الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

وقال أيضا يمدحه بقصيدة من مطوّلاته : وإنما اجتلبت من مدحه للوزير ابن الحكيم لكونه يمدح أديبا ناقدا ، وبليغا بالكلام بصيرا ، والإجادة تلزم فيه منظومه ، إذ لا يوسع القريحة فيه عذرا ، ولا يقبل من الطّمع قدرا ، وهي : [الكامل]

أما الرّسوم فلم ترقّ لما بي

واستعجمت عن أن تردّ جوابي

واستبدلت بوحوشها من أنس

بيض الوجوه كواعب أتراب

ولقد وقفت بها أرقرق عبرة

حتى اشتكى طول الوقوف صحابي (١)

يبكي لطول بكاي في عرصاتها

صحبي ورجّعت الحنين ركابي (٢)

ومن شعره في المقطوعات غير المطوّلات : [مجزوء البسيط]

لم يبق ذو عين (٣) لم يسبه

وجهك من زين بلا مين

فلاح بينهما طالعا

كأنه قمر (٤) بلا مين

ومن ذلك قوله : [البسيط]

كأنما الخال مصباح بوجنته

هبّت عواصف أنفاسي فعطف (٥)

أو نقطة قطرت في الخدّ إذ رسمت

خطّ الجمال بخطّ اللّام والألف

ومن ذلك قوله : [المنسرح]

وعدتني أن تزور يا أملي

فلم أزل للطريق مرتقبا

حتى إذا الشمس للغروب دنت

وصيّرت من لجينها ذهبا

آنسني البدر منك حين بدا

لأنّه لو ظهرت لاحتجبا

ومن ذلك قوله : [الرمل]

هجركم ما لي عليه جلد

فأعيدوا لي (٦) الرضى أو فعدوا (٧)

ما قسا قلبي من هجرانكم

ولقد طال عليه الأمد

__________________

(١) في الأصل : «صحاب».

(٢) في الأصل : «ركاب».

(٣) ذو عين : الذي عظم سواد عينه في سعة ، والأنثى عيناء ، والجمع عين. لسان العرب (عين).

(٤) في الأصل : «القمر» وهكذا ينكسر الوزن.

(٥) عجز هذا البيت منكسر الوزن ، ولا يتناسق ومعنى صدر البيت.

(٦) في الأصل : «إليّ» وهكذا ينكسر الوزن.

(٧) في الأصل : «فعدّوا» بتشديد الدال ، وهكذا ينكسر الوزن.

١٤١

ومن ذلك قوله : [البسيط]

أبدى عذارك عذري في الغرام به

وزادني شغفا فيه إلى شغف

كأنّه ظنّ أنّي قد نسيت له

عهدا فعرّض لي (١) باللام والألف

ومما هو أطول من المزدوجات قوله : [الطويل]

ويوم كساه الدّجن (٢) دكن ثيابه

وهبّ (٣) نسيم الروض وهو عليل

ولاحت بأفلاك الأفق كواكب

لها في البدور الطّالعات أفول

وجالت جياد الرّاح بالرّاح جولة

فلم تحل إلّا والوقار قتيل

ومن ذلك : [الخفيف]

عذلوني فيمن أحبّ وقالوا

دبّ نمل العذار في وجنتيه

وكذا النّمل كلّما حلّ شيئا

منع النّفس أن تميل إليه

قلت قبل العذار أعذر فيه

ثم من بعده ألام عليه

إنما دبّ نحو شهد بفيه

فلذاك انتهى إلى شفتيه

وإحسانه كثير ، ومثله لا يقنع منه بيسير.

وفاته : قال في «عائد الصلة» : «ولمّا كان من تغلّب الحال ، وإدالة الدولة ، وخلع الأمير ، وقتل وزيره ، يوم عيد الفطر من سنة سبع وسبعمائة ، وانتهبت دار الوزير ، ونالت الأيدي يومئذ ، من شمله دهليز بابه ، من أعيان الطبقات ، وأولي الخطط والرّتب ، ومنهم أبو العباس هذا ، رحمه الله ؛ فأفلت تحت سلاح مشهور ، وحيّز مرقوف ، وثوب مسلوف ؛ فأصابته بسبب ذلك علّة أياما ، إلى أن أودت به ، فقضت عليه بغرناطة ، في الثامن والعشرين لذي حجة من سنة سبع وسبعمائة (٤) ؛ ودفن بمقبرة الغرباء من الرّبيط عبر الوادي تجاه قصور نجد ، رحمة الله عليه».

__________________

(١) كلمة «لي» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

(٢) في الأصل : «الدجى» وهكذا ينكسر الوزن ، ولا يستقيم مع المعنى. والدّجن : إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء. لسان العرب (دجن).

(٣) في الأصل : «وهبّت».

(٤) في أزهار الرياض (ج ٢ ص ٣٥٧) : توفي بغرناطة في ذي الحجة من عام ثمانية وسبعمائة.

١٤٢

أحمد بن علي الملياني (١)

من أهل مرّاكش ، يكنى أبا عبد الله وأبا العباس.

صاحب العلامة (٢) بالمغرب ، الكاتب الشهير البعيد الشأن (٣) في اقتضاء التّرة (٤) ، المثل المضروب في العفّة (٥) ، وقوة الصّريمة ، ونفاذ العزيمة.

حاله : كان (٦) نبيه البيت ، شهير الأصالة ، رفيع المكانة ، على سجيّة غريبة كانت (٧) فيه ، من الوقار والانقباض والصّمت. أخذ (٨) بحظ من الطّب ، حسن الخطّ ، مليح الكتابة ، قارضا للشعر ، يذهب (٩) نفسه فيه كلّ مذهب.

وصمته : فتك (١٠) فتكة شنيعة (١١) أساءت الظنّ بحملة الأقلام على مرّ (١٢) الدهر ؛ وانتقل إلى الأندلس بعد مشقّة. وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصّه (١٣) :

«الصّارم ، الفاتك ، والكاتب الباتك (١٤) ، أيّ (١٥) اضطراب في وقار ، وتجهّم تحته أنس عقار! اتخذه صاحب (١٦) المغرب صاحب علامته ، وتوّجه تاج كرامته ؛ وكان يطالب جملة من أشياخ مراكش بثأر عمّه ، ويطوقهم دمه بزعمه ، ويقصر على الاستبصار (١٧) منهم بنات همّه ، إذ سعوا فيه حتى اعتقل ، ثم جدّوا في أمره حتى قتل ؛ فترصّد كتابا إلى مراكش يتضمّن أمرا جزما ، ويشلّ (١٨) من أمور الملك عزما ،

__________________

(١) ترجمة الملياني في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٠٤). والملياني : نسبة إلى مليانة وهي مدينة كبيرة بالمغرب من أعمال بجاية ، كثيرة الخيرات ، مشهورة بالحسن وكثرة الأشجار ، وتدفّق المياه. آثار البلاد وأخبار العباد (ص ٢٧٣) ، والروض المعطار (ص ٥٤٧) ، ومعجم البلدان (ج ٥ ص ١٩٦).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٠٥). وصاحب العلّامة بالمغرب هو الذي كان يتولى التوقيع باسم السلطان على المراسيم الملكية ، وكانت وظيفته من أهم الوظائف الإدارية بالمغرب.

(٣) في النفح : «الشأو».

(٤) في الأصل : «الثّرّة» ، والتصويب من النفح. والتّرة : الذّحل (الثأر). لسان العرب (وتر).

(٥) في النفح : «الهمّة».

(٦) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٠٥).

(٧) قوله : «كانت فيه» غير وارد في النفح.

(٨) في النفح : «آخذا».

(٩) في النفح : «تذهب».

(١٠) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٠٥).

(١١) في النفح : «شهيرة».

(١٢) في النفح : «ممرّ».

(١٣) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥).

(١٤) الباتك : القاطع. محيط المحيط (بتك).

(١٥) في الأصل : «أبي» والتصويب من النفح.

(١٦) في النفح : «ملك».

(١٧) في النفح : «الاستنصار».

(١٨) في النفح : «ويشمل».

١٤٣

جعل الأمر (١) فيه يضرب رقابهم ، وسبي أسبابهم ؛ ولمّا أكّد على حامله في العجل ، وضايقه في تقدير الأجل ، تأنّى حتى علم أنه قد وصل ، وأنّ غرضه قد حصل. فرّ إلى تلمسان ، وهي بحال حصارها ، فاتّصل بأنصارها ، حالّا بين أنوفها وأبصارها ؛ وتعجّب من فراره ، وسوء اغتراره ، ورجحت (٢) الظنون في آثاره. ثم اتّصلت (٣) الأخبار بتمام الحيلة ، واستيلاء القتل على أعلام تلك القبيلة ، وتركها (٤) شنعة على الأيام ، وعارا في الأقاليم على حملة الأقلام ؛ وأقام بتلمسان إلى أن حلّ مخنّق حصارها (٥) ، وأزيل هميان (٦) الضيقة عن خصرها ؛ فلحق بالأندلس ، فلم (٧) يعدم برّا ، ورعيا مستمرّا ، حتى أتاه حمامه ، وانصرمت أيامه».

شعره : من (٨) الذي يدلّ على برّه (٩) ، وانفساخ (١٠) خطاه في النّفاسة ، وبعد شأوه ، قوله : [الكامل]

العزّ ما ضربت عليه قبابي

والفضل ما اشتملت عليه ثيابي

والزّهر ما أهداه غصن براعتي

والمسك ما أبداه نقش (١١) كتابي

والمجد (١٢) يمنع أن يزاحم موردي

والعزم يأبي أن يسام (١٣) جنابي

فإذا بلوت صنيعة جازيتها

بجميل شكري أو جزيل ثوابي

وإذا عقدت مودّة أجريتها

مجرى طعامي من دمي وشرابي

وإذا طلبت من الفراقد والسّهى

ثأرا فأوشك أن أنال طلابي

وفاته : توفي رحمه الله يوم السبت تاسع ربيع الآخر عام خمسة عشر وسبعمائة ، ودفن بجبّانة باب إلبيرة ، تجاوز الله تعالى (١٤) عنه.

أحمد بن محمد بن عيسى الأموي

يكنى أبا جعفر ، ويعرف بالزّيّات.

__________________

(١) في النفح : «جعل فيه الأمر».

(٢) في النفح : «ورجّمت».

(٣) في النفح : «وصلت».

(٤) في النفح : «فتركها شنيعة على ...».

(٥) في النفح : «حصرها».

(٦) في الأصل : «اللّقيان» والتصويب من النفح. والهميان : تكّة السروال.

(٧) في النفح : «ولم».

(٨) النص والشعر في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٠٦).

(٩) في النفح : «بأوه».

(١٠) في النفح : «وانفساح».

(١١) في النفح : «نقس».

(١٢) في النفح : «فالمجد».

(١٣) في النفح : «يضام».

(١٤) كلمة «تعالى» ساقطة في الإحاطة ، وقد أضفناها من النفح.

١٤٤

حاله : من أهل الخير والصّلاح والأتباع ، مفتوح عليه في طريق الله ، نيّر الباطن والظاهر ، مطّرح التصنّع ، مستدلّ ، مجانب للدنيا وأهلها ، صادق الخواطر ، مرسل اللسان بذكر الله ، مبذول النصيحة ، مثابر على اتّباع السّنّة ، عارف بطريق الصوفيّة ، ثبت القدم عند زلّاتها ؛ ناطق بالحكمة على الأميّة ؛ جميل اللقاء ، متوغّل في الكلف بالجهاد ، مرتبط للخيل ، مبادر للهيعة ، حريص على الشهادة ، بركة من بركات الله في الأندلس ، يعزّ وجود مثله.

وفاته : توفي ، رحمه الله ، ببلده غرناطة ، يوم الخميس الثاني والعشرين لجمادى الثانية من عام خمسة وستين وسبعمائة ؛ وشارف الاكتهال.

أحمد بن الحسن بن علي بن الزيّات الكلاعي (١)

من أهل بلّش مالقة (٢) ، يكنى أبا جعفر ، ويعرف بالزيّات ، الخطيب ، المتصوّف الشهير.

حاله : من «عائد الصلة» : كان جليل القدر ، كثير العبادة ، عظيم الوقار ، حسن الخلق ، مخفوض الجناح ، متألّق البشر ، مبذول المؤانسة ، يذكّر بالسّلف الصالح في حسن شيمته وإعراب لفظه ، مزدحم المجلس ، كثير الإفادة ، صبورا على الغاشية ، واضح البيان ، فارس المنابر غير مدافع ، مستحقّ التصدّر في ذلك بشروط قلّما كملت عند غيره ؛ منها حسن الصورة ، وكمال الأبّهة ، وجهوريّة الصوت ، وطيب النّغمة ، وعدم التّهيّب ، والقدرة على الإنشاء ، وغلبة الخشوع ، إلى التفنّن في كثير من المآخذ العلمية ، والرياسة في تجويد القرآن ، والمشاركة في العربية ، والفقه ، واللغة ، والأدب ، والعروض ، والمحاسّة (٣) في الأصلين ، والحفظ للتفسير.

قال لي شيخنا أبو البركات بن الحاجّ ، وقد جرى ذكر الخطابة : ما رأيت في استيفائها مثله. كان يفتح مجالس تدريسه أكثر الأحيان ، بخطب غريبة ، يطبّق بها مفاصل الأغراض ، التي يشرع في التكلّم فيها ، وينظم الشعر دائما في مراجعاته ومخاطباته ، وإجازاته ، من غير تأنّ ولا رويّة ، حتى اعتاده ملكة بطبعه ؛ واستعمل في السّفارة بين الملوك ، لدحض السّخائم ، وإصلاح الأمور ، فكانوا يوجيون حقّه ، ويلتمسون بركته ، ويلتمسون دعاءه.

__________________

(١) ترجمة أحمد بن الحسن الزيات الكلاعي في الكتيبة الكامنة (ص ٣٤) ، وبغية الوعاة (ص ١٣١).

(٢) بلّش مالقة : بالإسبانيةVelez Malaga ، وهي مدينة تقع شرقي مالقة.

(٣) من محسّ ، والمقصود بها هنا الإتقان والبراعة.

١٤٥

مشيخته : تحمّل العلم عن جملة ؛ منهم خاله الفقيه الحكيم أبو جعفر أحمد بن علي المذحجي من أهل الحمّة (١) ، من ذوي المعرفة بالقرآن والفرائض. ومنهم القاضي أبو علي الحسين بن أبي الأحوص الفهري ، أخذ عنه قراءة وإجازة. ومنهم العارف الرّباني أبو الحسن فضل بن فضيلة ، أخذ عنه طريقة الصوفية وعليه سلك ، وبه تأدّب ، وبينهما في ذلك مخاطبات. ومنهم أبو الزهر ربيع بن محمد بن ربيع الأشعري ، وأبو عبد الله محمد بن يحيى أخوه. ومنهم أبو الفضل عياض بن محمد بن عياض بن موسى ، قرأ عليه ببلّش وأجاز له. ومنهم الأستاذ أبو جعفر بن الزبير ، والأستاذ أبو الحسن التّجلي ، وأبو محمد بن سماك ، وأبو جعفر بن الطّباع ، وأبو جعفر بن يوسف الهاشمي الطّنجلي (٢) ، والأستاذ النحوي أبو الحسن بن الصّائغ ، والكاتب الأديب أبو علي بن رشيق التّغلبي ، والرّاوية أبو الحسن بن مستقور الطائي ، والإمام أبو الحسن بن أبي الربيع ، والأستاذ أبو إسحاق الغافقي الميربي ، والإمام العارف أبو محمد عبد العظيم بن الشيخ البلوي ، بما كان من إجازته العامّة لكل من أدرك عام أحد وأربعين وستمائة ، وغير هؤلاء ممّن يشقّ إحصاؤهم.

تصانيفه : كثيرة ، منها المسمّاة ب «المقام المخزون في الكلام الموزون» ؛ والقصيدة المسمّاة ب «المشرف الأصفى في المأرب الأوفى» وكلاهما ينيف على الألف بيت ؛ و «نظم السّلوك في شيم الملوك» ، و «المجتنى النّضير والمقتنى الخطير» ، و «العبارة الوجيزة عن الإشارة» ، و «اللطائف الرّوحانية والعوارف الربّانية».

ومن تواليفه : «أسّ مبنى العلم ، وأسّ معنى الحلم» في مقدمة علم الكلام ، و «لذّات السمع من القراءات السّبع» نظما ، و «رصف نفائس اللآلي ، ووصف عرائس المعالي» في النحو ، و «قاعدة البيان وضابطة اللسان» في العربية ، و «لهجة اللّافظ وبهجة الحافظ» ، والأرجوزة المسمّاة ب «قرّة عين السائل وبغية نفس الآمل» في اختصار السيرة النبوية ، و «الوصايا النظامية في القوافي الثلاثية» ، وكتاب «عدّة الداعي ، وعمدة الواعي» ، وكتاب «عوارف الكرم ، وصلات الإحسان ، فيما حواه العين من لطائف الحكم وخلق الإنسان» ، وكتاب «جوامع الأشراف والعنايات ، في الصّوادع والآيات» ، و «النّفحة الوسيمة ، والمنحة الجسمية (٣)» ، تشتمل على أربع قواعد اعتقاديّة

__________________

(١) الحمّة أو الحامة : بالإسبانية : Alhama ، وهي من مدن غرناطة ، وتقع غربيّ غرناطة إلى الجنوب من مدينة لوشة ، استولى عليها الإسبان سنة ٨٨٧ ه‍ ، أي قبل سقوط غرناطة بعشر سنين. راجع : مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٦٠).

(٢) الطنجلي والطنجالي والطنجي : نسبة إلى طنجة.

(٣) في الأصل : «الجسمية».

١٤٦

وأصوليّة وفروعيّة وتحقيقيّة ، وكتاب «شروف المفارق في اختصار كتاب المشارق» ، و «تلخيص الدّلالة في تخليص الرسالة» ، و «شذور الذّهب في صروم الخطب» ، و «فائدة الملتقط وعائدة المغتبط» ، وكتاب «عدّة المحقّ وتحفة المستحقّ».

نثره : من ذلك خطبة ألغيت الألف من حروفها ، على كثرة تردّدها في الكلام وتصرّفها ، وهي :

«حمدت ربي جلّ من كريم محمود ، وشكرته عزّ من عظيم موجود ، ونزّهته عن جهل كل ملحد كفور ، وقدّسته عن قول كل مفسد غرور ، كبير لو تقدم ، في فهم نجد ، قدير لو تصوّر في رسم لحد ، لو عدته فكرة التصوّر لتصوّر ، ولو حدته فكرة لتعذّر ، ولو فهمت له كيفية لبطل قدمه ، ولو علمت له كيفية لحصل عدمه ، ولو حصره طرف لقطع بتجسّمه ، ولو قهره وصف لصدع بتقسّمه ، ولو فرض له شبح لرهقه كيف ، ولو عرض له للحق عجل وريث. عظيم من غير تركّب قطر ، عليم من غير ترتّب فكر ، موجود من غير شيء يمسكه ، معبود من غير وهم يدركه ، كريم من غير عوض يلحقه ، حكيم من غير عرض يلحقه ، قوي من غير سبب يجمعه ، عليّ من غير سبب يرفعه ، لو وجد له جنس لعورض في قيموميته ، ولو ثبت له حسّ لنوزع في ديموميّته».

ومنها : «تقدّس عن لمّ فعله ، وتنزّه عن سمّ فضله ، وجلّ عن ثمّ قدرته ، وعزّ عن عمّ عزّته ، وعظمت عن من صفته ، وكثرت عن كم منّته ؛ فتق ورتق ، صوّر وحلق ، وقطع ووصل ، ونصر وخذل ، حمدته حمد من عرف ربّه ، ورهب ذنبه ، وصفت حقيقة يقينه قلبه ، وذكرت بصيرة دينه لبّه ، قنهض لوعي بشروط نفضته وحدّ ، وربط سلك سلوكه وشدّ ، وهدم صرح عتوّه وهدّ ، وحرس معقل عقله وحدّ ، طرد غرور غرّته ورذله ؛ علم علم تحقيق فنحا نحوه ، وتفرّد له عزّ وجلّ بثبوت ربوبيّته وقدمه ، ونعتقد صدور كلّ جوهر وعرض عن جوده وكرمه ، ونشهد بتبليغ محمد صلّى ربّه عليه وسلّم ، رسوله وخير خلقه ، ونعلن بنهوضه في تبيين فرضه ، وتبليغ شرعه ، ضرب قبّة شرعه ، فنسخت كلّ شرع ، وجدّد عزيمته فقمع عدوّه خير قمع ، قوّم كل مقوّم بقويم سمته ، وكريم هديه ، وبيّن لقومه كيف يركنون فوره بقصده ، وسديد سعيه ، بشّر مطيعه ، فظفر برحمته ؛ وحذّر عاصيه فشقي بنقمته.

«وبعد ، فقد نصحتم لو كنتم تعقلون ، وهديتم لو كنتم تعلمون ، وبصّرتم لو كنتم تبصرون ، وذكّرتم لو كنتم تذكرون. وظهرت لكم حقيقة نشركم وبرزت

١٤٧

لكم خبيئة حشركم ، فلم تركضون في طلق غفلتكم ، وتغفلون عن يوم بعثكم ، وللموت عليكم سيف مسلول ، وحكم عزم غير معلول ، فكيف بكم يوم يؤخذ كلّ بذنبه ؛ ويخبر بجميع كسبه ؛ ويفرّق بينه وبين صحبه ، ويعدم نصرة حزبه ، ويشغل بهمّه وكربه ، عن صديقه وتربه ، وتنشر له رقعته وتعيّن له بقعته ، فربح عبد نظر وهو في مهل لنفسه ، وترسّل في رضى عمله جنّة لحلول رمسه ، وكسر صنم شهوته ليقرّ في بحبوحة قدسه ، وحصر بنظر ينزله سرير سروره بين عقله وجسمه».

ومنها : «فتنبّه ويحك من سنتك ونومك ، وتفكّر فيمن هلك من صحبك وقومك ، هتف بهم من تعلم ، وشبّ عليهم منه حرق مظلم ، فخرّبت بصيحته ربوعهم ، وتفرّقت لهو له جموعهم ، وذلّ عزيزهم ، وخسىء رفيعهم ، وصمّ سميعهم ، فخرج كلّ منهم عن قصره ، ورمي غير موسّد في قبره ؛ فهم بين سعيد في روضته مقرّب ، وبين شقيّ في حفرته معذّب ، فنستوهب منه عزّ وجل عصمته من كل خطيئة ، وخصوصيّة تقي من كل نفس جريئة».

كتب إلى شيخنا الوزير ابن ذي الوزارتين ابن الحكيم ، جوابا عن مخاطبة كتبها إليه يلتمس منه وصايته ونصحه هذا الشعر : [السريع]

جلّ اسم مولانا اللّطيف الخبير

وعزّ في سلطانه عن نظير

هو الذي أوجد ما فوقها

وتحتها وهو العليم الخبير

ثم صلاة الله تترى على

ياقوتة الكون البشير النذير

وصحبه الأولى نالوا مرأى

يرجع منه الطّرف وهو الحسير

وبعد فأنفسهم جوهر

للأرواح منه ما للأثير

فإنك استدعيت من ناصر

نصحا طويلا وهو منه قصير

ولست أهلا أن أرى ناصحا

لقلّة الصدق وخبث الضمير

وإنما يحسن نصح الورى

من ليس للشّرع عليه نكير

ومستحيل أن يقود امرءا

يد امرئ واهي المباني ضرير

وا عجبا يلتمس الخير من

معتقل العقل مهيض كسير

لكن إذا لم يكن بدّ فعن

جهد أوفّيك بتبر يسير

فالقنه إن كنت به قانعا

درّا نظيما يزدري بالنثير

لازم أبا بكر على منهج

ذاك تفز منه بخير كثير

واقنع بما يكفي ودع غيره

فإنما الدنيا هباء نثير

١٤٨

بنيّ لا تخدعنّك هذي الدّنا

فإنها والله شيء حقير

أين المشيدات أما زلزلت؟

أين أخو الإيوان أين السدير؟

أين أنو شروان أضحى كأن

لم يك أين المعتدي أزدشير

هذا مقال من وعاه اهتدى

وحيط من كل مخوف مبير

وصّى أبو بكر به أحمدا

وأحمد في الوقت شيخ كبير

انقرضت أيامه وانتهى

وهنا ومن قبل أتاه النّذير

وها هو اليوم على عدّة

مبرمه للشّرّ وما من عذير

ومن شعره في طريقه الذي كان ينتحله (١) :

شهود ذاتك شيء (٢) عنك محجوب

لو كنت تدركه لم يبق مطلوب

علو وسفل ومن هذا وذاك معا

دور على نقطة الإشراق (٣) منصوب

ومنزل النّفس منه ميم مركزه (٤)

إن صحّ للغرض الظّنّي (٥) مرغوب

وإن تناءت مساويها فمنزلها (٦)

أوج الكمال وتحت الروح تقليب

والروح إن لم تخنه النّفس قام له (٧)

في حضرة الملك تخصيص وتقريب

ومن شعره (٨) : [الكامل]

دعني على حكم الهوى أتضرّع

فعسى يلين لنا الحبيب ويخشع

إني وجدت أخا التضرّع فايزا

بمراده ومن الدّعا ما يسمع

أهلا (٩) وما شيء بأنفع للفتى

من أن يذلّ عسى التذلّل ينفع

وامح (١٠) اسم نفسك طالبا إثباته

واقنع بتفريق لعلّك تجمع

واخضع فمن دأب (١١) المحبّ خضوعه

ولربما نال المنى من يخضع

__________________

(١) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٣٥).

(٢) في الكتيبة : «سرّ».

(٣) في الكتيبة : «الأشراف».

(٤) في الأصل : «ميم مذكرة». وهكذا ينكسر الوزن. وقد صوّبناه عن الكتيبة.

(٥) في الكتيبة : «الطينيّ».

(٦) في الأصل : «مساويها فحيّزها ... الأوج تقليب».

(٧) في الأصل : «... قام به في حضرة القدس ...».

(٨) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٣٦).

(٩) في الكتيبة : «واها».

(١٠) في الكتيبة : «فامح».

(١١) في الكتيبة : «أدب».

١٤٩

ومن شعره (١) : [الكامل]

ما لي بباب غير بابك موقف

كلّا (٢) ولا لي (٣) عن فنائك مصرف

هذا مقامي ما حييت فإن أمت

فالذلّ مأوى للضراعة (٤) مألف

غرضي وأنت به عليم لمحة

تذر (٥) الشّتيت الشّمل وهو مؤلّف

وعليك ليس على سواك معوّلي

جاروا عليّ لأجل ذا أو أنصفوا

ومن المقطوعات في التجنيس (٦) : [الوافر]

يقال خصال أهل العلم ألف

ومن جمع الخصال الألف سادا

ويجمعها الصّلاح فمن تعدّى

مذاهبه فقد جمع الفسادا

ومنه في المعنى (٧) : [البسيط]

إن شئت فوزا بمطلوب الكرام غدا

فاسلك من العمل المرضيّ منهاجا

واغلب هوى النّفس لا تغررك خادعة (٨)

فكلّ شيء يحطّ القدر منها جا (٩)

دخوله غرناطة : دخل غرناطة مرارا عدة تشذّ عن الحصر ، أوجبتها الدّواعي بطول عمره ، من طلب العلم وروايته ، وحاجة عامّة ، واستدعاء سلطان ، وقدوم من سفارة. كان الناس ينسالون عليه ويغشون منزله ، فيما أدركت ، كلما تبوّأ ضيافة السلطان ، تبرّكا به ، وأخذا عنه.

مولده : ولد ببلّش بلده في حدود تسع وأربعين وستمائة (١٠).

وفاته : توفي ببلّش سحر يوم الأربعاء السابع عشر من شوّال عام ثمانية وعشرين وسبعمائة. وممّن رثاه شيخنا ، نسيج وحده ، العالم الصالح الفاضل ، أبو الحسن بن الجيّاب بقصيدة أولها : [الطويل]

على مثله خضابة الدهر فاجع

تفيض نفوس لا تفيض المدامع

__________________

(١) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٣٦).

(٢) في الأصل : «لا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب عن الكتيبة الكامنة.

(٣) في الكتيبة : «وما لي».

(٤) في الكتيبة : «والضراعة».

(٥) في الكتيبة : «تدع».

(٦) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٣٧) ، وبغية الوعاة (ص ١٣١) دون تغيير عمّا هنا.

(٧) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٣٧) وترتيبهما فيه عكس ما هنا.

(٨) في الكتيبة : «... لا يغررك عاجله».

(٩) وكلمة «جا» في آخر البيت أصلها : جاء. وقد حذف الهمزة للضرورة الشعرية.

(١٠) في بغية الوعاة : ولد ببلش سنة خمسين وستمائة.

١٥٠

ورثاه شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين (١) ، رحمه الله ، بقصيدة أولها : [المتدارك]

أيساعد رائده الأمل

أم يسمع سائله الطّلل؟

يا صاح ، فديتك ، ما فعل (٢)

ذا من الأحباب وما فعلوا؟

فأجاب الدمع مناديه

أمّا الأحباب فقد رحلوا

ورثاه من هذه البلدة طائفة ، منهم الشيخ الأديب أبو محمد بن المرابع الآتي اسمه في العيادة له ، بحول الله ، بقصيدة أولها : [الكامل]

أدعوك ذا جزع لو أنّك سامع

ما ذا أقول ودمع عيني هامع

وأنشد خامس يوم دفنه قصيدة أولها : [الخفيف]

عبرات (٣) تفيض حزنا وثكلا

وشجون تعمّ بعضا وكلّا

ليس إلّا صبابة أضرمتها

حسرة تبعث الأسى ليس إلّا

وهي حسنة طويلة.

إبراهيم بن محمد بن مفرّج بن همشك (٤)

المتأمّر ، رومي (٥) الأصل.

أوّليّته : مفرج أو همشك ، من أجداده ، نصراني ، أسلم على يدي أحد ملوك بني هود بسرقسطة ؛ نزح إليهم ، وكان مقطوع إحدى الأذنين ، فكان النصارى إذا رأوه

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن علي بن شبرين ، وترجمته في الكتيبة الكامنة (ص ١٦٦) ، وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠) ، واللمحة البدرية (ص ٦٤ ، ٩٠ ، ٩٨) ، ونفح الطيب (ج ٨ ص ٨٥).

وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.

(٢) في الأصل : «فعلت» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «عبرة» وهكذا ينكسر الوزن.

(٤) ترجمة ابن همشك في الحلة السيراء (ج ٢ ص ٢٥٨) وجاء فيه أنه إبراهيم بن أحمد بن همشك ، وفي أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦١ ، ٢٦٣) وجاء فيه أنه إبراهيم بن أحمد بن مفرج بن همشك ، وأنه يكنى أبا الحسن ، وفي البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٧٤ وصفحات غير متفرقة) ، وفي المنّ بالإمامة (ص ١٣٧ ، ١٨١) وجاء فيهما أنه : إبراهيم بن همشك ، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٣٠ ، ضمن ترجمة اليعمري) ، والأعلام (ج ١ ص ٢٩).

(٥) المقصود بالرومي : النصراني الإسباني.

١٥١

في القتال عرفوه ، وقالوا : هامشك ، معناه ترى المقطوع الأذن ، إذ «ها» عندهم قريب مما هي في اللغة العربية ، و «المشك» المقطوع الأذنين في لغتهم (١).

نباهته وظهوره : ولمّا خرج بنو هود عن سرقسطة ، نشأ تحت خمول ، إلّا أنه شهم متحرّك ، خدم بعض الموحّدين في الصّيد ، وتوسّل بدلالة الأرض ؛ ثم نزع إلى ملك قشتالة واستقرّ مع النصارى ؛ ثم انصرف إلى بقيّة اللّمتونيين (٢) بالأندلس بعد شفاعة وإظهار توبة. ولمّا ولّي يحيى بن غانية قرطبة ، ارتسم لديه برسمه. ثم كانت الفتنة عام تسعة وثلاثين وثار ابن حمدين بقرطبة ، وتسمّى بأمير المؤمنين ، فبعثه رسولا ثقة بكفايته ودربته وعجمة لسانه ؛ لمحاولة الصلح بينه وبين ابن حمدين ، فأغنى ونبه قدره ؛ ثم غلي مرجل الفتنة وكثر الثوّار بالأندلس ، فاتصل بالأمير ابن عياض بالشرق وغيره ، إلى أن تمكّن له الامتزاز (٣) بحصن شقوبش ، ثم تغلّب على مدينة شقورة (٤) وتملّكها وهي ما هي من النّعمة ، فغلظ أمره ، وساوى محمد بن مردنيش (٥) أمير الشرق وداخله ، حتى عقد معه صهرا على ابنته ، فاتصلت له الرياسة والإمارة. وكان يعدّ سيفا لصهره المذكور ، مسلّطا على من عصاه ، فقاد الجيوش ، وافتتح البلاد إلى أن فسد ما بينهما ، فتفاتنا وتقاطعا ، وانحاز بما لديه من البلاد والمعاقل ، وعدّ من ثوّار الأندلس أولي الشوكة الحادّة ، والبأس الشديد ، والشّبا المرهوب. وآثاره بعد انقباض دولته تشهد بما تأثّل من ملك وسلف من الدولة ؛ والدّار الآخرة خير لمن اتّقى. قال ابن صفوان : [الخفيف]

وديار شكوى الزمان فتشك

حدّثتنا عن عزّة ابن همشك

حاله : قال محمد بن أيوب بن غالب ، المدعو بابن حمامة : أبو إسحاق الرئيس ، شجاع بهمة (٦) من البهم. كان رئيسا شجاعا مقداما شديد الحزم ، سديد

__________________

(١) المشك بلغة الإسبان : mocho ، وتعني المقطوع الرأس.

(٢) اللمتونيون : هم المرابطون ، وينسبون إلى قبيلة لمتونة.

(٣) الامتزاز هنا بمعنى الامتناع.

(٤) شقورة ، بالإسبانيةSegura de Sierra : مدينة من أعمال جيان بالأندلس. الروض المعطار (ص ٣٤٩).

(٥) هو أبو عبد الله محمد بن سعد الجذامي ابن مردنيش ، أمير شرق الأندلس (مرسية وبلنسية). توفي بمرسية سنة ٥٦٧ ه‍. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٥٩) ، والمن بالإمامة (ص ١٠٩ ، ٢١٠) ، والحلّة السيراء (ج ٢ ص ٢٣١ ـ ٢٣٣).

(٦) البهمة : الشجاع الذي لا يدرى من أين يأتي لشدة بأسه ، أو كيف يؤتى لاستبهام حاله. محيط المحيط (بهم).

١٥٢

الرأي ، عارفا بتدبير الحرب ، حميّ الأنف ، عظيم السّطوة ، مشهور الإقدام ، مرتكبا للعظيمة. قال بعض من عرّف به من المؤرّخين : وهو وإن كان قائد فرسان ، هو حليف فتنة وعدوان ، ولم يصحب قطّ متشرّعا ، ولا نشأ في أصحابه من كان متورّعا ، سلّطه الله على الخلق وأملى له فأضرّ بمن جاوره من أهل البلاد ، وحبّب إليه العيث في العباد.

سيرته : كان جبّارا قاسيا ، فظّا غليظا ، شديد النّكال ، عظيم الجرأة والعبث بالخلق ؛ بلغ من عيثه فيهم إحراقهم بالنّار ، وقذفهم من الشواهق والأبراج ، وإخراج الأعصاب والرّباطات على ظهورهم ، عن أوتار القسيّ بزعمه ، وضمّ أغصان الشجر العادي بعضها إلى بعض ، وربط الإنسان بينها ، ثم تسريحها ، حتى يذهب كل غصن بحظّه من الأعضاء ؛ ورآه بعض الصالحين في النوم بعد موته ، وسأله ما فعل الله بك فأنشده : [البسيط]

من سرّه العيث في الدنيا بخلقة من

يصوّر الخلق في الأرحام كيف يشا

فليصبر اليوم صبري تحت بطشته

مغلّلا يمتطي جمر الغضا فرشا

شجاعته : زعموا أنه خرج من المواضع التي كانت لنصره متصيّدا ، وفي صحبته محاولو اللهو وقارعو أوتار الغناء ، في مائة من الفرسان ، ونقاوة أصحابه ؛ فما راعهم إلّا خيل العدو هاجمة على غرّة ، في مائتي فارس ضعف عددهم ؛ فقالوا : العدو في مائتي فارس ، فقال : وإذا كنتم أنتم لمائة ، وأنا لمائة ، فنحن قدرهم ؛ فعدّ نفسه بمائة. ثم استدعى قدحا من شرابه ، وصرف وجهه إلى المغنّي ؛ وقال : أعد لي تلك الأبيات ، كان يغنّيه بها فتعجبه : [الخفيف]

يتلقى النّدا بوجه حييّ

وصدور القنا بوجه وقاح

هكذا هكذا تكون المعالي

طرق الجدّ غير طرق المزاح

فغنّاه بها ، واستقبل العدوّ ، وحمل عليه بنفسه وأصحابه ، حملة رجل واحد ، فاستولت على العدو الهزيمة ، وأتى على معظمهم القتل ، ورجع غانما إلى بلده. ثم ضربت الأيام ، وعاود التصيّد في موضعه ذلك ، وأطلق بازه على حجلة ، فأخذها ، وذهب ليذكيها ، فلم يحضره خنجر ذلك الغرض في الوقت ، فبينما هو يلتمسه ، إذ رأى نصلا من نصال المعترك من بقايا يوم الهزيمة ، فأخذه من التراب ، وذبح به الطائر ، ونزل واستدعى الشراب ؛ وأمر المغني فغنّاه بيتي أبي الطيب (١) :

__________________

(١) هما مطلعا قصيدة مديح من ٤٧ بيتا ، وهما في ديوان المتنبي (ص ٤١١).

١٥٣

[الطويل]

تذكّرت ما بين العذيب وبارق

مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق

وصحبة قوم يذبحون قنيصهم

بفضلات (١) ما قد كسّروا في المفارق

وقد رأيت من يروي هذه الحكاية عن أحد أمراء بني مردنيش ، وعلى كل حال فهي من مستظرف الأخبار.

دخوله غرناطة : قالوا ، وفي سنة ست وخمسين وخمسمائة (٢) ، في جمادى الأولى منها ، قصد إبراهيم بن همشك بجمعه مدينة غرناطة ، وداخل طائفة من ناسها ، وقد تشاغل الموحّدون بما دهمهم من اختلاف الكلمة عليهم بالمغرب ، وتوجّه الوالي بغرناطة السيد أبي سعيد إلى العدوة ، فاقتحمها ليلا واعتصم الموحّدون بقصبتها ؛ فأجاز بهم بأنواع الحرب ، ونصب عليهم المجانيق ، ورمى فيها من ظفر به منهم وقتلهم بأنواع من القتل. وعندما اتصل الخبر بالسيد أبي سعيد ، بادر إليها فأجاز البحر ، والتفّ به السيد أبو محمد بن أبي حفص بجميع جيوش الموحّدين والأندلس ؛ ووصل الجميع إلى ظاهر غرناطة ، وأصحر إليهم ابن همشك ، وبرز منها ، فالتقى الفريقان بمرج الرّقاد (٣) من خارجها ، ودارت الحرب بينهم ، فانهزم جيش الموحّدين ، واعترضت الفلّ تخوم الفدادين (٤) وجداول المياه التي تتخلّل المرج (٥) ، فاستولى عليهم القتل ، وقتل في الوقيعة السيد أبو محمد ؛ ولحق السيد أبو سعيد بمالقة ؛ وعاد ابن همشك إلى غرناطة فدخلها بجملة من أسرى القوم ، أفحش فيهم المثلة ، بمرأى من إخوانهم المحصورين ؛ واتصل الخبر بالخليفة بمراكش ، وهو بمقربة سلا ، قد فرغ من أمر عدوّه ، فجهّز جيشا ، أصحبه السيد أبا يعقوب ولده ، والشيخ أبا يوسف بن سليمان زعيم وقته ، وداهية زمانه ؛ فأجازوا البحر ، والتقوا بالسيد أبي سعيد بمالقة ،

__________________

(١) في الديوان : «بفظة».

(٢) في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦١) تحدّث ابن الخطيب عن هذه المعركة وقال إن ابن مردنيش وجّه صهره القائد أبا الحسن ابن همشك إلى محاصرة غرناطة في جمادى الأولى من عام ٥٥٧ ه‍.

(٣) مرج الرقاد : موضع بظاهر غرناطة ، على نحو أربعة أميال من غرناطة ، ويقابلها بالإسبانية : Merrojal. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦١) ، وتاريخ المن بالإمامة (ص ١٨٧) ، والحلّة السيراء (ج ٢ ص ٢٥٨).

(٤) الفدادون : الرعيان والبقّارون والفلاحون والمكثرون من الإبل ، والمراد هنا : الحدائق والبقاع. محيط المحيط (فدد).

(٥) هو مرج غرناطة الشهير ، وهو عبارة عن سهل أفيح وغوطة فيحاء. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٤١).

١٥٤

وتتابع الجمع ، والتفّ بهم من أهل الجهاد من المطوعة ، واتصل منهم السير إلى قرية دلر (١) من قرى غرناطة ؛ وكان من استمرار الهزيمة على ابن همشك الذي أمدّه بنفسه وجيشه ، من نصارى وغيرهم ، ما يأتي ذكره عند اسم ابن مردنيش في الموحدين ، في حرف الميم ، بحول الله تعالى.

انخلاعه للموحدين عمّا بيده وجوازه للعدوة ، ووفاته بها :

قالوا (٢) : ولمّا فسد ما بينه وبين ابن مردنيش بسبب بنته التي كانت تحت الأمير أبي محمد بن سعد بن مردنيش إلى أن طلّقها ، وانصرفت إلى أبيها ، وأسلمت إليه ابنها منه ، مختارة كنف أبيها إبراهيم ، نازعة في انصرامه إلى عروقها ؛ فلقد حكي أنها سئلت عن ولدها ، وإمكان صبرها عنه ، فقالت : جرو كلب ، جرو سوء ، من كلب سوء ، لا حاجة لي به ؛ فأرسلت كلمتها في نساء الأندلس مثلا ؛ فاشتدّت بينهما الوحشة والفتنة ، وعظمت المحنة ، وهلك بينهما من الرعايا الممرورين ، المضطّرين ، بقنّينة (٣) الثوّار ممّن شاء الله بهلاكه ، إلى أن كان أقوى الأسباب في تدمير ملكه.

ولمّا صرف ابن سعد عزمه إلى بلاده ، وتغلّب على كثير منها ، خدم ابن همشك الموحّدين ولاذ بهم واستجارهم ؛ فأجاز البحر ، فقدم على الخليفة عام خمسة وستين وخمسمائة ، وأقرّه بمواضعه ؛ إلى أوائل عام أحد وسبعين ، فطولب بالانصراف إلى العدوة بأهله وولده ، وأسكن مكناسة وأقطع بها سآما (٤) لها خطر ، واتّصلت تحت عنايته إلى أن هلك.

وفاته : قالوا : واستمرّ مقام ابن همشك بمكناسة غير كبير ، وابتلاه الله بفالج غريب الأعراض ، شديد سوء المزاج ، إلى أن هلك ؛ فكان يدخل الحمّام الحارّ ، فيشكو حرّه بأعلى صراخه ، فيخرج ، فيشكو البرد كذلك ، إلى أن مضى سبيله (٥).

إبراهيم بن أمير المسلمين أبي الحسن بن أمير المسلمين

أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب

ابن عبد الحقّ

يكنى أبا سالم.

__________________

(١) دلر : بالإسبانيةDilar وهي قرية ما تزال حتى اليوم ، وتقع جنوب غرناطة ، ووادي دلرRio Dilar قريب من قرية الهمدان. تأريخ المن بالإمامة (ص ١٩١).

(٢) قارن بتأريخ المن بالإمامة (ص ٤١٣).

(٣) قنينة الثوار : حظيرتهم.

(٤) السآم والسوام : الإبل الراعية.

(٥) توفي ابن همشك في عام ٥٧٢ ه‍.

١٥٥

أوّليّته : الشمس تخبر عن حلي وعن حلل. فهو البيت الشهير ، والجلال الخطير ، والملك الكبير ، والفلك الأثير ، ملاك المسلمين ، وحماة الدين ، وأمراء المغرب الأقصى من بني مرين ، غيوث المواهب ؛ وليوث العرين ، ومعتمد الصّريخ ، وسهام الكافرين. أبوه السلطان أبو الحسن ، الملك الكبير ، البعيد شأو الصّيت والهمّة والعزيمة ، والتحلّي بحليّ السّنّة ، والإقامة لرسوم الملك ، والاضطلاع بالهمّة ، والصبر عند الشدّة. وأخوه أمير المسلمين فذلكة الحسب ، وثير النّصبة ، وبدرة المعدن ، وبيت القصيد ، أبو عنان ، فارس ، الملك الكبير ، العالم المتبحّر ، العامل النظّار ، الجواد ، الشجاع ، القسور ، الفصيح ، مدد السعادة ، الذي خرق الله به سياج العادة ، فما عسى أن يطلب اللسان ، وأين تقع العبارة ، وما ذا يحصر الوصف. عين هذا المجد فوّاره ، وحسب هذا الحسب اشتهاره ، قولا بالحق ، وبعدا عن الإطراء ، ونشرا للواء النّصفة ، حفظ الله على الإسلام ظلّهم ، وزيّن ببدور الدين والدنيا هالتهم ، وأبقى الكلمة فيمن اختاره منهم.

حاله : كان شابّا كما تطلّع وجهه ، حسن الهيئة ، ظاهر الحياء والوقار ، قليل الكلام ، صليفة عن اللفظ ، آدم اللون (١) ، ظاهر السكون والحيريّة والحشمة ، فاضلا متخلّقا. قدّمه أبوه ، أمير الرتبة ، موفّي الألقاب ، بوطن سجلماسة ، وهي عمالة ملكهم ، فاستحقّ الرتبة في هذا الباب بمزيد هذه الرتبة المشترط لأول تأليفه. ولمّا قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده ، أحوج ما كانت الحال إلى من ينظم الشّت ، ويجمع الكلمة ، ويصون الدّما سبحانه أحوج ما كانت الدنيا إليه ، وصيّر إلى وارثه طواعية وقسرا ومستحقّا وغلابا ، وسلما ، وذاتا وكسبا ، السلطان أخيه ، تحصل هو وأخ له اسمه محمد ، وكنيته أبو الفضل ، يأتي التعريف بحاله في مكانه إن شاء الله ، فأبقى ، وأغضى ، واجتنب الهوى ، وأجاب داعي البرّ والشفقة والتقوى ، فصرفهما إلى الأندلس ؛ باشرت إركابها البحر بمدينة سلا ثاني اليوم الذي انصرفت من بابه ، وصدرت عن بحر جوده ، وأفضت بإمامة عنايته ، مصحبا بما يعرض لسان الثّناء من صنوف كرامته ، في غرض السّفارة عن السلطان بالأندلس ، تغمّده الله برحمته ، ونزل مربلّة من بلاد الأندلس المصروفة إلى نظره ، واصلا السير إلى غرناطة.

دخوله غرناطة : قدم هو وأخوه عليها ، يوم عشرين من جمادى الأولى ، من عام اثنين وخمسين وسبعمائة. وبرز السلطان إلى لقائهما ، إبلاغا في التّجلّة ،

__________________

(١) آدم اللون : أسمر. لسان العرب (أدم).

١٥٦

وانحطاطا في ذمّة التّخلّق ، فسعيا إليه مرتجلين ، وفاوضهما ، حتى قضيت الحقوق ، واستفرجت تفقّده وجرايته ، وحلّا بأحظى الأمكنة ، واحتفيا في سرير مجلسه مقسوم بينهما الحظّ ، من هشّته ولحظته. فأما محمد ، فسوّلت له نفسه الأطماع ، واستفزّته الأهواء ، أمرا كان قاطع أجله ، وسعد أخيه ، اختاره الله من دونه. وأمّا إبراهيم المترجم به ، فجنح إلى أهل العافية ، بعد أن ناله اعتقال ، بسبب إرضاء أخيه أمير المسلمين فارس ، في الأخريات لشهر ذي حجة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة ، وتقديم ولده الصبيّ ، المكنى بأبي بكر ، المسمّى بسعيد ؛ لنظر وزيره في الحزم والكفاية ، حرّكه الاستدعاء ، وأقلقته الأطماع وهبّ به السائل ، وعرّض بغرضه إلى صاحب الأمر بالأندلس ، ورفق عن صبوحه ، فشكا إلى غير مصمت ، فخرج من الحضرة ليلا من بعض مجاري المياه ، راكبا للخطر ، في أخريات جمادى الأولى من العام بالحضرة المكتبة الجوار ، من ثغور العدو ، ولحق بملك قشتالة ، وهو يومئذ بإشبيلية ، قد شرع في تجرية إلى عدوّه من برجلونة ، فطرح عليه نفسه ، وعرض عليه مخاطبات استدعائه ، ودسّ له المطامع المرتبطة بحصول غايته ، فقبل سعايته ، وجهّز له جفنا من أساطيله ، أركب فيه ، في طائفة تحريكه ، وطعن بحر المغرب إلى ساحل أزمور (١) ، وأقام به منتظرا إلى إنجاز المواعد ، ممّن بمرّاكش ، فألفى الناس قد حطبوا في حبل منصور بن سليمان ، وبايعوه بجملتهم ، فأخفق مسعاه ، وأخلف ظنّه ، وقد أخذ منصور بمخنّق البلد الجديد دار ملك فاس ، واستوثق له الأمر ، فانصرف الجفن أدراجه. ولمّا حاذى لبلاد غمارة من أحواز أصيلا (٢). تنادى (٣) به قوم منهم ، وانحدروا إليه ، ووعدوه الوفاء له ، فنزل إليهم ، واحتملوه فوق أكتادهم ، وأحدقوا به في سفح جبلهم ، وتنافسوا في الذّبّ عنه ، ثم كبسوا أصيلا فملكوها ، وضيّق بطنجة ، فدخلت في أمره ، واقتدت بها سبتة وجبل الفتح ، واتصل به بعض الخاصّة ، وخاطبه الوزير المحصور ، وتخاذل أشياع منصور ، فخذلوه ، وفرّوا عنه جهارا بغير علّة ، وانصرفت الوجوه إلى السلطان أبي سالم ، فأخذ بيعاتهم عفوا ، ودخل البلد المحصور ، وقد تردّد بينه وبين الوزير المحصور مخاطبات في ردّ الدعوة إليه ، فدخل البلد يوم الخميس خامس عشر (٤) شعبان من عام التاريخ ، واستقرّ وجدّد الله عليه أمره ، وأعاد ملكه ، وصرف عليه حقّه ؛ وبلي هذا الأمير من سير الناس إلى تجديد

__________________

(١) أزمور أو أزمورة : بلد بالمغرب في جبال البربر. معجم البلدان (ج ١ ص ١٦٩).

(٢) أصيلا أو أصيلة : مدينة كبيرة بقرب طنجة ، كثيرة الخير والخصب ، كان لها مرسى مقصود. الروض المعطار (ص ٤٢).

(٣) في الأصل : «تنادوا».

(٤) في الأصل : «عشرة».

١٥٧

عهد أبيه ، وطاعتهم إلى أمره ، وجنوحهم إلى طاعته ، وتمنّي مدّته ، حال غريبة صارت عن كثب إلى أضدادها ، فصرف ولده إلى اجتثاث شجرة أبيه ، فالتقط من الصّبية بين مراهق ومحتلم ومستجمع ، طائفة تناهز العشرين ، غلمانا ردنة ، قتلوا إغراقا من غير شفعة توجب إباحة قطرة من دمائهم ، ورأى أن قد خلا له الجوّ ، فتواكل ، وآثر الحجبة ، وأشرك الأيدي في ملكه ، فاستبيحت أموال الرعايا ، وضاقت الجبايات ، وكثرت الظلامات ، وأخذ الناس حرمان العطاء ، وانفتحت أبواب الإرجاف ، وحدّت أبواب القواطع ، إلى أن كان من أمره ما هو معروف.

وفي أول من شهر رجب عام واحد وستين وسبعمائة ، تحرّك الحركة العظمى إلى تلمسان ، وقد استدعى الجهات ، وبعض البلاد ، ونهد في جيوش تجرّ الشوك والحجر ، ففرّ سلطانها أمام عزمه ، وطار الذّعر بين يدي الضّلالة ، وكنّا قد استغثنا القرار في إيالته ، وانتهى بنا الإزعاج إلى ساحل سلا من ساحل مملكته فخاطبته وأنا يومئذ مقيم بتربة أبيه ، متذمّم بها ، في سبيل استخلاص أملاكي بالأندلس ، في غرض التهنئة والتوسّل :

«مولاي ، فتّاح الأقطار والأمصار ، فائدة الزمان والأعصار ، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار ، قدوة أولي الأيدي والأبصار».

وفاته : وفي ليلة العشرين من شهر ذي قعدة من عام اثنين وستين وسبعمائة ، ثار عليه بدار الملك ، وبلد الإمارة المعروف بالبلد الجديد ، من مدينة فاس ، الغادر مخلفه عليها عمر بن عبد الله بن علي ، نسمة السوء ، وجملة الشؤم ، المثل البعيد في الجرأة على قدر ، اهتبل (١) غرّة انتقاله إلى القصر السلطاني بالبلد القديم ، محتولا إليه ، حذرا من قاطع فلكيّ الجدر منه استعجله ضعف نفسه ، وأعانه على فرض صحته به ، وسدّ الباب في وجهه ، ودعا الناس إلى بيعة أخيه المعتوه ، وأصبح حائرا بنفسه ، يروم استرجاع أمر ذهب من يده ، ويطوف بالبلد ، يلتمس وجها إلى نجاح حيلته ، فأعياه ذلك ، ورشقت من معه السهام ، وفرّت عنه الأجناد والوجوه ، وأسلمه الدهر ، وتبرّأ منه الجدّ. وعندما جنّ عليه الليل ، فرّ على وجهه ، وقد التفت عليه الوزراء ، وقد سفّهت أحلامهم ، وفالت آراؤهم ، ولو قصدوا به بعض الجبال المنيعة ، لولّوا وجوههم شطر مظنّة الخلاص ، واتّصفوا بعذار الإقلاع ، لكنهم نكلوا عنه ، ورجعوا أدراجهم ، وتسلّلوا راجعين إلى برّ غادر الجملة ، وقد سلبهم الله لباس الحياء والرّجلة ، وتأذّن الله لهم بسوء العاقبة ، وقصد بعض بيوت البادية ، وقد فضحه نهار

__________________

(١) اهتبل : احتال. لسان العرب (هبل).

١٥٨

الغداة ، واقتفى البعث أثره ، حتى وقعوا عليه ، وسيق إلى مصرعه ، وقتل بظاهر البلد ، ثاني اليوم الذي كان غدر فيه ، جعلها الله له شهادة ونفعه بها ، فلقد كان بقيّة البيت ، وآخر القوم ، دماثة وحياء ، وبعدا عن الشرّ ، وركونا للعافية.

وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثّته بالقلعة من ظاهر المدينة ، قصيدة أدّيت فيها بعض حقّه : [الوافر]

بني الدنيا ، بني لمع السّراب ،

لدوا للموت وابنوا للخراب

إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص عمر

ابن يحيى الهنتاني ، أبو إسحاق

أمير المؤمنين بتونس ، وبلاد إفريقية ، ابن الأمير أبي زكريا ، أمير إفريقية ، وأصل الملوك المتأثّلين العزّ بها ، والفرع الذي دوّح بها ، من فروع الموحّدين بالمغرب ، واستجلابه بها أبا محمد عبد المؤمن بن علي ، أبا الملوك من قومه ، وتغلّب ذريته على المغرب وإفريقية والأندلس معروف كله ، يفتقر بسطه إلى إطالة كثيرة ، تخرج عن الغرض.

وكان جدّ هؤلاء الملوك من أصحاب المهدي ، في العشرة الذين هبّوا لبيعته ، وصحبوه في غربته ، أبو حفص ، عمر بن يحيى ، ولم يزل هو وولده من بعده ، مرفوع القدر ، معروف الحق.

ولمّا صار الأمر للناصر (١) أبي عبد الله بن المنصور أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي ، صرف وجهه إلى إفريقية ، ونزل بالمهديّة ، وتلوّك إليه ابن غانية (٢) فيمن لفّه من العرب والأوباش ، في جيش يسوق الشجر والمدر ، فجهّز إلى لقائه عسكرا لنظر الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص (٣) ، جدّهم الأقرب ،

__________________

(١) الناصر أبو عبد الله هو محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي ، حكم الأندلس والمغرب من سنة ٥٩٥ ه‍ إلى سنة ٦١٠ ه‍. وترجمته في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٣٦).

(٢) هو أبو زكريا يحيى بن إسحاق المسوفي ، المعروف بابن غانية ، أمير مرسية وبلنسية وقرطبة وغرب الأندلس من قبل علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي. قاوم الموحدين في أول استيلائهم على الأندلس فقتلوه سنة ٥٤٣ ه‍.

(٣) هو عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاني الحفصي ، مؤسّس دولة الحفصيين بإفريقية. كان أبوه من موطّدي دعائم الحكم لعبد المؤمن الموحدي. استوزره الناصر الموحدي ثم ولّاه تونس سنة ٦٠٣ ه‍. وتوفي بها سنة ٦١٨ ه‍ ، وليس سنة ٦٢٩ ه‍ كما سيأتي بعد ـ

١٥٩

فخرج من ظاهر المهدية في أهبة ضخمة ، وتعبئة محكمة ، والتقى الجمعان ، فكانت على ابن غانية ، الدائرة ، ونصر الشيخ محمد نصرا لا كفاء له ، وفي ذلك يقول أحمد بن خالد من شعر عندهم : [الطويل]

فتوح بها شدّت عرى الملك والدّين

تراقب منّا منكم غير ممنون

وفتحت المهدية على هيئة ذلك الفتح ، وانصرف الناصر إلى تونس ، ثم تفقّد البلاد ، وأحكم ثقافها (١) ، وشرع في الإياب إلى المغرب ، وترجّح عنده تقديم أبي محمد بن أبي حفص المصنوع له بإفريقية ، على ملكها ، مستظهرا منه بمضاء وسابقة وحزم ؛ بسط يده في الأموال ، وجعل إليه النظر في جميع الأمور ، سنة ثلاث وستمائة. ثم كان اللقاء بينه وبين ابن غانية في سنة ست بعدها ؛ فهزم ابن غانية ، واستولى على محلّته ؛ فاتصل سعده ، وتوالى ظهره ، إلى أن هلك مشايعا لقومه من بني عبد المؤمن ، مظاهرا بدعوتهم عام تسعة وعشرين وستمائة (٢).

وولي أمره بعده ، كبير ولده ، عبدالله ، على عهد المستنصر بالله بن الناصر من ملوكهم ؛ وقد كان الشيخ أبو محمد زوحم ، عند اختلال الدولة ، بالسيد أبي العلاء الكبير ، عمّ أبي المستنصر على أن يكون له اسم الإمارة بقصبة تونس ، والشيخ أبو محمد على ما لسائر نظره ؛ فبقي ولده عبد الله على ذلك بعد ، إلى أن كان ما هو أيضا معروف من تصيّر الأمر إلى المأمون أبي العلاء إدريس ، ووقعه السيف في وجوه الدولة بمراكش ، وأخذه بثرّة (٣) أخيه وعمّه منهم. وثار أهل الأندلس على السيد أبي الربيع بعده بإشبيلية وجعجعوا بهم ، وأخذوا في التشريد بهم ، وتبديد دعوتهم ؛ واضطربت الأمور ، وكثر الخلاف ، ولحق الأمير أبو زكريا بأخيه بإفريقية ، وعرض عليه الاستبداد ، فأنف من ذلك ، وأنكره عليه إنكارا شديدا ، خاف منه على نفسه ؛ فلحق بقابس فارّا ، واستجمع بها مع شيخها مكّي ، وسلف شيوخها اليوم من بني مكي ؛ فمهّد له ، وتلقّاه بالرحب ، وخاطب له الموحدين سرّا ، فوعدوه بذلك ، عند خروج عبد الله من تونس إلى الحركة ، من جهة القيروان. فلمّا تحرّك نحوا عليه ، وطلبوا منه المال ، وتلكّأ ، فاستدعوا أخاه الأمير أبا زكريا ، فلم يرعه وهو قاعد في خبائه آمن في سربه ، إلّا ثورة الجند به ، والقبض عليه ، ثم طردوه إلى مرّاكش ؛ وقعد

__________________

ـ قليل. انظر الأعلام للزركلي (ج ٤ ص ١٧٦) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.

(١) أحكم ثقافها : أحكم تحصينها ؛ من قوله : ثقفه بالرمح : أي طعنه. لسان العرب (ثقف).

(٢) تقدّم في الصفحة السابقة أن وفاة عبد الواحد بن أبي حفص كانت سنة ٦١٨ ه‍.

(٣) الثّرّة : الطعنة الكثيرة الدم ، والمراد أنه أخذ بالثأر.

١٦٠