إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠
٣٢١

الدولة السلجوقية بحلب

ذكر سليمان بن قتلمش واستيلاء السلطان ملكشاه السلجوقي

على حلب وتوليته عليها قسيم الدولة آقسنقر سنة ٤٧٩

قال ابن الأثير : لما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه أرسل إلى ابن الحبيبي العباسي مقدم أهل حلب يطلب منه تسليمها إليه ، فانفذ إليه واستمهله على أن يكاتب السلطان ملكشاه ، وأرسل ابن الحبيبي إلى تتش صاحب دمشق يعده أن يسلم إليه حلب ، فسار تتش طالبا لحلب ، فعلم سليمان بذلك فسار نحوه مجدا ، فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبئة ، فلم يعلم به حتى قرب منه فعبى أصحابه ، وكان الأمير أرتق بن أكسك مع تتش ، وكان منصورا لم يشهد حربا إلا وكان الظفر له ، وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد وإطلاقه شرف الدولة من آمد ، فلما فعل ذلك خاف أن ينهي جهير ذلك إلى السلطان ففارق خدمته ولحق بتاج الدولة تتش ، فأقطعه البيت المقدس وحضر معه هذه الحرب فأبلى فيها بلاء حسنا وحرض العرب على القتال ، فانهزم أصحاب سليمان وثبت هو في القلب ، فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكينا معه فقتل نفسه ، وقيل بل قتل في المعركة ، واستولى تتش على عسكره. وكان سليمان بن قتلمش في السنة الماضية في صفر قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار وطلب من أهلها أن يسلموها إليه ، وفي هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه فأجابه ابن الحبيبي إنه يكاتب السلطان ومهما أمره فعل ، فحصر تتش البلد وأقام عليه وضيق على أهله ، وكان ابن الحبيبي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه ، وسلم برجا فيها إلى إنسان

٣٢٢

يعرف بابن الرعوي ، ثم إن ابن الحبيبي أوحشه بكلام أغلظه له فيه ، وكان هذا الرجل شديد القوة ورأى ما الناس فيه من الشدة فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش للميعاد الذي ذكره فأصعد الرجال في الجبال والسلاليم وملك تتش المدينة واستجار ابن الحبيبي بالأمير أرتق فشفع فيه ، وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش ، فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يوما ، فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه فرحل عنها.

قال في زبدة الحلب : والشريف أبو علي بن الحبيبي العباسي ، هو الذي سلم مدينة حلب لشرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وسبعين واشتركا في حكمها ، وكان الشريف أبو علي شيعيا فصارت المدينة فرقتين فرقة معه وفرقة مع شرف الدولة مسلم ، ووقعت الوحشة بين أهل المدينة وتحاربوا سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وقت مجيء تتش لحلب فملكها تتش بسبب اختلاف أهلها ، والشريف أبو علي هو الذي عمر القلعة التي عند باب قنسرين المسماة بقلعة الشريف. ولما استجار الشريف أبو علي بالأمير أرتق وأجاره أتى الشريف إلى تتش ووقع على أقدامه فعفا عنه ، وكانت قد انتهت عمارة قلعته فأتى إليها وتحصن بها خوفا من أهل حلب لئلا يقتلوه ، وسيأتي أن السلطان ملكشاه لما استولى على حلب أخذه معه إلى ديار بكر بطلب من أهل حلب ومات في ديار بكر.

ذكر ملك السلطان ملكشاه حلب وغيرها

قال ابن الأثير : كان ابن الحبيبي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب لما خاف تاج الدولة تتش ، فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة وجعل على مقدمته الأمير برسق وبوزان وغيرهما من الأمراء ، وجعل طريقه على الموصل فوصلها في رجب سار منها ، فلما وصل إلى حران سلمها إليه ابن الشاطر فأقطعها السلطان محمد بن

٣٢٣

شرف الدولة وسار إلى الرها وهي بيد الروم فحصرها وملكها ، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير ، وتقدم ذكر ذلك ، وسار إلى قلعة جعبر (١) فملكها وقتل من بها من بني قشير.

وفي المختار من الكواكب المضية : كان جعبر شيخا كبيرا أعمى وله ولدان ، وكان قطاع الطريق يلجأون إليها ويتحصنون بها من السلطان ويقاسمون جعبرا ، فراسل سابق الدين جعبرا في تسليمها فامتنع عليه فنصب عليها المجانيق ففتحها وأمر بقتل صاحبها جعبر القشيري ، فقالت زوجته : لا تقتله حتى تقتلني معه ، فألقاه من رأسها وأمر بتوسيطه ، فألقت المرأة نفسها وراءه فسلمت ، فلامها الناس في ذلك فقالت : كرهت أن تصل إلي الترك فيبقى عارا عليّ. اه.

قال القرماني في تاريخه : لما قدم سليمان شاه مع بنيه الثلاثة وهم سنقور وكون طوغدي وأرطغرل [ أرطغرل هو جد ملوك سلاطين آل عثمان ] من بلاد الشرق لما ظهر جنكيز خان في سنة إحدى عشرة وستمائة ووصلوا إلى نهر الفرات أمام قلعة جعبر ولم يعلموا المعبر ، فعبروا النهر فغلب عليهم الماء فغرق سليمان شاه ، فأخرجوه ودفنوه عند قلعة جعبر وقبره اليوم هناك يزار ويتبرك به.

ولنرجع إلى تتمة الكلام على حوادث ملكشاه السلجوقي. قال ابن الأثير : ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب فملك في طريقه مدينة منبج ، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش وكان قد ملك المدينة كما ذكرناه ، وسار عنها يسلك البرية ومعه الأمير أرتق فأشار بكبس عسكر السلطان وقال إنهم قد وصلوا وبهم وبدوابهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع ، ولو فعل لظفر بهم ، فقال تتش : لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله فإنه يعود بالوهن علي أولا ، وسار إلى دمشق ، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر ، وكان سالم قد امتنع بها أولا فأمر السلطان أن يرمي إليه رشقا واحدا بالسهام ، فرمى الجيش فكادت الشمس تحتجب

__________________

(١) قال ياقوت في المعجم : قلعة جعبر على الفرات قرب صفين ، وكانت قديما تسمى دوسر فملكها رجل من بني قشير أعمى يقال له جعبر بن مالك وكان يخيف السبل ويلتجىء إليها. قال ابن خلكان في ترجمة جعبر المذكور : ويقال لهذه القلعة الدوسرية وهي منسوبة إلى دوسر غلام النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، وكان قد تركه على أفواه الشام فبنى هذه القلعة فنسبت إليه اه. وقال أبو الفدا : قلعة جعبر اسمها الدوسرية ، ثم عرفت بقلعة جعبر لطول مدة ملك جعبر لها وهو شيخ أعمى ، ولما وصلها ملكشاه أمسكه وأمسك ولديه وكانا يقطعان الطريق ويخيفان السبل اه.

٣٢٤

لكثرة السهام ، فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها وسلم إليه السلطان قلعة جعبر فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي على ما نذكره إن شاء الله تعالى ، وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني صاحب شيزر فدخل في طاعته وسلم إليه لاذقية وكفر طاب وأفامية ، فأجابه إلى المسالمة وترك قصده وأقر عليه شيزر.

ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر فعمرها وأحسن السيرة فيها ، وأما ابن الحبيبي فإنه كان واثقا بإحسان السلطان ونظام الملك إليه فإنه استدعاهما ، فلما ملك السلطان البلد طلب أهله يعفيهم من ابن الحبيبي فأجابهم إلى ذلك واستصحبه معه وأرسل إلى ديار بكر فافتقر وتوفي بها على حال شديدة من الفقر ، وقتل ولده بأنطاكية قتله الفرنج لما ملكوها ، وعاد السلطان إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة.

سنة ٤٨١

فيها جمع آقسنقر صاحب حلب عسكره وسار إلى قلعة شيزر فحصرها وصاحبها ابن منقذ وضيق عليها ونهب ربضها ، ثم صالحه صاحبها وعاد إلى ( حلب ). اه. ابن الأثير.

سنة ٤٨٢

عمارة منارة الجامع الأعظم

في هذه السنة أسست منارة جامع حلب وعمرت على يد القاضي أبي الحسن محمد ابن يحيى بن الخشاب عوض منارة كانت قبلها ، وكان لحلب معبد للنار قديم العمارة وقد تحول إلى أن صار أتون حمام ، فاضطر القاضي لأخذ حجارته لعمارة هذه المنارة ، فوشى به بعض حساده لأمير البلد قسيم الدولة وأغضبه عليه ، فاستحضره وقال له : قد هدمت معبدا هو لي وملكي ، فقال : أيها الأمير هذا معبد للنار وقد صار أتونا وقد أخذت حجارته وعمرت بها معبدا للإسلام يذكر عليه اسم الله وحده لا شريك له وكتبت اسمك عليه وجعلت الثواب لك فإن رسمت لي أن أغرم ثمن الأحجار ويكون الثواب لي فعلت ، فأعجب الأمير

٣٢٥

كلامه واستصوب رأيه وقال : بل الثواب لي وافعل أنت ما تريد. قال وكتب ابن العميد في الحاشية : إن الواشي كان أبا نصر بن النحاس ناظر حلب. قال : وقرأت في تاريخ منتخب الدين يحيى بن أبي طي النجار الحلبي قال : أسست العمارة في هذه المنارة في زمن سابق ابن محمود بن صالح على يد القاضي ابن الحسن بن الخشاب ، وكان الذي عمرها رجل من سرمين وإنه بلغ بأساسها إلى الماء وعقد حجارتها بكلاليب الحديد والرصاص وأتمها في أيام قسيم الدولة آقسنقر ، وطول هذه المنارة إلى الدرابزين بذراع اليد سبع وتسعون ذراعا وعدد مراقيها مائة وأربع وسبعون درجة. وأخبرني زين الدين بن عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحيم العجمي أن والده حكى له أنه لما كان ليلة الاثنين ثامن شهر شوال سنة خمس وسبعين وستمائة زلزلت حلب زلزلة عظيمة هدمت أكثر دورها وأهلك جماعة من أهلها وحركت المنارة فدفعت هلالا كان على رأسها مقدار ستماية قدم وتشققت اه. ( من الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة ).

أقول : مكتوب على جدار المنارة في أسفلها بالخط الكوفي المسمى بالمزهر ( صنعه حسن بن مقري السرميني سنة ٤٨٣ ). وقرأت في بعض المجاميع الحلبية أن طول الجامع من الشرق إلى الغرب مع سمك جدران الجهتين مائة وثلاثون ذراعا وعرضه من الجنوب إلى الشمال مائة وأحد عشر ذراعا ، فإذا ضربت ذراع الطول في العرض يبلغ المجموع ١٤٤٣٠ ذراعا مربعا. وطول القبليتين مائة وتسعة قراريط. وارتفاع المنارة من أرض الجامع إلى موقف المؤذنين اثنان وخمسون ذراعا وستة قراريط ، ومحيطها مما يلي سطح الرواق إحدى وعشرون ذراعا وإحدى وعشرون قيراطا ومن موقف المؤذنين إلى ختم القبة سبعة أذرع.

سنة ٤٨٤

حصول الزلازل في الشام وانهدام أبراج أنطاكية

قال ابن العديم : في هذه السنة تسلم الأمير قسيم الدولة قلعة أفامية من زيد بن ملاعب ثالث رجب وسجن بعض بني منقذ. اه.

٣٢٦

قال ابن الأثير : وفيها في تاسع شعبان كان بالشام وكثير من البلاد زلازل كثيرة ، وكان أكثرها بالشام ففارق الناس مساكنهم وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن وهلك تحتها عالم كثير وخرب من سورها تسعون برجا فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها اه.

سنة ٤٨٥

في هذه السنة في النصف من شوال توفي السلطان ملكشاه وهو ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ، وكان مولده في سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ومن أقاصي بلاد الشام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن ، وحملت له ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب ، وكانت أيامه أيام عدل وسكون وأمن فعمرت البلاد ودرت الأرزاق. اه باختصار من أبي الفداء ، وله ولوزيره نظام الملك ترجمة حافلة في ابن خلكان وفي ابن الأثير في حوادث هذه السنة.

ذكر التحاق آقسنقر بتتش بن ألب أرسلان

ثم ببركياروق بن ملكشاه بن ألب أرسلان سنة ٤٨٦

قال ابن الأثير : كان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام ، فلما كان قبل موت أخيه السلطان ملكشاه سار من دمشق إليه ببغداد ، فلما كان بهيت بلغه موته فأخذ هيت واستولى عليها وعاد إلى دمشق يتجهز لطلب السلطنة ، فجمع العساكر وأخرج الأموال وسار نحو حلب وبها قسيم الدولة آقسنقر ، فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه وصغرهم فعلم أنه لا يطيق دفع تتش فصالحه وصار معه ، وأرسل إلى باغي سيان صاحب أنطاكية وإلى بوزان صاحب الرها وحران يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه ، ففعلوا وصاروا معه وخطبوا له في بلادهم وقصدوا الرحبة فحصروها وملكوها في المحرم في هذه السنة وخطب لنفسه بالسلطنة ، ثم ساروا إلى نصيبين فحصروها فسب أهلها تاج الدولة ففتحها عنوة وقهرا وقتل

٣٢٧

من أهلها خلقا كثيرا ونهبت الأموال وفعل فيها الأفعال القبيحة ، ثم سلمها إلى الأمير محمد ابن شرف الدولة العقيلي وسار يريد الموصل وأميرها يومئذ إبراهيم بن قريش بن بدران (١)

قال أبو الفداء : لما قصد تتش الموصل في هذه السنة سنة ٤٨٦ خرج إبراهيم لقتاله والتقوا بالمضيح من أعمال الموصل وجرى بينهم قتال شديد انهزمت فيه المواصلة وأخذ إبراهيم بن قريش أسيرا وجماعة من أمراء العرب فقتلوا صبرا ، وملك تتش الموصل واستناب عليها علي بن مسلم بن قريش وأمه ضيفة عمة تتش ، وأرسل تتش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها ، ثم سار تتش واستولى على ديار بكر وسار إلى أذربيجان وكان قد استولى بركياروق بن ملكشاه على كثير منها فسار بركياروق إلى عمه تتش ليمنعه فقال آقسنقر : نحن إنما أطعنا تتش لعدم قيام أحد من أولاد السلطان ملكشاه ، أما إذا كان بركياروق بن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره ، وخلى آقسنقر تتش ولحق ببركياروق فضعف تتش لذلك وعاد إلى الشام.

ذكر قتل قسيم الدولة آقسنقر وملك تتش حلب والجزيرة

وديار بكر وأذربيجان وهمدان والخطبة له ببغداد سنة ٤٨٧

وولاية الحسن بن علي الخوارزمي في هذه السنة أيضا

قال ابن الأثير : في هذه السنة في جمادى الأولى قتل قسيم الدولة آقسنقر ، وكان سبب قتله أن تاج الدولة تتش لما عاد من أذربيجان منهزما لم يزل يجمع العساكر فكثرت جموعه وعظم حشده ، فسار في هذا التاريخ عن دمشق نحو حلب ليطلب السلطنة ، فاجتمع قسيم الدولة آقسنقر وبوزان وأمدهما ركن الدين بركياروق بالأمير كربوقا الذي صار صاحب الموصل ، فلما اجتمعوا ساروا إلى طريقه فلقوه عند نهر سبعين قريبا من تل

__________________

(١) هو أخو مسلم بن قريش وقد قدمنا أنه ولي حلب سنة ٤٧٨ بعد قتل أخيه ولم تطل مدته في الولاية وتغلب عليه الشريف بن الحبيبي.

٣٢٨

السلطان بينه وبين حلب ستة فراسخ واقتتلوا واشتد القتال ، فخامر بعض العسكر الذين مع آقسنقر فأخذ أسيرا وأحضر عند تتش فقال له : لو ظفرت بي ما كنت تصنع ؟ قال : كنت أقتلك ، فقال له : أنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي ، فقتله صبرا ، وسار نحو حلب وكان قد دخل إليها كربوقا وبوزان فحفظاها منه وحصرها تتش ولج في قتالها حتى ملكها سلمها إليه المقيم بقلعة الشريف ومنها دخل البلد وأخذهما أسيرين وأرسل إلى حران والرها ليسلمها من بهما ، وكانتا لبوزان فامتنعوا من التسليم إليه ، فقتل بوزان وأرسل رأسه إليهم وتسلم البلدين ، وأما كربوقا فإنه أرسله إلى حمص فسجنه بها إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تتش. وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته وحفظا لهم وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع ، وكان قد شرط على أهل كل قرية من بلاده متى أخذ عندهم قفل أو أحد من الناس غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير ، فكانت السيارة إذا بلغوا قرية من بلاده ألقوا رحالهم وناموا وحرسهم أهل القرية إلى أن يرحلوا فأمنت الطريق ، وأما وفاؤه وحسن عهده فيكفيه فخرا أنه قتل في حفظ بيت صاحبه وولي نعمته ، فلما ملك تتش حران والرها سار إلى الديار الجزرية فملكها جميعها ثم ملك ديار بكر وخلاط وسار إلى أذربيجان فملك بلادها كلها ، ثم سار منها إلى همدان فملكها ورأى بها فخر الملك بن نظام الملك وكان بخراسان فسار منها إلى السلطان بركياروق ليخدمه فوقع عليه الأمير قماح وهو من عسكر محمود بن السلطان ملكشاه بأصبهان فنهب فخر الملك فهرب منه ونجا بنفسه ، فجاء إلى همدان فصادفه تتش بها فأراد قتله فشفع فيه باغيسيان وأشار عليه أن يستوزره لميل الناس إلى بيته ، فاستوزره وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من الخليفة المستظهر بالله وكان شحنته ببغداد إيتكين جب فلازم الخدمة بالديوان وألح في طلبها فأجيب إلى ذلك بعد أن سمعوا أن بركياروق قد انهزم من عسكر عمه تتش ، وساق الخبر في ذلك ، ولما ملك تتش حلب قرر فيها الحسن بن علي الخوارزمي وحكمه في البلد والقلعة.

ترجمة آقسنقر :

قال ابن العديم : آقسنقر بن عبد الله المعروف بقسيم الدولة مملوك السلطان أبي الفتح ملك شاه ، وقيل إنه لصيق له ، وقيل اسم أبيه آل ترغان من قبيلة سابيو ، نقلت

٣٢٩

ذلك من خط أبي عبد الله محمد بن علي العظيمي ، وأنبأنا به أبو اليمن الكندي وغيره عنه ، وتزوج آقسنقر داية السلطان إدريس بن طغان شاه وحظي عند السلطان ملك شاه وقدم معه حلب في سنة تسع وسبعين وأربعمائة حين قصد تاج الدولة تتش أخاه فانهزم عن حلب وكان قصدها وملكها السلطان ملكشاه في شهر رمضان من سنة تسع وسبعين وخرج عنها إلى أنطاكية وملكها وخيم على ساحل البحر أياما ، وعاد إلى حلب وعيد بها عيد الفطر ورحل عنها وقرر ولاية حلب لقسيم الدولة آقسنقر في أول سنة ثمانين وأربعمائة فأحسن فيها السياسة والسيرة وأقام الهيبة وقمع الذعار وأقنى قطاع الطريق ومخيفي السبيل وتتبع اللصوص والحرامية في كل موضع فاستأصل شأفتهم ، وكتب إلى الأطراف أن يفعلوا مثل فعله لتأمن الطرق وتسلك السبل ، فشكر بذلك الفعل وأمنت الطرق والمسالك وسار الناس في كل جهة بعد امتناعهم لخوفهم من القطاع والأشرار ، وعمرت حلب في أيامه بسبب ذلك بورود التجار إليها والجلابين من جميع الجهات ، ورغب الناس في المقام بها للعدل الذي أظهره فيهم رحمه‌الله.

وفي أيامه جدد عمارة منارة حلب بالجامع في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، واسمه منقوش عليها إلى اليوم وهو الذي أمر ببناء مشهد قرنبيا ووقف عليه الوقف ، وأمر بتجديد مشهد الدكة. أخبرني عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن الأثير الجزري قال : كان قسيم الدولة آق سنقر أحسن الأمراء سياسة لرعيته وحفظا لهم ، وكانت بلاده بين عدل عام ورخص شامل وأمن واسع ، وكان قد شرط على أهل كل قرية في بلاده متى أخذ عند أحدهم قفل أو أحد من الناس غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير ، فكانت السيارة إذا بلغوا قرية من بلاده ألقوا رحالهم وناموا وقام أهل القرية يحرسونهم إن رحلوا ، فأمنت الطرق وتحدث الركبان بحسن سيرته. سمعت والدي القاضي أبا الحسن رحمه‌الله يقول لي فيما يأثره عن أسلافه : إن قسيم الدولة آقسنقر كان قد نادى في بلد حلب بأن لا يرفع أحد متاعه ولا يحفظه في طريق لما حصل من الأمن في بلاده ، قال فخرج يوما يتصيد فمر على قرية من قرى حلب فوجد بعض الفلاحين قد فرغ من عمل الفدان وطرح عن البقر النير ورفعه على دابة ليحمله إلى القرية فقال له : ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحد متاعا ولا شيئا من موضعه ، فقال له : حفظ الله قسيم الدولة قد أمنا في أيامه

٣٣٠

وما نرفع هذه الآلة خوفا عليها أن تسرق ، ولكن هنا دابة يقال لها ابن آوى تأتي إلى هذا النير فتأكل الجلد الذي عليه فنحن نحفظه منها ونرفعه لذلك ، قال : فعاد قسيم الدولة من الصيد فأمر فتتبعوا لبنات آوى في بلد حلب فصادوها حتى أفنوها من بلد حلب ، قلت : وهي إلى الآن لا يوجد في بلد حلب منها شيء إلا في النادر دون غيرها من البلاد.

قرأت في كتاب عنوان السير تأليف محمد بن عبد الملك الهمداني قال : وأقطع السلطان حلب وقلعتها مملوكه آقسنقر ولقبه قسيم الدولة ، وذلك في سنة تسع وسبعين وأربعمائة فأحسن السيرة وظهر منه عدل لم يعرف بمثله واستغلها في كل يوم ألف وخمسائة دينار ولم يزل بها حتى قتله تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان في سنة سبع وثمانين وأربعمائة. قلت : وكان تاج الدولة تتش قتله صبرا بين يديه بسبعين قرية من قرى حلب من نقرة بني أسد على نهر الذهب ، وقيل بكارس ، وذلك أن تتش كان قد حصل في نفسه شيء من قسيم الدولة استصغر أمر تتش حتى إني قرأت بخط أبي الحسن علي بن مرشد علي بن منقذ في تاريخه سنة أربع وثمانين وأربعمائة : وفيها نزل تاج الدولة إلى السلطان ، يعني نزل تتش إلى ملك شاه ، فلما رآه ترجل له وكان في الصيد خيفة أن يتخيل منه ، وحصر هو وقسيم الدولة في حضرته فقال تاج الدولة تتش : كان من الأمر كذا وكذا فقال له قسيم الدولة : تكذب ، فقال له السلطان : تقول لأخي كذا قال : نعم يطلع الله في عينيه ما يريده لك ويطلع في عيني ما أريده لك ، قلت : وعاد تتش إلى دمشق فلما توفي السلطان ملك شاه برز تاج الدولة تتش في شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وخرج معه خلق من العرب ولقيه عسكر أنطاكية بالقرب من حماة مع باغيسيان ، وسار تاج الدولة وقطع العاصي في شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة ورعى عسكره الزراعات ونهب المواشي وغيرها ، واتصل الخبر بآق سنقر وهو بحلب وكاتبه السلطان بركياروق وخطب له بحلب ، فجمع وحشد واستنجد بمن يجاوره ، فوصل إليه كربوقا صاحب الموصل وبزان صاحب الرها ويوسف بن آبق صاحب الرحبة في ألفي فارس وخمسمائة فارس منجدين قسيم الدولة على تتش ، وحصل الجميع بحلب ، ووصل تاج الدولة تتش إلى الحانوتة ورحل منها إلى الناعورة وأغارت خيله على المواشي بالنقرة وأحرقوا بعض زرعها ، ورحل من الناعورة قاصدا نحو الوادي وأدى بزاعة فتهيأ آقسنقر للقائه والخروج إليه واستدعى منجما ليأخذ له الطالع ، فحضر عنده واختار

٣٣١

له وقتا وقال : تخرج الساعة ، فركب ومعه النجدة التي وصلته وجماعة كبيرة من بني كلاب مع شبل بن جامع ومبارك بن شبل وكان أطلقهما من الاعتقال ومحمد بن زايدة وجماعة من أحداث حلب والديلم والخراسانية في أحسن زي وأكمل عدة ، وقيل إنه قدر عسكره بعشرين ألف فارس ، وقيل كان يزيد عن ستة آلاف ، وقصد تاج الدولة التاسع من جمادى الأولى من السنة وقطع آقسنقر سواقي نهر سبعين قاصدا عسكر تتش ، فأقاموا على حالهم ، وكان أول من من برز للحرب آقسنقر فالتقى الفريقان ، ولم يثق آقسنقر بمن كان معه من العرب فنقلهم من الميمنة إلى الميسرة في وقت المصاف ثم نقلهم إلى القلب فلم يغنوا شيئا ، وحمل عسكر تتش على عسكر آقسنقر فلم يثبت ، وانهزمت العرب وعسكر كربوقا وبزان معهم إلى حلب ووقع فيهم القتل وثبت قسيم الدولة فأسر وأسر أكثر أصحابه وحمل إلى تاج الدولة تتش ، فلما مثل بين يديه أمر بضرب عنقه وأعناق بعض خواصه ، ودخل تتش إلى حلب وملكها على ما نذكره في ترجمته إن شاء الله. وبلغني أن تاج الدولة تتش قال لقسيم الدولة آقسنقر لما حضر بين يديه : لو ظفرت بي ما كنت صنعت ؟ فقال : كنت أقتلك ، فقال له تتش : فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي ، فقتله صبرا.

وقرأت بخط بعض الحلبيين أن السلطان ملك شاه بن العادل وصل يعني إلى حلب في شعبان سنة تسع وسبعين ، فتسلم البلد والقلعة وسلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر ، فأقام بحلب ثمان سنين فقتل بكارس من أرض أسد في صفر سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، قتله تاج الدولة تتش بن العادل.

وقرأت بخط أبي غالب عبد الواحد بن مسعود بن الحصين الشيباني في تاريخه في جمادى الأولى يعني سنة سبع وثمانين كان المصاف بين تاج الدولة تتش وبين الأمير آقسنقر وبوزان ومن أمدهما به بركياروق قريبا من حلب ، فلما التقى الصفان استأمن ابن أبق إلى تتش وانهزم الباقون وأسر آقسنقر ، فجيء به إلى تتش فقال له تتش : لو ظفرت بي ما كنت صانعا فيّ ؟ قال : أقتلك ، قال : فإني أحكم عليك بحكمك فيّ ، وقتله. قال : وكان آقسنقر من أحسن الناس سياسة وآمنهم رعية وسابلة ، وقرأت بخط أبي منصور هبة الله بن سعد الله الجبراني الحلبي : الصحيح أن قسيم الدولة قتل يوم السبت عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وأربعمائة. ( ثم قال ) : ولما قتل آقسنقر دفن إلى جانب قرنبيا

٣٣٢

بالقبة الصغيرة المبنية بالحجارة من حذاء المسجد ، وكان قسيم الدولة بنى مشهد قرنبيا لمنام رآه بعض أهل زمانه ووقف عليه وقفا فدفن إلى جنبه وعمر على قبره تلك القبة ، فلما ملك زنكي حلب آثر أن يبني لأبيه مكانا ينقله إليه وكانت المدرسة بالزجّاجين لم تتم وكان شرف الدين أبو طالب بن العجمي هو الذي يتولى عمارة هذه المدرسة فأشار على زنكي أن ينقل أباه إليها فنقله وتمم عمارة المدرسة ووقف على من يقرأ على قبره القرية المعروفة بشامر وهي جارية إلى الآن (١). وأخبرني أبو حامد عبد الله بن عبد الرحمن بن العجمي قال : أراد أتابك زنكي أن ينقل أباه إلى موضع يجدده عليه ويليق به فقال له : إني أنا قد عمرت هذه المدرسة بالزجّاجين ، وسأله أن ينقل أباه إليها ففعل واتخذ الجانب الشمالي تربة لأبيه ولمن يموت من ولده وغيرهم. وحكى لي والدي رحمه‌الله أن أتابك زنكي لما نقل أباه من قرنبيا وأدخله إلى المدرسة بالزجّاجين لم يدخل به من باب من أبواب مدينة حلب وأنهم رفعوه من بعض الأسوار ودلوه إلى المدينة لأنهم يتطيرون بدخول الميت إلى البلدة.

قرأت بخط أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد العظيمي وأنبأنا به عبد المؤيد بن محمد الطوسي وغيره قال سنة ثمانين وأربعمائة دولة قسيم الدولة وزيره أبو المعز بن صدقة ( هكذا ) : فيها استقرت الرتبة بحلب للأمير قسيم الدولة آقسنقر من قبل السلطان العادل أبي الفتح وتوطدت له الأمور بها وأقام الهيبة العظيمة التي لا يقدر عليها أحد من السلاطين ، وأظهر فيها من العدل والإنصاف مع تلك الهيبة ما يطول شرحه ، ورخصت الأسعار في أيامه الرخص الزائد عن الحد ، وقرب الحلبيين وأحبهم الحب المفرط وأحبوه أضعاف ذلك ، وأقام الحدود وأحيا أحكام الإسلام وعمر الأطراف وآمن السبل وقتل قطاع الطريق وطلبهم في كل فج وشنق منهم خلقا. وكلما سمع بقاطع طريق في موضع قصده وأخذه وصلبه على أبواب المدينة ، وكثرت في أيامه الأمطار وتفجرت العيون والأنهار وعامل أهل حلب من الجميل ما أحوجهم أن يتوارثوا الرحمة عليه إلى آخر الدهر اه.

__________________

(١) قال ابن خلكان في ترجمته : ورأيت عند قبره خلقا كثيرا يجتمعون كل يوم جمعة لقراءة القرآن الكريم وقالوا إن لهم على ذلك وقفا عظيما ، وابن خلكان تلقى علومه في حلب دخلها سنة ٦٢٦ وخرج منها سنة ٦٣٥ كما ذكره في ترجمة ابن يعيش وابن شداد.

٣٣٣

ذكر قتل تتش بن آلب أرسلان سنة ٤٨٨

في هذه السنة في صفر قتل تتش بن آلب أرسلان في وقعة جرت بينه وبين ابن أخيه بركياروق في موضع قريب من الري انهزم عسكر تتش وثبت هو فقتل ، قيل قتله بعض أصحاب آقسنقر صاحب حلب أخذا بثأر صاحبه. اه ابن الأثير باختصار.

ترجمة تاج الدولة تتش :

قال ابن خلكان : هو تاج الدولة أبو سعيد تتش بن آلب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق السلجوقي. كان صاحب البلاد الشرقية ، فلما حاصر أمير الجيوش بدر الجمالي مدينة دمشق من جهة صاحب مصر وكان صاحب دمشق يومئذ آتسز بن أوق الخوارزمي التركي ، سير آتسز المذكور إلى تتش فاستنجده وسار إليه بنفسه ، فلما وصل إلى دمشق خرج إليه آتسز فقبض عليه تتش واستولى على مملكته وذلك في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ، وكان قد ملك دمشق في ذي القعدة سنة ثمان وستين وأربعمائة ، ثم ملك حلب في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ( تقدم أنه تملكها سنة ٤٧٩ ) واستولى على البلاد الشامية ، ثم جرى بينه وبين ابن أخيه بركياروق منافرات ومشاجرات أدت إلى المحاربة فتوجه إليه وتصافا بالقرب من مدينة الري في يوم الأحد سابع عشر صفر سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، فانكسر تتش المذكور وقتل في المعركة ذلك النهار ، ومولده سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وخلف ولدين أحدهما فخر الملوك رضوان والآخر شمس الملوك أبو نصر دقاق ، فاستقل رضوان بمملكة حلب ودقاق بمملكة دمشق. اه. وسيأتي أنه خلف ولدين صغيرين آخرين.

ولاية رضوان بن تتش السلجوقي سنة ٤٨٨

قال ابن الأثير : كان تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابنه الملك رضوان وكتب إليه من بلد الجبل قبل المصاف الذي قتل فيه يأمره أن يسير إلى العراق ويقيم بدار

٣٣٤

المملكة ، فسار في عدد كثير منهم إيلغازي بن أرتق ، وكان قد سار إلى تتش فتركه عند ابنه رضوان ومنهم الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس وغيرهما ، فلما قارب هيت بلغه قتل أبيه فعاد إلى حلب ومعه والدته فملكها وكان بها أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي قد سلمها إليه تتش وحكمه في البلد والقلعة ولحق برضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين ابن إيتكين ، وكان مع تتش فسلم من المعركة ، وكان مع رضوان أخواه الصغيران أبو طالب وبهرام وكانوا كلهم مع أبي القاسم كالأضياف لتحكمه في البلد ، واستمال جناح الدولة المغاربة وكانوا أكثر جند القلعة ، فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبي القاسم وأرسل إليه رضوان يطيب قلبه ، فاعتذر فقبل عذره وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها ولم يكن يخطب له ، بل كانت الخطبة لأبيه بعد قتله نحو شهرين ، وسار جناح الدولة في تدبير المملكة سيرة حسنة وخالف عليهم الأمير باغيسيان بن محمد ابن آلب التركماني صاحب أنطاكية ثم صالحهم وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر لخلوها من وال يحفظها ، فساروا جميعا وقدم عليهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رتبهم فيها وقصدوا سروج فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق جد أصحاب الحصن اليوم وأخذها ومنعهم عنها ، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا إليه من عساكره وما يفسدون من غلامهم ويسألونه الرحيل ، فرحل عنهم إلى الرها ، وكان رجل من الروم يقال له الفارقليط وكان يضمن البلد من بوزان فقاتل المسلمين بمن معه واحتمى بالقلعة وشاهدوا من شجاعته ما كانوا لا يظنونه ، ثم ملكها رضوان وطلب باغيسيان القلعة من رضوان فوهبها له فتسلمها وحصنها ورتب رجالها ، وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم حران فسمع ذلك قراجة أميرها فاتهم ابن المفتي وكان هذا ابن المفتي قد اعتمد عليه تتش في حفظ البلد ، فأخذه وأخذ معه بني أخيه فصلبهم ، ووصل الخبر إلى رضوان ، وقد اختلف جناح الدولة وبغيسيان وأضمر كل واحد منهما الغدر بصاحبه ، فهرب جناح الدولة إلى حلب فدخلها وسار رضوان وباغيسيان فعبر الفرات إلى حلب فسمعوا بدخول جناح الدولة إليها ، ففارق باغيسيان الملك رضوان وسار إلى أنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي وسار رضوان إلى حلب.

٣٣٥

سنة ٤٨٩

ذكر قتل يوسف بن آبق والمجن الحلبي

قال ابن الأثير : في هذه السنة في المحرم قتل يوسف بن آبق الذي ذكرنا أنه سيره تاج الدولة تتش إلى بغداد ونهب سوادها ، وكان سبب قتله أنه كان بحلب بعد قتل تاج الدولة ، وكان بحلب إنسان يقال له المجن وهو رئيس الأحداث بها وله أتباع كثيرة ، فحضر عند جناح الدولة حسين وقال له : إن يوسف بن آبق يكاتب باغيسيان ( صاحب أنطاكية ) وهو على عزم الفساد واستأذنه في قتله فأذن له وطلب أن يعينه بجماعة من الأجناد ففعل ذلك ، فقصد المجن الدار التي بها يوسف فكبسها من الباب والسطح وأخذ يوسف فقتله ونهب كل ما في داره وبقي بحلب حاكما فحدثته نفسه بالتفرد بالحكم عن الملك رضوان فقال لجناح الدولة : إن الملك رضوان أمرني بقتلك فخذ لنفسك ، فهرب جناح الدولة إلى حمص وكانت له ، فلما انفرد المجن بالحكم تغير عليه رضوان وأراد منه أن يفارق البلد فلم يفعل وركب في أصحابه فلو همّ بالمحاربة لفعل ، ثم أمر أصحابه أن ينهبوا ماله وأثاثه ودوابه ففعلوا ذلك ، واختفى فطلب فوجد بعد ثلاثة أيام فأخذ وعوقب وعذب ثم قتل هو وأولاده ، وكان من أهل السواد يشق الخشب ثم بلغ هذه الحالة اه.

قال في الزبد والضرب : وفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة قتل الملك رضوان رئيس حلب بركات بن فارس الفوعي المعروف بالمجن ، وكان هذا المجن أولا من جملة اللصوص الشطار وقطاع الطريق الذعار فاستتابه قسيم الدولة وولاه رئاسة حلب لشهامته وكفاءته ومعرفته بالمفسدين ، وكان في حال اللصوصية يصلي العشاء الآخرة بالفوعة ويسري إلى حلب ويسرق منها شيئا ويخرج فيصلي الفجر بالفوعة ، فإذا اتهم بالسرقة أحضر من يشهد له أنه صلى العشاء بالفوعة والصبح فيتركونه ، واستمر على رياسة حلب وحكم على القضاة والوزراء ومن دونهم ، وكان كثير السعاية في قتل النفوس وسفك الدماء وأخذ الأموال وارتكاب الظلم ، فعصى على الملك رضوان ثم ضعف واختفى ، ثم سلط عليه الملك رضوان فسجنه وعذبه عذابا شديدا بأنواع شتى ، وأراد بذلك أن يستصفي ماله ، ومما

٣٣٦

عذبه به أن أحمى الطشت حتى صار كالنار ووضعه على رأسه ونفخ في دبره بكير الحداد ونقبت كعابه وضرب فيها الرزز والحلق ، ولما وضع النجار المنقب على كعبه قطع اللحم والجلد ولم يدر المنقب فلطمه المجن وقال : ويلك لا تعرف ، أحضر خشبة وضعها على الكعب ، فلما فرغ قيل له : كيف تجد طعم الحديد ؟ فقال : قولوا للحديد كيف يجد طعمي ، ولم يقر المجن مع هذا بدرهم واحد ، ثم قتل ، ولما قدم للقتل صاح بصوت عال : يا معشر أهل حلب من كان لي عنده مال فهو في حل منه اه.

قال ابن الأثير : وفي هذه السنة توفي القاضي أبو مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولي على أمورها ، وكان رجل زمانه همة وعلما.

سنة ٤٩٠

ذكر الحرب بين رضوان ملك حلب

وأخيه دقاق صاحب دمشق

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق وبها أخوه دقاق عازما على أخذها منه ، فلما قاربها ورأى حصانتها وامتناعها علم عجزه عنها فرحل إلى نابلس وصار إلى القدس ليأخذه فلم يمكنه وانقطعت العساكر عنه ، فعاد ومعه باغيسيان صاحب أنطاكية وجناح الدولة ، ثم إن باغيسيان فارق رضوان وقصد دقاق وحسن له محاصرة أخيه بحلب جزاء لما فعله ، فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغيسيان ، فأرسل رضوان رسولا إلى سقمان بن أرتق وهو بسروج يستنجده فأنجده ، فأتاه في خلق كثير من التركمان فسار نحو أخيه فالتقيا بقنسرين فاقتتلا فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم وجميع مالهم وعاد رضوان إلى حلب ، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق وبأنطاكية ، وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين. اه ابن الأثير.

قال الكمال ابن العديم (١) ولما سار رضوان وبغيسيان وصلا إلى شيزر متوجهين إلى

__________________

(١) ما ننقله عن الكمال ابن العديم من هذه السنة إلى سنة ٥٤١ مأخوذ عن المنتخبات من بغية الطلب للكمال المذكور المطبوعة في باريس. انظر المقدمة صحيفة ٣٣.

٣٣٧

حمص لقصد حمص ، فتواصلت الأخبار بوصول خلق من الفرنج قاصدين أنطاكية ، فقال باغيسيان : عودنا إلى أنطاكية ولقاء الفرنج أولى ، وقال سكمان : سيرنا إلى ديار بكر وأخذها من المتغلبين ونتقوى بها وأنزل أهلي بها ونعود إلى حمص أولى ، واختلفوا فسار الملك رضوان نحو حلب حفلا وكان معه وزيره أبو النجم بن بديع وزير أبيه تتش أبي القسم وكان قد ولاه وزارته حين ملك حلب فاتهماه أنه هو الذي يفسد الحال مع رضوان ، فطلع إلى حصن شيزر وأقام بها عند ابن منقذ خشية من باغيسيان وسكمان ، فلما سارا عن شيزر سار إلى حلب ولحق بالملك رضوان ، ولما عاد رضوان مغاضبا لبغيسيان وسكمان عاد الأمراء من شيزر إلى أنطاكية وبلغهم نزول الفرنج البلانة ونهبها ، ولما دخل بغيسيان أنطاكية أخرج ولديه شمس الدولة ومحمدا فسار أحدهما إلى دقاق وطغتكين يستنجد هما وبث كتبه إلى جناح الدولة ووثاب بن محمود وبني كلاب وسار محمد ابنه إلى التركمان وكربغا وأمراء الشرق وملوكه وسارت كتبه إلى جميع أمراء المسلمين.

وفي ثامن شهر رمضان وصل من قبرس إلى مينا اللاذقية اثنان وعشرون قطعة في البحر فهجموه وأخذوا منه جميع ما كان للتجار ونهبوا اللاذقية وعادوا ، ووصلت الفرنج إلى الشام واعتبروا عسكرهم فكانوا ثلاثمائة ألف وعشرين ألف إنسان لأنهم وصلوا من جهة الشمال ، وفي اليوم الثاني من شوال نزلت عساكر الفرنج على بغراس وأغاروا على أعمال أنطاكية ، فعند ذلك عصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لأنطاكية وقتلوا من كان بها وهرب من هرب منها ، وفعل أهل أرتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج ، وهذا كله لقبح سيرة باغيسيان وظلمه في بلاده ، ونزل الفرنج على أنطاكية لليلتين بقيتا من شوال من سنة تسعين وأربعمائة اه.

أقول : الظاهر أن سيرهما إلى شيزر كان بعد القتال الذي حصل في قنسرين كما تقدم آنفا.

ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوان

في هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بامر الله العلوي صاحب مصر ، وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة وهو زوج أمه فرأى من

٣٣٨

رضوان تغيرا فسار إلى حمص وهي له فلما رأى باغيسيان بعده عن رضوان صالحه وقدم إليه بحلب ونزل بظاهرها ، وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد وكان يميل إليه فقدمه بعد مسير جناح الدولة فحسن له مذاهب العلويين المصريين وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم ويبذلون له المال وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق فخطب لهم بشيزر وجميع الأعمال سوى أنطاكية وحلب والمعرة أربع جمع. ثم حضر عنده سقمان بن أرتق وباغيسيان صاحب أنطاكية فأنكرا ذلك واستعظماه فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه وسار باغيسيان إلى أنطاكية فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

سنة ٤٩٠

ذكر الحرب بين رضوان ملك حلب

وأخيه دقاق صاحب دمشق

قال ابن الأثير : لما كان سنة تسعين وأربعمائة خرج الفرنج إلى بلاد الشام ، وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعا كثيرا من الفرنج وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية ، فأرسل إلى رجار يقول له : قد جمعت جمعا كثيرا وأنا واصل إليك وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها وأكون مجاورا لك ، فجمع رجار أصحابه واستشارهم في ذلك وقالوا : وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية ، فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال : وحق ديني هذه خير من كلامكم ، قالوا : وكيف ذلك ، قال : إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كلفة كثيرة ومراكب تحملهم إلى إفريقية وعساكر من عندي أيضا ، فإن فتحوا البلاد كانت لهم وصارت المؤنة لهم من صقلية وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة ، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم ويقول تميم غدرت بي ونقضت عهدي وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا ، وبلاد إفريقية باقية لنا متى وجدنا قوة أخذناها. وأحضر رسوله وقال له : إذا عزمتم على جهاد المسلمين وأفضل ذلك فتح بيت المقدس تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر ، وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود ، فتجهزوا وخرجوا إلى الشام.

٣٣٩

وقيل إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم من دخول الأفسيس إلى مصر وحصرها فخافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه ويكون بينهم وبين المسلمين.

فلما عزم الفرنج على قصد الشام ساروا إلى القسطنطينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين ويسيروا في البر فيكون أسهل عليهم ، فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده وقال : لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إليّ أنطاكية ، وكان قصده يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام ظنا منهم أن الأتراك لا يبقون منهم أحدا لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد ، فأجابوه إلى ذلك وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش وهي قونية وغيرها ، فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه ومنعهم فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني فسلكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها ، ولما سمع صاحبها باغيسيان بتوجههم إليها خاف من النصارى الذين بها فأخرج المسلمين من أهلها ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق ، ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضا ليس معهم مسلم ، فعملوا فيه إلى العصر ، فلما أرادوا الدخول منعهم وقال لهم : أنطاكية لكم تهبوها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج ، فقالوا له : من يحفظ أبناءنا ونساءنا ؟ فقال : أنا أخلفكم فيها ، فأمسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج فحصروها تسعة أشهر ، وظهر من شجاعة باغيسيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج موتا ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام ، وحفظ باغيسيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم وكف الأيدي المتطرقة إليهم ، فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج وهو زراد يعرف بروزبه وبذلوا له مالا وإقطاعا وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي وهو مبني على شباك في الوادي ، فلما تقرر بينهم وبين هذا الملعون الزراد جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه وصعد جماعة كثيرة بالحبال ، فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق وذلك عند السحر وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة ، فاستيقظ باغيسيان فسأل عن الحال فقيل إن هذا البوق من القلعة ولا شك أنها قد ملكت ، ولم يكن من القلعة ، وإنما كان من

٣٤٠