إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

عندهم ، فكان لؤلؤ يبتاع القفيز من الحنطة بثلاثة دنانير ويبيعها على الناس بدينار رفقا بهم ويفتح الأبواب في الأيام ويخرج من البلد من تمنعه المضرتان عن المقام (١).

وأشير على منجوتكين بتتبع من يخرج وقتله ليمتنع الناس من الخروج ليضيق الأقوات عندهم فلم يفعل ، وأنفذ لؤلؤ في أثناء هذه الأحوال ملكوتا إلى بسيل عظيم الروم معاودا لاستنجاده ، وكان بسيل قد توسط بلاد البلغر فقصده ملكوتا إلى موضعه وأوصل إليه الكتاب وقال له : متى أخذت حلب فتحت أنطاكية بعدها وأتعبك التلاقي ، وإذا سرت بنفسك حفظت البلدين وسائر الأعمال.

ذكر مسير بسيل إلى الشام لقتال العساكر المصرية وما جرى عليه أمره في ذلك

قال الوزير : لما سمع بسيل قول ملكوتا سار نحو حلب وبينه وبينها ثلثمائة فرسخ ، فقطعها في ستة وعشرين يوما ، وقاد الجنائب بأيدي الفرسان وحمل الرجالة على البغال ، وكان الزمان ربيعا وقد أنفذ منجوتكين وعسكره كراعهم إلى المروج لترعى فيها ، وقرب هجوم بسيل عليهم من حيث لا يشعرون.

ذكر ما دبره واعتمده لؤلؤ من رعاية حرمة الإسلام

وإنذار منجوتكين بخبر هجوم الروم

قال : أرسل إلى منجوتكين يقول له إن عصمة الإسلام الجامعة لنا تدعوني إلى إنذاركم والنصح لكم ، وقد أظلكم بسيل في جيوش الروم فخذوا الحذر لأنفسكم ، وجاءت طلائع منجوتكين بمثل الخبر فأحرق الخزائن والأسواق والأبنية التي كان استحدثها ، ورحل

__________________

(١) قال في الهامش : كذا في الأصل ، وعند ابن القلانسي ص ٤٣ : ويخرج من الناس من أراد من الفقراء من الجوع وطول المقام ، وقد كان أشير الخ. والمضرتان الجوع والوباء.

٢٨١

في الحال منهزما ، ووافى بسيل فنزل على باب حلب وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ولقياه ، ثم عاد ورحل في اليوم الثالث إلى الشام وفتح حمص ونهب وسبى ، ونزل على طرابلس فمنعت جانبها منه فأقام نيفا وأربعين يوما ، فلما أيس منها عاد إلى بلاد الروم ، وانتهى الخبر إلى صاحب مصر فعظم ذلك عليه وأمر فنودي بالنفير فنفر الناس.

وخرج من داره مستصحبا جميع عساكره وعدده وأمواله ، وسار منها مسافة عشرة فراسخ حتى نزل بلبيس وأقام بظاهرها ، وعارضته علل كثيرة أيس منها من نفسه ثم قضى نحبه اه. ثم ساق الوزير اشتغال المصريين بأنفسهم بسبب موت العزيز وبطلت تلك الحملة.

قال في المختار من الكواكب المضية : ولي أبو الفضائل خامس رمضان [ الأظهر لخمس بقين من رمضان ] سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، وصار المدبر له لؤلؤ بن عبد الله السيفي الكبير مولى سيف الدولة ، وكان قد تقدم عند ولده سعد الدولة وقدمه على أصحابه وجعله مدبر الملك بعده ، فلما مات وولي بعده ابنه أبو الفضائل كان لؤلؤ هو المدبر لملكه ، وتزوج أبو الفضائل ابنته ، وأقام بحلب إلى أن توفي ليلة السبت النصف من صفر سنة إحدى وتسعين وثلثمائة ، سقته جارية له ، وقيل إن لؤلؤ دس عليه ذلك وعلى ابنته زوجة أبي الفضائل فماتا جميعا.

ولاية أبي الحسن علي وأبي المعالي شريف بن أبي الفضائل

من سنة ٣٩١ إلى سنة ٣٩٤

قال في المختار من الكواكب المضية ، لما مات أبو الفضائل استولى لؤلؤ بعده على تدبير ابنيه أبي الحسن وأبي المعالي شريف ، ولم يزل كذلك حتى أحب التفرد بالإمارة ، فأخرج عليا وشريفا إلى مصر سنة أربع وتسعين وثلثمائة.

ولاية لؤلؤ غلام سيف الدولة

من سنة ٣٩٤ إلى سنة ٣٩٩

قال في المختار من الكواكب المضية : لما أخرج لؤلؤ عليا وشريفا إلى مصر سنة أربع

٢٨٢

وتسعين وثلثمائة استقر بأمر حلب هو وولده مرتضي الدولة أبو منصور ، إلى أن توفي لؤلؤ المذكور بحلب سلخ ذي الحجة سنة تسع وتسعين وثلثمائة ودفن بمسجده المعروف بمسجد لؤلؤ المذكور بالقرب من حمام أوران فيما بين بابي اليهود [ باب النصر الآن ] والجنان ، وكان للؤلؤ المذكور سرب من القصر لباب الجنان إلى مسجده هذا المذكور وكان يدخل منه إلى المسجد للصلاة.

ولاية مرتضي الدولة أبو نصر منصور بن لؤلؤ

من سنة ٣٩٩ إلى سنة ٤٠٦

قال في المختار من الكواكب المضية : ولما توفي لؤلؤ ملك بعده حلب ابنه مرتضي الدولة.

قال في الزبد والضرب : كان مرتضي الدولة ظالما بغضه الحلبيون وهجوه هجوا كثيرا ، ومما قيل فيه :

لم تلقب وإنما قيل فالا

مرتضي الدولة التي أنت فيها

ذكر ابتداء حال صالح بن مرداس الكلابي

قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة ما ملخصه : أنه كان بالرحبة رجل من أهلها يعرف بابن محكان ، فملك البلد واحتاج إلى من يجعله ظهره ويستعين به على من يطمع فيه ، فكاتب صالح بن مرداس الكلابي فقدم إليه وأقام عنده مدة ، ثم إن صالحا تغير عن ذلك فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد وقطع الأشجار ، ثم تصالحها ودخل صالح البلد ، إلا أنه كان أكثر مقامه بالحلة. ثم إن ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه ونقل أهله وماله إليهم وأخذ رهائنهم ، ثم خرجوا عن طاعته وأخذوا ماله واستعادوا رهائنهم وردوا أولاده ، فاجتمع ابن محكان وصالح على قصد عانة فسار إليها فوضع صالح على ابن محكان

٢٨٣

من يقتله ، فقتل غيلة ، وسار صالح إلى الرحبة فملكها وأخذ أموال ابن محكان وأحسن إلى الرعية واستمر على ذلك إلا أن الدعوة للمصريين *.

ذكر مجيء صالح بن مرداس إلى حلب وأسره سنة ٤٠٢

قال ابن الأثير : في هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر بن لؤلؤ صاحب حلب وبين صالح بن مرداس ، وكان ابن لؤلؤ من موالي سعد الدولة فقوي على ولد سعد الدولة وأخذ البلد منه ( كما تقدم ) وخطب للحاكم صاحب مصر ولقبه الحاكم مرتضي الدولة ، ثم فسد ما بينه وبين الحاكم فطمع فيه ابن مرداس وبنو كلاب وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع ، ثم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس ودخلوا مدينة حلب فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقبض عليهم ، فقبض على مائة وعشرين رجلا منهم صالح بن مرداس وحبسهم وقتل مائتين وأطلق من لم يفكر به ، وكان صالح قد تزوج بابنة عم له تسمى جابرة ، وكانت جميلة ، فوصفت لابن لؤلؤ فخطبها إلى ابن أخوتها وكانوا في حبسه ، فذكروا له أن صالحا قد تزوجها ، فلم يقيل منهم وتزوجها ثم أطلقهم ، وبقي صالح بن مرداس في الحبس ، فتوصل حتى صعد من السور فألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها واختفى في مسيل ماء ( سيأتي أنه اختفى في مغارة بجبل جوشن ) ووقع الخبر بهربه فأرسل ابن لؤلؤ الخيل في طلبه ، فعادوا ولم يظفروا به ، فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه حتى وصل قرية تعرف بالياسرية ، فرأى ناسا من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق ، فجمع ألفي فارس فقصد حلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوما ، فخرج إليه ابن لؤلؤ فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته.

وقال في الزبد والضرب : إن بني كلاب طلبوا من مرتضي الدولة ما شرط لهم من الإقطاع ، فدافعهم عنه فتسلطوا على حلب وعاثوا وأفسدوا وضيقوا عليه ، فاحتال وأظهر الرغبة واستقامة الحال بينه وبينهم ، وطلبهم أن يدخلوا إليه ليحالفهم ويقطعهم ، فلما حصلوا بحلب مد لهم السماط والحلوى وغلقت أبواب المدينة وقيد الأمراء وفيهم صالح بن مرداس وقتل منهم أكثر من ألف رجل ، وسير إلى صالح بن مرداس وهو في الحبس وألزمه

__________________

( * ) هكذا في الطبعة الأولى ، وفي الكامل لابن الأثير كذلك

٢٨٤

بطلاق زوجته طرود ( هناك سماها جابرة ) وكانت أجمل عصرها فطلقها وتزوجها منصور وإليها ينسب مشهد طرود خارج باب الجنان في طرف الحلبة ، فكان مرتضي الدولة إذا شرب يعزم على قتل صالح لحنقه عليه من طول لسانه وشجاعته ، فبلغ ذلك صالحا فخاف على نفسه وركب الصعب في تخليصها واحتال حتى وصل إليه في طعامه ، فبرد حلقة قيدة الواحدة وفكها وصعبت الأخرى عليه فشد القيد في ساقه وثقب حائط السجن وخرج منه في الليل وتدلى من القلعة إلى التل وألقى نفسه فوقع سالما ليلة الجمعة مستهل محرم سنة خمس وأربعمائة ، واستتر في مغارة بجبل جوشن وأكثر الطلب له والبحث عنه عند الصباح فلم يوقف له على خبر ، ولحق بالحلة ( هناك قال إنه أتى مرج دابق ) واجتمعت عليه بنو كلاب وقويت نفوسهم بخلاصه فنزل على تل حاصد ، فجمع مرتضي الدولة جنده وحشد جميع من بحلب من الأوباش والسوقة والنصارى واليهود وألزمهم بالسير معه إلى قتال صالح ، فخرجوا فلما وصل مرتضي الدولة إلى جبرين قال : جبرنا ، ولما وصل لوشلا قال : شللنا ، ولما وصل تل حاصد قال : حصدنا ، وأصبح عليهم يوم شديد الحر فماطلهم صالح باللقاء إلى أن عطشوا وجاءوا ، وسير جاسوسا إلى العسكر فجاء وأخبره أن معظم عساكره من اليهود والنصارى وأنه سمع يهوديا يقول لآخر بلغتهم ( والك صعبطه اطعزه أتأخر وإياك أن يكون خلفه آخر يطعزك بمطعازه يحقب بيتك للدواغيث ) فقوي طمع صالح فيهم وحمل عليهم فكسرهم وأسر مرتضي الدولة وقيده بالقيد الذي كان في رجله ، ثم استقر الأمر مع صالح على أن يقاسمه باطن حلب وظاهرها شطرين فأجابه صالح إلى ذلك بعد أن طلق زوجته طرود اه.

وقال في المختار من الكواكب المضية : أسر صالح بن مرداس ابن لؤلؤ على تل حاصد يوم الخميس الخامس من صفر سنة خمس وأربعمائة وأباعه نفسه بنصف ما يملكه من العين والمتاع وأطلقه فأقام بحلب.

قال ابن الأثير بعد ذكر ما نقلناه عنه آنفا فيما كان في هذه الوقعة : كان مع ابن لؤلؤ فيها ابن أخ له فنجا وحفظ مدينة حلب ، ثم إن ابن لؤلؤ بذل لابن مرداس مالا على أن يطلقه ، فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه فقالت أم صالح لابنها : قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمله ، فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة ، فإنه إن

٢٨٥

أراد الغدر بك لا يمنعه من عندك ، فأطلقهم ، فلما دخل البلد حمل ابن لؤلؤ إليه أكثر مما استقر ، وكان قد تقرر عليه مائتا ألف دينار ومائة ثوب وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب ، ورحل صالح.

ذكر عصيان فتح غلام مرتضي الدولة منصور

واستيلائه على حلب سنة ٤٠٦

قال ابن الأثير : لما رحل صالح أراد ابن لؤلؤ قبض غلامه فتح ، وكان دزدار القلعة لأنه اتهمه بالممالاة على الهزيمة ، وكان خلاف ظنه ، فأطلع على ذلك غلاما له اسمه مسرور وأراد أن يجعله مكان فتح ، فأعلم مسرور بعض أصدقائه يعرف بابن غانم ، وسبب إعلامه أنه حضر عنده وكان يخاف ابن لؤلؤ لكثرة ماله ، فشكا إلى مسرور ذلك فقال له : سيكون أمر تأمن معه ، فسأله فكتمه ، فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر ، وكان بين ابن غانم وبين فتح مودة فصعد إليه بالقلعة متنكرا فأعلمه الخبر وأشار عليه بمكاتبة الحاكم صاحب مصر ، وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة بحجة افتقاد الخزائن ، فإذا صار فيها قبض على فتح وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن ويأمره بفتح الأبواب ، فقال فتح : إنني قد شربت اليوم دواء وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم ، فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري ، وقال للرسول : إذا لقيته فاردده ، فلما علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك ، فلما صعدت إليه أكرمها وأظهر لها الطاعة ، فعادت وأشارت على ابنها بترك محاققته ففعل ، وأرسل إليه يطلب جوهرا كان له بالقلعة ، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأن يتمارض ويظهر شدة المرض ويستدعي فتحا لينزل إليه ليجعله وصيا ، فإذا حضر قبضه ففعل ذلك ، فلم ينزل فتح واعتذر ، وكاتب الحاكم وأظهر طاعته وخطب له وأظهر العصيان على أستاذه وأخذ من الحاكم صيدا وبيروت وكل ما في حلب من الأموال ، وخرج ابن لؤلؤ من حلب إلى أنطاكية وبها الروم فأقام عندهم.

قال في المختار من الكواكب المضية : كان خروج مرتضي الدولة منصور بن لؤلؤ هاربا إلى بلد الروم سادس رجب سنة ست وأربعمائة ، ولما هرب استولى فتح اللؤلؤي على

٢٨٦

حلب ولقب بمبارك الدولة وسعيدها وعزها ، ثم وصل إلى حلب سديد الدولة أبو الحسن علي بن أحمد العجمي والي حصن أفامية وفتح القلعة وأعاد أملاك الحلبيين التي كان سيف الدولة اغتصبها وبالغ في البذل والخير.

قال ابن الأثير : وتسلم حلب نواب الحاكم ( ذكر منهم في المختار من الكواكب المضية مختار الدولة والي طرابلس ومرهف الدولة والي صيدا ولم يذكر اسميهما ولا السنة التي وليا فيها ) وتنقلت بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف بعزيز الملك ، فقدمه الحاكم واصطنعه وولاه حلب ، فلما قتل الحاكم وولي الظاهر عصى عليه فوضعت ست الملك أخت الحاكم فراشا له على قتله فقتله.

٢٨٧

دولة بني مرداس

ذكر استيلاء صالح بن مرداس الكلابي على حلب

سنة ٤١٤

قال ابن الأثير : كان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين الدزبري وبيده دمشق والرملة وعسقلان وغيرها ، فاجتمع حسان أمير بني طي وصالح بن مرداس أمير بني كلاب وسنان بن عليان وتحالفوا واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح ومن الرملة إلى مصر لحسان ودمشق لسنان ، فسار حسان إلى الرملة فحصرها وبها أنوشتكين ، فسار عنها إلى عسقلان واستولى عليها حسان ونهبها وقتل أهلها ، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مصر ، وقصد صالح حلب وبها إنسان يعرف بابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين وبالقلعة خادم يعرف بموصوف ، فأما أهل البلد فسلموه إلى صالح لإحسانه إليهم ولسوء سيرة المصريين معهم ، وصعد ابن ثعبان إلى القلعة فحصره صالح بالقلعة فغار الماء الذي بها فلم يبق لهم ما يشربون ، فسلم الجند القلعة إليه وذلك سنة أربع عشرة ، وملك من بعلبك إلى عانة.

سنة ٤١٦

قال في الزبد والضرب : في سنة ست عشرة وأربعمائة ولي قضاء حلب القاضي أبو يعلى عبد المنعم المعروف بالقاضي الأسود ، وكان وزير صالح تاذرس النصراني وكان هذا النصراني متمكنا عنده وصاحب السيف والقلم.

سنة ٤١٨

وقال في المختار من الكواكب المضية : ذكر صاحب مصباح العيان أن في سنة ثمان

٢٨٨

عشرة وأربعمائة خرج الأمير صالح بن مرداس إلى معرة النعمان وأمر باعتقال أكابرها ، وسبب ذلك أن امرأة صاحت في الجامع وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغصبها نفسها ، فنفر كل من في الجامع فهدموا الماخور وأخذوا خشبه ونهبوه ، فحضر أسد الدولة صالح المذكور واعتقلهم وصادرهم ، ثم استدعى أبا العلاء بظاهر المعرة ، ومما خاطبه به : مولانا السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار الماتع اشتد هجيره وطاب إبراده وكالسيف القاطع لان صفحه وخشن حداه ، خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ، فقال : قد وهبتهم لك أيها الشيخ ، فقال أبو العلاء بعد ذلك :

بعثت شفيعا إلى صالح

و ذاك من القوم ما قد فسد

فيسمع مني سجع الحمام

و أسمع منه زئير الأسد

ذكر قتل صالح بن مرداس سنة ٤٢٠

قال ابن الأثير : أقام صالح بن مرداس بحلب ست سنين ، فلما كان سنة عشرين وأربعمائة جهز الظاهر صاحب مصر جيشا وسيرهم إلى الشام لقتال صالح وحسان ، وكان مقدم العسكر أنوشتكين الدزبري ، فاجتمع صالح وحسان على قتاله فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن عند طبرية ، فقتل صالح وولده الأصغر ونفذ رأسهما إلى مصر.

وساق ابن خلكان نسبه في ترجمته فقال : هو أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس ابن إدريس بن نصير بن حميد بن مدرك بن شداد بن عبيد بن قيس بن ربيعة بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الكلابي ، كان من عرب البادية وقصد مدينة حلب وبها مرتضي الدولة بن لؤلؤ ، ثم ساق طرفا مما قدمناه إلا أنه قال إنه تملك حلب سنة سبع عشرة وأربعمائة ، ويظهر أن ما ذكره ابن الأثير من أنه تملكها سنة ٤١٤ هو الأصح.

٢٨٩

ولاية أبي كامل نصر بن صالح سنة ٤٢٠

قال ابن الأثير : لما قتل صالح عند طبرية نجا ولده أبو كامل نصر بن صالح ، فجاء إلى حلب وملكها وكان لقبه شبل الدولة ، فلما علمت الروم بأنطاكية الحال تجهزوا إلى حلب في عالم كثير ، فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم ونهبوا أموالهم وعادوا إلى أنطاكية.

وقال في المختار من الكواكب المضية : لما قتل أسد الدولة صالح بن مرداس ملك بعده ابناه وهما معز الدولة ثمال وشبل الدولة نصر ، وجعل الأمر شركة بينهما مذ قتل أبوهما ، إلى أن تفرد بالأمر شبل الدولة نصر وأخرج معز الدولة ثمال في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ، ولما تفرد شبل الدولة نصر واستقرت له الإمارة لقب بمختص الأمراء شمس الدولة ومجدها ذي العزيمتين.

ذكر خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى حلب وانهزامه سنة ٤٢١

قال ابن الأثير : في هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلثمائة ألف مقاتل إلى الشام ، فلم يزل بعساكره حتى بلغوا قريب حلب وصاحبها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس ، فنزلوا على يوم منها فلحقهم عطش شديد ، وكان الزمان صيفا ، وكان أصحابه مختلفين عليه ، فمنهم من يحسده ومنهم من يكرهه ، وممن كان معه ابن الدوقس وهو من أكابرهم ، وكان يريد هلاك الملك ليملك بعده ، فقال الملك : الرأي أن نقيم حتى تجيء الأمطار وتكثر المياه ، فقبح ابن الدوقس هذا الرأي وأشار بالإسراع قصد الشر يتطرق إليه ولتدبير كان قد دبره عليه ، فسار ففارقه ابن الدوقس وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس وسلكوا طريقا آخر ، فخلا بالملك بعض أصحابه وأعلمه أن ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رجلا هو أحدهم على الفتك به ، فاستشعر من ذلك وخاف ورحل من يومه راجعا ، ولحقه ابن الدوقس وسأله عن السبب الذي أوجب عوده فقال له : قد اجتمعت

٢٩٠

علينا العرب وقربوا منا ، وقبض في الحال على ابن الدوقس وابن لؤلؤ وجماعة معهما فاضطرب الناس واختلفوا ، ورحل الملك وتبعهم العرب وأهل السواد حتى الأرمن يقتلون وينهبون وأخذوا من الملك أربعمائة بغل محملة مالا وثيابا ، وهلك كثير من الروم عطشا ونجا الملك وحده ، ولم يسلم معه من أمواله وخزائنه شيء البتة ، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا. وقيل في عوده غير ذلك ، وهو أن جمعا من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره وظن الروم أنها كبسة فلم يدروا ما يفعلون ، حتى إن ملكهم لبس خفا أسود وعادة ملوكهم لبس الخف الأحمر ، فتركه ولبس الأسود ليعمي خبره على من يريده ، وانهزموا وغنم المسلمون جميع ما كان معهم.

سنة ٤٢٢

ذكر ملك الروم قلعة أفامية [ في نواحي المعرة ]

قال ابن الأثير : في هذه السنة ملك الروم قلعة أفامية بالشام ، وسبب ملكها أن الظاهر خليفة مصر سير إلى الشام الدزبري وزيره فملكه وقصد حسان بن المفرج الطائي فألح في طلبه ، فهرب منه ودخل بلد الروم ولبس خلعة ملكهم وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب ومعه عسكر كثير ، فسار إلى أفامية فكبسها وغنم ما فيها وسبى أهلها وأسرهم وسير الدزبري إلى البلاد يستنفر الناس للغزو.

ذكر ملك نصر الدولة بن مروان مدينة الرها سنة ٤١٦

وذكر ملك الروم لها سنة ٤٢٢

وذكر استعادتها من الروم سنة ٤٢٧

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤١٦ : في هذه السنة ملك نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر مدينة الرها ، وكان سبب ملكها أن الرها كانت لرجل من بني نمير يسمى

٢٩١

عطيرا وفيه شر وجهل ، واستخلف عليها نائبا له اسمه أحمد بن محمد ، فأحسن السيرة وعدل في الرعية فمالوا إليه ، وكان عطير يقيم بحلته ويدخل البلد في الأوقات المتفرقة ، فرأى أن نائبه يحكم في البلد ويأمر وينهى فحسده فقال له يوما : قد أكلت مالي واستوليت على بلدي وصرت الأمير وأنا النائب ، فاعتذر إليه فلم يقبل عذره وقتله ، فأنكرت الرعية قتله وغضبوا على عطير وكاتبوا نصر الدولة بن مروان ليسلموا إليه البلد ، فسير إليهم نائبا كان له بآمد يسمى زنك ، فتسلمها وأقام بها ومعه جماعة من الأجناد ، ومضى عطير إلى صالح بن مرداس وسأله الشفاعة له إلى نصر الدولة ، فشفع فيه فأعطاه نصف البلد ، ودخل عطير إلى نصر الدولة بميافارقين فأشار أصحاب نصر الدولة بقبضه فلم يفعل وقال : لا أغدر به وإن كان أفسد وأرجو أن أكف شره بالوفاء ، وتسلم عطير نصف البلد ظاهرا وباطنا وأقام فيه مع نائب نصر الدولة. ثم إن نائب نصر الدولة عمل طعاما ودعاه فأكل وشرب ، واستدعى ولدا كان لأحمد الذي قتله عطير وقال : تريد أن تأخذ بثأر أبيك ؟ قال : نعم ، قال : هذا عطير عندي في نفر يسير ، فإذا خرج فتعلق به في السوق وقل له : يا ظالم قتلت أبي ، فإنه سيجرد سيفه عليك ، فإذا فعل فاستنفر الناس عليه واقتله وأنا من ورائك ، ففعل ما أمره وقتل عطيرا ومعه ثلاثة نفر من العرب ، فاجتمع بنو نمير وقالوا : هذا فعل زنك ولا ينبغي لنا أن نسكت عن ثأرنا ، ولئن لم نقتله ليخرجنا من بلادنا ، فاجتمعت نمير وكمنوا له بظاهر البلد كمينا ، وقصد فريق منهم البلد فأغاروا على ما يقاربه ، فسمع زنك الخبر فخرج فيمن عنده من العساكر وطلب القوم ، فلما جاوز الكمناء خرجوا عليه فقاتلهم فأصابه حجر مقلاع فسقط وقتل ، وكان قتله سنة ثمان عشرة وأربعمائة في أولها وخلصت المدينة لنصر الدولة.

ثم إن صالح بن مرداس شفع في ابن عطير وابن شبل النميريين ليرد الرها إليهما ، فشفعه وسلمها إليهما ، وكان فيها برجان أحدهما أكبر من الآخر ، فأخذ ابن عطير البرج الكبير وأخذ ابن شبل البرج الصغير وأقاما في البلد.

وقال في حوادث هذه السنة سنة ٤٢٢ : إن ابن عطير أرسل أرمانوس ملك الروم وباعه حصته من الرها بعشرين ألف دينار وعدة قرى من جملتها قرية تعرف إلى الآن بسن ابن عطير ، وتسلموا البرج الذي له ودخلوا البلد فملكوه وهرب منه أصحاب ابن شبل ،

٢٩٢

وقتل الروم المسلمين وخربوا المساجد ، وسمع نصر الدولة الخبر فسير جيشا إلى الرها فحصروها وفتحوها عنوة ، واعتصم من بها من الروم بالبرجين واحتمى النصارى بالبيعة التي لهم ، وهي من أكبر البيع وأحسنها عمارة ، فحصرهم المسلمون بها وأخرجوهم وقتلوا أكثرهم ونهبوا البلد وبقي الروم في البرجين ، وسير إليهم عسكرا نحو عشرة آلاف مقاتل فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم ودخلوا البلد وما جاورهم من بلاد المسلمين ، وصالحهم ابن وثاب النميري على حران وسروج وحمل إليهم خراجا.

وقال في حوادث سنة سبع وعشرين وأربعمائة : في رجب من هذه السنة اجتمع ابن وثاب وابن عطير وتصاهرا وجمعا وأمدهما نصر الدولة بن مروان بعسكر كثيف ، فساروا جميعهم إلى السويداء ، وكان الروم قد أحدثوا عمارتها في ذلك الوقت ، واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها فحصرها المسلمون وفتحوها عنوة وقتلوا فيها ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل وغنموا ما فيها وسبوا خلقا كثيرا ، وقصدوا الرها فحصروها وقطعوا الميرة عنها حتى بلغ المكوك الحنطة دينارا ، واشتد الأمر فخرج البطريق الذي فيها متخفيا ولحق بملك الروم وعرفه الحال ، فسير معه خمسة آلاف فارس فعاد بهم ، فعرف ابن وثاب ومقدم عساكر نصر الدولة الحال فكمنا لهم ، فلما قاربوهم خرج الكمين عليهم فقتل من الروم خلق كثير وأسر مثلهم وأسر البطريق وحمل إلى باب الرها وقالوا لمن فيها : إما أن تفتحوا البلد لنا وإما قتلنا البطريق والأسرى الذين معه ، ففتحوا البلد للعجز عن حفظه وتحصن أجناد الروم بالقلعة ، ودخل المسلمون المدينة وغنموا ما فيها وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وأكثروا القتل ، وأرسل ابن وثاب إلى آمد مائة وستين راحلة عليها رؤوس القتلى ، وأقام محاصرا للقلعة. ثم إن حسان بن الجراح الطائي سار في خمسة آلاف فارس من العرب والروم نجدة لمن بالرها ، فسمع ابن وثاب بقربه فسار إليه مجدا ليلقاه قبل وصوله ، فخرج من في الرها من الروم إلى حران فقاتلهم أهلها ، وسمع ابن وثاب الخبر فعاد مسرعا فوقع على الروم فقتل منهم كثيرا وعاد المنهزمون إلى الرها.

وقال في حوادث سنة تسع وعشرين وأربعمائة : فيها صالح ابن وثاب النميري صاحب حران الروم الذين بالرها لعجزه عنهم وسلم إليهم ربض الرها ، وكان تسلمه على ما ذكرناه أولا ، فنزلوا من الحصن الذي للبلد إليه ، وكثر الروم بها وخاف المسلمون على حران ، وعمر الروم الرها العمارة الحسنة وحصنوها.

٢٩٣

ذكر قتل شبل الدولة نصر بن صالح سنة ٤٢٩

قال في المختار من الكواكب المضية : أقام شبل الدولة مالكا لحلب إلى أن قتل في الوقعة بينه وبين عساكر الدزبري على نهر العاصي بين كفر طاب وحماة ، وذلك يوم الاثنين النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، وقد مدح نصر بن صالح بن مرداس الكاتب البليغ أبو الفضل إبراهيم المعري بقصيدة أولها :

أصولك في العلى تحكي الفروعا

و قدرك لم يزل قدرا رفيعا

بلغت مدى العلى فينا فطيما

و أحرزت الندى طفلا رضيعا

و من يك للملوك أبوه شمسا

يكن قمرا يشاكلها طلوعا

و من ير للورى جدواه غيثا

فذا يكن الربيع به ربيعا

ومنها :

و ما حلب التي افتخرت وعزت

بهيبته بل الدنيا جميعا

إذا ركب الأمير أبو علي

ترجلت الملوك له خضوعا

وله من قصيدة يمدح بها نصرا أيضا :

و أنت من شهدت صيد الملوك له

بأن رتبته تعلو على الرتب

يعطي من العين درا هان قدرهما

هوان غانية تختال في الحبب

و لا يبالي إذا صح الثناء له

أن يفتدي جسم ما يحويه ذا وصب

كأنما يده من جودها خلقت

ألا يكف لها كفا على نشب *

أخو الحروب التي ما إن ثنى أبدا

يعم أعداءه بالويل والحرب

ذكر ولاية أنوشتكين الدزبري سنة ٤٢٩ من طرف العلويين

قال أبو الفداء : بقي شبل الدولة بن صالح مالكا لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، وذلك في أيام المستنصر بالله العلوي صاحب مصر ، فجهزت العساكر من

__________________

( * ) هكذا ورد البيت ، ولعل الصواب حلفت ( بالفاء ) وكف ( بالرفع ).

٢٩٤

مصر إلى شبل الدولة ومقدمهم رجل يقال له الدزبري بكسر الدال وسكون الزاي المعجمة وباء موحدة و راء مهملة ، وهو أنوشتكين ، وكان يلقب الدزبري ، نقلت ذلك من تاريخ ابن خلكان ، فاقتتلوا مع شبل الدولة عند حماة في شعبان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، فقتل شبل الدولة وملك الدزبري حلب في رمضان من السنة المذكورة وملك الشام جميعه وعظم شأن الدزبري وكثر ماله.

ذكر الخطبة العباسية بحران والرقة

قال ابن الأثير : في هذه السنة خطب شبيب بن وثاب النميري صاحب حران والرقة للإمام القائم بأمر الله وقطع خطبة المستنصر بالله العلوي ، وكان سببها أن نصر الدولة بن مروان كان قد بلغه عن الدزبري نائب العلويين بالشام أنه يتهدده ويريد قصد بلاده ، فراسل قرواشا صاحب الموصل وطلب منه عسكرا ، وأرسل شبيبا النميري يدعوه إلى الموافقة ويحذره من المغاربة ، فأجابه إلى ذلك وقطع الخطبة العلوية وأقام الخطبة العباسية ، فأرسل إليه الدزبري يتهدده ، ثم أعاد الخطبة العلوية بحران في ذي الحجة من السنة.

سنة ٤٣١

قال ابن الأثير : في هذه السنة توفي شبيب بن وثاب النميري صاحب الرقة وسروج وحران.

سنة ٤٣٢ ذكر الحرب بين الدزبري والروم

قال ابن الأثير : في هذه السنة كانت وقعة بين عسكر المصريين وبين الروم سيره الدزبري فظفر المسلمون ، وكان سبب ذلك أن ملك الروم قد هادنه المستنصر بالله العلوي صاحب مصر ، فلما كان الآن شرع يراسل ابن صالح بن مرداس ويستميله وراسل قبله صالح ليتقوى به على الدزبري خوفا أن يأخذ منه الرقة ، ونكؤوا فيهم وأزالوهم عن بلادهم ،

٢٩٥

وبلغ ذلك الناظر بحلب فأخرج من بها من تجار الإفرنج وأرسل إلى المتولي بأنطاكية يأمره بإخراج من عندهم من تجار المسلمين ، فأغلظ للرسول وأراد قتله ، ثم تركه فأرسل الناظر بحلب إلى الدزبري يعرفه الحال وأن القوم على التجهيز لقصد البلاد ، فجهز الدزبري جيشا وسيره على مقدمته ، فاتفق أنهم لقوا جيشا للروم وقد خرجوا لمثل ما خرج إليه هؤلاء ، والتقى الفريقان بين مدينة حماة وأفامية واشتد القتال بينهم ، ثم إن الله نصر المسلمين وكسر الروم فانهزموا وقتل منهم عدة كثيرة وأسر ابن عم للملك بذلوا في فدائه مالا جزيلا وعدة وافرة من أسراء المسلمين ، وانكف الروم عن الأذى بعدها.

سنة ٤٣٣ ذكر فساد حال الدزبري بالشام ووفاته

قال ابن الأثير : في هذه السنة فسد أمر أنوشتكين الدزبري نائب المستنصر بالله صاحب مصر بالشام ، وقد كان كبيرا على مخدومه بما يراه من تعظيم الملوك له وهيبة الروم منه ، وكان الوزير أبو القاسم الجرجراي يقصده ويحسده إلا أنه لا يجد طريقا إلى الوقيعة فيه ، ثم اتفق أنه سعى بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد وقيل عنه إنه يستميل صاحبه إلى غير جهة المصريين ، فكوتب الدزبري بإبعاده فلم يفعل واستوحشوا منه ، ووضع الجرجراي منه فعرفهم سوء رأيه فيه وأعادهم إلى دمشق وأمرهم بإفساد الجند عليه ففعلوا ذلك ، وأحس الدزبري بما يجري فأظهروا الشغب عليه وقصدوا قصره وهو بظاهر البلد ، وتبعهم من العامة من يريد النهب فاقتتلوا ، فعلم الدزبري ضعفه وعجزه عنهم ففارق مكانه واستصحب أربعين غلاما وما أمكنه من الدواب والأثاث والأموال ونهب الباقي ، وسار إلى بعلبك فمنعه مستحفظها وأخذ ما أمكنه أخذه من مال الدزبري ، وتبعه طائفة من الجند يقفون أثره وينهبون ما يقدرون عليه ، وسار إلى مدينة حماة فمنع عنها وقوتل وكاتب المقلد بن منقذ الكناني الكفر طابي واستدعاه فأجابه وحضر عنده في نحو ألفي رجل من كفر طاب وغيرها ، فاحتمى به وسار إلى حلب ودخلها وأقام بها مدة ، وتوفي في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة.

٢٩٦

ترجمة أنوشتكين الدزبري :

قال الذهبي : أنوشتكين بن عبد الله الأمير المظفر سيف الخلافة عضد الدولة أبو منصور التركي أحد الشجعان المذكورين ، مولده ببلاد الترك ، وحمل إلى بغداد ثم إلى دمشق في سنة أربعمائة فاشتراه القائد تربر الديلمي ( صوابه دزبر ) فرأى منه شهامة مفرطة وصرامة ، وشاع ذكره فأهداه للحاكم المصري ، وقيل بل جاء الأمر بطلبه منه في سنة ثلاث وأربعمائة ، فجعل في الحجرة فقهر من بها من المماليك وطال عليهم بالذكاء والنهضة ، فضربه متوليهم ، ثم لزم الخدمة وجعل يقود إلى القواد فارتضاه الحاكم وأعجب به وأمّره وبعثه إلى دمشق في سنة ست وأربعمائة ، فتلقاه مولاه دزبر فتأدب مع مولاه وترجل له ثم أعيد إلى مصر وجرد إلى الريف ، ثم عاد وولي بعلبك وحسنت سيرته وانتشر ذكره ، ثم طلب فلما بلغ العريش رد إلى ولاية قيسارية ، واتفق قتل فاتك متولي حلب سنة اثنتي عشرة قتله مملوك له هندي وولي أمير الجيوش فلسطين في أول سنة أربع عشرة فبلغ حسان بن مفرج ملك العرب خبره فقلق وخاف ولم يزل أمر أمير الجيوش في ارتفاع واشتهار وتمت له وقائع مع العرب فدوخهم وأثخن فيهم ، فعمل إليه حسان وكاتبه فيه وزير مصر حسن بن صالح فقبض عليه بعسقلان بحيلة دبرت له في سنة سبع عشرة ، وسأل فيه سعيد السعداء فأجيب سؤاله إكراما ، وأطلق ثم حسنت حاله وارتفع شأنه وكثرت غلمانه وخيله وإقطاعاته ، وبعد غيبته عن الشام أفسدت العرب فيها ، ثم صرف الوزير ووزر نجيب الدولة علي بن أحمد الجرجراي فاقتضى رأيه تجريد العساكر إلى الشام ، فقدم أنوشتكين عليهم ولقبه بالأمير المظفر منتخب الدولة وجهز معه سبعة آلاف فارس وراجل ، فسار وقصد صالح بن مرداس وحسان بن مفرج ، فكان الملتقى في الأقجوانة ، فانهزمت العرب وقتل صالح فبعث برأسه إلى الحضرة فنفذت الخلع إلى أنوشتكين وزادوا في ألقابه ، ثم توجه إلى حلب ونازلها ، ثم عاد إلى دمشق ونزل في القصر وأقام مدة ، ثم سار إلى حلب ففتحت له فأحسن إلى أهلها ورد المظالم وعدل ، ثم تغير وشرب الخمر فجاء فيه سجل مصري فيه : أما بعد فقد عرف الحاضر والبادي فعال أنوشتكين الدزبري الخائن ولما تغيرت نيته سلبه الله نعمته إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فضاق صدره وقلق ، ثم جاءه كتاب فيه توبيخ وتهديد فعظم عليه ورأى من الصواب إعادة الجواب بالتنصل والتلطف ،

٢٩٧

فكتب : من عبد الدولة العلوية متبرئا من ذنوبه الموبقة وإساءاته المرهقة لائذا بعفو أمير المؤمنين عائذا بالكرم صابرا للحكم وهو تحت خوف ورجاء وتضرع ودعاء وقد ذلت نفسه بعد عزها وضاقت بعد أمنها ، إلى أن قال : وليس سير العبد إلى حلب ينجيه من سطوات مواليه. ونفد هذا الجواب وطلع إلى قلعة حلب فحم وطلب طبيبا فوصف له مسهلا فلم يشربه ، ولحقه فالج في يده ورجله ومات بعد أيام من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وخلف من الذهب ستمائة ألف دينار ونيفا اه.

ولاية معز الدولة ثمال بن مرداس سنة ٤٣٣

قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : لما توفي الدزبري فسد أمر بلاد الشام وانتشرت الأمور بها وزال النظام وطمعت العرب وخرجوا في نواحيه ، فخرج حسان بن مفرج الطائي بفلسطين وخرج معز الدولة بن صالح الكلابي بحلب وقصدها وحصرها وملك المدينة ، وامتنع أصحاب الدزبري بالقلعة وكتبوا إلى مصر يطلبون النجدة فلم يفعلوا ، واشتغل عساكر دمشق ومقدمهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمر دمشق بعد الدزبري بحرب حسان ، ووقع الموت في الذين في القلعة فسلموها إلى معز الدولة بالأمان.

وقال قبل ذلك في الكلام على دولة مرداس : لما توفي الدزبري كان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة ، فجاء إلى حلب فملكها تسليما من أهلها وحصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهرا ، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين فبقي بها إلى سنة أربعين ، فأنفذ المصريون إلى محاربته أبا عبد الله حسين بن ناصر الدولة بن حمدان ، فخرج أهل حلب إلى حربه فهزمهم واختنق منهم بالباب جماعة ، ثم إنه رحل عن حلب وعاد إلى مصر وأصابهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم ، فأنفذ المصريون إلى قتال معز الدولة خادما يعرف برفق ، فخرج إليه في أهل حلب فقاتلوه فانهزم المصريون وأسر رفق ومات عندهم ، وكان أسره سنة إحدى وأربعين في ربيع الأول.

إحضار رأس يحيى عليه‌السلام إلى قلعة حلب سنة ٤٣٥

قال في الدر المنتخب : ذكر ابن العظيمي في تاريخه أن في سنة خمس وثلاثين

٢٩٨

وأربعمائة ظهر ببعلبك في حجر منقور رأس يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ، فنقل إلى حمص ثم منها إلى مدينة حلب في هذه السنة ودفن بهذا المقام ( مقام سيدنا إبراهيم في القلعة ) في جرن من الرخام الأبيض ووضع في خزانة إلى جانب المحراب وأغلقت ووضع عليها ستر يصونها اه.

قال ياقوت في معجم البلدان في الكلام على حلب : ( وقلعة حلب ) * مقام إبراهيم الخليل وفيه صندوق به قطعة من رأس يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ظهرت سنة ٤٣٥ اه.

قال في كتاب الصلصة : في سنة ٤٣٤ زلزلت تدمر وبعلبك ومات تحت الهدم معظم أهل تدمر اه.

أقول يظهر أن هذا هو السبب في ظهور رأس يحيى عليه‌السلام في بعلبك

سنة ٤٤٠ وصف ابن بطلان المتطبب لحلب في هذه السنة

قال ياقوت في معجم البلدان في الكلام على حلب : وقرأت في رسالة كتبها ابن بطلان المتطبب إلى هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي في نحو سنة ٤٤٠ في دولة بني مرداس فقال : دخلنا من الرصافة إلى حلب في أربع مراحل ، وحلب بلد مسور بحجر أبيض وفيه ستة أبواب وفي جانب السور قلعة في أعلاها مسجد وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبأ بها غنمه **. وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير. والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية. وشرب أهل البلد من صهاريج فيه مملوءة بماء المطر ، وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف ، وهو بلد قليل الفواكه والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من بلاد الروم ، وفيها من الشعراء جماعة منهم شاعر يعرف بأبي الفتح بن أبي حصينة ، ومن جملة شعره قوله :

__________________

( * ) إضافة من معجم البلدان ليست في الأصل ، وبها يستقيم الكلام.

( ** ) يقصد إبراهيم عليه‌السلام.

٢٩٩

و لما التقينا للوداع ودمعها

و دمعي يفيضان الصبابة والوجدا

بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي

عقيقا فصار الكل في نحرها عقدا

وفيها كاتب نصراني له قطعة في الخمر أظنه صاعد بن شمامة :

خافت صوارم أيدي المازجين لها

فألبست جسمها درعا من الحبب

وفيها حدث يعرف بأبي محمد بن سنان الخفاجي قد ناهز العشرين وعلا في الشعر طبقة المحنكين ، فمن قوله :

إذا هجوتكم لم أخش صولتكم

و إن مدحت فكيف الريّ باللهب

فحين لم ألق لا خوفا ولا طمعا

رغبت في الهجو إشفاقا من الكذب

وفيها شاعر يعرف بأبي العباس يكنى بأبي المشكور مليح الشعر سريع الجواب حلو الشمائل له في المجون بضاعة قوية وفي الخلاعة يد باسطة ، وله أبيات إلى والده :

يا أبا العباس والفضل

أبا العباس تكنى

أنت مع أمي بلا شك

تحاكي الكركدنّا

أنبتت في كل مجرى

شعرة في الرأس قرنا

فأجابه أبوه :

أنت أولى بأبي المذمو

م بين الناس تكنى

ليت لي بنتا ولا أنت

و لو بنت يحنا

بنت يوحنا مغنية بأنطاكية تحن إلى القرباء وتضيف الغرباء مشهورة بالعهر.

ومن عجائب حلب أن في قيسارية البز عشرين دكانا للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعا قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن ، وما في حلب موضع خراب أصلا ، وخرجنا من حلب طالبين أنطاكية وبينها وبين حلب يوم وليلة. اه ما ذكره ابن بطلان اه.

ولاية الحسن بن علي بن ملهم سنة ٤٤٩

قال ابن الأثير : ثم إن معز الدولة بعد أسر رفق وموته أرسل الهدايا إلى المصريين

٣٠٠