إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

وقال هو وصاحب المعجم : لما ملك بلقورس الأثوري الموصل وقصبتها يومئذ نينوى كان المتولي على خطة قنسرين حلب بن المهر ( بفتح الميم ) أحد بني الخاب * بن مكنّف من العمالقة فاختط مدينة حلب وسميت به ، وكان ذلك على مضي ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة لآدم ، وكانت مدة بلقورس هذا ثلاثين عاما. وكان بناها بعد ورود إبراهيم عليه‌السلام إلى الديار الشامية بخمسمائة وتسع وأربعين سنة لأن إبراهيم ابتلي بما ابتلي به من نمرود زمانه واسمه راميس وهو الرابع من ملوك أثورا ، وكانت مدة ملكه تسعة وثلاثين سنة ومدة ما بينه وبين آدم ثلاثة آلاف وأربعمائة وثلاث عشرة سنة. وفي السنة الرابعة والعشرين من ملكه ابتلي إبراهيم عليه‌السلام بنار نمرود فهرب منه مع عشيرته إلى ناحية حران ثم انتقل إلى جبل البيت المقدس ، وكانت عمارتها بعد خروج موسى من مصر وبني إسرائيل إلى التيه وغرق فرعون بمائة وعشرة أعوام.

وكان أكبر الأسباب في عمارتها ما حل بالعماليق في البلاد الشامية من خلفاء موسى عليه‌السلام ، وذلك أن يوشع بن نون لما خلفه موسى قاتل أريحا والغور وافتتحها وسبى وقتل وأحرق وضرب ثم افتتح بعد ذلك بلدة عمان ، وارتفع العماليق من تلك الديار إلى أرض سوريا وهي قنسرين وبنوا حلب وجعلوها حصنا لأنفسهم وأموالهم ولم يزالوا متحصنين بعواصمها إلى أن بعث الله داود عليه‌السلام فانتزعها منهم.

أقول : إن بين آدم والهجرة كما في أبي الفدا ٦٢١٦ ، فإذا أسقطنا منها المدة التي بين بلوكوش وآدم وهي ٣٩٩٠ سنة يبقى ٢٢٢٦ سنة ، فإذا اعتبرنا أنه عمرها بعد مضي ١٥ سنة من ملكه وأضفنا إلى ذلك من الهجرة إلى الآن مع المسامحة بالفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية وهو ١٣٤٢ يكون المجموع ٣٦٨٣ سنة هي المدة التي مضت على بناء حلب للمرة الأولى إلى الآن.

صورة أخرى أن بين مولد إبراهيم وآدم كما في أبي الفدا ٣٣٢٣ ومن مولده إلى هجرته إلى الشام وولادة إسماعيل له ٨٥ تقريبا وبناء حلب بعد ذلك كما تقدم ب ٥٤٩ يكون المجموع ٣٩٥٧ ، فإذا أسقطنا ذلك من ٦٢١٦ يبقى ٢٢٥٧ ، وإذا أضفنا إلى ذلك من

__________________

( * ) في معجم البلدان : الجان.

٨١

الهجرة إلى الآن ١٣٤٢ يكون المجموع ٣٥٩٩ سنة هي المدة التي مضت على بنائها للمرة الأولى فتكون الروايتان متقاربتين من بعضهما ، بل إذا اعتبرنا أن بناء بلوكوش لها في أواخر مدته يكون الفرق بين الروايتين أربع أو خمس سنين.

وقال في الدر المنتخب : إنها كانت تسمى باليونانية باروا وقيل بيروا ، والصابئة كانت تسميها مابوغ ، وقال : قد كانت حلب تعرف بمدينة الأحبار عند الصابئة وجد في كتاب بابا الصابي الحراني في المقالة الرابعة في ذكر خروج الحبشة وفسادهم في البلاد : وينزل الفرات وتامن مدينة الأحبار المسماة مابوغ وهي حلب. وقال في المقالة السادسة : وأنت يا مابوغ وهي حلب مدينة الأحبار يأتي رجل سلطان يحل بك ويعلي أسوارك ويجدد أسواقك ويجري العين التي فيك وبعد قليل يؤخذ منك.

قال : ولما شرع السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في بناية الأسوار والأبراج بحلب وعمر السوقين الذين أنشأهما شرقي الجامع بمدينة حلب أحدهما نقل إليه الحريريين والآخر نقل إليه النحاسين.

قال في معجم البلدان وكذا في الدر المنتخب : ذكر آخرون في سبب عمارة حلب أن العماليق لما استولوا على البلاد الشامية وتقاسموها بينهم استوطن ملكهم مدينة عمان ومدينة أريحا الغور ودعاهم الناس الجبارين ، وكانت قنسرين يومئذ عامرة ولم يكن يومئذ اسمها قنسرين وإنما كان اسمها سوريا وكان هذا الجبل المعروف الآن بسمعان يعرف بجبل نبو ، ونبوصنم كانوا يعبدونه في موضع يعرف اليوم بكفر نبو ، والعمائر الموجودة في هذا الجبل إلى اليوم هي آثار المقيمين في جوار هذا الصنم ، وقيل بلعام بن باعورا البالسي إنما بعثه الله إلى عباد هذا الصنم لينهاهم عن عبادته ، وقد جاء ذكر هذا الصنم في بعض كتب بني إسرائيل وأمر الله بعض أنبيائهم بكسره. زاد في الدر المنتخب نقلا عن مختصر البلدان : وبه قبة الصنم اه. وسيأتي بيان أن عباد هذا الصنم هم البابليون. وفي الدر المنتخب أنها سميت حلب باسم من بناها وهو حلب بن مهر من ولد جان * من العمالقة ، وقيل إن حلب وحمص ابنا مهر بن حمص بن جان * ابن مكنّف من بني عمليق هما اللذان بنيا حلب وحمص فنسبتا إليهما.

__________________

( * ) أثبتها كذلك ، وهي في الطبعة الأولى : خاب.

٨٢

وقال نقلا عن ابن شداد عن مختصر البلدان لابن عبد الحق : قيل كان حلب وحمص وبردعة أخوة من بني عمليق فبنى كل واحد منهم مدينة سميت به.

فتبين مما تقدم أن الباني لحلب للمرة الأولى على التحقيق هو بلوكوش ملك الموصل ، وكان الوالي من قبله على خطة حلب هو حلب بن مهر فسميت باسم الوالي ، ومنه يتبين أن ما قيل في سبب تسميتها أن إبراهيم عليه‌السلام كان يحلب غنمه فيها الجمعات ويتصدق به فيقول الفقراء حلب حلب فسميت به لا أصل له ، وتفنيد صاحب المعجم لهذا القول في محله.

ومما يؤيد ما حققناه أن حلب ممنوعة من الصرف ولو كانت عربية مأخوذة من الحلب لنونت وصرفت.

وفي المعجم : وتلقب بالشهباء والبيضاء لبياض أرضها وأحجارها ولأنها إذا أشرف عليها تراءت له بيضاء.

ذكر بناء حلب للمرة الثانية

قال في الدر المنتخب : قال أوشارس إن في السنة الأولى من تاريخ الإسكندر ملك سلوقوس الذي يقال له نيكافوس على سوريا وبابل وهذا الرجل بنى سلوقية وأفامية والرها وحلب واللاذقية

وقال نقلا عنه : وجدت في بعض الكتب أن جميع عدد السنين منذ خلق الله آدم عليه‌السلام إلى أول سنة من عدد اليونانيين وتعرف بسني الإسكندر خمسة آلاف ومايتان وإحدى وعشرين سنة ( في أبي الفدا ٥٢٨١ ) وهذا يدل على أن سلوقوس بنى حلب مرة ثانية ، ولعلها كانت خربت بعد بناء بلوكوش فجدد بناءها سلوقوس فإن ما بين المدتين ما يزيد على ألف ومائتي سنة.

وقال صاحب المعجم نقلا عن أبي نصر يحيى بن جرير الطبيب التكريتي النصراني : كان الملك على سوريا وبابل والبلاد العليا سلوقوس نيقطور وهو سرياني وملك في السنة الثالثة لبطليموس بن لاغوس بعد ممات الإسكندر ، وفي السنة الثالثة عشرة من مملكته بنى

٨٣

سلوقوس اللاذقية وسلوقية وأفامية باروا وهي حلب وأراسا وهي الرها وكمل بناء أنطاكية اه.

وفي الدر المنتخب نقلا عن كمال الدين بن العديم قال : نقلت من خط إدريس ابن حسن الإدريسي ما ذكر أنه نقله من تاريخ أنطاكية قال صاحب تاريخ أنطاكية وهو أحد المسيحية الشوريانية ، إن الذي بنى حلب بعد الإسكندر هو بطليموس الأديب وهو الذي بنى سلوقية وأفامية والرها واللاذقية وباروا وهي حلب وهذا بطلموس الأديب هو سلوقوس ، لكن اليونانيون كانوا يسمون كل من ملك عليهم كسرى وكما تسمي الروم كل من ملك عليهم قيصر. اه.

أقول : والمدة بين الإسكندر وبين الهجرة ٩٣٤ سنة ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما مضى من سني الهجرة وهو ١٣٤٢ تكون المدة التي مضت على بنائها للمرة الثانية إلى الآن ألفين ومائتين وثلاث وسبعين سنة تقريبا ٢٢٧٣.

ذكر إلزام اليهود بسكنى حلب وبناء القلعة

قال في الدر المنتخب نقلا عن أبي الريحان أحمد بن محمد البيروني في كتاب القانون المسعودي : وفي السنة الحادية والعشرين من ملك بلقورس ( صوابه سلوقوس ) ألزم اليهود أن يقيموا في المدينة التي بناها واضطرهم إلى ذلك وقرر عليهم الجزية التي أزالها شمعون بعد مائة وسبعين سنة اه.

وفي تحف الأنباء : لما استولى على أنطاكية سليكس وهو أحد الملوك الرومانيين سنة إحدى وعشرين من جلوسه قبل ولادة المسيح بثلاثماية واثنتي عشرة سنة جدد بناء مقدار النصف من مدينة حلب الذي كان انهدم ، وهو الذي بنى القلعة على التل المشهور عند العرب أنه لإبراهيم الخليل وأمر اليهود أن يترددوا إلى هذه البلدة للتجارة ويقيموا فيها ورتب عليهم دفع تكاليف أميرية ، فاستوطنوها وكثر عددهم فبلغت مساحة دورهم نصف ساعة طولا. وكان لهم ضمن هذا البناء ثلاث كنائس أولها لم تزل عامرة إلى الآن وهي معبدهم

٨٤

الكائن في محلتهم (١) ، والثانية عامرة أيضا وهي معبد للمسلمين وتسمى الآن جامع الحيات وكانت عمارتها بعد ظهور المسيح بمائة سنة وجدد بناءها هليل بن ناتان كما هو مكتوب في حائطها بالقلم العبراني واللفظ عربي (٢) ، والثالثة خارج باب النصر عند جامع المدرسة في بادنجك ولكنها درست ولم يبق منها سوى بعض حروف عبرانية منقوشة على بعض حجارة هناك وفقدت منذ ثلاثين سنة ، وكان أكثر سكانها يهود ولذلك كانت تسمى مدينة الأحبار حتى إن أحد أبوابها اسمه باب اليهود ، واستمر على ذلك الاسم إلى أن أتت الملوك الأيوبية فغيرت اسمه وسمته باب النصر.

تتمة لهذه الفصول وذكر الحجر الموجودة في حلب المرسومة

بالقلم الهيروكليفي وذكر غير ذلك من الأدلة التي تثبت

أن العمالقة هم الذين بنوا حلب

قال في تحف الأنباء : إن الذي تحقق عندي أن حلب من بناء العمالقة ودليل ذلك الكتابة الموجودة الآن على الحجر الأسود في الحائط بظاهر جامع القيقان ( صوابه قاقان ) في داخل باب أنطاكية ( في محلة العقبة ) فإنها مرسومة بقلم الهيروكليف (٣) بلغة الكيتا أو الحماتيين ، وهذه الكتابة كان اصطلاحهم عليها في أيامهم وكان اسم حلب بلغتهم هلبون

__________________

(١) أقول : في الجدار الأيمن من الكنيسة في داخلها في المحل المعد للصلاة حجر مربع محرر عليه بالعبرانية ( هذا القبو بناه من بيت عيلي ابن بارناتان ابن بارحادم ابن ابن مياسير من ماله الخاص سنة ١٤٥ ) أي للإسكندر وقد مضى على تاريخ الإسكندر ٢٢٣٥ سنة فيكون قد مضى على تاريخ بناء هذا المحل ٢٠٩٠ سنة وطول الكنيسة نحو ٣٠ مترا وعرضها نحو ١٥ مترا وفي الصحن منبر من حجر قطعة واحدة طوله أربعة أذرع كسر من أسفله في الزلزلة العظيمة التي حصلت سنة ١٢٣٧ ، ويقال إنه مبني من حين بنيت الكنيسة ، وفي الصحن ستة عواميد وهناك حجر تفيد أن بناء هذه العواميد كان سنة ١٧١٦ من تملك الإسكندر فيكون قد مضى عليها إلى وقتنا هذا ٥١٩ سنة ، وقد تجدد فيها بعد هذا غير ذلك.

(٢) الحجر في الجدار الشرقي من الجامع والمكتوب عليها ثلاثة أسطر وهي :

١ ـ تاريخ هذا الحائط سنة ٥٥٣

٢ ـ لتاريخ الإسكندر بناه الأمّان

٣ ـ هليل الكاهن بارناتان بلا أجرة

الأمان كلمة سريانية ومعناه المعلم وبار كلمة عبرانية معناها ابن وقد مضى للإسكندر ٢٢٣٥ سنة فإذا طرحنا منها ٥٥٣ يبقى ١٦٧٢ سنة.

٨٥

وهلبه واستمرت بأيديهم إلى أن أتى الملوك المصريون وحاربوهم وملكوها منهم وهم تدمس الأول وتدمس الثاني وسباتي الأول ورمسس الأول وذلك قبل التاريخ المسيحي ما بين ألفي سنة وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف سنة ( يرد هذا القول ما يأتي بعد أسطر ) وهذا دليل على أنها من بناء بني حام ، ثم إن الكيتا صالحوا الملوك المصريين واستردوها منهم فلم تزل في أيديهم إلى أن أتى بنو آرام وتغلبوا على البلاد وأخذوها منهم كما قدمنا وحينئذ اشتهرت دولة بني آرام.

وفي مجلة ( المشرق جلد ٢ صحيفة ١٤ ) من مقالة لبولس جوون اليسوعي وصف بها حلب قال : ومما لا سبيل إلى إنكاره أن حلب كانت في القرن الرابع عشر قبل المسيح مدينة عامرة تشهد بذلك كتابة مصرية ترتقي إلى زمن رعمسيس الثاني وصف فيها سفر بعض المصريين إلى شمالي سورية جاء فيها مرارا ذكر [ حلبو ] أي حلب ، وورد أيضا في رقيم هيكل رعمسيس المذكور أن هذا الفرعون انتصر على أمير حلب وكان أتى في ١٨٠٠٠ لنصرة ملوك الخطييين أو الحثيين في واقعة قادش فغلبه رعمسيس ورماه في نهر العاصي فنجا منه بهمة جنوده وصورته على هذه البناية تمثاله معلقا برجليه يتقيأ ما تجرعه من الماء.

ولم تخل الكتابات البابلية من ذكر حلب وهي تدعى فيها باسم حلبو كما بين ذلك العلامة أوبير ، وزعم قوم أن بانيها نمرود أول ملوك بابل [ هو بلوكوش الذي قدمنا ذكره ].

وما نراه الأرجح في أصل مدينة حلب أن بناتها الحثيون من سلالة حام بن نوح ، وكانوا شعبا قويا تملكوا على سوريا الشمالية قبل فتوحات ملوك مصر من القرن السابع إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح ، وقد أبقوا آثارا جليلة من ملكهم في جهات حمص وحماة وحلب ، وقد وجد في تلك الجهات تماثيل ورسوم وكتابات كثيرة سطرت بلغتهم التي لم يهتد العلماء حتى الآن إلى حل رموزها ، ونظن أن هذه المدن نفسها مشتقة من هذه اللغة الحثية ، ومما يؤيد رأينا أن في قلاع المدن المذكورة تشابها عظيما وكلها مبنية فوق تلال مركومة صناعيا وجوانبها مصفحة بصفائح الحجارة ، كما أن رسوم الكتابات الحثية فيها متشابهة تنبىء بأصل واحد.

وقد بقي في حلب من هذه الخطوط كتابة غاية في القدم قد ذهب بقسم منها فطمسه وهي الآن في حائط الجامع الشهير المعروف بجامع القيقان الذي يشرف على سورها القديم من جهة الغرب.

٨٦

أقوال اليهود فيمن بنى حلب

والأمم التي استولت عليها إلى أن أتى الإسلام

قال في تحف الأنباء : أما اليهود فإنهم يقولون إن أول من بنى هذه المدينة بنو آرام ويسمونها آرام صوبا مستدلين بما ذكر في التوراة في الكتاب الثاني لصموئيل في القسم الثامن في السطر الثالث وهو أنه لما نزل داود إلى الفرات ضرب حاتا تيثر بن ريجوبا ملك آرام صوبا.

ولكن أقول إن هذا الوادي الذي ضرب به الآراميون هو بين الجبول وسبت وهي شرقي الجبول من جهة الجنوب ، والدليل على ذلك أن لفظ سبت أقرب للفظ صوبا من حيث مخارج الحروف بخلاف لفظ حلب وأن سبت كانت مدينة عظيمة مآثرها موجودة حتى الآن والوادي الذي بين الجبول معروف مشاهد بين جبلين وليس كذلك بين حلب والجبول فإن بينهما سهلا ، وأخبرني أحد حاخامي الإسرائيليين أنه سنة ألف ومائتين وعشرين من الهجرة رأى حجرا بقلعة حلب مكتوبا عليه بالعبرانية [ أنا إيواب بن سيرويا أخذت هذه القلعة ](١) وهذا إيواب كان رئيس جيش داود النبي ، وكان داود النبي قبل التاريخ المسيحي ما بين ألف وسبع عشرة سنة إلى ألف وثمان وخمسين سنة ، واستمرت بأيديهم إلى أن أتى الملوك البابليون وتحاربوا مع السريانيين وأخرجوهم منها وملكوها وذلك قبل التاريخ المسيحي بستمائة وستين سنة.

وكان البابليون ممن يعبدون الأصنام ولهم صنم يقال له نابو ، ولم أقف على ما يدل على آثارهم ، سوى أني وجدت بقرية من قرى حلب في جبل سمعان يقال لها كفر نابو أثر بناء لمحل الصنم الذي كان يعبده البابليون ، فإن معنى نابو بلغتهم إله فيكون معنى كفر نابو قرية الإله.

__________________

(١) أقول بحثت كثيرا عن هذا الحجر فلم أجد له أثرا ولعل الجدار الذي كان فيه خرب وذهب مع الأنقاض.

٨٧

ثم حارب الملك شلمناصر الرابع الحماتيين جملة حروب ، وفي سنة ٨٦٠ قبل التاريخ المسيحي جيش في نينوى جيشا عظيما وقطع به نهر الخابور ونهر البليق ثم مضى إلى مدينة بتيرا أو بتيروا ، هذا ما كتب في تاريخ نينوى بالقلم المسماري ، ومن مدينة بيترا قطع نهر الساجور وأتى مدينة قاركمش وملكها.

وفي السنة نفسها أتى مدينتي آتا وباكا وملكهما ومن هناك قسم جيشه جيشين الجيش الواحد أتى مدينتي عزاز وأرفاد وهما الآن ضيعتا عزاز وتل أرفاد والجيش الآخر أتى مدينة هلبون وهي حلب وملكها ، ومن حلب أتى حماة وملكها. وأما جيش اعزاز وأرفاد فإنه قطع نهر عفرين واجتمع بجيش حماة ، وبعد ما ملك شلمناصر الرابع كل هذه البلاد وكسر الحماتيين رجع نينوى وبقيت الملوك الحماتية تحت سلطة الملوك البابليين إلى أن أتى ملوك العجم والساسانيين وملكوا نينوى. ثم أتت العجم واستولت على هذه البلاد وأخرجت البابليين منها وبقيت بأيديهم إلى أن أتى الإسكندر وأخذها منهم فصارت مسكنا للروم اليونانيين. فكانوا يقولون للمدينة حلبا ولما حولها خالبن بالخاء المعجمة وذلك لأن الحاء لم يستعملوها في لغتهم فأبدلوها بالخاء المعجمة ، وأيضا كانوا يقولون لها برويا قيل سماها اليونانيون برّويا لأنها تشبه إحدى مدنهم المسماة بهذا الاسم.

ثم إن الروم استولوا عليها وأخذوها من اليونانيين هي وسوريا وأنطاكية وجعلوها تختا لكرسي مملكتهم.

وفي سنة مائة وسبع أو سبع عشرة من التاريخ المسيحي أمر الإمبراطور ترايان اللاتيني بضرب السكة في حلب فشرعوا فيها ، وكان مرسوما على أحد جانبيها صورة الإمبراطور وعلى الجانب الآخر ( برويا ) وهو اسم حلب كما قدمنا بالقلم اليوناني.

ثم إن السيلاكيديين أولاد سليكس اليونانيين أرادوا أن يزيدوا في بناء حلب ويوسعوها لمحبتهم لها وطيب هوائها وعذوبة مائها فلم يمكنهم ذلك لأن القوافل التي كانت تأتي من البحر إلى الفرات ومن الفرات إلى البحر كان طريقها إلى قنسرين ولم تكن حلب حينئذ ممرا لهم لأنها كانت صغيرة جدا ولم يوجد بها ما يوجد في قنسرين من صناعات وغيرها ، فلذا تركوا توسيعها لأن قنسرين كانت محطا لرحال التجار وتقصدها القوافل والركبان ، حتى إن تجار أوروبا كانت تأتي إليها من السويدية في طريق أنطاكية وتأتي إليها تجار العجم من الفرات

٨٨

بطريق بالس المسماة الآن مسكنة يجتمعون فيها كل سنة مرتين يبيعون فيها أموالهم ، ولم تكن الطرق في ذلك الوقت سالكة إلى حلب إلا من يقصد الذهاب إلى منبج فيكون طريقه إلى حلب.

ذكر الصنم الذي كان يعبده أهل منبج وأهل حلب

وتاريخ دخول النصرانية إلى حلب

قال في تحف الأنباء : كانت منبج إذ ذاك مقر صنم كبير اسمه تركيد ويعبده أهلها وكانت تسمى هيرابلس. وأما أهل حلب فإن أكثر أهلها كانوا ممن يعبدون هذا الصنم لقربها من منبج وعدم مرور القوافل عليها كما قدمنا ، ولذلك تأخر وجود النصارى فيها لأنه كما قيل لم يدخل إليها أسقف إلا بعد ثلاثمائة وأربع عشرة سنة من التاريخ المسيحي. وفي سنة ثلاثماية وثلاث عشرة إلى سنة ثلاثماية وأربع وعشرين من التاريخ المذكور عمرت الملكة هيلانة أم الملك قسطنطين الكبير لنصارى حلب الكنيسة الكبيرة التي كانوا يسمونها الكنيسة العظمى. وكنيسة هيلانة في وسط المدينة وهي الآن المدرسة المسماة بالهيلانية ، وأما المشهور من أن اسمها الحلوية فهذا غلط لا أصل له (١) ، وجددت أيضا بناء قناة حلب الآتية لها من قرية حيلان وأصلحت ما تهدم منها وليست هي التي أنشأتها كما زعمه كثيرون وإنما هي قديمة من زمن اليونانيين ولم يعلم اسم بانيها.

ثم بعد أن تمت عمارة الكنيسة المذكورة طلبت من ابنها قسطنطين أن يرسل بطركا إلى نصارى حلب ، فأرسل لها بطركا يقال له أوسطاطس ، ثم أرسل بعده مطرانين يقال لأحدهما كيروبس والآخر ملاكس ، ثم إن ملاكس وصل إلى أنطاكية بطركا فيها سنة ثلاثماية وإحدى وستين.

__________________

(١) أقول : إن تسميتها بالحلوية لا باعتبار أنها محرفة عن الهيلانية كما قال بل لأن من شرط الواقف أن يضع ليلة النصف من شعبان في كل سنة حلوى معلومة ، وقيل لأن السوق الذي هناك كان سوقا للحلويين ، فكيفما كان فالحلوية نسبة إلى الحلوى بلا ريب وسيأتي الكلام على ذلك عند ذكر آثار نور الدين الشهيد.

٨٩

وفي سنة ثلاثماية وثلاث وثلاثين أتى الإمبراطور يوليانس من أنطاكية إلى حلب لمحاربة العجم في منبج وكان بطرك حلب حينئذ يقال له أنطوليكس.

وفي سنة أربعمائة واثنتين وثلاثين صار في حلب مجمع من الأساقفة الشرقية وكان به البطرك أكايس ، وفي سنة خمسماية وأربعين حاربت العجم الملك كيروبس النشرواني في أنطاكية وحلب وقنسرين ومنبج وملكتها الأعاجم وأحرقت منبج وأنطاكية وقنسرين ، وأما حلب فإن بطركها ميكاس صالحهم على دراهم دفعها لهم فتركوها.

ثم إن الملك كيروبس جدد بناء ما تهدم من سورها وقت المحاربة وذلك من باب الجنين إلى باب النصر وكان بناؤه من الحجر القرميد الغليظ وعمر بالقرب من باب أنطاكية بيتا لأجل النار فإنه كان ممن يعبدونها فاشتملت وقتئذ المدينة على أربعة أنواع من الديانات حسب الفرق التي كانت فيها وهي اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وعبدة النار ، ثم بعد أن أحرق البلاد المذكورة وعمر سوق حلب رجع إلى بلاد العجم من طريق مسكنة ، ولا يخفى ما صادف هذه المملكة من ذلك التاريخ إلى بعد برهة مائة سنة أي إلى حين ما افتتحها العرب في تاريخ سنة ستماية وثلاث وثلاثين وأخذوها من يد الإمبراطور هرقل من المحاربة وشن الغارات عليها ، وهذا هو المانع من اتساع ساحتها ونشاط أهلها. اه.

ذكر ملوك الروم في البلاد السورية عند ظهور الإسلام

قال المسعودي في مروج الذهب : وجدت في كتب التواريخ تنازعا في مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عصر من كان من ملوك الروم ، فمنهم من ذهب إلى ما قدمناه من مولده وهجرته ، ومنهم من رأى أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في ملك نوسطورس الأول وكان ملكه تسعا وعشرين سنة ( ثم ملك نوسطورس ) وكان ملكه عشرين سنة ( ثم ملك بعده هرقل بن منطيوس ) وهو الذي في كتب الزيجات والنجوم وعليه يعمل أهل الحساب. وفي تواريخ ملوك الروم ممن سلف وخلف أن ملك الروم كان في وقت ظهور الإسلام وأيام أبي بكر وعمر هرقل ، وفي تواريخ أصحاب السير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هاجر وملك الروم قيصر بن مورق ثم ملك بعده قيصر بن قيصر وذلك في أيام أبي بكر الصديق رضي الله

٩٠

عنه ، ثم ملك على الروم هرقل بن قيصر وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وهو الذي حاربه أمراء الإسلام الذين فتحوا الشام مثل أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أمراء الإسلام حين أخرجوه من الشام.

ذكر وضع التاريخ في الإسلام

قال ابن الأثير في الكامل : الصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أمر بوضع التاريخ ، وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ ، فجمع عمر الناس للمشورة فقال بعضهم : أرخ بمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم : بمهاجرة رسول الله ، فقال عمر : بل نؤرخ بمهاجرة رسول الله فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل ، قاله الشعبي ، وقال ميمون بن مهران : رفع إلى عمر صك محله شعبان فقال : أي شعبان أشعبان هو آت أم شعبان الذي نحن فيه ، ثم قال لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ضعوا للناس شيئا يعرفونه ، فقال بعضهم : اكتبوا على تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين ، فقال : هذا يطول ، فقال : اكتبوا على تاريخ الفرس ، فقيل إن الفرس كلما أقام ملك طرح تاريخ من كان قبله ، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه عشر سنين فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال محمد بن سيرين : قام رجل إلى عمر فقال : أرخوا فقال عمر : ما أرخوا ؟ فقال : شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا ، فقال عمر : حسن ، فأرخوا فاتفقوا على الهجرة ، ثم قالوا : من أي الشهور ؟ فقالوا : من رمضان ، ثم قالوا : فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام ، فأجمعوا عليه. وقال سعيد بن المسيب : جمع عمر الناس فقال : من أي يوم نكتب ؟ فقال علي : من مهاجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفراقه أرض الشرك ، ففعله عمر. اه.

وقال الذهبي في تاريخه عن سعيد بن المسيب قال : أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب لسنتين ونصف من خلافته في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة من الهجرة بمشورة علي رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

٩١

قال في المصباح : ويعتبر التاريخ بالليالي لأن الليل عند العرب سابق على النهار لأنهم كانوا أميين لا يحسنون الكتابة ولم يعرفوا حساب غيرهم من الأمم فتمسكوا بظهور الهلال وإنما يظهر بالليل فجعلوه ابتداء التاريخ. اه.

ذكر فتح الديار الحلبية

قال ابن الأثير في حوادث سنة ١٥ خمس عشرة : لما فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق وحمص وبعلبك وحماة مضى نحو شيزر فخرجوا إليه يسألون الصلح على ما صالح عليه أهل حماة ، وسار أبو عبيدة إلى معرة حمص وهي معرة النعمان نسبت بعد إلى النعمان بن بشير الأنصاري فأذعنوا له بالصلح على ما صالح عليه أهل حمص ، ثم أتى اللاذقية فقاتله أهلها وكان لها باب عظيم يفتحه جمع من الناس فعسكر المسلمون على بعد منها ، ثم أمر فحفر حفائر عظيمة تستر الحفرة منها الفارس راكبا ، ثم أظهروا أنهم عائدون عنها ورحلوا ، فلما جنهم الليل عادوا واستتروا في تلك الحفائر وأصبح أهل اللاذقية وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا عنه فأخرجوا سرحهم وانتشروا بظاهر البلد ، فلم يرعهم إلا والمسلمون يصيحون بهم ودخلوا معهم المدينة وملكت عنوة وهرب قوم من النصارى ، ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم فقوطعوا على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا ، وتركت لهم كنيستهم وبنى المسلمون بها مسجدا جامعا بناه عبادة بن الصامت ثم وسع فيه بعد ، ولما فتح المسلمون اللاذقية جلا أهل جبلة من الروم عنها.

ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين ، فلما نزل الحاضر زحف إليهم الروم وعليهم ميناس وكان من أعظم الروم بعد هرقل فاقتتلوا فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها فماتوا على دم واحد.

وفي تاريخ الإمام ابن جرير الطبري أن أهل الحاضر أرسلوا إلى خالد أنهم عرب وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم.

وقال البلاذري في فتوح البلدان : سار أبو عبيدة بن الجراح بعد فراغه من أرض اليرموك إلى حمص فاستقراها ثم أتى قنسرين وعلى مقدمته خالد بن الوليد فقاتله أهل مدينة

٩٢

قنسرين ثم لجأوا إلى حصنهم وطلبوا الصلح فصالحهم أبو عبيدة على مثل صلح حمص وغلب المسلمون على أرضها وقراها ، وكان حاضر قنسرين لتنوخ مذ أول ما تنخوا بالشام نزلوه وهم في خيم الشعر ثم ابتنوا به المنازل فدعاهم أبو عبيدة إلى الإسلام فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية بنو سليم بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، فحدثني بعض ولد يزيد بن حنين الطائي الأنطاكي عن أشياخهم أن جملة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة أمير المؤمنين المهدي فكتب على أيديهم بالخضرة قنسرين. اه.

قال ابن الأثير : وسار خالد حتى نزل على قنسرين فتحصنوا منه ، فقال : لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا ، فنظروا في أمرهم ورأوا ما لقي أهل حمص فصالحوهم على صلح حمص فأبى خالد إلا على خراب المدينة فأخربها فعند ذلك دخل هرقل القسطنطينية ، وسببه أن خالدا وعياضا أدربا إلى هرقل من الشام وأدرب عمرو بن مالك من الكوفة فخرج من ناحية قرقيسيا وأدرب عبد الله بن المعنم من ناحية الموصل ، ثم رجعوا فعندها دخل هرقل القسطنطينية ، وكانت هذه أول مدربة في الإسلام سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة ، فلما بلغ عمر صنيع خالد قال : أمر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال مني ، وقد كان عزله والمثنى بن حارثة وقال إني لم أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما ، فأما المثنى فإنه رجع عن رأيه فيه لما قام بعد أبي عبيدة ورجع خالد بعد قنسرين.. قال في زبدة الحلب : يعني أن خالدا كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر رضي‌الله‌عنه على الشام فلما ولي عمر عزله وولى أبا عبيدة ثم ولاه عمر رضي‌الله‌عنه على قنسرين. ثم قال ابن الأثير : وأما هرقل فإنه خرج من الرها وكان أول من أنبح كلابها ونفر دجاجها من المسلمين زياد بن حنظلة وكان من الصحابة ، وسار هرقل فنزل بشمشاط ثم أدرب منها نحو القسطنطينية فلما أراد المسير منها علا على نشز ثم التفت إلى الشام فقال : السلام عليك يا سورية سلام لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم ويا ليته لا يولد فما أحلى فعله وأمرّ فتنته ( في موضع آخر عاقبته ) على الروم ، ثم سار فدخل القسطنطينية (١) وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية

__________________

(١) قال ابن العبري في تاريخه مختصر الدول في خلافة عمر : رحل هرقل من أنطاكية إلى القسطنطينية وهو يقول باليونانية ( سوزة سوريه ) وهي كلمة وداع لأرض الشام وبلادها. اه. وفي الهامش سوزة كلمة يونانية أي كوني بسلام.

٩٣

( إسكندرونة ) وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم وشعث الحصون فكان المسلمون لا يجدون بها أحدا وربما كمن الروم عندها فأصابوا غرة المتخلفين فاحتاط المسلمون لذلك. اه.

وفي ابن جرير : لما خرج هرقل من الرها واستتبع أهلها قالوا : نحن ههنا خير منا معك ، وأبوا أن يتبعوه وتفرقوا عنه وعن المسلمين.

ولحقه رجل من الروم كان أسيرا في أيدي المسلمين فأفلت فقال : أخبرني عن هؤلاء القوم فقال : أحدثك كأنك تنظر إليهم ، فرسان بالنهار ورهبان بالليل ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن. ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على ما حاربهم حتى يأتوا عليه فقال : لئن كنت صدقتني ليرثنّ ما تحت قدميّ هاتين.

ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم

قال ابن الأثير : لما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب فبلغه أن أهل قنسرين نقضوا أو غدروا ، فوجه إليهم السمط بن الأسود الكندي فحصرهم وفتحها وأصاب فيها بقرا وغنما فقسم بعضه في جيشه وجعل بقيته في المغنم.

وفي فتوح البلدان لأحمد بن يحيى البلاذري قال : حدثني هشام بن عمار الدمشقي قال حدثنا يحيى بن حمزة عن أبي عبد العزيز عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم قال : رابطنا بمدينة قنسرين مع السمط ( أو قال مع شرحبيل بن السمط ) الخ ما تقدم. قال في زبدة الحلب : وكان حاضر قنسرين قديما نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزل الجبلين من نزل منهم ، فلما ورد أبو عبيدة عليهم أسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك بيسير إلا من شذ منهم.

قال ابن الأثير : ثم أتى أبو عبيدة حلب وعلى مقدمته عياض بن غنم الفهري فتحصن أهلها وحصرهم المسلمون فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم فأعطوا ذلك واستثنى عليهم موضع المسجد ، وكان الذي صالحهم عياض فأجاز أبو عبيدة ذلك ، وقيل صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم ،

٩٤

وقيل إن أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا لأن أهلها انتقلوا إلى أنطاكية وأرسلوا في الصلح ، فلما تم ذلك رجعوا إليها.

وقال الكمال بن العديم في زبدة الحلب : إن خالدا رضي‌الله‌عنه سار إلى حلب فتحصن منه أهل حلب وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم فطلبوا إلى المسلمين الصلح والأمان فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم وكتب لهم أمانا ودخل المسلمون حلب من باب أنطاكية ووقفوا داخل الباب ووضعوا أتراسهم في مكان فبني ذلك المكان مسجدا وهو المسجد المعروف بالغضايري داخل باب أنطاكية ويعرف الآن بمسجد شعيب.

وقال ابن شداد في الكلام على المساجد : ( ومسجد الغضايري ) ويعرف الآن بمسجد شعيب وهو أول مسجد اختطه المسلمون ، ولما فتح المسلمون حلب دخلوها من باب أنطاكية ووقفوا داخل البلد ووضعوا أتراسهم في مكان بني به هذا المسجد وعرف أولا بأبي الحسن علي بن عبد الحميد الغضايري (١) أحد الأولياء من أصحاب سري السقطي رحمه‌الله تعالى وعرف ثانيا بمسجد شعيب وهو شعيب بن أحمد الأندلسي (٢) الفقيه كان من الفقهاء والزهاد ، وكان نور الدين محمود بن زنكي يعتقد فيه ويتردد إليه فوقف على هذا المسجد وقفا ورتب فيه شعيبا المذكور مدرسا على مذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه. اه.

قال البلاذري في فتوح البلدان : كان بقرب مدينة حلب حاضر يدعى حاضر حلب يجمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم فصالحهم أبو عبيدة على الجزية ، ثم إنهم أسلموا بعد ذلك فكانوا مقيمين وأعقابهم به إلى بعيد وفاة أمير المؤمنين الرشيد ، ثم إن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم منها فكتب الهاشميون من أهلها إلى جميع من حولهم من قبائل العرب يستنجدونهم فكان أسبقهم إلى إنجادهم وإغاثتهم العباس ابن زفر الهلالي فلم يكن لأهل ذلك الحاضر بهم طاقة فأجلوهم عن حاضرهم وأخربوه وذلك في أيام فتنة محمد بن الرشيد ، فانتقلوا إلى قنسرين وأرادوا التغلب عليها فأخرجوهم عنها فتفرقوا في البلاد.

__________________

(١) انظر وفيات سنة ٣١٣.

(٢) انظر وفيات سنة ٥٩٦.

٩٥

قال ابن الأثير : وسار أبو عبيدة من حلب يريد أنطاكية وقد تحصن بها كثير من الخلق من قنسرين وغيرها ، فلما قاربها لقيه جمع العدو فهزمهم فألجأهم إلى المدينة وحصرها من جميع نواحيها ، ثم إنهم صالحوه على الجلاء أو الجزية فجلا بعض وأقام بعض فأمنهم ثم نقضوا فوجه إليه أبو عبيدة عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحها على الصلح الأول ( وكان مبلغ ذلك كما في فتوح البلاد للبلاذري على كل حالم منهم دينارا وجريبا ، وذكر أن القرية التي التقى عندها الجيشان يقال لها ( مهروبه ) وهي على قريب فرسخين من مدينة أنطاكية ).

وكانت أنطاكية عظيمة الذكر عند المسلمين فلما فتحت كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رتب بأنطاكية جماعة من المسلمين واجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء ، وبلغ أبا عبيدة أن جمعا من الروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فلقيهم فهزمهم وقتل عدة بطارقة وسبى وغنم وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين (١) وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية ، ثم أتى أبو عبيدة حلب وقد التاث أهلها فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة ، وسار أبو عبيدة يريد قورس وعلى مقدمته عياض فلقيه راهب من رهبانها يسأله الصلح فبعث به إلى أبي عبيدة فصالحه على صلح أنطاكية وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس (٢) وفتح تل عزاز ، وكان سلمان بن ربيعة الباهلي في جيش أبي عبيدة فنزل في حصن بقورس فنسب إليه فهو يعرف بحصن سلمان ، ثم سار أبو عبيدة إلى منبج وعلى مقدمته عياض فلحقه وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية وسير عياضا إلى ناحية دلوك (٣) ورعبان فصالحه أهلها على مثل منبج واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الروم ، وولى أبو عبيدة كل كورة

__________________

(١) زاد البلاذري هنا : وصالحوا أهل دير طايا ودير الغسيلة على أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين وأتاه نصارى خناصرة فصالحهم ، حدثني العباس بن هشام عن أبيه قال خناصرة نسيت إلى خناصرة بن عمرو بن الحارث الكلبي ثم الكناني وكان صاحبها. اه.

(٢) زاد البلاذري إلى آخر حد نقابلس

(٣) دلوك كانت بلدة قريبة من عينتاب بينهما ساعة دثرت وصارت الشهرة لعينتاب ، ورعبان كما في معجم البلدان مدينة بالثغور بين حلب وسميساط قرب الفرات معدودة في العواصم وهي قلعة تحت جبل خربتها الزلزلة في سنة ٣٤٠ فأنفذ سيف الدولة أبا فراس بن حمدان في قطعة من الجيش فأعاد عمارتها في سبعة وثلاثين يوما فقال أحد شعرائه يمدحه :

أرضيت ربك وابن عمك والقنا

و بذلت نفسا لم تزل بذالها

و نزلت رعبانا بما أوليتها

تثني عليك سهولها وجبالها

٩٦

فتحها عاملا وضم إليه جماعة وشحن النواحي المخوفة وسار إلى بالس ( مسكنة ) وبعث جيشا مع حبيب بن مسلمة إلى ( قاصرين ) ، وكانت بالس وقاصرين لأخوين من أشراف الروم أقطعا القرى التي بالقرب منها وجعلا حافظين لما بينهما من مدن الروم بالشام ، فلما نزل المسلمون بها صالحهم أهلها على الجزية والجلاء فجلا أكثرهم إلى بلد الروم وأرض الجزيرة وقرية حسر منبج ، ولم يكن الجسر يومئذ وإنما اتخذ في خلافة عثمان للصوائف ، وقيل بل كان له رسم قديم.

قال البلاذري : ورتب أبو عبيدة ببالس جماعة من المقاتلة وأسكنها قوما من العرب الذين كانوا بالشام فأسلموا بعد قدوم المسلمين الشام وقوما لم يكونوا من البعوث نزعوا من البوادي من قيس وأسكن قاصرين قوما ثم رفضوها أو أعقابهم ، وبلغ أبو عبيدة الفرات ثم رجع إلى فلسطين ، وكانت بالس والقرى المنسوبة إليها في حدها الأعلى والأوسط والأسفل أعذاء عشرية ، فلما كان مسلمة بن عبد الملك توجه غازيا للروم من نحو الثغور الجزرية عسكر ببالس فأتاه أهلها وأهل يوبلس وقاصرين وعابدين وصفين وهي قرية منسوبة إليها فأتاه أهل الحد الأعلى فسألوه جميعا أن يحفر لهم نهرا من الفرات يسقي أرضهم على أن يجعلوا له الثلث من غلاتهم بعد عشر السلطان الذي كان يأخذه ففعل فحفر النهر المعروف بنهر مسلمة ووفوا بالشرط ورم سور المدينة وأحكمه ، ويقال بل كان ابتداء الفرض من مسلمة وأنه دعاهم إلى هذه المعاملة.

قال ابن الأثير : وكان بجبل اللكام مدينة يقال لها جرجرومة وأهلها يقال لهم الجراجمة فسار حبيب بن مسلمة إليها من أنطاكية فافتتحها صلحا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين ، وفيها سير أبو عبيدة بن الجراح جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسي فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم وهو أول من سلك هذا الدرب فلقي جمعا للروم معهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم لحق به مالك الأشتر النخفي مددا من قبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية فسلموا وعادوا ، وسيّر جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وأخربها ، وسيّر جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث ، وإنما سمي الحدث لأن المسلمين لقوا عليه غلاما حدثا فقاتلهم في أصحابه فقيل درب الحدث ، وقيل لأن المسلمين أصيبوا به فقيل درب الحدث ، وكان بنو أمية يسمونه درب السلامة لهذا المعنى.

٩٧

ذكر فتح الرقة وحرّان والرها وسروج

قال ابن الأثير في حوادث سنة سبع عشرة : وفي هذه السنة قصد الروم أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين بحمص وكان المهيج للروم أهل الجزيرة فإنهم أرسلوا إلى ملكهم وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوا من أنفسهم المعاونة ففعل ذلك ، فلما سمع المسلمون باجتماعهم ضم أبو عبيدة إليه مسالحهم وعسكر بفناء مدينة حمص ، وأقبل خالد من قنسرين إليهم فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصين إلى مجيء الغياث فأشار خالد بالمناجزة وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر فأطاعهم وكتب إلى عمر بذلك ، فلما سمع الخبر كتب إلى سعد بن وقّاص أن اندب الناس مع القعقاع بن عمر وسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به ، وكتب إليه أيضا : سرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استشاروا الروم على أهل حمص ، وأمره أن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم ليقصد ( حرّان والرها ) وأن يسرح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وأن يسرح عياض بن غنم فإن كان قتال فأمرهم إلى عياض ، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم إلى حمص ، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة وأخذوا طريق الجزيرة وتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمر عليها ، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية لأبي عبيدة مغيثا يريد حمص ، ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص وهم معهم خبر الجنود الإسلامية تفرقوا إلى بلادهم وفارقوا الروم ، فلما فارقوهم استشار أبو عبيدة خالدا في الخروج إلى الروم فأشار به فخرج إليهم فقاتلهم ففتح الله عليه ، وقدم القعقاع بن عمر بعد الوقعة بثلاثة أيام فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم في ذلك ، فكتب إليهم أن أشركوهم فإنهم نفروا إليكم وانفرق لهم عدوكم.

قدمنا أن عمر كتب إلى سعد أن سرح سهيل بن عدي إلى الرقة ، فسار سهيل إليها وقد أرفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بأهل الكوفة فنزل عليهم فأقام يحاصرهم حتى صالحوه فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل وسط بين الجزيرة فقبل منهم وصالحهم وصاروا ذمة.

٩٨

وخرج عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين فلقوه بالصلح وصنعوا كصنع أهل الرقة فكتبوا إلى عياض فقبل منهم وعقد لهم.

وخرج الوليد بن عقبة فقدم على عرب الجزيرة فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا إياد ابن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم ، فكتب الوليد بذلك إلى عمر ، ولما أخذوا الرقة ونصيبين ضم عياض إليه سهيلا وعبد الله وسار بالناس إلى حران فلما وصل أجابه أهلها إلى الجزية فقبل منهم ثم إن عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرها فأجابوهما إلى الجزية وأجروا كل ما أخذوه من الجزية عنوة مجرى الذمة ، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحا ، ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة.

وقال ابن إسحق : إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة على يد عياض بن غنم ( أي بعد وفاة أبي عبيدة ) وأطال في بيان ذلك.

ثم قال ابن الأثير : وقيل إن أبا عبيدة لما توفي استخلف عياضا فورد عليه كتاب عمر بولاية حمص وقنسرين والجزيرة سنة ثمان عشرة للنصف من شعبان في خمس آلاف فارس وعلى ميمنته سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي وعلى ميسرته صفوان بن المعطل وعلى مقدمته هبيرة بن مسروق ، فانتهت طليعة عياض إلى الرقة فأغاروا على الفلاحين وحصروا المدينة وبث عياض السرايا فأتوه بالأسرى والأطعمة وكان حصرها ستة أيام فطلب أهلها الصلح فصالحهم على أنفسهم وذراريهم وأموالهم ومدينتهم ، وقال عياض : الأرض لنا قد وطئناها وملكناها ، فأقرها في أيديهم على الخراج ووضع الجزية ، ثم سار إلى حران فجعل عليها عسكرا يحصرها عليهم صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة وسارهو إلى الرها فقاتله أهلها ثم انهزموا وحصرهم المسلمون في مدينتهم فطلب أهلها الصلح فصالحهم وعاد إلى حران فوجد صفوان وحبيبا قد غلبا على حصون وقرى من أعمال حران فصالحه أهلها على مثل صلح الرها ، وكان عياض يغزو ويعود إلى الرها. وفتح سميساط وأتى سروج ورأس كيفا والأرض البيضاء فصالحه أهلها على صلح الرها ثم إن أهل سميساط غدروا فرجع إليهم عياض فحاصرهم حتى فتحها ثم أتى قريات على الفرات وهي جسر منبج وما يليها ففتحها. ثم سرد ابن الأثير بقية فتوحاته فيما وراء ذلك من بلاد الجزيرة إلى أن قال : ثم

٩٩

عاد عياض إلى الرقة ومضى إلى حمص فمات سنة عشرين. واستعمل عمر سعيد بن عامر ابن حذيم فلم يلبث إلا قليلا حتى مات فاستعمل عمير بن سعد الأنصاري.

ذكر عزل خالد بن الوليد

قال ابن الأثير : في هذه السنة وهي سنة سبع عشرة عزل خالد بن الوليد عما كان عليه من التقدم على الجيوش والسرايا ، وسبب ذلك أنه كان أدرب هو وعياض بن غنم فأصابا أموالا عظيمة ، وكانا توجها من الجابية مرجع عمر إلى المدينة وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يده على قنسرين وعلى دمشق يزيد وعلى الأردن معاوية وعلى فلسطين علقمة بن مخرز وعلى الساحل عبد الله بن قيس ، فبلغ الناس ما أصاب خالد فانتجعه رجال وكان منهم الأشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف ، ودخل خالد الحمام فتدلك بغسل فيه خمر فكتب إليه عمر : بلغني أنك تدلكت بخمر وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم ، فكتب إليه خالد : إنا فتنّاها فعادت غسولا غير خمر ، فكتب إليه عمر : إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه.

فلما فرق خالد في الذين أنتجوه الأموال سمع بذلك عمر بن الخطاب وكان لا يخفى عليه شيء من عمله ، فدعا عمر البريد فكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث أمن ماله أم من مال إصابة أصابها ، فإن زعم أنه فرقه من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة وإن زعم أنه من ماله فقد أسرف وأعزله على كل حال وأضمم إليك عمله ، فكتب أبو عبيدة إلى خالد ( قدمنا أن عمر رضي‌الله‌عنه ولاه قنسرين ) فقدم عليه ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر فقام البريد فسأل خالدا من أين أجاز الأشعث فلم يجبه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا ، فقام بلال فقال : إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا ، ونزع عمامته فلم يمنعه سمعا وطاعة ووضع قلنسوته ثم أقامه فعقله بعمامته وقال : من أين أجزت الأشعث من مالك أجزت أم من إصابة أصبتها ؟ فقال : بل من مالي ، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده ثم قال : نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا ، وأقام خالد متحيرا لا يدري أمعزول أم غير معزول ولا

١٠٠