إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

سنة ٥٠٥

سير العساكر الإسلامية من بغداد وغيرها لقتال الإفرنج

قال ابن الأثير : في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج ، فكان الأمير مودود صاحب الموصل والأمير سكمان القطبي صاحب تبريز وبعض ديار بكر والأمير إيلبكي وزنكي ابنا برسق ولهما همدان وما جاورها والأمير أحمديل وله مراغة ، وكوتب الأمير أبو الهيجاء صاحب أربل والأمير إيلغازي صاحب ماردين والأمراء البكجية باللحاق بالملك مسعود ومودود ، فاجتمعوا ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو ، فلما اجتمعوا ساروا إلى بلد سنجار ففتحوا عدة حصون للفرنج وقتل من بها منهم ، وحصروا مدينة الرها مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها. وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها فارسها وراجلها وساروا إلى الفرات ليعبروها ليمنعوا الرها من المسلمين ، فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين فلم يقدموا عليه وأقاموا على الفرات ، فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم ، فلما رحلوا عنها جاء الفرنج ومعهم الميرة والذخائر إلى الرها فجعلوا فيها كل ما يحتاجون إليه بعد أن كانوا قليلي الميرة وقد أشرفوا على أن يؤخذوا ، وأخذوا كل من فيه عجز وضعف وفقر وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي وطرقوا أعمال حلب فأفسدوا ما فيها ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا خلقا كثيرا ، وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان صاحب حلب إلى ما أخذه الفرنج من أعمال فاستعاد بعضه ونهب منهم وقتل ، فلما عاد وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا ، وأما العسكر السلطاني فإنه لما سمع بعود الفرنج وعبورهم الفرات رحلوا إلى الرها وحصروها فرأوا أمرا محكما قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم وبكثرة المقاتلين عنهم ولم يجدوا فيها مطمعا ، فرحلوا عنها وعبروا الفرات فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يوما ، ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضا ، ووصلوا إلى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم ، ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي فعاد مريضا فتوفي في بالس ، فجعله أصحابه في تابوت وحملوه عائدين إلى بلاده فقصدهم إيلغازي ليأخذهم ويغنم ما معهم فجعلوا تابوته في القلب وقاتلوا بين يديه ،

٣٦١

فانهزم إيلغازي وغنموا ما معه وساروا إلى بلادهم ، ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب ولم يجتمع بالعساكر السلطانية رحلوا إلى معرة النعمان واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق ونزل على الأمير مودود فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه ، فخاف أن تؤخذ منه دمشق ، فشرع في مهادنة الفرنج سرا ، وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين ، فلم يتم ذلك وتفرقت العساكر ، وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس فهو يحمل في محفة ، ومات سكمان القطبي كما ذكرنا ، وأراد الأمير أحمديل صاحب مراغة العود ليطلب من السلطان أن يقطعه مما كان لسكمان من البلاد وأتابك طغتكين صاحب دمشق خاف الأمراء على نفسه فلم ينصحهم ، إلا أنه حصل بينه وبين مودود صاحب الموصل مودة وصداقة فتفرقوا لهذه الأسباب ، وبقي مودود وطغتكين بالمعرة فساروا منها ونزلوا على نهر العاصي ، ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا وكانوا قد اجتمعوا كلهم بعد الاختلاف والتباين وساروا إلى أفامية فسمع بهم السلطان بن منقذ صاحب شيزر فسار إلى مودود وطغتكين وهوّن عليهما أمر الفرنج وحرضهما على الجهاد ، فرحلوا إلى شيزر ونزلوا عليها ونزل الفرنج بالقرب منهم ، فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة ولزوهم بالقتال والفرنج يحفظون نفوسهم ولا يعطون مصافا ، فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول.

زيادة بيان لحوادث سنة ٥٠٣ و٥٠٤ و٥٠٥

قال ابن العديم : وفي سنة ٥٠٣ كاتب السلطان الأمير سكمان القطبي صاحب أرمينية ومودود صاحب الموصل يأمرهما بالمسير إلى جهاد الفرنج ، فجمعا وسارا ووصل إليهما نجم الدين إيلغازي بن أرتوق في خلق كثير من التركمان ، فنزلوا على الرها وأحدقوا بها في شوال من هذه السنة ، فاتفق الفرنج كلهم وأزالوا ما كان بينهم من الشحناء ، وكان المسلمون في جمع عظيم فتصافى طنكريد وبغدوين وابن صنجيل بعد النفار وقصدوا إنجاد من بها من الفرنج وأحجموا عن العبور إلى الجانب الجزري لكثرة من به من عساكر المسلمين ، فاندفع المسلمون عن الرها إلى حران ليعبر الفرنج ويتمكنوا منهم ، ووصلهم عسكر دمشق ، فحين عبر الفرنج وبلغهم خبر المسلمين عادوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطىء

٣٦٢

الفرات ، فنهض المسلمون في إثرهم وأدركتهم خيول الإسلام وقد عبر الأجلاد منهم فغنم المسلمون جل سوادهم وأكثر أثقالهم واستباحوهم قتلا وأسرا وتغريقا في الماء ، وأقام المسلمون بإزائهم على الفرات. ولما عرف الملك رضوان هزيمة الفرنج عن الرها خرج ليتسلم أعمال حلب التي كانت في أيدي الفرنج وقاتل ما امتنع عليه منها وأغار على بلد أنطاكية وغنم منها ما يجل قدره ، وكان بينه وبينهم مهادنة نقضها ، وكاتب الفرنج رضوان يوهنون رأيه في نقض الهدنة ، فلما تحقق سلامة طنكريد وعوده رجع إلى حلب وعاد الفرنج من الفرات فقصدوا بلد حلب من شرقها فقتلوا من وجدوا وسبوا أهل النقرة وأخذوا ما قدروا عليه من المواشي وهرب الناس نحو بالس ، وعاد طنكريد فنزل على الأثارب وطيب قلوب الفلاحين من المسلمين وأمنهم ونصب على الأثارب المجانيق وكبشا عظيما ينطح به شرفات الأسوار فيقلبها فخرب أسوارها ، وكان يسمع نطحه من مسيرة نصف فرسخ ، وبذل رضوان لطنكريد في الموضع عشرين ألف دينار على أن يرحل فامتنع وقال : قد خسرت ثلاثين ألف دينار فإن دفعتموها إليّ وأطلقتم كل عبد بحلب منذ ملكت أنطاكية فأنا أرحل ، فاستعظم ذلك واتكل على الحوادث ، وكان الذي بقي في القلعة مقدار مائة دينار وأخذها الخازن على وسطه وهرب إلى الفرنج وهرب جماعة أخر من المسلمين إليهم ، فكتبوا إلى الملك رضوان كتابا على جناح طائر يخبرونه بما تجدد من قوة الحصار وقلة النفقة وقتل الرجال ، وأرسلوا الطائر فسقط في عسكر الفرنج فرماه أحدهم بنشابة فقتله وحمل الكتاب إلى طنكريد ففرح وقويت نفسه وبذل رضوان المال المطلوب له على أن يكون أقساطا ويضع عليه رهائن ، فلم يفعل ويئس من في الأثارب من نجدة تصل إليهم فسلموها إلى طنكريد في جمادى الآخرة منها وأمن أهلها وخرجوا منها ، ثم صالح رضوانا على عشرين ألف دينار وعشرة رؤوس من الخيل فقبضها وعاد إلى أنطاكية ، ثم عاد وخرج إلى الأثارب وقد أدركت الغلة وضعفت حلب بأخذ الأثارب ضعفا عظيما ، وطلب من حلب المقاطعة التي قرر على حلب وأسرى من الأرمن ، وكان رضوان أخذهم وقت إغارته على بلد أنطاكية والفرنج على الفرات فأعادهم إليه ، وطلب بعض خيل الملك رضوان فأعطاه وطلب حرم الفلاحين المسلمين من الأثارب وكانوا وقت نزول طنكريد على الأثارب حصلوا بحرمهم في حلب فأخرجهن إليه ، وضاق الأمر بأهل حلب ومضى بعضهم إلى بغداد واستغاثوا في أيام الجمع

٣٦٣

ومنعوا الخطباء من الخطبة مستصرخين بالعساكر الإسلامية على الفرنج فقلت الغلات في بلد حلب ، فباع الملك رضوان في يوم واحد ستين خربة من بلد حلب لأهلها بالثمن البخس وطلب بذلك استمالاتهم وأن يلتزموا بالمقام بها بسبب أملاكهم وهي ستون خربة معروفة في دواوين حلب إلى يومنا هذا غير ما باعه في غير ذلك اليوم من الأملاك ، ولذلك يقال إن بيع الملك من أصح أملاك الحلبيين لأن المصلحة في بيعها كانت ظاهرة لاحتياج بيت المال إلى ثمنها ولعمارة حلب ببقاء أهلها فيها بسبب أملاكهم.

ولما استصرخ الحلبيون العساكر الإسلامية ببغداد وكسروا المنابر جهز السلطان العساكر للذب عنهم فكان أول من وصل مودود صاحب الموصل بعسكره إلى شبختان ففتح تل قراد وعدة حصون ، ووصل أحمديل الكردي في عسكر ضخم وسكمان القطبي وعبروا إلى الشام ، فنزلوا تل باشر وحصروها حتى أشرفت على الأخذ ، وكان طنكريد قد أخذ حصن بكسرائل وتوجه مغيرا على بلد شيزر ونازلها وشرع في عمارة تل ابن معشر وضرب اللبن وحفر الجباب ليوعي بها الغلة ، فلما بلغه نزول عساكر السلطان محمد علي تل باشر رحل عنها.

وأما العساكر الإسلامية النازلة على تل باشر فإن سكمان مات عليها وقيل بعد الرحيل عنها ، وأشرف المسلمون على أخذها ، فتطارح جوسلين الفرنجي صاحبها على أحمديل الكردي وحمل إليه مالا وطلب منه رحيل العسكر عنه ، فأجابه إلى ذلك ، وكتب الملك رضوان إلى مودود وأحمديل وغيرهما إنني قد تلفت وأريد الخروج من حلب ، فبادروا إلى الرحيل فحسن لهما أحمديل الرحيل عنها بعد أن أشرفوا على أخذها ورحلوا إلى حلب ، فأغلق رضوان أبواب حلب في وجوههم وأخذ إلى القلعة رهائن عنده من أهلها لئلا يسلموها ورتب قوما من الجند والباطنية الذين في خدمته لحفظ السور ومنع الحلبيين من الصعود إليه ، وبقيت أبواب حلب مغلقة سبع عشرة ليلة ، وأقام الناس ثلاث ليال ما يجدون شيئا يقتاتون به ، فكثرت اللصوص من الضعفاء وخاف الأعيان على أنفسهم وساء تدبير الملك رضوان فأطلق العوام ألسنتهم بالسب له وتعييبه وتحدثوا بذلك فيما بينهم ، فاشتد خوفه من الرعية أن يسلموا البلد وترك الركوب بينهم ، وصفر إنسان من السور فأمر به فضربت عنقه ونزع رجل ثوبه ورماه إلى آخر فأمر به فألقي من السور إلى أسفل فعاث

٣٦٤

العسكر فيما بقي سالما ببلد حلب بعد نهب الفرنج له وسبيهم أهله ، وبث رضوان الحرامية تتخطف من ينفرد من العسكر فيأخذونه ، فرحلوا إلى معرة النعمان في آخر صفر من سنة خمس وخمسمائة وأقاموا عليها أياما ووجدوا حولها ما ملأ صدورهم مما يحتاجون إليه من الغلات وما عجزوا عن حمله ، وكان أتابك طغتكين قد حصل معهم فراسل رضوان بعضهم حتى أفسد ما بينه وبينهم فظهر لأتابك منهم الوحشة فصار في جملة مودود صاحب الموصل ، وثبت له مودود ووفى له ، وحمل لهم أتابك هدايا وتحفا من متاع مصر وعرض عليهم المسير إلى طرابلس والمعونة لهم بالأموال فلم يعرجوا ، وسار أحمديل وبرسق بن برسق وعسكر سكمان نحو الفرات وبقي مودود مع أتابك فرحلا من المعرة إلى العاصي فنزلا على الجلالي.

فنزل الفرنج من أفامية مع بغدوين وطنكريد وابن صنجيل وساروا لقصد المسلمين ، فخرج أبو العساكر بن منقذ من شيزر بعسكره وأهله واجتمع بمودود وأتابك وساروا إليهم ونزلوا قبلي شيزر والفرنج شمالي ابن معشر ، ودارت خيول المسلمين حولهم ومنعوهم الماء والأتراك حول الشرائع بالقسي تمنعهم الورد ، فأصبحوا هاربين سائرين يحمي بعضهم بعضا.

ثم إن رضوانا حين ضعف أمره بحلب رأى أن يستميل طغتكين أتابك إليه ويستصلحه ، فاستدعاه إلى حلب عندما أراد أن ينزل طنكريد على قلعة عزاز وبذل له رضوان مقاطعة حلب عشرين ألف دينار وخيلا وغير ذلك ، فامتنع طنكريد من ذلك فوصل طغتكين أتابك وتعاهدا على مساعدة كل منهما صاحبه بالمال والرجال ، واستقر الأمر على أن أقام طغتكين الدعوة والسكة لرضوان بدمشق فلم يظهر منه بعد ذلك الوفاء بما تعاهدا عليه.

ومات طنكريد في سنة ست وخمسمائة واستخلف ابن أخته روجار وأدى إليه رضوان ما كان يأخذه منه طنكريد وهو عشرة آلاف دينار.

٣٦٥

سنة ٥٠٧

وصول مودود إلى الشام واتفاقه مع طغتكين ووفاة الملك رضوان

وولاية ابنه آلب أرسلان وذكر نبذة من معتقدات الباطنية

قال ابن العديم : وفي هذه السنة وصل مودود إلى الشام واتفق مع طغتكين على الجهاد وطلب النجدة من الملك رضوان ، فتأخرت إلى أن اتفق للمسلمين وقعة استظهروا فيها على الفرنج ، ووصل عقيبها نجدة للمسلمين من رضوان دون مائة فارس ، وخالف فيما كان قرره ووعد به ، فأنكر أتابك ذلك وتقدم بإبطال الدعوة والسكة باسم رضوان من دمشق في أول ربيع الأول من سنة سبع وخمسمائة ، وكان رضوان يحب المال ولا تسمح نفسه بإخراجه حتى كان أمراؤه وكتابه ينبزونه بأبي حبة ، وهو الذي أفسد أحواله وأضعف أمره ، ومرض رضوان بحلب مرضا حادا وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسمائة ودفن بمشهد الملك ، واضطرب أمر حلب لوفاته وتأسف أصحابه لفقده ، وقيل إنه خلف في خزانته من العين والآلات والعروض والأواني ما يبلغ مقداره ستمائة ألف دينار.

وفي المختار من الكواكب المضية : كان رضوان سيء السيرة ظالما ليس في قلبه رحمة ولا شفقة على المسلمين وقتل أخويه أبا طالب وبهرام. وقال الذهبي : كان رضوان يستعين بالباطنية لقلة دينه وعمل لهم دار دعوة.

وقال ابن خلكان في ترجمة تتش أبي الملك رضوان : وأولاد رضوان المقيمون بظاهر حلب هم أولاد رضوان المذكور.

نبذة من معتقدات الباطنية

قال الشهرستاني في الملل والنحل : الباطنية قوم يخالفون اثنتين وسبعين فرقة. وقال بعد ذلك في الكلام على الإسماعيلية : هم المثبتون لإمامة إسماعيل بن جعفر ، وأشهر ألقابهم الباطنية ، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل

٣٦٦

تأويلا ، ولهم أي [ الإسماعيلية ] ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم ، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية ، وبخراسان التعليمية والملحدة. قال المقريزي في الخطط (١) في الكلام على عقيدة الإمام الأشعري رضي‌الله‌عنه : والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجوهر لا سر تحته ، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه ، ولم يكتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشريعة ولا كلمة ، ولا اطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عم على شيء كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ، ولا كان عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه ، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر ، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمة ، وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول.

قال ابن الأثير : ولما مات رضوان قام بحلب بعده ابنه آلب أرسلان الأخرس وعمره ست عشرة سنة ، واستولى على الأمور لؤلؤ الخادم ، ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة ومعناه اللؤلؤ ، ولم يكن آلب أرسلان أخرس وإنما في لسانه حبسة وتمتمة ، وأمه بنت باغيسيان الذي كان صاحب أنطاكية ، وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه وهو من أبيه وأمه واسم الآخر مبارك شاه وهو من أبيه ، وكان أبوه فعل مثله ، فلما توفي قتل ولداه مكافأة لما اعتمده مع أخويه ، وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه حتى خافهم ابن بديع رئيسها وأعيان أهلها ، فلما توفي قال ابن بديع لآلب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم ، فأمره بذلك فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ وعلى جميع أصحابه فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم وأخذ أموال الباقين وأطلقهم ، فمنهم من قصد الفرنج وتفرقوا في البلاد اه.

وقال ابن العديم : كان آلب أرسلان متهورا قليل العقل ، ووضع عن أهل حلب ما كان والده جدده عليهم من الرسوم والمكوس وقبض على أخويه ملكشاه ومبارك وكان مبارك من جارية وملكشاه من أمة فقتلهما ، وكذلك فعل أبوه رضوان بأخويه ، فانظر إلى هذه المقابلة العجيبة ، وقبض جماعة من خواص والده فقتل بعضهم وأخذ أموال الآخرين. وكان المتولي لتدبير أموره خادما لأبيه يقال له لؤلؤاليايا وهو الذي أنشأ خانكاه البلاط بحلب ،

__________________

(١) في الجزء الرابع في صحيفة ١٩١.

٣٦٧

وكان قبل وصوله إلى رضوان خادما لتاج الرؤساء ابن الحلال فدبر أسوأ تدبير مع سوء تدبيره في نفسه ، وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب في أيام أبيه وبايعهم خلق كثير على مذهبهم طلبا لجاههم وصار كل من أراد أن يحمي نفسه من قتل أو ضيم التجأ إليهم ، وكان حسام الدين بن دملاح وقت وفاة رضوان بحلب فصاروا معه وصار إبراهيم العجمي الداعي من نوابه في حفظ القلعة بظاهر بالس ، فكتب السلطان محمد بن ملكشاه إلى آلب أرسلان وقال له : كان والدك يخالفني في الباطنية وأنت ولدي فأحب أن تقتلهم ، وسرع الرئيس أبو بديع متقدم الأحداث في الحديث مع آلب أرسلان في أمرهم وقرر الأمر معه على الإيقاع بهم والنكاية فيهم ، فساعده على ذلك فقبض على أبي طاهر الصايغ وقتله وقتل إسماعيل الداعي وأخا الحكيم المنجم والأعيان من أهل هذا المذهب بحلب وقبض على زهاء مائتي نفس منهم وحبس بعضهم واستصفى أموالهم وشفع في بعضهم ، فمنهم من أطلق ومنهم من رمي من أعلى القلعة ومنهم من قتل ، وأفلت جماعة منهم فتفرقوا في البلاد وهرب إبراهيم الداعي من القلعة إلى شيزر وخرج حسام الدين بن دملاح عند القبض عليهم فمات في الرقة.

وطلب الفرنج من آلب أرسلان المقاطعة التي لهم بحلب فدفعها إليهم من ماله ولم يكلف أحدا من أهل حلب شيئا منها. ثم إن آلب أرسلان رأى أن المملكة تحتاج إلى من يدبرها أحسن تدبير وأشار خدمه وأصحابه عليه بأن كاتب أتابك طغتكين أمير دمشق ورغب في استعطافه وسأله الوصول إليه ليدبر حلب والعسكر وينظر في مصالح دولته ، فأجابه ورأى موافقته لكونه صبيا لا يخافه الكفار ولا رأي له ، فدعا له على منبر دمشق بعد الدعوة للسلطان وضربت السكة باسمه وذلك في شهر رمضان ، وأوجبت الصورة بأن خرج آلب أرسلان بنفسه في خواصه وقصد أتابك إلى دمشق ليجتمع معه ويؤكد الأمر بينه وبينه ، فلقيه أتابك على مرحلتين وأكرمه ووصل معه وأنزله بقلعة دمشق وبالغ في إكرامه وخدمته والوقوف على رأسه ، وحمل إليه دست ذهب وطيرا مرصعا وعدة قطع مثمنة وعدة من الخيل وأكرم من كان في صحبته ، وأقام بدمشق أياما وسار في أول شوال عائدا إلى حلب ومعه أتابك وعسكره ، فأقام عنده أياما واستخلص كمشتكين البعلبكي مقدم عسكره ، وكان قد أشار عليه بعض أصحابه بقبضه فقبض جماعة من أعيان عسكره وقبض

٣٦٨

الوزير أبا الفضل بن الموصول ففعل ذلك فاستوهب أتابك منه كمشتكين فوهبه إياه ، وقبض على رئيس حلب صاعد بن بديع وكان وجيها عند أبيه رضوان فصادره بعد التضييق عليه حتى ضرب نفسه في السجن ليقتل نفسه ، ثم أطلقه بعد أن قرر عليه مالا وأخرجه وأهله من حلب فتوجه إلى مالك بن سالم إلى قلعة جعبر وسلم رياسة حلب إلى إبراهيم الفراتي فتمكن ولقب ونوه باسمه ، وإليه تنسب عرصة ابن الفراتي بالقرب من باب العراق بحلب.

ثم رأى أتابك من سوء السيرة وفساد التدبير مع التقصير في حقه والإعراض عن مشورته ما أنكره ، فعاد من حلب إلى دمشق وخرجت معه أم الملك رضوان هربا منه ، وساءت سيرة آلب أرسلان وانهمك في المعاصي واغتصاب الحرم والقتل ، وبلغنا أنه خرج يوما إلى عين المباركة متنزها وأخذ معه أربعين جارية ونصب خيمة ووطئهن كلهن ، واستولى لؤلؤ اليايا على الأمر فصادر جماعة من المتفرقين وأعاد الوزارة إلى أبي الفضل بن الموصول ، وجمع آلب أرسلان جماعة من الأمراء وأدخلهم إلى موضع بالقلعة شبيه بالسرداب لينظروه ، فلما دخلوا إليه قال لهم : أيش تقولون في من يضرب رقابكم كلكم هاهنا ، فقالوا : نحن مماليكك وبحكمك ، وأخذوا ذلك منه بطريق المزاح وتضرعوا له حتى أخرجهم ، وكان فيهم مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر ، فلما نزل سار عن حلب وتركها خوفا على نفسه.

سنة ٥٠٨

ذكر قتل آلب أرسلان وولاية أخيه سلطان شاه

قال ابن العديم : لما حصل من الب أرسلان ما حصل خاف منه لؤلؤ اليايا فقتله بفراشه بالمركز بقلعة حلب في شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وخمسمائة ، وساعده على ذلك قراجا التركي وغيره. ولزم لؤلؤ اليايا قلعة حلب وشمس الخواص في العسكر ونصب لؤلؤ أخا له صغيرا عمره ست سنين واسمه سلطان شاه بن رضوان وتولى لؤلؤ تدبير مملكته وجرى على قاعدته في سوء التدبير ، وكاتب لؤلؤ ومقدمو حلب أتابك طغتكين وغيره يستدعونهم إلى حلب لدفع الفرنج عنها فلم يجب أحد منهم إلى ذلك ، ومن العجائب أن يخطب الملوك لحلب ولا يوجد من يرغب فيها ولا يمكنه ذب الفرنج عنها ، وكان السبب في ذلك أن المتقدمين كانوا يريدون بقاء الفرنج ليثبت عليهم ما هم فيه.

٣٦٩

وقلّ الربيع ببلد حلب لاستيلاء الفرنج على أكثر بلدها والخوف على باقيه ، وقلّت الأموال واحتيج إليها لصرفها إلى الجند ، فباع لؤلؤ قرى كثيرة من بلد حلب ، وكان المتولي بيعها القاضي أبا غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة قاضي حلب ولؤلؤ يتولى صرف أثمانها في مصالح القلعة والجند والبلد ، وقبض لؤلؤ على الوزير أبي الفضل بن الموصل واستأصل ماله ، وسار إلى قلعة جعبر فأقام عند مالك بن سالم واستوزر أبا الرجا بن السرطان الرحبي مدة ثم صادره وضربه ، وطلب أبا الفضل بن الموصول فأعاده إلى الوزارة بحلب. وجاءت زلزلة عظيمة ليلة الأحد ثامن وعشرين من جمادى الآخر من سنة ثمان بحلب وحران وأنطاكية ومرعش والثغور الشامية وسقط برج باب أنطاكية الشمالي وبعض دور العقبة وقتلت جماعة وخربت قلعة أعزاز وهرب واليها إلى حلب ، وكان بينه وبين لؤلؤ مواحشة ، فحين وصل إلى حلب قتله وأنفذ إليها من تداركها بالعمارة والترميم ، وخرب شيء يسير في قلعة حلب وخرب أكثر قلعة الأثارب وزردنا.

وصار شمس الخواص مقدم عسكر حلب ومتولي أقطاع الجند ، وكانت سيرته إذ ذاك صالحة ، وكان لؤلؤ في أول أمره مقيما بقلعة حلب لا ينزل عنها ويدبر الأمور فكتب إلى السلطان على سبيل المغالطة يبذل له تسليم حلب والخزائن التي خلفها رضوان وولده آلب أرسلان ويطلب إنفاذ العساكر إليه.

وقال ابن الأثير : في هذه السنة سار آقسنقر البرسقي. صاحب الموصل إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس فنازلها في ذي الحجة وقاتلها ، فصبر له الفرنج واصابوا من بعض المسلمين غرة فأخذوا منهم تسعة رجال وصلبوهم على سورها ، فاشتد القتال حينئذ وحمي المسلمون وقاتلوا فقتلوا من الفرنج خمسين فارسا من أعيانهم ، وأقام عليها شهرين وأياما ، وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا من الرها إلى سميساط بعد أن خربوا بلد الرها وبلد سروج وبلد سميساط وأطاعه صاحب مرعش على ما نذكره.

ذكر طاعة صاحب مرعش وغيرها للبرسقي

قال ابن الأثير : في هذه السنة توفي بعض كنود الفرنج ويعرف بكواسيل وهو صاحب مرعش وكيسوم ورعبان وغيرها ، فاستولت زوجته على المملكة وتحصنت من الفرنج

٣٧٠

وأحسنت إلى الأجناد وراسلت آقسنقر البرسقي وهو على الرها واستدعت منه بعض أصحابه لتطيعه ، فسير إليها الأمير سنقر دزدار صاحب الخابور ، فلما وصل إليها أكرمته وحملت إليه مالا كثيرا ، وبينما هو عندها إذ جاء جمع من الفرنج فواقعوا أصحابه وهم نحو مائة فارس واقتتلوا قتالا شديدا ظفر فيه المسلمون بالفرنج وقتلوا منهم أكثرهم ، وعاد سنقر دزدار وقد أصحبته الهدايا للملك مسعود والبرسقي وأذعنت بالطاعة ، ولما عرف الفرنج ذلك عاد كثير ممن عندها إلى أنطاكية.

سنة ٥٠٩

إرسال السلطان محمد بن ملكشاه العساكر إلى حلب بقيادة برسق

وافتتاح كفر طاب وما جرى بعد ذلك لاختلاف كلمة الأمراء

قدمنا ما كتب به لؤلؤ إلى السلطان محمد وأنه طلب منه إنفاذ العساكر. قال ابن العديم : فإنه أرسل برسق بن برسق مقدم الجيوش وبكربسن وغيرهم من أمراء السلطان في سنة تسع وخمسمائة ، فتغيرت نية لؤلؤ الخادم عما كان يكتب به إلى السلطان وكتب إلى أتابك طغتكين يستصرخه ويستنجده ووعده تسليم حلب إليه وأن يعوضه طغتكين من أعمال دمشق ، فبادر إلى ذلك ووصل حلب والعساكر السلطانية ببالس متوجهين إلى حلب ، فرحلوا منها إلى النقرة ووصلهم الخبر أن ذلك اليوم وصل أتابك إلى حلب فأعرضوا عن حلب وساروا إلى حماة وتسلموا رفنيّة من أولاد علي كرد وسلموها إلى خير خان بن قرجا ، فخاف طغتكين من عساكر السلطان أن يقصد دمشق فأخذ عسكر حلب وشمس الخواص وإيلغازي بن أرتق واستنجد بصاحب أنطاكية روجار وغيره من ملوك الفرنج ونزلوا أجمعون أفامية ونزلت العساكر السلطانية أرض شيزر ، وجعل أتابك يريث الفرنج عن اللقاء خوفا من الفرنج أن ينكسر العساكر السلطانية فيأخذوا الشام جميعه أو ينكسروا فيستولي العساكر السلطانية على ما في يده ، وخاف الفرنج وضاقت صدور أمراء عسكر السلطان من المصابرة فرحلوا ونزلوا حصن الأكراد وأشرف على الأخذ ، فاتفق أتابك والفرنج على عود كل قوم إلى بلادهم ، ففعلوا ذلك وتوجه أتابك إلى دمشق وعاد عسكر

٣٧١

حلب وشمس الخواص إلى حلب فقبض عليه لؤلؤ واعتقله ، فعادت عساكر السلطان حينئذ عن حصن الأكراد وساروا إلى كفر طاب وحصروا حصنا كان الفرنج عمروه بجامعها وأحكموه فأخذوه وقتلوا من فيه إلى معرة النعمان ، وأمن الترك وانتشروا في أعمال المعرة واشتغلوا بالشرب والنهب ووقع التحاسد فيما بينهم ، ووصل رسول من جهة شمس الخواص يستدعيهم لتسليم بزاعة ويقول : إن شمس الخواص مقبوض عليه عند لؤلؤ الخادم ولؤلؤ يكشف أخبار العساكر ويطالع بها الفرنج ، ورحل برسق وجامدار صاحب الرحبة نحو دانيث يطلبون حلب فنزل جامدار في بعض الضياع ووصل برسق بالعسكر إلى دانيث بكرة الثلثاء العشرين من شهر ربيع الآخر والفرنج يعرفون أخبارهم ساعة فساعة ، فوصلهم الفرنج وقصدوا العسكر من ناحية جبل السماق والعسكر على الحال التي ذكرناها من الانتشار والتفرق فلم يكن لهم بالفرنج طاقة ، فانهزموا من دانيث إلى تل السلطان واستتر قوم في الضياع من العسكر ، فنهبهم الفلاحون وأطلقوهم وغنم أهل الضياع مما طرحوه وقت هزيمتهم ما يفوت الإحصاء وأخذ الفرنج من هذا ما يفوت الوصف وغنموا من الكراع والسلاح والخيام والدواب وأصناف الآلات والأمتعة ما لا يحصى ، ولم يقتل مقدم ولا مذكور وقتل من المسلمين نحو خمسمائة وأسر نحوها ، واجتمع العسكر على تل السلطان ورحلوا إلى النقرة مخذولين مختلفين ونزلوا النقرة ، وكان أونبا قد طلع بأصحابه إلى حصن بزاعة وكان قد تقدم العساكر إليها ، فلما بلغهم ذلك نزلوا ووصلوا إلى العسكر وتوجهت العساكر إلى السلطان وإلى بلادهم ووصل طغتكين من دمشق فتسلم رفنية ممن كان بها ، وأطلق لؤلؤ شمس الخواص من الاعتقال وسلم إليه ما كان أقطعه من بزاعة وغيرها فوصل إلى طغتكين فرد عليه رفنية وعاد إلى دمشق واستصحبه معه.

زيادة بيان لهذه الحوادث :

ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ٥٠٨ أنه حصلت وحشة بين السلطان محمد وبين آميريه آقسنقر البرسقي وطغتكين صاحب دمشق أدت إلى اتفاقهما مع صاحب أنطاكية الفرنجي ، ولما اتصل ذلك بمسامع السلطان محمد جهز في سنة ٥٠٨ عسكرا كثيرا وجعل مقدمهم الأمير برسق بن برسق صاحب همذان ومعه الأمير جيوش بك والأمير كنتغدي وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بالبداءة بقتل إيلغازي وطغتكين ، فإذا فرغوا منهما قصدوا

٣٧٢

بلاد الفرنج وقاتلوهم وحصروا بلادهم ، فساروا في رمضان من سنة ثمان وخمسمائة وكان عسكرا كثير العدة ، وعبروا الفرات آخر السنة عند الرقة ، فلما قاربوا حلب راسلوا المتولي لأمرها لؤلؤ الخادم ومقدم عسكرها المعروف بشمس الخواص يأمرونهما بتسليم حلب وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك ، فغالطا في الجواب وأرسلا إلى إيلغازي وطغتكين يستنجداهما ، فسارا إليهم في ألفي فارس ودخلا حلب فامتنع من بها حينئذ عن عسكر السلطان وأظهروا العصيان ، فسار الأمير برسق بن برسق إلى مدينة حماة وهي في طاعة طغتكين وبها ثقله فحصرها وفتحها عنوة ونهبها ثلاثة أيام وسلمها إلى الأمير قرجان صاحب حمص ، وكان السلطان قد أمر بأن يسلم إليه كل بلد يفتحونه ، فلما رأت الأمراء ذلك فشلوا وضعفت نياتهم في القتال بحيث تؤخذ البلاد وتسلم إلى قرجان ، فلما سلموا حماة إلى قرجان سلم إليهم إياز بن إيلغازي. وكان قد سار إيلغازي وطغتكين وشمس الخواص إلى أنطاكية واستجاروا بصاحبها روجيل وسألوه أن يساعدهم على حفظ مدينة حماة ، فلما بلغهم فتحها ووصل إليهم بأنطاكية بغدوين صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من شياطين الفرنج اتفق رأيهم على ترك اللقاء لكثرة المسلمين وقالوا إنهم عند هجوم الشتاء يتفرقون ، واجتمعوا بقلعة أفامية وأقاموا نحو شهرين ، فلما انتصف أيلول ورأوا عزم المسلمين على المقام تفرقوا فعاد إيلغازي إلى ماردين وطغتكين إلى دمشق والفرنج إلى بلادها ، وكانت أفامية وكفر طاب للفرنج ، فقصد المسلمون كفر طاب وحصروها ، فلما اشتد الحصر على الفرنج ورأوا الهلاك قتلوا أولادهم ونساءهم وأحرقوا أموالهم ودخل المسلمون البلد عنوة وقهروا وأسروا صاحبه وقتلوا من بقي فيه من الفرنج ، وساروا إلى قلعة أفامية فرأوها حصينة فعادوا عنها إلى المعرة وهي للفرنج أيضا ، وفارقهم الأمير جيوش بك إلى وادي بزاعة فملكه ، وسارت العساكر عن المعرة إلى حلب وتقدمهم ثقلهم ودوابهم على جاري العادة والعساكر في إثره متلاحقة وهم آمنون لا يظنون أحدا يقوم على القرب منهم. وكان روجيل صاحب أنطاكية لما بلغه حصر كفر طاب سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمنع فوصل إلى المكان الذي ضربت فيه خيام المسلمين على غير علم بها فرآها خالية من الرجال المقاتلة لأنهم لم يصلوا إليها فنهب جميع ما هناك وقتل كثيرا من السوقية وغلمان العسكر ووصلت العساكر متفرقة فكان الفرنج يقتلون كل من وصل إليهم ، ووصل الأمير

٣٧٣

برسق في نحو مائة فارس فرأى الحال فصعد تلا هناك ومعه أخوه زنكي وأحاط بهم السوقية والغلمان واجتمعوا بهم ومنعوا الأمير برسق من النزول ، فأشار عليه أخوه زنكي ومن معه بالنزول والنجاة بنفسه ، فقال : لا أفعل بل أقتل في سبيل الله وأكون فداء المسلمين ، فغلبوه على رأيه فنجا هو ومن معه ، فتبعهم الفرنج نحو فرسخ ثم عادوا وتمموا الغنيمة والقتل وأحرقوا كثيرا من الناس ، وتفرق العسكر وأخذ كل واحد جهة ، ولما سمع الموكلون بالأسرى المأخوذين من كفر طاب ذلك قتلوهم وكذلك فعل الموكل بإياز بن إيلغازي قتله أيضا ، وخاف أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين التي بالشام فإنهم كانوا يرجون النصر من جهة هذا العسكر فأتاهم ما لم يكن في الحساب ، وعادت العساكر عنهم إلى بلادها ، وأما برسق وأخوه زنكي فإنهما توفيا سنة عشر وخمسمائة ، وكان برسق خيرا دينا وقد ندم على الهزيمة وهو يتجهز للعود إلى الغزاة فأتاه أجله اه.

سنة ٥١٠ و٥١١

ذكر قتل لؤلؤ الخادم واستيلاء إيلغازي بن أرتق على حلب

 وتولية ابنه حسام الدين تمرتاش

قال ابن العديم : أما لؤلؤ الخادم فإنه صار بعد ملازمة القلعة ينزل منها في الأحيان ويركب ، فاتفق أنه خرج في سنة عشر وخمسمائة بعسكر حلب والكتاب إلى بالس وهو في صورة متصيد ، فلما وصل إلى تحت قلعة نادر قتله الجند ، واختلف في خروجه فقيل إنه كان حمل مالا إلى قلعة دوسر وأودعه عند ابن مالك فيها وأراد ارتجاعه منه والعود إلى حلب ، وكان السلطان قد أقطع حلب والرحبة آقسنقر البرسقي فواطأ جماعة من أصحابه على قتل لؤلؤ وأمل أنهم إذا قتلوه يصح له إقطاع حلب ، فقتلوه وسار بعضهم إلى الرحبة فأعلموه فأسرع آقسنقر البرسقي المسير إلى حلب من الرحبة وانضاف بعض عسكره إلى بقية القوم الذين قتلوه وطمعوا في أخذ حلب لأنفسهم وساروا إليها ، فسبقهم ياروقتاش الخادم أحد خدم الملك رضوان ودخل حلب. وقيل إن لؤلؤ كان قد خاف فأخذ أمواله وخرج طالبا بلاد الشرق للنجاة بالأموال ، فلما وصل إلى قلعة نادر قال سنقر الجكرمش : تتركونه يقتل تاج الدولة ويأخذ الأموال ويمضي ، وصاح بالتركية : الأرنب الأرنب فضربوه بالسهام فقتلوه ،

٣٧٤

ولما خرج عن حلب أقامت القلعة في يد آمنة خاتون بنت رضوان يومين إلى أن وصل ياروقتاش الخادم مبادرا فدخل حلب ونزل بالقصر وأخرج بعض عسكر حلب وأوقع بالذين قتلوا لؤلؤ وارتجع ما كان أخذوه من عسكر حلب ، وانهزم بعض من كان في النوبة فالتقوا آقسنقر في بالس في أول محرم سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، ولم يتسهل للبرسقي ما أمل وراسل أهل حلب ومن بها في التسليم إليه فلم يجيبوه إلى ذلك ، وكاتب ياروقتاش الخادم نجم الدين إيلغازي بن أرتق ليصل من ماردين ويدفع آقسنقر وكاتب روجار صاحب أنطاكية أيضا ، فوصل إلى بلد حلب وأخذ ما قدر عليه من أعمال الشرقية ، فحينئذ أيس البرسقي من حلب وانصرف من أرض بالس إلى حمص فأكرمه خير خان صاحبها وسار معه إلى طغتكين إلى دمشق فأكرمه ووعده بإنجاده على حلب.

وهادن ياروقتاش صاحب أنطاكية روجار وحمل إليه مالا وسلم إليه حصن القبة ورتب مسير القوافل من حلب إلى القبلة عليه وأن يؤخذ المكس منهم له. ثم إن ياروقتاش طلع إلى قلعة حلب وعزم على أن يعمل حيلة يوقعها بالمتقدمين ويملكها مثل لؤلؤ ، فقبض عليه مقدمو القلعة بأمر بنات رضوان بعد تمام شهر من ولايته وأخرجوه من حلب وولوا في القلعة خادما من خدم رضوان ، وردّ أمر سلطان شاه وتقدمة العسكر وتدبير الأمر إلى عارض الجيش العميد أبي المعالي المحسن بن الملحي ، فدبر الأمور وساسها ، وضعفت حلب وقل ارتفاعها وخربت أعمالها ، ووصل إيلغازي بن أرتق إلى حلب فأنزلوه في قلعة الشريف ومنعوه من القلعة الكبيرة ، واستولى على تدبير الأمور وتربية سلطان شاه في سنة إحدى عشرة وخمسمائة وسلموا إليه بالس والقلعة ، وقبض أبا المعالي بن الملحي وقصر ارتفاع حلب عما يحتاج إليه إيلغازي والتركمان الذين معه ولم ينتظم حال واستوحش من أهل حلب وجندها ، فخرج عنها إلى ماردين وبقيت بالس والقلعة في يده ، وخرج ابن الملحى من الاعتقال وأعيد إلى تدبير الأمور وأفسد الجند الذين ببالس في أعمال حلب ، فاستدعوا الفرنج ، وخرج بعض عسكر حلب ومعهم قطعة من الفرنج وحصروها فوصل إيلغازي وجمع من التركمان إليها فعاد عسكر حلب والفرنج عن بالس وباعها لابن مالك وعاد إلى ماردين وبقي تمرتاش ولده رهينة في حلب.

٣٧٥

ووصل في هذه السنة أتابك طغتكين وأقسنقر البرسقي إلى حلب وراسلوا أهلها في تسليمها ، فامتنعوا من إجابته وقالوا : ما نريد أحدا من الشرق ، وأنفذوا واستدعوا الفرنج من أنطاكية لدفعه عنهم ، فعاد آقسنقر من الرحبة وأتابك إلى دمشق ، واشتد الغلاء بأنطاكية وحلب لأن الزرع غرق ولحقه هواء عند إدراكه أتلفه ، وهرب الفلاحون للخوف ، واستدعى أهل حلب ابن قراجا من حمص فرتب الأمور بها وحصنها وسار إلى حلب ونزل في القصر خوفا من إيلغازي لما كان بينهما ، وخرج أتابك إلى حمص ونهب أعمالها وشعثها وأقام عليها مدة وعاد إلى دمشق لحركة الفرنج ، وخرجت قافلة من دمشق إلى حلب فيها تجار غيرها وحملوا ذخائرهم وأموالهم لما قد أشرف عليه أهل حلب ، فلما وصلوا إلى القبة نزل الفرنج إليهم وأخذوا منهم المكس ثم عادوا وقبضوهم وما معهم بأسرهم ورفعوهم إلى القبة وحملوا الرجال والنساء بعد ذلك إلى أفامية ومعرة النعمان وحبسوهم ليقرروا عليهم مالا ، فراسلهم أبو المعالي بن الملحي ورغبهم في البقاء على الهدنة وأن لا ينقضوا العهد وحمل إلى صاحب أنطاكية مالا وهدية فرد عليهم الأحمال والأثقال وغير ذلك ولم يعدم منه شيء ، وقوي طمع الفرنج في حلب لعدم النجدة وضعفها وغدروا ونقضوا الهدنة وأغاروا على بلد حلب وأخذوا مالا لا يحصيه إلا الله ، فراسل أهل حلب أتابك طغتكين فوعدهم بالإنجاد فكسره جوسلين وعساكر الفرنج ، وراسلوا صاحب الموصل وكان أمره مضطربا بعد عوده من بغداد ، ونزل الفرنج بعد عودهم من كسرة أتابك على عزاز وضايقوها وأشرفت على الأخذ ، وانقطعت قلوب أهل حلب ولم يكن بقي لحلب معونة إلا من عزاز وبلدها وبقية بلد حلب في أيدي الفرنج والشرقي خراب مجدب والقوت في حلب قليل جدا ومكوك الحنطة بدينار وكان إذ ذاك لا يبلغ نصف مكوك بمكوك حلب الآن وما سوى ذلك مناسب له ، ويئس أهل حلب من نجدة تصلهم من أحد الملوك ، فاتفق رأيهم على أن يسيروا الأعيان والمقدمين إلى إيلغازي بن أرتق ويستدعوه ليدفع الفرنج عنهم وظنوا أنه يصل في عسكر يفرج به عنهم وضمنوا له مالا يقسطونه على حلب يصرفه إلى العساكر ، فوصل في جند يسير والمدبر لحلب جماعة من الخدم والقاضي أبو الفضل بن الخشاب هو المرجوع إليه في حفظ المدينة والنظر في مصالحها ، فامتنع عليه البلد واختلف الآراء في دخوله ، فعاد فلحقه القاضي أبو الفضل بن الخشاب وجماعة من المقدمين وتلطفوا به ، ولم يزالوا به حتى رجع ووصل إلى حلب ودخلها وتسلم القلعة وأخرج منها سائر الجند وأصحاب

٣٧٦

رضوان وأنزل سلطان شاه بن رضوان وبنات رضوان في دار من دور حلب وقبض على جماعة ممن كان يتعلق بالخدم ويخدمهم وأخذ منهم ما كان صار إليهم من مال رضوان ومال الخدم الذين استولوا على حلب بعده ، وراسل الفرنج في مال يحمله عن عزاز ليرحلوا عنها فلم يلتفتوا لقوة أطماعهم في أمر الإسلام ، وكان إيلغازي يعجز بحلب عن قوت الدواب وحلب على حد التلف ، فلما عرف من بعزاز ذلك ويئسوا من دفع الفرنج سلموها إلى الفرنج وراسلهم من بحلب في صلح يستأنفونه معهم فأجابوا إلى ذلك لطفا من الله بهم على أن يسلموا إلى الفرنج هراق ويؤدون القطيعة المستقرة على حلب عن أربعة أشهر وهي ألف دينار ويكون لهم من حلب شمالا وغربا ، وزرعوا أعمال عزاز وقوّوا فلاحهم وعادوا إلى أنطاكية وصار يدخل إلى حلب ما يتبلغون به من القوت. وسار إيلغازي إلى الشرق ليجمع العساكر ويعود بها إلى حلب فسار إليه أتابك طغتكين والتقاه بقلعة دوسر ووافقه على ذلك ، وسارت الرسل إلى ملوك الشرق والتركمان يستنجدونهم ، وكان ابن بديع رئيس حلب عند ابن مالك بقلعة دوسر ، فنزل إلى إيلغازي ليطلب منه العود إلى حلب ، فلما صار عند الزورق ليقطع الماء إلى العسكر وثب عليه اثنان من الباطنية فضرباه عدة سكاكين ووقع ولداه عليهما فقتلاهما وقتل ابن بديع وأخذ ولديه وجرح الآخر وحمل إلى القلعة فوثب آخر من الباطنية وقتله وحمل الباطني ليقتل فرمى بنفسه في الماء وغرق.

تتمة لهذه الحوادث :

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٥١١ : في هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم وكان قد استولى على قلعة حلب وأعمالها بعد وفاة الملك رضوان وولى أتابكيته ولده آلب أرسلان ، فلما مات أقام بعده في الملك سلطانشاه بن رضوان وحكم في دولته أكثر من حكمه في دولة أخيه ، فلما كان هذه السنة سار منها إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك صاحبها ، فلما كان عند قلعة نادر نزل يريق الماء فقصده جماعة من أصحابه الأتراك وصاحوا أرنب أرنب وأوهموا أنهم يتصيدون ، ورموه بالنشاب فقتل ، فلما هلك نهبوا خزائنه فخرج إليهم أهل حلب فاستعادوا ما أخذوه وولى أتابكيته سلطانشاه بن رضوان شمس الخواص ياروقتاش فبقي شهرا وعزلوه وولي بعده أبو المعالي بن المفلحي الدمشقي ، ثم عزلوه

٣٧٧

وصادروه. وقيل كان سبب قتل لؤلؤ أنه أراد قتل سلطانشاه كما قتل أخاه آلب أرسلان قبله ففطن به أصحاب سلطانشاه فقتلوه.

ثم إن أهل حلب خافوا من الفرنج فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي ، فلما تسلمه لم يجد فيه مالا ولا ذخيرة لأن الخادم كان قد فرق الجميع ، وكان الملك رضوان قد جمع فأكثر فرزقه الله غير أولاده ، فلما رأى إيلغازي خلو البلد من الأموال صادر جماعة من الخدم بمال صانع به الفرنج وهادنهم مدة يسيرة تكون بمقدار مسيره إلى ماردين ، وجمع العساكر والعود ، فلما تمت الهدنة سار إلى ماردين على هذا العزم واستخلف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش اه ، وبه انقرض ملك بني رضوان السلجوقيين من حلب.

وفي المختار من الكواكب المضية أن إيلغازي بن أرتق لما غلب على ملك حلب وتسلم قلعتها أنزل سلطانشاه وإبراهيم وبنات رضوان من القلعة في دار من دور حلب ، ثم إنه أخرجهم جميعا من حلب وذلك في سنة خمس عشرة وخمسمائة إلى قلعة ابن مالك ثم انتقلوا إلى حران.

وفي هذه السنة توفي السلطان محمد بن ملكشاه بن آلب أرسلان وجلس على تخت السلطنة بعده ابنه السلطان محمود.

سنة ٥١٢

استنجاد إيلغازي بملوك بغداد

قال ابن الأثير : في هذه السنة وصل رسول إيلغازي بن أرتق صاحب جلب وماردين إلى بغداد يستنفر على الفرنج ويذكر ما فعلوا بالمسلمين في الديار الجزيرية وأنهم ملكوا قلعة عند الرها وقتلوا أميرها ابن عطير ، فسيرت الكتب بذلك إلى السلطان محمود.

سنة ٥١٣

ذكر غزاة إيلغازي بن أرتق بلاد الفرنج وتولية ولده سليمان على حلب

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب فملكوا بزاعة وغيرها وأخربوا بلد حلب ونازلوها ، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهرا

٣٧٨

واحدا ، وخافهم أهلها خوفا شديدا ولو مكنوا من القتال لم يبق بها أحد ، لكنهم منعوا من ذلك وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب ، فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون ويطلبون النجدة فلم يغاثوا ، وكان الأمير إيلغازي صاحب بلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة فاجتمع عليه نحو عشرين ألفا ، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي والأمير طغان أرسلان بن المكر صاحب بدليس وأرزن وسار بهم إلى الشام عازما على قتال الفرنج ، فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم وكانوا ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ساروا فنزلوا قريبا من الأثارب بموضع يقال له تل عفرين بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات ، وفي هذه الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش ، وظن الفرنج أن أحدا لا يسلك إليهم لضيق الطريق فأخلدوا إلى المطاولة ، وكانت عادة لهم إذا رأوا قوة من المسلمين. وراسلوا إيلغازي يقولون له لا تتعب نفسك بالمسير إلينا فنحن واصلون إليك ، فأعلم أصحابه بما قالوه واستشارهم فيم يفعل فأشاروا بالركوب من وقته وقصدهم ، ففعل ذلك وسار إليهم ودخل الناس من الطرق الثلاثة ولم تعتقد الفرنج أن أحدا يقدم عليهم لصعوبة المسلك ، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيهم ، فحمل الفرنج حملة منكرة فولوا منهزمين فلقوا باقي العسكر متتابعة ، فعادوا معهم وجرى بينهم حرب شديدة وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم ، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم فلم يفلت منهم غير نفر يسير ، وقتل الجميع وأسروا ، وكان في جملة الأسرى نيف وسبعون فارسا من مقدميهم ، وحملوا إلى حلب فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم ، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة وأما ( سيرجال ) صاحب أنطاكية فإنه قتل وحمل رأسه. وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول ، فمما مدح به إيلغازي في هذه الوقعة قول العظيمي :

قل ما تشاء فقولك المقبول

و عليك بعد الخالق التعويل

و استبشر القرآن حين نصرته

و بكى لفقد رجاله الإنجيل

ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم فلقيهم إيلغازي أيضا فهزمهم وفتح منهم

٣٧٩

حصن الأثارب وزردنا وعاد إلى حلب وقرر أمرها وأصلح حالها ، ثم عبر الفرات إلى ماردين (١)

تتمة حوادث سنة ٥١٣

زيادة بيان لهذه الحوادث :

قال ابن العديم توجه إيلغازي إلى ماردين ومعه أتابك وراسلا من بعد وقرب من عساكر المسلمين والتركمان فجمعا عسكرا عظيما وتوجه إيلغازي في عسكر يزيد عن أربعين ألفا في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة وقطع الفرات من عبر بدايا وسبخة وامتدت عساكره في أرض تل باشر وتل خالد وما يقاربهما يقتل وينهب ويأسر وغنموا كل ما قدروا عليه ، ووصل من رسل حلب من يستحثه على الوصول لتواصل غارات الفرنج من جهة الأثارب على حلب وإياس أهلها من أنفسهم ، فسار إلى مرج دابق ثم إلى المسلمية ثم قنسرين في أواخر صفر من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ، وسارت سراياهم في أعمال الفرنج والروج يقتلون ويأسرون ، وأخذوا حصن قسطون في الروج ، وجمع سرجال صاحب أنطاكية الفرنج والأرمن وغيرهم وخرج إلى جسر الحديد ، ثم رحلوا ونزلوا بالبلاط بين جبلين مما يلي درب سرمدا شمالي الأثارب ، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول ، وضجر الأمراء من طول المقام وإيلغازي ينتظر أتابك طغتكين ليصل إليه ويتفقا على ما يفعلانه ، فاجتمعوا وحثوا إيلغازي على مناجزة العدو ، فجدد إيلغازي الأيمان على الأمراء والمقدمين أن يناصحوا في حربهم ويصابروا في قتال العدو وأنهم لا يتكلون ويبذلون مهجهم في الجهاد ، فحلفوا على ذلك بنفس طيبة ، وسار المسلمون جرايد وخلفوا الخيام بقنسرين وذلك في يوم الجمعة السادس عشر من شهر ربيع الأول فباتوا قريبا من الفرنج وقد شرعوا في عمارة حصن مطل على تل عقبرين ، والفرنج يتوهمون أن المسلمين ينازلون الأثارب أو زردنا ، فما شعروا عند الصبح إلا ورايات المسلمين قد أقبلت وأحاطوا بهم من كل جانب ، وأقبل القاضي أبو الفضل بن الخشاب يحرض الناس على القتال وهو راكب على حجر وبيده رمح ، فرآه

__________________

(١) أقول : ويغلب على الظن أنه في قدمته هذه إلى حلب ولى عليها ولده سليمان الذي عصى عليه سنة ٥١٥ كما سيأتي.

٣٨٠