الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

كانت أمّ الأنوار وجلا الأبصار ، مهما أغمى مكانها من الأفق قيل : أليل (١) هو أم نهار؟ وكما في علمكم ما فارق ذوو الأحلام (٢) ، وأولو الأرحام ، مواطن استقرارهم ، وأماكن قرارهم ، إلّا برغمهم واضطرارهم ، واستبدال دار هي (٣) خير من دارهم ، ومتى توازن الأندلس بالمغرب ، أو يعوّض عنها إلّا بمكة أو يثرب؟ ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعبّاد ، وما فوقه مرابط جهاد ، ومعاقد ألوية في سبيل الله ، ومضارب أوتاد ؛ ثم يبوّئ (٤) ولده مبوّأ أجداده ، ويجمع له بين طرافه (٥) وتلاده ؛ أعيذ أنظاركم المسدّدة من رأي فائل (٦) ، وسعي طويل لم يحل منه بطائل ، فحسبكم من هذا الإياب السعيد ، والعود الحميد ، وهي طويلة.

فأجبته عنها بقولي (٧) : [السريع]

لم في الهوى العذريّ أو لا تلم

فالعذل لا يدخل أسماعي

شأنك تعنيفي وشأني الهوى

كلّ امرئ في شأنه ساعي

«أهلا بتحفة القادم ، وريحانة المنادم ، وذكرى (٨) الهوى المتقادم ، لا يصغّر (٩) الله مسراك! فما أسراك ، لقد جلبت (١٠) إليّ من همومي ليلا ، وجبت (١١) خيلا ورجلا ، ووفّيت من صاع الوفاء كيلا ، وظننت بي الأسف على ما فات ، فأعملت الالتفات ، لكيلا (١٢) ، فأقسم لو أنّ الأمر (١٣) اليوم بيدي ، أو كانت اللّمّة السوداء من عددي ، ما أفلتّ أشراكي المنصوبة لأمثالك (١٤) ، حول المياه

__________________

(١) في الأصل : «الليل» والتصويب من المصدرين.

(٢) في المصدرين : «ذوو الأرحام وأولو الأحلام».

(٣) كلمة «هي» غير واردة في المصدرين.

(٤) كذا في أزهار الرياض. وفي النفح : «يبوّأ».

(٥) في المصدرين : «طارفه».

(٦) الرأي الفائل : الضعيف. لسان العرب (فيل).

(٧) هذان البيتان والرسالة في ريحانة الكتاب (ج ٢ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٥) ، ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٦٧ ـ ١٧٠) ، والكتيبة الكامنة (ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥) ، وأزهار الرياض (ج ١ ص ٢٦٧ ـ ٢٧٠).

(٨) في النفح : «وذكر».

(٩) في الكتيبة : «لا يصفر».

(١٠) في النفح والأزهار : «جبت». وفي الريحانة : «جئت».

(١١) في النفح والأزهار : «وجست رجلا وخيلا». وفي الريحانة : «وجبته ...».

(١٢) هذا من الاكتفاء ، وهو يشير إلى قول الله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) سورة الحديد ٥٧ ، الآية ٢٣.

(١٣) في الريحانة : «أمري».

(١٤) أخذه من بيت الشريف الرضي : [البسيط]

لو كانت اللّمّة السوداء من عددي

يوم الغميم لما أفلتّ أشراكي

١٢١

وبين المسالك ، ولا علمت (١) ما هنا لك ، لكنك طرقت حمى كسحته (٢) الغارة الشّعواء ، وغيّرت ربعه الأنواء ، فخمد (٣) بعد ارتجاجه ، وسكت (٤) أذين دجاجه ، وتلاعبت الرياح الهوج (٥) فوق فجاجه (٦) ، وطال عهده بالزّمان (٧) الأول ، وهل عند رسم دارس من معوّل (٨) وحيّا الله ندبا إلى زيارتي ندبك ، وبآدابه الحكيمة (٩) أدّبك : [الوافر]

فكان وقد أفاد بك الأماني

كمن أهدى الشّفاء إلى العليل

وهي شيمة بوركت من شيمة ، وهبة الله قبله من لدن المشيمة ، ومن مثله في صلة رعي ، وفضل سعي ، وقول (١٠) ووعي : [مجزوء الخفيف]

قسما بالكواكب الز

زهر والزّهر عاتمه

إنما الفضل ملّة

ختمت بابن خاتمه

كساني حلّة وصفه (١١) ، وقد ذهب زمان التجمّل ، وحمّلني ناهض (١٢) شكره ، وكتدي (١٣) واه عن التحمّل ، ونظرني بالعين الكليلة عن العيوب (١٤) فهلّا أجاد التأمّل ، واستطلع طلع نثّي (١٥) ، ووالى في مركب (١٦) المعجزة حثّي ، (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي)(١٧) : [الوافر]

ولو ترك القطا ليلا لناما

__________________

(١) في الريحانة : «ولعلمت».

(٢) في النفح والأزهار : «كسعته».

(٣) في الريحانة : «فجمد».

(٤) في الريحانة : «وسكن».

(٥) في الأصل : «والهوج» والتصويب من المصادر.

(٦) في الريحانة : «مجاجه».

(٧) في الريحانة والنفح : «بالزمن».

(٨) هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس وهو : [الطويل]

وإنّ شفائي عبرة إن سفحتها

وهل عند رسم دارس من معوّل؟

ديوان امرئ القيس (ص ٩).

(٩) في النفح والأزهار : «الحكمية».

(١٠) في النفح : «وقول وعي».

(١١) في النفح والأزهار والريحانة : «فضله».

(١٢) كلمة «ناهض» ساقطة في النفح والأزهار.

(١٣) الكتد : مجتمع الكتفين. لسان العرب (كتد).

(١٤) في النفح والأزهار والريحانة : «العيب». وهنا يشير إلى قول الشاعر : [الطويل]

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة

كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا

(١٥) في الريحانة : «بثّي». والنّث : ما يذيعه المرء من سرّ. لسان العرب (نثث).

(١٦) في النفح والأزهار : «مبرك». وفي الريحانة : «في أحرك المجرّة».

(١٧) سورة يوسف ١٢ ، الآية ٨٦.

١٢٢

وما حال شمل وتده (١) مفروق ، وقاعدته فروق ، وصواع (٢) بني أبيه مسروق ، وقلب (٣) قرحه من عضّة الدهر دام ، وجمرة حسرته ذات احتدام ، هذا وقد صارت الصّغرى ، التي كانت الكبرى ، لمشيب لم يرع (٤) أن هجم ، لمّا نجم ، ثم تهلّل عارضه وانسجم : [الكامل]

لا تجمعي هجرا عليّ وغربة

فالهجر في تلف الغريب سريع

نظرت فإذا الجنب ناب (٥) ، والنّفس فريسة ظفر وناب ، والمال أكيلة انتهاب ، والعمر رهن ذهاب ، واليد صفر من كل اكتساب ، وسوق المعاد مترامية ، والله سريع الحساب : [الوافر]

ولو نعطى الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الزمان

وهب أنّ العمر جديد ، وظلّ الأمن مديد ، ورأي الاغتباط بالوطن سديد ، فما الحجّة لنفسي إذا مرّت بمطارح جفوتها ، وملاعب هفوتها ، ومثاقف (٦) قناتها ، ومظاهر عزّاها (٧) ومناتها ، والزمان (٨) ولود ، وزناد الكون غير صلود (٩) : [الكامل]

وإذا امرؤ لدغته أفعى مرّة

تركته حين يجرّ حبل يفرق (١٠)

ثم أن المرغّب قد ذهب ، والدهر قد استرجع ما وهب ، والعارض قد اشتهب ، وآراء(١١) الاكتساب مرجوحة مرفوضة ، وأسماؤه على الجوار مخفوضة ، والنّيّة مع الله على الزّهد فيما بأيدي الناس معقودة ، والتوبة بفضل الله عزّ وجلّ شروطها (١٢) غير معارضة (١٣) ولا منقودة ، والمعاملة سامريّة ، ودروع الصبر

__________________

(١) في الريحانة : «قيده».

(٢) الصّواع ، بضم الصاد : إناء كان الملك يشرب به ويكيل. وفي القرآن الكريم : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) سورة يوسف ١٢ ، الآية ٧٢.

(٣) في الريحانة : «وقلبه».

(٤) في الكتيبة : «لم يدع».

(٥) في النفح : «باب».

(٦) في الأصل : «ومناقب» والتصويب من النفح والأزهار. وفي الريحانة : «ومثاقب».

(٧) في الأصل : «عزاتها» والتصويب من النفح والأزهار. وفي الريحانة : «عراها وهناتها».

(٨) في الريحانة : «والزمن».

(٩) في الريحانة : «الكون صلود». والبيت لصالح بن عبد القدوس ، وورد في تاريخ بغداد (ج ٩ ص ٣٠٤) ، وصدره هناك هكذا :

وإن امرؤ لسعته أفعى مرّة

(١٠) في الريحانة : «مفرق».

(١١) في الريحانة : «وأدات».

(١٢) في النفح والأزهار : «وجلّ منقودة».

(١٣) في الريحانة : «معترضة».

١٢٣

سابريّة ، والاقتصاد قد قرّت العين بصحبته ، والله قد عوّض حبّ الدنيا بمحبّته ، فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق ، وقد رقى لدغتها ألف راق ، وجمعتني بها الحجرة ، ما الذي تكون الأجرة؟ جلّ شاني ، وقد (١) رضي الوامق وسخط (٢) الشاني ، إني إلى الله تعالى مهاجر ، وللغرض (٣) الأدنى هاجر ، ولأظعان السّرى زاجر ، لأحد (٤) إن شاء الله وحاجر ، ولكن دعاني إلى (٥) الهوى ، لهذا (٦) المولى المنعم هوى ، خلعت نعلي الوجود وما خلعته ، وشوق (٧) أمرني فأطعته ، وغالب والله صبري فما استطعته ، والحال والله أغلب ، وعسى أن لا يخيب المطلب ؛ فإن يسّره (٨) رضاه فأمل (٩) كمل ، وراحل احتمل ، وحاد أشجى النّاقة والجمل ؛ وإن كان خلاف ذلك ، فالزمان (١٠) جمّ العوائق (١١) ، والتسليم بمقامي لائق : [البسيط]

ما بين غمضة (١٢) عين وانتباهتها

يصرّف (١٣) الأمر من حال إلى حال

وأما تفضيله هذا الوطن على غيره (١٤) ، ليمن طيره ، وعموم خيره ، وبركة جهاده ، وعمران رباه ووهاده ، بأشلاء عبّاده وزهّاده (١٥) ، حتى لا يفضله إلّا أحد الحرمين ، فحقّ بريء من المين ، لكنّي (١٦) للحرمين جنحت ، وفي جوّ الشوق إليهما سرحت (١٧) ، فقد (١٨) أفضت إلى طريق قصدي محجّته ، ونصرتني والمنّة لله حجّته ، وقصد سيدي أسنى قصد ، توخّاه الشكر (١٩) والحمد ، ومعروف عرف به النّكر ، وأمل (٢٠) انتحاه الفكر ، والآمال والحمد لله بعد تمتار ، والله يخلق ما يشاء ويختار ، ودعاؤه يظهر الغيب مدد ، وعدّة وعدد ، وبرّه حالي الظّعن (٢١)

__________________

(١) في النفح والأزهار والريحانة : «وإن».

(٢) في الريحانة : «أو سخط».

(٣) في الريحانة والنفح والأزهار : «وللعرض».

(٤) في النفح والأزهار : «لنجد».

(٥) في النفح والأزهار : «للهوى». وفي الريحانة : «لكني دعاني إلى الهدى».

(٦) في النفح والأزهار : «إلى هذا». وفي الريحانة : «إلى المولى».

(٧) في النفح والأزهار : «وشوقي».

(٨) في النفح والأزهار : «يسّر».

(٩) في النفح : «فأمر».

(١٠) في الريحانة : «فالزمن».

(١١) في النفح : «العلائق».

(١٢) في الريحانة : «طرفة».

(١٣) في الريحانة : «يقلّب».

(١٤) قوله : «على غيره» غير وارد في النفح.

(١٥) في الريحانة : «بأشلاء زهّاده».

(١٦) في النفح والأزهار : «لكنني».

(١٧) في النفح والأزهار : «سنحت».

(١٨) في الريحانة : «وقد».

(١٩) في النفح والأزهار : «الحمد والشكر».

(٢٠) في الريحانة والنفح والأزهار : «والآمال من فضل الله بعد تمتار».

(٢١) في الريحانة : «حالي الإقامة والظّعن».

١٢٤

والإقامة معتمل معتمد (١) ، ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أحد (٢) ، والسلام (٣)».

وهو الآن بقيد الحياة ، وذلك ثاني عشر شعبان عام سبعين وسبعمائة.

أحمد بن عباس بن أبي زكريا (٤)

ويقال ابن زكريا. ثبت بخط ابن التّيّاني ، أنصاريّ النسب ، يكنى أبا جعفر.

حاله : كان (٥) كاتبا حسن الكتابة ، بارع الخطّ فصيحا ، غزير الأدب ، قوي المعرفة ، شارعا في الفقه ، مشاركا في العلوم ، حاضر الجواب ، ذكيّ الخاطر ، جامعا للأدوات السلطانية (٦) ، جميل الوجه ، حسن الخلقة ، كلفا بالأدب ، مؤثرا له على سائر لذّاته ، جامعا للدواوين (٧) العلمية ، معنيا بها ، مقتنيا للجيّد منها ، مغاليا فيها ، نفّاعا من خصّه بها (٨) ، ولا يستخرج منها شيئا ، لفرط بخله بها ، إلّا لسبيلها ، حتى لقد أثرى كثير من الورّاقين والتجّار معه فيها ، وجمع منها ما لم يكن عند ملك.

يساره : يقال إنه لم يجتمع عند أحد من نظرائه ما اجتمع عنده من عين وورق ودفاتر وخرق ، وآنية ، ومتاع وأثاث وكراع.

مشيخته : روى عن أبي تمام غالب التّياني ، وأبي عبد الله بن صاحب الأحباس.

نباهته وحظوته : وزر لزهير العامريّ (٩) الآتي ذكره ، وارثا الوزارة عن أبيه ، وهي ما هي في قطر متحرّ بينابيع السّخيلة ، وثرّ بهذه الأمنة مستندا إلى قعساء العزّة ، فتبنّك نعيما كثيرا ، تجاوز الله عنه.

دخوله غرناطة : الذي اتصل علمي أنه دخل غرناطة منكوبا حسبما يتقرّر.

__________________

(١) في الريحانة والنفح والأزهار : «ومعتمد».

(٢) في الريحانة والنفح : «أمد».

(٣) في الريحانة : «والسلام الكريم من محبّه المثني على كماله ، فلان».

(٤) ترجمة أحمد بن عباس في الذيل والتكلمة (ج ١ ص ٢٧٧) ، وفي الذخيرة (ق ١ ص ٦٥٦) ، والبيان المغرب (ج ٣ ص ٢٩٣) ، والمغرب (ج ٢ ص ٢٠٥) ، ونفح الطيب (ج ٥ ص ٨١).

(٥) قارن بالذخيرة (ق ١ ص ٦٦٤ ـ ٦٦٥).

(٦) في الذخيرة : «الملوكيّة».

(٧) في الذخيرة : «جمّاعا للدفاتر ، مقتنيا للجيّد منها».

(٨) في الذخيرة : «بشيء منها».

(٩) ملك زهير العامري ألمرية من سنة ٤١٨ ه‍ إلى سنة ٤٢٩ ه‍. وستأتي ترجمته في هذا الجزء ، وهناك ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.

١٢٥

نكبته : زعموا أنه كان أقوى الأسباب فيما وقع بين أميره زهير ، وبين باديس أمير غرناطة ، من المفاسدة ، وفصل صحبه إلى وقم باديس وقبيله ، وحطّه في حيّز هواه وطاعته ، وكان ما شاء الله من استيلاء باديس على جملتهم ، ووضع سيوف قومه فيهم ، وقتل زهير ، واستئصال محلّته ؛ وقبض يومئذ على أحمد بن عباس ، وجيء به إلى باديس ، وصدره يغلي حقدا عليه ، فأمر بحبسه ، وشفاؤه الولوغ في دمه ، وعجل عليه بعد دون أصحابه من حملة الأقلام. قال ابن حيان (١) : حديث ابن عباس أنه كان قد ولع (٢) ببيت شعر صيّره هجواه أوقات لعبه بالشطرنج ، أو معنى يسنح له مستطيلا بجدّه : [المتقارب]

عيون الحوادث عنّي نيام

وهضمي على الدهر شيء حرام

وشاع (٣) بيته هذا عند (٤) الناس ، وغاظهم ، حتى قلب له مصراعه بعض الشعراء (٥) فقال :

«سيوقظها (٦) قدر لا ينام»

فما كان إلّا «كلا» و «لا» حتى (٧) تنبّهت الحوادث لهضمه ، انتباهة انتزعت منه نخوته وعزّته ، وغادرته أسيرا ذليلا يرسف في وزن أربعين رطلا (٨) من قيده ، منزعجا من عضّه لساقه البضّة ، التي (٩) تألمت من ضغطة جوربه ، يوم (١٠) أصبح فيه أميرا مطاعا ، أعتى (١١) الخلق على بابه ، وآمنهم بمكره ، فأخذه أخذ مليك مقتدر ، والله غالب على أمره.

وفاته : قال أبو مروان (١٢) : كان باديس قد أرجأ قتله مع جماعة من الأسرى ، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار من الذّهب العين ، مالت إليها نفس باديس إلّا أنه عرض ذلك على أخيه بلكّين ، فأنف منه ، وأشار عليه بقتله ، لتوقعه إثارة فتنة أخرى على يديه ، تأكل من ماله أضعاف فديته. قال : فانصرف يوما من بعض ركباته مع أخيه (١٣) ، فلمّا توسّط الدار التي فيها

__________________

(١) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٦٦٨ ـ ٦٦٩).

(٢) في الذخيرة : «أولع».

(٣) في الذخيرة : «وذاع».

(٤) في الذخيرة : «في».

(٥) في الذخيرة : «الأدباء».

(٦) في الذخيرة : «سيوقظنا».

(٧) في الذخيرة : «إلّا كلّا حتى».

(٨) كلمة «رطلا» ساقطة في الذخيرة.

(٩) في الذخيرة : «التي طالما تألمت».

(١٠) في الذخيرة : «غبّ».

(١١) في الذخيرة : «أعتى خلق الله على بابه ، وآمنهم لمكر ربّه».

(١٢) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٦٦٣ ـ ٦٦٤) وبعض منه في البيان المغرب (ج ٣ ص ١٧٢).

(١٣) في الذخيرة والبيان المغرب : «أخيه بلقين».

١٢٦

أحمد (١) بقصبة غرناطة ، لصق القصر ، وقف هو وأخوه بلكّين ، وحاجبه علي بن القروي ، وأمر بإخراج أحمد إليه ، فأقبل يرسف في قيده حتى وقف (٢) بين يديه ، فأقبل على سبّه وتبكيته بذنوبه ، وأحمد يتلطّف (٣) إليه ، ويسأله إراحته مما هو فيه ، فقال له : «اليوم تستريح من هذا الألم ، وتنتقل إلى ما هو أشدّ» ؛ وجعل يراطن أخاه بالبربرية (٤) ، فبان لأحمد وجه الموت ، فجعل (٥) يكثر الضّراعة ، ويضاعف (٦) عدد المال ، فأثار غضبه ، وهزّ مزراقه (٧) ، وأخرجه من صدره ؛ فاستغاث الله ، ـ زعموا ـ ، عند ذلك ، وذكر أولاده وحرمه ؛ للحين أمر باديس بحزّ رأسه ورمي (٨) خارج القصر.

حدّث خادم باديس ، قال (٩) : رأيت جسد ابن عباس ثاني يوم قتله (١٠) ، ثم قال لي باديس : خذ رأسه وواره مع جسده ؛ قال (١١) : فنبشت قبره (١٢) ، وأضفته إلى جسده ، بجنب أبي (١٣) الفتوح قتيل باديس أيضا. وقال لي باديس (١٤) : ضع عدوّا إلى جنب عدو ، إلى يوم القصاص ؛ فكان قتل أبي جعفر عشيّة الحادي والعشرين من ذي حجة سنة سبع وعشرين وأربعمائة (١٥) ، بعد اثنين وخمسين يوما من أسره. وكان يوم مات ابن ثلاثين ، نفعه الله ورحمه.

أحمد بن أبي جعفر بن محمد بن عطيّة القضاعي (١٦)

من أهل مرّاكش ، وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد من دانية ، يكنى أبا جعفر.

__________________

(١) في الذخيرة : «أحمد بن عباس». وفي البيان المغرب : «فلما مرّ على الدار التي فيها ابن عباس».

(٢) في المصدرين : «أقيم».

(٣) في المصدرين : «يلطّفه ويسأله».

(٤) في المصدرين : «أخاه بلقين بكلامه».

(٥) في المصدرين : «وجعل».

(٦) في المصدرين : «ويضعف له».

(٧) في المصدرين : «مزرقته فأخرجها من صدره».

(٨) في المصدرين : «وووري».

(٩) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٦٦٨).

(١٠) في الذخيرة : «قتل».

(١١) كلمة «قال» ساقطة من الذخيرة.

(١٢) في الذخيرة : «صداه».

(١٣) في الذخيرة : «بجنب قبر أبي ...».

(١٤) كلمة «باديس» ساقطة في الذخيرة.

(١٥) في الذيل والتكملة (ج ١ ص ٢٧٩): «مات وهو ابن ثلاثين سنة وأشهر عشية يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة سنة تسع وعشرين وأربعمائة».

(١٦) ترجمة أبي جعفر بن عطية في المعجب (ص ٢٦٧) ، والبيان المغرب ، قسم الموحدين (ص ٥٧) ، وإعتاب الكتاب (ص ٢٢٥) ، ونفح الطيب (ج ٧ ص ١٧٤) ، والترجمة هنا معظمها ورد في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٧٤ ـ ١٨١) ، والحلة السيراء (ج ٢ ص ١٩٤ ، ٢٢٥ ، ٢٣٨) ، وتاريخ المنّ بالإمامة (ص ٢٢٠).

١٢٧

حاله : كان كاتبا بليغا ، سهل المأخذ ، منقاد القريحة ، سيّال الطبع.

مشيخته : أخذ عن أبيه ، وعن طائفة كبيرة من أهل مراكش.

نباهته : كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين ، وعن ابنه (١) تاشفين ، وعن أبي إسحاق ، وكان أحظى كتّابهم. ثم لمّا انقطعت دولة لمتونة ، دخل في لفيف الناس ، وأخفى نفسه. ولمّا أثار الماسي (٢) الهداية بالسوس ، ورمى الموحّدين بحجرهم الذي رموا به البلاد ، وأعيا أمره ، وهزم جيوشهم التي جهّزوها إليه وانتدب منهم إلى ملاقاته ، أبو حفص عمر بن يحيى الهنتائي ، في جيش خشن من فرسان ورجّالة ، كان أبو جعفر بن عطية ، من الرّجالة ، مرتسما بالرماية ، والتقى الجمعان ، فهزم جيش الماسي ، وظهر عليه الموحّدون. وقتل الدّعي المذكور ، وعظم موقع الفتح عند الأمير الغالب يومئذ أبو حفص عمر ، فأراد إعلام الخليفة عبد المؤمن ، بما سناه الله ، فلم يلق في جميع من استصحبه من يجلي عنه ، ويوفي ما أراده ، فذكر له أن فتى من الرّماة يخاطر بشيء من الأدب والأشعار والرسائل فاستحضره ، وعرض عليه غرضه ، فتجاهل وظاهر بالعجز ، فلم يقبل عذره ، واشتدّ عليه ، فكتب رسالة فائقة مشهورة ، فلمّا فرغ منها وقرأها عليه اشتدّ إعجابه بها وأحسن إليه ، واعتنى به ، واعتقد أنه ذخر يتحف به عبد المؤمن ، وأنفذ الرسالة ، فلمّا قرئت بمحضر أكابر الدولة ، عظم مقدارها ، ونبه فضل منشئها ، وصدر الجواب ومن فصوله الاعتناء بكاتبها ، والإحسان إليه ، واستصحابه مكرّما. ولما أدخل على عبد المؤمن سأله عن نفسه ، وأحظاه لديه وقلّده خطّة الكتابة ، وأسند إليه وزارته ، وفوّض إليه النظر في أموره كلها ؛ فنهض بأعباء ما فوّض إليه ، وظهر فيه استقلاله وغناؤه ، واشتهر بأجمل السّعي للناس واستمالتهم بالإحسان وعمّت صنائعه (٣) ، وفشا معروفه ، فكان محمود السّيرة ، منحب (٤) المحاولات ، ناجح المساعي ، سعيد المأخذ ، ميسّر المآرب ، وكانت وزارته زينا للوقت ، كمالا للدولة.

محنته : قالوا : واستمرّت حالته إلى أن بلغ الخليفة عبد المؤمن أن النصارى غزوا قصبة ألمرية ، وتحصّنوا بها ؛ واقترن بذلك تقديم ابنه يعقوب على إشبيلية ،

__________________

(١) في النفح : «وعن ابنيه تاشفين وإسحاق».

(٢) هو الثائر محمد بن عبد الله بن هود ، الملقّب بالهادي ، وقد ظهر في رباط ماسة بمنطقة السوس ، وكثر أتباعه ، ثم قضى عليه أبو حفص عمر عام ٥٤١ ه‍.

(٣) الصنائع : جمع صنيعة وهي المعروف. لسان العرب (صنع).

(٤) في النفح : «مبخّت».

١٢٨

فأصحبه أبا جعفر بن عطية ، وأمره أن يتوجّه بعد استقرار ولده بها إلى ألمرية ؛ وقد تقدّم إليها السيد أبو سعيد بن عبد المؤمن ، وحصر من بها النصارى ، وضيّق عليهم ، ليحاول أمر إنزالهم ، ثم يعود إلى إشبيلية ، ويتوجّه منها مع واليها ، إلى منازلة الثائر بها على الوهيبي ؛ فعمل على ما حاوله من ذلك ؛ واستنزل النصارى من ألمريّة على العهد بحسن محاولته ، ورجع السيد أبو سعيد إلى غرناطة ، مزعجين إليها ، حتى يسبقا جيش الطاغية ؛ ثم انصرف إلى إشبيلية ليقضي الغرض من أمر الوهيبي. فعندما خلا منه الجوّ ، ومن الخليفة مكانه ، وجدت حسّاده السبيل إلى التدبير عليه ، والسعي به ، حتى أو غروا صدر الخليفة ؛ فاستوزر عبد المؤمن ابن عبد (١) السلام بن محمد الكومي. وانبرى لمطالبة ابن عطية ، وجدّ في التماس عوراته ، وتشنيع سقطاته ، وأغرى به صنائعه ، وشحن عليه حاشيته ، فبرّوا وراشوا وانقلبوا ، وكان مما نقم على أبي جعفر ، نكاة القرح بالقرح ، في كونه لم يقف في اصطناع العدد الكثير من اللمتونيين ، وانتياشهم من خمولهم ، حتى تزوج بنت يحيى الحمار من أمرائهم ؛ وكانت أمها زينب بنت علي بن يوسف ، فوجدوا السّبيل بذلك إلى استئصال شأفته والحكام ، حتى نظم منهم مروان بن عبد العزيز ، طليقه ومسترقّ اصطناعه ، أبياتا طرحت بمجلس عبد المؤمن (٢) : [البسيط]

قل للإمام أطال (٣) الله مدّته

قولا تبين لذي لبّ حقائقه

إنّ الزراجين قوم قد وترتهم

وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه (٤)

وللوزير إلى آرائهم ميل

لذاك ما كثرت فيهم علائقه

فبادر الحزم في إطفاء (٥) نارهم (٦)

فربما عاق عن أمر عوائقه

هم العدوّ ومن والاهم كهم

فاحذر عدوّك واحذر من يصادقه

الله يعلم أني ناصح لكم

والحقّ أبلج لا تخفى طرائقه (٧)

__________________

(١) في النفح : «فاستوزر عبد السلام».

(٢) الأبيات في الحلّة السيراء (ج ٢ ص ٢٢٦) ، والبيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٥٩) ، ونفح الطيب (ج ٧ ص ٧٥).

(٣) في البيان المغرب : «أدام».

(٤) الزراجين : كلمة أطلقها المهدي بن تومرت على المرابطين ، وواحدها زرجان وهو طائر أسود البطن ، أبيض الريش ، شبّه المهدي المرابطين به ؛ لأنهم بيض الثياب ، سود القلوب. نظم الجمان (ص ٨٥). وانظر الإحاطة (ج ١ ص ٢٦٦ حاشية رقم ٢ من تعليق المحقق عنان. والبوائق : جمع بائقة وهي الداهية. محيط المحيط (بوق).

(٥) في الحلة السيراء : «إخماد».

(٦) في البيان المغرب : «نورهم».

(٧) هذا البيت ساقط في البيان المغرب.

١٢٩

قالوا : ولمّا وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره الفاضل (١) أبي جعفر ، وأسرّ له في نفسه تغيّرا ، فكان ذلك من أسباب نكبته. وقيل : أفضى إليه بسرّ فأفشاه ، وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس ، فقلق وعجّل بالانصراف (٢) إلى مرّاكش ، فحجب عند قدومه ، ثم قيد إلى المسجد في اليوم الثاني (٣) بعده ، حاسر العمامة ، واستحضر الناس على طبقاتهم ، وقرّروا (٤) ما يعلمون من أمره ، وما صار إليهم منه (٥) ، فأجاب كلّ بما اقتضاه هواه ، فأمر (٦) بسجنه ، ولفّ معه أخوه أبو عقيل عطية ، وتوجّه عبد المؤمن في إثر ذلك زائرا إلى تربة المهدي (٧) ، فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف. وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة ، من لطائف الأدب ، نظما ونثرا في سبيل التوسّل بتربة إمامهم (٨) ، عجائب لم تجد (٩) ، مع نفوذ قدر الله فيه. ولما انصرف من وجهته أعادهما معه ، قافلا إلى مراكش ، فلما حاذى تاقمرت ، أنفذ الأمر بقتلهما ، بالشّعراء المتّصلة بالحصن على مقربة من الملّاحة هنالك ، فمضيا لسبيلهما ، رحمهما الله (١٠).

شعره وكتابته : كان ممّا خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفا كما قلناه من رسالة :

«تالله لو أحاطت بي (١١) خطيئة ، ولم تنفكّ نفسي عن الخيرات بطيئة ، حتى سخرت بمن في الوجود ، وأنفت لآدم من السجود ، وقلت : إن الله لم يوح إلى (١٢) الفلك إلى نوح ، وبريت لقرار (١٣) ثمود نبلا ، وأبرمت لحطب نار الخليل حبلا ، وحططت عن يونس شجرة اليقطين ، وأوقدت مع هامان على الطين ، وقبضت قبضة من الطّير (١٤) من أثر الرسول فنبذتها ؛ وافتريت على العذراء البتول (١٥) فقذفتها ؛ وكتبت صحيفة (١٦) القطيعة بدار الندوة ، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة ،

__________________

(١) كلمة «الفاضل» ساقطة في نفح الطيب.

(٢) في النفح : «الانصراف».

(٣) كلمة «الثاني» غير واردة في النفح.

(٤) في النفح : «على ما».

(٥) في النفح : «إليه منهم».

(٦) في النفح : «وأمر».

(٧) في النفح : «المهدي محمد بن تومرت».

(٨) في النفح : «إمامهم المهدي».

(٩) في النفح : «لم تجد شيئا».

(١٠) في النفح : «الله تعالى».

(١١) في النفح : «بي كل خطيئة».

(١٢) في النفح : «في الفلك لنوح».

(١٣) في النفح : «لقدار». وقدار ثمود : هو عاقر ناقة صالح.

(١٤) قوله : «من الطير» ساقط في النفح.

(١٥) العذراء البتول : هي مريم أمّ عيسى عليهما السلام.

(١٦) هي صحيفة القطيعة التي كتبتها قريش وعلّقتها في الكعبة لمقاطعة بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم.

١٣٠

وذممت كل قرشي ، وأكرمت لأجل وحشي (١) كلّ حبشي ، وقلت إن بيعة السّقيفة لا توجب لإمام (٢) خليفة ، وشحذت شفرة غلام (٣) المغيرة بن شعبة ، واعتقلت (٤) من حصار الدار وقتل أشمطها (٥) بشعبة ، وغادرت الوجه من الهامة خضيبا ، وناولت من قرع سنّ الخمسين (٦) قضيبا ، ثم أتيت حضرة المعصوم (٧) لائذا ، وبقبر الإمام المهديّ عائذا. لقد آن لمقالتي أن تسمع ، وأن (٨) تغفر لي هذه الخطيئات أجمع :[الطويل]

فعفوا أمير المؤمنين فمن لنا

بحمل (٩) قلوب هدّها الخفقان

[وكتب مع ابن له صغير آخرة](١٠) : [البسيط]

عطفا علينا أمير المؤمنين ، فقد

بان العزاء لفرط البثّ والحزن

قد أغرقتنا ذنوب كلّها لجج

وعطفة منكم أنجى من السّفن

وصادفتنا سهام كلّها غرض

لها ورحمتكم (١١) أوقى من الجنن

هيهات للخطب أن تسطو حوادثه

بمن أجارته رحماكم من المحن

من جاء عندكم يسعى على ثقة

بنصره لم يخف بطشا من الزمن

فالثوب يطهر بعد (١٢) الغسل من درن

والطّرف ينهض بعد الرّكض من وسن

أنتم بذلتم حياة الخلق كلّهم

من دون منّ عليهم لا ولا ثمن

ونحن من بعض من أحيت مكارمكم

تلك الحياتين من نفس ومن بدن

وصبية كفراخ الورق من صغر

لم يألفوا النّوح في فرع ولا فنن

قد أوجدتهم أياد منك سابغة (١٣)

والكلّ لولاك لم يوجد ولم يكن

__________________

(١) وحشي : هو قاتل حمزة عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد. وقد أسلم فيما بعد ، وقتل مسيلمة الكذّاب.

(٢) في النفح : «إمامة الخليفة».

(٣) غلام المغيرة : هو أبو لؤلؤة ، قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(٤) في النفح : «واعتلقت».

(٥) أراد بأشمط الدار عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(٦) في النفح : «الحسين».

(٧) في النفح : «المعلوم».

(٨) في النفح : «وتغفر».

(٩) في النفح : «بردّ».

(١٠) ما بين قوسين غير وارد في الإحاطة ، وقد أضفناه من النفح ، لأن الأبيات على قافية النون المكسورة ، وهي على البسيط.

(١١) في النفح : «ورحمة منكم أوقى ...».

(١٢) في النفح : «عند».

(١٣) في النفح : «سابقة».

١٣١

ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص ، وهي التي أورثته الكتابة العليّة والوزارة كما تقدم قوله (١) :

«كتبنا (٢) هذا من وادي ماسة بعد ما تزحزح (٣) أمر الله الكريم ، ونصر الله المعلوم (٤)(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(٥) فتح بمسرى (٦) الأنوار إشراقا ، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقا ، ونبّه للأماني النّائمة جفونا وأحداقا ، واستغرق غاية الشكر استغراقا ، فلا تطيق الألسن كنه (٧) وصفه إدراكا ولا لحاقا ؛ جمع أشتات الطبّ (٨) والأدب ، وتقلّب في النعم أكرم منقلب ، وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب (٩) : [البسيط]

فتح تفتّح أبواب السماء له

وتبرز الأرض في أثوابها القشب

وتقدّمت بشارتنا به جملة ، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة. كان أولئك الضالّون المرتدّون قد بطروا عدوانا وظلما ، واقتطعوا الكفر معنى واسما ، وأملى لهم الله ليزدادوا إثما ؛ وكان مقدّمهم الشّقي قد استمال النفوس بخزعبلاته ، واستهوى القلوب بمهولاته ، ونصب له الشيطان من حبالاته ، فأتته المخاطبة (١٠) من بعد وكثب ، ونسلت إليه الرسل من كل حدب ، واعتقدته الخواطر أعجب عجب ؛ وكان الذي قادهم لذلك (١١) ، وأوردهم تلك المهالك ، وصول من بتلك (١٢) السواحل ، ممّن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس ، فيما سلف من الأعوام ، واشتغل على رغمه (١٣) بالصيام والقيام ، آناء الليل (١٤) والأيام ، لبسوا الناموس أثوابا ، وتدرّعوا الرياء جلبابا ، فلم يفتح الله لهم إلى التوفيق (١٥) بابا».

ومنها في ذكر صاحبهم (١٦) :

__________________

(١) الرسالة في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٧٨).

(٢) في النفح : «كتابنا».

(٣) في النفح : «ما تجدّد».

(٤) في النفح : «المعهود المعلوم».

(٥) سورة آل عمران ٣ ، الآية ١٢٦.

(٦) في النفح : «فتح بهر الأنوار».

(٧) في النفح : «لكنه».

(٨) في النفح : «الطلب».

(٩) البيت لأبي تمام وهو في ديوانه (ص ١٤).

(١٠) في النفح : «المخاطبات».

(١١) في النفح : «إلى ذلك».

(١٢) في النفح : «من كان بتلك».

(١٣) في النفح : «على زعمه بالقيام والصيام».

(١٤) في النفح : «الليالي».

(١٥) في النفح : «بالتوفيق».

(١٦) هو محمد بن عبد الله الماسي المدّعي للهداية ، كما جاء في النفح ، وكما تقدّم عنه قبل قليل.

١٣٢

«فصرع والحمد (١) لله لحينه ، وبادرت إليه بوادر منونه ، وأتته وافدات الخطيئات عن يساره ، ويمينه ، وكان (٢) يدّعي أن المنيّة في هذه الأعوام لا تصيبه ، ويزعم أنه يبشّر بذلك والنوائب لا تنوبه ؛ ويقول في سواه قولا كثيرا ، ويختلق على الله إفكا وزورا ؛ فلما عاينوا (٣) هيئة اضطجاعه ، ورأوا ما خطّته (٤) الأسنة في أعضائه (٥) ، ونفذ فيه من أمر الله ما لم يقدروا على استرجاعه ؛ هزم لهم من كان لهم من الأحزاب ، وتساقطوا على وجوههم كتساقط (٦) الذّباب ، وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحة (٧) الرّقاب ، ولم تقطر كلومهم إلّا على الأعقاب (٨) ؛ فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم ، وأذنت (٩) الآجال بانقراض آمالهم (١٠) ، وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم ؛ فلم يعاين منهم إلّا من خرّ صريعا ، وسقى الأرض نجيعا (١١) ، ولقي من وقع (١٢) الهنديّات أمرا فظيعا ؛ ودعت الضرورة باقيهم إلى التّرامي في الوادي ، فمن كان يؤمل الفرار منهم ويرتجيه ، ويسبح طامعا في الخروج إلى ما ينجيه ، اختطفته الأسنّة اختطافا ، وأذاقته موتا ذعافا (١٣) ؛ ومن لجّ في الترامي على لججه ، ورام البقاء في ثجّه (١٤) ، قضى عليه شرقه ، وألوى فرقته (١٥) غرقه. ودخل الموحّدون إلى الباقية (١٦) الكائنة فيه ، يتناولون قتالهم طعنا وحربا (١٧) ، ويلقونهم بأمر الله هونا (١٨) عظيما وكربا ، حتى سطت (١٩) مراقات الدماء على صفحات الماء ، وحكت حمرتها على زرقه حمرة الشّفق على زرق (٢٠) السماء ؛ وظهرت (٢١) العبرة للمعتبر ، في جري الدماء (٢٢) جري الأبحر».

__________________

(١) في النفح : «بحمد الله».

(٢) في النفح : «وقد كان يدّعي أنه بشّر بأن المنيّة ...».

(٣) في النفح : «رأوا».

(٤) في النفح : «وما خطته».

(٥) في النفح : «أعضائه وأضلاعه».

(٦) في النفح : «تساقط».

(٧) في النفح : «صفحات».

(٨) كناية عن جبنهم وفرارهم ، وقد أخذ هذا من قول الشاعر : [الطويل]

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أعناقنا يقطر الدّما

لسان العرب (دمي).

(٩) في النفح : «وآذنت».

(١٠) في النفح : «آمادهم».

(١١) النجيع : الدم. لسان العرب (نجع).

(١٢) في النفح : «من أمر الهنديات فظيعا».

(١٣) يقال : السّمّ الذعاف ، أي القاتل لحينه. لسان العرب (ذعف).

(١٤) في النفح : «ثبجه».

(١٥) في النفح : «بذقنه».

(١٦) في النفح : «البقية».

(١٧) في النفح : «وضربا».

(١٨) في النفح : «هولا».

(١٩) في النفح : «حتى انبسطت مراقات الداء».

(٢٠) في النفح : «زرقة».

(٢١) في النفح : «وجرت».

(٢٢) في النفح : «في جري ذلك الدم».

١٣٣

دخوله غرناطة : احتلّ بغرناطة عام أحد وخمسين وخمسمائة ، لما استدعى أهل جهات ألمريّة ، السيّد أبا سعيد إلى منازلة من بها النصارى ؛ وحشد ، ونزل عليها ، ونصب المجانيق على قصبتها ، واستصرخ من بها الطاغية (١) ، فأقبل إلى نصرهم ؛ واستمدّ السيد أبو سعيد الخليفة ، فوجّه إليه الكبير أبا جعفر بن عطية صحبة السيد أبي يعقوب ابنه ، فلحق به ، واتّصل الحصار شهورا سبعة ، وبذل الأمن لمن كان بها ، وعادت إلى ملكة الإسلام ، وانصرف الوزير أبو جعفر صحبة السيد أبي يعقوب إلى إشبيلية ، وجرت أثناء هذه أمور يطول شرحها ؛ ففي أثناء هذه الحركة دخل أبو جعفر غرناطة ، وعدّ فيمن ورد عليها.

مولده : بمرّاكش عام سبعة وعشرين وخمسمائة (٢).

وفاته : على حسب ما تقدّم ذكره ، لليلة بقيت من صفر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة (٣).

أحمد بن محمد بن شعيب الكرياني

من أهل فاس ، يكنى أبا العباس ، ويعرف بابن شعيب من كريانة ، قبيلة من قبائل الرّيف الغربي.

حاله : من «عائد الصّلة» : من أهل المعرفة بصناعة الطب ، وتدقيق النظر فيها ، مشاركا في الفنون ، وخصوصا في علم الأدب ، حافظا للشعر ؛ ذكر أنه حفظ منه عشرين ألف بيت للمحدثين ، والغالب عليه العلوم الفلسفية ، وقد مقت لذلك ، وتهتّك في علم الكيمياء ، وخلع فيه العذار ، فلم يحل بطائل ، إلّا أنه كان تفوّه بالوصول شنشنة المفتونين بها على مدى الدهر. وله شعر رائق ، وكتابة حسنة ، وخط ظريف. كتب في ديوان سلطان المغرب مرئسا ، وتسرّى جارية روميّة اسمها صبح ، من أجمل الجواري حسنا ، فأدّبها حتى لقّنت حظّا من العربية ، ونظمت الشعر ، وكان شديد الغرام بها ، فهلكت أشدّ ما كان حبّا لها ، وامتداد أمل فيها ، فكان بعد وفاتها لا يرى إلّا في تأوّه دائم ، وأسف متماد ، وله فيها أشعار بديعة في غرض الرّثاء.

مشيخته : قرأ في بلده فاس على كثير من شيوخها ، كالأستاذ أبي عبد الله بن أجروم نزيل فاس ، والأستاذ أبي عبد الله بن رشيد ، ووصل إلى تونس ، فأخذ منها الطبّ والهيئة على الشيخ رحلة وقته في تلك الفنون ، يعقوب بن الدرّاس.

__________________

(١) المراد ألفنش ريموندس ، صاحب قشتالة.

(٢) في الحلّة السيراء (ج ٢ ص ٢٣٨): «مولده سنة سبع عشرة وخمسمائة».

(٣) كذا جاء في الحلّة السيراء.

١٣٤

وكان مما خاطب به الشيخ أبا جعفر بن صفوان ، وقد نشأت بينهما صداقة أوجبها القدر المشترك من الولوع بالصّنعة المرموزة ، يتشوّق إلى جهة كانوا يخلون بها للشيخ فيها ضيعة بخارج مالقة كلأها الله : [المتقارب]

رعى الله وادي شنيانة

وتلك الغدايا وتلك اللّيالي (١)

ومسرحنا بين خضر الغصون

وودق المياه وسحر الظّلال

ومرتعنا تحت أدواحه

ومكرعنا في النّمير الزّلال

نشاهد منها كعرض الحسام

إذا ما انتشت فوقه كالعوالي (٢)

ولله من درّ حصبائه

لآل وأحسن بها من لآل

وليل به في ستور الغصون

كخود ترنّم فوق الحجال

وأسحاره كيف راقت وص

حّ النسيم بها في اعتدال

ولله منك أبا جعفر

عميد الحلال حميد الخلال

تطارحني برموز الكنوز

وتسفر لي عن معاني المعالي

وتبدلني في شجون الحديث

ويا طيبة كلّ سحر حلال

فألقط من فيك سحر البيان

مجيبا به عن عريض النّوال

أفدت الذي دونها معشر

كثير المقال قليل النّوال

فأصبحت لا أبتغي بعدها

سواك وبعدكما لا أبالي (٣)

وخاطب الفقيه العالم أبا جعفر بن صفوان يسأله عن شيء من علم الصناعة بما نصّه : [الكامل]

دار الهوى نجد وساكنها

أقصى أماني النفس من نجد

وممّا صدّر به رسالة : [الطويل]

أيجمع هذا الشّمل بعد شتاته؟

ويوصل هذا الحبل بعد انبتاته؟

أما للبلى آية عيسويّة

فينشر ميّت الأنس بعد مماته؟

ويورد عيني بعد ملح مدامعي

برؤيته في عذبه وفراته؟

__________________

(١) في الأصل : «الليال».

(٢) في الأصل : «كالعوال».

(٣) في الأصل : «لا أبال».

١٣٥

وأنشد له صاحبنا الجليل صاحب العلّامة (١) بالمغرب ، أبو القاسم بن صفوان قوله : [المنسرح]

يا ربّ ظبي شعاره نسك

ألحاظه في الورى لها فتك

يترك من هام به مكتئبا

لا تعجبوا أن قومه التّرك

أشكو له ما لقيت من حرق

فيمشين (٢) لاهيا إذا أشكو

صبرت حتى أطلّ عارضه

فكان صبري ختامه مسك

ومن المعاتبة والفكاهة قوله : [السريع]

وبائع للكتب يبتاعها

بأرخض السّوم وأغلاه

في نصف الاستذكار أعطيته ومحّض العين وأرضاه وله أيضا : [الكامل]

يا من توعّدني بحادث هجره

إنّ السّلوّ لدون ما يتوعّد

هذا عذارك وهو موضع سلوتي

فأكفف فقد سبق الوعيد الموعد

وأظنّ سلوتنا غدا أو بعده

فبذاك خبّرنا الغراب الأسود

وله أيضا : [الكامل]

قال العذول تنقّصا لجماله

هذا حبيبك قد أطلّ عذاره

لا بل بدا فصل الربيع بخدّه

فلذا تساوى ليله ونهاره

وله يرثي : [مجزوء الكامل]

يا قبر صبح ، حلّ في

ك بمهجتي أسنى الأماني (٣)

وغدوت بعد عيانها

أشهى البقاع إلى العيان

أخشى المنيّة إنها

تقصي مكانك عن مكاني (٤)

كم بين مقبور بفا

س وقابر بالقيروان

وله أيضا يرثيها : [الكامل]

يا صاحب القبر الذي أعلامه

درست وثابت حبّه لم يدرس

__________________

(١) كان صاحب العلّامة بالمغرب يتولّى التوقيع باسم السلطان على المراسيم الملكية ، وكانت وظيفته من أهم الوظائف الإدارية بالمغرب.

(٢) في الأصل : «فيمش» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «الأمان».

(٤) في الأصل : «مكان».

١٣٦

ما اليأس منك على التصبّر حاملي

أيأستني فكأنني لم أيأس

لمّا ذهبت بكلّ حسن أصبحت

نفسي تعاني شجو كلّ الأنفس

أصباح أيّامي ليال كلّها

لا تنجلي عن صبحك المتنفّس

وقال في ذلك : [مجزوء الكامل]

أعلمت ما صنع الفرا

ق غداة جدّ به الرّفاق؟

ووقفت منهم حيث للن

نظرات والدمع استباق

سبقت مطاياهم فما

أبطا (١)

أأطقت حمل صدودهم

للبين خطب لا يطاق

عن ذات عرق أصعدوا

أتقول دارهم العراق

نزلوا ببرقة ثمهد

فلذاك ما شئت البراق

وتيامنوا عسفان أن

يقفوا بمجتمع الرّفاق

ما ضرّهم وهم المنى

لو وافقوا بعض الوفاق

قالوا تفرّقنا غدا

فشغلت عن وعد التّلاق

عمدا رأوا قتل العمي

د فكان عيشك في اتّفاق

أولى لجسمك أن يرقّ

ودمع عينك أن يراق

أمّا الفؤاد فعندهم

دعه ودعوى الاشتياق

أعتاد حبّ محلهم

فمحلّ صدرك عنه ضاق

واها لسالفة الشبا

ب مضت بأيامي الرقاق

أبقت حرارة لوعة

بين الترائب والتّراق

لا تنطفي وورودها

من أدمعي كأس دهاق

وقال أيضا : [الكامل]

يا موحشي والبعد دون لقائه

أدعوك عن شحط وإن لم تسمع

يدنيك مني الشوق حتى إنني

لأراك رأي العين لو لا أدمعي

وأحنّ شوقا للنّسيم إذا سرى

لحديثكم وأصيح كالمستطلع

كان اللّقاء (٢) فكان حظّي ناظري

وسط الفراق فصار حظّي مسمعي (٣)

__________________

(١) في الأصل : «أبطى» ، وجاءت هنا مخفّفة عن الأصل وهو : «أبطأ».

(٢) في الأصل : «اللقا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «مسمع».

١٣٧

فابعث خيالك تهده نار الحشا

إن كان يجهل من مقامي موضعي (١)

واصحبه من نومي بتحفة قادم

فصدى فليل ركابكم لم تجمع

دخوله غرناطة : دخل غرناطة على عهد السابع من ملوكها الأمير محمد (٢) لقرب من ولايته في بعض شؤونه ؛ وحقّق بها تغيير أمر الأدوية المنفردة التي يتشوّف الطّيب إليها والشحرور ، وهي بقرية شون (٣) من خارجها.

وفاته : رحمه الله ، توفي بتونس في يوم عيد الأضحى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

أحمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد

ابن محمد بن حسين بن علي بن سليمان بن عرفة اللخمي

الفقيه ، الرئيس ، المتفنّن ، حامل راية مذهب الشعر في وقته ، المشار إليه بالبنان في ذلك ببلده ، يكنى أبا العباس.

حاله : كان فذّا في الأدب ، طرفا في الإدراك ، مهذب الشمائل ، ذلق اللسان ، ممتع المجالسة والمحاضرة ، حلو الفكاهة ، يرمي كل غرض بسهم ، إلى شرف النشأة وعزّ المرتبة ، وكرم المحتد ، وأصالة الرياسة.

حدّثني الشيخ أبو زكريا بن هذيل ، قال : حضرت بمجلس ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم ، وأبو العباس بدر هالته ، وقطب جلالته ، فلم يحر بشيء إلّا ركض فيه ، وتكلّم بملء فيه. ثم قمنا إلى زبّارين يصلحون شجرة عنب ، فقال لعريفهم : حقّ هذا أن يقصر ، ويطال هذا ، ويعمل كذا. فقال الوزير : يا أبا العباس ، ما تركت لهؤلاء أيضا حظّا من صناعتهم ، يستحقّون به الأجرة ، فعجبنا من استحضاره ، ووساعة ذرعه ، وامتداد حظّ كفايته.

قدومه على غرناطة : قدم عليها مع الجملة من قومه عند تغلب الدولة النصرية على بلدهم ، ونزول البلاء والغلاء والمحنة بهم ، والجلاء بهم في آخر عام خمسة

__________________

(١) في الأصل : «موضع».

(٢) سابع سلاطين بني نصر هو أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري ، وقد حكم من سنة ٧٣٣ ه‍ إلى سنة ٧٥٥ ه‍. وسادس سلاطينهم هو محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري ، وقد حكم من سنة ٧٢٥ ه‍ إلى سنة ٧٣٣ ه‍. راجع اللمحة البدرية (ص ٩٠ ، ١٠٢).

(٣) شون : بالإسبانيةJun ، وتقع شمال غرناطة.

١٣٨

وسبعمائة ، ويأتي التعريف بهم بعد إن شاء الله. وكان أوفر الدواعي في الاستعطاف لهم بما تقدّم بين يدي أدعيائهم ، ودخولهم على السلطان ، أن الذي تنخل بمثله السّخائم ، وتذهب الإحن. وخطب لنفسه ، فاستمرت حاله لطيف المنزلة ، معروف المكانة ، ملازما مجلس مدبّر الدولة ، مرسوما بصداقته ، مشتملا عليه ببرّه ، إلى أن كان من تقلّب الحال ، وإدالة الدولة ، ما كان.

شعره : وشعره نمط عال ، ومحلّ البراعة حال ، لطيف الهبوب ، غزير المائية ، أنيق الديباجة ، جمّ المحاسن ؛ فمنه في مذهب المدح ، يخاطب ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم (١) : [الكامل]

ملّكت (٢) رقيّ بالجمال فأجمل

وحكمت في (٣) قلبي بجورك فاعدل

أنت الأمير على الملاح ومن يجر

في حكمه إلّا جفونك يعزل

إن قيل أنت البدر فالفضل الذي

لك بالكمال ونقصه لم يجهل

لو لا الحظوظ لكنت أنت مكانه

ولكان دونك في الحضيض الأسفل

عيناك نازلتا القلوب فكلّها

إما جريح أو مصاب المقتل

هزّت ظباها بعد كسر جفونها

فأصيب قلبي في الرّعيل الأول

ما زلت أعذل في هواك ولم يزل

سمعي عن العذّال فيك بمعزل

أصبحت في شغل بحبك شاغل

عن أن أصيخ إلى كلام العذّل

لم أهمل الكتمان لكن أدمعي

هملت ولو لم تعصني لم تهمل

جمع الصحيحين الوفاء مع الهوى

قلبي وأملى الدّمع كشف المشكل

ما في الجنوب ولا الشمال جواب ما

أهدى إليك مع الصّبا والشّمال (٤)

خلسا له من طيب عرفك نفحة

تجيء بها دماء عليلها المتعلل

إن كنت بعدي حلت عمّا لم أحل

عنه وأهملت الذي لم أهمل

أو حالت الأحوال فاستبدلت بي

فإنّ حبي فيك لم يستبدل

__________________

(١) هو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد اللخمي ، المعروف بابن الحكيم. من أهل رندة ، كاتب أديب بليغ ، شهير الذّكر بالأندلس. توفي بفاس سنة ٧٢١ ه‍. ترجمته في أزهار الرياض (ج ٢ ص ٣٤٠) وقصيدة ابن عرفة اللامية في أزهار الرياض (ج ٢ ص ٣٥٧).

(٢) في الأصل : «تملّكت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من أزهار الرياض.

(٣) كلمة «في» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من أزهار الرياض.

(٤) هذا البيت والأبيات التي تليه لم ترد في أزهار الرياض.

١٣٩

لا قيت بعدك ما لو أنّ أقلّه

لاقى الثرى لأذاب صمّ الجندل

وحملت في حبّك ما لو حمّلت

شمّ الجبال أخفّه لم تحمل

من حيف دهر بالحوادث مقدم

حتى على حبس الهزبر المشبل

قد كنت منه قبل كرّ صروفه

فوق السّنام فصرت تحت الكلكل

ونصول شيب قد ألمّ بلمّتي

وخضاب أبي شيبة لم تنصل

ينوي الإقامة ما بقيت وأقسمت

لا تنزل اللذات ما لم يرحل

ومسير ظعن ودان حميمه

لاقى الحمام وإنّه لم يفعل

يطوي على جسدي الضلوع فقلبه

بأواره يغلي كغلي المرجل

في صدره ما ليس في صدري له

من مثله مثقال حبّة خردل

أعرضت عنه ولو أشفّ لذمّه

شعري لجرّعه نقيع الحنظل

جلّيت في حلبات سبق لم يكن

فيها مرتاح ولا بمؤمّل

ما ضرّه سبقيه في زمن مضى

أنّ المجلّى فيه دون الفسكل

ساءته منّي عجرفيّة قلّب

باق على مرّ الحوادث حوّل

متحرّق في البذل مدّة سيره

متجلّد في عسره متجمّل

حتى يثوب له الغنى من ماجد

بقضاء حاجات الكرام موكّل

مثل الوزير ابن الحكيم وما له

مثل يقوم مقامه متمثّل

ساد الورى بحديثه وقديمه

في الحال والماضي وفي المستقبل

من بيت مجد قد سمعت بقبابه

أقيال لخم في الزمان الأوّل

سامي الدعائم طال بيت وزارة

ومشاجع وأبي الفوارس نهشل

يلقى الوفود ببسط وجه مشرق

تجلو طلاقته هموم المجتلي

فلآملي جدواه حول فنائه

لقط القطا الأسراب حول المنهل

وإذا نحى بالعدل فصل قضية

لم تحظ فصلا من إطالة مفصل

يقضي على سخب الخصوم وشغبهم

ويقيم مغريهم مقام المؤمل

ويلقّن الحج العييّ تحرّجا

من رامح عند اللّجاج وأعزل

فإذا قضى صور المحقّ بحقّه

عنه وحلّق عقابه بالمبطل

عجل على من يستحقّ مثوبة

فإذا استحقّ عقوبة لم يعجل

يا كافي الإسلام كلّ عظيمة

ومعيده غضّا كأن لم يذبل

١٤٠