إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

ورهن عليهم بدنته ( درعه ) الجوهر المعدومة المثل ، ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح ، قال ابن الوردي : وهذه من محاسن سيف الدولة.

ولقد امتازت دولة سيف الدولة بمزيتين : الأولى سياسية إسلامية والثانية علمية أدبية ، فمزيتها السياسية أنه كثيرا ما أغار على الروم وجعل ديدنه التخريب في بلادهم ليردهم عن قصد بلاده ، لأنهم كانوا يطمعون فيها منذ القديم ، ويذكرون من تاريخها أنهم حكموها طويلا ، فكان بعمله سدا حاجزا دون انبعاثهم إلى هذه البلاد ، فخدم بذلك الإسلام والعرب ، والمزية الثانية لدولته جعلها كحضرة بني العباس على ضيق رقعتها وذلك في الإفضال على العلم والأدب ، فكان يقصده أهل هذا الشأن فينزلهم في بلاده على الرحب والسعة ويبرهم بصلاته ، قال في دائرة المعارف الإسلامية : ( إن الفضل الذي أحرزه سيف الدولة بن حمدان بنشر العلوم والآداب العربية هو عنوان مجد لا يقل عن أعماله الحربية ) اه.

ومما يؤخذ عليه تغاليه في الإفضال على الشعراء والأدباء ، على أن منهم كأبي الطيب المتنبي مثلا من فارقه بعد أن منحه الإقطاعات والإنعامات الكثيرة ليستجدي أكف كافور في مصر ، فقد أعطى سيف الدولة شاعره المتنبي ضيعة بالمعرة اسمها [ صف ] إقطاعا له ، وأقطع قرية [ عين جارة ] وهي من الضياع الكبرى ابن علي أحمد بن البازيار نديمه ، عدا ما كان يناله من صلاته ، وذكروا أن الناشىء الأحصّي دخل على سيف الدولة فأنشده قصيدة له فيه ، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ وقال له : اعذر فما يتأخر حمل المال ، فإذا بلغك ذلك فأتنا نضاعف جائزتك ونحسن إليك ، فخرج من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلابا تذبح لها السخال وتطعم لحومها ، فعاد إلى سيف الدولة فأنشده هذه الأبيات :

رأيت بباب دراكم كلابا

تغذيها وتطعمها السخالا

فما في الأرض أدبر من أديب

يكون الكلب أحسن منه حالا

ثم اتفق أن حملت إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال ، فضاع منها بغل بما عليه وهو عشرة آلاف دينار ، وجاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشىء الشاعر

٢٦١

بالأحصّ فأخذ ما عليه من المال وأطلقه ، ثم جاء حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة يقول له فيها :

و من ظن أن الرزق يأتي بحيلة

فقد كذبته نفسه وهو آثم

يفوت الغنى من لا ينام عن السرى

و آخر يأتي رزقه وهو نائم

فقال له سيف الدولة : بحياتي وصل إليك المال الذي كان على البغل ؟ فقال : نعم ، فقال : خذه بجائزتك مباركا لك فيه. إن ما صدر عن سيف الدولة غاية في الكرم ، ولكنه لا يجوز في الشرع والعقل أن تجبى هذه الأموال من الفقراء والأغنياء لتصرف في مصالح الأمة ثم يأخذها شاعر واحد ، ومعلوم أن العشرة آلاف دينار في القرن الرابع لا تقل قيمتها عن مئة ألف دينار في هذا القرن ، ولذلك قال ابن نباتة في مدح سيف الدولة وقد تبرم بكثرة ما ناله من عطائه :

قد جدت لي باللها حتى ضجرت بها

و كدت من ضجر أثني على البخل

إن كنت ترغب في بذل النوال لنا

فاخلق لنا رغبة أو لا فلا تنل

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

مثال آخر من إسراف سيف الدولة : ذكر أنه ضرب دنانير خاصة للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل وعليه اسمه وصورته ، قال بعض المؤرخين في حوادث سنة ٣٥٤ : فيها صاهر سيف الدولة أخاه ناصر الدولة فزوج ابنته أبا المكارم وأزوج أبا المعالي بابنة ناصر الدولة وأزوج أبا تغلب بابنته ست الناس ، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثون دينارا وعشرون وعشرة مكتوب عليها محمد رسول الله ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فاطمة الزهراء ، الحسن ، الحسين ، جبريل ، وعلى الجانب الآخر : أمير المؤمنين المطيع لله الأميران الفاضلان ناصر الدولة وسيف الدولة ، الأميران أبو تغلب وأبو المكارم ، وجاد بما لم يجد به أحد ، يقال إن المبلغ الذي جاد به سبعمائة ألف دينار ، فما قولكم بمن يجود بهذا المبلغ في عرس وهو مبلغ جسيم لا تقل قيمته إذا قدرناه بسكة زماننا عن سبعة ملايين دينار ، إن هذا العمل ممقوت شرعا وعقلا لأنه التبذير بعينه ، وبهذا رأيتم أن المال لا قيمة له في نظر سيف الدولة ، فقد ذكروا ـ وهو مما يعاب عليه ـ أن الخليفة المتقي العباسي لما استولى البريدي على بغداد استنجد ببني حمدان أمراء الموصل ، فطلب سيف الدولة من الخليفة

٢٦٢

مالا لينفقه في الجيش حتى يقويه ويمنع الأتراك من بغداد ، فأعطاه الخليفة أربعمائة ألف دينار ففرّقها سيف الدولة في أصحابه ، ثم هرب سيف الدولة ودخل [ تورون ] بغداد وملكها.

وذكر ابن حوقل في كلامه على بالس [ مسكنة ] أن سيف الدولة بعد انصرافه عن لقائه صاحب مصر وقد هلك جميع جنده أنفذ المعروف بأبي الحصين القاضي ، فقبض من تجار كانوا بها معتقلين عن السفر ولم يطلق لهم النفوذ ، فأخرجهم عن أحمال وأطواف زيت إلى ما عدا ذلك له من متاجر الشام في دفعتين بينهما شهور قلائل وأيام يسيرة ألف ألف دينار.

قال ابن مسكويه : كان سيف الدولة معجبا بنفسه يحب أن يستبد برأيه ، كريما شجاعا محبا للفخر والبذخ ، مفرطا في السخاء والكرم ، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه ، سعيدا مظفرا في حروبه ، جائرا على رعيته اشتد بكاء الناس عليه ومنه.

ولقد قيل إنه اجتمع لسيف الدولة بن حمدان ما لم يجتمع لغيره من الملوك ، كان خطيبه ابن نباتة الفارقي ومعلمه ابن خالويه ومطربه الفارابي وطباخه كشاجم وخزان كتبه الخالديين [ وهما يشبهان الأخوين الإفرنسيين ليكو نكور ] والصنوبري ومداحه المتنبي والسلامي والوأواء الدمشقى والببغاء والنامي وابن نباتة السعدي وغيرهم ، بل إنه اجتمع ببابه ما لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ، وكان أديبا شاعرا محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز بما يمدح به ، ولقد أورد صاحب اليتيمة من شعراء سيف الدولة وممن كانوا يقصدونه من الآفاق لينفقوا من أدبهم في سوقه ما هو بهجة النفوس مدى الأيام ، وربما قل في الملوك من مدح بمثل ما مدح به سيف الدولة ، حتى إن كلا من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختارا من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت ، وكل هذه الإجادة في الشعر وتخريج الرجال كانت منبعثة من وراء إعطاء سيف الدولة للمال بدون حساب.

تجلت في عهد سيف الدولة في ديار الشام روح غريبة في الأدب العربي وظهر بمظهر لم يسبق له عهد مثله ولا جاء في القرون التالية شبه له ونظير ، اللهم إلا إذا كان على عهد

٢٦٣

الأمويين ، ولم تبلغنا أخبار شعرائه. وقد استفاد من هذه الحركة الأدبية القاصي والداني ، كان أبو بكر الخوارزمي في ريعان عمره قد دوّخ بلاد الشام وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء ومطرح الغرباء والفضلاء ، فأقام ما أقام بها على أبي عبد الله ابن خالويه وأبي الحسن السميساطي وغيرها من أئمة الأدباء وأبي الطيب المتنبي وأبي العباس النامي وغيرهما من فحول الشعراء بين علم يدرسه وأدب يقتبسه ومحاسن ألفاظ يستفيدها وشوارد أشعار يصيدها ، وهو أحد أفراد الدهر وأمراء النظم والنثر ، وكان يقول : ما فتق قلبي وصقل ذهني وأرهف حد لساني وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي.

قام سيف الدولة بهذه النهضة الأدبية وقد كان القرن الثالث في الشام يخلو من الشعراء والأدباء ، لأنهم قصدوا بغداد عاصمة الملك وبقيت الشام بمعزل. ولم ينبغ في هذا العصر غير رجال في الحديث والمغازي والفقه ، وضعف الأدب حتى أخذ ابن حمدان بيده وأيدي المشتغلين به ، فكأن القرنين السالفين كانا كالمقدمة للكتاب الكبير الذي صدر في القرن الرابع وشرحه نوابغ الأدب العربي أحسن شرح ، وفيه قام أساطين الشعر أبو تمام وأبو الطيب وأبو عبادة وإليهم انتهت الزعامة في الإجادة.

بلادنا بلاد الشعر ، والشعر كان مبدأ دخول العرب في الحضارة ، لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته ، وأشد ما يكثر الشعراء في أرض صح إقليمها واعتدل نسيمها وطابت تربتها وأديمها وصفت أمواهها وسنح نميرها وكثرت ظلالها بأشجارها وغرّدت أطيارها في أسحارها ، وهذه الحالة على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب وشمالها ، فكان شعراء الشام وما يقاربها أشعر من شعراء العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام ، والسبب في تبريزهم قديما وحديثا على من سواهم في الشعر قربهم ـ كما قالوا ـ من خطط العرب ، ولا سيما أهل الحجاز ، وبعدهم عن بلاد العجم ، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.

وإذا أضيفت إلى هذه الأسباب الطبيعية أسباب أخرى من تنشيط ملك وإعجاب أمة بعمل العالم أو الشاعر والكاتب تفتحت القرائح وتجلى نبوغ الأفراد في أجمل مظاهره ،

٢٦٤

كما جرى في أيام سيف الدولة الذي يشبه من كثير من الوجوه لويس الرابع عشر ملك فرنسا ، هذا مع اعتبار الفرق بين العصرين ، فإن ابن القرن التاسع لا يتأتى أن يكون مثل ابن القرن التاسع عشر ، وابن غربي آسيا لا يصح بحال من الأحوال أن يشبه ابن غربي أوروبا ، ولكن الرجال قد يتشابهون على كل حال ، ووجه الشبه ظاهر بين الملكين ولا سيما فيما يتعلق بالمعارف والآداب ، ولكن عمل لويس الرابع عشر اتصل بعده وما زال في نمو وعلوّ ، وعمل سيف الدولة زال ـ ويا للأسف ـ بزواله ، وهذا أهم فرق بين هذا المشرق وذاك الغرب ، هناك يتسلسل الفكر قرونا وهنا ينقطع ويتحول ، هنالك تتناوله الجماعات بعد الأفراد فتحسنه وتزيد فيه وهنا يدفن مع صاحبه ولا يبقى غير تذكاره ، فعاش الشرق بالفرد وعاش الغرب بالجماعة!!!

لو ألهم سيف الدولة أن يقتصد قليلا من جوائز الشعراء فقط ، خل عنك سائر إسرافاته ، ويعمل فيها عملا يكل أمره إلى إبقاء الأجيال التي جاءت بعده لأثر وحده في مدنية الشام أكثر من تأثير الرومان واليونان ، ولما نسي اسمه إلا من دواوين الأدب وأسفار المحاضرات ، ومن قام أمره بالاستبداد ولم يحفل بآراء أصحاب الرأي تضمحل سلطته عند أول عارض داخلي أو خارجي يعرض لها.

إن سيف الدولة مثل الاستبداد الممزوج بالعقل وحب الأدب والشعر ، لأنه كان شاعرا مجيدا جيد الطبع كريم النفس ، وكانت فائدته الشخصية أقل من فائدة الآداب عامة على يده ، وجعل الشهباء مركز دائرته فأصبحت في سنين قليلة عاصمة الآداب فأورثنا شعراء سيف الدولة وأورثوه مجدا لا يبلى على وجه الدهر جديده اه.

ولاية أبي المعالي شريف بن سيف الدولة للمرة الأولى

من سنة ٣٥٦ إلى سنة ٣٥٨

قال في المختار من الكواكب المضية : لما توفي سيف الدولة كان ابنه أبو المعالي سعد الدولة بميافارقين ، فسار غلمان سيف الدولة وأحضروه إلى حلب ، فوصل إليها في ربيع الأول سنة ست وخمسين ، وجلس الحاجب قرعويه بحضرته ورد التدبير إليه.

٢٦٥

سنة ٣٥٧

قال ابن الأثير : فيها في ذي القعدة وصلت سرية كثيرة من الروم إلى أنطاكية ، فقتلوا في سوادها وغنموا وسبوا اثني عشر ألفا من المسلمين.

وفي هامش تجارب الأمم نقلا عن صاحب تاريخ الإسلام : في هذه السنة في ذي القعدة أقبل عظيم الروم نقفور بجيوش إلى الشام ، فخرج من الدرب ونازل أنطاكية ، فلم يلتفتوا إليه ، فهددهم وقال : أرحل وأضرب الشام وأعود إليكم من الساحل ، ورحل في اليوم الثالث ونازل معرة مصرين فأخذها وغدر بهم وأسر منهم أربعة آلاف ومائتي نسمة ، ثم نزل على معرة النعمان فأحرق جامعها ، وكان الناس قد هربوا في كل وجه إلى الحصون والبراري والجبال المنيعة ، ثم سار إلى كفر طاب وشيزر ثم إلى حماة وحمص فخرج من بقي بها ، فأمنهم ودخلها فصلى في البيعة وأخذ منها رأس يحيى بن زكريا وأحرق الجامع ، ثم سار إلى عرقة فافتتحها ، ثم سار إلى طرابلس فأخذ ربضها ، وأقام في الشام أكثر من شهرين ورجع ، فأرضاه أهل أنطاكية بمال عظيم.

وقال أيضا : ووصل ملك الروم لعنه الله إلى حمص وملكها بالأمان ، وخافهم صاحب حلب أبو المعالي بن سيف الدولة فتأخر عن حلب إلى بالس وأقام بها الأمير قرعويه ، ثم ذهب أبو المعالي إلى ميافارقين لما تفرق عنه جنده وصاروا إلى ابن عمه صاحب الموصل أبي تغلب ، فبالغ في إكرامهم ، ثم رد أبو المعالي إلى حلب فلم يمكن من دخولها ، واستضعفوه وتشاغل بحب جارية ، فرد إلى سروج فلم يفتحوها له ، ثم إلى حران فلم يفتحوا له أيضا ، واستنصر بابن عمه أبي تغلب فكتب إليه يعرض عليه المقام بنصيبين ، ثم صار إلى ميافارقين في ثلثمائة فارس فقل ما بيده ، ووافت الروم إلى ناحية ميافارقين وأرزن يعيثون ويقتلون ، وأقاموا ببلد الإسلام خمسة عشر يوما ورجعوا بما لا يحصى اه.

وفي المختار من الكواكب المضية : ثم إن أبا المعالي أخرج قرعويه من حلب لمخالفة أهل حلب عليه ، فتقرب إليهم بعمارة السور والقلعة ، وكانت قد هدمتها الروم حين هجموها سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ، وكان قد اتفق وصول عساكر الروم إلى ناحية

٢٦٦

أنطاكية ، فأشار قرعويه على سعد الدولة بالخروج من حلب ، فلما خرج قال له أهل حلب : لا يريدونك فامض إلى والدتك ، فمضى إلى ميافارقين ، واستولى قرعويه على حلب في المحرم سنة ثمان وخمسين هو ومولاه بكجور الحاجبي ، وكتب اسمه مدة على السكة ودعي له على المنابر.

ولاية قرعويه غلام سيف الدولة سنة ٣٥٨

قال له ابن الأثير : في هذه السنة دخل ملك الروم الشام لم يمنعه أحد ولا قاتله ، فسار في البلاد إلى طرابلس وأحرق بلدها وحصر قلعة عرقة ، فملكها ونهبها وسبى من فيها ، إلى أن قال : وأقام في الشام شهرين يقصد أي موضع شاء ، وأراد أن يحصر أنطاكية وحلب فبلغه أن أهلها قد أعدوا الذخائر والسلاح وما يحتاجون إليه ، فامتنع من ذلك وعاد ، وكان بحلب قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان وقد أخرج أبا المعالي بن سيف الدولة منها على ما نذكره ، فصانع الروم عليها فعادوا إلى بلادهم.

قال : ولما أخرج قرعويه غلام سيف الدولة أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان سار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها من الدخول إليهم ، فطلب منهم أن يأذنوا لأصحابه أن يدخلوا ويتزودوا منها يومين ، فأذنوا لهم ، ودخل إلى والدته بميافارقين وهي ابنة سعيد بن حمدان وتفرق عنه أكثر أصحابه ، ومضوا إلى أبي تغلب بن حمدان ، فلما وصل إلى والدته بلغها أن غلمانه وكتابه قد عملوا على القبض عليها وحبسها كما فعل أبو تغلب بأبيه ناصر الدولة ، فأغلقت أبواب المدينة ومنعت ابنها من دخولها ثلاثة أيام حتى أبعدت من تحب إبعاده واستوثقت لنفسها ، وأذنت له ولمن بقي معه في دخول البلد ، وأطلقت له الأرزاق ، وبقيت حران لا أمير عليها ، ولكن الخطبة فيها لأبي المعالي بن سيف الدولة ، وفيها جماعة من مقدمي أهلها يحكمون فيها ويصلحون من أمور الناس ، ثم إن أبا المعالي عبر الفرات إلى الشام وقصد حماة فأقام بها.

٢٦٧

سنة ٣٥٩

ذكر استيلاء الروم على أنطاكية وحلب وعودهم عنها

قال ابن الأثير : في هذه السنة في المحرم ملك الروم مدينة أنطاكية ، وسبب ذلك أنهم حصروا حصنا بالقرب من أنطاكية يقال له لوقا ، وأنهم وافقوا أهله وهم نصارى على أن يرتحلوا منه إلى أنطاكية ويظهروا أنهم انتقلوا منه خوفا من الروم ، فإذا صاروا بأنطاكية ( أعانوهم على فتحها ، وانصرف الروم عنهم بعد موافقتهم على ذلك ، وانتقل أهل الحصن ونزلوا بأنطاكية ) * بالقرب من الجبل الذي بها ، فلما كان بعد انتقالهم بشهرين وافى الروم مع أخي نقفور الملك ، وكانوا نحو أربعين ألف رجل فأحاطوا بسور أنطاكية وصعدوا الجبل إلى الناحية التي بها أهل حصن لوقا ، فلما رآهم أهل البلد قد ملكوا تلك الناحية طرحوا أنفسهم من السور وملك الروم البلد ووضعوا في أهله السيف ، ثم أخرجوا المشايخ والعجايز والأطفال من البلد وقالوا لهم : اذهبوا حيث شئتم ، فأخذوا الشباب من الرجال والنساء والصبيان والصبايا فحملوهم إلى بلاد الروم سبيا ، وكانوا يزيدون على عشرين ألف إنسان ، وكان حصرهم له في ذي الحجة.

ولما ملك الروم أنطاكية أنفذوا جيشا كثيفا إلى حلب وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة محاصرا لها وبها قرعويه السلفي متغلبا عليها ، فلما سمع أبو المعالي خبرهم فارق حلب وقصد البرية ليبعد عنهم ، وحصروا البلد وفيه قرعويه وأهل البلد قد تحصنوا بالقلعة ، فملك الروم المدينة وحصروا القلعة ، فخرج إليهم جماعة من أهل حلب وتوسطوا بينهم وبين قرعويه ، وترددت الرسل فاستقر الأمر بينهم على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعويه إليهم وأن يكون الروم إذا أرادوا الغزاة لا يمكن قرعويه أهل القرايا من الجلاء عنها ليبتاع الروم ما يحتاجون إليه منها ، وكان مع حلب حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين تلك الحصون والقرايا ، وسلموا الرهائن إلى الروم وعادوا عن حلب وتسلمها المسلمون.

__________________

( * ) ما بين القوسين سقط سهوا في الطبعة الأولى فأثبتناه نقلا عن ابن الأثير.

٢٦٨

وفيها في ربيع الآخر اصطلح قرعويه مع أبي المعالي بن سيف الدولة وخطب لأبي المعالي بحلب وكان بحمص ، وخطب هو وقرعويه في أعمالهما للمعز لدين الله العلوي صاحب المغرب. وفيها في جمادى الأولى سار أبو تغلب ابن ناصر الدولة بن حمدان إلى حران فرأى أهلها قد أغلقوا أبوابها وامتنعوا منه فنازلهم وحصرهم ، فرعى أصحابه زروع تلك الأعمال ، وكان الغلاء في العسكر كثيرا ، فبقي كذلك إلى ثالث عشر جمادى الآخرة ، فخرج إليهم نفران من أعيان أهلها ليلا وصالحاه وأخذ الأمان لأهل البلد وعادا ، فلما أصبحا أعلما أهل حران ما فعلاه فاضطربوا وحملوا السلاح وأرادوا قتلهما ، فسكنهم بعض أهلها فسكنوا واتفقوا على إتمام الصلح وخرجوا جميعهم إلى أبي تغلب وفتحوا أبواب البلد ، ودخله أبو تغلب وأخوته وجماعة من أصحابه وصلوا به الجمعة وخرجوا إلى معسكرهم ، واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي لأنه طلبه أهله لحسن سيرته ، وكان إليه أيضا عمل الرقة ، وهو من أكابر أصحاب بني حمدان ، وعاد أبو تغلب إلى الموصل ومعه جماعة من أحداث حران.

ولاية بكجور غلام قرعويه

من سنة ٣٦٠ إلى سنة ٣٦٦

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٦٦ : كان قرعويه قد استناب بحلب مولى له اسمه بكجور ، فقوي بكجور واستفحل أمره ، وقبض على مولاه قرعويه وحبسه في قلعة حلب وأقام بها نحو ست سنين.

قال الجلال السيوطي في كتاب الصلصلة في الزلزلة : وفي سنة ٣٦٢ زلزت بلاد الشام وهدمت الحصون ووقع من أبراج أنطاكية عدة ومات تحت الردم خلق كثير.

ولاية أبي المعالي شريف سنة ٣٦٦ للمرة الثانية

لما عاد أبو المعالي شريف من ميافارقين إلى حماة ونزلها ، وكانت الروم قد خربت حمص وأعمالها ، نزل إليه بارقتاش مولى أبيه وهو بحصن برزويه وخدمه وعمر له مدينة حمص فكثر أهلها.

٢٦٩

قال ابن الأثير : ولما استبد بكجور بأمر حلب كتب من بها من أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي بن سيف الدولة ليقصد حلب ويملكها ، فسار إليها وحصرها أربعة أشهر وملكها وبقيت القلعة بيد بكجور ، فترددت الرسل بينهما ، فأجاب إلى التسليم على أن يؤمنه في نفسه وأهله وماله ويوليه حمص ، وطلب بكجور أن يحضر هذا الأمان والعهد وجوه بني كلاب ، ففعل أبو المعالي ذلك وأحضرهم الأمان والعهد وسلم قلعة حلب إلى أبي المعالي ، وسار بكجور إلى حمص فتولاها لأبي المعالي وصرف همته إلى عمارتها وحفظ الطرق ، فازدادات عمارتها وكثر الخير بها ، ثم انتقل منها إلى ولاية دمشق على ما نذكره سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة.

سنة ٣٦٨ استيلاء أبي المعالي على ديار مضر

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٦٨ : كان متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيدي ، فأنفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشا ، فجرت بينهم حروب ، وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة [ ملك بغداد ] وعرض نفسه عليه ، فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي إلى البلاد التي بيد سلامة فتسلمها بعد حرب شديد ، ودخل أهلها في الطاعة ، فأخذ عضد الدولة لنفسه الرقة حسب ، ورد باقيها إلى سعد الدولة فصارت له.

سنة ٣٧٣

قال في الزبد والضرب : في هذه السنة نزل فردوس الدمستق على باب حلب في خمسمائة ألف ما بين فارس وراجل وسعد الدولة بحلب غير محتفل به ، ثم التقى العسكران في الميدان ، فرجع عسكر فردوس أقبح رجوع ، وسير سعد الدولة جيشه خلفه غازيا حتى بلغت عساكره أنطاكية اه.

وانظر ترجمة الشيخ عبد الرزاق أبي نمير المتوفي سنة ٤٢٥ ، ويغلب على الظن أن هذا العدد مبالغ فيه جدا.

٢٧٠

سنة ٣٧٨

قال ابن الأثير : في هذه السنة عزل بكجور عن دمشق ، وسبب ذلك أنه أساء السيرة في دمشق ، فجهز العزيز بالله إليه العساكر من مصر مع القائد منير الخادم ، فساروا إلى الشام فجمع بكجور العرب وغيرها وخرج فلقي العسكر المصري عند داريا وقاتلهم ، فاشتد القتال بينهم فانهزم بكجور وعسكره وخاف من وصول نزّال والي طرابلس ، وكان قد كوتب من مصر بمعاضدة منير ، فلما انهزم بكجور خاف أن يجيء نزال فيؤخذ فأرسل يطلب الأمان ليسلم البلد إليهم ، فأجابوه إلى ذلك ، فجمع ماله جميعه وسار وأخفى أثره لئلا يغدر المصريون به ، وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها.

سنة ٣٨١

ذكر وفاة سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة

بعد قتله بكجور غلامه

قال الوزير أبو شجاع في ذيل تجارب الأمم في حوادث هذه السنة : فيها ورد الخبر بوفاة سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بعد قتله بكجور غلامه. (١)(٢)

شرح الحال في عصيان بكجور وما آل إليه أمره من القتل

ونبذ من أخبار المصريين تتصل بها

قال في ذيل التجارب : كان لسعد الدولة غلام يعرف ببكجور ، فاصطنعه وقلده الرقة والرحبة واستكتب له أبا الحسن علي بن الحسين المغربي ، فلما طالت مدته في ولايته

__________________

(١) وأما ابتداء أمر بكجور هذا فليراجع تاريخ ابن القلانسي ص ٢٧ اه. كدا في هامش التجارب.

(٢) قال فانديك في كتابه اكتفاء القنوع بما هو مطبوع في صحيفة ٩٢ ، تاريخ تولي سعد الدولة على حلب طبع مع ترجمة ألمانية سنة ١٨٢٠ م في مدينة ليون باعتناء العلامة فرايتاغ اه.

٢٧١

جحد الإحسان وحدث نفسه بالعصيان واستغوى طائفة من رفقائه فصاروا إليه وخرج إلى أبي الحسن المغربي بسره ، فأشار إليه بمكاتبة صاحب مصر الملقب بالعزيز والتحيز إليه ، فقبل منه وكاتبه واستأذنه في قصد بابه ، فأذن له وسار عن الرقة بعد أن خلف عليها سلامة الرشيقي غلامه وأخذ رهائن أهلها على الطاعة ، فلقيته كتب صاحب مصر وخلعه وعهده على دمشق ، فنزل بها وتسلمها ممن كان واليا عليها ووجد أحداثها وشبانها مستولين ففتك بهم وقتل منهم وقامت هيبته بذلك ( وهذا في سنة ٣٧٧ كذا في الهامش نقلا عن ابن القلانسي ص ٣٠ ) وترددت بينه وبين عيسى بن قسطورس الوزير مكاتبات خاطبه فيها بكجور بخطاب توقع عيسى أوفى منه ، ففسد ما بينهما وأسرّ عيسى العداوة له وأساء غيبه ، وقطع بكجور مكاتبة عيسى وشكاه إلى صاحب مصر ، فأمر عيسى باستئناف الجميل معه فقبل ظاهرا وخالف باطنا. وخاف بكجور عيسى ومكيدته فاستمال طوائف من العرب وصاهرهم فمالوا إليه رغبة ، وعاد إلى الرقة وكتب إليه صاحب مصر يعاتبه على فعله فأجابه جواب المعتذر الملاطف.

ذكر السبب في مسير بكجور إلى حلب لقتال مولاه

قال في ذيل التجارب : كان لبكجور رفقاء بحلب يوادونه ، فكاتبوه وأطمعوه في الأمر وأعلموه تشاغل سعد الدولة باللذة ، فاغتر بأقوالهم وكتب إلى صاحب مصر يبذل له فتح حلب ويطلب منه الأنجاد والمعونة (١) ، فأجابه إلى كل ملتمس وكتب إلى نزّال الغوري والي طرابلس بالمسير إليه متى استدعاه من غير معاودة ، وكان نزّال هذا من قواد المغاربة وصناديدهم ومن صنايع عيسى وخواصه.

ذكر الحيلة التي رتّبها عيسى ( وزير مصر )

مع نزّال في التقاعد ببكجور حتى ورّطه

كتب عيسى إلى نزّال سرا بأن يظهر لبكجور المسارعة ويبطن له المدافعة ، فإذا

__________________

(١) العبارة في ابن الأثير : فأرسل حينئذ بكجور إلى العزيز بالله صاحب مصر يطمعه في حلب ويقول إنها دهليز العراق ومتى أخذت كان ما بعدها أسهل منها.

٢٧٢

تورط مع مولاه وصادمه تأخر عنه وأسلمه. فرحل بكجور عن الرقة وكتب بكجور إلى نزّال بأن يسير من طرابلس ليكون وصوله إلى حلب في وقت واحد ، وسار إليها ورحل (١) نزّال وأبطأ في سيره وواصل مكاتبة بكجور بنزوله في منزل بعد منزل وقرب عليه الأمر في وصوله. وقد كان سعد الدولة كتب إلى بسيل عظيم الروم وأعلمه عصيان بكجور عليه وسأله مكاتبة البرجي صاحبه بأنطاكية بالمسير إليه متى استنجده ، فكاتبه بسيل بذلك ، فلما وافى بكجور كتب سعد الدولة إلى البرجي بالمسير إليه ، فسار وبرز سعد الدولة في غلمانه وطوائف عسكره [ ولؤلؤ الجراخي الكبير يحجبه ] ولم يكن معه من العرب إلا عمرو بن كلاب وعدتهم خمسمائة فارس إلا أنهم أولو بأس ومن سواهم من عدده وعدته ٢ ، فنزل إلى الأرض وصلى وعفر خديه وسأل الله تعالى النصر. ثم استدعى كاتبه وأمره بأن يكتب إلى بكجور عنه ويستعطفه ويذكره الله ويبذل له أن يقطعه من الرقة إلى باب حمص ويدعوه إلى الموادعة ورعاية حق الرق والعبودية ، ومضى بالكتاب رسول فأوصله إليه ، فلما وقف عليه قال : الجواب ما يراه عيانا ، فعاد الرسول وأعاد على سعد الدولة قوله وأخبره أنه سائر على إثره ، فتقدم سعد الدولة وتقارب العسكران ورتب المصاف ووقع الطراد.

ذكر جود عاد على سعد الدولة بحفظ دولته

وشح آل ببكجور إلى ذهاب مهجته

قال في ذيل التجارب : كان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد إليه وقد طعن أو جرح خلع عليه وأحسن إليه ، وكان بكجور شحيحا ، فإذا عاد إليه رجل من رجاله على هذه الحالة أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا في أمره.

وقد كان سعد الدولة كاتب العرب الذين مع بكجور وأمنهم ووعدهم ورغبهم ، فلما حصلت كتبه بالأمان معهم عطفوا على سواده ونهبوا واستأمنوا إلى سعد الدولة ، ورأى بكجور ما تم عليه من تقاعد نزّال به وانصراف العرب عنه وتأخر رفقائه الذين كاتبوه

__________________

(١) زاد في الهامش هنا ابن القلانسي ص ٣٤ : ومن سواهم من بطون العرب بني كلاب مع بكجور وأعجبه [ يعني سعد الدولة ] ما رأى من عدده وعدته إلخ.

٢٧٣

ووعدوه بالانحياز إليه إذا شاهدوه ، فاستدعى الحسن المغربي كاتبه وقال له : لقد غررتني فما الرأي الآن ؟ قال له : أيها الأمير لم أكذبك في شيء قلته ولا أردت إلا نصحك ، والصواب مع هذه الأسباب أن ترجع إلى الرقة وتكاتب صاحب مصر بما اعتمده نزّال معك وتعاود استنجاده. وكان في العسكر قائد من القواد يجري مجراه في التقدم فسمع ما جرى بينهما فقال لبكجور : هذا كاتبك إذا جلس في دسته قال [ الأقلام تنكس الأعلام ] ، فإذا تحققت الحقائق أشار علينا بالهرب ، والله لا هربنا ، وحلف بالطلاق على ذلك ، وسمع أبو الحسن المغربي قوله فخاف. وكان قد واقف بدويا من بني كلاب على أن يحمله إلى الرقة متى كانت هزيمته وبذل له ألف دينار على ذلك ، فلما استشعر ما استشعر قدم ما كان أخّره وسأل البدوي تسييره إلى الرقة فسيّره.

ذكر ما دبره بكجور بفضل شجاعته فحالت المقادير دون إرادته

قال في ذيل التجارب : لما رأى الأمر معضلا عمل على أن يعمد إلى الموضع الذي فيه سعد الدولة من المصاف ويحمل عليه بنفسه ومن ينتخبه من صناديد عسكره موقعا به ، فاختار وجوه غلمانه وقال لهم : قد حصلنا من هذه الحرب على شرف أمرين صعبين من هزيمة وهلاك ، وقد عولت على كيت وكيت ، فإن

ساعدتموني رجوت لكم الفتح ، فقالوا : نحن طوعك وما نرغب بنفوسنا عن نفسك ، فغدر واحد من الغلمان واستأمن إلى لؤلؤ الجراحي وأعلمه بما عول عليه.

ذكر ما فعله لؤلؤ من افتداء مولاه بنفسه فنجاهما الله بحسن النية

قال في ذيل التجارب : أسرع لؤلؤ إلى سعد الدولة وأخبره الحال وقال : قد أيس بكجور من نفسه وهو لا شك فاعل ما قد عزم عليه ، فانتقل من مكانك إلى مكاني لأقف أنا في موضعك وأكون وقاية لك ولدولتك ، فقبل سعد الدولة رأيه ، ووقف لؤلؤ

٢٧٤

تحت الراية وجال بكجور في أربعمائة غلام شاكين في السلاح ، ثم حمل في عقيب جولته حملة أفرجت له العساكر ، ولم يزل يخبط من تلقاه بالسيف إلى أن وصل إلى لؤلؤ وهو يظنه سعد الدولة فضربه على الخودة ضربة قدها ووصلت إلى رأسه ، ووقع لؤلؤ إلى الأرض وحمل العسكر على بكجور ، وبادر سعد الدولة عائدا إلى مكانه مظهرا نفسه لغلمانه ، فلما رأوه قويت شوكتهم وثبتت أقدامهم واشتدوا في القتال حتى استفرغ بكجور وسعه ، ثم انهزم في سبعة نفر.

ذكر ما جرى عليه أمر بكجور بعد الهزيمة إلى أن قتل

قال الوزير أبو شجاع في ذيل تجارب الأمم : كانت تحت بكجور فرس ثمنه ألف دينار ، فانتهى إلى ساقية تحمل الماء إلى رحا الطريق سعتها قدر ذراعين ، فجهد على أن يعبرها خوضا أو وثبا فلم يكن فيه قوة ووقف ، ولحقته عشرة فوارس من العرب فرجلته وأصحابه وجردوهم من ثيابهم وآبوا عنهم بأسلابهم ، ونجا بكجور ومن معه إلى الرحا فاستكنوا فيه ، ثم خرجوا من بعد إلى قراع فيه زرع فمر بهم قوم من العرب وكان فيهم رجل من بني قطن كان بكجور يستخدمه كثيرا في مهماته ، فناداه أن ارجع فرجع وهو لا يعرفه ، فأخذ زمامه ثم عرفه نفسه وبذل له على إيصاله الرقة حمل بعيره ذهبا ، فأردفه وحمله إلى بيته وكساه ، وكان سعد الدولة قد بث الخيل في طلبه وجعل لمن أحضره حكمه ، فساء ظن البدوي وطمع فيما كان سعد الدولة بذله ، واستشار ابن عمه في أمره فقال له : هو رجل بخيل وربما غدر في عدوه ، وإذا قصدت سعد الدولة به حظيت برفده ، فأسرع البدوي إلى معسكر سعد الدولة وأشعره بحال بكجور واحتكم عليه مائتي فدان زراعة ومائة ألف درهم ومائة راحلة محملة برا وخمسين قطعة ثيابا ، فبذل له سعد الدولة ذلك جميعه. وعرف لؤلؤ الجراحي الخبر وتقرر أن يمضي البدوي ويحضره ، فتحامل وهو مثخن بالجراحة التي أصابته ومشى يتهادى على أيدي غلمانه حتى حضر عند سعد الدولة.

ذكر حزم أخذ به لؤلؤ دل منه على أصالة رأي

قال الوزير في الذيل : لما حضر سأل عما يقوله البدوي فأخبر به فقبض لؤلؤ على

٢٧٥

يده وقال له : أين أهلك ؟ فقال : في المرج على فرسخ ، فاستدعى جماعة من غلمانه وأمرهم أن يسرعوا إلى الحلة ويقبضوا على بكجور ويحملوه ، فتوجهوا وهو قابض على يد البدوي والبدوي يستغيث ، فقدم لؤلؤ إلى سعد الدولة وقال : يا مولانا ، لا تنكر عليّ فعلي فإنه مني عن استظهار في خدمتك ، فلو عاد هذا البدوي إلى بيته لم نأمن أن يبذل له بكجور مالا جما فيقبل منه وتطلب منه بعد ذلك أثرا بعد عين ، والذي طلبه البدوي مبذول وما ضر الاحتياط ، فقال له سعد الدولة : أحسنت يا أبا محمد لله درك ، ولم يمض ساعات حتى أحضر بكجور ، فشاور سعد الدولة لؤلؤا في أمره فأشار عليه بقتله خوفا من أن تسأل أخت سعد الدولة فيه فيفرج عنه ، فأمر عند ذلك بضرب عنقه.

فسار سعد الدولة إلى الرقة فنزل عليها وفيها سلامة الرشيقي وأبو الحسن المغربي وأولاد بكجور وحرمه وأمواله ونعمه ، فأرسل إلى سلامة يلتمس منه تسليم البلد ، فأجابه بأني عبدك وعبد عبدك ، إلا أن لبكجور عليّ عهودا ومواثيق لا مخلص لي عند الله منها إلا بأحد أمرين : إما أنك تذم لأولاده على نفوسهم وحرمهم وتقتصر فيما تأخذه منهم على آلات الحرب وعددها وتحلف لهم على الوفاء به ، وإما بأن أبلي عذرا عند الله تعالى فيما أخذ عليّ من عهد وعقد معي من عقد ، فأجابه سعد الدولة إلى ما اشترطه من الذمام وحلف له بيمين مستوفاة الأقسام ، ودخل فيها الأمان لأبي الحسن المغربي بعد أن كان قد هدر دمه ، إلا أنه أمنه على أن يقيم في بلاده ، فهرب إلى الكوفة وأقام بمشهد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

ذكر ما جرى عليه أمر سلامة الرشيقي وأولاد بكجور

في خروجهم من الرقة وغدر سعد الدولة

لما توثق سلامة لنفسه ولأولاد بكجور سلم حصن الرافقة وخرجوا منها ومعهم من الأموال والزينة ما كثر في عين سعد الدولة ، فإنه كان يشاهدهم من وراء سرادقه وبين يديه ابن أبي الحصين القاضي ، وقال له : ما ظننت أن حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأثقال والأموال ، فقال له ابن أبي الحصين : إن بكجور وأولاده مماليك ، وكل ما ملكه

٢٧٦

وملكوه هو لك لا حرج عليك فيما تأخذه منهم ، ولا حنث في الأيمان التي حلفت بها ، ومهما كان فيها من وزر وإثم فعلي دونك ، فلما سمع هذا القول أصغى إليه وغدر بهم وقبض على جميع ما كان معهم ، فما كان أسوأ محضر هذا القاضي الذي حسن لسعد الدولة تسويل الشيطان وأفتاه بنقض الأيمان ، ثم لم يقنع بما زين له من غدره ولبس عليه من أمره حتى تكفل له بحمل وزره ، وهل أحد حامل وزر غيره ، أما سمع قول الله تعالى في أهل الضلالة وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون .

وكان أولاد بكجور كتبوا إلى العزيز بما جرى على والدهم وسألوه مكاتبة سعد الدولة بالإبقاء عليهم.

ذكر ما جرى بين صاحب مصر وسعد الدولة من المراسلات

وما اتفق من وفاة سعد الدولة بعقب ذلك

كتب صاحب مصر إليه كتابا يتوعده فيه ويأمره بالإبقاء عليهم وتسييرهم إلى مصر موفورين ويقول في آخره : فإن خالفت كنت خصمك ووجهت العساكر نحوك ، وأنفذ الكتاب مع فائق الصقلبي أحد خوله وسيره على نجيب إسراعا به ، فوصل فائق إلى سعد الدولة وقد وصل من الرقة إلى ظاهر حلب وأوصل إليه الكتاب ، فلما وقف عليه جمع وجوه عسكره وقرأه عليهم ثم قال لهم : ما الرأي عندكم ؟ قالوا له : نحن عبيد طاعتك ومهما أمرتنا به كنا عند طاعتك منه ، فأمر بإحضار فائق فأهانه وقال له : عد إلى صاحبك وقل له : لست ممن يستفزه وعيدك وما بك حاجة إلى تجهيز عسكر إلي ، فإنني سائر إليك وخبري يأتيك من الرملة ، وقدم قطعة من عسكره إلى حمص أمامه ، وعاد فائق إلى صاحبه فعرفه ما سمعه ورآه فأزعجه وأقلقه.

وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أياما ليرتب أموره ويتبع العسكر الذي تقدمه ، فعرض له القولنج ، وعاد إلى البلد متداويا وأبلّ وهني بالسلامة وعول على العود إلى

٢٧٧

المعسكر ، فحضرت فراشه في الليلة التي عزم على الركوب في صبيحتها إحدى حظاياه وتبعتها النفس الشهوانية المهلكة فواقعها وسقط عنها وقد جف نصفه ، وعرفت أخته الصورة فدخلت إليه وهو يجود بنفسه ، واستدعي الطبيب فأشار بسجر الند والعنبر حوله ، فأفاق قليلا فقال له الطبيب : أعطني يدك أيها الأمير لآخذ مجسك ، فأعطاه اليسرى فقال : يا مولانا اليمنى ، فقال : أيها الطبيب : ما تركت لي اليمين يمينا ، فكأنه تذكر ما فرط من خيانته وندم على نقض العهد ونكثه. ومضت عليه ثلاث ليال وقضى نحبه بعد أن قلد عهده لولده أبي الفضائل ووصى إلى لؤلؤ الجراحي به وببقية ولده. اه من الذيل للوزير أبي شجاع.

قال ابن خلكان في ترجمة أبيه سيف الدولة : كانت وفاة سعد الدولة لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وعمره أربعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام ، وتولى بعده ولده أبو الفضائل سعد.

ذكر قيام أبي الفضائل سعد بن سعد الدولة بعد أبيه

وما جرى له مع العساكر المصرية

قال الوزير في الذيل : جد لؤلؤ في نصب أبي الفضائل في الأمر وأخذ له البيعة على الجند ، وتراجعت العساكر إلى حلب واستأمن منها إلى صاحب مصر وفاء الصقلي وبشارة الأخشيدي ورباح وقوم آخرون ، فقبلهم وأحسن إليهم وولي كل منهم بلدا ، وقد كان أبو الحسن المغربي بعد حصوله في المشهد بالكوفة كاتب صاحب مصر وصار بعد المكاتبة إلى بابه ، فلما توفي سعد الدولة عظم أمر حلب عنده وكثر له أموالها وهون عليها حصولها ، وأشار باصطناع أحد الغلمان وإنفاذه إليها ، فقبل منه إشارته وقدم غلاما يسمى منجوتكين فخوّله وموّله ورفع قدره ونوه بذكره ، وأمر القواد والأكابر بالترجل له وولاه الشام ، واستكتب له أحمد بن محمد القشوري وسيره إلى حلب ، وضم إليه أبا الحسن المغربي ليقوم بالأمر والتدبير.

٢٧٨

لما وصل إلى دمشق تلقاه قوادها وأهلها وعساكر الشام كلها ، فأقام بها مدة ، ثم رحل إلى حلب وقد استعد واحتشد ، ونزلها في ثلاثين ألف رجل ، وتحصن أبو الفضائل بن سعد الدولة ولؤلؤ بالبلد. وقد كان لؤلؤ عند معرفته بورود العساكر المصرية كتب إلى بسيل عظيم الروم وذكره ما كان بينه وبين سعد الدولة من المعاهدة والمعاقدة وبذل له عن أبي الفضائل ولده الجري على تلك العادة ، وحمل إليه ألطافا كثيرة واستنجده وأنفذ إليه ملكوتا السرياني رسولا ، فوصل إليه ملكوتا وهو بإزاء عساكر ملك البلغر مقاتلا ، فقبل ما ورد فيه ، وكتب إلى البرجي صاحبه بأنطاكية بجمع عساكر الروم وقصد حلب ودفع المغاربة عنها ، فسار البرجي في خمسة آلاف رجل ونزل بجسر الحديد بين أنطاكية وحلب ، وعرف منجوتكين وأبو الحسن ذلك فجمعا وجوه العسكر وشاوراهم في تدبير الأمر.

ذكر مشورة أنتجت رأيا سديدا كان في أثنائه الظفر بالروم

قال الوزير : أشار ذو الرأي والحصافة منهم بالانصراف عن حلب وقصد الروم والابتداء بهم ومناجزتهم لئلا يحصلوا بين عدوين ، فأجمعوا على ذلك وساروا حتى صار بينهم وبين الروم النهر المعروف بالمقلوب ، فلما تراءى الجمعان تراموا بالنشاب وبينهم النهر وليس للفريقين طريق إلى العبور. فبرز من الديلم الذين في حملة منجوتكين شيخ في يديه ترس وثلاث زوبينات ورمى بنفسه إلى الماء والمسلمون ينظرون إليه والروم يرمونه بالنبل والحجارة وهو يسبح قدما والترس في يده والماء إلى صدره ، وشاهد المسلمون ذلك وطرحوا نفوسهم في إثره ، وطرحت العرب خيولهم في النهر وهجم العسكر على المخاض وحصلوا مع الروم على أرض واحدة ومنجوتكين يمنعهم فلا يمتنعون ، وأنزل الله تعالى النصر عليهم وولى الروم أدبارهم بين مقتول ومأسور ومغلول ، وأفلت البرجي في عدد قليل وغنمت منهم الغنيمة الكثيرة ، وجمع من رؤوس قتلاهم نحو عشرة آلاف رأس [ تقدم أن البرجي سار في خمسة آلاف رجل ، فلعله انضم إليه بعد ذلك غيرهم أو أن العدد هنا مبالغ فيه ] وحملت إلى مصر وتمم منجوتكين إلى أنطاكية ونهب رساتيقها وأحرقها ، وكان وقت إدراك الغلة ،

٢٧٩

فأنفذ لؤلؤ وأحرق ما يقارب حلب منها إضرارا بالعسكر المصري وقاطعا للميرة عليهم ، وكر منجوتكين راجعا إلى حلب.

ذكر تدبير لطيف دبره لؤلؤ في صرف العساكر المصرية عن حلب

قال الوزير : لما رأى لؤلؤ هزيمة الروم وقوة العساكر المصرية وضعفه عن مقاومتهم كاتب أبا الحسن المغربي والقشوري ورغبهما في المال وبذل لهما ما استمالهما به ، وسألهما المشورة على منجوتكين بالانصراف عن حلب في هذا العام والمعاودة في العام القابل لعلة تعذر الأقوات والعلوفات ، فأجاباه إلى ذلك ، وخاطبا منجوتكين به فصادف قولهما منه شوقا إلى دمشق وخفض العيش ، وضجرا من الأسفار والحروب ، وكتبت الجماعة إلى صاحب مصر بهذه الصورة واستأذناه في الانكفاء. فقبل أن يصل الكتاب ويعود الجواب رحلوا عائدين ، وعرف صاحب مصر ذلك فاستشاط غضبا ووجد أعداء أبي الحسن المغربي طريقا إلى الطعن عليه فصرفه بصالح بن علي الروذباري.

ذكر ما دبره المتقلب بالعزيز في إمداد العسكر بالميرة

وإعادتهم إلى حلب

قال الوزير : آلى العزيز على نفسه أن يمد العسكر بالميرة من غلات مصر مائة ألف تليس [ والتليس قفيزان بالمعدل ] في البحر إلى طرابلس ، ومنها على الظهور إلى حصن أفامية ، ورجع منجوتكين في السنة الثانية إلى حلب ونزل عليها وصالح بن علي الروذباري المدبر ، فكان يوقع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم إلى أفامية على خمسة وعشرين فرسخا ، فيمضون ويقبضونها ويعودون بها ، وأقاموا على حلب ثلاثة عشر شهرا ، وبنوا الحمامات والخانات والأسواق وأبو الفضائل ولؤلؤ ومن معهما متحصنون بالبلد ، وتعذرت الأقوات

٢٨٠