إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

وقمامصتهم وكنودهم إلى أتابك زنكي ليرحلوه عن بعرين فلم يرحل وصبر لهم إلى أن وصلوا إليه ، فلقيهم وقاتلهم أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان. ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج وأخذتهم سيوف المسلمون ومنع أتابك زنكي عنهم كل شيء حتى الأخبار ، فكان من به منهم لا يعلم شيئا من أخبار بلادهم لشدة ضبطه الطرق وهيبته من جنده.

ثم إن القسوس والرهبان دخلوا بلاد الروم وبلاد الفرنج وما والاها من بلاد النصرانية مستنفرين على المسلمين وأعلموهم أن زنكي إن أخذ قلعة بعرين ومن فيها من الفرنج ملك جميع بلادهم في أسرع وقت لعدم المحامي عنها وأن المسلمين ليس لهم نية إلا قصد البيت المقدس فحينئذ اجتمعت النصرانية وساروا على الصعب والذلول وقصدوا الشام مع ملك الروم وكان منهم ما نذكره.

وأما زنكي فإنه جد في قتال الفرنج فصبروا وقلت عنهم الميرة والذخيرة ، فإنهم كانوا غير مستعدين ولم يكونوا يعتقدون أن أحدا يقدر عليهم ، بل كانوا يتوقعون ملك باقي بلاد الشام ، فلما قلت الذخيرة أكلوا دوابهم وأذعنوا بالتسليم ليؤمنهم ويتركهم يعودون إلى بلادهم فلم يجبهم إلى ذلك ، فلما سمع بقرب ملك الروم من الشام واجتماعه بمن بقي من الفرنج أعطى لمن في الحصن الأمان وقرر عليهم تسليم الحصن ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه ، فأجابوه إلى ذلك فخرجوا وسلموا إليه ، فلما فارقوه بلغهم اجتماع من اجتمع بسببهم فندموا على التسليم حيث لا ينفعهم الندم ، وكان لا يصلهم شيء من الأخبار البتة فلهذا سلموه.

وكان زنكي في مدة مقامه عليهم فتح المعرة وكفرطاب من الفرنج ، فكان أهلها وأهل سائر الولايات التي بينها وبين حلب وحماة مع أهل بعرين في الخزي لأن الحرب بينهم قائمة على ساق والنهب والقتل لا يزال بينهم ، فلما ملك أمن الناس وعمرت البلاد وعظم دخلها وكان فتحا مبينا ، ومن أحسن الأعمال ما عمله زنكي مع أهل المعرة ، فإن الفرنج لما ملكوها كانوا قد أخذوا أملاكهم ، فلما فتحها زنكي الآن حضر من بقي من أهلها ومعهم أعقاب من هلك وطلبوا أملاكهم فطلب منهم كتبها ، فقالوا : إن الفرنج أخذوا كل مالنا والكتب التي للأملاك فيها ، فقال : اطلبوا دفاتر حلب وكل من عليه خراج على ملك يسلم إليه ، ففعلوا ذاك وأعاد على الناس أملاكهم ، وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها اه.

٤٢١

قال في الروضتين (١) : في هذه السنة ( وهي سنة أربع وثلاثين ) سار أتابك الشهيد إلى بلاد الفرنج فأغار عليها ، واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه فلقيهم بالقرب من حصن بارين وهو للفرنج ، فصبر الفريقان صبرا لم يسمع بمثله إلا ما يحكى عن ليلة الهرير ، ونصر الله المسلمين وهرب ملوك الفرنج وفرسانهم فدخلوا حصن بارين فحصره حصرا شديدا ، فراسلوه في طلب الأمان ليسلموا ويسلموا الحصن فأبى إلا أخذهم قهرا ، فبلغه أن من بالساحل من الفرنج قد ساروا إلى الروم والفرنج يستنجدونهم وينهون إليهم ما فيه ملوكهم من الحصر فجمعوا وحشدوا وأقبلوا إلى الساحل ومن بالحصن لا يعلمون بشيء من ذلك لقوة الحصن عليهم ، فأعادوا مراسلته في طلب الأمان فأجابهم وتسلم الحصن وساروا ، فلقيتهم أمداد النصرانية فسألوهم عن حالهم فأخبروهم بتسليم الحصن فلاموهم وقالوا : عجزتم عن حفظه يوما أو يومين ، فحلفوا لهم إنا لم نعلم بوصولكم ولم يبلغنا عنكم خبر منذ حصرونا إلى الآن ، فلما عميت الأخبار عنا ظننا أنكم أهملتم أمرنا فحقنا دماءنا بتسليم الحصن.

قال ابن الأثير : وكان حصن بارين من أضر بلاد الفرنج على المسلمين ، فإن أهله كانوا قد خربوا ما بين حماة وحلب من البلاد ونهبوها وتقطعت السبل فأزال الله تعالى بالشهيد رحمه‌الله هذا الضرر العظيم. وفي مدة مقامه على حصن بارين سير جنده إلى المعرة وكفرطاب وتلك الولاية جميعها فاستولى عليها وملكها وهي بلاد كبيرة وقرى عظيمة.

قلت : وقد قال القيسراني يذكر هزيمة الفرنج ويمدح زنكي قصيدة أولها :

حذار منا وأنى ينفع الحذر

و هي الصوارم لا تبقي ولا تذر

و أين ينجو ملوك الشرك من ملك

من خيله النصر لا بل جنده القدر

سلوا سيوفا كإغماد السيوف بها

صالوا فما غمدوا نصلا ولا شهروا

حتى إذا ما عماد الدين أرهقهم

في مأزق من سناه يبرق البصر

و لو تضيق بهم ذرعا مسالكهم

و الموت لا ملجأ منه ولا وزر

و في المسافة من دون النجاة لهم

طول وإن كان في أقطارها قصر

__________________

(١) صاحب الروضتين ذكر ذلك في حوادث سنة ٥٣٤ وابن الأثير وابن العديم ذكراها في حوادث سنة ٥٣١ ، ويظهر أنه الأصح والله أعلم. وتاريخ الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية هو للإمام شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المعروف بأبي شامة المتوفى سنة ٦٦٥ وسماه صاحب الكشف أزهار الروضتين وهو مطبوع.

٤٢٢

فلا تخف بعدها الإفرنج قاطبة

فالقوم إن نفروا ألوى بهم بقر

إن قاتلوا قتلوا أو حاربوا حربوا

أو طاردوا طردوا أو حاصروا حصروا

و طالما استفحل الخطب البهيم بهم

حتى أتى ملك آراؤه غرر

و السيف مفترع أبكار أنفسهم

و من هنالك قيل الصارم الذكر

لا فارقت ظل محيي العدل لامعة

كالصبح تطوي من الأعداء ما نشروا

و لا انثنى النصر عن أنصار دولته

بحيث كان وإن كانوا به نصروا

حتى تعود ثغور الشام ضاحكة

كأنما حل في أكنافهم عمر

وقال ابن منير :

فدتك الملوك وأيامها

و دام لنقضك إبرامها

و زلّت لعيشك أقدامها

و زال لبطشك إقدامها

و لو لم تسلّم إليك القلوب

هواها لما صح إسلامها

أيا محيي العدل لما نعا

ه أيامى البرايا وأيتامها

و مستنقذ الدين من أمة

أزال المحاريب أصنامها

دلفت لها تقتفيك الأسو

د والبيض والسمر آجامها

جزرت جزيرتها بالسيو

ف حتى تشاءمها شامها

قال في معجم البلدان : بارين بكسر الراء والعامة تقول بعرين : مدينة حسنة بين حلب وحماة من جهة الغرب اه.

سنة ٥٣٢

قال ابن الأثير : في هذه السنة في المحرم استولى أتابك زنكي على حمص وحصن المجدل.

ذكر وصول ملك الروم إلى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين

قال ابن الأثير : قد ذكرنا سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة خروج ملك الروم من بلاده وشغله بالفرنج وابن ليون. فلما دخلت هذه السنة ووصل إلى الشام وخافه الناس خوفا عظيما وقصد بزاعة فحصرها وهي مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب ، فمضى

٤٢٣

جماعة من أعيان حلب إلى أتابك زنكي وهو يحاصر حمص فاستغاثوا به واستنصروه ، فسير معهم كثيرا من العساكر فدخلوا إلى حلب ليمنعوها من الروم إن حصروها. ثم إن ملك الروم قاتل بزاعة ونصب عليها منجنيقات وضيق على من بها فملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب ثم غدر بأهلها فقتل منهم وأسر وسبى ، وكان عدة من جرح فيها من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس ، وأقام الروم بعد ملكها عشرة أيام يتطلبون من اختفى ، فقيل لهم إن جمعا كثيرا من أهل هذه الناحية قد نزلوا المغارات فدخنوا عليهم وهلكوا في المغاير ثم رحلوا إلى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم ، فخرج إليهم أحداث حلب فقاتلوهم قتالا شديدا ، فقتل من الروم وجرح خلق كثير وقتل بطريق جليل القدر عندهم وعادوا خاسرون ، وأقاموا ثلاثة أيام فلم يروا فيها طمعا فرحلوا إلى قلعة الأثارب ، فخاف من فيها من المسلمين فهربوا عنها تاسع شعبان ، فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ومعهم جمع من الروم يحفظونهم ويحمون القلعة وساروا.

فلما سمع الأمير أسوار بحلب ذلك رحل فيمن عنده من العسكر إلى الأثارب فأوقع بمن فيها من الروم فقتلهم وخلص الأسرى والسبي وعاد إلى حلب.

وأما عماد الدين زنكي فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية فنازلها ، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة وأقام جريدة ليتبع الروم ويقطع عنهم الميرة.

وأما الروم فإنهم قصدوا قلعة شيزر فإنها من أمنع الحصون ، وإنما حصروها لأنها لم تكن لزنكي فلا يكون له في حفظها اهتمام ، وإنما كانت للأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني ، فنازلوها وحصروها ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقا ، فأرسل صاحبها إلى زنكي يستنجده ، فسار إليه فنزل على نهر العاصي بالقرب منها بينها وبين حماة ، وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو وعساكره ويقفون بحيث يراهم الروم ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم ، ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له : إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم وإن ظفرتم استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها ، ولم يكن له فيهم قوة وإنما كان يرهبهم بهذا القول وأشباهه ، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بمصافاته وهونوا أمره

٤٢٤

عليه فلم يفعل وقال : أتظنون أن ليس له من العساكر إلا ما ترون ، إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين مالا حد له.

وكان زنكي يرسل أيضا إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه فلو فارق مكانه تخلفوا عنه ، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم : إن ملك بالشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعا ، فاستشعر كل من صاحبه ، فرحل ملك الروم عنها في رمضان وكان مقامه عليها أربعين يوما ، وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها ، فسار أتابك زنكي يتبع ساقة العسكر فظفر بكثير ممن تخلف منهم وأخذ جميع ما تركوه ورفعه إلى قلعة حلب.

زيادة بيان لهذه الحوادث

قال ابن العديم في حوادث سنة ٥٣١ : وفي أواخر هذه السنة وصل ملك الروم كالياني من القسطنطينية في جموعه ووصل إلى أنطاكية ، فخالفه الفرنج لطفا من الله تعالى ، وأقام إلى أن وصلته مراكبه البحرية بالأثقال والميرة والمال فاعتمد لاون بن روبال صاحب الثغور في حقه فتحا عظيما وتخوف أهل حلب منه ، فشرعوا في تحصينها وحفر خنادقها ، فعاد إلى بلاد لاون فافتتحها جميعها فدخل إليه لاون متطارحا فقال : أنت بين الفرنج والأتراك لا يصلح لك المقام ، فسيره إلى قسطنطينة في عين زربة وآذنة والثغور مدة الشتاء ، وكان في عوده عن أنطاكية إلى ناحية بغراس في الثاني والعشرين ذي الحجة من سنة إحدى وثلاثين أنفذ رسوله إلى زنكي وظفر سوار بسرية وافرة العدد من عسكره فقتل وأسر ودخل بهم إلى حلب ، ووصل الرسول إلى زنكي وهو متوجه إلى القبلة فرده ومعه هدية إلى ملك الروم فهود وبزاة وصقور على يد الحاجب حسن ، فعاد إليه ومعه رسول منه وأخبره بأنه يحاصر بلاد لاون ، فسار إلى حماة ورحل إلى حمص فقاتلها ، ثم سار في نصف المحرم من سنة اثنتين وثلاثين فنزل بعلبك وأخذ منها مالا وسار إلى ناحية البقاع فملك حصن المجدل من أيدي الدمشقيين ، ودخل في طاعته إبراهيم بن طرغث والي بانياس وشتى أتابك زنكي بأرض دمشق. وورد عليه رسول الخليفة المكتفي والسلطان مسعود بالتشريف. ثم رحل أتابك عن دمشق في شهر ربيع الآخر وعاد إلى حماة ، ثم رحل عنها

٤٢٥

إلى حمص فخيم عليها وجرد من حلب رجالا لحصارها وجمع عليها جموعا كثيرة وهجم المدينة وكسر أهلها ونال منهم منالا عظيما.

ونقض الفرنج الهدنة التي كانت بينهم وبين زنكي على حلب وأظهروا العناد وقبضوا على التجار بأنطاكية والسفار من أهل حلب في جمادى الأولى من السنة بعد إحسانه إليهم واصطناعه لمقدميهم حين أظفره الله بهم ، وانضافوا إلى ملك الروم كالياني ، وظهر ملك الروم بغتة من طريق مدينة البلاط يوم الخميس الكبير من صومهم ، ونزل في الحادي والعشرين من رجب على حصن بزاعة ، وانتشرت الخيل بغتة فلطف الله بالمسلمين ، فرأوا رجلا من [ كافر ترك ] ومعه جماعة منهم قد تاهوا عن عسكر الروم وأظهروا أنهم مستأمنة ، وأنذروا من بحلب بالروم فتحذر الناس وتحفظوا وكاتبوا أتابك زنكي بذلك ، فوصله الخبر وهو على حمص فسير في الحال الأمير سيف الدين سوار والرجّالة الحلبيين وخمسمائة فارس في أربعة من الأمراء الاصفهسلارية منهم زين الدين علي كوجك ، فقويت قلوب أهل حلب بهم ووصلوا في سابع وعشرين من رجب.

وأما الروم فإنهم حصروا حصن بزاعة وقاتلوه سبعة أيام فضعفت قلوب المسلمين ، وكان الحصن في يد امرأة فسلموه إلى الروم بالأمان بعد أن توثقوا منهم بالعهود والأيمان ، فغدروا بهم وأسروا من بزاعة ستة آلاف مسلم أو يزيدون.

وأقام الملك بالوادي يدخن على مغاير الباب عشرة أيام فهلكوا بالدخان ، ثم رحل فنزل يوم الأربعاء الخامس من شعبان بأرض الناعورة ، ثم رحل يوم الخميس سادس شعبان ومعه ريمند صاحب أنطاكية وابن جوسلين ، فنزل على حلب ونصب خيمته من قبليها على نهر قويق وأرض السعدي وقاتل حلب يوم الثلاثاء من ناحية برج الغنم ، وخرج إليهم أحداث حلب فقاتلوهم وظهروا عليهم وقتل من الروم مقدم كبير ، ورجعوا إلى خيمهم خائبين. ورحل يوم الأربعاء ثامن شعبان مقتبلا إلى السعدي فخاف من بقلعة الأثارب من جند المسلمين فهربوا منها يوم الخميس تاسع شعبان وطرحوا النار في خزائنهم ، وعرف الروم ذلك فخفت منهم سرية وجماعة من الفرنج ومعهم سبي بزاعة والوادي فملكوا القلعة وألجؤوا السبي إلى خنادقها وأحواشها ، فهرب جماعة منهم إلى حلب وأعلموا الأمير سيف الدين سوار بن إيتكين بذلك وأن الروم انعزلوا عنها ، ونهض إليهم سوار في شرذمة من العسكر

٤٢٦

فصابحهم وقد انتشروا بعد طلوع الشمس ، فوقع عليهم واستخلص السبي جميعه إلا اليسير منهم وأركب الضعفاء منهم خلف الخيالة ، حتى إنه أخذ بنفسه جماعة من الصبيان وأركبهم بين يديه ومن خلفه ووصل بهم إلى حلب ولم يبق من السبي إلا القليل ، ووصل بهم إلى حلب في يوم السبت الحادي عشر من شعبان فسر أهل حلب سرورا عظيما.

وكان أتابك قد رحل من حمص إلى حماة ثم رحل إلى سلمية ورحل ملك الروم إلى يلد معرة النعمان ، ورحل عنها يوم الاثنين ثالث عشر شعبان إلى جهة شيزر ونزلوا كفرطاب ورموها بالمجانيق فسلمها أهلها في نصف شعبان ، وهرب أهل الجسر وتركوه خاليا ، فوصله الروم وجلسوا فيه ورحلوا إلى شيزر يوم الخميس سادس عشر شعبان ، فوصلوها في مائة ألف راكب ومائة ألف راجل ومعهم من الكراع والسلاح ما لا يحصيه إلا الله ، فنزلوا الرابية المشرفة على بلدة شيزر وأقاموا يومهم ويوم الجمعة إلى آخر النهار ، وركبوا وهجموا البلد فقاتلهم الناس وجرح أبو المرهف نصر بن منقذ ومات في رمضان من جرحه ذلك ، ثم انهزم الروم وخرجوا ، ونزل صاحب أنطاكية في مسجد سمنون وجوسلين في المصلى ، وركب الملك يوم السبت وطلع إلى الجبل المقابل لقلعة شيزر المعروف بجريجس ونصب على القلعة ثمانية عشر منجنيقا وأربع لعب تمنع الناس من الماء ، ودام القتال عشرة أيام ولقي أهل قلعة شيزر بلاء عظيما ، ثم اقتصروا في القتال على المجانيق وأقاموا إلى يوم السبت تاسع عشر رمضان ، وبلغهم أن قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق عبر الفرات في جموع عظيمة تزيد عن خمسين ألفا من التركمان وغيرهم ، فأحرقوا آلات الحصار ورحلوا عن شيزر وتركوا مجانيق عظاما رفعها أتابك إلى قلعة حلب بعد رحيلهم. وساروا بعد أن هجموا ربض شيزر دفعات عدة ويخرجهم المسلمون منها ، فوصل صلاح الدين من حماة يوم السبت تاسع الشهر وبلغه أن الفرنج هربوا من كفرطاب ، فسار إليها وملكها ، ووصل أتابك يوم الأحد عاشر الشهر وسار إلى الجسر يوم الاثنين فوجد الفرنج قد هربوا نصف الليل ونزل أهله من أبي قبيس ( هكذا ) فمنعوهم ، ودخل الروم مضيق أفامية إلى أنطاكية وطلبها من الفرنج فلم يعطوه إياها ، فرحل عنها إلى بلاده وسير أتابك خلفهم سرية من العسكر تتخطفهم ، هذا كله وأتابك لم يستحضر قرا أرسلان بن داود ولم يجتمع به ، بل بعث إليه يأمره بالعود إلى أبيه وأنه مستغن عنه. وانحاز عنهم فنزل أرض حمص

٤٢٧

وكتب إلى شهاب الدين محمود بن بوري يطلبها ، وترددت الرسل بينهم على أن يسلم أتابك حمص ويعوض أنر واليها ببارين واللكمة والحصن الشرقي ، وتسلم أتابك حمص وتسلم الدمشقيون المواضع المذكورة.

ورحل أتابك عن حمص وسار إلى حلب ، ثم خرج منها إلى بزاعة وفتحها بالسيف يوم الثلاثاء تاسع عشر محرم من سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة وقتل كل من كان بها على قبر شرف الدولة مسلم بن قريش ، وكان ضرب عليها بسهم في عينه فمات ، وعاد منها إلى حلب وسار إلى الأثارب ففتحها في ثالث صفر.

قال في الروضتين : ولما يسر الله تعالى هذا الفتح مدح الشعراء الشهيد أتابك فأكثروا. منهم أبو المجد المسلم بن الخضر بن مسلم بن قسيم الحموي له قصيدة قد ذكرتها في ترجمته في التاريخ أولها :

بعزمك أيها الملك العظيم

تذل لك الصعاب وتستقيم

ألم تر أن كلب الروم لما

تبين أنك الملك الرحيم

فجاء يطبق الفلوات خيلا

كأن الجحفل الليل البهيم

و قد ترك الزمان على رضاه

فكان لخطبه الخطب الجسيم

فحين رميته بك في خميس

تيقن أن ذلك لا يدوم

و أبصر في المفاضة منك جيشا

فأحزن لا يسير ولا يقيم

كأنك في العجاج شهاب نور

توقد وهو شيطان رجيم

أراد بقاء مهجته فولى

و ليس سوى الحمام له حميم

يؤمل أن تجود بها عليه

و أنت بها وبالدنيا كريم

أيلتمس الفرنج لديك عفوا

و أنت بقطع دابرها زعيم

و كم جرعتها غصص المنايا

بيوم فيه يكتهل الفطيم

و لما أن طلبتهم تمنى ال

منية جوسلينهم اللئيم

أقام يطوّف الآفاق حينا

و أنت على معاقله مقيم

فسار وما يعادله مليك

و عاد وما يعادله سقيم

إذا خطرت سيوفك في نفوس

فأول ما يفارقها الجسوم

٤٢٨

قال ابن الأثير : ومن عجائب ما يحكى في هذه الحادثة أن الخبر لما وصل بقصد الروم شيزر قام الأمير مرشد بن علي أخو صاحبها وهو ينسخ مصحفا فرفعه بيده وقال : اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء الروم فاقبضني إليك. فتوفي بعد أيام ونزل الروم بعد وفاته.

قال في الروضتين : لما وصل الروم والفرنج إلى الشام ورأوا الأمر قد فات أرادوا جبر مصيبتهم بمنازلة بعض بلاد المسلمين ، فنازلوا حلب وحصروها فلم ير الشهيد أن يخاطر بالمسلمين ويلقاهم لأنهم كانوا في جمع عظيم ، فانحاز عنهم ونزل ( في بزاعة ) قريبا منهم يمنع عنهم الميرة ويحفظ أطراف البلاد من انتشار العدو فيها والإغارة عليها ، وأرسل القاضي كمال الدين بن الشهرزوري إلى السلطان مسعود ينهي إليه الحال بأمر البلاد وكثرة العدو ، ويطلب منه النجدة وإرسال العساكر ، فقال له كمال الدين : أخاف أن تخرج البلاد من أيدينا ويجعل السلطان هذا حجة وينفذ العساكر ، فإذا توسطوا البلاد ملكوها ، فقال الشهيد : إن هذا العدو قد طمع فيّ وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الفرنج ، قال : فلما وصلت إلى بغداد وأديت الرسالة وعدني السلطان بإنفاذ العساكر وأنا أخاطب فلا أزاد على الوعد ، قال : فلما رأيت عدم اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم أحضرت فلانا وهو فقيه وكان ينوب عنه في القضاء فقلت : خذ هذه الدنانير وفرقها في جماعة من أوباش بغداد والأعاجم ، وإذا كان يوم الجمعة وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر قاموا وأنت معهم واستغاثوا بصوت واحد وا إسلاماه وا دين محمداه ، ويخرجون من الجامع ويقصدون دار السلطنة مستغيثين ، ثم وضعت إنسانا آخر يفعل مثل ذلك في جامع السلطان. فلما كانت الجمعة وصعد الخطيب المنبر قام ذلك الفقيه وشق ثوبه وألقى عمامته عن رأسه وصاح ، وتبعه أولئك النفر بالصياح والبكاء فلم يبق بالجامع إلا من قام يبكي وبطلت الجمعة ، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان ، وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم ، فاجتمع أهل بغداد وكل من بالعساكر عند دار السلطان يبكون ويصرخون ويستغيثون ، وخرج الأمراء عن الضبط وخاف السلطان في داره وقال : ما الخبر ؟ فقيل له : إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة ، فقال : أحضروا ابن الشهرزوري ، قال : فحضرت عنده وأنا خائف منه إلا أنني قد عزمت على

٤٢٩

صدقه وقول الحق ، فلما دخلت عليه قال : يا قاضي ما هذه الفتنة ؟ فقلت : إن الناس قد فعلوا هذا خوفا من الفتنة والشر ، ولا شك أن السلطان ما يعلم كم بينه وبين العدو وإنما بينكم نحو أسبوع ، ولئن أخذوا حلب انحدروا إليك في الفرات وفي البر وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد ، وعظّمت الأمر عليه حتى جعلته كأنه ينظر إليهم ، فقال : اردد هؤلاء العامة عنا وخذ من العساكر ما شئت وسر بهم والأمداد تلحقك ، قال : فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم فأخبرتهم وعرفتهم الحال وأمرتهم بالعود ، فعادوا وتفرقوا ، وانتخبت من عسكره عشرة آلاف فارس وكتبت إلى الشهيد أعرفه الخبر وأنه لم يبق غير المسير وأجدد استئذانه في ذلك ، فأمرني بتسييرهم والحث على ذلك ، فعبرت العساكر الجانب الغربي. فبينما نحن نتجهز للحركة وإذا قد وصل نجاب من الشهيد يخبر بأن الروم والفرنج قد رحلوا عن حلب خائبين لم ينالوا منها غرضا ويأمرني بترك استصحاب العساكر ، فلما خوطب السلطان في ذلك أصر إلى إنفاذ العساكر إلى الجهاد وقصد بلاد الفرنج وأخذها ، وكان قصده أن تطأ عساكره البلاد بهذه الحجة فيملكها ، فلم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقي وسرت إلى الشهيد. قال ابن الأثير : فانظروا إلى هذا الرجل الذي هو خير من عشرة آلاف فارس يعني كمال الدين ، رحم الله الشهيد فلقد كان ذا همة عالية ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل يرغبهم ويخطبهم من البلاد ويوفر لهم العطاء. [ حكى لي والدي ] قال : قيل للشهيد : إن هذا كمال الدين يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار ، فقال لهم : بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي ، إن كمال الدين يقل له هذا القدر وغيره يكثر له خمسمائة دينار ، فإن شغلا واحدا يقوم فيه كمال الدين خير من مائة ألف دينار. وكان كما قال رحمه‌الله تعالى.

سنة ٥٣٣

سنة الزلازل

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير من البلاد ، وكان أشدها بالشام ، وكانت متوالية عشر ليال كل ليلة عشر دفعات ،

٤٣٠

فخرب كثير من البلاد ولا سيما حلب ، فإن أهلها لما كثرت عليهم فارقوا البلاد والبيوت وخرجوا إلى الصحراء ، وعدوا ليلة واحدة جاءتهم ثمانين مرة ، ولم تزل بالشام تتعاهدهم من رابع صفر إلى تاسع عشرة ، وكان معها صوت وهزة شديدة اه.

قال ابن العديم وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر حدثت زلزلة شديدة ثم أتبعتها أخرى ، وتواصلت الزلازل فهرب الناس من حلب إلى ظاهر البلد ، وخرجت الأحجار من الحيطان إلى الطريق ، وسمع الناس دويا عظيما وانقلبت الأثارب فهلك فيها ستمائة من المسلمين وسلم الوالي ومعه نفر يسير ، وهلك أكثر البلاد من شيح وتل عماد وتل خالد وزردنا ، وشوهدت الأرض تموج والأحجار عليها تضطرب كالحنطة في الغربال ، وانهدم في حلب دور كثيرة وتشعث السور واضطربت جدران القلعة. وسار أتابك مشرقا فنزل القلعة وسار منها إلى القلعة [ هكذا ] ثم إلى الموصل ، وتواترت الزلازل وقيل إن عدتها كانت ثمانين زلزلة.

وكان في سنة اثنتين وثلاثين قد عول أتابك على قبض أملاك الحلبيين التي استحدثوها من أيام رضوان إلى آخر أيام إيلغازي ، ثم قرر عليهم عشرة آلاف ، فأدوا من ذلك ألف دينار ، وجاءت هذه الزلازل فهرب أتابك من القلعة إلى ميدانها خائفا وأطلق القطيعة.

وفي هذه السنة نهض سوار إلى الفرنج فغنم من بلادهم ولحقوه فاستخلصوا ما غنم ، وانهزم المسلمون فغنم الفرنج وأخذوا منهم ألفا ومائتي فارس وأسروا صاحب الكهف ابن عمرون وكان قد سلمها إلى الباطنية.

سنة ٥٣٤

قال ابن الأثير : في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق مرتين. وملك شهرزور وأعمالها وما يجاورها ، وبسط الخبر في ذلك.

وفيها في ربيع الآخر مات قاضي حلب أبو غانم محمد بن أبي جرادة فولي قضاءها ولده أبو الفضل هبة الله محمد ، ولما استحضره أتابك وولاه القضاء قال له : هذا أمر قد نزعته من عنقي وقلدتك إياه فينبغي أن تتقي الله تعالى وأن تساوي بين الخصمين هكذا ، وجمع بين أصابعه. اه.

٤٣١

سنة ٥٣٦

إغارة الفرنج على سرمين

قال ابن العديم : في هذه السنة أغار الفرنج على بلد سرمين وأخربوا ونهبوا ، ثم تحولوا إلى جبل السمّاق ، وكذلك فعلوا بكفر طاب وتفرقوا فأغار علم الدين بن سيف الدين سوار مع التركمان إلى باب أنطاكية وعادوا بالغنائم والوسيق العظيم.

وأغار لجه التركي وكان قد برح عن دمشق إلى خدمة زنكي على بلد الفرنج في جمادى فساق وسبى وقتل ، وذكر أن عدة المقتولين سبعمائة رجل.

ونهض سوار ( نائب أتابك زنكي في حلب ) في شهر رمضان إلى بلد أنطاكية ، وعند الجسر جمع عظيم وخيم مضروبة من الفرنج ، فخاض التركمان إليهم العاصي وكسروا الجميع هناك وقتلوا كل من كان بالخيم ونهبوا وسبوا وعادوا إلى حلب بالوسيق العظيم والأسرى والرؤوس. وخرج ملك أنطاكية إلى وادي بزاعة فخرج سوار فردهم إلى الشمال ، واجتمع سوار وجوسلين بين العسكرين فاتفق الصلح بينهما.

سنة ٥٣٧

قال في الروضتين : في هذه السنة سار الشهيد إلى بلد الهكارية وكان بيد الأكراد وقد أكثروا في البلاد الفساد ، إلا أن نصير الدين جقر نائب السلطان الشهيد بالموصل كان قد ملك كثيرا من بلادهم ، فلما بلغها الشهيد حصر قلعة الشعباني ( اسمها أشب ) وهي من أعظم قلاعهم وأحصنها فملكها وأخربها وأمر ببناء قلعة العمادية عوضا عنها ، وكانت هذه العمادية حصنا كبيرا عظيما فأخربه الأكراد لعجزهم عن حفظه لكبره ، فلما ملك أتابك الشهيد البلاد التي لهم قال : إذا عجز الأكراد عن هذا الحصن فأنا بحول الله لا أعجز عنه ، فأمر ببنائه ، وكان رحمه‌الله ذا عزم ونفاذ أمر فبنى الحصن وسماه القلعة العمادية نسبة إلى لقبه عماد الدين. اه.

٤٣٢

سنة ٥٣٨

ذكر فتح أتابك قلعتي أبزون وحيزان وغيرهما

قال ابن العديم : في هذه السنة فتح أتابك قلعة أبزون وبعدها قلعة حيزان ومما كان بيد الفرنج جملين والمؤزر وتل موز وغيرها ، وخرج عسكر حلب فظفروا برفقة كبيرة كثيرة من التجاره والأجناد وغيرهم خرجت من أنطاكية تريد بلاد الفرنج معها مال كثير ودواب ومتاع ، فأوقعوا بهم وقتلوا جميع الخيّالة من الفرنج الخارجين لحمايتهم وأخذوا ما كان معهم وعادوا إلى حلب ، وذلك في جمادى الأولى من السنة.

وفي ذي القعدة من السنة توجهت خيل التركمان من حلب فأوقعت بخيل خارجة من باسوطا فقتلوهم ، وأسروا صاحب باسوطا جاؤوا به إلى حلب فسلموه إلى سوار فقيده.

ذكر فتح أتابك زنكي طنزة وأسعرد وغير ذلك

قال ابن الأثير : وفي هذه السنة سار أتابك زنكي إلى ديار بكر ففتح منها عدة بلاد وحصون ، فمن ذلك مدينة طنزة ، ومن ذلك مدينة أسعرد ومدينة حيزان وحصن الدوق وحصن مطليس وحصن بانسية وحصن ذي القرنين وغير ذلك مما لم يبلغ غيره هذه الأماكن ، وأخذ أيضا من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين والمؤزر وتل موزن وغيرها من حصون جوسلين ، ورتب أمور الجميع وخلى فيها من الأجناد من يحفظها ، وقصد مدينة آمد وحاني فحصرهما وأقام بتلك الناحية مصلحا لما فتحه ومحاصرا لما لم يفتحه.

وفيها سير أتابك زنكي عسكرا إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكوها.

قال في الروضتين وفي الكامل : في هذه السنة وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته في كل سنة وجمع العساكر وتجهز لقصد أتابك زنكي ، وكان حقد عليه حقدا شديدا ، وسبب ذلك أن أصحاب الأطراف الخارجين على السلطان مسعود كانوا يخرجون عليه ، فكان ينسب ذلك إلى أتابك زنكي ويقول : هو الذي سعى فيه وأشار به لعلمه

٤٣٣

أنهم كلهم يصدرون عن رأيه ، فكان أتابك زنكي لا شك يفعل ذلك لئلا يخلو السلطان فيتمكن منه ومن غيره ، فلما تفرغ السلطان هذه السنة جمع العساكر ليسيروا إلى بلاده ، فسير أتابك يستعطفه ويستميله ، فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنباري في تقرير القواعد فاستقرت الحال على مائة ألف دينار إمامية يحملها الشهيد إلى السلطان ليعود عنه ، فحمل عشرين ألف دينار أكثرها عروض وطلب أن يحضر الشهيد في خدمته فامتنع واعتذر باشتغاله بالفرنج ، فعذره وشرط عليه فتح الرها. وكان من أعظم الأسباب في تأخر السلطان عن قصد الموصل أنه قيل له إن مملكة البلاد لا يقدر على حفظها من الفرنج غير أتابك عماد الدين ، فإنها قد وليها قبله مثل جاولي سقاوة ومودود وجيوش بك والبرسقي وغيرهم من الأكابر ، وكان السلاطين يمدونهم بالعساكر الكثيرة ولا يقدرون على حفظها ، ولا يزال الفرنج يأخذون منها البلد بعد البلد إلى أن وليها أتابك فلم يمده أحد من السلاطين بفارس واحد ولا بمال ، ومع هذا فقد فتح من بلاد العدو عدة حصون وولايات وهزمهم غير مرة واستضعفهم وعز الإسلام به. ومن الأسباب المانعة له أيضا أن الشهيد كان لا يزال ولده الأكبر سيف الدين غازي في خدمة السلطان مسعود بأمر والده ، وكان السلطان يحبه ويقربه ويعتمد عليه ويثق به ، فأرسل إليه الشهيد يأمره بالهرب والمجيء ، إلى الموصل ، وأرسل إلى نائبه بالموصل يأمره أن يمنعه من دخول الموصل ومن المسير إليه ، ففعل ذلك وقال له : ترسل إلى والدك تستأذنه في الذي نفعله ، فأرسل إليه فعاد الجواب : إنني لا أريدك ما دام السلطان ساخطا عليك ، فألزمه بالعود إليه ، فعاد ومعه رسول إلى السلطان يقول له : إنني لما بلغني أن ولدي فارق الخدمة بغير إذن لم أجتمع به ورددته إلى بابك ، فحل هذا عند السلطان محلا كبيرا وأجاب إلى ما أراد الشهيد. ثم إن الأمور تقلبت وعاد أصحاب الأطراف خرجوا على السلطان فاحتاج إلى مداراة الشهيد وأطلق له الباقي مما تقرر عليه استمالة له.

سنة ٥٣٩

ذكر فتح الرها وغيرها من البلاد الجزرية

قال ابن العديم : كان أتابك زنكي لا يزال يفكر في فتح الرها ونفسه في كل حين تطالبه بذلك ، إلى أن عرف أن جوسلين صاحبها قد خرج منها في معظم عسكره في

٤٣٤

سنة تسع وثلاثين وخمسمائة لأمر اقتضاه ، فسارع أتابك إلى النزول عليها في عسكر عظيم ، وكاتب التركمان بالوصول إليه فوصل خلق عظيم ، وأحاط المسلمون بها من كل الجهات وحالوا بينها وبين من يدخل إليها بميرة وغيرها ونصب عليها المجانيق. وشرع الحلبيون فنقبوا عدة مواضع عرفوا أمرها إلى أن وصلوا إلى تحت أساس أبراج السور فعلقوه بالأخشاب واستأذنوا أتابك في إطلاق النار فيه ، فدخل إلى النقب بنفسه وشاهده ، ثم أذن لهم فألقوا النار فيه فوقع السور في الحال وهجم المسلمون البلد وملكوه بالسيف يوم السبت سادس عشر جمادى الآخرة وشرعوا في النهب والقتل والأسر والسبي حتى امتلأت أيديهم من الغنايم.

ثم أمر أتابك برفع السيف عن أهلها ومنع السبي ورده من أيدي المسلمين وأوصى بأهلها خيرا ، وشرع في عمارة ما انهدم منها وترميمه.

وكان جمال الدين أبو المعالي فضل الله بن ماهان رئيس حران هو الذي يحث أتابك في جميع الأوقات على أخذها ويسهل عليه أمرها ، فوجد على عضادة محرابها مكتوبا :

أصبحت صفرا من بين الأصفر

أختال بالأعلام والمنبر

دان من المعروف حال به

ناء عن الفحشاء والمنكر

مطهر الرحب على أنني

لولا جمال الدين لم أطهر

فبلغ ذلك رئيس حران فقال : امحوا جمال الدين واكتبوا عماد الدين ، فبلغ ذلك زنكي فقال : صدق الشاعر لولاه لما طمعنا فيها.

وأمر عماله بتخفيف الوطأة في الخراج وأن يأخذوه على قد مغلاتها.

ثم رحل إلى سروج ففتحها وهرب الفرنج منها ، ثم رحل فنزل على البيرة فحاصرها في هذه السنة. وجاء الخبر من الموصل أن نصير الدين جقر نائبه بالموصل قتل ، فخاف عليها وترك البيرة بعد أن قارب أخذها وسار حتى دخل الموصل وأخذ فرخانشاه ابن السلطان الذي قتل جقر وعزم على تملك الموصل ، فقتله بدم جقر وولى الموصل مكان الأمير زين الدين علي كوجك.

قال في الروضتين وفي الكامل : إن الرها من أشرف المدن عند النصارى وأعظمها محلا ، وهي أحد الكراسي عندهم ، فأشرفها البيت المقدس ثم أنطاكية ثم رومية ثم

٤٣٥

قسطنطينية والرها ، وكان على المسلمين من الفرنج الذين بالرها شر عظيم ، وملكوا من نواحي ماردين إلى الفرات على طريق شبختان عدة حصون كسروج والبيرة وجملين والموزر ، وكانت غاراتهم تبلغ مدينة آمد من ديار بكر وماردين ورأس عين والرقة ، وأما حران فكانت معهم في الخزي كل يوم قد صبحوها بالغارة ، وكانت الرها لجوسلين وهو عاتي الفرنج وشيطانهم والمقدم على رجالهم وفرسانهم. فلما رأى أتابك الشهيد الحال هكذا أنف منهم وكان يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها فتعذر عليه ملكها لما هي عليه من الحصانة ولما هو عليه من المكر والشجاعة ، فأخذ في إعمال الحيل والخداع لعل جوسلين يخرج منها إلى بعض البقاع فتشاغل عنها بقصد ما جاورها من ديار بكر التي بيد الإسلام كحاني وجبل جور وآمد ، فكان يقاتل من بها قتالا فيه إبقاء وهو يسر حسوا في ارتغاء ، فهو يخطبها وعلى غيرها يحوم ويطلبها وسواها يروم ، ووكل بها من يخبره بخلو عرينها من آساده وفراغ حصنها من أنصاره وأجناده ، فلما رأى جوسلين اشتغال الشهيد بحرب أهل ديار بكر ظن أنه لا فراغ له إليه وأنه لا يمكنه الإقدام عليه.

قال في الكامل : وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية فجاءت عيون أتابك إليه فأخبروه الخبر فنادى في العسكر بالرحيل وأن لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غدا معي بباب الرها ، فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبي لا يعرف لما يعلمون من إقدامه وشجاعته وأن أحدا لا يقدر على مساواته في الحرب ، فقال الأمير لذلك الصبي : ما أنت في هذا المقام ، فقال أتابك : دعوه فو الله إني أرى وجها لا يختلف عني ، وسار العساكر معه ووصل إلى الرها ، وكان هو أول من حمل على الفرنج ، ومعه ذلك الصبي وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضا فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله وسلم الشهيد ، ونازل البلد وقاتله ثمانية وعشرين يوما فزحف إليه عدة دفعات وقدم النقابين فنقبوا سور البلد ولج في قتاله خوفا من اجتماع الفرنج والمسير إليه واستنقاذ البلد منه ، فسقطت البدنة التي نقبها النقابون وأخذ البلد عنوة وقهرا وحصر قلعته فملكها أيضا ، ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال ، فلما رأى أتابك البلد أعجبه ورأى تخريب مثله لا يجوز في السياسة ، فأمر فنودي في العساكر برد ما أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم ، فردوا الجميع عن آخره لم

٤٣٦

يفقد منه شيء إلا الشاذ النادر الذي أخذ وفارق من أخذه العسكر ، فعاد البلد على حاله الأول وجعل فيه عسكرا يحفظه.

قال في الروضتين : وسار عنه فاستولى على ما كان بيد الفرنج من المدن والحصون والقرايا كسروج وغيرها وأخلى الديار الجزرية من معرة الفرنج وشرهم وأصبح أهلها بعد الخوف آمنين ، وكان فتحا عظيما طار في الآفاق ذكره وطاب بها نشره وشهده خلق كثير من الصالحين والأولين.

قال ابن الأثير : حكى لي جماعة أعرف صلاحهم أنهم رأوا يوم فتح الرها الشيخ أبا عبد الله بن علي بن مهران الشافعي وكان من العلماء والزاهدين في الدنيا المنقطعين عنها وله الكرامات الظاهرة ، ذكروا عنه أنه غاب عنهم في زاويته يومه ذلك ثم خرج عليهم وهو مستبشر مسرور عنده من الارتياح ما لم يردّه أبدا ، فلما قعد معهم قال : حدثني بعض إخواننا أن أتابك زنكي فتح مدينة الرها وأنه شهد معه فتحها يومنا هذا ، ثم قال : ما يضرك يا زنكي ما فعلت بعد اليوم ، يردد هذا القول مرارا ، فضبطوا ذلك اليوم فكان يوم الفتح. ثم إن نفرا من الأجناد حضروا عند هذا الشيخ وقالوا له : منذ رأيناك على السور تكبر أيقنا بالفتح ، وهو ينكر حضوره وهم يقسمون أنهم رأوه عيانا ، قال : وحكى لي بعض العلماء بالأخبار والأنساب وهو أعلم من رأيت بها قال : كان ملك جزيرة صقلية من الفرنج لما فتحت الرها وكان بها بعض الصالحين من المغاربة المسلمين ، وكان الملك يحضره ويكرمه ويرجع إلى قوله ويقدمه على من عنده من الرهبان والقسيسين ، فلما كان الوقت الذي فتحت فيه الرها سير ملك الفرنج هذا جيشا إلى إفريقية فنهبوا وغاروا وأسروا ، وجاءت الأخبار إلى الملك وهو جالس وعنده هذا العالم المغربي وقد نعس وهو شبيه النائم فأيقظه الملك وقال : يا فقيه قد فعل أصحابنا بالمسلمين كيت وكيت ، أين كان محمد عن نصرتهم ؟ فقال له : كان قد حضر فتح الرها ، فتضاحك من عنده من الفرنج ، فقال لهم الملك : لا تضحكوا فو الله ما قال عن غير علم ، واشتد هذا على الملك فلم يمض غير قليل حتى أتاهم الخبر بفتحها على المسلمين فأنساهم شدة هذا الوهن رخاء ذلك الخبر لعلو منزلة الرها عند النصرانية. قال : وحكى لي أيضا غير واحد ممن أثق إليهم أن رجلا من الصالحين قال : رأيت الشهيد بعد قتله في المنام في أحسن حال فقلت له : ما فعل الله بك ؟

٤٣٧

فقال : غفر لي ، قلت : بماذا ؟ قال : بفتح الرها. قلت : وهنأه القيسراني عند فتح الرها بقصيدة أولها :

هو السيف لا يغنيك إلا جلاده

و هل طوق الأملاك إلا نجاده

و عن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظبا

سناها وإن فات العيون اتقاده

سمت قبة الإسلام فخرا بطوله

و لم يك يسمو الدين لو لا عماده

و زاد قسيم الدولة ابن قسيمها

عن الله ما لا يستطاع زياده

ليهن بني الإيمان أمن ترفعت

رواسيه عزا واطمأن مهاده

و فتح حديث في السماع حديثه

شهي إلى يوم المعاد معاده

أراح قلوبا طرن عن وكناتها

عليها قواف كل صدر فؤاده

لقد كان في فتح الرهاء دلالة

على غير ما عند العلوج اعتقاده

يرجون ميلاد ابن مريم نصرة

و لم يغن عند القوم عنه ولاده

مدينة أفك منذ خمسين حجة

يغلّ حديد الهند عنها حداده

تفوت مدى الأبصار حتى لو انها

ترقت إليه خان طرفا سواده

و جامحة عز الملوك قيادها

إلى أن ثناها من يعز قياده

فأوسعها حر القراع مؤيد

شرار ولكن في يديه زناده

فأضرمها نارين حربا وخدعة

فما راع إلا سورها وانهداده

فصدت صدود البكر عند افتضاضها

و هيهات كان السيف حتما سفاده

فيا ظفرا عم البلاد صلاحه

بمن كان قد عم البلاد فساده

فلا مطلق إلا وشد وثاقه

و لا موثق إلا وحل صفاده

و لا منبر إلا ترنح عوده

و لا مصحف إلا أنار مداده

فإن يثكل [ الأبرتر ] فيها حياته

و إلا فقل للنجم كيف سهاده

و بانت سرايا القمص تقمص دونها

كما تتنزى عن حريق حراده

إلى أين يا أسرى الضلالة بعدها

لقد ذلّ غاويكم وعز رشاده

رويدكم لا مانع من مظفر

يعاند أسباب القضاء عناده

مصيب سهام الرأي لو أن عزمه

رمى سدّ ذي القرنين أصمى سداده

٤٣٨

و قل لملوك الكفر تسلم بعدها

ممالكها إن البلاد بلاده

كذا عن طريق الصبح فلينته الدجى

فيا طالما غال الظلام امتداده

و من كان أملاك السموات جنده

فأية أرض لم ترضها جياده

و لله عزم ماء سيحان ورده

و روضة قسطنطينة مستراده

وله من قصيدة هنأ بها القاضي كمال الدين بن الشهرزوري أولها :

هي جنة المأوى فهل من خاطب

إن الصفائح يوم صافحت الرها

عطفت عليها كل أشوس ناكب

فتح الفتوح مبشرا بتمامه

كالفجر في صدر النهار الآيب

لله أية وقفة بدرية

نصرت صحائبها بأيمن صاحب

ظفر كمال الدين كنت لقاحه

كم ناهض بالحرب غير محارب

و أمدكم جيش الملايك نصرة

بكتائب محثوثة بكتائب

جنبوا الدبور وقدتمو ريح الصبا

جند النبوة هل لها من غالب

أترى الرها الورهاء يوم تمنعت

ظنت وجوب السور سورة لاعب

لا أين لا أسرى المهالك بعدها

ضاق الفضاء على نجاة الهارب

شدّا إلى أرض الفرنجة بعدها

إن الدروب على الطريق اللاحب

أفغركم والثار رهن دمائكم

ما كان من إطراق لحظ الطالب

و إذا رأيت الليث يجمع نفسه

دون الفريسة فهو عين الهارب

وقال ابن منير :

صفات مجدك لفظ جل معناه

فلا استرد الذي أعطاكه الله

يا صارما بيمين الله قائمه

و في أعالي أعادي الله حداه

أصبحت دون ملوك الأرض منفردا

بلا شبيه إذ الأملاك أشباه

فداك من صاولت مسعاك همته

جهلا وقصر عن مسعاك مسعاه

قل للأعادي ألا موتوا به كمدا

فالله خيبكم والله أعطاه

ملك تنام عن الفحشاء همته

تقى وتسهر للمعروف عيناه

ما زال يسمك والأيام تخدمه

فيما ابتلاه يؤدي ما توخاه

٤٣٩

حتى تعالت عن الشعرى مشاعره

قدرا وجاوزت الجوزاء نعلاه

و قد روى الناس أخبار الكرام مضوا

و أين مما رووه ما رأيناه

أين الخلائق عن فتح أتيح له

مظلل أفق الدنيا جناحاه

على المنابر من أنبائه أرج

مقطوبة بفتيق المسك رياه

فتح أعاد على الإسلام بهجته

فافتر مبسمه واهتز عطفاه

يهذي بمعتصم بالله فتكته

حديثها نسخ الماضي وأنساه

إن الرها غير عمورية وكذا

من رامها ليس مغزاه كمغزاه

أخت الكواكب عزا ما بغى أحد

من الملوك لها وقما فواتاه

حتى دلفت لها بالعزم يشحذه

رأي يبيت فويق النجم مسراه

يا محيي العدل إذ قامت نوادبه

و عامر الجود لما مح مغناه

يا نعمة الله يستصفي المزيد بها

للشاكرين ويستغني صفاياه

أبقاك للدين والدنيا تحوطهما

من لم يتوجك هذا التاج إلا هو

وله من قصيدة أخرى :

بعماد الدين أضحت عروة ال

دين معصوبا بها الفتح المبين

و استزادت بقسيم الدولة ال

قسم من إدحاض كيد المارقين

ملك أسهر عينا لم تزل

همها تشريد همّ الراقدين

لا خلت من كحل النصر فقد

فقأت غيظا عيون الحاسدين

كل يوم مر من أيامه

فهوعيد عائد للمسلمين

لو جرى الإنصاف في أوصافه

كان أولاها أمير المؤمنين

ما روى الراوون بل ما سطروا

مثل ما خطت له أيدي السنين

ومنها :

و الرها لو لم تكن إلا الرها

لكفت قطعا لشك الممترين

همّ قسطنطين أن يفزعها

و مضى لم يحو منها قسط طين

و لكم من ملك حاولها

فتحلى الحين وسما في الجبين

٤٤٠