إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

يطرحه حول عسكره بالليل وخركاهات عليها لبود مغربية ) ، ولما دخل الروم البلد قصد الناس القلعة ، فمن دخلها نجا بحشاشة نفسه. وأقام الدمستق تسعة أيام وأراد الانصراف عن البلد بما غنم فقال له ابن أخت الملك وكان معه : هذا البلد قد حصل في أيدينا وليس من يدفعنا عنه فلأي سبب ننصرف عنه ، فقال الدمستق : قد بلغنا ما لم يكن الملك يؤمله وغنمنا وقتلنا وخربنا وأحرقنا وخلصنا أسرانا وبلغنا ما لم يسمع بمثله ، فتراجعا الكلام إلى أن قال له الدمستق : انزل على القلعة فحاصرها فإنني مقيم بعسكري على باب المدينة ، فتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة ومعه سيف وترس وتبعه الروم ، فلما قرب من باب القلعة ألقي عليه حجر فسقط ورمي بخشب فقتل ، فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق ، فلما رآه قتيلا قتل من معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومائتي رجل ، وعاد إلى بلاده ولم يعرض لسواد حلب ، وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليهم بزعمه.

وفي هامش تجارب الأمم نقلا عن تاريخ علي بن محمد الشميشاطي ما نصه :

قال : في ذي القعدة أقبلت الروم فخرجوا من الدروب ، فخرج سيف الدولة من حلب فتقدم إلى أعزاز في أربعة آلاف فارس وراجل ، ثم تيقن أنه لا طاقة له بلقاء الروم لكثرتهم ، فرد إلى حلب وخيم بظاهرها ليكون المصاف هناك ، ثم جاءه الخبر بأن الروم مالوا نحو العمق فجهز فتاه نجا في ثلاثة آلاف لقصدهم ، ثم لم يصبر سيف الدولة فسار بعد الظهر بنفسه ونادى في الرعية من لحق بالأمير فله دينار ، فلما سار فرسخا لقيه بعض العرب فأخبره أن الروم لم يبرحوا من جبرين وأنهم على أن يصبحوا حلب ، فرد إلى حلب ونزل على نهر قويق ، ثم تحول من الغد فنزل على باب اليهود وبذل خزائن السلاح للرعية ، وأشرف العدو في ثلاثين ألف فارس فوقع القتال في أماكن شتى ، فلما كان العصر وافى ساقة العدو في أربعين ألف رجل بالرماح وفيهم ابن الشمقيق ، وامتد الجيوش على النهر وأحاطوا بسيف الدولة ، فحمل عليهم ، فلما ساواهم لوى رأس فرسه وقصد ناحية بالس وسار وراءه ابن الشمقيق في عشرين ألفا ، فأنكى في أصحابه وانهزمت الرعية الذين كانوا على النهر عندما انصرف سلطانهم وأطلهم السيف وازدحموا في الأبواب وتعلق طائفة من السور بالجبال ، فقتل منهم فوق الثلاثمائة ، وقتل من الكبار أبو طالب بن داود بن حمدان

٢٤١

وابنه وداود بن علي ، وأسر كاتب سيف الدولة الفياضي وأبو نصرالي [ هكذا ] بن حسين ابن حمدان ، وكان عسكر الروم ثمانين ألف فارس والسواد فلا يحصى.

ثم تقدم من الغد منتصر حاجب الدمستق إلى السور فقال : أخرجوا إلينا شيخين تعتمدون عليهما ، فخرج شيخان إلى الدمستق فقربهما وقال : إني أحببت أن أحقن دماءكم فتخيروا إما أن تشتروا البلد أو تخرجوا عنه بأهلكم ، وإنما كان ذلك حيلة منه ، فاستأذناه في مشاورة الناس ، فلما كان من الغد أتى الحاجب فقال : ليخرج إلينا عشرة منكم لنعرف ما عمل عليه أهل البلد ، وكان رأي أهل البلد على الخروج بالأمان ، فخرج العشرة وطلبوا الأمان وتدخل الروم ، فقال الدمستق : صح ما بلغني عنكم ، قالوا : وما هو ؟ قال : بلغني أنكم قد أقمتم مقاتلتكم في الأزقة مختفين ، فإذا خرج الحرم والصبيان ودخل أصحابي للنهب اغتالوهم ، فقالوا : ليس في البلد من يقاتل ، قال : فاحلفوا فحلفوا له ، وإنما أراد أن يعرف صورة البلد ، فحينئذ تقدم بجيوشه إلى قبالة السور ولجأ الناس إلى القلعة ونصبت سلالم على باب أربعين وعند باب اليهود ، وصعدوا فلم يروا مقاتلة ، فنزلوا البلد ووضعوا السيف وفتحوا الأبواب وقضي الأمر وعم القتل والسبي والحريق طول النهار ومن الغد ، وبقي السيف يعمل بها ستة أيام إلى يوم الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة ، فزحف ابن الدمستق وابن الشمقيق على القتلة ، ودام القتال إلى الظهر ، فقتل ابن الشمقيق من عظمائهم ونحو مائة وخمسين من الروم ، وانصرف الدمستق إلى مخيمه ، ونودي من كان معه أسير فليقتله ، فقتلوا خلقا كثيرا ، ثم عاد إلى القلعة فإذا طلائع قد أقبلت نحو قنسرين وكانت نجدة لهم ، فتوهم الدمستق أنها نجدة لسيف الدولة فترحل خائفا. اه.

وفيها أيضا فتح الروم حصن دلوك وثلاثة حصون مجاورة له بالسيف.

وفيها في جمادى الآخرة أعاد سيف الدولة بناء عين زربة وسير حاجبه في جيش مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم ، فغنموا وقتلوا وسبوا وعادوا ، فقصد الروم حصن سيسية فملكوه.

وفيها سار نجا غلام سيف الدولة في جيش إلى حصن زياد ، فلقيه جمع من الروم فهزمهم ، واستأمن إليه من الروم خمسمائة رجل.

٢٤٢

وفيها في شوال أسرت الروم أبا فراس بن سعد بن حمدان من منبج ، وكان متقلدا لها ، وله ديوان شعر جيد.

سنة ٣٥٢

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر امتنع أهل حران على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وعصوا عليه ، وسبب ذلك أنه كان متقلدا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة ، فعسفهم نوابه وظلموهم وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران وبالغوا في ظلمهم ، وكان هبة الله عند عمه سيف الدولة بحلب ، فثار أهلها على نوابه وطردوهم ، فسمع هبة الله بالخبر فسار إليهم وحاربهم وحصرهم فقاتلهم وقاتلوه أكثر من شهرين ، فقتل منهم خلق كثير ، فلما رأى سيف الدولة شدة الأمر واتصال الشر قرب منهم وراسلهم وأجابهم إلى ما يريدون ، فاصطلحوا وفتحوا أبواب البلد وهرب منه العيارون خوفا من هبة الله.

ذكر غزوة إلى الروم وعصيان حران

قال ابن الأثير : في هذه السنة في شوال دخل أهل طرسوس بلاد الروم غازين ، ودخلها أيضا نجا غلام سيف الدولة بن حمدان من درب آخر ، ولم يكن سيف الدولة معهم لمرضه ، فإنه كان قد لحقه قبل ذلك بسنتين فالج ، فأقام على رأس درب من تلك الدروب ، فأوغل أهل طرسوس في غزوتهم حتى وصلوا إلى قونية وعادوا فرجع سيف الدولة إلى حلب ، فلحقه في الطريق غشية أرجف عليه الناس بالموت ، فوثب هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابن دنجا فقتله وكان خصيصا لسيف الدولة (١).

__________________

(١) عبارة ابن مسكويه في تجارب الأمم هكذا : وجاء أبو الحسين ابن دنجا إلى هبة الله ابن ناصر الدولة ليسلم عليه ويهنئه بعيد الفطر ، وكان هبة الله راكبا فاستجر أبا الحسين بن دنجا الحديث إلى إزاء صخر ثم رماه بخشب كان في يده فوقع في لبته ومضى يريد الهرب ، فلحقه هبة الله ، وإنما فعل ذلك لغيرة لحقته من تعرض ابن دنجا لغلام من غلمانه اه.

٢٤٣

وإنما قتله لأنه كان يتعرض لغلام له ، فغار لذلك ، ثم أفاق سيف الدولة فلما علم هبة الله أن عمه لم يمت هرب إلى حران ، فلما دخلها أظهر لأهلها أن عمه مات وطلب منهم اليمين على أن يكونوا سلما لمن سالمه وحربا لمن حاربه ، فحلفوا له واستثنوا عمه في اليمين ، فأرسل سيف الدولة غلامه نجا إلى حران في طلب هبة الله ، فلما قاربها هرب هبة الله إلى أبيه بالموصل ، فنزل نجا على حران في السابع والعشرين من شوال ، فخرج أهلها إليه من الغد فقبض عليهم وصادرهم على ألف ألف درهم ووكل بهم حتى أدوها في خمسة أيام بعد الضرب الوجيع بحضرة عيالاتهم وأهليهم ، فأخرجوا أمتعتهم فباعوا كل ما يساوي دينارا بدرهم لأن أهل البلد كلهم كانوا يبيعون ليس فيهم من يشتري لأنهم مصادرون ، واشترى ذلك أصحاب نجا بما أرادوا ، وافتقر أهل البلد ، وسار نجا إلى ميافارقين وترك حران شاغرة بغير وال ، فتسلط العيارون على أهلها ، وكان من أمر نجا ما نذكره سنة ثلاث وخمسين.

وفيها في ربيع الأول اجتمع من رجالة الأرمن جماعة كثيرة وقصدوا الرها فأغاروا عليها فغنموا وأسروا وعادوا موفورين.

سنة ٣٥٣

ذكر عصيان نجا وقتل سيف الدولة له

قال ابن الأثير : قد ذكرنا سنة اثنتين وخمسين ما فعله نجا غلام سيف الدولة بن حمدان بأهل حران وما أخذه من أموالهم ، فلما اجتمعت عنده تلك الأموال قوي بها وبطر ولم يشكر ولي نعمته بل كفره ، وسار إلى ميافارقين وقصد بلاد أرمينية ، وكان قد استولى على كثير منها رجل من العرب يعرف بأبي الورد ، فقاتله نجا فقتل أبو الورد وأخذ نجا قلاعه وبلاده خلاط وملازكرد وموش وغيرها ، وحصل له من أموال أبي الورد شيء كثير ، فأظهر العصيان على سيف الدولة ، فاتفق أن معز الدولة بن بويه سار عن بغداد إلى الموصل ونصيبين واستولى عليها وطرد منها ناصر الدولة [ أخا سيف الدولة ] على ما نذكره آنفا ، فكاتبه نجا وراسله وهو بنصيبين يعده المعاضدة والمساعدة على مواليه بني حمدان ، فلما عاد

٢٤٤

معز الدولة إلى بغداد واصطلح هو وناصر الدولة سار سيف الدولة إلى نجا ليقاتله على عصيانه عليه وخروجه عن طاعته ، فلما وصل إلى ميافارقين هرب نجا من بين يديه فملك سيف الدولة بلاده وقلاعه التي أخذها من أبي الورد ، واستأمن إليه جماعة من أصحاب نجا فقتلهم ، واستأمن إليه أخو نجا فأحسن إليه وأكرمه وأرسل إلى نجا يرغبه ويرهبه إلى أن حضر عنده فأحسن إليه وأعاده إلى مرتبته ، ثم إن غلمان سيف الدولة وثبوا على نجا في دار سيف الدولة بميافارقين في ربيع الأول سنة أربع وخمسين فقتلوه بين يديه ، فغشي على سيف الدولة ، وأخرج نجا فألقي في مجرى الماء والأقذار وبقي إلى الغد ، ثم أخرج ودفن.

قال ابن مسكويه في تجارب الأمم : في هذه السنة فتك غلمان سيف الدولة بحضرته على نجا بالسيوف فقتلوه ، ولحق سيف الدولة في الوقت غشية مكث فيها نحو الساعة ، فأمرت زوجته وهي بنت أبي العلاء سعيد بن حمدان أن يجر برجل نجا ، ففعل ذلك إلى أن أخرج من قصرها ، وفيه كان جرى على نجا ما جرى وطرح في مجرى ماء ينصب إليه المياه والأقذار وبقي فيه إلى الغد وقت العصر ، ثم أخرج وكفن ودفن.

وفي هامشه نقلا عن صاحب ميافارقين ما نصه : حضر نجا في مجلس سيف الدولة وعنده جماعة على الشراب ، فتكلم سيف الدولة في شيء وحاجّه وخرج عليه بكلام قبيح ، فوثب عليه غلام لسيف الدولة يسمى نجاحا فضربه على رأسه بسيف فقتله ، فحمل إلى ميافارقين ودفن بها وندم سيف الدولة على قتله ، وسار وملك أخلاط وتلك الولاية بأسرها. اه.

سنة ٣٥٤

ذكر مخالفة أهل أنطاكية على سيف الدولة

قال ابن الأثير : في هذه السنة عصى أهل أنطاكية على سيف الدولة بن حمدان ، وكان سبب ذلك أن إنسانا من أهل طرسوس كان مقدما فيها يسمى رشيقا النسيمي كان في جملة من سلمها إلى الروم وخرج إلى أنطاكية ، فلما وصله أخدمه إنسان يعرف بابن الأهوازي كان يضمن الأرحاء بأنطاكية ، فسلم إليه ما اجتمع عنده من حاصل الأرحاء

٢٤٥

وحسن له العصيان وأعلمه أن سيف الدولة بميافارقين قد عجز عن العود إلى الشام ، فعصى واستولى على أنطاكية وسار إلى حلب ، وجرى بينه وبين النائب عن سيف الدولة وهو قرعويه حروب كثيرة ، صعد قرعويه إلى قلعة حلب فتحصن بها ، وأنفذ سيف الدولة عسكرا مع خادمه بشارة نجدة لقرعويه ، فلما علم بهم رشيق انهزم عن حلب فسقط عن فرسه ، فنزل إليه إنسان عربي فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى قرعويه وبشارة ، ووصل ابن الأهوازي إلى أنطاكية فأظهر إنسانا من الديلم اسمه وزير وسماه الأمير ، وتقوّى بإنسان علوي ليقيم له الدعوة وتسمى هو بالأستاذ ، فظلم الناس وجمع الأموال ، وقصد قرعويه إلى أنطاكية وجرت بينهما وقعة عظيمة فكانت على ابن الأهوازي أولا ثم عادت على قرعويه ، فانهزم وعاد إلى حلب. ثم إن سيف الدولة عاد من ميافارقين عند فراغه من الغزاة إلى حلب ، فأقام بها ليلة وخرج من الغد فواقع وزير وابن الأهوازي فقاتل من بها فانهزموا ، وأسر وزير وابن الأهوازي فقتل وزير وسجن ابن الأهوازي مدة ثم قتله.

سنة ٣٥٥

قال ابن مسكويه في تجارب الأمم في حوادث سنة ٣٥٥ : وفي هذه السنة تم الفداء بين سيف الدولة والروم ، وتسلم سيف الدولة أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبي حصين اه.

وفي هامشه نقلا عن تاريخ الإسلام : وفي هذه السنة قدم أبو الفوارس محمد بن ناصر الدولة من الأسر إلى ميافارقين ، أخذته أخت الملك لتفادي به أخاها ، فجاء ستة آلاف فنفذ سيف الدولة أخاها في ثلاثمائة إلى حسن الهتاخ ، فلما شاهد بعضهم ببعض سرح المسلمون أسيرهم في خمسة فوارس وسرح الروم أسيرهم أبا الفوارس في خمسة ، فالتقيا في وسط الطريق وتعانقا ، ثم صار كل واحد إلى أصحابه فترجلوا وقبلوا له الأرض ، ثم احتفل سيف الدولة لابن أخيه وحمل له الخيل والمماليك والعدد التامة ، فمن ذلك مائة مملوك بمناطقهم وسيوفهم وخيولهم ، وطال مقام سيف الدولة بميافارقين فأنفق في سنة وثلاثة أشهر نيفا وعشرين ألف ألف درهم ومائتين وستين ألف دينار ، وتم الفداء في رجب فخلص من الأسرى من أمير إلى راجل ثلاثة آلاف ومائتان وسبعون نفسا ، وتقدر أمر أربعة أعوام ،

٢٤٦

وأرسل أبا القاسم الحسين بن علي المغربي لتقدير ذلك ومعه هدية بعشرة آلاف دينار منها ثلاثمائة مثقال مسك ، وأنفق سيف الدولة على الفداء ثلاثمائة ألف دينار.

ذكر نزول الروم على أنطاكية وما كان بينهم وبين

سيف الدولة

وقال أيضا : وفيها سار طاغية الروم بجيوشه إلى الشام ، فعاث وأفسد وأقام به نحو خمسين يوما ، فبعث سيف الدولة يستنجد أخاه ناصر الدولة يقول : إن نقفور قد عسكر بالدرب ومنع رسولنا ابن المغربي أن يكتب بشيء ، فقال لا أجيب سيف الدولة إلا من أنطاكية ليذهب من الشام فإنه لنا ويمضي إلى بلده ويهادن عنه ، وإن أهل أنطاكية راسلوا نقفور وبذلوا له الطاعة وأن يحملوا إليه مالا ، وإنه التمس منهم يد يحيى بن زكريا عليهما‌السلام والكرسي وأن يدخل بيعة أنطاكية ليصلي فيها ويسير إلى بيت المقدس ، وكان الذي جر خروجه وأحنقه إحراق بيعة المقدس في هذا العام ، وكان البترك كتب إلى كافور صاحب مصر يشكو قصور يده عن استيفاء حقوق البيعة ، فكاتب متولي القدس بالشد على يده فجاءه من الناس ما لم يطق دفعه ، فقتلوا البترك وحرقوا البيعة وأخذوا زينتها ، فراسل كافور طاغية الروم بأن يرد البيعة إلى أفضل ما كانت ، فقال : بل أنا أبنيها بالسيف. وأما ناصر الدولة فكتب إلى أخيه إن أحب سيره إليه سار وإن أحب حفظه ديار بكر سار إليها ، وبث سراياه وأصعد سيف الدولة والناس إلى قلعة حلب وشحنها ، وانجفل الناس وعظم الخطب وأخليت نصيبين ، ثم نزل عظيم الروم بجيوشه على منبج وأحرق الربض ، وخرج إليه أهلها فأقرهم ولم يؤذهم ، ثم سار إلى وادي بطنان وسار سيف الدولة متأخرا إلى قنسرين ، ورجاله والأعراب قد ضيقوا الخناق على الروم فلا يتركون لهم علوفة تخرج إلا أوقعوا بها. وأخذت الروم أربع ضياع بما حوت ، فراسل سيف الدولة ملك الروم وبذل له مالا يعطيه إياه في ثلاثة أقساط ، فقال : لا أجيبه إلا أن يعطيني نصف الشام ، فإن طريقي إلى ناحية الموصل على الشام ، فقال سيف الدولة : لا أعطيه ولا حجرا واحدا.

٢٤٧

ثم جالت الروم بأعمال حلب وتأخر سيف الدولة إلى ناحية شيزر وأنكى العربان في الروم غير مرة وكسبوا مالا يوصف ، ونزل عظيم الروم على أنطاكية فحاصرها ثمانية أيام ليلا ونهارا ، وبذل الأمان لأهلها فأبوا فقال : أنتم كاتبتموني ووعدتموني بالطاعة ، فأجابوا : إنما كاتبنا الملك حيث كان سيف الدولة بأرمينية بعيدا عنا وظننا أنه لا حاجة له في البلد وكان السيف بين أظهرنا ، فلما عاد سيف الدولة لم يوبه على ضبط أدياننا وبلدنا شيئا. فناجزهم الحرب من جوانبها فحاربوه أشد حرب ، وكان عسكره معوزا من العلوفة ، ثم بعث نائب أنطاكية محمد بن موسى إلى قرعويه متولي نيابة حلب بتفاصيل الأمور وبثبات الناس على القتال. وأنا ليلي ونهاري في الحرب لا أستقر ساعة وإن اللعين قد ترحل عنا ونزل الجسر.

وفيها أوقع تقي السيفي بسرية الروم فاصطلموها ، ثم خرج الطاغية من الدروب وذهب ، ثم جاء الخبر بأن نائب أنطاكية محمد بن موسى الصلحي أخذ الأموال التي في خزائن أنطاكية معدة وخرج بها كأنه متوجه إلى سيف الدولة ، فدخل بلد الروم مرتدّا فقيل إنه كان عزم على تسليم أنطاكية للملك فلم يمكنه لاجتماع أهل البلد على ضبطه ، فخشي أن ينم خبره إلى سيف الدولة فهرب بالأموال. اه.

ذكر خراب قنسرين في هذه السنة

قال ياقوت في معجم البلدان : كانت قنسرين مدينة بينها وبين حلب مرحلة من جهة حمص بقرب العواصم ، وبعض يدخل قنسرين في العواصم ، وما زالت عامرة آهلة إلى أن كانت سنة ٣٥١ وغلبت الروم على مدينة حلب وقتلت جميع ما كان بربضها ، فخاف أهل قنسرين وتفرقوا في البلاد ، فطائفة عبرت الفرات وطائفة نقلها سيف الدولة بن حمدان إلى حلب كثر بهم من بقي من أهلها ، فليس بها اليوم سنة [٦٢٤] إلا خان ينزله القوافل وعشار السلطان وفريضة صغيرة.

وقال بعضهم : كان خراب قنسرين في سنة ٣٥٥ قبل موت سيف الدولة بأشهر ، كان قد خرج إليها ملك الروم وعجز سيف الدولة عن لقائه ، فأمال عنه فجاء إلى قنسرين وخربها وأحرق مساجدها ، ولم تعمر بعد ذلك.

٢٤٨

قال ابن الأثير : وفيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم وتسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان.

سنة ٣٥٦

قال ابن الأثير : فيها في صفر مات سيف الدولة بن حمدان.

ترجمة سيف الدولة بن حمدان :

قال ابن خلكان : سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان. قال أبو منصور الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر : كان بنو حمدان ملوكا أوجههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة ، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم ، مقصد الوفود ومطلع الجود وقبلة الآمال ومحط الرجال وموسم الأدباء وحلبة الشعراء ، ويقال إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها ، وكان أديبا شاعرا محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز له ، وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدايح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.

ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح وقد أبدع فيه كل الإبداع ، وقيل إن هذه الأبيات لأبي صقر القبيصي ، والأول ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر :

و ساق صبوح للصبوح دعوته

فقام وفي أجفانه سنة الغمض

يطوف بكاسات العقار كأنجم

فمن بين منقض علينا ومنفض

و قد نشرت أيدي الجنوب مطارفا

على الجوّ دكنا والحواشي على الأرض

يطرزها قوس السحاب بأصفر

على أحمر في أخضر تحت مبيض

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبغة والبعض أقصر من بعض

وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقة. وكانت لسيف الدولة جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال فحسدها بقية الحظايا لقربها منه ومحلها من

٢٤٩

قلبه ، وعز من عليّ إيقاع مكروه بها من هم أو غيره فبلغه الخبر وخاف عليها ، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطا وقال :

راقبتني العيون فيك فأشفقت

و لم أخل قط من إشفاق

و رأيت العدو يحسدني فيك

مجدّا بأنفس الأعلاق

فتمنيت أن تكوني بعيدا

و الذي بيننا من الود باق

رب هجر يكون من خوف هجر

و فراق يكون خوف فراق

ورأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري ، والله أعلم لمن هي منهما ، ومن شعره أيضا :

أقبّله على جزع

كشرب الطائر الفزع

رأى ماء فأطمعه

و خاف عواقب الطمع

و صادف خلسة فدنا

و لم يلتذ بالجرع

ويحكى أن ابن عمه أبا فراس كان يوما بين يديه في نفر من ندمائه ، فقال لهم سيف الدولة : أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي يعني أبا فراس :

لك جسمي تعلّه

فدمي لم تحلّه

( في نسخة أخرى لك قلبي تحله ولعله الأحسن )

فارتجل أبو فراس وقال :

قال إن كنت مالكا

فلي الأمر كله

فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروفة تغل ألفي دينار في كل سنة.

ومن شعر سيف الدولة قوله :

تجنى عليّ الذنب والذنب ذنبه

و عاتبني ظلما وفي شقه العتب

إذا أبرم المولى بخدمة عبده

تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب

و أعرض لما صار قلبي بكفه

فهلا جفاني حين كان لي القلب

٢٥٠

ويحكى أن سيف الدولة كان يوما بمجلسه والشعراء ينشدونه ، فتقدم أعرابي رث الهيئة وأنشد وهو حينئذ بمدينة حلب :

أنت عليّ وهذه حلب

قد نفد الزاد وانتهى الطلب

بهذه تفخر البلاد وبالأمير

تزهى على الورى العرب

و عبدك الدهر قد أضر بنا

إليك من جور عبدك الهرب

فقال سيف الدولة : أحسنت والله ، وأمر له بمائتي دينار.

وقال أبو القاسم عثمان بن محمد العراقي قاضي عين زربة : حضرت مجلس الأمير سيف الدولة بحلب وقد وافاه القاضي أبو النصر محمد بن محمد النيسابوري ، فطرح من كمه كيسا فارغا ودرجا فيه شعر استأذنه في إنشاده ، فأذن له فأنشد قصيدة أولها :

حباؤك معناه وأمرك نافذ

و عبدك محتاج إلى ألف درهم

فلما فرغ من إنشاده ضحك سيف الدولة ضحكا شديدا وأمر له بألف دينار فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه.

وكان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم المعروفان بالخالديين الشاعرين المشهورين وأبو بكر أكبرهما قد وصلا إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه ، فأنزلهما وقام بواجب حقهما ، وبعث لهما مرة وصيفا ووصيفة ومع كل واحد منهما بدرة وتخت ثياب من عمل مصر ، فقال أحدهما من قصيدة طويلة :

لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا

إلا ومالك في النوال حبيس

خولتنا شمسا وبدرا أشرقت

بهما لدينا الظلمة الحنديس

رشأ أتانا وهو حسنا يوسف

و غزالة هي بهجة بلقيس

هذا ولم تقنع بذاك وهذه

حتى بعثت المال وهو نفيس

أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة

و أتى على ظهر الوصيف الكيس

و حبوتنا مما أجادت حوكه

مصر وزادت حسنه تنيس

فغدا لنا من جودك المأكول

و المشروب والمنكوح والملبوس

٢٥١

فقال له سيف الدولة : أحسنت إلا في لفظة المنكوح فليست مما يخاطب الملوك بها.

وأخبار سيف الدول كثيرة مع الشعراء خصوصا المتنبي والسري الرفاء والنامي والببغاء والوأواء وتلك الطبقة.

وكانت ولادته في ذي الحجة سنة ثلاث وثلثمائة ، وقيل سنة إحدى وثلثمائة ، وتوفي يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلثمائة بحلب ، ونقل إلى ميافارقين ودفن في تربة أمه وهي داخل البلد ، وكان مرضه عسر البول ، وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا وعمله لبنة بقدر الكف وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده ، فنفذت وصيته بذلك.

وملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الأخشيد.

ورأيت في تاريخ حلب أن أول من ولي حلب من بني حمدان الحسين بن سعيد وهو أخو أبي فراس بن حمدان وأنه تسلمها في رجب سنة اثنين وثلاثين وثلثمائة ، وكان شجاعا موصوفا ، وفيه يقول ابن المنجم :

و إذا رأوه مقبلا قالوا ألا

إن المنايا تحت راية ذاكا

وتوفي الحسن بن حمدان بالموصل ودفن بالمسجد الذي بناه بالدير الأعلى.

ثم قال : وكان سيف الدول قبل ذلك مالك واسط وتلك النواحي ، وتقلبت به الأحوال وانتقل إلى الشام وملك دمشق أيضا وكثيرا من بلاد الشام والجزيرة ، وغزواته مع الروم مشهورة ، وللمتنبىء في أكثر الوقائع قصائد رحمه‌الله تعالى. اه.

وقال الملا في مختصر الذهبي ومن خطه نقلت : ذكر ابن النجار أن سيف الدولة حضره عيد النحر ففرق على أرباب دولته ضحايا ، وكانوا ألوفا ، فأكثر من ناله منهم مائة رأس وأقلهم شاة ، قال : ولزمه في فك الأسرى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ستمائة ألف دينار. وكان سيف الدولة شيعيا متظاهرا مفضلا على الشيعة والعلويين. وقال القرماني في

٢٥٢

تاريخه : كان بنو حمدان شيعة ، لكن كان تشيعهم خفيفا ، ولم يكونوا كبني بويه ، فإن بني بويه كانوا في غاية القباحة سبابين (١).

قال في المختار من الكواكب المضية : قال المهلبي : إن مذهب أهل حلب كان مذهب أهل السنة والجماعة ، ولم يكن بها رافضي إلى أن هجمها الروم في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وقتلوا معظم أهلها ، فنقل إليها سيف الدولة بن حمدان جماعة من الشيعة مثل الشريف إبراهيم العلوي وغيره ، وكان سيف الدولة يتشيع فغلب على أهلها التشيع لذلك [ الناس على دين ملوكهم ]. وعنه قال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام : كان بجامع حلب خزانة الكتب ، وكان فيها عشرة آلاف مجلدة من وقف سيف الدولة بن حمدان (٢) وغيره ، فلما صلب ثابت بن أسلم أبو الحسن الحلبي أحد علماء الشيعة بمصر أحرقت الكتب ، وكان صلبه قريبا من سنة ستين وأربعمائة ، وقد ولي خزانة الكتب ، فقال من بحلب من الإسماعيلية : هذا يفسد الدعوة ، وقد كان صنف كتابا في كشف عوارهم وابتداء دعوتهم ، فحمل إلى صاحب مصر فأمر بصلبه.

وفي الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة قال يحيى بن أبي طي في تاريخه في حوادث سنة ٣٥١ : في هذه السنة ظهر مشهد الدكة ، وكان سبب ظهوره أن سيف الدولة علي بن حمدان كان في أحد مناظره بداره التي بظاهر المدينة ، فرأى نورا ينزل على المكان الذي فيه المشهد عدة مرار ، فلما أصبح ركب بنفسه إلى ذلك المكان وحفره فوجد حجرا عليه كتابة [ هذا المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ] رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فبنى عليه هذا المشهد. قال : وقال بعضهم إن سبي نساء الحسين لما وردوا هذا المكان طرح بعض نسائه هذا الولد ، فإنا نروي عن آبائنا أن هذا المكان يسمى بالجوشن ، لأن شمر بن ذي الجوشن عليه اللعنة نزل عليه بالسبي والروس ، وأنه كان معدنا يعمل منه الصفر وأن أهل المعدن فرحوا بالسبي ، فدعت عليهم زينب بنت الحسين ففسد المعدن من يومئذ.!

__________________

(١) بنو بويه كانوا ملوكا في بغداد متغلبين على الخلفاء.

(٢) قال أحمد باشا تيمور المصري في مقالة له منشورة في مجلة الهلال ( سنة ٢٨ جزء ٤ صفحة ٣٢ ) ذكر فيها نوادر المخطوطات : في المكتبة السلطانية بالقاهرة نسخة شمسية من هيئة أشكال الأرض في طولها والعرض بالمصورات مما ألف لسيف الدولة بن حمدان وهي منقولة من خزانة طوب قبو بالأستانة. اه.

٢٥٣

وقال بعضهم : إن هذه الكتابة التي على الحجر قديمة وأثر هذا المكان قديم وان هذا الطرح الذي زعموا لم يفسد وبقاؤه دليل على أنه ابن الحسين ، فشاع بين الناس هذه المفاوضة التي جرت وخرجوا إلى هذا المكان وأرادوا عمارته ، فقال سيف الدولة : هذا موضع قد أذن الله لي في عمارته على اسم أهل البيت.

قال يحيى بن أبي طي : ولحقت هذا المشهد وهو باب صغير من حجر أسود عليه قنطرة مكتوب عليها بخط أهل الكوفة كتابة عريضة :

[ عمر هذا المشهد المبارك ابتغاء لوجه الله وقربته إليه على اسم مولانا المحسن بن الحسين بن علي أبي طالب [ رضي‌الله‌عنهم ] الأمير الأجل سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ] وذكر التاريخ المتقدم أي سنة ٣٥١.

وقال المقريزي في الجزء الثالث من الخطط : أول من قال في الأذان بالليل محمد وعلي خير البشر الحسين المعروف بأمير كابن شكنب ويقال اشكنبه ، وهو اسم أعجمي معناه الكرش ، وهو علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم ، قاله الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة ، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه حي على خير العمل ومحمد وعلي خير البشر إلى أيام نور الدين محمود ، فإنه لما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية استدعى أبا الحسن علي بن الحسن بن محمد البلخي الحنفي إليها ، فجاء ومعه جماعة من الفقهاء وألقى بها الدروس ، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان لهم وقال لهم : مروهم يؤذنوا الأذان المشروع ومن امتنع كبوه على رأسه ، فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به ، واستمر الأمر على ذلك ( وسيأتي في الكلام على ولاية الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد ما كان من أمر الشيعة في ولايته ].

وفي تاريخ أبي الفدا في حوادث سنة ٣٥٦ قال : فيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين الكاتب الأصفهاني الأموي صاحب كتاب الأغاني ، كان على أمويته شيعيا ، قيل إنه جمع كتاب الأغاني في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه.

٢٥٤

وقال الثعالبي في يتيمة الدهر : حكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغا أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل وعليها اسمه وصورته ، فأمر يوما لأبي الفرج منها بعشرة دنانير فقال ارتجالا :

نحن بجود الأمير في حرم

نرتع بين السعود والنعم

أبدع من هذا الدنانير لم يجر

قديما في خاطر الكرم

فقد غدت باسمه وصورته

في دهرنا عوذة من العدم

وقال فيها أيضا : استنشد سيف الدولة يوما أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

و تأتي على قدر الكرام المكارم

وكان معجبا بها كثير الاستعادة لها ، فاندفع أبو الطيب ينشدها ، فلما بلغ قوله فيها :

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

و وجهك وضاح وثغرك باسم

قال : قد انتقدنا عليك هذين البيتين كما انتقد على امرىء القيس بيتاه :

كأني لم أركب جوادا للذة

و لم أتبطن كاعبا ذات خلخال

و لم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل

لخيلي كري كرة بعد إجفال

وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما ليس يلتئم شطر هذين البيتين ، كان ينبغي لامرىء القيس أن يقول :

كأني لم أركب جوادا ولم أقل

لخيلي كري كرة بعد إجفال

و لم أسبأ الزق الرويّ للذة

و لم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولك أن تقول :

وقفت وما في الموت شك لواقف

و وجهك وضاح وثغرك باسم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

كأنك في جفن الردى وهو نائم

٢٥٥

فقال : أيد الله مولانا ، إن صح أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا كان أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك ، لأن البزاز لا يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفاريقه ، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية ، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازل الأعداء ، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه ، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت : ووجهك وضاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها ، فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينار.

وقال الثعالبي أيضا : أنشدت لسيف الدولة في وصف نار الكانون :

كأنما النار والرماد معا

وضوؤها في ظلامه يحجب

و جنة عذراء مسها خجل

فاستترت تحت عنبر أشهب

وأنشدني أبو الحسن أحمد بن فارس قال : أنشدني شاعر يعرف بالمتيم لسيف الدولة :

قد جرى في دمعه دمه

فإلى كم أنت تظلمه

رد عنه الطرف منك فقد

جرحته منه أسهمه

كيف يسطيع التجلد من

خطرات الوهم تؤلمه

وأنشدني غير واحد له في أخيه ناصر الدولة أبي محمد :

رضيت لك العليا وقد كنت أهلها

و قلت لهم بيني وبين أخي فرق

و لم يك بي عنها نكول وإنما

تجافيت عن حقي فتم لك الحق

و لا بد لي من أن أكون مصليا

إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق

وهذا البيت عند ابن الأثير هكذا : أما كنت ترضى أن أكون إلخ.

وقال في المختار من الكواكب المضية : إن ناصر الدولة أكبر سنا من سيف الدولة

٢٥٦

وأقدم منزلة عند الخلفاء ، وكان سيف الدولة كثير التأديب معه ، وجرت بينهما يوما وحشة فكتب إليه سيف الدولة :

لست أجفو وإن جفوت ولا

أترك حقا على كل حال *

إنما أنت والد والأب الجافي

يجازي بالصبر والإحتمال

وقال الحسن بن خالويه النحوي : دخلت يوما على سيف الدولة ، فلما مثلت بين يديه قال لي : اقعد ولم يقل اجلس ، فعلمت بذلك معرفته بعلم الأدب ، وذلك أن المختار أن يقول للقائم اقعد وللنائم أو الساجد اجلس. لأن القعود الانتقال من علو إلى أسفل ، ولذلك يقال لمن أصيب برجله مقعد ، والجلوس الانتقال من سفر إلى علو ولذلك قيل اسجد.

وذكر ابن عشائر قال : كان سيف الدولة إذا أكل الطعام وقف على مائدته أربعة وعشرون طبيبا ، وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين ، ومنهم من يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم.

وقال الذهبي : توفي سيف الدولة وتولى أمره القاضي أبو الهيثم بن أبي حصين وغسله عبد الرحمن بن سهل المالكي قاضي الكوفة ، وغسله بالسدر ثم بالصندل ثم بالدريرة ثم بالصبر والكافور ثم بماء الورد ثم بالماء ، ونشف بثوب دبيقي يساوي نيفا وخمسين دينارا أخذه الغاسل وجميع ما عليه وصبره بصبر ومر وكافور ، وجعل على وجهه أبخرة مائة مثقال غالية ، وكفن في سبعة أثواب تساوي ألف دينار ، وجعل في التابوت مضربة ومخدتان اه. وقد تقدم أنه حمل إلى ميافارقين ودفن فيها رحمه‌الله تعالى.

وفي هامش تاريخ ابن مسكويه في حوادث سنة ٣٥٦ نقلا عن صاحب التكملة ما نصه : حكي أن سيف الدولة لما ورد إلى بغداد وقت تورون اجتاز وهو راكب فرسه وبيده رمحه وبين يديه عبد صغير له ، وقصد الفرجة وأن لا يعرف ، فاجتاز بشارع دار الرقيق على دور بني خاقان وفيها فتيان ، فدخل وسمع وشرب معهم وهم لا يعرفونه وخدموه ، ثم استدعى عند خروجه الدواة فكتب رقعة وتركها فيها ، ثم انصرف ، ففتحوا الدواة فإذا في

__________________

( * ) ـ هكذا في الأصل ، ولعل الصواب :

لست أجفو وإن جفوت ولا أترك حقا علي في كل حال

٢٥٧

الرقعة [ ألف دينار ] على بعض الصيارف ، فتعجبوا وحملوا الرقعة وهم يظنونها ساذجة ، فأعطاهم الصيرفي الدنانير في الحال والوقت ، فسألوه عن الرجل فقال : ذاك سيف الدولة ابن حمدان اه.

وفي كتاب الكنايات للجرجاني [ في صحيفة ٥٤ ] : سمعت الطبري يقول : كنت يوما بين يدي سيف الدولة بحلب فدخل عليه ابن عم له فاستبطأه الأمير وقال له : أين كنت اليوم وبم اشتغلت ؟ فقال له : أيّد الله مولانا ، حلقت رأسي وأصلحت شعري وقلّمت أظفاري ، فقال له : لو قلت أخذت من أطرافي كان أوجز وأبلغ اه.

وفي ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي : أن سيف الدولة بن حمدان انصرف من حرب وقد نصر على عدوه فدخل عليه الشعراء فأنشدوه ، فدخل معهم رجل شامي فأنشده :

و كانوا كفأر وسوسوا خلف حائط

و كنت كسنور عليهم تسقفا

فأمر بإخراجه ، فقام على الباب يبكي ، فأخبر سيف الدولة ببكائه فرق له وأمر برده وقال له : مالك تبكي قال : قصدت مولانا بكل ما أقدر عليه أطلب منه بعض ما يقدر عليه ، فلما خاب أملي بكيت ، فقال له سيف الدولة : ويلك فمن يكون له مثل هذا النثر يكون له ذلك النظم ، وكم كنت أملت ؟ قال : خمسمائة درهم ، فأمر له بألف درهم فأخذها وانصرف. اه.

دولة الأدب في حلب

على عهد سيف الدولة بن حمدان

تحت هذا العنوان ألقى في حلب الأديب الفاضل محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق محاضرة في نادي الشهباء ، وذلك في رجب سنة ١٣٤١ الموافق شهر شباط سنة ١٩٢٣ ونشرت في جريدة سورية الشمالية التي تصدر في حلب اقتطفنا منها ما لا ذكر له عندنا مما له علاقة في تاريخ الشهباء تتمة للفائدة ، قال في مطلعها :

٢٥٨

لكل قرن من قرون العز في العرب نابغة أو نوابغ من الملوك والأمراء ، ومثلهم من العلماء والأدباء ، وقد امتاز القرن الرابع في الشام ـ وإذا قلنا الشام عنينا هذا القطر المحبوب الممتدّ من العريش إلى الفرات ومن جبال طورس إلى البادية على نحو ما كان يعرفه العرب ـ بقيام بني حمدان فيه ، ورئيسهم سيف الدولة بن حمدان استولى على القسم الشمالي منه ، والدولة العباسية قد أخذت تتناوشها ملوك الأطراف وأمراؤها في العراق ومصر والشام والجزيرة ، وأخذت دولة الخلافة بالضعف بصنع بعض الخوارج ، ومنهم من كان ينازعها السلطة علنا ، ومنهم من كان يشاركها فيها ويخضع لها في الصورة الظاهرة ، وبنو حمدان كانوا من هذا النوع الأخير.

أصل بني حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية ، وهم بنو حمدان بن حمدان كانوا ملوك الموصل والجزيرة وحلب في أيام المقتفي بالله * العباسي ، وأول من ملك منهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ثم أخوه إبراهيم بن حمدان ثم أخوه سعيد ونصر أبناء حمدان ، ثم استولى على الشام وحلب معين الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان.

رسخت بسيف الدولة أقدام بني حمدان في هذه الديار ، واتخذ حلب عاصمته ، وكانت مملكته عبارة عن جند حمص وجند قنسرين والثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار بكر ، ولما تم له الأمر مثل في بلاده الصورة التي كان يريد أن يمثلها في دمشق وأبى أهلها عليه تمثيلها ، فأخذ يستصفي الأملاك ويصادر الأموال ويبني الدور والقصور ويظهر من الأبهة ما كاد يعجز عنه الخوالف من العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والفاطميين في مصر.

لم تكن الجباية في تلك القرون حالة مستقرة ، فما ورد عن التاريخ وأصحابه من قوانينها العادلة السهلة التطبيق كان يجري العمل به في البلاد كلها ، وكانت صورة التنفيذ تختلف باختلاف نزاهة السلطان وعفته عن أموال الناس ، وسيف الدولة كان على الأرجح من القائلين بأن الغاية تبرر الواسطة.

__________________

( * ) ـ الصواب : المتقي لله.

٢٥٩

كان رحمه‌الله على ما أجمع عليه الثقاة مثل ابن حوقل معاصره والأزدي وسبط بن الجوزي يجوّز أخذ ما في أيدي الناس ليستعين به على غزو الروم ، ويسرف بجانب كبير يفضل به على الشعراء والأدباء فيخرجه من أكياس الرعية وجيوبهم لينفقه في وجوه المبرات والعطايا ، ولذلك أسس في هذه المدينة الجميلة دولة في الأدب لم يقم مثلها في الشام منذ نحو عشرين قرنا إلى يومنا هذا.

ليس في العالم شر محض ولا خير محض ، ولكل عاقل في الأرض مزية كما أنه له ما يعدّ عليه من الهنات ، وسيف الدولة من هذا القبيل لم تكن أعماله إلى الخير المحض بمصادراته وإسرافه ، وكانت له مزيتان قل أن يكتبا لغيره ، وهما نهضة الآداب في هذه البلاد ودفع عادية الروم عنها ، ولولاه لعاد إليها سلطانهم بعد أن تقلص بالإسلام نيفا وثلاثة قرون. وهذا الإجمال كما ترون يحتاج إلى تفصيل.

كان هم سيف الدولة في سياسته الخارجية أن يضعف الروم في آسيا الصغرى ، فكان كثيرا ما يغزوهم ويفتح حصونهم ويسبي من أبنائهم ويخرب في زروعهم وقراهم ويستصفي أموالهم وعروضهم ، وقيل إنه غزاهم أربعين مرة كانت فيها بعض الغزوات له وبعضها عليه ، وكان همه في سياسته الداخلية تنجيد القصور وجمع الأموال والتجوز في أخذ الحلال والحرام منها وإظهار أبهة الملك والإفضال على الشعراء ، وكانت عصبيته من عرب الجزيرة مسقط رأسه ومنبعث دولته ومن عرب الشام مثل بني كلاب الذين أدناهم وأمن سربهم فقهروا العرب وعلت كلمتهم.

قال في مسالك الأبصار : وبنو كلاب هم عرب أطراف حلب والروم ، ولهم غزوات عظيمة معلومة وغارات لا تعد ولا تزال ( أي في القرن الثامن ) تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم ، ويتكلمون بالتركية ويركبون الأكاديش ، وهم عرب غزو ورجال حروب وأبطال جيوش ، وهم من أشد العرب بأسا وأكثرهم ناسا. وكانت له طرق غريبة في الرحمة ، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء ، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين ، فأخذ بالفداء ، ولما لم يبق من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارا حتى نفد ما معه من المال ، فاشترى الباقين

٢٦٠