إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

وأصلح أمره معهم ونزل لهم عن حلب ، فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم ولقبوه مكين الدولة ، فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين ، وسار ثمال إلى مصر في ذي الحجة وسار أخوه أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة وأقام ابن ملهم بحلب.

ذكر ولاية محمود بن صالح المرداسي سنة ٤٥٢

قال ابن الأثير : لما أقام ابن ملهم بحلب جرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب ، وسمع ابن ملهم أن بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح يستدعونه ليسلموا البلد إليه ، فقبض على جماعة منهم وكان منهم رجل يعرف بكامل ابن نباتة ، فخاف فجلس يبكي ، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه : إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا وأخاف على الباقين ، فاجتمع أهل البلد واشتدوا وراسلوا محمودا وهو منهم على مسيرة يوم يستدعونه وحصروا ابن ملهم ، وجاء محمود وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين ، ووصلت الأخبار إلى مصر فسيروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكر بعد اثنين وثلاثين يوما من دخول محمود حلب ، فلما قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرية واختفى الأحداث جميعهم ، وكان عطية بن صالح نازلا بقرب البلد وقد كره فعل محمد ابن أخيه ، فقبض ابن ملهم على مائة وخمسين من الأحداث ونهب وسط البلد وأخذا أموال الناس ، وأما ناصر الدولة فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه وسار في طلب محمود ، فالتقيا بالفنيدق في رجب فانهزم أصحاب ابن حمدان وثبت هو ، فجرح وحمل إلى محمود أسيرا ، فأخذه وسار إلى حلب فملكها وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ، وأطلق ابن حمدان فسار هو وابن ملهم إلى مصر.

ولاية ثمال بن صالح المرداسي سنة ٤٥٣

قال ابن الأثير : لما رجع ابن حمدان وابن ملهم إلى مصر جهز المصريون معز الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه ، فحصره في حلب في ذي الحجة في سنة ٤٥٢ ، فاستنجد

٣٠١

محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حران ، فجاء إليه ، فلما بلغ ثمالا مجيئه سار عن حلب إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين وعاد منيع إلى حران فعاد ثمال إلى حلب ، وخرج إليه محمد ابن أخيه فاقتتلوا وقاتل محمود قتالا شديدا ، ثم انهزم محمود فمضى إلى أخواله بني نمير بحران ، وتسلم ثمال حلب في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وخرج إلى الروم فغزاهم ، ثم توفي بحلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين.

ترجمة ثمال بن صالح المرداسي

قال في مختصر الذهبي : ثمال بن صالح بن الزوقلية الأمير معز الدولة أبو علي الكلابي رئيس بني كلاب ، تملك حلب وغيرها ، وكان بطلا شجاعا حليما كريما أغنى أهل حلب بماله وعمهم بنواله وأحسن إلى العرب ، عزله صاحب مصر المستنصر بالله ثم رده ، وكان الفضلاء يقصدونه ويأخذون جوائزه ، توفي في ذي القعدة سنة ٤٥٤ اه.

ونقل ابن كثير في تاريخه عن ابن الجوزي في ترجمة ثمال المذكور أن الفراش تقدم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست فعفا عنه رحمه‌الله تعالى اه.

وقال في الزبد والضرب للرضي الحنبلي : كان معز الدولة كريما معطاء ، مما يحكى من كرمه أن العرب اقترحوا عليه مضيرة فسأله وكيله : كم ذبحت لأجلها ؟ فقال : سبعمائة وخمسين رأسا ، فقال له : والله لو أتممتها ألفا لوهبت لك ألف دينار ، حتى إن الأمير أبا الفتح الحسن بن عبد الله بن عبد الجبار الحلبي المعروف بابن أبي حصينة امتدحه بقصيدة شكا فيها كثرة الأولاد ، وكان له أربعة عشر ولدا ، فملكه ضيعتين مضافتين إلى ما كان له من الإقطاع فأثرى وعمر بحلب دارا وكتب على روشنها :

دار بنيناها وعشنا بها

في نعمة من آل مرداس

قوم محوا بؤسي ولم يتركوا

علي للأيام من باس

قل لبني الدنيا ألا هكذا

فليصنع الناس مع الناس

قلت : وإلى مرداس كان ينتسب القاضي تقي الدين أبو بكر بن الجناب الشهابي أحمد بن عمر بن أبي السفاح المرداسي الحلبي الشافعي كاتب الأسرار الشريفة وناظر الجيوش المنصورة بالمملكة الحلبية في أواخر الدولة الجركسية ، ولقد كان له سخاء يقتفي فيه

٣٠٢

أثر مثل معز الدولة المرداسي وغيره ، كان يقول لخير بك كافل حلب في آخر الدولة المذكورة : أنا ملك القضاة كما أنك ملك الأمراء. مات مقتولا سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة ودفن بمقبرة جده داخل جامع السفاحية الذي أنشأه جده الأدنى بحلب ، وكانت وفاة معز الدولة سنة أربع وخمسين وأربعمائة ودفن في مقام إبراهيم الفوقاني بالقلعة داخل الباب الغربي وعمل عليه ضريح ، ثم قلع وبلط عليه ، وذلك بعد أن استدعى أخاه عطية ابن صالح بن مرداس وأوصى له بحلب ، وكان وزيره أبا الحسين علي بن يوسف بن أبي الثريا الذي داره الآن مدرسة ابن أبي عصرون بحلب اه.

ولاية عطية بن صالح سنة ٤٥٤

قال ابن الأثير : لما توفي ثمال بن صالح ملك حلب أخوه عطية بن صالح ، ونزل به قوم من التركمان مع ابن خان التركماني فقوي بهم ، فأشار أصحابه بقتلهم فأمر أهل البلد بذلك فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون.

ولاية محمود بن نصر بن صالح سنة ٤٥٤

قال ابن الأثير : إن الناجين من التركمان قصدوا محمودا بحران ( وقد قدمنا ذكر توجهه إليها ) واجتمعوا معه على حصار حلب ، فحصرها وملكها (١) في رمضان سنة أربع وخمسين ، وقصد عمه عطية الرقة فملكها ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة مسلم

__________________

(١) قال في معجم البلدان في الكلام على ( أسفونا ) : ذكر أبو غالب بن مهذب المعري في تاريخه أن محمود بن نصر رهن ولده نصرا عند صاحب أنطاكية على أربعة عشر ألف دينار وخراب حصن أسفونا إذا ملك حلب وأخذها من عمه عطية ، فلما ملك حلب خرب حصن أسفونا وأخرج لذلك عزيز الدولة ثابتا وشبل بن جامع وجمعا الناس من معرة النعمان وكفر طاب وأعمالها ختى خرباه اه. وقال قبل ذلك : أسفونا بالفتح ثم السكون اسم حصن كان قرب معرة النعمان افتتحه محمود بن نصر فقال أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصين يمدحه ويذكره :

عداتك منك في وجل وخوف

يريدون المعاقل أن تصونا

فظلوا حول أسفونا كقوم

أتى فيهم فظلوا آسفينا

٣٠٣

ابن قريش سنة ثلاث وستين ، وسار عطية إلى بلد الروم فمات بالقسطنطينية سنة خمس وستين ، وأرسل محمود التركمان مع أميرهم ابن خان إلى ارتاح فحصرها وأخذها من الروم سنة ستين ، وسار محمود إلى طرابلس فحصرها وأخذ من أهلها مالا وعاد ، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان.

سنة ٤٦٢ مجيء ملك الروم إلى منبج

قال ابن الأثير : في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام ونزل على مدينة منبج ونهرها وقتل أهلها وهزم محمود بن صالح بن مرداس وبني كلاب وابن حسان الطائي ومن معهما من جموع العرب ، ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده ولم يمكنه المقام لشدة الجوع..

سنة ٤٦٣

قال ابن الأثير : في هذه السنة خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله وللسلطان ألب أرسلان ، وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان وقوتها وانتشار دعوتها ، فجمع أهل حلب وقال : هذه دولة جديدة ومملكة شديدة ، ونحن تحت الخوف منهم وهم يستحلون دماءكم لأجل مذاهبكم ، والرأي أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل ، فأجاب المشايخ ذلك ولبس المؤذنون السواد وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان ، فأخذت العامة حصر الجامع وقالوا : هذه حصر علي بن أبي طالب فليأت أبو بكر بحصر يصلي عليها الناس ، وأرسل الخليفة إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي فلبسها ، ومدحه ابن سنان الخفاجي وأبو الفتيان بن حيوس ، وقال أبو عبد الله بن عطية يمدح القائم بأمر الله ويذكر الخطبة بحلب ومكة والمدينة :

كم طائع لك لم تجلب عليه ولم

تعرف لطاعته غير التقى سببا

هذا البشير بإذعان الحجاز وذا

داعي دمشق وذا المبعوث من حلبا

٣٠٤

ذكر استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب وجعل طريقه على ديار بكر ، فخرج إليه صاحبها نصر بن مروان وخدمه بمائة ألف دينار وحمل إليه إقامة عرف السلطان أنه قسطها على البلاد ، فأمر بردها ، ووصل إلى آمد فرآها ثغرا منيعا فتبرك به وجعل يمر يده على السور ويمسح بها صدره ، وسار إلى الرها فحصرها فلم يظفر منها بطائل ، فسار إلى حلب وقد وصلها نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بالرسالة القائمية والخلع ، فقال له محمود صاحب حلب : أسألك الخروج إلى السلطان واستعفاءه لي من الحضور عنده ، فخرج نقيب النقباء وأخبر السلطان بأنه قد لبس الخلع القائمية وخطب فقال : أي شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون ( حي على خير العمل ) ولا بد من الحضور ودوس بساطي ، فامتنع محمود من ذلك ، فاشتد الحصار على البلد وغلت الأسعار وعظم القتال ، وزحف السلطان يوما وقرب من البلد فوقع حجر منجنيق في فرسه ، فلما عظم الأمر على محمود خرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري فدخلا على السلطان وقالت له : هذا ولدي فافعل به ما تحب ، فتلقاهما بالجميل وخلع على محمود وأعاده إلى بلده ، فأنفذ إلى السلطان مالا جزيلا.

وعاد السلطان من حلب إلى أذربيجان اه.

سنة ٤٦٥

قال في المختار من الكواكب المضية : وفي سنة خمس وستين وأربعمائة وفد أبو الفتيان بن حيوس الشاعر المشهور وقد جلس الأمير عز الدولة محمود في مجلسه وأمر بإحضار الشراب ، فشرب أقداحا ثم قال : ارفعوا الشراب فإن ابن حيوس يحضرني ممتدحا وفي نفسي أن أهب له ، فإن كان الشراب في مجلسي قيل وهب وهو سكران ، فرفع الشراب وحضر ابن حيوس وأنشده قصيدته فيه التي أولها : ( قفوا في الفلا حيث انتهيتم تذمما ) فوهب له ألف دينار في طبق فضة ، وسنذكر أبياتا من هذه القصيدة في ترجمة ابن حيوس المذكور.

٣٠٥

وكان الأمير محمود في أول ملكه حسن الأخلاق كريم النفس ، ثم تنكر وغلب عليه حب الدنيا وجمع المال ولحقه من البخل ما ضرب به المثل.

ونقل عن صاحب عنوان السير قال : كان عز الدولة محمود شجاعا كريما ، ولما أخذ حلب مدحه ابن حيوس بقصيدة أولها :

أبى الله إلا أن يكون لك السعد

فليس لما تبغيه منع ولا رد

قضت حلب ميعادها بعد مطلها

و أطنب وصل ما مضى قبله صد

تهز لواء النصر حولك عصبة

إذا طلبوا نالوا وإن عقدوا شدوا

و خطية سمر وبيض صوارم

و صافية زعف وصافنة جرد

ذكر وفاة معز الدولة محمود بن نصر المرداسي سنة ٤٦٨

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤٤٢ عند سرده أخبار بني مرداس : مات محمود في حلب سنة ثمان وستين في ذي الحجة.

وقال في حوادث سنة ٤٦٩ : فيها مات محمود بن مرداس صاحب حلب وملك بعده ابنه نصر.

قال أبو الفدا في حوادث سنة ٤٦٩ : وفي هذه السنة أورد ابن الأثير موت محمود ابن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب. أقول : لكني وجدت في تاريخ حلب تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم أن محمودا المذكور مرض في سنة سبع وستين وأربعمائة وحدث به قروح مات بها ، ولحقه في أواخر عمره من البخل مالا يوصف. وفي المختار من الكواكب المضية قال ابن العديم : مات عز الدولة محمود في الليلة التي مات فيها القائم بأمر الله. أقول : وقد ذكر ابن الأثير أن القائم بأمر الله توفي ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وفي المختار من الكواكب المضية ذكر ابن العديم في تاريخه عن أبي الحسن علي بن مرشد بن علي بن مقلد قال : كان أبو سالم ناجية غلام عز الدولة محمود متولي الشام ، وكان من الظلم على باب ما فتحه الحجاج ، وكان محمود قد

٣٠٦

أخرجه ليصادر الناس فحدثني من أثق به أنه صادر أهل المعرة ونواحيها وتيزين ونواحيها على ستة عشر ألف دينار بعد ما هتك منها الأستار ، وكان ذلك لاضطراب عقل محمود من المرض الذي ناله ، وذلك أنه كان يرى من أسفله معاليق بطنه ، وأنفذ ناجية بالذهب إليه فغضب وقال : ما ظننت أنه ينفذ لي أقل من سبعين ألف دينار ويأخذ مثلها ، والله لئن لم ينفذ لي البقية لأوقعن به ، فقال ناجية لطبيبه : والله ما أقدر أجمع من البلاد دينارا واحدا ، فعرفني إن كان يسلم لأمضي ، فقال : أبشر فما منه قوة تخدمه أكثر من يومك فاحتل بحيلة ، فلما سمع ناجية من الطبيب ذلك أنفذ فاشترى بلعاسية وفصلها أكياسا ، هذا والرسل تترى إليه في طلب المال وهو يقول : نعم قد ابتدأت أحضره وهذه البلعاسية قد فصلتها أكياسا والخياط فيها ، فتردد الرسول مرة أو مرتين ثم جاءه آخر فأعلمه أنه قد مات.

ولاية نصر بن محمود بن نصر بن صالح المرداسي

سنة ٤٦٧

قال ابن الأثير : لما مات محمود وصى بحلب بعده لابنه مشيب ، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره وسلموا البلاد إلى ولده الأكبر واسمه نصر وجده لأمه الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة بن بويه وتزوجها عند دخولهم مصر لما ملك طغرلبك العراق.

وفي المختار من الكواكب المضية نقلا عن ابن العديم : لما مات محمود أوصى بالملك من بعده لولده شبل بن محمود وأسكنه القلعة وجعل الحراس عنده ، وأسكن ولده نصر البلد وكان كارها له ، وكانت العساكر تميل إلى نصر ، فبذل العطاء وعدل فملكوه.

أقول : ابن الأثير سمى ولده مشيبا وابن العديم سماه شبلا وكلاهما تحريف ، والصحيح أن اسمه سابق كما سيأتي.

قال أبو الفدا : لما ولي نصر بن محمود مدحه ابن حيوس بقصيدة منها :

ثمانية لم تفترق مذ جمعتها

فلا افترقت ماذب عن ناظر شعر

ضميرك والتقوى وجودك والغنى

و لفظك والمعنى وعزمك والنصر

٣٠٧

و كان لمحمود بن نصر سجية

و غالب ظني أن سيخلفها نصر

وكان عطية ابن حيوس على محمود إذا مدحه ألف دينار فأعطاه نصر ألف دينار مثل ما كان يعطيه أبوه محمود وقال : لو قال : ( وغالب ظني أن سيضعفها نصر ) لأضعفتها له.

سنة ٤٦٨

قال ابن الأثير : في هذه السنة ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج وأخذها من الروم.

ذكر وفاة نصر

قال أبو الفداء : كان نصر يدمن شرب الخمر ، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه حلب وهم بالحاضر وأراد قتالهم ، فضربه واحد منهم بسهم نشاب فقتله. ولم يذكر ابن الأثير تاريخ قتل نصر متى كان ، ثم إني وجدت في تاريخ حلب تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم تاريخ قتل نصر المذكور قال : وفي يوم عيد الفطر سنة ثمان وستين وأربعمائة عيد نصر بن محمود وهو في أحسن زي ، وكان الزمان ربيعا واحتفل الناس في عيدهم وتجملوا بأفخر ملابسهم ، ودخل عليه ابن حيوس فأنشده قصيدة منها :

صفت نعمتان خصتاك وعمتا

حديثهما حتى القيامة يؤثر

فجلس نصر فشرب إلى العصر ، وحمله السكر على الخروج إلى الأتراك وسكناهم في الحاضر وأراد أن ينهبهم ، وحمل عليهم فرماه تركي بسهم في حلقه فقتله ، وكان قتله يوم الأحد مستهل شوال سنة ثمان وستين وأربعمائة.

ذكر ولاية سابق بن محمود بن نصر المرداسي سنة ٤٦٨

وهو آخر ملوك بني مرداس

قال ابن الأثير : لما قتل نصر ملك أخوه سابق وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب.

٣٠٨

سنة ٤٧١

قال أبو الفداء : في هذه السنة ملك تاج الدولة تتش ابن السلطان ألب أرسلان دمشق ، وسببه أن أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام وما يفتحه فسار تاج الدولة تتش إلى حلب ، وكان قد أرسل بدر الجمالي أمير الجيوش بمصر عسكرا إلى حصار آتسز بدمشق ، فأرسل آتسز يستنجد تتش وهو نازل على حلب يحاصرها ، فسار تتش إلى دمشق فملكها.

سنة ٤٧٢

قال في المختار من الكواكب المضية : وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة كتب الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي إلى السلطان ملكشاه يطلب منه أن يسلم إليه حلب على أن يحمل إليه في العام ثلثمائة ألف دينار ، فأجابه إلى ذلك وكتب له توقيعا بها ، فسار إليها وبها الأمير سابق بن محمود فأعطاه مسلم إقطاعا بعشرين ألف دينار على أن يخرج من البلد فأجاب ، فوثب عليه أخواه وقتلاه واستوليا على القلعة ، فحاصرها مسلم ثم أخذها صلحا ، وكان الأمير سابق المذكور آخر ملوك بني مرداس. انتهى.

أقول : ما سننقله عن ابن الأثير في السنة الآتية يفيد ضعف هذه الرواية وأن سابقا لم يقتله أخواه وأن مسلما حصر القلعة واستنزل منها سابقا ووثابا ابني محمود بن مرداس.

سنة ٤٧٣

استيلاء مسلم بن قريش العقيلي على حلب وولايته عليها

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤٧٢ : في هذه السنة ملك شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي صاحب الموصل مدينة حلب ، وسبب ذلك أن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان حصرها مرة بعد أخرى ، فاشتد الحصار بأهلها ، وكان شرف الدولة يواصلهم

٣٠٩

بالغلات وغيرها ، ثم إن تتش حصرها هذه السنة وأقام عليها أياما ورحل عنها وملك بزاعة والبيرة ( بره جك ) وأحرق ربض عزاز وعاد إلى دمشق ، فلما رحل عنها تاج الدولة استدعى أهلها شرف الدولة ليسلموها إليه ، فلما قاربها امتنعوا من ذلك ، وكان مقدمهم يعرف بابن الحبيبي العباسي فاتفق أن ولده خرج يتصيد بضيعة له فأسره أحد التركمان وهو صاحب حصن بنواحي حلب وأرسله إلى شرف الدولة ، فقرر معه أن يسلم البلد إليه إذا أطلقه ، فأجابه إلى ذلك فأطلقه فعاد إلى حلب اجتمع بأبيه وعرفه ما استقر ، فأذعن إلى تسليم البلد ونادى بشعار شرف الدولة وسلم البلد إليه ، فدخله سنة ثلاث وسبعين وحصر القلعة واستنزل منها سابقا ووثابا ابني محمود بن مرداس ، فلما ملك البلد أرسل ولده وهو ابن عمة السلطان إلى السلطان يخبره بملك البلد ، وأنفذ معه شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها وسأل أن يقرر عليه الضمان ، فأجابه السلطان إلى ما طلب وأقطع ابن عمته بالس اه.

قال ابن الأثير : فيها ملك شرف الدولة صاحب الموصل مدينة حران وأخذها من بني وثاب النميريين وصالحه صاحب الرها ونقش السكة باسمه.

سنة ٤٧٥

ذكر حصر شرف الدولة دمشق وعوده منها

قال ابن الأثير : في هذه السنة جمع تاج الدولة تتش جمعا كثيرا وسار عن بغداد وقصد بلاد الروم أنطاكية وما جاورها ، فسمع شرف الدولة صاحب حلب الخبر فخافه ، فجمع أيضا العرب من عقيل والأكراد وغيرهم فاجتمع معه كثير ، فراسل الخليفة بمصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق ، فوعده ذلك ، فسار إليها ، فلما سمع تتش الخبر عاد إلى دمشق فوصلها أول المحرم سنة ست وسبعين ووصل شرف الدولة أواخر المحرم وحصر المدينة وقاتله أهلها ، وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه وحملوا على عسكره حملة صادقة فانكشفوا وتضعضعوا وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة وأشرف على الأسر وتراجع إليه أصحابه ، فلما رأى شرف الدولة ذلك ورأى أيضا أن مصر لم يصل إليه

٣١٠

منها عسكر وأتاه عن بلاده الخير أن أهل حران عصوا عليه فرحل عن دمشق إلى بلاده وأظهر أنه يريد البلاد بفلسطين ، فرحل أولا إلى مرج الصفّر ، فارتاع أهل دمشق وتتش واضطربوا ، ثم إنه رحل من مرج الصفّر مشرقا في البرية وجد في مسيره فهلك من المواشي الكثير مع عسكره ومن الدواب شيء كثير وانقطع خلق كثير.

سنة ٤٧٦

قال ابن الأثير : في هذه السنة عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى جبق أمير التركمان ، وكان شرف الدولة على دمشق يحاصر تاج الدولة تتش بها ، فبلغه الخبر فعاد إلى حران وصالح ابن ملاعب صاحب حمص وأعطاه سلمية ورفنيّة وبادر بالمسير إلى حران ، فحصرها ورماها بالمنجنيق فخرب من سورها بدنة وفتح البلد في جمادى الأولى وأخذ القاضي ومعه ابنين له فصلبهم على السور.

سنة ٤٧٧

ذكر الحرب بين فخر الدولة بن مروان وشرف الدولة مسلم بن قريش

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤٨٦ : فيها عقد السلطان ملكشاه لفخر الدولة بن جهير على ديار بكر وخلع عليه وأعطاه الكوسات وسير معه العساكر وأمره أن يقصدها ويأخذها من بني مروان وأن يخطب لنفسه ويذكر اسمه على السكة فسار إليها.

وقال في حوادث سنة ٤٧٧ : ثم سير السلطان إليه جيشا آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك ، وقيل أكسب والأول أصح ، وأمرهم بمساعدته ، وكان ابن مروان قد مضى إلى شرف الدولة وسأله نصرته على أن يسلم إليه آمد ، وحلف كل واحد لصاحبه وكل منهما يرى أن صاحبه كاذب لما كان بينهما من العداوة المستحكمة ، واجتمعا على حرب فخر

٣١١

الدولة وسارا إلى آمد وقد نزل فخر الدولة بنواحيها ، فلما رأى فخر الدولة اجتماعهما مال إلى الصلح وقال : لا أوثر أن يحل بالعرب بلاء على يدي ، فعرف التركمان ما عزم عليه فركبوا ليلا وأتوا إلى العرب وأحاطوا بهم في ربيع الأول ، والتحم القتال واشتد فانهزمت العرب ودوابهم وانهزم شرف الدولة وحمى نفسه حتى وصل إلى فصيل آمد وحصره فخر الدولة ومن معه ، فلما رأى شرف الدولة أنه محصور خاف على نفسه فراسل الأمير أرتق وبذل له مالا وسأله أن يمن عليه بنفسه ويمكنه من الخروج من آمد ، وكان هو على حفظ الطريق والحصار ، فلما سمع أرتق ما بذل له شرف الدولة أذن له في الخروج ، فخرج منها في الحادي والعشرين من ربيع الأول وقصد الرقة وأرسل إلى أرتق بما كان وعده به ، وسار ابن جهير إلى ميافارقين ومعه من الأمراء الأمير بهاء الدولة منصور بن مزيد وابنه سيف الدولة صدقة ، ففارقوه وعادوا إلى العراق ، وسار فخر الدولة إلى خلاط ، ولما استولى العسكر السلطاني على حلل العرب وغنموا أموالهم وسبوا حريمهم بذل سيف الدولة صدقة ابن منصور بن مزيد الأموال وافتك أسرى بني عقيل ونساءهم وأولادهم وجهزهم جميعهم وردهم إلى بلادهم ، ففعل أمرا عظيما وأسدى مكرمة شريفة ومدحه الشعراء في ذلك فأكثروا ، فمنهم محمد بن محمد بن خليفة السنبسي يذكر ذلك في قصيدة :

كما أحرزت شكر بني عقيل

بآمد يوم كضهم الحذار

غداة رمتهم الأتراك طرا

بشهب في حوافلها ازورار

فما جبنوا ولكن فاض بحر

عظيم لا تقاومه البحار

فحين تنازلوا تحت المنايا

و فيهن الرزية والدمار

مننت عليهم وفككت عنهم

و في أثناء حبلهم انتشار

و لو لا أنت لم ينفك عنهم

أسير حين أعلقه الإسار

في أبيات كثيرة. ولما بلغ السلطان أن شرف الدولة انهزم وحصر بآمد لم يشك في أسره فخلع على عميد الدولة بن جهير وسيره في جيش كثيف إلى الموصل ، وكاتب أمراء التركمان بطاعته وسير معه الأمراء أقسنقر قسيم الدولة جد ملوكنا أصحاب الموصل ، وهو الذي أقطعه السلطان بعد ذلك حلب ، وكان الأمير أرتق قد قصد السلطان فعاد وصحبته عميد الدولة حتى وصل إلى الموصل ، فأرسل إلى أهلها يشير إليهم بطاعة السلطان وترك

٣١٢

عصيانه ، ففتحوا له البلد وسلموه إليه ، وسار السلطان بنفسه وعساكره إلى بلاد شرف الدولة ليملكها فأتاه الخبر بخروج أخيه تكش بخراسان على ما نذكره ، ورأى شرف الدولة قد خلص من الحصر فأرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الملك وهو مقابل الرحبة فأعطاه العهود والمواثيق وأحضره عند السلطان وهو بالبوازيج ، فخلع عليه آخر رجب ، وكانت أمواله قد ذهبت فاقترض ما خدم به وحمل للسلطان خيلا رائعة من جملتها فرسه بشار وهو فرسه المشهور الذي نجا عليه من المعركة ومن آمد أيضا ، وكان سابقا لا يجارى ، فأمر السلطان بأن يسابق به الخيل فجاء سابقا ، فقام السلطان قائما لما تداخله من العجب ، وأرسل الخليفة طرادا الزينبي في لقي شرف الدولة فلقيه بالموصل فزاد أمر شرف الدولة قوة وصالحه السلطان وأقره على بلاده وعاد إلى خراسان لحرب أخيه.

ذكر فتح سليمان بن قتلمش أنطاكية

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا وأعمالها من بلاد الروم إلى بلاد الشام فملك مدينة أنطاكية من أرض الروم ، وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ، وسبب ملك سليمان المدينة أن صاحبها الفردوس الرومي كان قد سار عنها إلى بلاد الروم ورتب بها شحنة ، وكان الفردوس مسيئا إلى أهلها وإلى جنده أيضا ، حتى إنه حبس ابنه ، فاتفق ابنه والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان بن قتلمش وكاتبوه يستدعونه ، فركب البحر في ثلاثمائة فارس وكثير من الرجال وخرج منه وسار في جبال وعرة ومضايق شديدة حتى وصل إليها للموعد فنصب السلاليم باتفاق من الشحنة ومن معه وصعد السور واجتمع بالشحنة وأخذ البلاد في شعبان ، فقاتله أهل البلد فهزمهم مرة بعد أخرى وقتل كثيرا من أهلها ، ثم عفا عنهم وتسلم القلعة المعروفة بالقسيان وأخذ من الأموال ما يجاوز الإحصاء وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم وأمرهم بعمارة ما خرب ومنع أصحابه من النزول في دورهم ومخالطتهم ، ولما ملك سليمان أنطاكية أرسل إلى السلطان ملكشاه البشارة به وهنأه الناس ، فممن قال فيه الأبيوردي من قصيدة مطلعها :

لمعت كناصية الحصان الأشقر

نار بمعتلج الكثيب الأعفر

٣١٣

و فتحت أنطاكية الروم التي

نشرت معاقلها على الإسكندر

وطئت مناكبها جيادك فانثنت

تلقي أجنتها بنات الأصفر

سنة ٤٧٨

ذكر الحرب بين سليمان بن قتلمش وبين شرف الدولة وقتل هذا

قال ابن الأثير : لما ملك سليمان بن قتلمش مدينة أنطاكية أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمله إليه الفردوس من المال ويخوفه معصية السلطان ، فأجابه : أما طاعة السلطان فهو شعاري ودثاري والخطبة له والسكة في بلادي ، وقد كاتبته بما فتح الله على يدي بسعادته من هذا البلد وأعمال الكفار ، وأما المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية قبلي فهو كان كافرا وكان يحمل جزية رأسه وأصحابه ، وأنا بحمد الله مؤمن ولا أحمل شيئا ، فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية ونهب سليمان أيضا بلد حلب ، فلقيه أهل السواد يشكون إليه نهب عسكره فقال : أنا كنت أشد كراهية لما يجري ، ولكن صاحبكم أحوجني إلى ما فعلت ، ولم تجر عادتي بنهب مال مسلم ولا أخذ ما حرمته الشريعة ، وأمر أصحابه بإعادة ما أخذوه منهم فأعاده. ثم إن شرف الدولة جمع الجموع من العرب والتركمان ، وكان ممن معه جبق أمير التركمان في أصحابه وسار إلى أنطاكية ليحصرها ، فلما سمع سليمان الخبر جمع عساكره وسار إليه فالتقيا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف من أعمال أنطاكية واقتتلوا ، فمال تركمان جبق إلى سليمان فاختل مصاف مسلم بن قريش فانهزمت العرب ، وتبعهم شرف الدولة منهزما فقتل بعد أن صبر ، وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب ، وكان قتله يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين.

قال في الزبد والضرب : في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وصل شرف الدولة إلى أعزاز وأشير عليه بالنزول على حلب ، فنزل على نهر عفرين ، ووصل سليمان بن قطلمش وهو من

٣١٤

السلجوقية من أنطاكية ليلتقي الجيشان ، فجاء شرف الدولة بطيخ فنزل هو وبعض بني عمه وأكلا فقال ابن عمه :

كلوا أكلة من عاش يخبر أهله

و من مات يلقى الله وهو بطين

فقال شرف الدولة : قبلنا فالك يا ابن العم ، ثم التقى الجيشان وطعن شرف الدولة فقتل ، ولما طعن قال يا شام الشؤم. قلت : وقد لمح شرف الدولة أنها مشتقة من الشوم كما هو أحد الوجهين في اشتقاقها ، والوجه الآخر أنها مأخوذة من اليد الشوماء وهي اليسرى على ما نقله ابن شداد في تاريخه عن أبي بكر محمد بن الأنباري ، وكلاهما خلاف مقتضى الحديث ( الشام شامة الله في أرضه ) والله أعلم اه.

وفي المختار من الكواكب المضية : ذكر الصاحب ( ابن العديم ) أن الوقعة كانت في موضع من بلد العمق ، ثم إن سليمان بن قطلمش أرسل جثة الأمير مسلم بن قريش على بغل ملفوفة في إزار إلى حلب ليسلموها إلى أهله. قال المؤرخ ( هو الصاحب ) :

وزرت قبره في قبة بناها ونقل إليها من حلب بمشهد الحسن العسكري في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة خمسين وستمائة فقرأت على حائط القبة هذه الأبيات :

لو أطعنا دفع الردى عنك يا

مسلم كنا بالله ندفع عنكا

لأياد طوقت منا رقابا

فحويت الرقاب بالجود ملكا

طالما قد جلست يا شرف الدو

لة في سدة الإمارة ملكا

ثم دبرت أمر ماسست بالعدل

إلى أن صادفت للحين هلكا

أين ذاك الأمر العظيم مع النه

ي بنيل نعم... ومتكا

ذهب الكل وانفردت وحيدا

ليس يحوي من كل ما حزت ملكا

بعزيز علي يا مجد دين الله

ما أوحش التفرق منكا

فعليك السلام ما بقي الدهر

و ما أدحض المهيمن شركا

ترجمة الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي :

هو مسلم بن قريش بن بدران المقلد بن المسيب بن أبي المعالي بن أبي الفضل

٣١٥

العقيلي (١) الملقب بشرف الدولة أمير العرب بنواحي بغداد ، استفحل أمره وقويت شوكته وأطاعته العرب وطمع في الاستيلاء على بغداد بعد وفاة ظفر ، ثم رجع عن ذلك ، وكان أحول ، وكان قد ملك من السندية التي على نهر عيسى إلى منبج من الشام وما والاها من البلاد ، وكان في يده ديار ربيعة ومضر من أرض الجزيرة والموصل وحلب وما كان لأبيه وعمه قرواش ، وكان عادلا حسن السيرة والأمن في بلاده عام والرخص شامل ، وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة ، يسير الراكب والراكبان فلا يخافان شيئا ، وكان له في كل بلد وقرية عامل وقاض وصاحب خبر بحيث لا يتعدى أحد على أحد ، وهو الذي عمر سور الموصل ، شرع فيه في ثالث شوال سنة أربع وسبعين وأربعمائة وفرغ منه في ستة أشهر.

وذكر حمدان بن عبد الرحيم التميمي قال : لما حصر شرف الدولة حلب غلت الأسعار فيها وصار الخبز ستة أرطال بدينار ، ورمى القلعة بالمنجنيق ، ثم عول على الرحيل عنها لغيرها حتى قرب الأمير أبو الحسن بن منقذ من سور القلعة فرأى صديقا له من أهل الأدب على سور القلعة فقال له بن منقذ : كيف أنتم ؟ فقال : طول جب خوفا من تفسير الكلمة ، فعاد ابن منقذ وهو يتصحف هذا الكلام فصح له أنه قصد بكلامه أنه ضعفوا فأوجس أنها كلمتان وأن قوله طول يريد مدا وجب بير فقال مدابير والله. فأعلم لشرف الدولة بهذه النكتة فقوى نفسه حتى ملكها. وذكر عبد الله بن محمد أنه قال : لما حاصر شرف الدولة قلعة حلب فحار * ماء الساتورة التي بالقلعة حتى قل عليهم فقال ابن أبي حصينة :

و قد أطاعك فيها كل عاصية

طوعا لأمرك حتى غارت القلب

ولما ملك شرف الدولة مسلم قلعة حلب لم يكن بها ما يؤكل ، فنقل إليها من الموصل وأرض الجزيرة الغلة والدجاج والبيض حتى استكفى الناس ، وعمر هرما في القلعة وملأه أقفاص سكر ، فلما بقي منه قليل قال : بالله تمموه فو الله لاملأه غيري تبنا.

__________________

(١) قال ابن خلدون في الكلام على انقراض دولة بني حمدان واستيلاء بني كلاب على حلب : كان بنو عقيل وبنو كلاب وبنو نمير وبنو خفاجة وكلهم من عامر بن صعصعة وبنو طي من كهلان منتشرين ما بين الجزيرة والشام في عدوة الفرات ، وكانوا كالرعايا لبني حمدان يؤدون إليهم الأتاوات وينفرون معهم في الحروب ، ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان وساروا إلى ملك البلاد.

( * ) لعلها فغار.

٣١٦

حدث بهاء الدولة قال : حدثني الشريف عز الدين النقيب بحلب قال : كنت عند لؤلؤ ياسا وقد أمر أن يحط فيه تبن للخيل ، فحدثته حديث مسلم فقال لأصحابه : أريد أن تملئوه تبنا فلقد خربوا حلب وما امتلأ.

وذكر الهلال بن المحسن الصابي في تاريخه أن الأمير شرف الدولة لما صابر حلب وأشرفت على الأخذ خطب إلى صاحبها سابق بن محمود أخته وتم العقد ، وفي يوم تسليم القلعة ودخوله إليها دخل في ذلك اليوم والساعة بالعروس فقيل إنه فتح في ساعة واحدة حصنين ، وفي ذلك يقول منصور بن تميم بن زنكل :

فرعت أمنع حصن وافترعت به

نعم الحصان ضحى من قبل يعتدل

و حزت بدر الدجى شمس الضحى فعلى

مثليكما شرفا لم تسدل الكلل

وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ، وكانت إمارته خمسا وعشرين سنة وعمره خمسا وأربعين سنة وشهورا ، وكان قتله سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، وكان رافضيا خبيثا أظهر ببلاده سب السلف. وكان كريما فاضلا حليما شاعرا ، ذكره العماد الكاتب في الخريدة من جملة الشعراء ، وكان لقبه مجد الدين سلطان الأمراء سيف أمير المؤمنين ملك بلاد الشام صلحا وعنوة ، وفرغ إذ عصم عواصمها من العز ذروة ، وكان منصور الرأي والراية منتهيا في اكتساب المحامد إلى أقصى الغاية ، مسلم كاسمه زاده الله بسطة في علمه وجسمه جسيم الأيادي رحيب النادي ، ومن شعره :

إذا قرعت رجلي الركاب تزعزعت

لها الشم واهتم الصعيد إلى مصر

وله أيضا :

الدهر يومان ذا أمن وذا خطر

و الماء صنفان ذا صاف وذا كدر

وله أيضا :

غلام أحور العينين أحوى

أبى بعد العريكة أن يلينا

وله أيضا :

يا منزل الحي سقيت السحاب

أيام لبسي فيك ثوب الشباب

سقيا لأيامك لو أنها

دامت لنا مع زينب والرباب

٣١٧

أيام لا واش مطاع ولا

صاح بوشك البين منا غراب

وله أيضا :

غنائي ينفر عني الحزن

و شربي ما بين كوب ودن

و إني لأحقر هذا الزمان

و لا سيما أهل هذا الزمن

يريدون نيل العلى بالمنى

و نيل العلى برغيب الثمن

وله أيضا :

سقى دارهم أيام نحن جميع

ملث لدمعي للفراق دموع

و ما كنت مجزاع الفؤاد وإنما

فؤادي على بين الحبيب جزوع

و كانت سليمى للمحبين روضة

و وصل سليمى روضة وربيع

ويقال إن رجلا سأل شرف الدولة مسلم حاجة ، وسار في موكبه إلى أن وصل إلى مضربه فقال : أيها الأمير لا تنس حاجتي ، فقال له شرف الدولة : إذا قضيتها نسيتها. ولما أتاه ابن حيوس ليمدحه قيل له إن هذا شاعر وما مدح أحدا من الملوك إلا وهو قاعد ، وإنه تسمى بالأمير ، والرأي أن يكون الجلوس له في مكان ليس فيه بساط ولا ما يجلس عليه الأمير ، ففعل ذلك فأذن له فلم يجد مكانا يصلح للجلوس فشرع وأنشد قائما قصيدته التي أولها :

ما أدرك الطلبات مثل مصمم

إن أقدمت أعداؤه لم يحجم

فلما انتهى إلى قوله في القصيدة :

أنت الذي نفق الثناء بسوقه

و جرى الندى بعروقه قبل الدم

اهتز لذلك وقال : ليجلس الأمير ، وأمر له ببساط فجلس وأتمها قاعدا وأعطاه الموصل. وذكر نضر بن محمد بن أبي هنون النحوي في كتابه « بستان المبقلة » قال : مدح ابن حيوس شرف الدولة في آخر عمره فقيل لمسلم : كان رسم هذا على بني صالح أصحاب حلب ألف دينار على كل قصيدة ، فقال : همتي تسمو أن أزيد على عطاياهم ، فقال له وزيره : هذا شيخ قد بلغ نهاية العمر واستوفى مدته ، والصواب أن نقطعه الموصل كما أقطعها المعتصم لأبي تمام ليبقى لك الذكر كما بقي له ، فأقطعه الموصل ، فبقي ابن

٣١٨

حيوس ستة أشهر ومات وخلف ما يزيد على عشرة آلاف دينار. ومما نقل من مكارم أخلافه وسماحته ما حكاه عمر بن محمد بن علي بن الشحنة الموصلي قال : لما توفي أبو الفتيان ابن حيوس ترك مالا كثيرا وعبيدا وغير ذلك فأخبر الأمير مسلم فأشار عليه بعض من حضر برفعه إلى خزانته ، فاعتراه من ذلك غضب عظيم حتى هم أن يقتل المشير عليه بذلك ، قال له : ويلك أعمد إلى مال قد سمحت به أنفس الأجواد وجادت به أكف الكرام وقد أخذ من فضلات عطاياهم فأجعله في خزائني ، اعزب عني فلا حاجة لي في صحبتك ، ثم أمر بالمال فجعل في حرز ، ولم يكن لابن حيوس ورثة فبقي دهرا ، ثم قيل للأمير مسلم إن له بحران بنت أخت وهي مستحقة للميراث ، فقال : ادفعوا جميع الميراث لها.

هذي المآثر لا ما تفتري كذبا

و ذي المكارم لا قعبان من لبن

هكذا ذكر ابن الشحنة. وقال المؤيد : كان لابن حيوس بنت أخ بحلب وهي فاطمة بنت أبي المكارم محمد بن سلطان بن حيوس ، وكانت زوجة أحمد والد أبي غانم محمد بن هبة الله بن أبي جرادة ، ولعل تركة ابن حيوس دفعها الأمير لهذه ووهم الحاكي بذكر حران بدل حلب وبنت الأخت بدل بنت الأخ. اه ( من الوافي بالوفيات للصفدي ومن المختار من الكواكب المضية ).

وقال في الزبد والضرب : كان القاضي بحلب في أيام شرف الدولة القاضي كسرى بن عبد الكريم ابن ابن كسرى ، ومات فولي قضاءها أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة وهو ابن ابن بنت كسرى المذكور ، وكان أبو المكارم شرف الدولة يخاطبه بابن العم لكونه عقيليا والقاضي عقيلي. اه.

ولاية إبراهيم بن قريش العقيلي سنة ٤٧٨

قال ابن الأثير : لما قتل مسلم بن قريش قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس فأخرجوه وملكوه أمرهم ، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث إنه لم يمكن المشي والحركة ، ولما قتل سار سليمان بن قتلمش إلى حلب فحصرها مستهل ربيع

٣١٩

الأول سنة ثمان وسبعين ، فأقام عليها إلى خامس ربيع الآخر من السنة فلم يبلغ منها غرضا ، فرحل عنها.

ولاية الشريف أبي علي الحسن بن هبة الله الهاشمي المعروف بالحبيبي

يظهر أنه لم تطل مدة إبراهيم بن قريش في الولاية وتغلب عليه أيضا الشريف بن الحبيبي ، وتوجه ذاك إلى الموصل ، فقد قال في الزبد والضرب : لما قتل مسلم بن قريش انفرد الشريف أبو علي الحسن بن هبة الله الهاشمي بتدبير حلب وسالم بن مالك بالقلعة ، وسيأتي لإبراهيم بن قريش ذكر في حوادث سنة ٤٨٦.

٣٢٠