، وقصيدة في المولد الكريم ، وله مقالة في علم العروض الدّوبيتي.

شعره : وشعره كثير ، مبرّز الطّبقة بين العالي والوسط ، منحازا أكثر إلى الإجادة جمّة ، وتقع له الأمور العجيبة فيه كقوله : [المنسرح]

الغدر في الناس شيمة سلفت

قد طال بين الورى تصرّفها

ما كلّ من سرّبت (٢) له نعم

منك يرى قدرها ويعرفها

بل ربما أعقب الجزاء بها

مضرّة عنك عزّ مصرفها

أما ترى الشمس تعطف بالنّ

ور على البدر وهو يكسفها؟

دخوله غرناطة : أخبر عن نفسه أن أباه انتقل به إلى الأندلس ، وهو ابن تسعة أعوام ، فاستوطن به غرناطة ثلاثة أعوام ، ثم رحل إلى مالقة ، فسكن بها مدّة ، وبها

__________________

(١) في الأصل : «ثمانية» ، وهو خطأ نحوي.

(٢) في الأصل : «سرت» وهكذا ينكسر الوزن.

١٦٩

قرأ معظم قراءته. ثم انتقل إلى سبتة ، وتزوّج بها أخت الشيخ أبي الحكم مالك بن المرحّل. وهذا الشيخ جدّ صاحبنا وشيخنا أبي الحسين التلمساني لأبيه ، وهو ممّن يطرّز به التأليف ، ويشار إليه في فنون لشهرته.

ومن شعره ، وهو صاحب مطوّلات مجيدة ، وأمادح مبدية في الإحسان معيدة ، فمن قوله يمدح الفقيه أبا القاسم العزفي أمير سبتة : [الكامل]

أرأيت من رحلوا وزمّوا العيسا (١)

ولا نزلوا على الطلول حسيسا (٢)؟

أحسبت سوف يعود نسف ترابها

يوما بما يشفي لديك نسيسا؟

هل مؤنس (٣) نارا بجانب طورها

لأنيسها؟ أم هل تحسّ حسيسا؟

مولده : قال ابن عبد الملك : أخبرني أنّ مولده بتلمسان سنة تسع وستمائة.

وفاته : في عام تسعين وستمائة بسبتة ، على سنّ عالية ، فسحت مدى الانتفاع به.

إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الساحلي

المشهور بالطّويجن (٤) ، من غرناطة.

حاله : من كتاب «عائد الصلة» : كان ، رحمه الله ، نسيج وحده في الأدب ، نظما ونثرا ، لا يشقّ فيهما غباره ، كلام صافي الأديم ، غزير المائية ، أنيق الدّيباجة ، موفور المادة ، كثير الحلاوة ، جامع بين الجزالة والرّقّة ؛ إلى خطّ بديع ، ومشاركة في فنون ، وكرم نفس ، واقتدار على كل محاولة. رحل بعد أن اشتهر فضله ، وذاع أوجه ، فشرّق ، وجال في البلاد. ثم دخل إلى بلد السّودان ، فاتصل بملكها ، واستوطنها زمانا طويلا ، بالغا فيها أقصى مبالغ المكنة ، والحظوة ، والشّهرة ، والجلالة ، واقتنى مالا دثرا ، ثم آب إلى المغرب ، وحوّم على وطنه ، فصرفه القدر إلى مستقرّه من بلاد السودان ، مستزيدا من المال. وأهدى إلى ملك المغرب هديّة تشتمل على طرف ، فأثابه عليها مالا خطيرا ، ومدحه بشعر بديع كتبناه عنه. وجرى ذكره في كتاب «التاج» بما نصّه (٥) :

__________________

(١) زمّوا العيس : خطموها للرحيل. لسان العرب (زمم).

(٢) عجز البيت مختلّ الوزن.

(٣) في الأصل : «هل من مؤنس ...» وهكذا ينكسر الوزن.

(٤) يكنى أبا إسحاق ، وترجمته في نثير فرائد الجمان (ص ٣٠٨) ، والكتيبة الكامنة (ص ٢٣٥) ، ونفح الطيب (ج ٢ ص ٤٠٥) ، و (ج ٣ ص ٣٩٧).

(٥) النص في الكتيبة الكامنة (ص ٢٣٥).

١٧٠

«جوّاب الآفاق ، ومحالف الإباق (١) ، ومنفق سعد (٢) الشّعر كل الإنفاق ؛ رفع ببلده (٣) للأدب راية لا تحجم ، وأصبح فيها يسوّي ويلجم ؛ فإن نسب ، جرى ونظم نظم الجمان المحامد ، وإن أبّن ورثى غبّر في وجوه السوابق وحثا. ولمّا اتّفق كساد سوقه ، وضياق حقوقه ، أخذ بالحزم ، وأدخل على حروف علائه عوامل الجزم ، يسقط على الدول سقوط الغيث ، ويحلّ كناس الظّبا وغاب اللّيث ، شيّع العجائب ، وركّض النّجائب ، فاستضاف بصرام ، وشاهد البرابي والأهرام ، ورمى بعزمته الشآم ، فاحتلّ ثغوره المحوطة ، ودخل دمشق ، وتوجّه الغوطة ، ثم عاجلها بالعراق ، فحيّا بالسّلام مدينة السّلام ، وأورد بالرّافدين رواحله ، ورأى اليمن وسواحله ، ثم عدل إلى الحقيقة عن المجاز ، وتوجّه إلى شأنه الحجاز ، فاستلم الرّكن والحجر ، وزار القبر الكريم لمّا صدر ، وتعرّف بمجتمع الوفود بملك السّود ، فغمره بإرفاده ، وصحبه إلى بلاده ، فاستقرّ بأوّل أقاليم العرض ، وأقصى ما يعمر من الأرض ، فحلّ بها محلّ الحمر في الغار ، والنور في سواد الأبصار ؛ وتقيّد بالإحسان ، وإن كان غريب الوجه واليد واللسان. وصدرت عنه رسائل أثناء إغرابه ، تشهد بجلالة آدابه ، وتعلّق الإحسان بأهدابه».

نثره : فمن ذلك ما خاطب به أهل غرناطة بلده ؛ وقد وصل إلى مرّاكش :

«سلام ليس دارين شعاره ، وحلق الروض والنضير به صداره ، وأنسى نجدا شمّه الزكي وعراره ، جرّ ذيله على الشجر فتعطّر ، وناجى غصن البان فاهتزّ لحديثه وتأطّر ، وارتشف الندى من ثغور الشّقائق ، وحيّا خدود الورد تحت أردية الحدائق ، طربت له النّجدية المستهامة ، فهجرت صباها ببطن تهامة ، وحنّ ابن دهمان لصباه ، وسلا به التّميمي عن ريّاه ، وأنسى النّميري ما تضوّع برقيب من بطن نعماه ، واستشرف السمر والبان ، وتخلق بخلوقة الآس والظّيّان (٤) ، حتى إذا راقت أنفاس تحيّاته ورقّت ، وملكت نفائس النفوس واستشرقت ، ولبست دارين في ملائها ، ونظمت الجوزاء في عقد ثنائها ، واشتغل بها الأعشى عن روضه ولها ، وشهد ابن برد شهادة أطراف المساويك لها ، خيّمت في ربع الجود بغرناطة ورقّت ، وملأت دلوها إلى عقد ركبه ، وأقبلت منابت شرقها عن غربه ، لا عن عرفه ؛ هناك تترى لها صدور المجالس تحمل صدورا ، وترائب المعالي تحلّي عقودا نفيسة وجذورا ، ومحاسن الشرف تحاسن

__________________

(١) في الكتيبة الكامنة : «الرفاق».

(٢) في الكتيبة الكامنة : «سعر».

(٣) كلمة «ببلده» ساقطة من الكتيبة الكامنة.

(٤) الظّيّان : ياسمين البرّ. محيط المحيط (ظوي).

١٧١

البروج في زهرها ، والأفنية في إيوانها ، والأندية في شعب بوّانها (١) ، لو رآها النعمان لهجر سديره ، أو كسرى لنبذ إيوانه وسريره ، أو سيف لقصّر عن غمدانه ، أو حسّان لترك جلّق (٢) لغسّانه : [الطويل]

بلاد بها نيطت عليّ تمائمي

وأول أرض مسّ جلدي ترابها

فإذا قضيت من فرض السلام ختما ، وقضت من فاره الثّناء حتما ، ونفضت طيب عرارها على تلك الأنداء ، واقتطفت أزاهر محامدها أهل الودّ القديم والإخاء ، وعمّت من هنالك من الفضلاء ، وتلت سور آلائها على منبر ثنائها ، وقصّت وعطفت على من تحمل من الطلبة بشارتهم ، وصدرت عن إشارتهم ، وأنارت نجما حول هالتهم المنيرة ودارتهم ، فهناك تقصّ أحاديث وجدي على تلك المناهج ، لا إلى صلة عالج ، وشوقي إلى تلك العليا ، لا إلى عبلة ، والجزا إلى ذلك الشريف الجليل ، فسقى الله تلك المعاهد غيداقا (٣) يهمي دعاؤها ، ويغرق روضها إغراقا ، حتى تتكلّل منه نحور زندها درّا ، وترنو عيون أطراف نرجسها إلى أهلها سررا ، وتتعانق قدود أغصانها طربا ، وتعطف خصور مذانبها على أطراف كثبانها لعبا ، وتضحك ثغور أقاحيها (٤) عند رقص أدواحها عجبا ، وتحمّر خدود وردها حياء ، وتشرق حدائق وردها سناء ، وتهدي إلى ألسنة صباها خبر طيبة (٥) وإنباء ، حتى تشتغل المطريّة عن روضتها المردودة ، والمتكلّىء عن مشاويه المجودة ، والبكري عن شقائق رياض روضته النديّة ، والأخطل عن خلع بيعته الموشيّة. فما الخورنق (٦) وسراد ، والرّصافة وبغداد ، وما لفّ النّيل في ملأته كرما إلى أفدين سقايته ، وحارته غمدان عن محراب ، وقصر وابرية البلقاء عن غوطة ونهر ، بأحسن من تلك المشاهد التي تساوي في حسنها الغائب والشاهد. وما لمصر تفخر بنيلها ، والألف منها في شنيلها (٧) ، وإنما زيدت الشين هنالك ليعد بذلك : [الوافر]

ويا لله من شوق حثيث

ومن وجد تنشّط بالصميم

إذا ما هاجه وجد حديث

صبا منها إلى عهد قديم

__________________

(١) شعب بوّان : موضع بأرض فارس ، وهو أحد متنزهات الدنيا. معجم البلدان (ج ١ ص ٥٠٣).

(٢) جلّق : هي دمشق نفسها ، وقيل : موضع بقرية من قرى دمشق. معجم البلدان (ج ٢ ص ١٥٤).

(٣) الغيداق من الشباب : الناعم ، والجمع غياديق. محيط المحيط (غيدق).

(٤) في الأصل : «أقاحها» ، والأقاحيّ : جمع أقحوان وهو نبات. محيط المحيط (قحا).

(٥) طيبة : اسم لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. معجم البلدان (ج ٤ ص ٥٣).

(٦) الخورنق : قصر كان بظهر الحيرة. معجم البلدان (ج ١ ص ٤٠١).

(٧) ورد قول ابن الخطيب هذا في نفح الطيب (ج ١ ص ١٤٨).

١٧٢

أجنح إنساني في كل جانحة ، وأنطق لساني من كل جارحة ، وأهيم وقلبي رهين الأنين ، وصريع البين ، تهفو (١) الرياح البليلة إذا ثارت ، وتطير به أجنحة البروق الخافقة أينما طارت ، وقد كنت أستنزل قربهم براحة الأجل ، وأقول عسى وطن يدنيهم ولعلّ ، وما أقدر الله أن يدني على الشّحط ، ويبري جراح البين بعد اليأس والقنط ، هذا شوقي يستعيره البركان لناره ، ووجدي لا يجري قيس في مضماره ، فما ظنّك وقد حمت حول المورد الخصر ، ونسمت ريح المنبت الخضر ، ونظرت إلى تلك المعاهد من أمم ، وهمست باهتصار ثمار ذلك المجد اليانع والكرم ، وإن المحبّ مع القرب لأعظم همّا ، وأشدّ في مقاساة الغرام غمّا : [الوافر]

وأبرح ما يكون الشوق يوما

إذ دنت الدّيار من الديار

وقربت مسافة الدّوّار ، لكن الدهر ذو غير ، ومن ذا يحكم على القدر ، وما ضرّه لو غفل قليلا ، وشفى بلقاء الأحبّة غليلا ، وسمح لنا بساعة اتفاق ، ووصل ذلك الأمل القصير بباع ، وروى مسافة أيام ، كما طوى مراحل أعوام.

لدّ إبليس ، أفلا أشفقت من عذابي ، وسمحت ولو بسلام أحبابي؟

أسلمتني إلى ذرع البيد ، ومحالفة الذميل والوخيد (٢) ، والتنقّل في المشارق والمغارب ، والتمطّي في الصّهوات والغوارب. يا سابق البين دع محمله ، وما بقي في الجسم ما يحمله ، ويا بنات جديل ، ما لكنّ وللذميل؟ ليت سقمي عقيم فلم يلد ذات البين ، المشتّتة ما بين المحبين ، ثم ما للزاجر الكاذب ، وللغراب الناعب ، تجعله نذير الجلا ، ورائد الخلا ، ما أبعد من زاجر ، عن رأي الزّاجر ، إنما فعل ما ترى ، ذات الغارب والقرى ، المحتالة في الأزمّة والبرى ، المتردّدة بين التّأويب والسّرى ؛ طالما باكرت النّوى ، وصدعت صدع الثّوى ، وتركت الهائم بين ربع محيل ، ورسم مستحيل ، يقفو الأثر نحوه ، ويسأل الطّلل عن عهده ، وإن أنصفت فما لعين معقودة ، وإبل مطرودة ، مالت عن الحوض والشّوط ، وأسلمت إلى الحبل والعصا والسّوط ، ولو خيّر النائي لأقام ، ولو ترك القطا ليلا لنام ، لكن الدهر أبو براقش (٣) ،

__________________

(١) في الأصل : «تهفق».

(٢) الذّميل : السير اللين. والوخيد : السير السريع. لسان العرب (ذمل) و (وخد).

(٣) أبو براقش : طائر صغير برّيّ كالقنفذ أعلى ريشه أغرّ وأوسطه أحمر وأسفله أسود ، فإذا هيّج انتفش فتغيّر لونه ألوانا شتّى حتى قيل لكل متلوّن ذي وجهين : أحول من أبي برقش ، ومنه قول الشاعر : [مجزوء الكامل]

كأبي براقش كلّ يو

م لونه يتقلّب

محيط المحيط (برقش).

١٧٣

وسهم بينه وبين بنيه غير طائش ؛ فهو الذي شتّت الشّمل وصدعه ، وما رفع سيف بعماده إلّا وضعه ، ولا بلّ غليلا أحرقه بنار وجده ولا نفعه. فأقسم ما ذات خضاب وطوق ، شاكية غرام وشوق ، برزت في منصّتها ، وترجمت عن قضيّتها ، أو غربت عن بيتها ، ونفضت شرارة زفرتها عن عينها ، ميلا حكت الميلا والغريض ، وعجماء ساجلت بسجعها القريض ، وكصّت (١) الفود فكأنما نقرت العود ، وردّدت العويل ، كأنما سمعت النّقيل ، نبّهت الواله فثاب ، وناحت بأشواقها فأجاب. حتى إذا افترّ بريقها ، استراب في أنّتها ، فنادى يا حصيبة الساق ، ما لك والأشواق؟ أباكية ودموعك راقية؟ ومحرّرة وأعطافك حالية؟ عطّلت الخوافي ، وحلّيت القوادم ، وخضّبت الأرجل ، وحضرت المآتم. أمّا أنت ، فنزيعة خمار ، وحليفة أنوار وأشجار ، تتردّدين بين منبر وسرير ، وتتهادين بين روضة وغدير ؛ أسرفت في الغناء ، وإنما حكيت خرير الماء ، وولعت بتكرير الراء ، فقالت : أعد نظر البقير ، ولأمر ما جدع أنفه قصير ، أنا التي أغرقت في الرّزء ، فكنّيت عن الكل بالجزء ؛ كنت أربع بالفيافي ما ألافي ، وآنس مع مقيلي ، بكرته وأصيلي ، تحتال من غدير إلى شرج (٢) ، وتنتقل من سرير إلى سرج ، آونة تلتقط الحبّ ، وحينا تتعاطى الحبّ ، وطورا تتراكض الفنن ، وتارة تتجاذب الشّجن ، حتى رماه الدهر بالشّتات ، وطرقه بالآفات ، فهأنا بعده دامية العين ، دائمة الأين ، أتعلّل بالأثر بعد العين ؛ فإن صعدت مناري ، ألهبت منقاري ، أو نكأت أحشائي ، خضّبت رجلي بدمائي ، فأقسم لا خلعت طوق عهده ، حتى أردي من بعده ، بل ذات خفض وترف ، وجمال باهر وشرف ، بسط الدهر يدها ، وقبض ولدها ، فهي إذا عقدت التّمائم على تريب ، أو لفّت العمائم على نجيب ، حثّت المفؤود ، وأدارت عين الحسود ، حتى إذا أينعت فسالها ، وقضى حملها وفصالها ، عمر لحدها بوحيد كان عندها وسطى ، وفريد أضحى في نحر عشيرتها سمطا ، استحثّت له مهبّات النسيم الطّارق ، وخافت عليه من خطرات اللّحظ الرّاشق ، فحين هشّ للجياد ، ووهب التمائم للنّجاد ونادى الصريم ، يا الآل والحريم ، فشدّ الأناة ، واعتقل القناة ، وبرز يختال في عيون لامه ، ويتعرّف منه رمحه بألفه ولامه ، فعارضه شثن (٣) الكفّين ، عاري الشعر والمنكبين ، فأسلمه لحتفه ، وترك حاشية ردائه على عطفه ، فحين انبهم

__________________

(١) كصّت الفود : دقّته. والفود : معظم شعر الرأس ، والمراد هنا : الرأس. محيط المحيط (كصّ) و (فود).

(٢) الشّرج : مسيل الماء من الحرّة إلى السهل. محيط المحيط (شرج).

(٣) الشّثن : الغليظ. محيط المحيط (شثن).

١٧٤

لشاكلته ما جرى برزت لترى : [الطويل]

فلم تلق فيها (١) غير خمس قوائم

وأشلاء لحم تحت ليث سخايل

يحطّ على أعطافه وترائبه

بكفّ حديد النّاب صلب المفاصل

أعظم من وجد إلى تلك الآفاق ، التي أطلعت وجوه الحسن والإحسان ، وسفرت عن كمال الشرف ، وشرف الكمال عن كل وجه حسان ، وأبرزت من ذوي الهمم المنيفة ، والسّير الشريفة ، ما أقرّ عين العلياء ، وحلّى جيد الزمان ، فتقوا للعلم أزهارا أربت على الروض المجود ، وأداروا للأدب هالة استدارت حولها بدور السّعود ، نظم الدهر محاسنهم حليّا في جيده ونحره ، واستعار لهم الأفق ضياء شمسه وبدره ، وأعرب بهم الفخر عن صميمه ، وفسح لهم المجد عن مصدره ، فهم إنسان عين الزمان ، وملتقى طريقي الحسن والإحسان ، نظمت الجوزاء مفاخرهم ، ونثرت النّثرة مآثرهم ، واجتلبت الشّعرى من أشعارهم ، وطلع النور من أزرارهم ، واجتمعت الثّريّا لمعاطاة أخبارهم ، وودّ الدّلو لو كرع في حوضهم ، والأسد لو ربض حول ربضهم ، والنعايم لو غذّيت بنعيمهم ، والمجرّة لو استمدّت من فيض كرمهم ، عشق المسك محاسنهم فرقّ ، وطرب الصبح لأخبارهم فخرق جبينه وشقّ ، وحام النّسر حول حمامهم وحلّق ، وقدّ الفخار جدار محامدهم وخلّق ، إلى بلاغة أخرست لسان لبيد ، وتركت عبد الحميد غير حميد ، أهلّ ابن هلال لمحاسنهم وكبّر ، وأعطى القارئ ما زجر به قلمه وسطّر ، وأيس إياس من لحاقهم فأقصر لما قصّر.

ومنها : فما للوشي تألّق ناصعه ، وتأنّق يانعه ، بأحسن ممّا وشته أنفاسهم ، ورسمته أطراسهم ، فكم لهم من خريدة غذّاها العلم ببرّه ، وفريدة حلّاها البيان بدرّه ، واستضاءت المعارف بأنوارهم ، وباهت الفضائل بسناء منارهم ، وجلّيت المشكلات بأنوار عقولهم وأفكارهم ، جلّوا عروس المجد وحلّوا ، وحلّوا في ميدان السيادة ونشأوا ، وزاحموا السّهى بالمناكب ، واختطّوا التّرب فوق الكواكب ، لزم محلّهم التّكبير ، كما لزمت الياء التّصغير ، وتقدّموا في رتبة الأفهام ، كما تقدّمت همزة الاستفهام ، ونزلوا من مراتب العلياء ، منزلة حروف الاستعلاء ، وما عسى أن أقول ودون النهاية مدى نازح ، وما أغنى الشمس عن مدح المادح ، وحسبي أن أصف ما أعانيه من الشوق ، وما أجده من التّوق ، وأعلّل نفسي بلقائهم ، وأتعلّل بالنّسيم الوارد من تلقائهم ، وإن جلاني الدهر عن ورود حوضهم ، وأقعدني الزمان عن اجتناء روضهم ، فما ذهب ودادي ، ولا تغيّر اعتقادي ، ولا جفّت أقلامي عن مدادهم ولا

__________________

(١) كلمة «فيها» ساقطة من الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى.

١٧٥

مدادي ، وأنا ابن جلا (١) في وجدهم ، وطلّاع الثّنايا إلى كرم عهدهم ، إن دعوا إلى ودّ صميم وجدوني ، أضع العمامة عن ذوي عهد قديم عرفوني ، ولو شرعوا نحوي قلم مكاتبتهم ، وأسحّوا بالعلق الثّمين من مخاطبتهم ، لكفّوا من قلبي العاني قيد إساره ، وبلوا صدى وجدي المتحرّق بناره ، ففي الكتابة بلغة الوطر ، وقد يغني عن العين الأثر ، والسلام الأثير الكريم الطيب الرّيا ، الجميل المحيّا ، يحضر محلّهم الأثير ، وكبيرهم إذ ليس فيهم صغير ، ويعود على من هناك من ذوي الودّ الصميم ، والعهد القديم ، من أخ برّ وصاحب حميم ، ورحمة الله وبركاته».

ولا خفاء ببراعة هذه الرسالة على طولها ، وكثرة أصولها ، وما اشتملت عليه من وصف وعارضة ، وإشارة وإحالة ، وحلاوة وجزالة.

شعره : ثبت لديّ من متأخّر شعره قوله من قصيدة ، يمدح بها ملك المغرب (٢) ، أمير المسلمين ، عند دنوّ ركابه من ظاهر تلمسان ببابه أولها (٣) : [الكامل]

خطرت كميّاس (٤) القنا المتأطّر

ورنت بألحاظ الغزال الأعفر

ومن شعره في النسيب : [البسيط]

زارت وفي كلّ لحظ طرف محترس

وحول كلّ كناس كفّ مفترس

يشكو لها الجيد ما بالحلي من هدر

ويشتكي الزّند ما بالقلب من خرس

متى تلا خدّها الزّاهي الضّحى نطقت

سيوف ألحاظها من آية الحرس

في لحظها سحر فرعون ورقّتها

آيات موسى وقلبي موضع القبس

تخفي النّمومين من حلي ومبتسم

تحت الكتومين من شعر ومن غلس

وترسل اللّحظ نحوي ثم تهزأ بي

تقول بعد نفوذ الرّمية احترس

أشكو إليها فؤادا واجلا أبدا

في النّازعات وما تنفكّ من عبس

__________________

(١) أخذه من قول سحيم بن وثيل الرياحي : [الوافر]

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

وفيات الأعيان (ج ٢ ص ٢٤) ، والوافي بالوفيات (ج ٧ ص ٧٤).

(٢) هو أمير المسلمين أبو الحسن علي المريني ، ملك المغرب ، كما جاء في نثير فرائد الجمان (ص ٣٠٩).

(٣) ورد منها خمسون بيتا في نثير فرائد الجمان (ص ٣٠٩ ـ ٣١٢) وجاء فيها أنه قالها في مدح الملك المغربي المذكور يحرّضه فيها على قتال أمير المؤمنين أبي تاشفين العبد الوادي ملك تلمسان ، قاتل أبيه.

(٤) في نثير فرائد الجمان : «كميّاد».

١٧٦

يا شقّة النّفس إنّ النّفس قد تلفت

إلّا بقيّة رجع الصّوت والنّفس

هذا فؤادي وجفني فيك قد جمعا

ضدّين فاعتبري إن شئت واقتبسي

ويا لطارق نوم منك أرّقني

ليلا ونبّهني للوجد ثم نسي

ما زال يشرب من ماء القلوب فلم

أبصرته ذابلا يشكو من اليبس

ملأت طرفي عن ورد تفتح في

رياض خدّيك صلّا غير مفترس

وقلت للّحظ والصّدغ احرسا فهما

ما بين مصم وفتّاك ومنتكس

وليلة جئتها سحرا أجوس بها

شبا العوالي وخيس الأخنف الشّرس

أستفهم الليل عن أمثال أنجمه

وأسأل (١) العيس عن سرب المها الأنس

وأهتك السّتر لا أخشى بوادره

ما بين منتهز طورا ومنتهس

بتنا نعاطي بها ممزوجة مزجت

حلو الفكاهة بين اللّين والشّرس

أنكحتها من أبيها وهي آيسة

فثار أبناؤها في ساعة العرس

نور ونار أضاءا في زجاجتها

فذاك خدّك يا ليلى وذا نفسي (٢)

حتى إذا آب نور الفجر في وضح

معرّك جال بين الفجر والغلس

وهيمنت بالضنا تحت الصباح صبا

قد أنذرتها ببرد القلب واللّعس

قامت تجرّ فضول الريط آنسة

كريمة الذيل لم تجنح إلى دنس

تلوث فوق كثيب الرمل مطرفها

وتمسح النّوم عن أجفانها النّعس

فظلّ قلبي يقفوها بملتهب

طورا ودمعي يتلوها بمنبجس

دهر يلوّن لونيه كعادته

فالصبح في مأتم والليل في عرس

وإحسانه كثير ، ومقداره كبير. ثم آب إلى بلاد السودان ، وجرت عليه في طريقه محنة ، ممّن يعترض الرفاق ويفسد السبيل ، واستقرّ بها على حاله من الجاه والشّهرة ، وقد اتخذ إماء للتسرّي من الزّنجيّات ، ورزق من الجوالك أولادا كالخنافسة. ثم لم يلبث أن اتصلت الأخبار بوفاته بتنبكتو ، وكان حيّا في أوائل تسعة وثلاثين وسبعمائة (٣).

__________________

(١) في الأصل : «وأسال» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «نفس» ، بدون ياء.

(٣) في نثير فرائد الجمان (ص ٣٠٨) : توفي بمالي من أرض جناوة في عام ٧٤٤ ه‍. وهكذا جاء في نفح الطيب (ج ٢ ص ٤٠٦) وفي نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٩٧). وذكره المقري ثانية ولم يلقبه بالساحلي ، فتوهم أنه شخصية أخرى وقال : توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة.

١٧٧

إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أسد بن موسى

ابن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أسد بن قاسم النميري

من أهل غرناطة ، يكنى أبا إسحاق ويعرف بابن الحاجّ (١).

أوّليّته : بيت نبيه ، يزعم من يعنى بالأخبار ، أن جدّهم الداخل إلى الأندلس ثوابة بن حمزة النّميري ، ويشركهم فيه بنو أرقم الوادي شيون (٢). وكان سكناه بجهة وادي آش ، ولقومه اختصاص وانتقال ببعض جهاتها ، وهي شوظر ، والمنظر ، وقرسيس ، وقطرش ؛ تغلّب العدو عليها على عهد عبد العزيز ، وآوى جميعهم إلى كنف الدولة النصرية ، فانخرطوا في سلك الخدمة ، وتمحّض خلفهم بالعمل. وكان جدّه الأقرب إبراهيم ، رجلا خيّرا من أهل الدين والفضل والطهارة والذكاء ؛ كتب للرؤساء من بني إشقيلولة ، عند انفرادهم بوادي آش. واختصّ بهم ، وحصل منهم على صهر بأم ولد بعضهم ، وضبط المهمّ من أعمالهم. ثم رابته منهم سجايا أوجبت انصرافه عنهم ، وجنوحه إلى خالهم السلطان الذي كاشفوه بالثورة ، فعرف حقّه ، وأكرم وفادته ، وقبل بيانه ؛ فقلّده ديوان جنده ، واستمرّت أيام عمره تحت رعيه ، وكنف عنايته. وكان ولده عبد الله ، أبو صاحبنا المترجم به ، صدرا من صدور المستخدمين في كبار الأعمال ، على سنن رؤسائهم ، مكسابا متلافا ، سريّ النفس ، غاض الحواز. ولي الأشغال بغرناطة وسبتة ؛ عند تصيّرها إلى إيالة بني نصر ؛ وجرى طلاقه هذا ، في صلّ دنيا عريضة ؛ تغلّبت عليه بآخرة ، ومضى لسبيله ، مصدوقا بالكفاية ، وبراعة الخط ، وطيب النفس ، وحسن المعاملة.

حاله : هذا (٣) الرجل نشأ على عفاف وطهارة ؛ امتهك صبابة ترف من بقايا عافية ، أعانته على الاستظهار ببزّة ، وصانته من التحرّف بمهنة. ثم شدّ وبهرت خصاله ، فبطح بالشّعر ؛ وبلغ الغاية في إجادة (٤) الخط ، وحاضر بالأبيات ، وأرسم (٥) في كتابة الإنشاء ، عام أربعة وثلاثين وسبعمائة ، مستحقّا حسن سمة (٦) ، وبراعة

__________________

(١) ترجمة ابن الحاج النميري في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٠) ، ونيل الابتهاج ، طبعة فاس (ص ١٤) ، والمنهل الصافي (ج ١ ص ٦٦) ، ونثير فرائد الجمان (ص ٣١٣) ، ونفح الطيب (ج ٣ ص ٢٧٩) و (ج ٩ ص ٣٣٠).

(٢) نسبة إلى مدينة وادي آش.

(٣) نفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣٠).

(٤) في النفح : «جودة».

(٥) في النفح : «وارتسم في كتاب الإنشاء».

(٦) في النفح : «سمت ، وجودة أدب وخطّ».

١٧٨

خط ، وجودة أدب ، وإطلاق يد ، وظهور كفاية ؛ وفي أثناء هذا الحال ، يقيد ولا يفتر ، ويروي الحديث ، ويعلّق الأناشيد ، ولا يغبّ النظم والنثر ، ولا يعفي القريحة ، معمّى ، مخوّلا في العناية ، مشتملا على الطهارة ، بعيدا في زمان الشّبيبة عن الرّيبة ، نزيها على الوسامة عن الصّبوة والرّقية ، أعانه على ذلك نخوة في طبعه ، وشفوف وهمّة. كان مليح الدّعابة ، طيّب الفكاهة ، آثر المشرق ، فانصرف عن الأندلس في محرّم عام سبعة وثلاثين وسبعمائة ، وألمّ بالدول ، محرّكا إياها بشعره ، هازّا أعطافها بأمداحه ؛ فعرف قدره ، وأعين على طيّته ؛ فحجّ وتطوّف ، وقيّد ، واستكثر ، ودوّن في رحلة سفره ؛ وناهيك بها طرفة ؛ وقفل إلى إفريقية ، وكان علق بخدمة بعض ملوكها ، فاستقرّ ببجاية لديه ، مضطلعا بالكتابة والإنشاء. ثم انتقل إلى خدمة سلطان المغرب ، أمير المسلمين أبي الحسن ؛ ولم ينشب أن عاد إلى البلاد المشرقية ، فحجّ ، وفصل إلى إفريقية ، وقد دالت الدولة بها بالسلطان المذكور ، فتقاعد عن الخدمة ، وآثر الانقباض ؛ ثم ضرب الدهر ضرباته ، وآل حال السلطان إلى ما هو معروف ، وثابت للموحّدين برملة بجاية بارقة لم تكد تتقد حتى خبت ، فعاد إلى ديوانه من الكتابة عن صاحب بجاية. ثم أبى مؤثرا للدّعة في كنف الدولة الفارسية (١) ، ونفض عن الخدمة يده ، لا أحقّق مضطرا أم اختيارا ، وحجة كليهما قائمة لديه ، وانقطع إلى تربة الشيخ أبي مدين (٢) بعبّاد تلمسان ، مؤثرا للخمول ، عزيزا به ، ذاهبا مذهب التّجلّة من التجريد والعكوف بباب الله ، مفخرا لأهل نحلته ، وحجّة على أهل الحرص والتهافت ، من ذوي طبقته ، راجع الله بنا إليه بفضله. ثم جبرته الدولة الفارسية على الخدمة ، وأبرته بزّة النّسك ، فعاد إلى ديدنه من الكتابة ، رئيسا ومرءوسا. ثم أفلت نفيه موت السلطان أبي عنان فلحق بالأندلس ، وتلقي ببرّ وجراية ، وتنويه وعناية ، واستعمل في السفارة إلى الملوك ؛ وولّي القضاء في الأحكام الشرعية بالقليم بقرب الحضرة ؛ وهو الآن بحاله الموصوفة ، صدرا من صدور القطر وأعيانه ، يحضر مجلس السلطان ، ويعدّ من نبهاء من ينتاب بابه ، وقد توسّط من الاكتهال ، مقيما لرسم الكتابة والظرف مع الترخيص للباس الحرير ، والخضاب بالسواد ، ومصاحبة الأبّهة ، والحرص على التّجلّة.

__________________

(١) أي في دولة السلطان فارس أبي عنان.

(٢) الشيخ أبو مدين : هو الصوفي شعيب بن الحسين التلمساني ، الأندلسي الأصل ، المتوفّى بتلمسان سنة ٥٩٤ ه‍. وقبره بعبّاد تلمسان ويزار إلى جانب مدافن الأولياء. الأعلام (ج ٣ ص ١٦٦) وفيه ثبت بأسماء مصادر ترجمته.

١٧٩

وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (١) : «طلع شهابا ثاقبا ، وأصبح بشعره للشّعرى مصاقبا ، فنجم وبرع ، وتمّم المعاني واخترع ؛ إلى خطّ يستوقف الأبصار رائقه ، وتقيّد الأحداق حدائقه ، وتفتن الألباب فنونه البديعة وطرائقه ، من بليغ يطارد أسراب المعاني البعيدة فيقتنصها ، ويغوص على الدّرر الفريدة فيخرجها ، ويستخلصها بطبع مذاهبه دافقة ، وتأييد رايته خافقة. نبه في عصره شرف البيان من بعد الكرى ، وانتدب بالنشاط إلى تجديد ذلك البساط وانبرى ، فدارت الأكواس ، وتضوّع الورد والآس ، وطاب الصّبوح ، وتبدّل الروح المروح ، ولم تزل نفحاته تتأرّج ، وعقائل بناته تتبرّج ، حتى دعي إلى الكتابة ، وخطب إلى تلك المثابة ، فطرّز المفارق برقوم أقلامه ، وشنّف المسامع بدرّ كلامه ؛ ثم أجاب داعي نفسه التي ضاق عنها جثمانه ، لا بل زمانه ، وعظم لها فكره وغمّه ، وتعب في مداراتها ، وكما قال أبو الطيب المتنبي : «وأتعب خلق الله من راد محمده» ، فارتحل لطيّته ، واقتعد غارب مطيّته ، فحجّ وزار ، وشدّ للطّواف الإزار. ثم هبّ إلى المغرب وحوّم ، وقفل قفول النسيم عن الرّوض بعدما تلوّم ، وحطّ بإفريقية على نار القرى ، وحمد بها صباح السّرى ، ولم يلبث أن تنقل ، ووحر الحميم شفافه وتنغل ، ثم بدا له أخرى فشرق ، وكان عزمه أن يجتمع فتفرّق».

مشيخته : روى (٢) عن مشيخة بلده وأشجر ، وقيّد واستكثر ، وأخذ في رحلته عن أناس شتّى يشقّ إحصاؤهم.

تواليفه : منها كتاب «المساهلة والمسامحة ، في تبيين طرق المداعبة والممازحة» ، و «إيقاظ الكرام ، بأخبار المنام» ، و «تنعيم الأشباح بمحادثة الأرواح» ، وكتاب «الوسائل ، ونزهة المناظر والحمائل» و «الزّهرات ، وإجالة النّظرات» ، وكتاب في «التّورية» على حروف المعجم ، أكثره مروي الأسانيد عن خلق كثير ، والله تعالى يخره ؛ وجزء في تبيين المشكلات الحديثة الواصلة من زبيد اليمن إلى مكّة ؛ وجزء في بيان اسم (٣) الله الأعظم ، وهو كبير الفائدة ، و «نزهة الحدق ، في ذكر الفرق» ، وكتاب الأربعين حديثا البلدانية ، والمستدرك عليها من البلاد التي دخلتها ، ورويت فيها ، زيادة على الأربعين ، و «روضة العباد المستخرجة من الإرشاد» ، وهو من تأليف شيخنا القطب أبي محمد الشافعي ؛ والأربعون حديثا التي رويتها عن الأمراء والشيوخ ،

__________________

(١) نقل لسان الدين في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٠ ـ ٢٦١) ما ذكره في التاج المحلى ، وهو لا يوافق ما أدرجه هنا في ترجمة ابن الحاج.

(٢) نفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣١).

(٣) في النفح : «الاسم الأعظم ، كثير الفائدة».

١٨٠