إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

بعض العساكر فازدراه وقال : إنما جئنا من بلادنا تبعا لهذا المعمم ، فأقبل على الناس وخطبهم خطبة بليغة استنهض فيها عزائمهم واسترهق هممهم بين الصفين فأبكى الناس وعظم في أعينهم ، ودار طغان أرسلان بن دملاج من ورائهم ونزل في خيامهم وقتل من فيها ونهبها ، وألقى الله النصر على المسلمين ، وصار من انهزم من الفرنج وقصد الخيام قتل ، وحمل الترك بأسرهم حملة واحدة من جميع الجهات صدقوهم فيها وكانت السهام كالجراد ، ولكثرة ما وقع في الخيل والسواد من السهام عادت منهزمة وغلبت فرسانها وطحنت الرجالة والأتباع والغلمان بالسهام وأخذوهم بأسرهم أسرى ، وقتل سرجال في الحرب وفقد من المسلمين عشرون نفرا منهم سليمان بن مبارك بن شبل ، وسلم من الفرنج مقدار عشرين نفرا لا غير وانهزم جماعة من أعيانهم ، وقتل في المعركة ما يقارب خمسة عشر ألفا من الفرنج ، وكانت الوقعة يوم السبت وقت الظهر ، فوصل البشير إلى حلب بالنصر والمصاف قائم والناس يصلون صلاة الظهر بجامع حلب سمعوا صيحة عظيمة بذلك من نحو الغرب ولم يصل أحد من العسكر إلا نحو صلاة العصر.

وأحرق أهل القرى القتلى من الفرنج فوجد في رماد فارس واحد وأربعون نصل نشاب ، ونزل إيلغازي في خيمة سرجال وحمل إليه المسلمون ما غنموه فلم يأخذ منهم إلا سلاحا يهديها لملوك الإسلام ، ورد عليهم ما حملوه بأسره ، ولما حضر الأسرى بين يدي إيلغازي كان فيهم رجل عظيم الخلقة مشتهرا بالقوة وأسره رجل ضعيف قليل السلاح ، فلما حضر بين يدي إيلغازي قال له التركمان : أما تستحي يأسرك مثل هذا الضعيف وعليك مثل هذا الحديد ، فقال : والله ما أخذني هذا ولا هو مولاي إنما أخذني رجل عظيم أعظم مني وأقوى وسلمني إلى هذا ، وكان عليه ثوب أخضر وتحته فرس أخضر ، وتفرقت عساكر المسلمين في بلاد أنطاكية والسويدية وغيرهما يقتلون ويأسرون وينهبون ، وكانت البلاد مطمئنة لم يبلغهم خبر هذه الوقعة ، فأخذ المسلمون من السبي والغنائم والدواب ما يفوت الإحصاء ولم يبق أحد من الترك إلا امتلأ صدره ويداه بالغنائم والسبي ، ولقي بعض السرايا بغدوين الروسر وابن صنجيل في خيلهما بالقرب من جبلة وقد توجها لنصر سرجال صاحب أنطاكية فأوقع بهم الترك وقتلوا جماعة وغنموا ما قدروا عليه وانهزم بغدوين وابن صنجيل وتعلقوا بالحبال ، ورحل إيلغازي إلى أرتاح وبادر بغدوين فدخل أنطاكية وسلمت إليه أخته

٣٨١

زوجة سرجال خزائنه وأمواله وقبض على أموال القتلى ودورهم وأخذها وزوج نساء القتلى بمن بقي وأثبت الخيل وجمع وحشد واستولى على أنطاكية ، ولو سبقه إيلغازي إلى أنطاكية لما امتنعت عليه.

ووصل أتابك إلى نجم الدين بأرتاح فعاد ونزل الأثارب وهجم الربض ونهبه وقتل من قدر عليه وخرجت أحداث من حلب ونقبوا حصنها فطلبوا الأمان فأمنهم بعد أن استأخذت وسيرهم إلى مأمنهم ، ورحل منها إلى زردنا وكانوا قد حصنوها وأحكموا عمارتها وقاتلها فطلبوا الأمان فأمنهم وسيرهم إلى أنطاكية ، فلقيهم بعض التركمان فنهبوهم وقتلوا بعضهم ومضوا إلى أهلهم ، وكان صاحب زردنا لما بلغه منازلتها حمل بغدوين والفرنج إلى الخروج لاستنقاذها وقد عرفوا تفرّق التركمان بالغنائم وعودهم إلى أهلهم وأن إيلغازي في عدة قليلة ، فبلغه ذلك فجدّ في قتالها حتى أخذها كما ذكرناه ورتب أصحابه بها وتوجه بمن بقي معه واستصحب معه عسكر أتابك وطغان أرسلان بن دملاج جرايد إلى دانيث بعد أن ردّ الأثقال والخيام إلى قنسرين ، ووصل إلى دانيث في يومه فوجد الفرنج قد نزلوها يوم فتحه زردنا في مائتي خيمة وراجل كثير ، وقيل إنهم كانوا يزيدون على أربعمائة فارس سوى الرجالة ، وذلك في رابع جمادى الأولى ، والتقوا فحمل صاحب زردنا وأكثر خيل الفرنج على عسكر دمشق وحمص وبعض التركمان فكشفوهم وانهزموا بين أيديهم وسار ليتدارك أمر زردنا ويكبس الأثقال والخيام ، فعرف أخذها وتسيير الأثقال إلى قنسرين ، فسار وحمل بقية المسلمين على بغدوين ومن كان معه فقتلوهم وردوهم على أعقابهم ، فحينئذ حمل إيلغازي وطغتكين وطغان أرسلان فيمن بقي من الخواص على الفرنج فكسروهم وقتلوا أكثر الرجالة وبعض الخيالة وتبعوهم إلى أن دخلوا إلى حصن هاب وغنموا أكثر ما كان معهم ، وعاد نجم الدين وطغتكين وطغان أرسلان إلى دانيث فوجدوا صاحب زردنا والفرنج قد عادوا بعد أن هزموا من كان بين أيديهم من المسلمين ومعرفة أخذ المسلمين زردنا ، فلقوهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة وانهزم الباقون إلى هاب وعاد الترك بالظفر والغنيمة. وحين بلغ من بقنسرين مع الأثقال هزيمة من كان في مقابلة صاحب زردنا رحلوا إلى حلب وانزعج أهل حلب غاية الانزعاج فوصلهم البشير بعد ساعتين بما بدل غمهم سرورا وهمهم حبورا ، وكان البشير من الفرنج قد مضى إلى بلادهم وأخبر بكسر صاحب زردنا للمسلمين ، فزينوا بلادهم وأظهروا

٣٨٢

الجذل والمسرة ، فوصل ابن صنجيل من الكسرة بعد ذلك فانقلب سرورهم حزنا وراحتهم تعبا وعناء.

وكان صاحب زردنا وهو القومس الأبرص واسمه روبارد قد سقط عن فرسه ، فأدركه قوم من أهل جبل السماق من أهل مريمين فقبضوه وحملوه إلى إيلغازي بظاهر حلب فأنفذه إلى أتابك طغتكين فقتله صبرا ، ثم دخل إيلغازي إلى حلب وأحضر الأسرى فرد أصحاب القلاع والمقدمين وابن ميمند صاحب أنطاكية ورسول ملك الروم ونفرا يسيرا ممن كان معه مال فأخذه وأطلقهم وبقي من الأسرى نيف وثلاثون رجلا بذلوا من المال ما رغب عنه فقتلهم بأسرهم ، وتوجه من حلب إلى ماردين في جمادى الأولى من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ليجمع من التركمان من يعود به إلى بلد حلب ، وكانت حلب ضعيفة عن مقامه فيها.

فخرج الفرنج إلى بلد المعرة فسبوا جماعة وأدركهم جماعة من الترك فرجعوا ، ثم خرج بغدوين من أنطاكية في عسكره ونزل على زور غربي البارة وهو حصن كان لابن منقذ وسلمه إليهم ، ولما جرت الوقعة الأولى على البلاط عاد وأخذه فقاتله بغدوين وأخذه في جمادى الأولى وأطلق من كان فيه ورحل إلى كفر دوما فأخذ حصنها بالسيف وقتل جميع من كان فيه ووصل إلى كفر طاب وقد أحرق ابن منقذ حصنها وأخذ رجاله منه خوفا منهم ، فرمموه ورتبوا رجالهم فيه وساروا إلى سرمين ومعرة مصرين فتسلموها بالأمان ، ثم نزلوا زردنا ورحلوا عنها إلى أنطاكية ومع هذا فغارات عسكر حلب متواصلة على ما يقرب منهم وتعود بالظفر والغنيمة ، ووصل جوسلين إلى بغدوين خاله وقت أخذه سرمين فأقطعه الرها وتل باشر وسيره إليها فأسرى إلى وادي بطنان دفعتين وإلى ما يلي الفرات من جهة الشام وقتل وسبى ما يقارب ألف نفس ، وأغار جوسلين على منبج والنقرة وأعمال حلب الشرقية وأخذ كل ما وجده من دواب وأسر رجالا ونساء وأسرى إلى الراوندان يتبع طائفة من التركمان كانت قطعت الفرات فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم جماعة.

سنة ٥١٤

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار إيلغازي إلى الفرنج وكان قد جمع لهم جمعا ، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب ، فاقتتلوا واشتد القتال ، وكان الظفر له ،

٣٨٣

ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين صاحب دمشق وحصروا الفرنج في معرة مصرين يوما وليلة ، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين ، فربما ظفروا ، وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان وجودة خيل الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق وشاة ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها ويعود ، فإذا طال مقامهم تفرقوا ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم.

وفيها أغار جوسلين الفرنجي صاحب الرها على جيوش الغرب والتركمان وكانوا نازلين بصفين الفرات وغنم من أموالهم وخيلهم ومواشيهم شيئا كثيرا ، ولما عاد خرب بزاعة.

زيادة بيان لهذه الحوادث :

قال ابن العديم : وفي صفر من سنة أربع عشرة وخمسمائة وقعت مشاحنة بين والي الأثارب بلاق بن إسحق صاحب نجم الدين إيلغازي وبين الفرنج ، فأسرى ومعه جماعة من عسكر حلب إلى أنطاكية فلقيهم عسكر أنطاكية وعاد فتبعه الفرنج والتقوا ما بين ترمانين وتل أغدي من فرضة ليلون ، ووصل في هذه السنة إيلغازي بجمع كثير من التركمان وقطع الفرات في الخامس والعشرين من صفر وتوجه إلى تل باشر وأقام أياما ولم يقاتلهم ، ورحل إلى عزاز يريد أخذها ولم يمكن أحدا من التركمان من تشعيث ضياعها ، ورحل إلى أنطاكية وأقام عليها يوما واحدا وأقام في أعمال الروج أياما يسيرة ، ثم خرج إلى قنسرين فتشوشت قلوب التركمان لأنهم أملوا من الغنائم مثل السنة الخالية ولم يقاتل بهم حصنا ولا غنموا شيئا ، وباع الأسرى الذين أسرهم في الوقعة الأولى فعادوا إلى بلادهم وبالغوا في التشفي من المسلمين والقتل والسبي. وجرى من نجم الدين إساءة إلى بعض التركمان على شيء أنكره عليهم فبالغ في هوانهم وحلق لحى بعضهم وقطع أعصابهم فتفرق عسكره وبقي نفر يسير متفرقين في أعمال حلب ، فطمع الفرنج وخرجوا إلى دانيث فوصل طغتكين وعسكر دمشق واجتمعوا مع إيلغازي في عسكر يقاوم الفرنج ، فساروا إلى الفرنج وهم في ألف فارس وراجل كثير ، فدار الترك حولهم فلم يخرج منهم أحد وكرهوا أن يعودوا على أعقابهم فتكون هزيمة ، فساروا نحو معرة مصرين لا ينفرد منهم فارس ولا راجل وأشرف الترك على أخذهم ومن خرج منهم قتل ومن وقعت دابته تركها وأخذت ولا يقدرون على الماء وهم على حالة الهلاك وإيلغازي

٣٨٤

وطغتكين يردون الناس عنهم بالعصا ، فنزلوا بقرب معرة مصرين وعاد الترك عنهم إلى حلب وعادوا إلى أنطاكية وصالحهم إيلغازي إلى آخر سنة أربع عشرة على أن لهم المعرة وكفر طاب والجبل والبارة وضياعا من جبل السماق برسم هاب وضياعا من ليلون برسم تل أغدي وضياعا من بلد عزاز برسم عزاز.

وسار نجم الدين إيلغازي إلى ماردين ليجمع العساكر ، وهدم إيلغازي زردنا في شهر ربيع الأول ، وكان أهل حلب قد شكوا إليه تجديد رسوم جددت عليهم في أيام رضوان لم يجر بها عادة في دولة العرب ولا دولة المصريين ولا في أيام آقسنقر ، وأمر بكشف مقدارها فأخبر أنها مبلغ اثني عشر ألف دينار في كل سنة ، فرسم بحذفها ووقّع لهم بذلك وكتب لوحا وسمره على باب الجامع وذلك في هذه السنة.

وخرج الفرنج فقبضوا على الفلاحين الذين تحت أيديهم في هذه الأعمال من المسلمين وعاقبوهم وصادروهم وأخذوا منهم من الأموال والغلات ما تقووا به ، وكانت الضياع التي في أيدي المسلمين قد عمرت واطمأنوا بالصلح فغدر جوسلين وخرج فأغار على النقرة والأحص واحتج بأنه أسر له والي منبج أسيرا وأنه كاتب في ذلك فلم ينصف وذلك في شوال ، وقتل وسبى وأحرق كل ما في النقرة والأحص ونزل الوادي وعاث فيه ، ثم سار إلى تل باشر ، ثم عاد وحشد وخرج وعمل كفعله الأول وأخذ في غارته الأولى المشايخ والعجايز والضعفاء فنزع عنهم ثيابهم وتركهم في البرد عراة فهلكوا بأجمعهم ، فأنفذ والي حلب إلى بغدوين في ذلك وقال : إن نجم الدين لم يترك هذه البلاد خالية من العساكر إلا ثقة بالصلح ، فقال : مالي على جوسلين يد. وتتابعت من جوسلين غارات متعددة ، ثم خرج الفرنج من أنطاكية عقيب ذلك وأغاروا على بلد شيزر وأخذوا ما لا يحصى وأسروا جمعا وطلبوا المقاطعة التي جرت عادتهم قبل الوقعة بأخذها فبذل لهم ابن منقذ ذلك على أن يردوا ما أخذوه فلم يجيبوا إلى ذلك فحمل إليهم مالا وصالحهم إلى آخر السنة.

وهرب ملك العرب دبيس بن صدقة الأسدي من المسترشد والسلطان محمود فوصل إلى قلعة جعبر فأكرمه نجم الدولة مالك وأضافه ، ثم سار إلى إيلغازي إلى ماردين وتزوج ابنته فاشتد به وأجاره ووصل معه الأموال العظيمة والنعمة الوافرة وحمل إيلغازي ما يفوت الإحصاء ، فاشتغل بدبيس عن العبور إلى الشام فخرب بلد حلب واستولى الفرنج

٣٨٥

على معظمه وأغار جوسلين إلى صفين وسبى العرب والتركمان ونزل بزاعة وقاتلها وأحرق بعض جدارها وصونع على شيء ودخل بلده.

سنة ٥١٥

هجوم الفرنج على الأثارب وإغارتهم على حلب

أيام سليمان بن إيلغازي وعصيان سليمان على أبيه

واستنابته ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق على حلب

قال ابن العديم : في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة هجم الفرنج على الأثارب وقتلوا جمعا وأحرقوها وأسروا من لم يعتصم بالقلعة ، ثم إنهم في ربيع الآخر من السنة نزلوا نواز وزحفوا إلى الأثارب ثانية وأحرقوا الدور والغلة ، وسار بغدوين وأغار على حلب وأخذ الناس والدواب من حاضر حلب ومن الفنادق وأخذ ما يجل قدره من الماشية وأسر نحوا من خمسين أسيرا ، وصاح الصايح فخرج نفر يسير من العسكر فظفروا بالفرنج وخلصوا المواشي وعاد الفرنج إلى أعمالهم ، وكان النائب بحلب شمس الدولة سليمان بن نجم الدين إيلغازي ، وكان إيلغازي قد ولى رياسة حلب في سنة أربع عشرة في رجب مكي بن قرناص الحموي وجعله بين يديه ، فكتب إلى ولده ونوابه يأمرهم بصلح الفرنج على ما يريدون فصالحهم على سرمين والجزر وليلون وأعمال الشمال على أنها للفرنج وما حول حلب للفرنج منه النصف حتى إنهم ناصفوهم في رحى العربية وعلى أن يهدم تل هراق بحيث لا يبقى للفئتين فيه حكم ، وطلبوا الأثارب فأجاب إيلغازي إلى ذلك فامتنع من كان فيها من التسليم فبقيت في أيدي المسلمين ، وكان الذي تولى الصلح جوسلين وجفري وكان بغدوين في القدس ، فلما وصل رضي بذلك وشرع في عمارة دير خراب قديم بالقرب من سرمدا وحصنه ثم أطلقه لصاحب الأثارب ( سير ألان دمسخن ) وأمر إيلغازي ولده بإخراب قلعة الشريف المجددة بحلب وإخراج من كان فيها من جند رضوان فأخرجهم شمس الدولة ابن قرناص بحلب بعذر الإغارة على أعمال الفرنج وأغلقت أبواب حلب في وجوههم وتولى الرئيس مكي بن قرناص خرابها في جمادى الآخرة.

٣٨٦

واستنجد الملك طغرل إيلغازي بن أرتق على الكرج وملكهم داود ، فسار إليه في عالم عظيم ومعه دبيس بن صدقة ( من ملوك سواد العراق ) فكسرهم المسلمون ودخلوا وراءهم في الدرب فكر الكرج عليهم في الدرب فانهزم المسلمون وتبعهم الكرج قتلا وأسرا ، ونهب لدبيس ما مقداره ثلثمائة ألف دينار ووصل مع نجم الدين إيلغازي إلى ماردين سالما.

وأنفذ إيلغازي إلى ابنه سليمان بحلب يلتمس منه أشياء فقبّح ذلك عنده وقيل له أشياء أوجبت عصيانه على والده فعصى ، وأخرج الملوك سلطان شاه وإبراهيم وغيرهما من حلب فمضوا إلى قلعة جعبر فمد يده في مصادرة أهل حلب وظلمهم والفساد ، وقيل إن دبيس بن صدقة لما سار مع إيلغازي إلى بلاد الكرج سأل إيلغازي في الطريق أن يهب له حلب وأن يحمل إليه دبيس مائة ألف دينار يجمع بها التركمان ويعاضده حتى يفتح أنطاكية ، فأجابه إيلغازي إلى ذلك وأخذ يده على ذلك ، فلما وقعت كسرة الكرج بدا له من ذلك فأنفذ إلى ولده سليمان وكان خفيفا وقال له : أظهر أنك قد عصيت عليّ حتى يبطل ما بيني وبين دبيس ، فحمله الجهل على أن عصى ونابذ أباه ، ووافقه مكي بن قرناص والحاجب ناصر وهو شحنة حلب وغيرها ، وقبض سليمان حجاب أبيه فصفعهم وحلق لحاهم ومد يده إلى أموال الناس وظلمهم فطمع الفرنج وقربهم سليمان فنزلوا زردنا وعمروها لابن صاحبها كليام بن الأبرص ، ثم سار الفرنج إلى باب حلب فكبسوا في طريقهم حاضر طي وغيرها فخرج إليهم الحاجب ناصر والعسكر فكسروهم وقتلوا منهم جماعة.

وخرج بغدوين في جمادى الآخرة فنازل خناصرة وأخذها وحمل باب حصنها إلى أنطاكية ونزل برج سينا ففعل به كذلك وكذلك فعل بغيرهما من حصون النقرة والأحص وسبى وأحرق ونهب وعاد فنزل صلدع على نهر قويق ، وخرج إليه أترز بن ترك طالبا منه الصلح مع سليمان فقال : على شرط أن يعطيني سليمان الأثارب حتى أحفظه وأنا أذب عنه وأقاتل دونه ، فقال له : ما يجوز نسلم ثغرا من ثغور حلب في بدر مملكته بل التمس غير هذا مما يمكن لنوافقك عليه ، فقال له : الأثارب لا يقدر صاحب حلب على حفظها فإني قد عمرت عليها الحصون بما دارت وأنا أعلمكم أنها اليوم تشبه فرسا لفارس قد أعطبت يداها وللفارس هري شعير يعلفها رجاء أن تبرأ ويكسب عليها فنفد هري الشعير وعطبت

٣٨٧

الفرس وفاته الكسب. ثم رحل نحوها فحصرها ثلاثة أيام واتصل به ما أوجب رحيله إلى أنطاكية.

ولما بلغ إيلغازي إصرار ولده على العصيان ضاقت عليه الأرض وأعمل في الوصول إليه وأخذ حلب منه ، فكاتبه أقوام وعرفوه أن ما بحلب ما يدفعه عنها ، فسار حتى وصل إلى قلعة جعبر فضعفت نفس ابنه سليمان عن العصيان على أبيه : فأنفذ إليه من استحلفه على الصفح عنه والإحسان إليه وإلى من حسن له العصيان مثل ابن قرناص وناصر الحاجب وأكد الأيمان على ذلك ، ودخل حلب في أول شهر رمضان فخرج الناس للقائه ودخل إلى القصر وأحسن إلى أهل حلب وسامحهم بشيء من المكوس وصرف الشحنة الذي كان يؤذي الناس في البلد وقبض على الرئيس مكي بن قرناص وعلى أهله وشق لسانه وكحله وأخذ ما وجد له وسلم أخاه إلى من يعذبه واستصفى ماله ، وكحل ناصر الحاجب فعنى به من تولى أمره فسملت إحدى عينيه ، وعوقب طاهر بن الزاير وكان من أعوان الرئيس مكي ، وأعاد الملوك أولاد رضوان من قلعة جعبر إلى حلب ، وخطب بنت الملك رضوان وتزوج بها ودخل بها بحلب وولى رياسة حلب سلمان بن عبد الرزاق العجلاني البالسي وولى ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار نيابته في حلب ، وصالح الفرنج مدة كاملة وأعطاهم من الضياع ما كان بأيديهم أيام مملكتهم الأثارب وزردنا.

زيادة بيان لما تقدم :

قال ابن الأثير : في هذه السنة عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب وقد جاوز عمره عشرين سنة ، حمله على ذلك جماعة ممن عنده ، فسمع والده الخبر فسار مجدا لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج إليه معتذرا فأمسك عنه وقبض على من كان أشار إليه بذلك منهم أمير كان قد التقطه أرتق والد إيلغازي ورباه اسمه ناصر ، فقلع عينيه وقطع لسانه ، ومنهم إنسان من أهل حماة من بيت قرناص كان قد قدمه إيلغازي على أهل حلب وجعل إليه الرياسة فجازاه بذلك وقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فمات ، وأحضر ولده وهو سكران فأراد قتله فمنعه رقة الوالد فاستبقاه فهرب إلى دمشق ، فأرسل طغتكين يشفع فيه فلم يجبه إلى ذلك ، واستناب بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين.

٣٨٨

ذكر حصر بلك بن بهرام الرها وأسر صاحبها

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار بلك بن بهرام ولد أخي إيلغازي إلى مدينة الرها فحصرها وبها الفرنج ، وبقي على حصرها مدة فلم يظفر بها ، فرحل عنها فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين صاحب الرها وسروج قد جمع من عنده من الفرنج وهو عازم على كبسه ، وكان قد تفرق عن بلك أصحابه وبقي في أربعمائة فارس فوقف مستعدا لقتالهم ، وأقبل الفرنج فمن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء فصارت وحلا غاصت خيولهم فيه فلم تتمكن مع ثقل السلاح والفرسان من الإسراع والجري فرماهم أصحاب بلك بالنشاب فلم يفلت منهم أحد ، وأسر جوسلين وجعل في جلد جمل وخيط عليه وطلب منه أن يسلم الرها فلم يفعل وبذل في فداء نفسه أموالا جزيلة وأسرى كثيرة فلم يجبه إلى ذلك ، وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها وأسر معه ابن خالته واسمه كليام وكان من شياطين الناس ، وأسر أيضا جماعة من فرسانه المشهورين فسجنهم معه اه.

سنة ٥١٦

محاصرة إيلغازي لرزدنا ونوار

وعودته إلى حلب لمرض نزل به وتوجهه إلى ميافارقين ووفاته بها

قال ابن العديم : وفي المحرم من سنة ست عشرة وخمسمائة سار إيلغازي إلى الشرق ليجمع العساكر فمات وزيره بحلب أبو الفضل بن الموصل في صفر فولي الوزارة أبو الرجاء ابن سرطان. وعبر إيلغازي وبلك في سابع عشر شهر ربيع الآخر الفرات وكان بلك غازى ابن أخيه بهرام بن أرتق واستدعاه من أعمال الروم وبيده عدة قلاع بالقرب من ملطية وصحبتهما عدة من التركمان دون ما جرت عادته باستصحابه ، فعزل أبا الرجال بن السرطان عن الوزارة وقبض عليه لسعاية سعى بها عليه ، ونزل إيلغازي زردنا ونزل عليها في العشرين من جمادى الأولى وحصرها أياما وأخذ حوشها ، وكان صاحبها قد سمع حين عبر إيلغازي الفرات أنه ينزلها فجمع أصحابه واستحلفهم على المصابرة من وقت نزولهم عليها مدة خمسة

٣٨٩

عشر يوما وحلف هو لهم على أن ينجدهم ومضى على أن يستجيش فإن جازت هذه المدة ولم يصلهم فإنه يبتاع دماءهم بكل ما يملكه ، وقال لهم : والله لكم علي من الشاهدين لئن لم يخلصكم إلا إسلامي إن قبله أسلمت على يديه لخلاصكم ، وخرج حتى وصل إلى بغدوين صاحب أنطاكية وهو بأكناف طرابلس في حكومة بينه وبين صاحبها فأخبره بعبور إيلغازي وبما بلغه من قصده زردنا ، فقال : مذ حلفنا له وحلف لنا ما نكثنا وحفظنا بلده في غيبته ونحن شيوخ وما أظنه يغدر بل ربما قصد طرابلس أو قصدني في القدس لأنني ما صالحته إلا على أنطاكية وأعمالها ، بل يجب أن تعود إلى أفامية وكفر طاب وتكشف ما يتجدد ، فعاد وكشف الأمر وسير إلى بغدوين فأعلمه بنزوله على زردنا فصالح صاحب طرابلس وشرط عليه الوصول إليه ، ووصل أنطاكية واستدعى جوسلين ، ونصب المسلمون مجانيق أربعة على زردنا وأخذوا الفصيل الأول فوصل الفرنج بعد أربعة عشر يوما من منازلة المسلمين لها فنزلوا تحت الدير ، وبلغ الخبر إيلغازي فنزل زردنا وتوجه نحوهم فنزل نواز وطلب أن يخرج الفرنج من الضيق إلى السعة فلم يخرجوا فرحل إلى تل السلطان وأتابك طغتكين في صحبته ، فخرج الفرنج فنزلوا على نواز وهجموا ربض الأثارب وأحرقوا البيدر والجدار ، ودخل صاحبها يوسف بن ميرخان قلعتها ونزلوا أبين ورحلوا منها ونزلوا دانيث وأقاموا عليها فلم يصلهم أحد ، فعادوا إلى بلادهم فعاد إيلغازي فنزل زردنا وهجم الحوش الثاني وقتل جماعة من الفرنج ، فعاد الفرنج ونزلوا تحت الدير فرحل إيلغازي إلى نواز وأقام ثلاثة أيام يزاحف الفرنج وهم لا يخرجون إلى الصحراء ، فاتفق أن أكل إيلغازي لحم قديد كثيرا وجوزا أخضر وبطيخا وفواكه فانتفخ جوفه وضاق نفسه فاشتد به الأمر فرحل إلى حلب وتزايد به المرض ، فسار طغتكين إلى دمشق وبلك غازي إلى بلاده ، ورحل إيلغازي للتداوي بحلب فنزل القصر ولم يخلص من علته ، وخرج عسكر حلب في ألف فارس إلى تبّل من عمل أعزاز ومعهم أمراء منهم دولب بن قتلمش فنهبوا وعادوا فوقع عليهم عند حربل كليام في أربعين فارسا فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة.

وفي شهر رجب من هذه السنة ظفر بلك غازي بجوسلين وابن خالته قلران بالقرب من سروج فأسرهما وأسر ابن أخت طنكريد ، وقد كان أسره في وقعة ليلون واشترى نفسه بألف دينار وأسر ستين فارسا وطلب من جوسلين وقلران أن يسلما ما بأيديهما من المعاقل

٣٩٠

فلم يفعلا وقالا : نحن والبلاد كالجمال والحدج متى عقر بعير حول رحله إلى آخر والذي بأيدينا قد صار بيد غيرنا ، فأخذهما ومضى إلى بلده.

ووصل الفرنج بعد ذلك إلى تل باشر في شعبان وكبسوا تل قباسين فخرج النائب ببزاعة مع أهلها فالتقوا وانهزم المسلمون وقتل منهم تسعون رجلا.

وأما إيلغازي فأقام أياما وصلح من مرضه وسار إلى ماردين ثم خرج منها يريد ميافارقين ، فاشتد مرضه في الطريق وتوفي بالقرب من ميافارقين بقرية يقال لها عجولين في أول شهر رمضان من سنة ست عشرة وخمسمائة.

وملك ابنه سليمان ميافارقين وابنه تمرتاش ماردين وابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق حلب.

ولما سمع صاحب أنطاكية بوفاته حشد عسكره وجماعة من الأرمن ونزل وادي بزاعة وعاث فيه وأفسد ما قدر عليه ، وحمل إليه أهل الباب مالا وخدموه فرحل إلى بالس وقاتلها بالمنجنيقات ، وقرروا على بالس مع ابن مالك مالا يحمل إليه فأسرف في الطلب ، وكان ببالس جماعة من التركمان ومن خيل حلب فخرج أهلها والخيل إليهم واقتتلوا فقتل من الفرنج جماعة من المقدمين وظفر المسلمون أحسن ظفر ، فرحل بغدوين إلى الوادي وقد وصلهم ابن إيلغازي فحصر البيرة وتسلم حصنها على أن يؤمن أهلها أنفسهم فأخذهم وسار بهم إلى أنطاكية.

وتتابعت غارات الفرنج حول حلب إلى آخر سنة ست عشرة وستمائة وولى بدر الدولة سليمان الوزارة بحلب أبا الرجاء سعد الله بن هبة الله بن السرطان في صفر ( أي في سنة ٥١٧ ) بعدما قبض عليه إيلغازي كما تقدم ذكره.

أول مدرسة بنيت في حلب

قال ابن الأثير : في هذه السنة بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي اه.

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة نقلا عن ابن شداد في الكلام على المدارس :

٣٩١

المدرسة الزجّاجية :

أنشأها بدر الدولة أبو الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب ، وهي أول مدرسة بنيت بها ، ابتدأ في عمارتها في سنة عشرة وخمسمائة على حائطها مكتوب سنة سبعة عشرة ، ولما أراد بناءها لم يمكنه الحلبيون إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع [ قلت ] [ القائل ابن الشحنة ] : أخبرني شيخي أبو الوفا رحمه‌الله تعالى غير مرة أن أهل حلب كانوا كلهم سنية وكلهم حنفية ، حتى قدم شخص إلى حلب فصار فيهم شيعية وصار فيهم شافعية ، فقلت يا سيدي من هو ؟ فقال : الشريف أبو إبراهيم الممدوح ( ممدوح أبي العلاء المعري ) قال : فكان كلما بني فيها شيء نهارا أخربوه ليلا ، إلى أن أعياه ذلك فأحضر الشريف زهرة علي بن أبي إبراهيم الإسحاق الحسيني وهو الشريف أبو إبراهيم الذي أشار شيخنا عنه ( قال ) : والتمس منه أن يباشر بناءها لينكف العامة عن هدم ما يبني ، فباشر الشريف البناء ملازما له حتى فرغ منها ، وكان هذا الشريف من أكابر الأشراف وذوي الرأي والأصالة والوجاهة مقدما في بلده يرجع الناس إلى أمره ونهيه ، وكان معظّم القدر عند الملوك ، ولما توجه عماد الدين زنكي إلى الموصل في سنة تسع وثلاثين وخمس مائة أخذه معه فمات بالموصل.

وقال في الزبد والضرب : وفي سنة ست عشرة وخمسمائة ولى بدر الدولة سلمان الوزارة بحلب أبا الرجاء سعد الله بن هبة الله بن السرطان وجدد ( الصحيح أنشأ كما تقدم ) المدرسة التي بالزجّاجين بحلب المعروفة ببني العجمي بإشارة أبي طالب بن العجمي ، وذكر لي أنه عزم على أن يقفها على الفرق الأربع ، ونقل آلتها من كنيسة دائرة كانت بالطحّانين بحلب اه. قال ابن الشحنة : وهذه المدرسة هي الآن خراب داثرة وقد عمر بها دور للسكنى اه.

أقول : أخبرني بعض أهل المعرفة من أهل محلة الجلّوم أن مكانها الداران اللتان هما تجاه الدار التابعة لوقف الجلبي التي فيها الحوض المعد للسباحة في الزقاق المعروف بزقاق أبي درجين في المحلة المذكورة.

٣٩٢

سنة ٥١٧

ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر ملك الفرنج حصن الأثارب من أعمال حلب ، وسبب ذلك أنهم كانوا قد أكثروا قصد حلب وأعمالها بالإغارة والتخريب والتحريق ، وكان بحلب حينئذ بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق وهو صاحبها ، ولم يكن له بالفرنج قوة وخافهم فهادنهم على أن يسلم الأثارب ويكفوا عن بلاده ، فأجابوه إلى ذلك وتسلموا الحصن وتمت الهدنة بينهم واستقام أمر الرعية بحلب وجلبت إليهم الأقوات وغيرها ، ولم تزل الأثارب بأيدي الفرنج إلى أن ملكها أتابك زنكي بن آقسنقر على ما نذكره إن شاء الله تعالى اه.

قال ابن العديم : وفي العاشر من شهر صفر من سنة سبع عشرة وخمسمائة استقر الصلح بين بدر الدولة صاحب حلب وبين بغدوين صاحب أنطاكية على أن يسلم بدر الدولة إليه قلعة الأثارب ، فسلموها وصارت لصاحبها أولا ( سير ألان دمسخن ) وبقيت في يده إلى أن مات ، وكانت في يد الحاجب جبريل بن يسرق فعوضه بدر الدولة عنها شحنكية حلب.

استيلاء بلك بن بهرام على حلب ورحيله عنها

ومحاصرة جوسلين إلى حلب والفظايع التي أجراها وقت ذلك

قال ابن العديم : وفي يوم الأربعاء تاسع عشر صفر سار بغدوين صاحب أنطاكية لقتال نور الدولة بلك بن بهرام بن أرتق ، وكان محاصرا قلعة كركر ، فالتقيا على موضع اسمه أوروش بالقرب من قنطرة سنجة ، فكسره نور الدولة بلك وأسره وقتل معظم عسكره ومقدميه ونهب وفتح الكركر بعد جمعة ، وكان في دون عدة الفرنج ، وجعل بغدوين في خرتبرت مع جوسلين وقلران ، ثم إن نور الدولة بلك عبر الفرات ونزل على حلب (١) وضايقها ونزل من

__________________

(١) قال ابن الأثير : وسبب مسيره إليها أنه بلغه أن صاحبها بدر الدولة قد سلم قلعة الأثارب إلى الفرنج فعظم ذلك عليه وعلم عجزه عن حفظ بلاده فقوي طمعه في ملكها ، فسار إليها ونازلها في ربيع الأول وضايقها ومنع الميرة عنها وأحرق زروعها ، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان غرة جمادى الأولى من السنة وتزوج ابنة الملك رضوان وبقي مالكا لها إلى أن قتل على ما نذكره.

٣٩٣

قبليها ، ثم انتقل إلى بانقوسة وأقام أياما ورحل إلى أرض النيرب وجبرين وأمر بحرق الغلة وأخذ الدواب ، ومضى قطعة من عسكره إلى حذادين فأخذ أحدهم عنزا فرماه بعض فلاحي الضيعة بسهم فقتله ، فحصرت مغارتها وأخذت بعد أن امتنع أهلها من التسليم فدخنوا على المغارة فاختنق بها مائة وخمسون ، وخنق في مغارة تل عبود وتعجين جماعة وسبوا نساء عفر تنور وأولادها وباعوا بعضهم واستعبدوا بعضا ، وأخذ لأهل حلب جشير خيل ثلثمائة رأس وكان حريق الزرع من رهقات بلك وكان سببا للغلاء العظيم.

وفي صباح يوم الثلثاء غرة جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وخمسمائة تسلم مدينة حلب سلمها إليه مقلد بن سقويق بالأمان ومفرج بن الفضل ونودي بشعار بلك من عدة جهات ، وكسر باب أنطاكية وأخربت ثلمة من غربي باب اليهود. وفي يوم الجمعة رابع الشهر تسلم القلعة وجلس بها بعدما نزل بدر الدولة منها بيوم وقرر حالها وأخرج سلطان شاه بن رضوان وسيره إلى حران ، وكان قد فتحها في شهر ربيع الآخر خوفا منه ، ثم إنه سار إلى البارة وهجمها وأسر الأسقف الذي بها وقيده ووكل به ، ورحل إلى كفر طاب فغفل الموكل به فهرب إلى كفر طاب فعزم على قتال حصنها واسترجاع الأسقف في يوم الثلثاء الثاني عشر من جمادى الآخرة ، فوصله من أخبره أن بغدوين الرونس وجوسلين وقلران وابن أخت طنكريد وابن أخت بغدوين وغيرهم من الأسرى الذين كانوا مسجونين بجب خرتبرت عاملوا قوما من أهل حصن خرتبرت فأطلقوهم ووثبوا على الحصن فملكوه وأخذوا كل ما كان لنور الدولة فيه وكان جملة عظيمة فقال جوسلين : كنا قد أشرفنا على الهلاك والآن قد خلصنا والصواب أن نمضي ونحمل ما قدرنا عليه ، فما سمحت نفس بغدوين بترك الحصن والخروج منه ، فاتفق رأيهم على خروج جوسلين وحلفوه على أنه لا يغير ثيابه ولا يأكل لحما ولا يشرب إلا وقت القربان إلى أن يجمع الجموع الفرنجية ويصل بهم إلى خرتبرت ويخلصهم. وأما بلك فإنه سار حتى نزل على خرتبرت ففتحه بالسيف في ثالث وعشرين من رجب وقتل كل من كان به من أصحابه الذين كفروا نعمته ومن كان فيه من الفرنج ، ولم يستبق سوى بغدوين الملك وقلران وابن أخت بغدوين وسيرهم إلى حران وحبسهم بها.

وأما جوسلين فمضى إلى القدس واستنجد بالفرنج ، ووصلوا إلى تل باشر فسمعوا خبر فتح خرتبرت بالسيف ، فسار إلى الوادي وقاتل بزاعة وأحرق بعض جدارها ثم أحرق

٣٩٤

الباب وقطع شجره وأحرق ما سواه من الوادي ، ثم نزل حيلان ثم حلب من ناحية مشهد الجف من الشمال وخرب المشاهد والبساتين وكسر الناس عند مشهد طرود بالقرب من بساتين البقرة ، وقتل وسبى مقدار عشرين نفرا ، ثم رحل ونزل الجانب الغربي في البقعة السوداء وخرب مشاهد الجانب القبلي وبساتينه ونبش الضريح الذي بمشهد الدّكة فلم يجد فيه شيئا ، فألقى فيه النار. والحلبيون في كل يوم يقاتلونه أشد قتال ويخسر معهم في كل حركة.

ثم رحل يوم الثلثاء مستهل شهر رمضان ونزل السعدي وقطع شجره وافترقوا منه وسار كل إلى بلده ، فأمر القاضي ابن الخشاب بموافقة من مقدمي حلب أن يهدم محاريب الكنائس التي للنصارى بحلب وأن يعمل لها محاريب إلى جهة القبلة وتغير أبوابها وتتخذ مساجد ، ففعل ذلك بكنيستهم العظمى وسمي مسجد السرّاجين وهو مسجد الحلاويين الآن وكنيسة الحدّادين وهي مدرسة الحدّادين الآن وكنيسة بدرب الحراف وهي مكان مدرسة ابن المقدم ، ولم يترك لهم بحلب سوى كنيستين لا غير وهي الآن باقية.

هذا كله ونور الدولة بلك غائب عن مدينة حلب في بلاده.

ثم إن جوسلين خرج في تاسع عشر رمضان إلى الوادي والنقرة والأحص وأخذ ما يزيد على خمسمائة فرس كانت في الغريب حتى لم يبق بحلب من الخيالة خمسون فارسا لهم خيل ، وأخذ من الدواب والبقر والغنم والجمال مالا يحصى ، وقتل وسبى وخرب ما أمكنه وعاد إلى تل باشر.

وخرج سير ألان في عسكر أنطاكية من الأثارب حتى وصل الحانوتة وحلفا وأخذ ما كان بها من خيل حلب في الغريب في الجانب القبلي وذلك مقدار ثلثمائة فرس ، وأخذ قافلة كانت واصلة من شيزر بغلة ، ثم عبر جوسلين من الفرات إلى سنجان وأغار على تركمان وأكراد فأخذ من الغنم والخيل ما يزيد على عشرة آلاف وسبى وقتل ، ومن سلم له فرس من عسكر حلب يخرجون مع الحرامية والأوباش يقطعون الغارات على بلادهم ويحضرون الأسارى مرة بعد أخرى.

ثم أغار جوسلين على الجبّول وما حولها وأخذ دواب كثيرة وتوجه إلى دير حافر فخنق أهلها بالدخان في المغاير وفتح المقابر وسلب الموتى أكفانهم.

٣٩٥

وفي يوم الأربعا سادس وعشرين من ذي القعدة عبر بلك إلى الشام وقبض على نائب بهرام داعي الباطنية بحلب وأمر بإخراجهم من حلب ، فباعوا أموالهم ورحالهم وخرجوا منها.

ثم إن الأمير نور الدين بلك جمع العساكر ووصله أتابك طغتكين بعسكر دمشق وعسكر آق سنقر البرسقي وعبروا حتى نزلوا على عزاز وضايقوها بالحصار وأخذوا عليها نقوبا إلى أن سهل أمرها ، فتجمع الفرنج وقصدوا ترحيل المسلمين عنها ، فالتقى الجيشان وهزم المسلمون وتفرقوا بعد قتل من قتل وأسر من أسر وعمر بلك حصن الناعورة بالنقرة وحصن إيلغارة على شط الفرات وتزوج بالخاتون فرخنده خاتون بنت رضوان في ثالث وعشرين ذي الحجة ( من سنة سبع عشرة وخمسمائة ) *

سنة ٥١٨

ذكر محاصرة بلك منبج وقتله واستيلاء تمرتاش

ثم آقسنقر البرسقي على حلب

قال ابن العديم : وفي المحرم من سنة ثمان عشرة وخمسمائة تنكر بلك على رئيس حلب وكان رجلا من أهل حران اسمه محمد بن سعدان ويعرف بابن سعدانة ، وكثر الأمن من الذعار وقطاع الطريق عند قدوم بلك حلب ، وأقام الهيبة العظيمة وتقدم بفتح أبواب حلب ليلا ونهارا وحسم مادة أرباب الفساد ، وقال للحارس : إن عدت سمعتك تصيح ضربت عنقك ، ونقل بغدوين ومن كان معه من حبس حران فحبسه في قلعة حلب.

وتوجه في شهر صفر فرقة من أصحابه الأتراك إلى ناحية عزاز فوقع بينهم وبين الفرنج وقعة عند مشحلا وظفر بهم الأتراك وقتلوا منهم أربعين رجلا من الخيّالة والرجّالة وأخذوا سلاحهم ، ووصل الباقون عزاز وما فيهم إلا من جرح عدة جروح.

وانقطع المطر في كانون ونصف شباط ثم تدارك فأخصب الزرع واستغل الناس وكان بحلب غلاء شديد.

__________________

( * ) ما بين قوسين أثبتناه من زبدة الحلب.

٣٩٦

وفي صفر من سنة ثماني عشرة وخمسمائة تنكر نور الدولة بلك على حسان بن كمشتكين صاحب منبج لشيء بلغه عنه فأنفذ قطعة من عسكره مع ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق وتقدم إليهم أن يمروا على منبج ويطلبوا حسانا أن يخرج معهم للإغارة على تل باشر ، فإذا خرج يقبضونه ، ففعلوا ذلك ودخلوا منبج وعصى عليهم الحصن ودخله عيسى أخوه ، وسير حسان فحبس في حصن بالو بعد أن عوقب وعرّي وسحب على الشوك فلم يسلمها أخوه.

وكتب عيسى إلى جوسلين : إن وصلتني وكشفت عني عسكر بلك سلمت إليك منبج. وقيل إنه نادى بشعار جوسلين بمنبج فمضى إلى بيت المقدس وطرابلس وجميع بلاد الفرنج وحشد ما يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل ووصل نحو منبج ليرحل بلك عن منبج ، فسار إليه بلك لما قرب من منبج والتقيا يوم الاثنين ثامن عشر شهر ربيع الأول واقتتل العسكران وانهزم الفرنج وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى آخر النهار ، وحمل فيهم بلك ذلك اليوم خمسين حملة يقتل فيهم ويخرج سالما يضرب بالسيوف ويطعن بالرماح ولا يكلم ، وعاد إلى منبج فبات مصليا مبتهلا إلى الله تعالى لما جدده على يده من الظفر بالفرنج. وأصبح يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول فقتل كل أسير أسره في الوقعة ، ثم زحف نحو الحصن ليختار موضعا ينصب فيه المنجنيق وعليه بيضة وبيده ترس ، وكان عزم على أن يستخلف ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي على حصار منبج ويطلع منجدا لأهل صور ، فإن الفرنج كانوا يضايقونها وفي تلك المضايقة أخذوها ، فبينا بلك قائما يأمر وينهى إذ جاءه سهم من الحصن ، وقيل إنه كان من يد عيسى فوقع في ترقوته اليسرى فانتزعه وبصق عليه وقال : هذا قتل المسلمين كلهم ، ومات لوقته ، وقيل بقي ساعات وقضى نحبه رحمه‌الله وحمل إلى حلب ودفن بها قبلي مقام ابراهيم عليه‌السلام (١).

__________________

(١) قال في المختار من الكواكب المضية : لما قتل بلك بن بهرام بن أرتق عند منبج كان معه تمرتاش بن إيلغازي فحمل بلك مقتولا إلى حلب ودفن بها قبلي مقام إبراهيم الخليل عليه‌السلام وقبره عليه حجارة كبار مكتوب عليها بالكوفي قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الآية وتاريخ وفاته في سنة ثمان عشرة وخمسمائة اه.

أقول : لم يزل قبلي المقام المذكور في وطأة من الأرض قبر عليه حجارة كبيرة وعليه كتابة بالخط الكوفي المسمى بالمزهر ، ويغلب على الظن أنه قبر بلك المذكور ، إلا أن ما كتب عليه هو آية الكرسي لا الآية المتقدمة ، وعن يمين المقام المذكور بين قبور آل راغب بك كبير محرر عليه بالخط الكوفي المزهر آية الكرسي أيضا ، إلا أن بعض الكتابة مطمور في الأرض ، والكتابة في هذين القبرين هو غاية في الحسن مثل الكتابة التي على منارة الجامع الكبير ، ويصلح أن يعد هذان القبران من نفائس الآثار العربية القديمة وهما يمثلان ما كان عليه الخط الكوفي في ذلك العصر.

٣٩٧

ووصل حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إلى حلب يوم الأربعاء العشرين من شهر ربيع الأول ودخل القلعة ونصب علمه ونادى الناس بشعاره وسار في رجب سنة ثمان عشرة واستوزر أبا الرجاء بن السرطان ، وولى الرياسة بحلب فضايل بن صاعد ، وسير إلى حران فحمل منها سلطان شاه بن رضوان وكان بلك أسكنه بها فاعتقله في دار بقلعة ماردين ، وكان فيها طاقة فتدلى منها بحبل وهرب إلى دارا ثم رحل منها إلى حصن كيفا إلى داود بن سكمان.

وفي العشر الأواخر من ربيع الأول سار نايب جوسلين من الرها وأغار على ناحية سنجان ونهبها ، فسار إليه نايب تمرتاش عمر الخاص وكان نائبه وربيب أبيه إيلغازي وركب خلفه في ثلاثمائة فارس فلحقه على مرج أكساس فقاتله وهزمه وقتله وقتل أكثر من كان معه من الفرنج وعاد غانما وأنفذ رؤوسهم وما غنم إلى تمرتاش إلى حلب ، وولاه تمرتاش شحنكية حلب ، وهو المدفون في القبة التي مقابل باب مشهد إبراهيم عليه‌السلام واسمه مكتوب على جهاتها الأربع ، وولى قلعة حلب رجلا يقال له عبد الكريم.

وفي عشرة جمادى الأولى * من هذه السنة استقر الأمر بين الملك بغدوين صاحب أنطاكية وكان في سجن بلك بحلب وبين تمرتاش بن إيلغازي على تسليم الأثارب وزردنا والجزر وكفر طاب وعلى تسليم عزاز وثمانين ألف دينار ، وقدم منها عشرين ألف دينار وحلف على ذلك وعلى أن يخرج دبيسا بن صدقة من الناس وكان قد وصل دبيس منهزما من المسترشد بعد أن كسره المسترشد وقتل خلقا من عسكره فنزل بلاده وحمل ما قدر عليه من العين والعروض على ظهور المطايا ووفد على ابن سالم بن مالك بن بدران إلى قلعة دوسر واستجار به فأجاره وغاضب المسترشد والسلطان محمود في أمره ، وكاتب دبيس قوما من أهل حلب وأنفذ لهم جملة دنانير وسامهم تسليمها إليه ، وكشف ذلك رئيسها فضايل بن صاعد بن بديع فأطلع على ذلك تمرتاش بن إيلغازي فأخذهم وعذبهم وشنق بعضهم وصادر بعضا. وكان المتوسط في حديث بغدوين مع تمرتاش الأمير أبو العساكر سلطان بن منقذ ، وسيّر أولاده وأولاد أخوته رهنا عن بغدوين إلى حلب وفكت قيود بغدوين وأحضر إلى مجلس تمرتاش وتآكلا وتشاربا وخلع عليه قباء ملكيا وقلنسوة ذهب وخفافا مزّانا وأعيد عليه

__________________

( * ) في زبدة الحلب : وفي غرة جمادى الأولى...

٣٩٨

الحصان الذي كان أخذه منه بلك يوم أسره ، فركب وسار إلى شيزر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى فبقي عند أبي العساكر حتى أحضر جماعة رهنا على الوفاء بما شرطه لتمرتاش ، وهم ابنته وابن جوسلين وغيرهما من أولاد الفرنج وعدتهم اثنا عشر نفرا ، وحمل العشرين ألف دينار التي عجلها ، وقبض صاحب شيزر الرهائن وأطلق بغدوين من سجن شيزر في يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب ، فخرج وغدر بتمرتاش وأنفذ إليه يقول : البطريك الذي لا يمكن خلافه سألني عما بذلت وما الذي استقر ، فحين سمع حديث عزاز وتسليم حصنها مني أبى وأمرني بالدفع عنها وقال : إن خطيتك تلزمني ولا أقدر على خلافه ، فترددت الرسائل بينهما فلم يستقر قاعدة ، وخالط دبيس جوسلين وبغدوين وصافاهم وصافوه بوساطة الأمير مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر ، واتفق دبيس والفرنج على قواعد تعاهدوا عليها. منها أن يكون حلب لدبيس والأموال والأرواح للفرنج مع مواضع من بلد حلب تكون للفرنج ، وتقدم دبيس إلى مرج دابق فخرج إليه حسام الدين تمرتاش فكسره.

وسار تمرتاش من حلب عندما علم بغدر الفرنج به إلى ماردين في الخامس والعشرين من شهر رجب ليستنجد بأخيه سليمان بن إيلغازي وجمع العساكر ، وبقي بنو منقذ رهائن بقلعة حلب عند تمرتاش وأولاد الفرنج رهائن عند أبي العساكر بن منقذ بشيزر ، والرسل مع هذا تتردد بين تمرتاش وبغدوين إلى أن عادت الرسل في ثامن عشر شعبان مخبرة بنقض الهدنة وبخروج بغدوين إلى أرتاح قاصدا النزول على حلب.

ورحل بغدوين من أرتاح حتى نزل على نهر قويق وأفسد كل ما كان عليه ، ثم رحل فنزل على باب حلب في يوم الاثنين السادس والعشرين من شعبان وهو السادس من تشرين الأول.

وخرج دبيس وجوسلين من تل باشر وقصدا ناحية الوادي وأفسدا القطن والدخن وسائر ما كان به وقوّم ذلك بمائة ألف دينار ، ورحلا ونزلا مع بغدوين على حلب ، ووصل إليهم الملك سلطان شاه بن رضوان ، ونزل بغدوين مقدم الفرنج من الجانب الغربي من حلب في الحلبة ، ونزل جوسلين على طريق عزاز وما يجاوره يمنة ويسرة ، ونزل دبيس وسلطان شاه بن رضوان مما يلي جوسلين من الشرق ، وفي صحبة دبيس عيسى بن سالم ابن مالك ، ونزل ياغيسيان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب بالس مما يلي دبيس من

٣٩٩

الشرق ، وكانت عدة الخيم ثلاثمائة ، للفرنج مائتا خيمة وللمسلمين مائة خيمة ، وأقاموا على حلب يزاحفونها وقطعوا الشجر وخربوا مشاهد كثيرة ونبشوا قبور موتى المسلمين وأخذوا توابيتهم إلى الخيم وجعلوها أوعية لطعامهم ، وسلبوا الأكفان وعمدوا إلى من كان من الموتى لم تنقطع أوصاله فربطوا في أرجلهم الحبال وسحبوهم مقابل المسلمين ، وجعلوا يقولون : هذا نبيكم محمد وآخر يقول : هذا عليّكم ، وأخذوا مصحفا من بعض المشاهد بظاهر حلب وقالوا : يا مسلم أبصر كتابكم ، وشقه الفرنجي بيده وشده بخيطين وعمله ثفرا لبرذونه فظل البرذون يروث عليه ، وكلما أبصر الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجبا وزهوا.

وأقاموا كلما ظفروا بمسلم قطعوا يديه ومذاكيره ودفعوه إلى المسلمين والمسلمون يفعلون بمن يأسرونه من الفرنج كذلك ، وربما شنق المسلمون بعضهم ، ويخرج الغزاة من باب العراق ويسرقونهم من المخيم ويقطعون عليهم الطريق ويقتلون ويأسرون ، ويصيح المسلمون على دبيس من الأسوار : دبيس يانجيس ، والرسل تتردد بينهم في الصلح ولا يستتب إلى أن ضاق الأمر بالمسلمين جدا.

وكان بحلب بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار والحاجب عمر الخاص ومعهما مقدار خمسمائة فارس ، والذي يتولى تدبيرها وهو في مقام الرياسة القاضي أبو الفضل بن الخشاب ، وتولى حفظ المكان وبذل المال والغلال ، فاتفقوا على أن سيّروا جد أبي قاضي حلب القاضي أبا غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة ونقيب الأشراف وأبا عبد الله بن الجلي ، فخرجوا ليلا ومضوا إلى تمرتاش إلى ماردين مستصرخين إليه ومستغيثين به ، فوجدوه وقد مات أخوه سليمان بن إيلغازي صاحب ميافارقين في شهر رمضان. وسار تمرتاش إلى بلاده ليملكها واشتغل بملك تلك البلاد عن حلب ، وكانت الرسل مترددة بينه وبين آقسنقر البرسقي صاحب الموصل في اتفاق الكلمة على قصد الفرنج وكشفهم عن حلب ، فاشتغل بهذا الأمر عن هذا التقرير والحلبيون عنده يمنيهم ويمطلهم ، ولما خرج الحلبيون من حلب بلغ الفرنج ذلك فسيروا خلفهم من يلحقهم فلم يدركهم وأصبحوا في صباح تلك الليلة وصاحوا إلى أهل حلب : أين قاضيكم وأين شريفكم ، فأسقط في أيديهم إلى أن وصل منهم كتاب يخبر بسلامتهم.

٤٠٠