إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

ذلك البرج ، فدخله الرعب وفتح باب البلد وخرج هاربا في ثلاثين غلاما على وجهه ، فجاء نائبه في حفظ البلد فسأل عنه فقيل إنه هرب ، فخرج من باب آخر هاربا ، وكان ذلك معونة للفرنج ولو ثبت ساعة لهلكوا ، ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب ونهبوه وقتلوا من فيه من المسلمين وذلك في جمادى الأولى ، وأما باغيسيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله وكان كالولهان فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ ، فقال لمن معه : أين أنا ؟ فقيل : على أربعة فراسخ من أنطاكية ، فندم كيف خلص سالما ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل ، وجعل يتلهف ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين ، فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشيا عليه ، فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت ، فتركوه وساروا عنه واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب وهو بآخر رمق فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الإفرنج بأنطاكية ، وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب ودمشق بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم لا نطلب سواها مكرا منهم وخديعة حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية.

زيادة بيان لهذه الحوادث :

قال ابن العديم في بغية الطلب : وفي المحرم من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة خرج نحو ثلاثين ألفا من الفرنج إلى أعمال المسلمين ببلد حلب فأفسدوا ونهبوا وقتلوا من وجدوا ، وكان قد وصل الملك دقاق وأتابك ومعهما جناح الدولة ونزلوا أرض شيزر ومعهم ابن باغيسيان وهم سائرون لإنجاد أبيه ، وبلغهم هذه السرية فساروا إليها بقطعة من العساكر فلقيهم في أرض البارة فقتلوا منهم جماعة وعاد الفرنج إلى الروج وعرّجوا منه إلى معرة مصرين فقتلوا من وجدوا وكسروا منبرها ، وحين عاد العسكر الدمشقي من البارة فارقهم ابن باغيسيان ووصل إلى حلب يستنجد بالملك رضوان ، فأخذ عسكر حلب وسكمان ودخل بهما إلى أنطاكية فلقيهم من الفرنج دون عدتهم فانهزم عسكر المسلمين إلى حارم وذلك في آخر صفر ، وتبعهم عسكر الفرنج إلى حارم فانهزموا إلى حلب وغلب أهل حارم من الأرمن عليها.

وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة وصل خلق من الأرمن إلى تل قباسين بناحية الوادي فقتلوا من فيه وخرج المسلمون الذين بالوادي وجماعة من الأتراك تبعوهم قتلوا منهم جماعة والتجأ الباقون إلى بعض الحصون الخربة ، فأدركهم عسكر حلب فقاتلهم يومين

٣٤١

وأخذهم فقتلوا بعضهم وحمل الباقي أسرى إلى حلب فقتلوا وكانوا يزيدون عن ألف وخمسمائة ، ولما نزل الفرنج بأنطاكية جعلوا بينهم وبين البلد خندقا لأجل غارات عسكر أنطاكية عليهم وكثرة الظفر بهم ، ولا يكاد يخرج عسكر أنطاكية ويعود إلا ظافرا ، وجعل باغيسيان يستصرخ الناس على البعد والقرب ، وكان حسن التدبير في سياسة العسكر ، وجمع كربغا صاحب الموصل عسكرا عظيما وقطع به الفرات ، ووصل دقاق وطغتكين وجناح الدولة ، ووصل سكمان بن أرتق وفارق رضوان وصار مع دقاق ، ووصل وثاب بن محمود ومعه جماعة من العرب ووصلوا تل منس وقاتلوها لأنه بلغهم أنهم كاتبوا الفرنج وأطمعوهم في الشام ، وقرر عليهم دقاق مالا أخذ بعضه ورهائن على الباقي وسيرهم إلى دمشق ، وسار دقاق والعساكر إلى مرج دابق واجتمع بكربغا فيه في آخر جمادى الآخرة ورحلوا منه نحو أنطاكية.

فلما كان ليلة الخميس أول ليلة من رجب واطأ رجل يعرف بالزرّاد من أهل أنطاكية وغلمان له على برج كانوا يتولون حفظه ، وذلك أن باغيسيان قد كان صادر هذا الزرّاد وأخذ ماله وغلته ، فحمله الحنق على أن كاتب ميمند ( بيمند ) وقال : أنا في البرج الفلاني وأنا أسلم إليك أنطاكية إن أمنتني وأعطيتني كذا وكذا ، فبذل له ما طلب وكتم أمره عن باقي الفرنج تسعة قوامص مقدمين عليهم كندافري وأخوه القمص وميمند وابن أخته طنكريد وصنجيل وبغدوين وغيرهم ، فجمعهم ميمند وقال لهم : هذه أنطاكية إن فتحناها لمن تكون ؟ فاختلفوا وكل طلبها لنفسه ، فقال : الصواب أن يحاصرها كل رجل منا جمعة فمن فتحت في جمعته فهي له ، فرضوا بذلك ، فلما كانت نوبته دلى لهم الزرّاد لعنه الله حبلا فطلعوا من السور وتكاثروا ورفع بعضهم بعضا وجاؤوا إلى الحراس فقتلوهم ، وتسلمه ميمند بن الأسكرت وطلع الفرنج في سجرة هذه الليلة إلى البلد وصاح الصايح من ناحية الجبل ، فتوهم باغيسيان أن القلعة قد أخذت ، وخرج من البلد جماعة منهزمين فلم يسلم منهم أحد ، ولما حصل بالقرب من أرمناز ومعه خادم من غلمانه وقع عن ظهر فرسه فحمله الخادم الذي كان معه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وعاد فسقط وأدركه الأرمن فهرب الخادم عنه ، وقتله الأرمن وحملوا رأسه إلى الفرنج ، واستشهد في ذلك اليوم بأنطاكية ما يفوت الإحصاء ويجاوز العدد ونهبت الأموال والآلات والسلاح وسبي من كان بأنطاكية ، ووصل هذا الخبر إلى عمّ وإنّب فهرب من كان بهما من المسلمين وتسلمها الأرمن.

٣٤٢

ذكر مسير المسلمون إلى الفرنج وما كان منهم

قال ابن الأثير : لما سمع قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل بحال الفرنج وملكهم أنطاكية جمع العساكر وسار إلى الشام وأقام بمرج دابق واجتمعت معه عساكر الشام تركها وعربها سوى من كان بحلب ، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان تاش صاحب سنجار وسليمان بن أرتق وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم ، فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم وخافوا لما هم فيه من الوهن وقلة الأقوات عندهم ، وسار المسلمون فنازلوهم على أنطاكية. وأساء كربوقا السيرة فيمن معه من المسلمين وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظنا منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال ، فأغضبهم ذلك وأضمروا بأنفسهم الغدر إذا كان قتال وعزموا على إسلامه عند المصدوقة ، وأقام الفرنج بأنطاكية بعد أن ملكوها اثني عشر يوما ليس لهم ما يأكلونه وتقوت الأقوياء بدوابهم والضعفاء بالميتة وورق الشجر ، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد ، فلم يعطهم ما طلبوا وقال : لا تخرجون إلا بالسيف ، وكان معهم من الملوك بردويل وصنجيل وكندفري والقمص صاحب الرها وبيمند صاحب أنطاكية وهو المقدم عليهم ، وكان معهم راهب مطاع فيهم وكان داهية من الرجال فقال لهم : إن المسيح عليه‌السلام كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية وهو بناء عظيم فإن وجدتموها فإنكم تظفرون وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق ، وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه وعفى أثرها وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم ومعهم عامتهم والصناع منهم وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر فقال لهم : أبشروا بالظفر ، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة وستة ونحو ذلك فقال المسلمون لكربوقا : ينبغي أن نقف على الباب فنقتل كل من يخرج فإن أمرهم الآن وهم متفرقون سهل ، فقالا : لا تفعلوا أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم ، ولم يمكن من معاجلتهم فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين فجاء إليهم هو بنفسه ومنعهم ونهاهم ، فلما تكامل خروج الفرنج ولم يبق بأنطاكية أحد منهم ضربوا مصافا عظيما فولى المسلمون منهزمين لما عاملهم به كربوقا أولا من الاستهانة لهم والإعراض

٣٤٣

عنهم وثانيا من منعهم عن قتل الفرنج ، وتمت الهزيمة عليهم ولم يضرب أحد منهم بسيف ولا طعن برمح ولا رمي بسهم ، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق وجناح الدولة لأنهما كانا في الكمين ، وانهزم كربوقا معهم ، فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله وخافوا أن يتبعوهم وثبت جماعة من المجاهدين وقاتلوا حسبة وطلبا للشهادة ، فقتل الفرنج منهم ألوفا وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوتهم.

سنة ٤٩٢

ذكر ملك الفرنج معرة النعمان

قال ابن الأثير : لما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا سار إلى معرة النعمان فنازلوها وحصروها وقاتلهم أهلها قتالا شديدا ، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية ولقوا منهم الجد في حربهم والاجتهاد في قتالهم ، فعملوا عند ذلك برجا من خشب يوازي سور المدينة ووقع القتال عليه فلم يضر المسلمين ذلك ، فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين وتداخلهم الفشل والهلع وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها ، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه ، فرآهم طائفة أخرى ففعلوا كفعلهم فخلا مكانهم أيضا من السور ولم تزل تتبع طائفة منهم التي تليها في النزول حتى خلا السور ، فصعد الفرنج إليه على السلاليم ، فلما علوه تحير المسلمون ودخلوا دورهم ، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام (١) فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبوا السبي الكثير وملكوه وأقاموا أربعين يوما ، وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة نقوب فلم يقدروا عليها ، وراسلهم منقذ صاحب شيزر فصالحهم عليها ، وساروا إلى حمص وحصروها فصالحهم صاحبها جناح الدولة ، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها.

__________________

(١) قال ابن الوردي في تتمة المختصر : وفي ذلك يقول بعض المعريين وما أحسن ما جادت تورية الاثنين والخميس والأحد

معرة الأذكياء قد حردت

عنا وحق المليحة الحرد

في يوم الاثنين كان موعدهم

فما نجا من خميسهم أحد

٣٤٤

زيادة بيان لهذه الحوادث :

قال ابن العديم : في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة عصى عمر والي أعزاز على الملك رضوان ، فخرج عسكر حلب وحصره فاستنجد بالفرنج ، فوصل صنجيل بعسكر كبير ، فعاد عسكر حلب فنهب صنجيل ما قدر عليه وعاد إلى أنطاكية وأخذ ابن عمر رهينة فمات عنده ، فوقع الملك رضوان على عمر إلى أن أخذه الله من تل هراق فسلم إليه أعزاز وأقام عنده بحلب مدة ثم قتله.

وخرج صنجيل في ذي الحجة وحصر البارة فقل الماء فأخذها بالأمان وغدر بأهلها وعاقب الرجال والنساء واستصفى أموالهم وسبى بعضا وقتل بعضا ، ثم خرج بقية الفرنج من أنطاكية والأرمن الذين في طاعتهم والنصارى وانضموا إليه ووصلوا إلى معرة النعمان لليلتين بقيتا من ذي الحجة في مائة ألف وحصروا معرة النعمان في سنة اثنتين وتسعين وقطعوا الأشجار ، واستغاث أهلها بالملك رضوان وجناح الدولة فلم ينجدهم أحد ، وعمل الفرنج برجا من خشب يحكم على السور وزحفوا إلى البلد وقاتلوه من جميع نواحيه حتى لصق البرج بالسور ، فكشفوه وأسندوا السلالم إلى السور وثبت الناس في الحرب من الفجر إلى صلاة المغرب ، وقتل على السور وتحته خلق كثير ، ودخلوا البلد بعد المغرب ليلة الأحد الرابع والعشرين من محرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ، ودخل عسكر الفرنج جميعه إلى البلد وانهزم بعض الناس إلى دور حصينة وطلبوا الأمان من الفرنج فأمنوهم وقطعوا على كل دار قطيعة واقتسموا الدور وهجموها وناموا فيها وجعلوا يهدّدون الناس حتى أصبح الصبح ، فاخترطوا سيوفهم ومالوا على الناس وقتلوا منهم خلقا وسبوا النساء والصبيان ، وقتل فيها أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة وصبي [ وهذا أصح مما ذكره ابن الأثير من أنهم قتلوا مائة ألف ] ولم يسلم إلا القليل ممن كان في شيزر وغيرها من بني سليم وبني أبي حصين وغيرهم ، وقتلوا تحت العقوبة جمعا كثيرا ، فاستخرجوا ذخائر الناس ومنعوا الناس من الماء وباعوه منهم فهلك أكثر الناس من العطش ، وملكوها ثلاثة وثلاثين يوما بعد الهجمة ولم يبقوا ذخيرة بها إلا استخرجوها وهدموا سور البلد وأحرقوا مساجده ودوره وكسروا المنابر ، وعاد ميمند إلى أنطاكية وقمص الرها إليها.

وفي هذه السنة أي سنة ٤٩٢ فتحوا بيت المقدس وفعلوا فيها كما فعلوا بالمعرة اه.

٣٤٥

سنة ٤٩٣

قال ابن العديم : في هذه السنة وصل مبارك بن شبل أمير بني كلاب في جمع كثير من العرب فخالف الملك رضوان ورعوا زرع المعرة وكفر طاب وحماة وشيزر والجسر وغير ذلك ، وخلت البلاد ووقع الغلاء في بلد حلب ولم يزرع شيء في بلدها وسلط الله الوباء على العرب فمات شبل ومبارك ولده واضمحلت دولة العرب ، وتوجه الملك رضوان في سلخ رجب من هذه السنة إلى الأثارب وأقام عليها أياما ، وتوجه إلى كلافي الخامس والعشرين من شعبان لإخراج الفرنج منها ، واجتمع من كان في الجزر وزردنا وسرمين من الفرنج والتقوا فانهزم رضوان واستبيح عسكره وقتل خلق كثير وأسر قريب من خمسمائة نفس وفيهم بعض الأمراء ، وعاد الفرنج إلى الجزر وأخذوا برج كفر حلب وبرج الحاضر وصار لهم من كفر طاب إلى الحاضر ومن حلب غربا سوى تل منس ، فإن أصحاب جناح الدولة كانوا بها ، وسار رضوان عقيب هذه النكبة إلى حمص مستنجدا بجناح الدولة فأجابه وعاد إلى حلب ومعه جناح الدولة وقد عاد الفرنج إلى أنطاكية ، فأقام جناح الدولة بظاهر حلب أياما فلم يلتفت إليه رضوان ، فعاد عنه إلى حمص وتجمع الفرنج بالجزر وسرمين وأعمال حلب وجمعوا العدد والغلال لحصار حلب وعولوا على حصارها في سنة خمس وتسعين وقيل قبلها ، ووصل ميمند وطنكريد إلى قريب حلب فنزلوا بالمشرفة من الجانب القبلي على نهر قويق لما بلغهم من ضعف رضوان وتمزيق عسكره وعزموا أن يبنوا مشهد قرنبيا حصونا وأن يقيموا على حلب ويستغلوا بلدها ، فأقاموا في تدبير ذلك يوما أو يومين ، فبلغهم خروج أنوشتكين الدانشمند وأنه قد نازل بعض معاقل الفرنج وهي ملطية ، فعادوا للدفع عنها فخرج الدانشمند فلقي ميمند وجمعا من الفرنج بأرض مرعش فأسره وقتل عسكره ولم يفلت منهم أحد ، فخيب الله ظن الفرنج وهربوا من أعمال حلب وتركوا ما كانوا أعدوه.

فخرج رضوان وأخذ الغلال التي جمعوها ونزل سرمين ، وسار جناح الدولة إلى أسفونا وبه جماعة من الفرنج فهجمه وقتل جميع من فيه ، وسار إلى سرمين فكبس عسكر الملك رضوان ونهبه ، وانهزم رضوان وأكثر عسكره وأسر الوزير أبا الفضل بن الموصول وجماعة وحملهم إلى حمص ، وطلب الحكيم المنجم الباطني فلم يظفر به ، وكان هذا الحكيم

٣٤٦

قد أفسد ما بينه وبين رضوان واستمال رضوان إلى الباطنية جدا وظهر مذهبهم في حلب ، وشايعهم رضوان وحفظ جانبهم وصار لهم بحلب الجاه العظيم والقدرة الزائدة وصارت لهم دار الدعوة بحلب في أيامه ، وكاتبه الملوك في أمرهم فلم يلتفت ولم يرجع عنهم ، فوصل هذا الحكيم سالما في جملة من سلم في هذه الوقعة ، واستغل جناح الدولة سرمين ومعرة النعمان وكفر طاب وحماة ، وفدى الوزير ابن الموصل نفسه من جناح الدولة بأربعة آلاف دينار وفدى أصحاب الملك نفوسهم أيضا بمال حملوه إليه ولم يبق في أيدي المسلمين في سنة ست وتسعين إلا حصن بسرفوث من عمل بني عليم.

سنة ٤٩٤

ذكر ملك الفرنج مدينة سروج

قال ابن الأثير : في هذه السنة ملك الفرنج مدينة سروج من بلاد الجزيرة وسبب ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلها لأن أكثرهم أرمن وليس بها من المسلمين إلا القليل ، فلما كان الآن جمع سقمان بسروج جمعا كثيرا من التركمان وزحف إليهم فلقوه وقاتلوه فهزموه في ربيع الأول ، فلما تمت الهزيمة على المسلمين سار الإفرنج إلى سروج فحصروها وتسلموها وقتلوا كثيرا من أهلها وسبوا حريمهم ونهبوا أموالهم ولم يسلم إلا من مضى منهزما. اه.

سنة ٤٩٥

ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ٤٩٣ أن كمشتكين بن الدانشمند طايلو صاحب ملطية وسيواس لقي بيمند الفرنجي ( صاحب أنطاكية ) وهو من مقدمي الفرنج قريب ملطية فانهزم بيمند وأسر.

وقال في حوادث هذه السنة سنة ٤٩٥ : إن ابن الدانشمند أطلق بيمند صاحب أنطاكية وأخذ منه مائة ألف دينار وشرط عليه إطلاق ابنة باغيسيان الذي كان صاحب أنطاكية وكانت في أسره ، ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية فقويت نفوس أهلها به ، ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة ، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها ابن الدانشمند.

٣٤٧

سنة ٤٩٦

قال ابن العديم : في هذه السنة تسلم دقاق الرحبة ، وكان المقيم بها زوج آمنة بنت قيماز ، وكان قيماز من أصحاب كربغا فمات وكانت الرحبة له ، وكان جناح الدولة قد خرج إليها فوجد الأمر قد فات فعاد ونزل النقرة ، وخرج إليه رضوان إلى النقرة واصطلحا وأخذه معه إلى ظاهر حلب وضرب له خياما وأقام في ضيافته عشرة أيام ولم يصف قلب أحد منهما لصاحبه ، وسار جناح الدولة إلى حمص فسير الحكيم المنجم الباطني ثلاثة أعجام من الباطنية فاغتالوه وقد نزل يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب لصلاة الجمعة ، فقتلوه وقتلوا بعض أصحابه وقتلوا ، وقيل إن ذلك كان بأمر رضوان ورضاه ، وبقي المنجم الباطني بعده أربعة وعشرين يوما ومات ، وأقام بعده بأمر الدعوة الباطنية بحلب رفيقه أبو طاهر الصايغ العجمي.

ووصل صنجيل الفرنجي ونزل على حمص بعد قتل جناح الدولة بثلاثة أيام فسيرت زوجته خاتون أم الملك رضوان تستدعيه لتسلم إليه حمص ويدفع الفرنج ، فكره المقدمون ذلك وخافوا منه لسوء رأيه فيهم وسيروا إلى نواب دقاق إلى دمشق ، وكان دقاق بالرحبة ، فسار إيستكين الحلبي من دمشق ودخلها وطلع القلعة ووصل رضوان إلى القبة فبلغه الخبر ، وعاد ورحل صنجيل عنها بعد أن قرر عليهم مالا ، ووصل دقاق فتسلم حمص وأحسن إلى أهلها ونقل أهل جناح الدولة وأولاده إلى دمشق وسلم حمص إلى طغتكين وسار إلى عزاز وأغار على الجومة وهي من عمل أنطاكية ، فخرج عسكر أنطاكية وعسكر الرها فنزلوا المسلمية وقتلوا بعض أهلها وقطعوا على عدة مواضع قطايع أخذوها وأقاموا ببلد حلب أياما ، وراسلوا الملك رضوان واستقر الحال على سبعة آلاف دينار وعشرة رؤوس من الخيل ويطلقون الأسرى ما خلا من أسروه على المسلمية من الأمراء وذلك في سنة ست وتسعين.

ثم خرج الفرنج من تل باشر وأغاروا على بلد حلب الشمالي والشرقي وأحرقوه وتكرر ذلك منهم ، ونزلوا على حصن بسرفوث وفتحوه بالأمان ووصلوا إلى كفر لاثا فكبسهم بنو عليم فانهزموا إلى بسرفوث ، ووقع بين الفرنج وبين سكمان وجكرمش وقعة عظيمة استظهر فيها المسلمون وهلك الفرنج وأسر القمص وغنم المسلمون غنيمة عظيمة ، وكان الملك رضوان

٣٤٨

قد سار إلى الفرات ينتظر ما يكون من خبر الفرنج ، فلما وصله الخبر أنفذ إلى الجزر وغيره من أعمال حلب التي في أيدي الفرنج فأمرهم بالقبض على من عندهم من الفرنج ، فوثب أهل الفوعة وسرمين ومعرة مصرين وغيرها ففعلوا ذلك ، وطلب بعض الفرنج الأمان من رضوان فأمنهم من القتل وحملهم أسرى ولم يبق بأيدي الفرنج غير الجبل وهاب وحصون معرة وكفر طاب وصوران ، فوصل شمس الخواص وفتح صوران فهرب من كان بلطمين وكفر طاب وبلد المعرة والبارة إلى أنطاكية وسلموها إلى رضوان وأصحابه ما خلا هاب ، واسترجع رضوان بالس والفايا ممن كان بهما من أصحاب جناح الدولة ، وجرى بحماة خلف وخافوا من شمس الخواص فكاتبوا رضوان وسلموها إليه وسلمية ، فأمنت أعمال حلب وتراجع أهلها إليها وقوى جأش رضوان ، واتصلت غارات أهل حلب إلى بلد أنطاكية وعرف ميمند ضعفه عن حفظ البلد وأنه لم يفلت من وقعة سكمان إلا في نفر قليل وخاف من المسلمين فسار إلى بلاده في البحر يستنجد بمن يخرج بهم إلى البلاد واستخلف ابن أخته ( ابن أخيه ) طنكريد يدبر أمر أنطاكية والرها.

سنة ٤٩٦

ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبر

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر ، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين وأبعدوا يوما واحدا تكون الغارة على البلدين فيه ، ففعلوا ما استقر بينهم وأغاروا واستاقوا المواشي وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين ، فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين ، وقد ذكرناه فيها.

ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنج

قال ابن الأثير : لما استطال الفرنج بما ملكوه من بلاد الإسلام واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعضا فتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء واختلفت الأهواء وتمزقت الأموال ، وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجة فاستخلف

٣٤٩

عليها إنسانا يقال له محمد الأصبهاني ، وخرج في العام الماضي فعصى الأصبهاني على قراجة وأعانه أهل البلد لظلم قراجة ، وكان الأصبهاني جلدا شهما فلم يترك بحران من أصحاب قراجة سوى غلام تركي يعرف بجاولي وجعله اصفهسلار العسكر وأنس به ، فجلس معه يوما للشرب فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران ، فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها ، فلما سمع معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك وكان بينهما حرب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه وكل منهما يستعد للقاء صاحبه ، وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له إن شاء الله تعالى.

أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعو إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه ، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا وسارا إلى لقاء الفرنج ، وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس من التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك والعرب والأكراد فالتقوا على نهر البليخ ، وكان المصاف بينهم هناك ، فاقتتلوا فأظهر المسلمون الانهزام فتبعهم الفرنج نحو فرسخين ، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم ووصلوا إلى الأموال العظيمة لأن سواد الفرنج كان قريبا ، وكان بيمند صاحب أنطاكية وطنكريد صاحب الساحل قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب ، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين وسوادهم منهوبا فأقاما إلى الليل وهربا ، فتبعهم المسلمون وقتلوا من أصحابهما كثيرا وأسروا كذلك وأفلتا في ستة فرسان ، وكان القمص بردويل صاحب الرها قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم وخاضوا نهر البليخ فوحلت خيولهم فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم وحمل بردويل إلى خيم صاحبه وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند ، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل ، فقالوا لجكرمش : أي منزلة تكون لنا عند الناس وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا ، وحسنوا له أخذ القمص فأنفذ أخذ القمص من خيم سقمان ، فلما عاد سقمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم وقال لهم : لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء ، ورحل لوقته وأخذ سلاح الفرنج وراياتهم وألبس أصحابه لبسهم وأركبهم خيلهم وجعل يأتي

٣٥٠

حصون شيحان وبها الفرنج فيخرجون ظنا منهم أن أصحابهم نصروا فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم ، فعل ذلك بعدة حصون ، وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها واستخلف بها صاحبه وسار إلى الرها فحصرها خمسة عشر يوما ، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان ففاداه بخمسة وثلاثين دينارا ومائة وستين أسيرا من المسلمين ، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل.

وفاة الملك دقاق واستنابة ولده تتش

قال ابن العديم : في هذه السنة في رمضان توفي الملك دقاق بن تتش بن آلب أرسلان صاحب دمشق وأوصى بالملك لولد له صغير اسمه تتش وجعل التدبير إلى أتابك طغتكين ، فتوجه الملك رضوان نحو دمشق وحاصرها وقزر له الخطبة والسكة فلم تستتب أموره وعاد إلى حلب. اه.

سنة ٤٩٨

خروج طنكريد من أنطاكية لاستعادة أرتاح وقصده حلب

قال ابن العديم : في شهر رجب من هذه السنة خرج الملك رضوان وجمع خلقا كثيرا وعزم على قصد طرابلس معونة لفخر الملك بن عمار على الفرنج النازلين عليه ، وكان الأرمن الذين في حصن أرتاح قد سلموه إلى الملك رضوان لخور الفرنج ، فخرج طنكريد من أنطاكية لاستعادة أرتاح وخرج جميع من في أعماله من الفرنج معه ونزل عليها ، فتوجه نحوه رضوان في عساكره وجموعه وجمع من أمكنه من عمل حلب والأحداث ، فلما تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزم الخيل ووقع القتل في الرجالة فلم يسلم منهم إلا من كتب الله سلامته ، ووصل الفل إلى حلب وقتل من المسلمين مقدار ثلاثة آلاف ما بين فارس وراجل وهرب من بأرتاح من المسلمين ، وقصد الفرنج بلد حلب فأجفل أهله ونهب من نهب وسبي من سبي ، وذلك في الثالث من شعبان ، واضطربت أحوال بلد حلب من ليلون إلى شيزر وتبدل الخوف بعد الأمن والسكون ، وهرب أهل الجزر

٣٥١

وليلون إلى حلب فأدركهم خيل الفرنج فسبوا أكثرهم وقتلوا جماعة ، وكانت هذه النكبة على أعمال حلب أعظم من النكبة الأولى على كل.

ونزل طنكريد على تل أغدي من عمل ليلون وأخذه وأخذ بقية الحصون التي في عمل حلب ولم يبق في يد الملك رضوان من الأعمال القبلية إلا حماة ومن الغربية إلا الأثارب والشرقية والشمالية في يده وهي غير آمنة.

وسير أبو طاهر الصايغ الباطني جماعة من الباطنية من أهل سرمين إلى خلف بن ملاعب بتدبير رجل يعرف بأبي الفتح السرميني من دعاة الإسماعيلية فقتلوه ووافقهم جماعة من أهل أفامية ونقبوا سور الحصن ودخلوا منه ، وطلع بعضهم إلى القلعة فأحس بهم فخرج فطعنه أحدهم بخشب فرمى بنفسه فطعن أخرى فمات ، ونادوا بشعار الملك رضوان ، ووصل أبو طاهر الصايغ إلى الحصن عقيب ذلك وأقام به وسار طنكريد إلى أفامية فقطع عليها مالا أخذه وعاد فوصله مصبح بن خلف بن ملاعب وبعض أصحابه فأطمعوه في أفامية فعاد ونزلها وحاصرها ، فتسلمها في الثالث عشر من محرم من سنة خمسمائة بالأمان ، وقتل أبا الفتح السرميني بالعقوبة ولم يف لأبي طاهر الصايغ بالأمان ، وحمله معه أخيرا فاشترى نفسه بمال ودخل حلب.

وقال ابن الأثير : في هذه السنة في شعبان كانت وقعة بين طنكريد الفرنجي صاحب أنطاكية وبين الملك رضوان صاحب حلب انهزم فيها رضوان ، وسببها أن طنكريد حصر حصن أرتاح وبها نائب الملك رضوان فضيق الفرنج على المسلمين فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة ، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة وسبعة آلاف من الرجالة منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة ، فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين وبينهم وبين الفرنج قليل ، فلما رأى طنكريد كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح فأراد أن يجيب فمنعه أصبهبذ صباوو وكان قد قصده وسار معه بعد قتل إياز ، فامتنع من الصلح واصطفوا للحرب فانهزمت الفرنج من غير قتال ثم قالوا : نعود ونحمل عليهم حملة واحدة ، فإن كانت لنا وإلا انهزمنا ، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا وقتل منهم وأسر كثيرا ، وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا فاشتغلوا بالنهب فقتلهم الفرنج ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيرا ،

٣٥٢

وهرب من في أرتاح إلى حلب وملكه الفرنج وهرب أصبهبذ صباوو إلى طغتكين أتابك بدمشق فصار معه ومن أصحابه.

سنة ٤٩٩

ذكر ملك الفرنج حصن أفامية

في هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية ، وسبب ذلك أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلبا على حمص وكان الضرر به عظيما ورجاله يقطعون الطريق ، فكثر الحرامية عنده فأخذها منه تتش بن آلب أرسلان وأبعده عنها فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر فلم يلتفت إليه من بها ، فأقام بها واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر وكان يميل إلى مذهبهم يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن وهو من أمنع الحصون ، وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به وقال : إنني أرغب في قتال الفرنج وأوثر الجهاد ، فسلموه وأخذوا رهائنه ، فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم ، فأعاد الجواب إنني لا أنزل من مكاني وابعثوا إليّ ببعض أعضاء ولدي حتى آكله ، فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة وأقام بأفامية يخيف السبيل ويقطع الطريق واجتمع عنده كثير من المفسدين ، فكثرت أمواله ، ثم إن الفرنج ملكوا سرمين وهي من أعمال حلب وأهله غلاة في التشيع ، فلما ملكه الفرنج تفرق أهله فتوجه القاضي الذي به إلى ابن ملاعب وأقام عنده فأكرمه وأحبه ووثق به فأعمل القاضي الحيلة عليه وكتب إلى أبي طاهر المعروف بابن الصائغ وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان ووجوه الباطنية ودعاتهم ووافقهم على الفتك بابن ملاعب وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان ، فظهر شيء من هذا ، فأتى إلى ابن ملاعب أولاده وكانوا قد تسللوا إليه من مصر وقالوا له : قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا والرأي أن تعاجله وتحتاط لنفسك فإن الأمر قد اشتهر وظهر ، فأحضره ابن ملاعب فأتاه في كمه مصحف لأنه رأى أمارات الشر فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه ، فقال له : أيها الأمير قد علم كل أحد أني أتيتك خائفا جائعا فأمنتني وأغنيتني وعززتني فصرت ذا مال وجاه ، فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك وما غمرني من نعمتك سعى بي إليك فأسألك أن

٣٥٣

تأخذ جميع ما معي وأخرج كما جئت ، وحلف له على الولاء والنصح فقبل عذره وأمنه. وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ وأشار عليه أن يوافق رضوانا على ثلاثمائة رجل من أهل سرمين وينفذ معهم خيلا من خيول الفرنج وسلاحا من أسلحتهم ورؤوسا من رؤوس الفرنج ويأتون إلى ابن ملاعب ويظهرون أنهم غزاة ويشكون من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم وأنهم فارقوه ، فلقيهم طائفة من الفرنج فظفروا بهم ويحملون جميع ما معهم إليه فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه ، ففعل ابن الصائغ ذلك ووصل القوم إلى أفامية وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها فقبل ذلك منهم وأمرهم بالمقام عنده وأنزلهم في ربض أفامية ، فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم وقصدوا أولاد ابن ملاعب وبني عمه وأصحابه فقتلوهم ، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب وهو مع امرأته فأحس بهم فقال : من أنت ؟ فقال : ملك الموت جئت لقبض روحك ، فناشده الله فلم يرجع عنه وجرحه وقتله وقتل أصحابه وهرب ابناه فقتل أحدهما والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر فحفظه لعهد كان بينهما ، ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها وهو لا يشك أنها له ، فقال له القاضي : إن وافقتني وأقمت معي فبالرحب والسعة ونحن بحكمك وإلا فارجع من حيث جئت ، فأيس ابن الصائغ منه وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين غضبان على أبيه فولاه طغتكين حصنا وضمن على نفسه حفظ الطريق فلم يفعل وقطع الطريق وأخذ القوافل ، فاستغاثوا إلى طغتكين منه فأرسل إليه من طلبه فهرب إلى الفرنج واستدعاهم إلى حصن أفامية وقال : ليس فيه غير قوت شهر ، فأقاموا عليه يحاصرونه فجاء أهله وملكه الفرنج وقتلوا القاضي المتغلب عليه وأخذوا ابن الصائغ فقتلوه ، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام ، هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر ابن الصائغ قتله الإفرنج بأفامية ، وقد قيل إن ابن بديع رئيس حلب قتله سنة سبع وخمسمائة بعد وفاة رضوان ، وقد ذكرناه هناك والله أعلم.

وفي هذه السنة وصل الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب بلاد الروم إلى الرها ليحصرها وبها الفرنج فراسله أصحاب جكرمش المقيمون بحران ليسلموها إليه ،

٣٥٤

فسار إليهم وتسلم البلد وفرح الناس به لأجل جهاد الفرنج ، فأقام بحران أياما ومرض مرضا شديدا أوجب عوده إلى ملطية فعاد مريضا وبقي أصحابه بحران.

سنة ٥٠١

قال ابن العديم : في هذه السنة عصى خطلع بقلعة عزاز واستقر أن يسلمها إلى طنكريد ويعوضه عنها موضعا غيرها ، فسار رضوان إليها فتسلمها منه.

سنة ٥٠٢

ذكر إطلاق القمص ومسيره إلى أنطاكية

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر استولى مودود والعسكر الذي أرسله السلطان محمد على مدينة الموصل وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو ، وقد كان استولى عليها جاولي سنة خمسماية ، وساق الخبر في ذلك [ ثم قال ] : وأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل وحصرها سار عنها وأخذ معه القمص صاحب الرها الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش ، وقد تقدم ذلك ، وسار إلى نصيبين واجتمع بإيلغازي.

ثم إن إيلغازي هرب من جاولي وسار جاولي إلى الرحبة ، ولما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي الذي كان أسيرا بالموصل وأخذه معه واسمه بردويل ، وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما وبقي في الحبس إلى الآن ، وبذل الأموال الكثيرة فلم يطلق ، فلما كان الآن أطلقه جاولي وخلع عليه ، وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله ، فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين وهو من فرسان الفرنج وشجعانها وهو صاحب تل باشر وغيرها ، وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة ففدى نفسه بعشرين ألف دينار ، فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص وأطلق القمص وسار إلى أنطاكية وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه وأخذ

٣٥٥

عوضه أخا زوجته وأخا زوجة القمص وسيره إلى القمص ليقوى به وليحثه على إطلاق الأسرى وإنفاذ المال وما ضمنه ، فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها ، وكان معه جماعة من أصحاب جاولي فأنكروا عليه ذلك ونسبوه إلى الغدر ، فقال : إن هذه المدينة ليست لكم.

ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكية

قال ابن الأثير : لما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكريد صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحا وثيابا وغير ذلك ، وكان طنكريد قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر ، فخاطبه الآن في ردها عليه فلم يفعل ، فخرج من عنده إلى تل باشر ، فلما قدم عليه جوسلين وقد أطلقه جاولي سره ذلك وفرح به وسار إليهما طنكريد صاحب أنطاكية بعساكره ليحاربها قبل أن يقوى أمرهما ويجمعا عسكرا ويلتحق بهما جاولي وينجدها فكانوا يقتلون ، فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا ، وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيرا كلهم من سواد حلب وكساهم وسيرهم ، وعاد طنكريد إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها ، فسار القمص وجوسلين وأغاروا على حصون طنكريد صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل وهو رجل أرمني ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم وهو صاحب رعبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمالي حلب ، فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين وألفي راجل ، فقصدهم طنكريد فتنازعوا في أمر الرها فتوسط بينهم البطرك الذي لهم وهو عندهم كالإمام الذي للمسلمين لا يخالف أمره ، وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين أن بيمند خال طنكريد قال له لما أراد ركوب البحر والعودة إلى بلاده أن يعيد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر ، فأعادها عليه طنكريد تاسع صفر ، وعبر القمص الفرات ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى فأطلق في طريقه خلقا كثيرا من الأسرى من حران وغيرهما ، وكان بسروج ثلثمائة مسلم ضعفى فعمر أصحاب جاولي مساجدهم ، وكان رئيس سروج مسلما قد ارتد فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولا شنيعا فضربوه وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع ، فذكر ذلك للقمص فقال : هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين ، فقتله.

٣٥٦

ذكر حال الجاولي بعد إطلاق القمص واستيلائه على بالس

قال ابن الأثير : لما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة فأتاه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور ابنا سيف الدولة صدقة وكانا بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر عند سالم ابن مالك ، فتعاهدوا على المساعدة والمعاضدة ووعدهما أن يسير معهما إلى الحلة وعزموا أن يقدموا عليهم بكتامش بن تتش بن آلب أرسلان ، فوصل إليهم وهم على هذا العزم الإصبهبذ صباوو وكان قصد السلطان فأقطعة الرحبة ، فاجتمع بجاولي وأشار عليه أن يقصد الشام فإن بلاده خالية من الأجناد والفرنج قد استولوا على كثير منها ، وعرفه أنه متى قصد العراق والسلطان بها أو قريبا منها لم يأمن شرا يصل إليه ، فقبل قوله وأصعد عن الرحبة فوصل إليه رسل سالم بن مالك صاحب قلعة جعبر يستغيث به من بني نمير ، وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم فوثب جوشن النميري ومعه جماعة من نمير فقتل عليا وملك الرقة ، فبلغ ذلك الملك رضوان فسار من حلب إلى صفين فصادف تسعين رجلا من الفرنج معهم مال من فدية القمص صاحب الرها قد سيره إلى جاولي فأخذه وأسر عددا منهم ، وأتى الرقة فصالحه بنو نمير على مال فرحل عنهم إلى حلب فاستنجد سالم بن مالك جاولي وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها ووعده بما يحتاج إليه ، فقصد الرقة وحصرها سبعين يوما فضمن له بنو نمير مالا وخيلا ، فأرسل إلى سالم إنني في أمر أهم من هذا وأنا بإزاء عدو يحب التشاغل به دون غيره ، وأنا عازم على الانحدار إلى العراق فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير ، ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغتكين وكان أبوه أتابك السلطان محمد فقتله ، وتقدم ولده هذا عند السلطان واختص به فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى الجهاد فحضر عند جاولي وأمر بتسليم البلاد وطيب قلبه عن السلطان وضمن الجميل إذا سلم البلاد وأظهر الطاعة والعبودية ، فقال جاولي : أنا مملوك السلطان وفي طاعته ، وحمل إليه مالا وثيابا لها مقدار جليل وقال له : سر إلى الموصل ، ورحل العسكر عنها فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها ، ففعل حسين ذلك وسار ومعه صاحب

٣٥٧

جاولي ، فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل وكانوا لم يفتحوها بعد فأمرهم حسين بالرحيل فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه قال : لا أرحل إلا بأمر السلطان ، وقبض على صاحب جاولي وأقام على الموصل حتى فتحها كما ذكرنا ، وعاد حسين بن قتلغتكين إلى السلطان فأحسن النيابة عن جاولي عنده ، وسار جاولي إلى مدينة بالس فوصلها ثالث عشر صفر فاحتمى أهلها منه وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجا من أبراجها فوقع على النقابين فقتل منهم جماعة وملك البلد وصلب جماعة من أعيانه عند النقب ، وأحضر القاضي محمد بن عبد العزيز بن إلياس فقتله وكان فقيها صالحا ، ونهب البلد وأخذ منه مالا كثيرا.

ذكر الحرب بين جاولي وبين طنكريد الفرنجي صاحب أنطاكية

قال ابن الأثير : وفي هذه السنة في صفر كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكريد صاحب أنطاكية ، وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكريد صاحب أنطاكية يعرفه ما عليه جاولي من الغدر والمكر والخداع ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام ، وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه ، فأجابه طنكريد إلى منعه ، وبرز من أنطاكية فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس. فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص صاحب الرها يستدعيه إلى مساعدته وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة ، فسار إلى جاولي فلحق به وهو على منبج فوصل الخبر إليه وهو على هذه الحال بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان وملكوا خزائنه وأمواله ، فاشتد ذلك عليه وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر وبكتاش النهاوندي ، وبقي جاولي في ألف فارس وانضم إليه خلق من المطوعة ، فننزل بتل باشر وقاربهم طنكريد وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج وستمائة من أصحاب الملك رضوان سوى الرجالة ، فجعل جاولي في ميمنة الأمير أقسيان والأمير ألتونتاش الأبري وغيرهما ، وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة والإصبهبذ صباوو وسنقر دراز ، وفي القلب القمص بغدوين وجوسلين الفرنجيين ، ووقعت الحرب فحمل أصحاب أنطاكية على القمص صاحب الرها واشتد القتال ، فأزاح طنكريد القلب عن موضعه وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب

٣٥٨

أنطاكية فقتلت منهم خلقا كثيرا ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية ، فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص وجوسلين وغيرهما من الفرنج فركبوها وانهزموا ، فمضى جاولي وراءهم فلم يرجعوا ، وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه ، فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمه نفسه وخاف من المقام فانهزم باقي عسكره ، فأما الإصبهبذ صباوو فسار نحو الشام وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر ، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر ، وأما جاولي فقصد الرحبة ، وقتل من المسلمين خلق كثير ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج ، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم إلى بلادهم.

وفيها في فصح النصارى ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل فملكوه وأخرجوا من كان فيه وأغلقوا بابه وصعدوا إلى القلعة فملكوها ، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى ، وكانوا قد أحسنوا إلى هؤلاء الذين أفسدوا كل الإحسان ، فبادر أهل المدينة الباشورة فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات وصاروا معهم وأدركهم الأمراء بنو منقذ أصحاب الحصن فصعدوا إليهم فكبروا عليهم وقاتلوهم فانخذل الباطنية وأخذهم السيف من كل جانب فلم يفلت منهم أحد وقتل من كان على رأيهم في البلد اه.

سنة ٥٠٤

ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

قال ابن الأثير : في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج وحشد الفارس والراجل وسار نحو حصن الأثارب وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ وحصره ومنع عنه الميرة ، فضاق الأمر على من به من المسلمين فنقبوا من القلعة نقبا قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه ، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني فعرفه الحال فاحتاط الباقين ، ثم سار إلى حصن زردنا فحصره

٣٥٩

ففتحه وفعل بأهله مثل الأثارب ، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفا من الفرنج وكذلك أهل بالس ، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنهما ، وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا فطلب أهلها منهم الأمان فأمنوهم وتسلموا البلد ، فعظم خوف المسلمين منهم وبلغت القلوب الحناجر وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه ، فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم ، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة ، فصالحهم الملك رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وغيرها من الخيول والثياب ، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار ، وصالحهم ابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار ، وصالحهم علي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار ، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها. ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة فوقع عليها مراكب الفرنج فأخذوها وغنموا ما مع التجار وأسروهم ، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الفرنج ، فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان واستغاثوا ومنعوا من الصلاة وكسروا المنبر ، فوعدهم السلطان إنفاذ العساكر للجهاد وسير من دار الخلافة منبرا إلى جامع السلطان ، فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة ومعهم أهل بغداد فمنعهم صاحب الباب من الدخول فغلبوه على ذلك ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة وهجموا إلى المنبر فكسروه وبطلت الجمعة أيضا ، فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه ، فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير وسير ولده الملك مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيرون إلى قتال الفرنج ، وانقضت السنة وساروا في سنة خمس وخمسمائة.

وفيها ورد رسول ملك الروم ( السلجوقي ) إلى السلطان يستنفره على الفرنج ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد ، وكان وصوله قبل وصول أهل حلب يقولون للسلطان : أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام حتى قد أرسل إليك في جهادهم.

٣٦٠