الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٣٤١

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم

قال الشيخ الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب السّلماني : أمّا (١) بعد حمد الله الذي أحصى الخلائق عددا ، وابتلاهم اليوم ليجزيهم غدا ، وجعل جيادهم تتسابق في ميادين الآجال إلى مدى ، وباين بينهم في الصور والأخلاق والأعمال والأرزاق فلا يجدون بما (٢) قسم محيصا ولا فيما حكم ملتحدا (٣) ، وسعهم (٤) علمه على تباين أفراقهم (٥) وتكاثف أعدادهم والدا وولدا ، ونسبا وبلدا ، ووفاة ومولدا ، فمنهم النّبيه والخامل ، والحالي والعاطل ، والعالم والجاهل ، ولا يظلم ربّك أحدا. وجعل لهم الأرض ذلولا يمشون في مناكبها ويتّخذون من جبالها بيوتا ومن متاعها عددا. وخصّ بعض أقطارها بمزايا تدعو إلى الاغتباط والاعتمار (٦) ، وتحثّ على السكون والاستقرار ، متبوّءا فسيحا ، وهواء صحيحا ، وماء نميرا ، وامتناعا شهيرا ، ورزقا رغدا. فسبحان من جعل التّفاضل في المساكن والسّاكن ، وعرّف العباد عوارف اللطف في الظاهر والباطن ، ولم يترك شيئا سدى.

والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد (٧) الذي ملأ الكون نورا وهدى ، وأوضح سبيل الحق وكانت طرائق قددا (٨) ، أعلى الأنام يدا ، وأشرف الخلق ذاتا وأكرمهم محتدا ، الذي أنجز الله به من نصر دينه الحقّ موعدا ، حتى بلغت دعوته ما زوي (٩) له من هذا المغرب الأقصى فرفعت بكل هضبة معلما وبنت بكل قلعة مسجدا. والرّضى على آله وأصحابه الذين كانوا لسماء سنّته عمدا ، ليوث العدا ،

__________________

(١) النص في ريحانة الكتاب (ص ٣١ ـ ٣٥).

(٢) في ريحانة الكتاب : «عمّا».

(٣) الملتحد : الملجأ. لسان العرب (لحد).

(٤) في الريحانة : «ووسعهم».

(٥) في الريحانة : «أفرادهم». والأفراق : جمع فرق وهو الطائفة. لسان العرب (فرق).

(٦) الاعتمار : العمرة ، أي الحج الأصغر. لسان العرب (عمر).

(٧) في الريحانة : «محمد رسوله الذي ...».

(٨) قددا : متعددة ، مختلفة. لسان العرب (قدد).

(٩) زوي : بعد. لسان العرب (زوى).

٣

وغيوث النّدى ، ما أقل ساعد يدا ، وعمر فكر (١) خالدا ، وما صباح بدا ، وأورق شدا ، فإن الله ، عزّ وجهه ، جعل الكتاب لشوارد العلم قيدا ، وجوارح اليراع تثير في السهول الرّقاع صيدا. ولو لا ذلك لم يشعر آت في الخلق بذاهب ، ولا اتصل شاهد بغائب ، فماتت الفضائل بموت أهلها ، وأفلت نجومها عن أعين مجتليها ، فلم يرجع إلى خبر ينقل ، ولا دليل يعقل ، ولا سياسة تكتسب ، ولا أصالة إليها ينتسب ، فهدى سبحانه وألهم ، وعلّم الإنسان بالقلم ، علم ما لم يكن (٢) يعلم ، حتى ألفينا المراسم بادية ، والمراشد هادية ، والأخبار منقولة ، والأسانيد موصولة ، والأصول محرّرة ، والتواريخ مقرّرة ، والسير مذكورة ، والآثار مأثورة ، والفضائل من بعد أهلها باقية خالدة ، والمآثر ناطقة شاهدة ، كأنّ النهار (٣) القرطاس ، والليل المداد ، ينافسان الليل والنهار ، في عالم الكون والفساد ، فمهما طويا شيئا ، ولعا هما (٤) بنثره ، أو دفنا ذكرا دعوا إلى نشره. فلو (٥) أنّ لسان الدهر نطق ، وتأمّل هذه (٦) المناقضة وتحقّق ، لأتى بما شاء من عتب ولوم ، وأنشده : [الوافر]

أعلّمه الرماية كل يوم (٧)

ولمّا كان الفنّ (٨) التاريخي مأرب البشر ، ووسيلة إلى ضمّ النشر ، يعرفون به أنسابهم في (٩) ذلك شرعا وطبعا ما فيه ، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والتّرفيه (١٠) ، ويستدلّون ببعض ما يبدي (١١) به الدهر وما يخفيه ، ويرى العاقل من (١٢) تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره بالإيمان ويشفيه ، ويمرّ على مصارع الجبابرة فيحسبه (١٣) بذلك واعظا ويكفيه ، وكتاب الله يتخلّله من القصص ما يتمّم هذا (١٤) الشاهد لهذا الفن ويوفّيه. وقال الله تعالى (١٥) : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ

__________________

(١) في الريحانة : «بكر».

(٢) كلمة «يكن» ساقطة في الريحانة.

(٣) في الريحانة : «كأن نهار الطّرس وليل المداد ...».

(٤) كلمة «هما» ساقطة في الريحانة.

(٥) في الريحانة : «ولو».

(٦) في الأصل : «لهذه» والتصويب من ريحانة الكتاب.

(٧) وعجز البيت هو :

فلمّا اشتدّ ساعده رماني

(٨) في الريحانة : «ولمّا كان هذا الفن التاريخي فيه مأرب ...»؟

(٩) في الريحانة : «وفي».

(١٠) في الأصل : «والرفيه» والتصويب من الريحانة.

(١١) في الريحانة : «ما يبديه الدهر على ما يخفيه».

(١٢) في الريحانة : «العاقل في قدرة الله ...».

(١٣) في الريحانة : «فيحسب ذلك».

(١٤) كلمة «هذا» ساقطة في الريحانة.

(١٥) في الريحانة : «سبحانه».

٤

بِهِ فُؤادَكَ)(١). وقال عزّ وجلّ (٢) : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣).

فوضح (٤) سبيل مبين ، وظهر أن القول بفضله يقتضيه (٥) عقل ودين ، وأن بعض المصنّفين ممّن ترك نومه لمن دونه ، وأنزف ماء شبابه مودعا إياه بطن كتابه يقصده الناس ويردونه ، اختلفت في مثل هذا الباب أغراضهم ؛ فمنهم من اعتنى بإثبات حوادث الزمان ، ومنهم من اعتنى برجاله بعد اختيار الأعيان ، عجزا عن الإحاطة بهذا الشأن ، عموما في أكثر الأقطار (٦) وخصوصا في بعض البلدان ، فاستهدف إلى التعميم فرسان الميدان ، وتوسّعوا بحسب مادة الاطّلاع وجهد الإمكان ، وجنح إلى التخصيص من أثر (٧) الأولوية بحسب ما يخصّه من المكان ، ويلزمه من حقوق السكان ، مغرما برعاية عهود وطنه وحسن العهد من الإيمان ، بادئا بمن يعوله كما جاء في الطّرق الحسان. فتذكرت جملة من موضوعات من أفرد لوطنه (٨) تاريخا هزّ إليها ـ علم الله ـ وفاء وكرم ، ودار عليها بقول (٩) الله من رحمته الواسعة حرم ، كتاريخ (١٠) مدينة بخارى لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الفخار. وتاريخ أصبهان لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ صاحب الحلية. وتاريخ أصبهان أيضا لأبي زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن قندة الحافظ. وتاريخ نيسابور للحاكم أبي عبد الله بن اليسع ، وذيله لعبد الغافر بن إسماعيل. وتاريخ همذان لأبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه محمد بن فنا خسرو الديلمي. وتاريخ طبقات أهل شيراز لأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن القصار. وتاريخ هراة ، أظنه لأبي عبد الله الحسن بن محمد الكتبي. وأخبار هراة أيضا ومن نزلها من التابعين وغيرهم من المحدّثين لأبي إسحاق أحمد بن ياسين الحداد. وتاريخ سمرقند لعبد الرحمن بن محمد الأردسي. وتاريخ نسف لجعفر بن المعبر المستغفري. وتاريخ جرجان لأبي القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم السهمي. وتاريخ الرّقّة لأبي علي محمد بن سعيد بن عبد الرحمن القشيري. وتاريخ بغداد للخطيب أبي بكر بن ثابت ، وذيله لأبي سعيد عبد الكريم بن محمد بن

__________________

(١) سورة هود ١١ ، الآية : ١٢٠.

(٢) في الأصل : «عزّ من قائل» والتصويب من الريحانة.

(٣) سورة يوسف ١٢ ، الآية : ٣.

(٤) في الريحانة : «فوضح من حقّه سبيل ...».

(٥) في الريحانة : «يقضى به».

(٦) في الريحانة : «الأوقات».

(٧) قوله : «من أثر» ساقط في الأصل ، وقد أضفناه من ريحانة الكتاب.

(٨) في الريحانة : «من أفرد تاريخا لبلده».

(٩) في الريحانة : «بفضل».

(١٠) أغفل ابن الخطيب في الريحانة ذكر أسماء ما أورده هنا من مختلف كتب التاريخ الخاصة بمختلف البلدان ما يملأ صفحتين ، واكتفى بقوله : «كتاريخ كذا ، وتاريخ كذا».

٥

منصور السمعاني. وأخبار بغداد لأحمد بن أبي طاهر. وتاريخ واسط لأبي الحسين علي بن الطيب الخلافي. وتاريخ من نزل حمص من الصحابة ومن دخلها ، ومن ارتحل عنها ، ومن أعقب ، ولم يعقّب ، وحدّث ولم يحدّث ، لأبي القاسم عبد الصمد بن سعيد القاضي. وتاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر. وتاريخ مكة للأزرقي. وتاريخ المدينة لابن النجّار. وتاريخ مصر لعبد الرحمن بن أحمد بن نواس. وتاريخ الإسكندرية لوجيه الدين أبي المظفر منصور بن سليمان بن منصور بن سليم الشافعي. وتاريخ طبقات فقهاء تونس لأبي محمد عبد الله بن إبراهيم بن أبي العبّاس بن خلف التميمي. وعنوان الدّراية في ذكر من كان في الماية السابعة ببجاية ، لأبي العباس بن الغبريني. وتاريخ تلمسان لابن الأصفر ، وتاريخها أيضا لابن هديّة. وتاريخ فاس لابن عبد الكريم ، وتاريخها أيضا لابن أبي زرع. وتاريخ فاس أيضا للقونجي ، وتاريخ سبتة ، المسمّى بالفنون السّتّة ، لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض ، تركه في مسوّدته. وتاريخ بلنسية لابن علقمة. وتاريخ إلبيرة لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملّاحي. وتاريخ شقورة لابن إدريس. وتاريخ مالقة لأبي عبد الله بن عسكر ، تركه غير متمّم ، فتمّمه بعد وفاته ابن أخيه أبو بكر خمسين. والإعلام بمحاسن الأعلام من أهل مالقة ، لأبي العباس أصبغ بن العباس. والاحتفال في أعلام الرجال ، لأبي بكر الحسن بن محمد بن مفرّج القيسي. وتاريخ قرطبة ، ومنتخب كتاب الاحتفال ، وتاريخ الرؤساء والفقهاء والقضاة بطليطلة ، لأبي جعفر بن مظاهر ، ومنتخبه لأبي القاسم بن بشكوال. وتاريخ فقهاء قرطبة لابن حيّان. وتاريخ الجزيرة الخضراء لابن خمسين. وتاريخ قلعة يحصب ، المسمّى بالطالع السّعيد ، لأبي الحسن بن سعيد. وتاريخ بقيرة ، لأبي عبد الله بن المؤذن. والدّرّة المكنونة في أخبار أشبونة ، لأبي بكر بن محمد بن إدريس الفرابي العالوسي. ومزيّة ألمريّة لأبي جعفر أحمد بن خاتمة ، من أصحابنا. وتاريخ ألمرية وباجة ، لشيخنا نسيج وحده أبي البركات بن الحاج ، متّع الله بإفادته ، وهو في مبيّضته ، لم يرمها بعد.

فداخلتني (١) عصبيّة لا تقدح في دين ولا منصب ، وحميّة لا يذمّ في مثلها متعصّب ، رغبة أن يقع (٢) سؤالهم وذكرهم من فضل الله جناب مخصب ، ورأيت أن هذه الحضرة (٣) التي لا خفاء بما وفّر الله من أسباب إيثارها ، وأراده من جلال

__________________

(١) في ريحانة الكتاب : «فداخلتني لقومي عصبية».

(٢) في ريحانة الكتاب : «أن يسع سواهم ذكرهم».

(٣) الحضرة : العاصمة ، والمراد بها هنا مدينة غرناطة حاضرة الأندلس آنذاك.

٦

مقدارها ، جعلها (١) ثغر الإسلام ومتبوّأ العرب الأعلام ، قبيل رسوله ، عليه أفضل الصلاة وأزكى (٢) السلام ، وما خصّها به من اعتدال الأقطار ، وجريان الأنهار ، وانفساح الاعتمار (٣) ، والتفاف الأشجار. نزلها العرب الكرام عند دخولهم مختطّين ومقتطعين (٤) ، وهبّوا بدعوة فضلها مهطعين (٥) ، فعمروا وأولدوا ، وأثبتوا المفاخر وخلّدوا ، إلى أن صارت دار ملك ، ولبّة (٦) سلك ، فنبه المقدار وإن كان نبيها ، وازدادت الخطّة ترفيعا (٧) ، وجلب إلى (٨) سوق الملإ بما نفق فيها. فكم ضمّت جدرانها من رئيس يتّقي الصباح هجومه ، ويتخوّف اللّيل طروقه (٩) ووجومه ، ويفتقر الغيث لنوافله (١٠) الممنوحة وسجومه ، وعالم يبرز للفنون فيطيعه عاصيها ، ويدعو (١١) بالمشكلات فيأخذ بنواصيها ، وعالم (١٢) بالله قد وسم السجود جبينه ، وأشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّ يمينه ، وبليغ قد (١٣) أذعنت لبراعة خطّه وشيجة الخط ، يغوص على درر البدائع ، فيلقيها من طرسه الرائع (١٤) على الشّط ، لم يقم بحقها ممتعض حقّ الامتعاض ، ولا فرّق بين جواهرها وبين (١٥) الأغراض. هذا وسمر (١٦) الأقلام مشرعة ، ومكان القول والحمد لله ذو سعة ، فهي الحسناء (١٧) التي عدمت الذّام ، وزيّنت (١٨) الليالي والأيام. والهوى (١٩) إن قيل كلفت بمغانيها ، وقصرت الأيام على معانيها ، فعاشق الجمال عذره مقبول (٢٠) ، ولله درّ أبي الطيب حيث

__________________

(١) في الريحانة : «إذ جعلها».

(٢) في الريحانة : «وأطيب».

(٣) الاعتمار هنا بمعنى العمران. لسان العرب (عمر).

(٤) في الأصل : «ومنقطعين» والتصويب من الريحانة.

(٥) مهطعين : مسرعين. لسان العرب (هطع).

(٦) اللّبّة : ما توسط الصدر. لسان العرب (لبب).

(٧) في الريحانة : «ترفيها».

(٨) في الريحانة : «وجلب لسوق الملك ما نفق ...».

(٩) في المصدر نفسه : «إطراقه».

(١٠) في الأصل : «لنوائله» والتصويب من الريحانة.

(١١) في الريحانة : «وتدعوه المشكلات».

(١٢) في الريحانة : «وعارف».

(١٣) كلمة «قد» ساقطة في الريحانة.

(١٤) في الأصل : «الراتع الشطّ» والتصويب من ريحانة الكتاب.

(١٥) في الريحانة : «ولا بين».

(١٦) في الأصل : «وشجر» والتصويب من الريحانة.

(١٧) في الأصل : «الحسنى» والتصويب من الريحانة.

(١٨) في الأصل : «وزينة» والتصويب من الريحانة.

(١٩) في الريحانة : «وإن قيل كلفت بمعانيها ، وقصرت الهوى على مغانيها».

(٢٠) في الريحانة : «مقبول ، وسيف العدل دونه مغلول ، ولله درّ أبي الطيب إذ يقول».

٧

يقول (١) : [الوافر]

ضروب الناس عشّاق ضروبا

فأعذرهم أشفّهم حبيبا

فلست ببدع ممّن فتن بحب وطن ، ولا بأول ما شاقه منزل فألقى بالعطن ، فحبّ الوطن معجون بطينة (٢) ساكنه ، وطرفه مغرى بإتمام (٣) محاسنه ، وقد نبّه علي بن العباس (٤) على السّبب ، وجاء في التماس التّعليل بالعجب ، حيث يقول : [الطويل]

وحبّب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضّاها الشّباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم

عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا

ورميت في هذا المعنى بسهم سديد ، وألمحت بغرض إن لم يكنه فليس ببعيد : [الطويل]

أحبّك يا مغنى الجلال بواجب

وأقطع في أوصافك الغرّ أوقات

تقسّم منك التّرب قومي وجيرتي

ففي الظّهر أحياء وفي البطن أموات

وقد كان أبو القاسم الغافقي (٥) من أهل غرناطة ، قام من هذا الغرض بفرض ، وأتى من كله ببعض ، فلم يشف من غلّة ، ولا سدّ خلّة ، ولا كثّر قلّة ، فقمت بهذا الوظيف ، وانتدبت فيه للتأليف ، ورجوت على نزارة حظّ الصّحة ، وازدحام الشواغل الملحّة ، أن أضطلع من هذا القصد بالعبء الذي طالما طأطأت له الأكتاد ، وأقف منه الموقف الذي تهيّبته الأبطال الأنجاد ، فاتخذت الليل جملا لهذه الطّيّة (٦) ، وانتضيت غارب العزم ونعمت المطيّة ، بحيث لا مؤانس إلّا ذبال (٧) يكافح جيش الدّجى ، ودفاتر تلفح الحجا ، وخواطر تبتغي إلى سماء الإجادة معرجا ؛ وإذا صحب العمل صدق النّيّة ، أشرقت من التّوفيق كلّ ثنيّة ، وطلعت من السّداد كلّ غرّة سنيّة ، وقد علم الله أني لم أعتمد منها دنيا أستمنحها ، ولا نسمة جاه يستنشق ريحها ؛ وإنما هو صبح

__________________

(١) ديوان المتنبي (ص ١٩٩). هو مطلع قصيدة من ٤٢ بيتا ، قالها في مدح علي بن محمد بن سيّار بن مكرم.

(٢) في ريحانة الكتاب : «في طينة».

(٣) في المصدر نفسه : «بالتماح».

(٤) هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج ، ابن الرومي ، المتوفّى سنة ٢٨٣ ه‍. وترجمته في وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٣١٣) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.

(٥) هو أبو القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملاحي ، صاحب كتاب «تاريخ علماء إلبيرة» ، وقد تقدّم ذكره قبل قليل.

(٦) الطّيّة : المقصد ، والمنتأى. لسان العرب (طوى).

(٧) الذّبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة التي تسرج. لسان العرب (ذبل).

٨

تبيّن ، وحقّ رأيته عليّ قد تعيّن ، بذلت فيه جهدي ، وأقطعته جانب سهدي ، لينظم هذا البلد بمثله ، مما أثير كامنه ، وسطّرت محاسنه ، وأنشر بعد الممات جانبه (١) : [الوافر]

وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو

بصاحبك الذي لا تصبحينا

فلم أدع واحدة إلّا استنجدتها ، ولا حاشية إلّا احتشدتها ، ولا ضالّة إلّا نشدتها ؛ والمجتهد في هذا الغرض مقصّر ، والمطيل مختصر ، إذ ما ذكر لا نسبة بينه وبين ما أغفل ، وما جهل أكثر مما نقل ، وبحار المدارك مسجورة (٢) ، وغايات الإحسان على الإنسان محجورة ؛ ومن أراد أن يوازن هذا الكتاب بغيره من الأوضاع فليتأمّل قصده ، ويثير كامنه ، ويبدي خبائنه (٣) ، تتّضح له المكرمة ، ولا تخفى عليه النّصفة ، ويشاهد مجزي السّيّئة بالحسنة ، والإغراب عن الوصمة والظّنّة ، إذ الفاضل في عالم الإنسان ، من عددت سقطاته ، فما ظنّك بمفضوله. وللمعاصر مزية المباشرة ، ومزيد الخبرة ، وداعي التشفّي والمقارضة ؛ وسع الجميع السّتر ، وشملهم البرّ ، ونشرت جنائزهم لسقي الرحمة ، ومثني الشفاعة ، إلّا ما شذّ من فاسق أباح الشرع حماه ، أو غادر وسمه الشؤم الذي جناه ، فتختلّ عرضه عن تخليد مجد ، وتدوين فخر ، وإبقاء ذكر ، لمن لم يهمّه قطّ تحقيق اسم أبيه ، ولم يعمل لما بعد يومه ، فكم خلف مما ذكر فيه يجده بين يديه ، شفيعا في زلّة ، أو آخذا بضبع إلى رتبة ، أو قائما عند ضيم بحجّة ؛ أو عانس يقوم لها مقام متاع ونحلة ، أو غريب يحلّ بغير قطره فيفيده نحلة ، صاعد خدم قاعدا ونائما. وقد رضينا بالسلامة عن الشكر ، والإصغاء عن المثوبة ، والنّصفة عوض الحسرة ، إذ الناس على حسب ما سطّر ورسم ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

والترتيب الذي انتهت إليه حيلتي ، وصرفت في اختياره مخيلتي ، هو أني ذكرت البلدة (٤) ، حاطها الله ، منبّها منها على قديمها ، وطيب هوائها وأديمها ، وإشراق علاها ، ومحاسن حلاها ، ومن سكنها وتولّاها ، وأحوال أناسها ، ومن دال بها من

__________________

(١) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي. راجع : المعلقات العشر ، شرح ودراسة الدكتور مفيد قميحة ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، ١٩٩١ (ص ١٦٧).

(٢) مسجورة : فيّاضة ، مفعمة. لسان العرب (سجر).

(٣) الخبائن : هذا الجمع لم يرد في معاجم اللغة العربية وجاء فيها لفظة : «خبنة» ، والمراد هنا الخفايا ، من قولهم : خبن الشيء يخبنه إذا أخفاه. لسان العرب (خبن).

(٤) المراد بالبلدة : غرناطة.

٩

ضروب القبائل وأجناسها ، وأعطيت صورتها ، وأزحت في الفخر ضرورتها ، وذكرت الأسماء على الحروف المبوّبة ، وفصلت أجناسهم بالتراجم المترتّبة ، فذكرت الملوك والأمراء ، ثم الأعيان والكبراء ، ثم الفضلاء ، ثم القضاة ، ثم المقرئين والعلماء ، ثم المحدّثين والفقهاء ، وسائر الطلبة النجباء ، ثم الكتّاب والشعراء ، ثم العمّال الأثراء ، ثم الزّهّاد والصّلحاء ، والصوفيّة والفقراء ، ليكون الابتداء بالملك ، والاختتام بالمسك ، ولينظم الجميع انتظام السّلك ، وكلّ طبقة تنقسم إلى من سكن المدينة بحكم الأصالة والاستقرار ، أو طرأ عليها مما يجاورها من الأقطار ، أو خاض إليها وهو الغريب أثباج (١) البحار ، أو ألمّ بها ولو ساعة من نهار ؛ فإن كثرت الأسماء نوّعت وتوسّعت ، وإن قلت اختصرت وجمعت. وآثرت ترتيب الحروف في الأسماء ، ثم في الأجداد والآباء ، لشرود الوفيات والمواليد ، التي رتّبها الزمان عن الاستقصاء ، وذهبت إلى أن أذكر الرجل ونسبه وأصالته وحسبه ، ومولده وبلده ، ومذهبه وأنحاله ؛ والفنّ الذي دعا إلى ذكره ، وحليته ومشيخته ، إن كان ممّن قيّد علما أو كتبه ؛ ومآثره إن كان ممّن وصل الفضل بسببه ؛ وشعره إن كان شاعرا ؛ وأدبه وتصانيفه ، إن كان ممّن ألّف في فن أو هذّبه ؛ ومحنته إن كان ممّن بزّه (٢) الدهر شيئا أو سلبه ؛ ثم وفاته ومنقلبه ، إذ استرجع الله من منحه حياته ما وهبه.

وجعلت هذا الكتاب قسمين ، ومشتملا على فنّين : القسم الأول ؛ «في حلى المعاهد والأماكن ، والمنازل والمساكن». القسم الثاني ؛ «في حلى الزّائر والقاطن ، والمتحرّك والسّاكن».

__________________

(١) الأثباج : جمع ثبج ، وثبج البحر : وسطه ومعظمه. لسان العرب (ثبج).

(٢) بزّه : سلبه. لسان العرب (بزز).

١٠

القسم الأوّل

في حلى المعاهد والأماكن

والمنازل والمساكن

١١
١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فصل

في اسم هذه المدينة ووضعها على إجمال واختصار

يقال (١) غرناطة ، ويقال إغرناطة (٢) ، وكلاهما أعجمي ، وهي مدينة كورة إلبيرة ، فبينهما فرسخان وثلثا فرسخ (٣). وإلبيرة من أعظم كور الأندلس ، ومتوسّطة ما اشتمل عليه الفتح من البلاد ، وتسمّى في تاريخ الأمم السالفة من الرّوم ، سنام (٤) الأندلس ، وتدعى في القديم بقسطيليّة. وكان لها من الشّهرة والعمارة ، ولأهلها من الثروة والعدّة ، وبها من الفقهاء والعلماء ، ما هو مشهور. قال أبو مروان بن حيّان : كان يجتمع بباب المسجد الجامع من إلبيرة خمسون حكمة (٥) ، كلها من فضّة لكثرة الأشراف بها. ويدلّ على ذلك آثارها الخالدة ، وأعلامها الماثلة ، كطلل مسجدها الجامع ، الذي تحامى استطالة البلى ، كسلت عن طمس معالمه أكفّ الرّدى ، إلى بلوغ ما فسح له من المدى.

__________________

(١) قارن باللمحة البدرية (ص ٢١).

(٢) اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية ، وللاطّلاع على هذا الاختلاف بإسهاب راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري للدكتورة مريم قاسم طويل (ص ٢٧).

(٣) الفرسخ : مسافة تقدّر بثلاثة أميال. معجم البلدان (ج ١ ص ٣٦) ، وتقويم البلدان (ص ١٥).

(٤) كذا في اللمحة البدرية (ص ٢١). وقد تكون «شام الأندلس ؛ لأن غرناطة كانت تسمى شام الأندلس أو دمشق الأندلس ، وهكذا وصفها ابن الخطيب في هذا الجزء بعد قليل ، وفي اللمحة البدرية (ص ٢٦). وكذا وصفها الرحّالة ابن جبير وهو يخاطبها : [مجزوء الكامل]

يا دمشق الغرب هاتي

ك لقد زدت عليها

تحتك الأنهار تجري

وهي تنصبّ إليها

راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٢٩).

(٥) الحكمة : ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العذاران. محيط المحيط (حكم).

١٣

بناه الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ، أمير المؤمنين الخليفة (١) بقرطبة ، رحمه الله ، على تأسيس حنش بن عبد الله الصّنعاني الشافعي ، رحمه الله ، وعلى محرابه لهذا الوقت : «بسم الله العظيم ، بنيت لله ؛ أمر ببنائها الأمير محمد بن عبد الرحمن ، أكرمه الله ، رجاء ثوابه العظيم ؛ وتوسيعا لرعيته ؛ فتمّ بعون الله على يدي عبد الله بن عبد الله ، عامله على كورة إلبيرة في ذي قعدة سنة خمسين ومائتين».

ولم تزل الأيام تخيف ساكنها ، والعفاء يتبوّأ مساكنها ، والفتن الإسلامية تجوس أماكنها ، حتى شملها الخراب ، وتقسّم قاطنها الاغتراب ، وكلّ الذي فوق التّراب تراب. وانتقل أهلها مدة أيام الفتنة البربريّة (٢) سنة أربعمائة من الهجرة ، فما بعدها ، ولجأوا إلى مدينة غرناطة ، فصارت حاضرة الصّقع ، وأمّ المصر ، وبيضة ذلك الحقّ ، لحصانة وضعها ، وطيب هوائها ، ودرور مائها ، ووفور مدتها ، فأمن فيها الخائف ، ونظم النّشر ، ورسخت الأقدام ، وتأثّل المصر ، وهلمّ جرّا. فهي بالأندلس ، قطب بلاد الأندلس ، ودار الملك ، وقرى الإمارة ، أبقاها الله متبوّأ الكلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بقدرته.

من «كتاب إلبيرة» (٣) ، قال : بعد ذكر إلبيرة ، وقد خلفها بعد ذلك كله مدينة غرناطة من أعظم مدنها وأقدمها ، عندما انقلبت العمارة إليها من إلبيرة ، ودارت أفلاك البلاد الأندلسية ، فهي في وقتنا هذا قاعدة الدّنيا ، وقرارة العليا ، وحاضرة السلطان ، وقبّة العدل والإحسان. لا يعدلها في داخلها ولا خارجها بلد من البلدان ، ولا يضاهيها في اتّساع عمارتها ، وطيب قرارتها ، وطن من الأوطان. ولا يأتي على حصر أوصاف جمالها ، وعدّ أصناف جلالها ، قلم البيان. أدام الله فيها العزّ للمسلمين والإسلام ، وحرسها ومن اشتملت عليه من خلفائه ، وأنصار لوائه ، بعينه التي لا تنام ، وركنه الذي لا يرام.

وهذه المدينة من معمور الإقليم الخامس (٤) ، يبتدئ من الشرق ، من بلاد يأجوج ومأجوج ، ثم يمرّ على شمال خراسان ، ويمرّ على سواحل الشام ، ممّا يلي

__________________

(١) لم يكن محمد بن عبد الرحمن الثاني خليفة ، بل كان أميرا حكم الأندلس منذ سنة ٢٣٨ ه‍ إلى سنة ٢٧٣ ه‍. والخلافة أقامها بالأندلس عبد الرحمن الناصر سنة ٣١٦ ه‍.

(٢) بدأت الفتنة البربرية بقرطبة سنة ٣٩٩ ه‍.

(٣) هو كتاب «تاريخ علماء إلبيرة» لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملاحي ، وقد سبق ذكره في بداية هذا الجزء.

(٤) كذا جاء في آثار البلاد (ص ٤٩١ ، ٥٤٧) ، وكتاب الجغرافيا (ص ١٦٦ ، ١٦٧) ، واللمحة البدرية (ص ٢١).

١٤

الشمال ، ويمرّ على بلاد الأندلس ، قرطبة وإشبيلية وما والاها إلى البحر المحيط الغربي. وقال صاعد بن أحمد في كتاب «الطّبقات» : إنّ معظم الأندلس في الإقليم الخامس ، وطائفة منها في الإقليم الرابع ، كمدينة إشبيلية ، ومالقة ، وغرناطة ، وألمريّة ومرسية.

وذكر العلماء بصناعة الأحكام أنّ طالعها الذي اختطّت به السّرطان ، ونحلوها ، لأجل ذلك ، مزايا ، وحظوظا من السعادة ، اقتضاها تسيير أحكام القرانات الانتقاليّة على عهد تأليف هذا الموضع.

وطولها سبع وعشرون درجة وثلاثون دقيقة (١) ، وعرضها سبع وثلاثون درجة وعشر دقائق. وهي مساوية في الطول بأمر يسير لقرطبة ، وميورقة ، وألمريّة ؛ وتقرب في العرض من إشبيلية ، وألمريّة ، وشاطبة وطرطوشة ، وسردانية ، وأنطاكية ، والرّقة. كل ذلك بأقلّ من درجة. فهي (٢) شاميّة في أكثر أحوالها ، قريبة من الاعتدال ، وبينها وبين قرطبة ، أعادها الله تعالى ، تسعون ميلا. وهي منها بين شرق وقبلة. وبحر الشام (٣) يحول ويحاجز بين الأندلس وبلاد العدوة (٤) ، وبين غرب وقبلة على أربعة برد (٥). والجبال بين شرق وقبلة ، والبراجلات (٦) بين شرق وجوف (٧) ، والكنبانيّة (٨) بين غرب وقبلة ، وبين جوف وغرب ، فهي لمكان جوار السّاحل ، ممارة بالبواكر (٩) السّاحلية ، طيبة البحار ، وركاب لجهاد البحر ، ولمكان استقبال الجبال ، المقصودة (١٠) بالفواكه المتأخّرة اللحاق ، معلّلة بالمدّخرات ،

__________________

(١) الدرجة عند ياقوت خمسة وعشرون فرسخا ، أي خمسة وسبعين ميلا ، وتنقسم إلى ستين دقيقة. معجم البلدان (ج ١ ص ١٩ ، ٣٦ ، ٣٩). ويقول ابن سعيد : إن كل درجة ونصف مائة ميل ، أي إن الدرجة تساوي نحو ستة وستين ميلا وثلثي ميل. كتاب الجغرافيا (ص ٧٩). ويقول أبو الفداء : الدرجة عند القدماء ستة وستون ميلا وثلثا ميل ، وعند المحدثين ستة وخمسون ميلا وثلثا ميل. تقويم البلدان (ص ١٤).

(٢) قارن باللمحة البدرية (ص ٢٢).

(٣) بحر الشام : هو البحر المتوسط.

(٤) المراد عدوة المغرب المقابلة للأندلس.

(٥) البرد : جمع بريد وهو مقياس مسافة تقدّر باثني عشر ميلا.

(٦) البراجلات : جمع برجيلة وهي بالإسبانية : Parcela ، ومعناها القطعة من الأرض. اللمحة البدرية (ص ٢٩).

(٧) الجوف في اصطلاح المغاربة الجهة المقابلة للقبلة ، أي الشمال.

(٨) الكنبانية كلمة إسبانية : Campana وتعني البسيط أو السهل من الأرض. وقد تكون ناحية بالأندلس قرب قرطبة.

(٩) في اللمحة : «ممارة بالسمك والبواكر ، طيّة للتجار ، ركاب معه للجهاد في البحر».

(١٠) في اللمحة : «مقصودة».

١٥

ولمكان (١) استدبار الكنبانيّة واضطبار (٢) البراجلات ؛ بحر من بحور الحنطة ، ومعدن للحبوب المفضلة ، ولمكان شلير ، جبل الثلج (٣) ، أحد مشاهير جبال الأرض ، الذي ينزل به الثلج شتاء وصيفا ، وهو على قبلة منها على فرسخين ؛ وينساب منه ستة وثلاثون نهرا من فوّهات الماء ، وتنبجس من سفوحه العيون ، صحّ منها الهواء ، واضطردت في أرجائها وساحاتها المياه ، وتعدّدت الجنّات بها والبساتين ، والتفّت الأدواح ، وشمّر الرّوّاد على منابت العشب في مظانّ العقار مستودعات الأدوية والتّرياقيّة. وبردها لذلك في المنقلب الشتوي شديد ، وتجمد بسببه الأدهان والمائعات ، ويتراكم بساحاتها الثلج في بعض السنين ، فجسوم أهلها لصحّة الهواء صلبة ، وسحانهم خشنة ، وهضومهم قويّة ، ونفوسهم لمكان الحرّ الغريزي جريّة (٤).

وهي دار منعة وكرسي ملك ، ومقام حصانة. وكان ابن غانية (٥) يقول للمرابطين في مرض موته ، وقد عوّل عليها للامتساك بدعوتهم : الأندلس درقة ، وغرناطة قبضتها ؛ فإذا جشّمتم يا معشر المرابطين القبضة ، لم تخرج الدرقة من أيديكم.

ومن أبدع ما قيل في الاعتذار عن شدّة بردها ، ما هو غريب في معناه ، قول شيخنا القاضي أبي بكر بن شبرين رحمه الله (٦) : [الطويل]

رعى الله من غرناطة متبوّءا

يسرّ كئيبا (٧) أو يجير طريدا

تبرّم منها صاحبي عندما (٨) رأى

مسارحها بالبرد (٩) عدن جليدا

هي الثّغر صان الله من أهلت به

وما خير ثغر لا يكون برودا؟

__________________

(١) كلمة «ولمكان» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من اللمحة البدرية.

(٢) في اللمحة : «واضطبان».

(٣) هو جبل شلير ، أحد مشاهير جبال الأرض ، وقد أسموه بجبل الثلج ؛ لأن الثلج لا يفارقه شتاء ولا صيفا. ويسمى بالإسبانيةSierra Nevada ، أي سلسلة الجبال الثلجية ، راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص ٤٣).

(٤) جريّة : أي جريئة.

(٥) هو أبو زكريا يحيى بن إسحاق المسوفي ، المعروف بابن غانية ، أمير مرسية وبلنسية وقرطبة وغرب الأندلس من قبل علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي. قاوم الموحدين في أول استيلائهم على الأندلس فقتلوه سنة ٥٤٣ ه‍.

(٦) الأبيات في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩١) ، ونفح الطيب (ج ١ ص ١٧٤) ، ورحلة ابن بطوطة (ص ٦٧٠ ـ ٦٧١) وجاء فيه أن قائل الأبيات هو أبو بكر محمد بن أحمد بن شيرين البستي نزيل غرناطة. وانظر أيضا : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٤٦).

(٧) في رحلة ابن بطوطة والنفح : «حزينا».

(٨) في تاريخ قضاة الأندلس : «بعدما».

(٩) في رحلة ابن بطوطة والنفح : «بالثلج».

١٦

وقال الرّازي عند ذكر كورة إلبيرة : ويتصل بأحواز قبرة كورة إلبيرة ، وهي بين الشّرق والقبلة ، وأرضها سقي غزيرة الأنهار ، كثيرة الثّمار ، ملتفّة الأشجار ، أكثرها أدواح الجوز ، ويحسن فيها قصب السّكر ؛ ولها معادن جوهرية من ذهب ، وفضة ، ورصاص ، وحديد. وكورة إلبيرة أشرف الكور ، نزلها جند دمشق. وقال : لها من المدن الشريفة مدينة قسطيليّة ، وهي حاضرة إلبيرة ، وفحصها لا يشبّه بشيء من بقاع الأرض طيبا ولا شرفا إلّا بالغوطة ؛ غوطة دمشق.

وقال بعض المؤرّخين (١) : ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعة (٢) بعد زريعة ؛ ورعيا بعد رعي ، طول العام ؛ وفي عمالتها المعادن الجوهرية من الذهب ، والفضة ، والرّصاص ، والحديد ، والتوتيا. وبناحية دلاية (٣) من عملها ، عود اليلنجوج (٤) ، لا يفوقه العود الهندي ذكا (٥) وعطر رائحة. وقد سيق منه لخيران (٦) صاحب ألمرية أصل كان منبته بين أحجار هناك. وبجبل شلير منها سنبل فائق الطّيب ، وبه الجنطيانا ، يحمل منه إلى جميع الآفاق ، وهو عقير رفيع ، ومكانه من الأدوية الترياقية مكانه. وبه المرقشينة على اختلافها ، واللّازورد. وبفحصها وما يتصل به القرمز. وبها من العقّار والأدوية النّباتية والمعدنية ما لا يحتمل ذكرها الإيجاز. وكفى بالحرير الذي فضلت به فخرا وقيتة ، وغلّة شريفة ، وفائدة عظيمة ، تمتاره منها البلاد ، وتجلبه الرفاق ، وفضيلة لا يشاركها فيها إلّا البلاد العراقية. وفحصها (٧) الأفيح ، المشبّه بالغوطة

__________________

(١) قارن باللمحة البدرية (ص ٢٢ ـ ٢٣).

(٢) في اللمحة : «زريعة ولا ريعا أيام العام».

(٣) من هنا حتى قوله : «بين أحجار هناك» ، ورد في نفح الطيب (ج ١ ص ١٤١) ببعض الاختلاف عمّا هنا. ودلاية : بالإسبانيةDalias ، وهي بلد أندلسي ساحلي قريب من ألمرية ، يتبع لإقليم البشرّة. والبشرّة بالإسبانيةAlpujarras وهي منطقة جبال سييرا نفاداSierra Nevada. جغرافية الأندلس (ص ١٢٤).

(٤) الألنجوج واليلنجوج : عود جيد ، طيّب الريح ، يتبخّر به. لسان العرب (لنج).

(٥) في نفح الطيب : «ذكاء».

(٦) هو خيران الصّقلبي أو العامري ، وهو أول من استقلّ بألمريةAlmeria عن الخلافة بقرطبة ، وحكمها من سنة ٤٠٥ ه‍ حتى سنة ٤١٩ ه‍. نصوص عن الأندلس (ص ٨٢) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢١٠) والمغرب (ج ٢ ص ١٩٤).

(٧) النص في اللمحة البدرية (ص ٢٣). وفحص غرناطة هو مرجها الشهير ، وهو عبارة عن سهل أفيح ، وبسيط شاسع أخضر خصب ، وغوطة فيحاء مترامية الأطراف. يطلق عليه بالإسبانية اسم La Vega de Granada. يقع غربيّ غرناطة ويمتدّ غربا حتى مدينة لوشة. كتاب العبر لابن خلدون (م ٧ ص ٦٨٩) ونفح الطيب (ج ٥ ص ٨). وقد عرّف ياقوت الفحص بقوله : الفحص بمفهوم أصل الأندلس هو كل موضع يسكن ويزرع ، سواء كان سهلا أو جبلا ، ومع الزمن صار الفحص علما لعدة مواضع. معجم البلدان (ج ٥ ص ٢٣٦). وراجع أيضا مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم (ص ٤١) ففيه حديث مفصّل عن مرج غرناطة.

١٧

الدمشقية (١) ، حديث الرّكاب ، وسمر الليالي ، قد دحاه الله في بسيط سهل (٢) تخترقه (٣) المذانب ، وتتخلّله الأنهار جداول ، وتتزاحم فيه القرى والجنّات ، في ذرع أربعين ميلا أو نحوها ، تنبو العين فيها عن وجهه ؛ ولا تتخطّى المحاسن منها إلّا مقدار رقعة الهضاب ، والجبال المتطامية منه بشكل ثلثي دارة (٤) ، قد عرت (٥) منه المدينة فيما يلي المركز لجهة القبلة ، مستندة إلى أطواد سامية ، وهضاب عالية ، ومناظر مشرفة ؛ فهي قيد البصر ، ومنتهى الحسن ، ومعنى الكمال ، أضفى الله عليها ، وعلى من بها من عباده المؤمنين جناح ستره ، ودفع عنهم عدوّ الدّين بقدرته.

فصل

في فتح هذه المدينة ونزول العرب الشاميين من جند دمشق بها

وما كانت عليه أحوالهم ، وما تعلق بذلك من تاريخ

قال المؤلّف : اختلف المؤرّخون في فتحها ؛ قال ابن القوطيّة (٦) : إن يليان (٧) الرّومي الذي ندب العرب إلى غزو الأندلس طلبا لوتره (٨) من ملكها لذريق بما هو معلوم ، قال لطارق بن زياد مفتتحها عندما كسر جيش الرّوم على وادي لكّه : قد فضضت جيش القوم (٩) ودوّخت حاميتهم ، وصيّرت الرّعب في قلوبهم ، فاصمد لبيضتهم ؛ وهؤلاء أدلّاء من أصحابي ، ففرّق جيوشك في البلدان بينهم (١٠) ، واعمد أنت إلى طليطلة بمعظمهم ، وأشغل القوم عن النظر في أمرهم (١١) ، والاجتماع إلى وليّ رأيهم.

قال (١٢) : ففرّق طارق جيوشه من إستجّة ؛ فبعث مغيثا (١٣) الرّومي ، مولى الوليد بن عبد الملك بن مروان إلى قرطبة ؛ وبعث جيشا آخر إلى مالقة (١٤) ؛ وأرسل

__________________

(١) كلمة «الدمشقية» غير واردة في اللمحة البدرية.

(٢) كلمة «سهل» غير واردة في اللمحة البدرية.

(٣) في اللمحة : «تخترقه الجداول والأنهار».

(٤) في اللمحة : «دائرة».

(٥) في اللمحة : «فعدّت المدينة منه».

(٦) النص غير موجود في «تاريخ افتتاح الأندلس» لابن القوطية ، وجاء فيه بعض من هذا (ص ٣٣ ـ ٣٤). وهو موجود في اللمحة البدرية (ص ٢٥).

(٧) في اللمحة : «بليان».

(٨) في اللمحة : «بوتره».

(٩) في اللمحة : «الروم».

(١٠) في اللمحة : «جيوشك بينهم في البلدان».

(١١) في اللمحة : «أمورهم».

(١٢) النص في أخبار مجموعة لمجهول (ص ١٩ ـ ٢٠) ، واللمحة البدرية (ص ٢٥ ـ ٢٦).

(١٣) في اللمحة : «معينا».

(١٤) في أخبار مجموعة : «إلى مدينة ريّة».

١٨

جيشا ثالثا إلى غرناطة مدينة إلبيرة ؛ وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيّان (١) يريد طليطلة. قال (٢) : فمضى الجيش الذي وجّه طارق إلى مالقة ففتحها ، ولجأ علوجها إلى جبال هناك ممتنعة. ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجّه إلى إلبيرة ، فحاصروا مدينتها ، وفتحوها عنوة ؛ وألفوا بها يهودا ضمّوهم إلى قصبة غرناطة ؛ وصار لهم ذلك سنّة متّبعة ، متى وجدوا بمدينة فتحوها (٣) يهودا ، يضمّونهم إلى قصبتها ، ويجعلون معهم طائفة من المسلمين يسدّونها. ثم مضى الجيش إلى تدمير.

وكان دخول طارق بن زياد الأندلس يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين (٤). وقيل في شعبان ، وقيل في رمضان ، بموافقة شهر غشت من شهور العجمية.

وذكر معاوية بن هشام وغيره (٥) : أن فتح ما ذكر تأخّر إلى دخول موسى بن نصير في سنة ثلاث وتسعين. فتوجّه ابنه عبد الأعلى في جيش إلى تدمير فافتتحها ، ومضى (٦) إلى إلبيرة فافتتحها ، ثم توجّه إلى مالقة.

قال المؤلّف رحمه الله : ولمّا استقرّ ملك الإسلام بجزيرة الأندلس ، ورمى إلى قصبتها الفتح ، واشرأبّ في عرصاتها الدّين ، ونزلت قرطبة وسواها العرب ، فتبوّؤوا الأوطان ، وعمروا البلدان ، فالدّاخلون على يد موسى بن نصير يسمّون بالبلديّين ، والداخلون بعضهم مع بلج بن بشر القشيري ، يسمّون بالشّاميين. وكان دخول بلج بن بشر القشيري بالطّالعة البلجيّة سنة خمس وعشرين ومائة.

ولمّا دخل الشاميّون مع أميرهم بلج ، حسبما تقرّر في موضعه ، وهم أسود الشّرى (٧) عزّة وشهامة ، غصّ بهم السابقون إلى الأندلس ، وهم البلديّون ، وطالبوهم بالخروج عن بلدهم الذي فتحوه ، وزعموا أنه لا يحملهم وإياهم ، واجتمعوا لغزوهم ، فكانت الحروب تدور بينهم ، إلى أن وصل الأندلس أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي ، عابرا إليها البحر من ساحل تونس ، وأظلّ على قرطبة على حين غفلة ، وقد

__________________

(١) قوله : «إلى كورة جيان» غير واردة في أخبار مجموعة.

(٢) هنا ينقطع النص في أخبار مجموعة ، ويتابع في اللحمة البدرية.

(٣) كلمة «فتحوها» ساقطة في اللمحة.

(٤) في تاريخ افتتاح الأندلس (ص ٣٣): «وكان دخول طارق الأندلس في رمضان سنة اثنتين وتسعين».

(٥) النص في اللمحة البدرية (ص ٢٦).

(٦) في اللمحة : «ثم مضى».

(٧) المراد شرى الفرات ، وهو ناحيته ، ويقال للشجعان : ما هم إلّا أسود الشّرى ، وقيل : الشّرى : مأسدة بعينها. معجم البلدان (ج ٣ ص ٣٣٠).

١٩

ستر خبر نفسه ، والحرب بينهم ، فانقاد إليه الجميع بحكم عهد مدينه حنظلة بن صفوان والي إفريقية (١) ، وقبض على وجوه الشاميّين عازما عليهم في الانصراف حسبما هو مشهور ؛ ورأى تفريق القبائل في كور الأندلس ، ليكون أبعد للفتنة ، ففرّقهم ، وأقطعهم ثلث أموال أهل الذّمّة ، الباقين من الرّوم ، فخرج القبائل الشاميون عن قرطبة.

قال أبو مروان : أشار على أبي الخطار ، أرطباس قومس الأندلس ، وزعيم عجم الذمّة (٢) ، ومستخرج خراجهم لأمراء المسلمين ـ وكان هذا القومس شهير العلم والدهاء ـ لأول الأمر ، بتفريق القبائل الشاميين العلمين عن البلد ، عن دار الإمارة قرطبة ، إذ كانت لا تحملهم ، وإنزالهم بالكور ، على شبه منازلهم التي كانت في كور شامهم ، ففعل ذلك على اختيار منهم ؛ فأنزل جند دمشق كورة إلبيرة ، وجند الأردن كورة جيّان ، وجند مصر كورة باجة ، وبعضهم بكورة تدمير ؛ فهذه منازل العرب الشاميين ؛ وجعل لهم ثلث أموال أهل الذّمّة من العجم طعمة ؛ وبقي العرب والبلديّون والبرابر (٣) شركاؤهم ؛ فلمّا رأوا بلدانا شبه بلدانهم بالشام ، نزلوا وسكنوا واغتبطوا وكبروا وتموّلوا ، إلّا من كان قد نزل منهم لأول قدومه في الفتوح على عنائهم موضعا رضيّا ، فإنه لم يرتحل عنه ، وسكن به مع البلديّين. فإذا كان العطاء أو حضر الغزو ولحق بجنده ، فهم الذين كانوا سمّوا الشّادّة حينئذ.

قال أحمد بن موسى : وكان الخليفة يعقد لواءين ، لواء غازيا ، ولواء مقيما ؛ وكان رزق الغازي بلوائه مائتي دينار. ويبقى المقيم بلا رزق ثلاثة أشهر ؛ ثم يدال بنظيره من أهله أو غيرهم. وكان الغزاة من الشّاميين مثل إخوة المعهود له أو بنيه أو بني عمّه ، يرزقون عند انقضاء غزاته عشرة دنانير ؛ وكان يعقد المعقود له مع القائد ؛ يتكشّف عمّن غزا ، ويستحقّ العطاء ، فيعطى على قوله تكرمة له ؛ وكانت خدمتهم في العسكر ، واعتراضهم إليه ؛ وكان من الشّاميين غازيا من غير بيوتات العقد ، ارتزق خمسة دنانير عند انقضاء الغزو. ولم يكن يعطى أحد من البلديين شيئا غير المعقود له ؛ وكان البلديّون أيضا يعقد لهم لواءان ؛ لواء غاز ، ولواء مقيم ؛ وكان يرتزق الغازي

__________________

(١) كانت الأندلس في عصر الولاة (٩٢ ـ ١٣٨ ه‍) تخضع إداريّا لإفريقية ، ولوالي إفريقية صلاحية من قبل الخليفة الأموي بدمشق في تعيين وال على الأندلس.

(٢) عجم الذمّة : هم النصارى المعاهدون ، Los Mozarabes ، وسيتحدث عنهم ابن الخطيب بعد قليل.

(٣) البرابر : أي البربر.

٢٠