الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

في أثناء القطيعة ، فقال في ذلك متشفّيا ، وهو من نبيه كلامه ، وكلّه نبيه : [الطويل]

تردّى ابن منظور وحمّ حماه

وأسلمه حام له ونصير

تبرّأ منه أولياء غروره

ولم يقه بأس المنون ظهير

وأودع بعد الأنس موحش بلقع

فحيّاه فيه منكر ونكير

ولا رشوة يدلي القبول رشادها

فينسخ بالسّير المريح عسير

ولا شاهد يغضي له عن شهادة

تخلّلها إفك يصاغ وزور

ولا خدعة تجدي ولا مكر نافع

ولا غشّ مطويّ عليه ضمير

ولكنه حقّ يصول وباطل

يحول ومثوى جنّة وسعير

وقالوا قضاء الموت حتم على الورى

يدير صغير كأسه وكبير

فلا تنتسم ريح ارتياح لفقده

فإنّك عن قصد السّبيل تحور

فقلت بلى حكم المنيّة شامل

وكلّ إلى ربّ العباد يصير

ولكن تقدّم الأعادي إلى الرّدى

نشاط يعود القلب منه سرور

وأمن ينام المرء في برد ظلّه

ولا حيّة للحقد ثمّ تثور

وحسبي بيت قاله شاعر مضى

غدا مثلا في العالمين يسير

وإنّ بقاء المرء بعد عدوّه

ولو ساعة من عمره لكثير

مولده : قال بعض شيوخنا : سألته عن مولده فقال لي : في آخر خمسة وتسعين وستمائة ، أظنّ في ذي قعدة منه الشكّ.

وفاته : بمالقة في آخر جمادى الثانية من عام ثلاثة وستين وسبعمائة.

أحمد بن أيوب اللّمائي (١)

من أهل مالقة ، يكنى أبا جعفر.

__________________

(١) في الأصل : «اللماي» والتصويب من المصادر. واللمائي : نسبة إلى لماية من أقاليم كورة رية بالأندلس. الروض المعطار (ص ٥١١). وجعلها ياقوت مدينة أعمال ألمرية. معجم البلدان (ج ٥ ص ٢٢). وقال ابن سعيد : إن مدينة لماية حصن من حصون مالقة. المغرب (ج ١ ص ٤٤٦). وهي كذلك في تقويم البلدان لأبي الفدا (ص ١٧٥). وترجمة أحمد بن أيوب في جذوة المقتبس (ص ٣٩٤) ، والذخيرة (ق ١ ص ٦١٧) ، وجذوة المقتبس (ص ٣٩٤) ، وبغية الملتمس (ص ٥٢٠) ، والمغرب (ج ١ ص ٤٤٦) ، والذيل والتكملة (القسم الأول ص ٧٣) ، ـ

١٠١

حاله : قال صاحب الذّيل (١) : كان أديبا ماهرا ، وشاعرا (٢) جليلا ، وكاتبا نبيلا (٣). كتب عن أوّل الخلفاء الهاشميين بالأندلس ، علي (٤) بن حمّود ، ثم عن غيره من أهل بيته ؛ وتولّى تدبير أمرهم (٥) ، فحاز لذلك صيتا شهيرا ، وجلالة عظيمة. وذكره ابن بسّام في كتاب «الذّخيرة» ، فقال (٦) : كان أبو جعفر هذا في (٧) وقته أحد أئمة الكتّاب ، وشهب الآداب (٨) ، ممّن سخّرت له فنون البيان ، تسخير الجنّ لسليمان ، وتصرّف في محاسن الكلام ، تصرّف الرياح بالغمام ، طلع من ثناياه ، واقتعد مطاياه ؛ وله إنشاءات سريّة ، في الدولة الحمّودية ، إذ كان علم أدبائها ، والمضطلع بأعبائها ، إلّا أني لم أجد عند تحريري هذه النّسخة ، من كلامه ، إلّا بعض فصول له (٩) من منثور ، وهي ثماد من بحور.

فصل : من (١٠) رقعة خاطب بها أبا جعفر بن العباس : «غصن ذكرك عندي ناضر ، وروض شكرك لديّ عاطر ، وريح إخلاصي لك صبا ، وزمان (١١) آمالي فيك صبا ، فأنا شارب ماء إخائك ، متفيّئ ظلّ (١٢) وفائك ؛ جان منك ثمرة فرع طاب أكله ، وأجناني البرّ قديما أصله ، وسقاني إكراما برقه ، وروّاني إفضالا ودقه ؛ وأنت الطّالع في فجاجه ، السّالك لمنهاجه ؛ سهم في كنانة الفضل صائب ، وكوكب في سماء المجد ثاقب ، إن أتبعت الأعداء نوره أحرق ، وإن رميتهم به أصاب الحدق ؛ وعلى الحقيقة فلساني يقصر عن جميل أسرّه (١٣) ، ووصف ودّ أضمره».

__________________

ـ ورايات المبرزين (ص ٢٣١) ، ومطمح الأنفس (ص ٢٠٩) ، ونفح الطيب (ج ٤ ص ١٧٢) ، و (ج ٥ ص ٩١ ، ٩٢ ، ١٣٥ ، ٢٩٣). ولم يذكر أحد ممّن ترجم له من هؤلاء المذكورين أنه كان يتردّد على غرناطة إلّا ابن الخطيب.

(١) الذيل والتكملة (ج ١ ص ٧٣).

(٢) قوله : «وشاعرا جليلا» ساقط في الذيل والتكملة.

(٣) في الذيل والتكملة : «كاتبا جليلا».

(٤) في الذيل والتكملة : «الناصر لدين الله أبي الحسن علي بن حمود ...».

(٥) في الذيل والتكملة : «أمره ، وأحرز لذلك ...».

(٦) الذخيرة (ق ١ ص ٦١٧).

(٧) كلمة «في» ساقطة في الذخيرة.

(٨) في الأصل : «الأدب» والتصويب من الذخيرة.

(٩) كلمة «له» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الذخيرة.

(١٠) هذه الرقعة في الذخيرة (ق ١ ص ٦١٨).

(١١) في الذخيرة : «وزمن».

(١٢) في الذخيرة : «ظلال».

(١٣) في الأصل : «أنشره» والتصويب من الذخيرة.

١٠٢

شعره : قال ، ومما وجد بخطه لنفسه (١) : [الكامل]

طلعت طلائع (٢) للربيع فأطلعت

في الرّوض وردا قبل حين أوانه

حيّا أمير المسلمين (٣) مبشّرا

ومؤمّلا للنّيل من إحسانه

ضنّت سحائبه عليه بمائها (٤)

فأتاه يستسقيه ماء بنانه

دامت لنا أيّامه موصولة

بالعزّ والتّمكين في سلطانه

قال : وأنشدني الأديب أبو بكر بن معن ، قال : أنشدني أبو الربيع بن العريف لجدّه الكاتب أبي جعفر اللمائي ، وامتحن بداء النّسمة من أمراض الصّدر ، وأزمن به ، نفعه الله ، وأعياه علاجه ، بعد أن لم يدع فيه غاية ، وفي ذلك يقول (٥) : [الكامل]

لم يبق من شيء أعالجها به (٦)

طمع الحياة ، وأين من لا يطمع؟

«وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع» (٧)

ودخل عليه بعض أصحابه فيها ، وجعل يروّح عليه فقال له بديهة (٨) : [المنسرح]

روّحني عائدي فقلت له : مه (٩)

، لا تزدني على الذي أجد

أما ترى النار وهي خامدة

عند هبوب الرياح تتّقد؟

ودخل غرناطة غير ما مرة ، منها متردّدا بين أملاكه ، وبين من بها من ملوك صنهاجة ؛ قالوا : ولم تفارقه تلك الشّكاية حتى كانت سبب وفاته.

وفاته : بمالقة عام خمسة وستين وأربعمائة. ونقل منها إلى حصن الورد ، وهو عند حصن منت ميور إذ كان قد حصّنه ، واتّخذه لنفسه ملجأ عند شدّته ، فدفن به ،

__________________

(١) الأبيات في الذخيرة (ق ١ ص ٦٢٢) ، ونفح الطيب (ج ٥ ص ٢٩٣).

(٢) في الذخيرة : «طوالع».

(٣) في المصدرين : «المؤمنين».

(٤) في النفح : «بمائه».

(٥) البيتان في الذخيرة (ق ١ ص ٦٢٢) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٧٤).

(٦) في المصدرين : «لم يبق شيء لم أعالجها ...».

(٧) البيت ، كما جاء في الذيل والتكملة ، لأبي ذؤيب خويلد بن خالد بن هذيل ، وهو في ديوان الهذليين ، دار الكتب المصرية (ج ١ ص ٣).

(٨) البيتان في الذخيرة (ق ١ ص ٦٢١) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٧٣ ـ ٧٤) ، ونفح الطيب (ج ٥ ص ١٣٥).

(٩) كلمة «مه» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الذخيرة والذيل. وفي النفح : «لا» مكان «مه».

١٠٣

بعهد منه بذلك ، وأمر أن يكتب على قبره بهذه الأبيات (١) : [الطويل]

بنيت ولم (٢) أسكن وحصّنت جاهدا

فلمّا أتى المقدور صيّره (٣) قبري

ولم يك (٤) حظّي غير ما أنت مبصر

بعينك ما بين الذّراع إلى الشّبر

فيا زائرا قبري أوصّيك جاهدا

عليك بتقوى الله في السّرّ والجهر

فلا (٥) تحسنن بالدّهر ظنّا فإنما

من الحزم ألّا يستنام (٦) إلى الدهر

أحمد بن محمد بن طلحة (٧)

من أهل جزيرة شقر ، يكنى أبا جعفر ، ويعرف بابن جدّه طلحة.

حاله : قال صاحب «القدح المعلّى» (٨) : من بيت مشهور بجزيرة شقر من عمل بلنسية ، كتب عن ولاة الأمر (٩) من بني عبد المؤمن ، ثم استكتبه ابن هود (١٠) ، حين تغلّب على الأندلس ، وربما استوزره (١١) ، وهو ممّن كان والدي يكثر مجالسته ، وبينهما مزاورة ، ولم أستفد منه إلّا ما كنت أحفظه من (١٢) مجالسته.

شعره : قال (١٣) : سمعته يوما (١٤) يقول ، تقيمون القيامة بحبيب (١٥) ، والبحتري ، والمتنبي ، وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتد إليه المتقدّمون ولا المتأخّرون ،

__________________

(١) الأبيات في الذيل والتكملة (ج ١ ص ٧٤ ـ ٧٥).

(٢) في الذيل : «فلم».

(٣) في الذيل : «صيّرته».

(٤) في الأصل : «يكن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل.

(٥) في الذيل : «ولا».

(٦) في الذيل : «يستسام».

(٧) ترجمة ابن طلحة في القدح المعلى (ص ١١٤) ، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ٢٠٩) ، والمغرب (ج ٢ ص ٣٦٤) ، والذيل والتكملة (ج ١ ص ٣٧٧) ، والوافي بالوفيات (ج ٨ ص ٢١) ، ونفح الطيب (ج ٤ ص ٢٧٤).

(٨) اختصار القدح المعلى (ص ١١٤). والنص ورد أيضا في نفح الطيب (ج ٤ ص ٢٧٤).

(٩) كلمة «الأمر» ساقطة في القدح المعلى ونفح الطيب.

(١٠) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود ، مات مقتولا سنة ٦٣٥ ه‍. وقد تقدّم الحديث عنه في هذا الجزء في فصل «فيمن تداول هذه المدينة». وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.

(١١) في القدح المعلى والنفح : «استوزره في بعض الأحيان».

(١٢) في نفح الطيب : «في».

(١٣) ما يزال النقل مستمرّا عن القدح المعلى (ص ١١٤ ـ ١١٥). وهو أيضا في نفح الطيب (ج ٤ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٦).

(١٤) في القدح : «مرة يقول وهو في محفل ...». وفي النفح : «مرة وهو في محفل يقول».

(١٥) في النفح : «الحبيب».

١٠٤

فانبرى إليه (١) شخص له همّة (٢) وإقدام ، فقال (٣) : يا أبا جعفر ، أين (٤) برهان ذلك ، فما أظنك تعني إلّا نفسك (٥) ، فقال (٦) : ما أعني إلّا نفسي ، ولم لا ، وأنا الذي أقول (٧) : [السريع]

يا هل ترى أظرف (٨) من يومنا

قلّد جيد الأفق طوق العقيق

وأنطق الورق بعيدانها

مطربة (٩) كلّ قضيب وريق

والشّمس لا تشرب خمر النّدى

في الرّوض إلّا بكؤوس (١٠) الشّقيق

فلم ينصفوه في الاستحسان ، وردّوه في الغيظ (١١) كما كان ، فقلت له : يا سيدي ، هذا والله (١٢) السّحر الحلال ، وما سمعت من شعراء عصرنا مثله ، فبالله إلّا ما لازمتني وزدتني من هذا النمط ، فقال لي : لله درّك ، ودرّ أبيك من منصف ابن منصف. اسمع ، وافتح أذنيك. ثم أنشد (١٣) : [الوافر]

أدرها فالسماء بدت عروسا

مضمّخة الملابس بالغوالي

وخدّ الأرض (١٤) خفّره (١٥) أصيل

وجفن (١٦) النّهر كحّل بالظّلال

وجيد الغصن يشرف (١٧) في لآل

تضيء بهنّ أكناف اللّيالي

فقلت : بالله أعد وزد ، فأعاد والارتياح قد ملأ (١٨) عطفه ، والتّيه قد رفع أنفه ،

__________________

(١) في القدح : «ما لم يهتدوا إليه ، فانبرى له ...». وفي النفح : «ما لم يهتدوا إليه ، فأهوى له».

(٢) في المصدرين : «قحة».

(٣) في القدح : «وقال».

(٤) في المصدرين : «فأرنا».

(٥) في القدح : «وما أظنك إلّا تعني نفسك».

(٦) في القدح : «قال».

(٧) في القدح : «أقول ما لم يهتد إليه متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر». ومثله في النفح مع فارق كلمة «يتنبّه» مكان «يهتد». والأبيات أيضا في المغرب (ج ٢ ص ٣٦٥).

(٨) في الأصل : «الظرف» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر الثلاثة.

(٩) في القدح : «من فضّة». وفي المغرب والنفح : «مرقصة».

(١٠) في الأصل : «بكأس» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر الثلاثة.

(١١) في القدح : «الغيظ إلى أشدّ مما كان». وفي النفح : «الغيظ إلى أضيق مكان».

(١٢) في النفح : «هو».

(١٣) الأبيات أيضا في المغرب (ج ٢ ص ٣٦٥).

(١٤) في المصادر الثلاثة : «الروض» وهو أدقّ للسياق.

(١٥) في النفح : «حمّره».

(١٦) في القدح : «وحقو». والحقو : الكشح ، ويريد : الشاطئ.

(١٧) في الأصل : «يشرق» والتصويب من المصادر الثلاثة.

(١٨) في النفح : «ملك».

١٠٥

ثم قال (١) : [السريع]

لله نهر عندما زرته

عاين طرفي منه سحرا حلال

إذ (٢) أصبح الطّلّ به ليلة

وجال (٣) فيه (٤) الغصن مثل (٥) الخيال

فقلت : ما على هذا مزيد في الاستحسان (٦) ، فعسى أن يكون المزيد في الإنشاد ، فزاد ارتياحه وأنشد (٧) : [الوافر]

ولمّا ماج بحر الليل بيني

وبينكم وقد جدّدت ذكرا

أراد لقاءكم (٨) إنسان عيني

فمدّ له المنام عليه جسرا

فقلت (٩) : إيه زادك الله إحسانا ، فزاد (١٠) : [الوافر]

ولمّا أن رأى إنسان عيني

بصحن الخدّ منه غريق ماء

أقام له العذار عليه جسرا

كما مدّ الظلام على الضّياء

فقلت : فما تكرّر (١١) ويطول ، فإنه مملول ، إلّا ما أوردته آنفا ، فإنه كنسيم الحياة ، وما إن يملّ ، فبالله إلّا ما زدتني (١٢) ، وتفضّلت عليّ بالإعادة ، فأعاد وأنشد : [الكامل]

هات المدام إذا رأيت شبيهها

في الأفق يا فردا بغير شبيه

فالصّبح قد ذبح الظلام بنصله

فغدت حمائمه تخاصم فيه (١٣)

دخوله غرناطة : دخلها مع مخدومه المتوكل على الله ابن هود وفي جملته ، إذ كان يصحبه في حركاته ، ويباشر معه الحرب ، وجرت عليه الهزائم ، وله في ذلك كلّه شعر.

__________________

(١) البيتان أيضا في المغرب (ج ٢ ص ٣٦٥).

(٢) في الأصل : «إذا» والتصويب من المصادر الثلاثة.

(٣) في المغرب : «وحال».

(٤) في القدح : «منها».

(٥) في المصادر الثلاثة : «شبه».

(٦) في القدح : «الإحسان».

(٧) البيتان أيضا في المغرب (ج ٢ ص ٣٦٥).

(٨) في الأصل : «لقاكم» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر الثلاثة.

(٩) في القدح : «فقلت له».

(١٠) البيتان أيضا في المغرب (ج ٢ ص ٣٦٥).

(١١) في القدح : «يكرّر».

(١٢) في القدح المعلى : «إلّا تفضلت بالإعادة والزيادة. فأعاد ثم قال : وهذا حسبك لئلا تكثر المعاني عليك فلا تقوم بحقّ فهمها وإنصافها. ثم أنشد إذ ذاك».

(١٣) في القدح والنفح : «فغدت تخاصمه الحمائم فيه».

١٠٦

محنته : قالوا (١) : لم يقنع بما أجرى عليه أبو العباس الينشتي (٢) من الإحسان ، فكان يوغر صدره من الكلام فيه ، فذكروا أن الينشتي قال يوما في مجلسه : رميت يوما بسهم من كذا ، فبلغ إلى كذا ؛ فقال ابن طلحة لشخص كان إلى جانبه : والله لو كان قوس قزح ؛ فشعر أبو العباس إلى قوله ما يشبه ذلك ، واستدعى الشخص ، وعزم عليه ، فأخبره بقوله ، فأسرّها في نفسه ، إلى أن قوّى الحقد عليه ، من ما بلغه عنه من قوله يهجوه : [الوافر]

سمعنا بالموفّق فارتحلنا

وشافعنا له حسب وعلم

ورمت يدا أقبّلها وأخرى

أعيش بفضلها أبدا وأسمو

فأنشدنا لسان الحال عنه (٣)

يد شلّا وأمر لا يتمّ

فزادت موجدته (٤) عليه ، وراعى أمره إلى أن بلغته أبيات قالها في شهر رمضان ، وهو على حال الاستهتار : [الوافر]

يقول أخو الفضول وقد رآنا

على الإيمان يغلبنا المجون (٥)

أتنتهكون (٦) شهر الصّوم هلّا

حماه منكم عقل ودين؟

فقلت اصحب سوانا ، نحن (٧) قوم

زنادقة مذاهبنا فنون

ندين بكلّ دين غير دين الر

رعاع فما به أبدا ندين

فحيّ على الصّبوح (٨) الدّهر ندعو

وإبليس يقول لنا أمين (٩)

أيا (١٠) شهر الصيام إليك عنّا

إليك (١١) ففيك أكفر ما نكون

__________________

(١) ما يزال النقل عن اختصار القدح المعلى (ص ١١٦ ـ ١١٧) ، وهو أيضا في نفح الطيب (ج ٤ ص ٢٧٦ ـ ٢٧٧) ، ولكن النص فيه بعض التغيير عمّا هنا.

(٢) كان أبو العباس الينشتي ، كما في اختصار القدح ، واليا على سبتة. وفي الذيل والتكملة (ج ١ ص ٣٨١) : هو أمير سبتة الموفق بالله أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أبي الفضل مبارك المعروف باليناشتي. والينشتي : نسبة إلى حصن ينشتة ، أحد حصون الأندلس.

(٣) في نفح الطيب : «فيه».

(٤) في القدح : «فزاد ذلك في حنقه». وفي النفح : فزاد في حنقه».

(٥) في الأصل : «بلّغنا الحجون» والتصويب من المصدرين.

(٦) في الأصل : «أنشكو» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٧) في الأصل : «فنحن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٨) في الأصل : «فنحن على صفوح الدهر ...» وهو لا معنى له ، والتصويب من المصدرين ، ولكن جاء في النفح : «بحيّ» مكان «فحيّ». والصبوح : خمرة الصباح.

(٩) في الأصل : «آمين» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(١٠) في المصدرين : «فيا».

(١١) كلمة «إليك» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من المصدرين.

١٠٧

قال : فأرسل إليه من هجم عليه ، وهو على هذا (١) الحال ، وأظهر إرضاء العامّة بقتله ، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وستمائة (٢). ولا خفاء أنه من صدور الأندلس ، وأشدّهم عثورا على المعاني الغريبة المخترعة ، رحمه الله.

أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد

ابن خاتمة الأنصاري

من أهل ألمريّة ، يكنى أبا جعفر ، ويعرف بابن خاتمة (٣).

حاله : هذا (٤) الرجل صدر يشار إليه ، طالب متفنّن ، مشارك ، قويّ الإدراك ، سديد النّظر ، قوي الذهن ، موفور الأدوات ، كثير الاجتهاد ، معين الطبع ، جيّد القريحة ، بارع الخط ، ممتع المجالسة ، حسن الخلق ، جميل العشرة ، حسنة من حسنات الأندلس ، وطبقة في النظم والنثر ، بعيد المرقى في درجة الاجتهاد ، وأخذه بطرق الإحسان ؛ عقد الشروط ، وكتب عن الولاة ببلده ، وقعد للإقراء ببلده ، مشكور السّيرة ، حميد الطريقة ، في ذلك كله.

وجرى ذكره في كتاب «التّاج» بما نصّه (٥) : «ناظم درر الألفاظ ، ومقلّد جواهر الكلام نحور الرّواة ولبّات الحفّاظ ، والآداب (٦) التي أصبحت شواردها حلم النائم وسمر الأيقاظ ، وكم (٧) في بياض طرسها وسواد نقسها (٨) سحر الألحاظ (٩). رفع (١٠) في قطره راية هذا الشأن على وفور حلبته ، وقرع فنّه البيان على سموّ هضبته ، وفوّق سهمه إلى بحر الإحسان ، فأثبته في لبّته ؛ فإن أطال شأن الأبطال ، وكاثر المنسجم

__________________

(١) في المصدرين : «هذه».

(٢) كذا في النفح. وفي اختصار القدح : «إحدى وثمانين وستمائة» وهو خطأ. وفي المقتضب من كتاب تحفة القادم : قتل بسبتة سنة ٦٣٢ ه‍. وفي الذيل والتكملة (ج ١ ص ٣٨١) : قتل في أواخر ٦٣٢ ه‍ أو أوائل ٦٣٣ ه‍.

(٣) ترجمة ابن خاتمة في الكتيبة الكامنة (ص ٢٣٩) ، ونثير فرائد الجمان (ص ٣٣١) ، ونيل الابتهاج ، طبعة فاس (ص ٥١) ، ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٧١) ، ومواضع أخرى متفرقة. وانظر أيضا مقدمة ديوان ابن خاتمة ، بقلم محقّقه الدكتور محمد رضوان الداية ، حيث ثبت بأسماء مصادر ومراجع الترجمة.

(٤) النص أورده المقري في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٧١) بتصرّف.

(٥) النص في الكتيبة الكامنة (ص ٢٣٩).

(٦) في الكتيبة : «ذو الآداب».

(٧) في الكتيبة : «وكمن».

(٨) في الأصل : «مقسها» والتصويب من الكتيبة الكامنة. والنّقس : المداد. محيط المحيط (نقس).

(٩) في الكتيبة : «اللحاظ».

(١٠) من هنا حتى قوله : «السباق جيادها» غير وارد في الكتيبة الكامنة.

١٠٨

الهطّال ؛ وإن أوجز ، فضح وأعجز ؛ فمن نسيب تهيج به الأشواق ، وتضيق عن زفراتها الأطواق ؛ ودعابة تقلّص ذيل الوقار ، وتزري بأكواس العقار ؛ إلى انتماء للمعارف ، وجنوح إلى ظلّها الوارف ؛ ولم تزل معارفه ينفسح آمادها ، وتحوز خصل السباق جيادها».

مشيخته : حسبما نقل بخطّه في ثبت استدعاه منه من أخذ عنه ؛ الشيخ الخطيب ، الأستاذ مولى النعمة ، على أهل طبقته بألمريّة ، أبو الحسن علي بن محمد بن أبي العيش المرّي ؛ قرأ عليه ولازمه ، وبه جلّ انتفاعه ؛ والشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن العاص التّنوخي. وروى عن الراوية المحدّث المكثر الرحّال ، محمد بن جابر بن محمد بن حسّان الوادي آشي ؛ وعن شيخنا أبي البركات ابن الحاجّ ، سمع عليه الكثير ، وأجازه إجازة عامّة ؛ والشيخ الخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن شعيب القيسي من أهل بلده ؛ والقاضي أبو جعفر القرشي بن فركون. وأخذ عن الوزير الحاجّ الزاهد ، أبي القاسم محمد بن محمد بن سهل بن مالك. وقرأ على المقرئ أبي جعفر الأغرّ ، وغيرهم.

كتابته : ممّا (١) خاطبني به بعد إلمام الرّكب (٢) السلطاني ببلده ، وأنا صحبته (٣) ، ولقائه إياي ، بما يلقى به مثله من تأنيس وبرّ ، وتودّد ، وتردّد : [الكامل]

يا من حصلت على الكمال بما رأت

عيناي منه من الجمال الرائع

مرأى (٤) يروق وفي عطافي برده

ما شئت من كرم ومجد بارع

أشكو إليك من الزمان تحاملا

في فضّ شمل لي بقربك جامع

هجم البعاد عليه ضنّا باللّقا

حتى تقلّص مثل برق لامع

فلو انّني ذو مذهب لشفاعة

ناديته : يا مالكي كن شافعي (٥)

شكواي إلى سيدي ومعظّمي ؛ أقرّ الله تعالى بسنائه أعين المجد ، وأدرّ بثنائه ألسن الحمد! شكوى الظمآن (٦) صدّ عن القراح العذب لأول وروده ، والهيمان ردّ عن استرواح القرب لمعضل صدوده ، من زمان هجم عليّ بإبعاده (٧) ، على حين

__________________

(١) النص نثرا وشعرا في ديوان ابن خاتمة (ص ١٩٨) ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٧١ ـ ١٧٣).

(٢) في ديوان ابن خاتمة والنفح : «الركاب».

(٣) في ديوان ابن خاتمة : «في صحبته».

(٤) في الديوان والنفح : «قمر».

(٥) في الديوان والنفح :: «يا شافعي». وفي هذا البيت تورية ظاهرة.

(٦) في الديوان والنفح : «ظمآن».

(٧) في الأصل : «بعاده» والتصويب من النفح.

١٠٩

إسعاده (١) ، ودهمني بفراقه غبّ إنارة أفقي به وإشراقه ؛ ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله الزاهر ، حتى حرم عن تشييع كما له الباهر ، فقطع عن توفية حقّه ، ومنع من تأدية مستحقّه ، لا جرم أنه أنف لشعاع (٢) ذكائه ، من هذه المطالع النائية (٣) عن شريف الإنارة ، وبخل بالإمتاع بذكائه ، عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة ، فراجع أنظاره ، واسترجع معاره ؛ وإلّا فعهدي بغروب الشمس إلى الطّلوع (٤) ، وأنّ البدر ينصرف (٥) بين الاستقامة والرجوع. فما بال هذا النيّر الأسعد ، غرب ثم لم يطلع من الغد ، ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها ، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها ، وكما قيل : عادت هيف إلى أديانها ؛ أستغفر الله أن لا يعدّ ذلك من المغتفر في جانب ما أوليت (٦) من الأثر (٧) ، التي أزرى العيان فيها بالأثر ، وأربى الخبر على الخبر (٨) ؛ فقد سرّت متشوّفات الخواطر ، وأقرّت متشرّفات (٩) النواظر ، بما جلت (١٠) من ذلكم الكمال الباهر ، والجمال الناضر ، الذي قيّد خطى الأبصار ، عن التشوّف والاستبصار ؛ وأخذ بأزمّة القلوب ، عن سبيل كل مأمول ومرغوب ؛ وأنّى للعين بالتحوّل عن كمال الزّين؟ أو للطّرف (١١) ، بالتحوّل (١٢) عن خلال الظّرف؟ أو للسّمع من مراد ، بعد ذلك (١٣) الإصرار والإيراد ، أو للقلب من مراد ، غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم في حلل وأبراد ؛ وهل هو إلّا الحسن جمع في نظام ، والبدر طالع التّمام ، وأنوار الفضائل (١٤) ضمّها جنس اتفاق والتآم ؛ فما ترعى العين منه في غير مرعى خصيب ، ولا تستهدف الآذان (١٥) لغير سهم في حدق البلاغة مصيب ؛ ولا تطلع (١٦) النفس سوى مطلع له في الحسن والإحسان أوفر نصيب. لقد أزرى بناظم حلاه فيما تعاطاه (١٧) التقصير ، وانفسح من أعلاه بكل باع قصير ، وسفه حلم القائل : إنّ الإنسان عالم صغير ، شكرا للدهر على يد أسداها بقلب مزاره ، وتحفة ثناء (١٨) أهداها بمطلع أنواره ، على تغاليه في

__________________

(١) في الأصل : «النفادة» والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «شارع» والتصويب من النفح. والذكاء ، بضم الذال : الشمس.

(٣) في الأصل : «النافية» والتصويب من النفح.

(٤) في الأصل : «طلوع» ، والتصويب من النفح.

(٥) في النفح : «يتصرّف».

(٦) في النفح : «أولت».

(٧) الأثر : جمع أثرة وهي المكرمة المتوارثة. لسان العرب (أثر).

(٨) أربى الخبر على الخبر : أي زادت الخبرة على الخبر.

(٩) في النفح : «مستشرفات».

(١٠) في النفح : «حوت».

(١١) في النفح : «أو الطرف».

(١٢) في النفح : «بالتنقل».

(١٣) في النفح : «ذلكم الإصدار الأدبي والإيراد».

(١٤) في النفح : «الفضل».

(١٥) في النفح : «الأذن بغير سهم».

(١٦) في النفح : «ولا تستطلع».

(١٧) في النفح : «يتعاطاه».

(١٨) كلمة «ثناء» غير واردة في النفح.

١١٠

ادّخار (١) نفائسه ، وبخله بنفائس ادّخاره ؛ ولا (٢) غرو أن يضيق عنّا نطاق الذّكر ، ولمّا يتّسع لنا سوار الشكر ؛ فقد عمّت هذه الأقطار بما شاءت من تحف ، بين تحف وكرامة ، واجتنت أهلها ثمرة الرحلة في ظلّ الإقامة ، وجرى الأمر في ذلك مجرى الكرامة. ألا وإنّ مفاتحتي لسيدي ومعظّمي ، حرس الله تعالى مجده ، وضاعف سعده! مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه ، وجرى له القدر على وفق مرغوبه ؛ فشرع له إلى أمله (٣) بابا ، ورفع له من خجله جلبابا ، فهو يكلف بالاقتحام ، ويأنف من الإحجام ، غير أنّ الحصر عن درج قصده يقيّده ، فهو (٤) يقدم والبصر يبهرج نقده فيقعده ؛ فهو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى ، ويجدّد عزما ثم لا يتحرّى ؛ فإن أبطأ خطابي فلواضح الاعتذار (٥) ، ومثلكم لا يقبل حياة الأعذار ؛ والله عزّ وجلّ يصل إليكم عوائد الإسعاد والإسعاف ، ويحفظ لكم (٦) ما للمجد من جوانب وأكناف ، إن شاء الله تعالى.

كتب (٧) في العاشر من ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.

دخوله غرناطة : دخل غرناطة غير ما مرّة ، منها في استدعاء شمال الخواصّ من أهل الأقطار الأندلسية ، عند إعذار الأمراء في الدولة اليوسفيّة (٨) ، في شهر شعبان من عام أحد وخمسين وسبعمائة.

شعره : كان مجلّيا ، وأنشد في حلبة الشعراء قصيدة أولها (٩) : [الكامل]

أجنان خلد زخرفت أم مصنع؟

والعيد عاود أم صنيع يصنع؟

ومن شعره (١٠) : [الكامل]

من لم يشاهد موقفا لفراق

لم يدر كيف تولّه العشّاق

إن كنت لم تره فسائل من رأى

يخبرك عن ولهي وهول سياقي (١١)

من حرّ أنفاس وخفق جوانح

وصدوع أكباد وفيض مآقي

__________________

(١) في النفح : «ادخاره».

(٢) في النفح : «لا غرو».

(٣) في النفح : «أهله».

(٤) في النفح : «يقيّده ، والبصر يبهرج نقده فيقعده ، فهو يقدّم رجلا ...».

(٥) في النفح : «الأعذار ، ومثلكم من قبل جليات الأقدار ، والله سبحانه يصل لكم عوائلا ...».

(٦) في النفح : «بكم».

(٧) في النفح : «وكتب في عاشر ربيع ...».

(٨) أي دولة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل (٧٣٣ ـ ٧٥٥ ه‍).

وترجمته في اللمحة البدرية (ص ١٠٢).

(٩) البيت في ديوان ابن خاتمة الأنصاري الأندلسي (ص ١٩٩).

(١٠) القصيدة في ديوان ابن خاتمة (ص ٢٠٠ ـ ٢٠٣) والكتيبة الكامنة (ص ٢٤٠ ـ ٢٤١).

(١١) في الأصل : «سياق» والتصويب من المصدرين.

١١١

دهي الفؤاد فلا لسان ناطق

عند الوداع ولا يد (١) متراق

ولقد أشير لمن تكلّف رحلة

أن عج عليّ ولو بقدر فواق (٢)

عليّ أراجع من ذماي حشاشة

أشكو بها بعض الذي أنا لاق

فمضى ولم تعطفه نحوي ذمّة

هيهات! لا بقيا (٣) على مشتاق

يا صاحبيّ وقد مضى حكم النّوى (٤)

روحا عليّ بشيمة (٥) العشّاق (٦)

واستقبلا بي (٧) نسمة من (٨) أرضكم

فلعلّ نفحتها تحلّ وثاقي

إني ليشفيني النّسيم إذا سرى

متضوّعا من تلكم الآفاق

من مبلغ بالجزع أهل مودّتي

أني على حكم الصّبابة باق؟

ولئن تحوّل عهد قربهم (٩) نوى

ما حلت عن عهدي ولا (١٠) ميثاقي

أنفت خلائقي الكرام لخلّتي

نسبا إلى الإخلاق والإخراق (١١)

قسما به ما استغرقتني فكرة

إلّا وفكري فيه واستغراقي

لي آهة (١٢) عند العشيّ لعلّه

يصغي لها ، وكذا مع الإشراق

أبكي إذا هبّ النسيم فإن تجد

بللا به فبدمعي المهراق

أومي بتسليم (١٣) إليه مع الصّبا

فالذّكر كتبي والرفاق رفاقي

من لي وقد شحط (١٤) المزار بنازح

أدنى لقلبي من جوى أشواقي

إن غاب عن عيني فمثواه الحشا

فسراه (١٥) بين القلب والأحداق

جارت عليّ يد النّوى بفراقه

آها لما جنت النّوى بفراق

أحباب قلبي هل لماضي عيشنا (١٦)

ردّ فينسخ بعدكم بتلاق؟

__________________

(١) في الأصل : «طايع» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٢) الفواق : ما بين الحلبتين من الوقت ، أو ما بين فتح يد الحالب وقبضها على الضرع. محيط المحيط (فوق).

(٣) في الديوان والكتيبة : «لا يثني».

(٤) في المصدرين : «الهوى».

(٥) في الأصل : «بمشيمة» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٦) في المصدرين : «الإشفاق».

(٧) في المصدرين : «واستقبلاها».

(٨) في الأصل : «عن» والتصويب من المصدرين.

(٩) في الديوان : «حبّهم».

(١٠) في الديوان : «وعن».

(١١) في المصدرين : «إلى الإخلال والإخلاق».

(١٢) في المصدرين : «لي أنّه».

(١٣) في الأصل : «أو ما ما تكتب ...» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(١٤) في المصدرين : «من لي على شحط ...».

(١٥) في المصدرين : «وسراه».

(١٦) في الديوان : «عيشكم».

١١٢

أم هل لأثواب التجلّد راقع

إذ ليس من داء المحبّة راق

ما غاب كوكب حسنكم عن ناظري

إلّا وأمطرت الدّما آماقي

إيه أخيّ أدر عليّ حديثهم

كأسا ذكت عرفا وطيب مذاق

وإذا جنحت لماء او طرب فمن

دمعي الهموع (١) وقلبي الخفّاق

ذكراه راحي ، والصّبابة حضرتي (٢)

والدمع ساقيتي (٣) ، وأنت الساقي

فليله (٤) عنّي من لحاني إنني

راض بما لاقيته وألاقي

وقال (٥) : [البسيط]

وقفت والرّكب (٦) قد زمّت ركائبه

وللنفوس مع النّوى (٧) تقطيع

وقد تمايل نحوي للوداع وهل

لراحل (٨) القلب صدر الرّكب توديع؟

أضمّ منه كما أهوى (٩) لغير نوى

ريحانة في شذاها الطّيب مجموع

تهفو (١٠) فأذعر خوفا من تقلّصها (١١)

إنّ الشّفيق بسوء الظنّ مولوع

هل عند من قد دعا بالبين مقلته (١٢)

أنّ الرّدى منه مرئيّ ومسموع؟

أشيّع القلب من (١٣) رغم عليّ وما

بقاء جسم له للقلب تشييع

أري وشاتي أنّي لست مفتقرا (١٤)

لما جرى وصميم القلب مصروع

الوجد طبع (١٥) وسلواني مصانعة

هيهات يشكل مصنوع ومطبوع (١٦)

«إنّ الجديد إذا ما زيد في خلق

تبيّن النّاس أنّ الثّوب مرقوع»

__________________

(١) الهموع : المنصبّة ؛ يقال : همعت العين إذا سال دمعها. لسان العرب (همع).

(٢) في الأصل : «خضرتي» والتصويب من المصدرين.

(٣) في الأصل : «ساقيني» والتصويب من المصدرين.

(٤) في المصدرين : «فليسل».

(٥) القصيدة في ديوان ابن خاتمة (ص ١٩٩ ـ ٢٠٠) والكتيبة الكامنة (ص ٢٤١ ـ ٢٤٢).

(٦) في المصدرين : «والبين».

(٧) في المصدرين : «مع الأنفاس».

(٨) في الأصل : «للراحل» ، والتصويب من المصدرين.

(٩) في الأصل : «أهدى» والتصويب من المصدرين.

(١٠) في الأصل : «يهفو» والتصويب من المصدرين.

(١١) في المصدرين : «تقصّفها».

(١٢) في المصدرين : «مغلبة».

(١٣) في الأصل : «عن» والتصويب من المصدرين.

(١٤) في المصدرين : «مكترثا».

(١٥) في المصدرين : «طبعي».

(١٦) في المصدرين : «مطبوع ومصنوع».

١١٣

وقال أيضا (١) : [الكامل]

لو لا حيائي من عيون النّرجس

للثمت خدّ الورد بين السّندس

ورشفت من ثغر الأقاحة ريقها

وضممت أعطاف الغصون الميّس

وهتكت أستار الوقار ولم أبل (٢)

للباقلا (٣) تلحظ بطرف أشوس

ما لي وصهباء الدّنان مطارحا

سجع القيان مكاشفا وجه المسي

شتّان بين مظاهر ومخاتل

ثوب الحجا ومطهّر ومدنّس

ومجمجم بالعذل باكرني به

والطير أفصح مسعد بتأنّس

نزّهت سمعي عن سفاهة نطقه

وأعرته صوتا رخيم الملمس

سفّهت في العشّاق يوما إن أكن

ذاك الذي يدعى الفصيح الأخرس (٤)

أعذول وجدي ليس عشّك فادرجي (٥)

ونصيح رشدي بان نصحك فاجلس

هل تبصر الأشجار والأطيار وال

أزهار تلك الخافضات الأرؤس؟

تالله وهو أليّتي وكفى به

قسما يفدّى برّه بالأنفس

ما ذاك من شكو ولا لخلالة (٦)

لكن سجود مسبّح ومقدّس

شكرا لمن برأ الوجود بجوده

فثنى إليه الكلّ وجه المفلس

وسما بساط الأرض فيه (٧) فمدّه

ودحا بسيط (٨) الأرض أوثر مجلس

ووشى بأنواع المحاسن هذه

وأنار هذي بالجواري (٩) الكنّس

__________________

(١) القصيدة في ديوان ابن خاتمة (ص ١٩٣ ـ ١٩٦).

(٢) أي لم أبال.

(٣) في الأصل : «للباقلاء» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الديوان.

(٤) في الديوان : «الذي يدع الفصيح لأخرس».

(٥) أخذه من المثل : «ليس هذا بعشّك فادرجي». أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حقّ فدعيه ؛ يقال درج : أي مشى ومضى. يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ١٨١).

(٦) في الديوان : «من سكر ولا لخلاعة».

(٧) كلمة «فيه» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى. ورواية صدر البيت في الديوان هي :

رفع السّما سقفا يروق رواؤه

(٨) دحا الأرض : بسطها ، وفي عجز البيت إشارة إلى قول الله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) سورة النازعات ٧٩ ، الآية ٣٠.

(٩) في الأصل : «بالجوار» والتصويب من الديوان.

١١٤

وأدرّ أخلاف (١) العطاء تطوّلا

وأنال فضلا من يطيع ومن يسي

حتى إذا انتظم الوجود بنسبة

وكساه ثوبي نوره والحندس (٢)

واستكملت كلّ النّفوس كمالها

شفع العطايا بالعطاء الأنفس

بأجلّ هاد للخلائق مرشد

وأتمّ نور للخلائق مقبس

بالمصطفى المهدي إلينا رحمة

مرمى الرّجاء (٣) ومسكة المتيئّس

نعم يضيق الوصف عن إحصائها

فلّ الخطيب بها لسان الأوجس (٤)

إيه فحدّثني حديث هواهم

ما أبعد السّلوان عن قلب الأسي(٥)

إن كنت قد أحسنت نعت جمالهم

فلقد سها عني العذول بهم وسي (٦)

ما إن دعوك ببلبل إلّا لما

قد هجت من بلبال هذي الأنفس

سبحان من صدع الجميع بحمده

وبشكره من ناطق أو أخرس

وامتدّت الأطلال ساجدة له

بجبالها من قائم أو أقعس

فإذا تراجعت الطيور وزايلت

أغصانها بان (٧) المطيع من المسي

فيقول ذا : سكرت لنغمة منشد

ويقول ذا : سجدت لذكر مقدّس

ت كلّ يفوه بقوله (٨) والحقّ لا

يخفى على نظر اللّبيب (٩) الأكيس

وقال (١٠) : [الكامل]

زارت على حذر من الرّقباء

والليل ملتحف (١١) بفضل رداء

تصل الدّجى بسواد فرع فاحم

لتزيد ظلماء إلى ظلماء

فوشى (١٢) بها من وجهها وحليّها

بدر الدّجى وكواكب الجوزاء

أهلا بزائرة على خطر السّرى

ما كنت أرجوها ليوم لقاء

__________________

(١) الأخلاف : جمع خلف وهو حلمة ضرع الناقة ، أو هو للناقة كالضرع للشاة. محيط المحيط (خلف).

(٢) الحندس : الظلمة. لسان العرب (حندس).

(٣) في الأصل : «الرجا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الديوان.

(٤) الأوجس : الدهر.

(٥) الأسي : الحزين.

(٦) في الديوان : «العذول وقد نسي».

(٧) في الأصل : «بأن» والتصويب من الديوان.

(٨) في الديوان : «بذوقه».

(٩) في الأصل : «اللبيت» والتصويب من الديوان.

(١٠) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص ١٨٣) والكتيبة الكامنة (ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤).

(١١) في المصدرين : «ملتفّ».

(١٢) في الأصل : «وشى» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الديوان.

١١٥

أقسمت لو لا عفّة عذريّة

وتقى عليّ له رقيب رائي

لنقعت غلّة لوعتي برضابها

ونضحت ورد خدودها ببكائي

ومن ذلك ما قاله أيضا (١) : [الخفيف]

أرسلت ليل شعرها من عقص

عن محيّا رمى البدور بنقص

فأرتنا الصباح في جنح ليل

يتهادى ما بين غصن ودعص (٢)

وتصدّت برامحات نهود

أشرعت للأنام من تحت قمص

فتولّت جيوش صبري انهزاما

وبودّي ذاك اللقاء وحرصي

ليس كلّ الذي يفرّ بناج

ربّ ظعن (٣) فيه حياة لشخص

كيف لي بالسّلو عنها وقلبي

قد هوى حلمه بمهوى لخرص (٤)

ما تعاطيت ظاهر الصّبر إلّا

ردّني جيدها بأوضح نصّ

ومن ذلك قوله أيضا (٥) : [الخفيف]

أنا بين الحياة والموت وقف

نفس خافت ودمع ووكف

حلّ بي من هواك ما ليس ينبي

عنه نعت ولا يعبّر وصف

عجبا لانعطاف صدغيك والمع

طف والجيد ثم ما منك عطف

ضاق صدري بضيق حجلك (٦) واستو

قف طرفي حيران ذاك (٧) الوقف

كيف يرجى فكاك قلب معنّى

في غرام قيداه قرط وشنف (٨)

ومن ذلك قوله أيضا (٩) : [البسيط]

رقّ (١٠) السّنا ذهبا في اللّازورديّ

فالأفق ما بين مرقوم وموشيّ

كأنما الشّهب والإصباح ينهبها

لآلىء (١١) سقطت من كفّ زنجيّ

__________________

(١) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص ١٩٧).

(٢) الدّعص : قطعة من الرمل مستديرة ، أو الكثيب ، وبه يشبه الرّدف.

(٣) في الديوان : «طعن».

(٤) الخرص : القناة والسنان.

(٥) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص ٢٠٠).

(٦) الحجل : الخلخال.

(٧) في الأصل : «ذلك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الديوان.

(٨) الشّنف : ما علق في أعلى الأذن ، أو ما علّق في أسفل الأذن فقرط.

(٩) البيتان في ديوان ابن خاتمة (ص ١٩٦) والكتيبة الكامنة (ص ٢٤٤).

(١٠) في المصدرين : «خطّ».

(١١) في المصدرين : «دراهم».

١١٦

ومن شعره في الحكم قوله (١) : [الطويل]

هو الدّهر لا يبقي على عائذ به

فمن شاء عيشا يصطبر لنوائبه

فمن لم يصب في نفسه فمصابه

لفوت (٢) أمانيه وفقد حبائبه

ومن ذلك قوله (٣) : [الوافر]

ملاك الأمر تقوى الله ، فاجعل

تقاه عدّة لصلاح أمرك

وبادر نحو طاعته بعزم

فما تدري متى يمضي (٤) بعمرك

ومن ذلك أيضا (٥) : [الوافر]

دماء فوق خدّك أم خلوق (٦)؟

وريق ما بثغرك أم رحيق؟

وما ابتسمت ثنايا أم أقاح

ويكنفها شفاه أم شقيق (٧)

وتلك سناة نوم ما تعاطت

جفونك أم هي الخمر العتيق

لقد أعدت معاطفك انثناء

وقلبي سكره ما إن يفيق

جمالك حضرتي وهواك راحي

وكأسك مقلتي فمتى أفيق؟

ومن شعره في الأوصاف (٨) : [الخفيف]

أرسل الجوّ ماء ورد رذاذا

سمّع (٩) الحزن والدّمائث رشّا

فانثنى حول أسوق الدّوح حجلا

وجرى فوق بردة الرّوض رقشا

وسما في الغصون حلي بنان

أصبحت من سلافة الطّل رعشا

فترى الزّهر ترقم الأرض رقما

وترى الريح تنقش الماء نقشا

فكأنّ المياه سيف صقيل

وكأنّ البطاح غمد موشّى

__________________

(١) ديوان ابن خاتمة (ص ١٨٧) ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٧٤).

(٢) في النفح : «بفوت».

(٣) ديوان ابن خاتمة (ص ١٢٧) ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٧٤). وقد تقدّم البيتان في الجزء السادس من النفح (ص ١١٥).

(٤) في النفح الجزء الثامن : «يقضى».

(٥) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص ٢٠٣).

(٦) الخلوق : ضرب من الطيب.

(٧) الشقيق : شقائق النعمان.

(٨) هذه الأبيات لم ترد في ديوان ابن خاتمة.

(٩) في الأصل : «وسمّع» وهكذا ينكسر الوزن.

١١٧

وكتب عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصّه (١) : «ممّا قلته بديهة عند (٢) الإشراف على جنابكم السعيد ، وقدومي (٣) مع النّفر الذين أتحفتهم السيادة (٤) سيادتكم (٥) بالإشراف عليه ، والدخول إليه ، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه ، وإن كان يوما قد غابت شمسه ، ولم يتّفق أن كمل أنسه ؛ وأنشده حينئذ بعض من حضر ، ولعلّه لم يبلغكم ، وإن كان قد بلغكم (٦) ففضلكم يحملني في (٧) إعادة الحديث (٨) : [الطويل]

أقول وعين الدّمع (٩) نصب عيوننا

ولاح لبستان الوزارة جانب

أهذي سماء أم بناء سما به

كواكب غضّت عن سناها الكواكب

تناظرت الأشكال منه تقابلا

على السّعد وسطى عقده والجنائب (١٠)

وقد جرت الأمواه فيه مجرّة

مذانبها شهب لهنّ ذوائب

وأشرف من علياه (١١) بهو تحفّه

شماسي زجاج وشيها متناسب

يطلّ على ماء به الآس دائرا

كما افترّ ثغر أو كما اخضرّ شارب

هنا لك ما شاء العلى من جلالة

بها يزدهي بستانها والمراتب

ولما أحضر الطعام هنا لك ، دعي شيخنا القاضي أبو البركات (١٢) إلى الأكل ، فاعتذر بأنه صائم ، قد بيّته من الليل ، فحضرني أن قلت (١٣) : [المتقارب]

دعونا الخطيب أبا البركات

لأكل طعام الوزير الأجلّ

__________________

(١) النص نثرا وشعرا في الكتيبة الكامنة (ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥). ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٧٤ ـ ١٧٥).

(٢) في الكتيبة : «حين».

(٣) في المصدرين : «ودخوله».

(٤) كلمة «السيادة» غير واردة في المصدرين.

(٥) في الكتيبة : «سيادتك».

(٦) في الكتيبة : «بلغ».

(٧) في الكتيبة : «على».

(٨) الأبيات أيضا في ديوان ابن خاتمة (ص ١٨٥).

(٩) عين الدمع : كان من عجيب مواضع غرناطة ، وهو عبارة عن جبل فيه الرياض والبساتين ، ويتصل بجبل الفخار. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٣٨) ففيه دراسة مفصّلة عن هذا الموضع.

(١٠) في الديوان والنفح : «والحبائب».

(١١) في الأصل : «علياء» والتصويب من الديوان والنفح. وفي الكتيبة «أعلاه فهو تحفّه شماس زجاج ...».

(١٢) هو محمد بن محمد بن إبراهيم ، المشهور بابن الحاج البلفيقي ، المتوفّى سنة ٧٧٣ ه‍ ، أو ٧٧١ ه‍.

وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة ، وأشرنا هناك إلى مصادر ترجمته.

(١٣) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص ١٨٦) والكتيبة الكامنة (ص ٢٤٥) ونفح الطيب (ج ٨ ص ١٧٥).

١١٨

وقد ضمّنا في نداه جنان

به احتفل الحسن حتى كمل (١)

فأعرض عنّا لعذر (٢) الصّيام

وما كلّ عذر له مستقلّ

فإنّ الجنان محلّ الجزاء

وليس الجنان محلّ العمل

وعندما فرغنا من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات ، فقال (٣) : لو أنشدتنيها ، وأنتم بعد لم تفرغوا منه (٤) لأكلت معكم ، برّا بهذه الأبيات ، والحوالة في ذلك على الله تعالى.

ولما (٥) قضى الله ، عزّ وجلّ ، بالإدالة ، ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة ، واشتهر عني ما اشتهر من الانقباض عن الخدمة ، والتّيه على السلطان والدولة (٦) ، والتّكبّر على أعلى رتب الخدمة ، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة ، ورغبت في تفويت (٧) الذمّة ، ونفرت عن الأندلس بالجملة ، خاطبني بعد صدر بلغ من حسن الإشارة ، وبراعة الاستهلال الغاية ، بقوله :

«وإلى هذا يا سيدي ، ومحلّ تعظيمي وإجلالي ، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم! وضاعف في العزّ درجات ارتقائكم! فإنّه من الأمر الذي لم يغب عن رأي المقول (٨) ، ولا اختلف فيه أرباب المحسوس (٩) والمعقول ؛ أنّكم بهذه الجزيرة شمس أفقها ، وتاج مفرقها ، وواسطة سلكها ، وطراز ملكها ، وقلادة نحرها ، وفريدة دهرها (١٠) ، وعقد جيدها المنصوص ، وكمال (١١) زينتها (١٢) على المعلوم والمخصوص (١٣) ؛ ثم أنتم مدار أفلاكها ، وسرّ سياسة أملاكها ، وترجمان بيانها ، ولسان إحسانها ، وطبيب مارستانها ، والذي عليه عقد إدارتها ، وبه قوام إمارتها ؛ فلديه (١٤) يحلّ المشكل ، وإليه يلجأ في الأمر المعضل ؛ فلا غرو أن تتقيّد بكم الأسماع والأبصار ، وتحدّق نحوكم الأذهان والأفكار ؛ ويزجر عنكم السانح والبارح (١٥) ،

__________________

(١) في الكتيبة : «الحسن فيما احتفل».

(٢) في الكتيبة : «بعذر».

(٣) في النفح : «فقال لي».

(٤) في الكتيبة : «من الطعام».

(٥) نص رسالة ابن خاتمة هذه في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٦٤ ـ ١٧٠) وأزهار الرياض (ج ١ ص ٢٦٥ ـ ٢٧٠).

(٦) في أزهار الرياض : «والدالّة».

(٧) في المصدرين : «تبرئة».

(٨) في المصدرين : «العقول».

(٩) في المصدرين : «أرباب المعقول».

(١٠) في أزهار الرياض : «درّها».

(١١) في النفح : «وتمام».

(١٢) في الأزهار : «زينها».

(١٣) في المصدرين : «على العموم والخصوص».

(١٤) في النفح : «ولديه».

(١٥) السانح : الطائر الذي يمرّ من اليسار إلى اليمين. البارح : الطائر الذي يمرّ من اليمين إلى اليسار ، ـ

١١٩

ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح ، استقراء (١) لمرامكم ، واستطلاعا لطالع اعتزامكم ، واستكشافا لمرامي (٢) سهامكم ، لا سيما مع إقامتكم على جناح خفوق ، وظهوركم في ملتمع بروق ، واضطراب الظّنون فيكم مع الغروب والشروق ؛ حتى تستقرّ بكم الدّار (٣) ، ويلقي عصاه التّسيار ؛ وله العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل (٤) ، وسرورها بلقائكم لم يكتمل ؛ فلم يبر (٥) بعد جناحها المهيض (٦) ، ولا جمّ ماؤها المغيض ، ولا تميّزت من داجيها لياليها البيض ؛ ولا استوى نهارها ، ولا تألقت أنوارها (٧) ، ولا اشتملت نعماؤها ، ولا نسيت غمّاؤها ؛ بل هي كالنّاقه (٨) ، والحديث العهد بالمكاره ، تستشعر (٩) نفس العافية ، وتتمسّح (١٠) منكم باليد الشافية ؛ فبحنانكم (١١) عليها ، وعظيم (١٢) حرمتكم على من لديها ، لا تشربوا لها عذب المجاج بالأجاج ، وتقنطوها (١٣) مما عوّدت من طيب المزاج ، فما لدائها ، وحياة قربكم غير طبّكم من علاج. وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم ، وعناية بما يعنيكم ، ما نال جانبكم صانه الله بهذا الوطن من الجفاء ، ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء ، وأنّ الوطن إحدى المواطن الأظآر التي يحقّ لهنّ جميل الاحتفاء ، وما يتعلّق بكم من حرمة أولياء القرابة وأولي (١٤) الصّفاء ، فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أجنح ، وبحقّ نفسكم على أوليائكم أسمح ، والتي (١٥) هي أعظم قيمة في (١٦) فضائلكم أوهب وأمنح (١٧) ؛ وهب أنّ الدّرّ لا يحتاج في الإثباب إلى شهادة النّحور واللبّات ، والياقوت غني المكان ، عن مظاهرة القلائد والتّيجان ؛ أليس أنّه أعلى للعيان ، وأبعد عن مكابرة البرهان ، تألقها في تاج الملك أنوشروان؟ والشمس (١٨) وإن

__________________

ـ وكان بعض العرب يتفاءل بالسانح ويتشاءم بالبارح ، وكان بعضهم على العكس. لسان العرب (سنح) و (برح).

(١) استقراء لمرامكم : تتبعا لمواضع رغبتكم.

(٢) في المصدرين : «عن مرامي».

(٣) في المصدرين : «الديار».

(٤) يندمل الصّدع : يصلح ؛ يقال : اندمل الجرح إذا شفي ، والصّدع : الشّقّ.

(٥) كذا في أزهار الرياض. وفي النفح : «يبرأ».

(٦) المهيض : المكسور. لسان العرب (هيض).

(٧) في النفح : «ولا تألّفت أنهارها».

(٨) الناقه : من شفي من مرضه ولم ترجع قوته بعد. لسان العرب (فقه).

(٩) في النفح : «يستشعر».

(١٠) في النفح : «ويتمسّح».

(١١) في الأصل : «فبحياتكم» ، والتصويب من المصدرين.

(١٢) في النفح : «وعظم».

(١٣) في المصدرين : «وتفطموها عمّا».

(١٤) في المصدرين : «وأودّاء».

(١٥) في المصدرين : «وللتي».

(١٦) في المصدرين : «من».

(١٧) في المصدرين : «وأسجح».

(١٨) في المصدرين : «فالشمس».

١٢٠