إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

ذكر قتل ابن رائق وولاية ناصر الدولة بن حمدان

( إمرة الأمراء وابتداء أمر علي بن عبد الله بن حمدان وتلقيبه بسيف الدولة )

قال ابن الأثير : كان المتقي لله قد أنفذ إلى ناصر بن حمدان [ أمير الموصل ] يستمده على البريديين [ نسبة إلى عبد الله البريدي أحد العمال بالأهواز ثم صار وزيرا للخلفاء ثم خرج عليهم وقوي أمره ] فأرسل أخاه سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان نجدة له في جيش كثيف فلقي المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما ، فخدم سيف الدولة للمتقي خدمة عظيمة وسار معه إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقي وتوجه نحو معلثايا ، وترددت الرسل بينه وبين ابن رايق حتى تعاهدا واتفقا ، فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقي فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي وابن رايق يسلمان عليه ، فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقي ، فلما أرادوا الانصراف من عنده ركب ابن المتقي وأراد ابن رايق الركوب فقال له ناصر الدولة : تقيم اليوم عندي لنتحدث فيما نفعله ، فاعتذر ابن رايق بابن المتقي فألح عليه ابن حمدان فاستراب به وجذب كمه من يده فقطعه ، وأراد الركوب فشب به الفرس فصاح ابن حمدان بأصحابه : اقتلوه ، فقتلوه وألقوه في دجلة ، وأرسل ابن حمدان إلى المتقي يقول إنه علم أن ابن رايق أراد أن يغتاله ففعل به ما فعل فرد عليه المتقي ردا جميلا وأمره بالمسير إليه ، فسار ابن حمدان إلى المتقي لله فخلع عليه ولقبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وذلك مستهل شعبان فخلع على أخيه أبي الحسين عليّ ولقبه سيف الدولة ، وكان قتل ابن رايق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب.

ولاية مساور بن محمد سنة ٣٢٩

من طرف الأخشيد بمصر

قال ابن الأثير : لما قتل ابن رايق سار الأخشيد من مصر إلى دمشق وكان بها محمد ابن يزداذ خليفة ابن رايق ، فأستأمن إلى الأخشيد وسلم إليه دمشق فأقره عليها ثم نقلها إلى مصر وجعله على شرطتها ، ويقال إن لابن رايق شعرا منه :

٢٢١

يصفر وجهي إذا تأمله

طرفي ويحمر وجهه خجلا

حتى كأن الذي بوجنته

من دم قلبي إليه قد نقلا

وقيل إنهما للراضي بالله اه.

قال في زبدة الحلب : إن أبا بكر محمد بن طغج الأخشيد سير كافور الخادم من مصر معه وفي مقدمته أبو المظفر مساور بن محمد الرومي أحد قواد الأخشيد ، فوصل إلى حلب فالتقى كافور ومحمد بن يزداذ الوالي بحلب من قبل رايق فكسره كافور وأسره وأخذ منه حلب وولي بها مساور بن محمد الرومي وعاد كافور إلى مصر. اه.

قال في زبدة الحلب : وهذا أبو المظفر بن محمد الرومي مدحه المتنبي بقوله :

أمساور أم قرن شمس هذا

أم ليث غاب يقدم الأستاذا

يريد بالأستاذ كافور الخادم ، وذكر فيها كسرة بن يزداذ فقال :

هبك بن يزداذ حطمت وصحبه

أ ترى الورى أضحوا بني يزداذا

ومساور هو صاحب الدار المعروفة بدار ابن الرومي بالزجاجين بحلب ، وتعرف أيضا بدار ابن مستفاذ وهي شرقي المدرسة العمادية التي جددها سليمان بن عبد الجبار بن رايق بحلب وهي المنسوبة إلى بني العجمي ، وأظن أن قاضي حلب في هذا التاريخ كان أبا طاهر محمد بن سفيان الدباس أو قبل هذا التاريخ.

ولاية أحمد بن علي بن مقاتل سنة ٣٣٠

على ديار مضر من طرف ابن رايق

ثم ولاية أبي الحسن علي بن طياب من طرف ناصر الدولة بن حمدان

وولاية يانس المونسي حلب في هذه السنة

قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : فيها تجهز ناصر الدولة بن حمدان من الموصل وانحدر هو والمتقي واستعمل على أعمال الخراج والضياع بديار مضر وحران والرقة أبا الحسن علي بن طياب وسيره من الموصل ، وكان على ديار مضر أبو الحسين أحمد بن علي

٢٢٢

بن مقاتل خليفة لابن رايق ، فاقتتلوا فقتل أبو الحسين بن مقاتل واستولى ابن طياب عليها. وذكر في زبدة الحلب هذه الوقعة بأبسط من هذا فقال : كان أحمد بن علي مقاتل بحلب ( لعله يقصد بديار حلب ) من جهة أبي بكر بن رائق ومعه ابنه مزاحم بن محمد بن رائق فقلد ناصر الدولة علي بن خلف ( في ابن الأثير طياب ) ديار مضر والشام وأنفذ معه عسكرا وكاتب يونس المونسي أن يعاضده ، وكان يلي ديار مضر ( في ابن الأثير يلي الرقة ) من قبل ناصر الدولة ، فسار إلى جسر منبج وسار أحمد بن مقاتل ومزاحم إلى منبج فالتقوا على شاطىء الفرات ، وسير يانس كاتبه ونذيرا غلامه برسالة إلى ابن مقاتل فاعتقلهما ووقعت الحرب بين الفئتين ، ولحق يانس جراحا كادت تتلفه فعدل به إلى قلعة نجم ليشدد ويداوى ، ونظر نذير غلامه وهو معتقل في عسكر ابن مقاتل على بغل إلى شاكري ليانس معه جنيبة من خيله فأخذ الشاكري وركب الجنيبة وصار إلى ابن مقاتل فقتله وانهزم عسكره ، وأفاق يانس المونسي فسار وعلي بن خلف متوجهين إلى حلب ، وتلاوم قواد ابن مقاتل على هزيمتهم فعادوا إلى القتال في وادي بطنان وانهزموا ثانية ، وملك علي بن خلف ويانس المونسي حلب في سنة ثلاثين وثلاثماية ، ثم إن علي بن خلف سار منها إلى الأخشيد محمد بن طغج فاستوزره وعلا أمره معه إلى أن رآه يوما وقد ركب في أكثر الجيش بالمطارق والزين ومحمد جالس في منتزه له فأمر بالقبض عليه ، فلم يزل محبوسا إلى أن مات محمد بن طغج فأطلق وبقي يانس المونسي واليا على حلب في سنة إحدى وثلاثين وثلاثماية ، وكان يانس هذا مولى مونس المظفر الخادم وتولى الموصل في أيام القاهر وكان يلي ديار مضر من قبل ناصر الدولة إلى أن كان من أمره ما ذكرناه فاستأمن إلى الأخشيد ودعا له على المنابر بعمله. اه.

قال ابن الأثير : فيها في ربيع الآخر وصل الروم إلى قريب حلب ونهبوا وخربوا البلاد وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان اه.

سنة ٣٣١

فداء الأسرى بمنديل المسيح عليه‌السلام

قال ابن الأثير : فيها أرسل ملك الروم إلى المتقي لله يطلب منديلا زعم أن المسيح مسح به وجهه فصارت صورة وجهه فيه وأنه في بيعة الرها ، وذكر أنه إن أرسل المنديل

٢٢٣

أطلق عددا كثيرا من أسارى المسلمين ، فاحضر المتقي لله القضاة والفقهاء واستفتاهم فبعض رأى تسليمه إلى الملك وإطلاق الأسرى وبعض قال إن هذا المنديل لم يزل من قديم الدهر في بلاد الإسلام لم يطلبه ملك من ملوك الروم وفي دفعه إليهم غضاضة ، وكان في الجماعة علي بن عيسى الوزير فقال : إن خلاص المسلمين من الأسر ومن الضر والضنك الذي هم فيه أولى من حفظ هذا المنديل ، فأمر الخليفة بتسليمه إليهم وإطلاق الأسرى ففعل ذلك وأرسل إلى الملك من يتسلم الأسرى من بلاد الروم فأطلقوا.

ولاية أبي بكر محمد بن علي بن مقاتل سنة ٣٣٢

وولاية أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان في هذه السنة

قال في زبدة الحلب : في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة اتفق ناصر الدولة بن حمدان وتورون [ أحد قواد بغداد ] على أن تكون من مدينة الموصل إلى آخر أعمال الشام لناصر الدولة وأعمال السن إلى البصرة لتورون وما يفتحه مما وراء ذلك ، وأن لا يتعرض أحد منهما لعمل الآخر. قال ابن الأثير : تم الصلح وعقد الضمان على ناصر الدولة لما بيده من البلاد ثلاث سنين كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم ، وعاد تورون إلى بغداد وأقام المتقي عند بني حمدان بالموصل ، ثم ساروا إلى الرقة فأقاموا بها. اه.

وقال ابن الأثير : فيها في ربيع الأول استعمل ناصر الدولة بن حمدان أبا بكر محمد ابن علي بن مقاتل على طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم وحمص وأنفذه إليها من الموصل ومعه جماعة من القواد ، ثم استعمل بعده في رجب من السنة ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك ، فلما وصل الرقة منعه أهلها فقاتلهم فظفر بهم وأحرق من البلد قطعة وأخذ رؤساء أهلها وسار إلى حلب. اه.

قال في زبدة الحلب : ووافق ناصر الدولة أبا محمد بن حمدان ( هكذا والصواب أبا بكر محمد بن مقاتل أو أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان ) على أن يؤدي إليه إذا دخل حلب خمسين ألف دينار ، فتوجه أبو بكر من الموصل ومعه جماعة من القواد فوقع بين الأمير سيف الدولة بن حمدان وبين ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن حمدان كلام

٢٢٤

بالموصل وأراد القبض عليه ، فقلد ناصر الدولة أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان أخا الأمير أبي فراس حلب وأعمالها وديار مضر والعواصم وكل ما يفتحه من بلاد الشام ، فتوجه في أول شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلاثماية ودخل الرقة بالسيف لأن أهلها حاربوه مع أميرها محمد بن حبيب البلزمي فأسره وسمله وأحرق قطعة من البلد وقبض على رؤساء أهلها وصادرهم ، وتوجه إلى حلب ومعه أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل وبحلب يانس المونسي وأحمد بن العباس الكلابي فهربا من بين يديه من حلب وتبعهما إلى معرة النعمان ثم إلى حمص ، وهرب أمير حمص إسحق بن كيغلغ بين هذه البلاد وملك هذه البلاد ودانت له العرب ، ثم عاد إلى حلب وأقام بها إلى أن وافى الأخشيد أبو بكر محمد بن طغج بن جف الفرغاني ، وقدمها الأخشيد في ذي الحجة من هذه السنة ، ولما دنا الأخشيد من حلب انصرف الحسين بن حمدان عنها لضعفه عن محاربته إلى الرقة ، وكان ابن مقاتل مع ابن حمدان بحلب ، فلما أحس بقرب الأخشيد منها وتعويل أحمد بن حمدان على الانصراف استتر في منارة المسجد الجامع إلى أن انصرف ابن حمدان ، ودخل الأخشيد فظهر له ابن مقاتل واستأمن إليه وقلده الأخشيد أعمال الخراج والضياع بمصر ، وأما الحسين بن سعيد فإنه لما وصل إلى الرقة وجد المتقي لله بها هاربا من تورون التركي وقد تغلب على بغداد وسيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان مع المتقي بالرقة وقد فارق أخاه ناصر الدولة لكلام جرى بينهما ، فلم يأذن المتقي لأبي عبد الله الحسن في دخوله الرقة وأغلقت أبوابها دونه ووقعت المباينة بينه وبين عمه سيف الدولة وسعى بينهما في الصلح فتم ، ومضى إلى حران ومنها إلى الموصل ، وقدم الأخشيد عند حصوله بحلب مقدمة إلى بالس وسار بعدها بعد أن سير المتقي أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحق الخرقي يسأل الأخشيد أن يسير إليه ليجتمع معه بالرقة ويجدد العهد به ويستعين به على نصرته ويقتبس من رأيه ، فلما وصل أبو الحسن إلى حلب تلقاه الأخشيد وأكرمه وأظهر السرور بقرب المتقي ، وأنفذ من وقته مالا مع أحمد بن سعيد الكلابي إلى المتقي وسار خلفه حتى نزل وبينه وبين المتقي الفرات ، فراسله المتقي بالخرقي وبوزيره أبي الحسين بن مقلة فعبر إليه يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ووقف بين يدي المتقي لله ، ثم ركب المتقي لله فمشى بين يديه وأمره أن يركب فلم يفعل ولم يدع أحدا من

٢٢٥

أصحاب المتقي وحواشيه وكتابه إلا بره ووصله واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى الشام ومصر فأبى ، فأشار عليه بالمقام مكانه وضمن له أن يمده بالأموال فلم يفعل ، وعاد إلى بغداد لأنه كان قد كاتبه تورون في الصلح وخدعه وقبض عليه وبايع المستكفي.

وكتب المتقي عهدا للأخشيد بالشام ومصر على أن الولاية له ولأبي القاسم أنوجور ابنه إلى ثلاثين سنة ، وكتب الأخشيد في هذه السفرة إلى عبده كافور الخادم إلى مصر وقال له : ومما يجب عليك أن تقف عليه أطال الله بقاءك أني لقيت أمير المؤمنين بشاطىء الفرات فأكرمني وحباني وقال كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله فرحا بأنه كناه ، والخليفة لا يكني أحدا ، وعاد الأخشيد من الرقة إلى حلب.

ولاية أبي الفتح عثمان بن سعيد بن العباس

ابن الوليد الكلابي سنة ٣٣٣ من طرف الأخشيد

قال في زبدة الحلب : ولما عاد الأخشيد من الرقة إلى حلب وسار إلى مصر ولى بحلب من قبله أبا الفتح عثمان بن سعيد بن العباس بن الوليد الكلابي وولى أخاه أنطاكية ، فحسد أبا الفتح أخوته الكلابيون وراسلوا سيف الدولة بن حمدان ليسلموا إليه حلب.

ترجمة أبي بكر محمد بن طغج الملقب بالأخشيد

المتوفى سنة ٣٣٤ :

كان ينبغي أن نذكر ترجمته عند انتهاء حوادثه في سنة وفاته ، غير أنا وجدنا أن ذلك يقطع سلسلة الكلام على تملك سيف الدولة لحلب فآثرنا ذكرها هنا.

قدمنا في ترجمة أبيه طغج بن جف أصل جف ومبدأ أمره وحبس المكتفي لطغج في بغداد وأنه حبس معه محمد بن طغج ، وتوفي طغج في الحبس وأطلق ولده وخلع عليه.

قال ابن خلكان : لما أطلق من الحبس هرب إلى الشام وأقام متغربا في البادية سنة ، ثم اتصل بأبي منصور تكين الجرزي [ أمير مصر من طرف الخليفة العباسي ] على الحجاج

٢٢٦

لقطع الطريق عليهم وذلك في سنة ست وثلاثمائة وهو يومئذ يتقلد عمان وجبل الشراة من قبل تكين وظفر بهم ونجا الحجاج وقد فرغ من أمرهم بأسر من أسره وقتل من قتله وشرد الباقين ، وكان قد حج في هذه السنة من دار الخليفة المقتدر بالله امرأة تعرف بعجوز ، فحدثت المقتدر بالله بما شاهدت منه فأنفذ إليه خلعا وزاد في رزقه ، ولم يزل أبو بكر في صحبة تكين إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة ، ثم فارقه بسبب اقتضى ذلك ، وسار إلى الرملة فوردت كتب المقتدر إليه بولاية الرملة فأقام بها إلى سنة ثمان عشرة ، فوردت كتب المقتدر إليه بولاية دمشق فسار إليها ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهر بالله ولاية مصر في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ودعا له بها مدة اثنين وثلاثين يوما ولم يدخلها. ثم أعيد إليها من جهة الخليفة الراضي بالله بن المقتدر وضم إليه البلاد الشامية والجزرية والحرمين وغير ذلك ، ودخل مصر يوم الأربعا لسبع بقين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

ثم إن الراضي لقبه بالأخشيد في شهر رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ، وإنما لقبه بذلك لأنه لقب ملوك فرغانة وهو من أولادهم كما سبق ذكره وتفسيره بالعربي ملك الملوك ، وكل من ملك تلك الناحية لقبوه بهذا اللقب ودعي للأخشيد على المنابر بهذا اللقب واشتهر به وصار كالعلم عليه ، وكان ملكا حازما كثير التيقظ في حروبه ومصالح دولته حسن التدبير مكرما للجند شديد القوى لا يكاد يجر قوسه غيره ، وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه الصغير الذي سماه عيون السير أن جيشه كان يحتوي على أربعة آلاف رجل وأنه كان جبانا (١) وكان له ثمانية آلاف مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان منهم ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر ثم لا يثق حتى يمضي إلى خيم الفراشين فينام بها ، ولم يزل على مملكة وسعادة إلى أن توفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين بدمشق ، وحمل تابوته إلى بيت المقدس فدفن به. وقال أبو الحسن الرازي : توفي في سنة خمس وثلاثين والله أعلم. وكانت ولادته منتصف شهر رجب سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد.

قال أبو الفدا في حوادث سنة ٣٣٤ : في هذه السنة مات الأخشيد بدمشق وكان قد سار من مصر إليها ، وهو محمد بن طغج صاحب مصر ودمشق وكان قبل مسيره عن مصر قد وجد بداره رقعة مكتوب عليها : قدرتم فأسأتم وملكتم فبخلتم ووسع عليكم فضقتم

٢٢٧

وأدرّت لكم الأرزاق فقنطتم أرزاق العباد واغتررتم بصفو أيامكم ولم تتفكروا في عواقبكم واشتغلتم بالشهوات واغتنام اللذات وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها وأكباد أجعتموها وأجساد أعريتموها ، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم ، أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل ما وصل إليها الجاهل ولو دامت لمن مضى ما نالها من بقي ، فكفى بصحبة ملك يكون في زوال ملكه قرح للعالم ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى منهم أحد ويبقى المنتظر ، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون وجوروا فإنا بالله مستجيرون وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنّا بالله واثقون وهو حسبنا ونعم الوكيل. فبقي الأخشيد بعد سماع هذه الرقعة في فكر وسافر إلى دمشق ومات وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم أنوجور وتفسيره محمود.

__________________

(١) مما يجدر ذكره هنا ما ذكره العكبري في شرحه على المتنبي لقوله : ( كل يريد رجاله لحياته. يا من يريد حياته لرجاله ). قال يريد أن الملوك سواك يطلبون عسكرهم وجنودهم ليدفعوا عنهم ويجمعونهم على أعدائهم ليسلموا وأنت تريد رجالك أن يبقوا ويسلموا وتدافع عنهم. وهذا غاية الكرم والشجاعة. وقد بنى البيت على حكاية تذكر عن سيف الدولة مع الأخشيد وذلك أنه جمع جيشا عظيما وأتى إليه ليتغلب فوجه إليه سيف الدولة يقول له : قد جمعت هذا الجيش وجئت إلى بلادي أبرز إليّ ولا تقتل الناس بيني وبينك فأينا غلب أخذ البلاد وملك أهلها ، فوجه إلى سيف الدولة يقول : ما رأيت أعجب منك إنما جمعت هذا الجيش العظيم لأقي به نفسي أ فتريد أن أبارزك إن هذا لجهل اه.

٢٢٨

دولة بني حمدان

استيلاء سيف الدولة على حلب سنة ٣٣٣

وذكر دولة بني حمدان من هذه السنة إلى سنة ٣٩٤

قال في زبدة الحلب : قد كان سيف الدولة طلب من أخيه ولاية ، فقال له أخوه ناصر الدولة : الشام أمامك وما فيه أحد يمنعك عنه ، وعرف سيف الدولة اختلاف الكلابيين وضعف أبي الفتح عن مقاومته ، فسار إلى حلب ، فلما وصل إلى الفرات خرج أخوة أبي الفتح عثمان بن سعيد بأجمعهم للقاء سيف الدولة ، فرأى أبو الفتح أنه مغلوب إن جلس عنهم وعلم حسدهم له ، فخرج معهم ، فلما قطع سيف الدولة الفرات أكرم أبا الفتح دون أخوته وأركبه معه في العمادية ، وجعل سيف الدولة يسأله عن كل قرية يجتاز بها ما اسمها فيقول أبو الفتح : هذه الفلانية ، حتى عبروا بقرية يقال لها أبرم وهي قرية قريبة من الغابا فقال له سيف الدولة : ما اسم هذه القرية ؟ فقال أبو الفتح : أبرم ، فظن سيف الدولة انه أبرمه بالسؤال فقال له : أبرم من الإبرام ، فسكت سيف الدولة عن سؤاله ، فلما عبروا بقرى كثيرة ولم يسأله عنها علم أبو الفتح بسكوت سيف الدولة فقال له أبو الفتح : يا سيدي يا سيف الدولة وحق رأسك إن القرية التي عبرناها اسمها أبرم ، واسأل عنها غيري ، فتعجب سيف الدولة من ذكائه ، فلما وصل إلى حلب أجلسه معه على السرير ، ودخل سيف الدولة حلب يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، وكان القاضي بها أحمد بن محمد بن ماثل ، فعزله وولى أبا حصين

٢٢٩

علي بن عبد الملك بن بدر بن الهيثم الرقي ، وكان ظالما ، فكان إذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة ويقول : كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك وعلى أبي حصين الدرك.

ثم إن الأخشيد سير عسكرا إلى حلب مع كافور ويانس المونسي ، وكان الأمير سيف الدولة غازيا بأرض الروم قد هتك بلد الصفصاف وعرنسوس فغنم ورجع ، فسار لحينه إلى الأخشيدية فلقيهم بالرستن ، فحمل سيف الدولة على كافور فانهزم وازدحم أصحابه في جسر الرستن ، فوقع منهم جماعة ، ورفع سيف الدولة السيف فأمر غلمانه أن لا يقتلوا أحدا منهم ، وقال : الدم لي والمال لكم ، فأسر منهم نحو أربعة آلاف من الأمراء من غيرهم واحتوى على جميع سواده ، ومضى كافور هاربا إلى حمص وسار إلى دمشق وكتب إلى الأخشيد يعلمه بهزيمته ، وأطلق سيف الدولة الأسارى جميعهم فمضوا وشكروا فعله ، ورحل سيف الدولة بعد هزيمتهم إلى دمشق ودخلها في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وأقام بها ، فكاتبه الأخشيد يلتمس منه الموادعة والاقتصاد على ما في يده ، فلم يفعل ، وخرج سيف الدولة إلى الأعراب ، فلما عاد منعه أهل دمشق من دخولها ، فبلغ الأخشيد ذلك فسار من الرملة وتوجه يطلب سيف الدولة ، فلما وصل طبرية عاد سيف الدولة إلى حلب بغير حرب لأن أكثر أصحابه وعسكره استأمنوا إلى الأخشيد ، فاتبعه الأخشيد إلى أن نزل معرة النعمان في جيش عظيم ، فخرج سيف الدولة ولقيه بأرض قنسرين في شوال سنة ثلاث وثلاثين ، وكان الأخشيد قد جعل مطارده وبوقاته في المقدمة ، وانتقى من عسكره نحو عشرة آلاف وسماهم الصابرية ، فوقف بهم في الساقة ، فحمل سيف الدولة على مقدمة الأخشيد فهزمها وقصد قبته وخيمه وهو يظنه في المقدمة ، فحمل الأخشيد ومعه الصابرية فاستخلص سواده ولم يقتل من العسكرين غير معاذ بن سعيد والي معرة النعمان من قبل الأخشيد ، فإنه حمل على سيف الدولة ليأسره فضربه سيف الدولة بمستوفى (١) كان معه فقتله ، وهرب سيف الدولة فلم يتبعه أحد من عسكر الأخشيد ، وسار على حاله إلى الجزيرة فدخل الرقة ، وقيل إنه أراد دخول حلب فمنعه أهلها ، ودخل الأخشيد حلب وأفسد أصحابه في جميع النواحي وقطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب وكانت عظيمة جدا ، وقيل إنها كانت من أكثر المدن شجرا ، وأشعار الصنوبري تدل على ذلك ، ونزل عسكر الأخشيد على الناس بحلب وبالغوا في أذى الناس لميلهم إلى سيف الدولة ،

__________________

(١) المستوفي هو عمود حديد طول ذراعين مربع الشكل له مقبض مدور في وسطه.

٢٣٠

وعاد الأخشيد إلى دمشق بعد أن ترددت الرسل بينه وبين سيف الدولة ، واستقر الأمر على أن أفرج الأخشيد له عن حلب وحمص وأنطاكية وقرر مالا عن دمشق يحمله إليه في كل سنة ، وتزوج سيف الدولة بابنة أخي الأخشيد عبد الله بن طغج ، وانتظم هذا الأمر على يد الحسن بن طاهر العلوي وسفارته في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، فسار الأخشيد إلى دمشق وعاد سيف الدولة إلى حلب ، وتوفي الأخشيد بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ، وقيل في المحرم من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ، وملك بعده ابنه أبو القاسم أنوجور ، واستولى على التدبير أبو المسك كافور الخادم. وكان سيف الدولة فيما ذكر قد عمل على تخلية الشام ، فلما مات الأخشيد سافر كافور بعسكر مولاه إلى مصر من دمشق ، وكان قد استولى على مصر رجل مغربي فحاربه كافور وظفر به وخلت دمشق من العساكر ، فطمع فيها سيف الدولة وسار إليها فملكها واستأمن إليه يانس المونسي في قطعة من الجيش ، وأقام سيف الدولة بدمشق وجبى خراجها ، ثم أتته والدته نعم أم سيف الدولة إلى دمشق ، وسار سيف الدولة إلى طبرية ، وكان سيف الدولة في بعض الأيام يساير الشريف العقيقي بدمشق في الغوطة بظاهر البلد فقال سيف الدولة للعقيقي : ما تصلح هذه الغوطة تكون إلا لرجل واحد ، فقال له الشريف العقيقي : هي لأقوام كثيرة وغالبها وقف [ الجملة الآخرة من تاريخ القرماني ] فقال سيف الدولة له : لئن أخذتها القوانين السلطانية ليتبر أن أهلها منها ، فأسرها الشريف في نفسه وأعلم أهل دمشق بذلك ، وجعل سيف الدولة يطالب أهل دمشق بودايع الأخشيد وأسبابه ، فكاتبوا كافورا فخرج في العساكر المصرية ومعه أنوجور بن الأخشيد ، فخرج سيف الدولة إلى اللجون وأقام أياما قريبا من عسكر الأخشيد بأكسال ، فتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع يطلب العلوفة ، فعلم به الأخشيدية فزحفوا إليه ، وركب سيف الدولة يتشرف فرآهم زاحفين في تعبئة ، فعاد إلى عسكره فأخرجهم ، فنشبت الحرب فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك ، وانهزم سيف الدولة إلى دمشق ، فأخذ والدته ومن كان بها من أهله وأسبابه وسار من حيث لم يعرف أهل دمشق بالوقعة ، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة خمس وثلاثين ، وجاء سيف الدولة إلى حمص وجمع جمعا لم يجتمع له قط مثله من بني عقيل وبني نمير وبني كلاب ، وخرج من حمص وخرجت عساكر بني طغج من دمشق فالتقوا بمرج عذرا [ قريبة بغوطة دمشق ] وكانت الوقعة أولا لسيف الدولة ثم آخرها عليه ، فانهزم وملكوا

٢٣١

سواده وتقطع أصحابه في ذلك البلد فهلكوا وتبعوه إلى حلب ، فعبر إلى الرقة وانحاز يانس المؤنسي من عساكر سيف الدولة إلى أنطاكية ، ووصل ابن الأخشيد حلب في ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فأقام بها وسيف الدولة بالرقة ، فراسل أنوجور يانس المؤنسي وهو بأنطاكية وضمن هو وكافور ليانس أن يجعلا بحلب في مقابلة سيف الدولة ، وضمن لهما يانس أن يقوم في وجه سيف الدولة بحلب وأن يعطيهم ولده رهينة على ذلك ، فأجابوه ، وانصرف كافور وأنوجور بالعسكر عن حلب إلى القلعة وأتاها يانس فتسلمها. وقيل إن الأخشيدية عادوا وأقام سيف الدولة بحلب ، فخالف عليه يانس والساجية وأرادوا القبض عليه فهرب وكتابه وأصحابه ، وملك يانس حلب ، ولم يقم يانس بحلب إلا شهرا حتى أسرى سيف الدولة إلى حلب في شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ، فكبسه فانهزم يانس إلى سرمين يريد الأخشيد ، فأنفذ سيف الدولة في طلبه سرية مع إبراهيم بن البارد العقيلي فأدركته عند داديخ ، فانهزم وخلى عياله وسواده وأولاده وانهزم إلى أخيه بميافارقين ، وكان ابن البارد قد وصل إلى سيف الدولة في سنة خمس وثلاثين ، وكان في خدمة أخيه ناصر الدولة ، ففارقه وقدم على سيف الدولة. ثم إن الرسل ترددت بين سيف الدولة وابن الأخشيد وتجدد الصلح بينهما على القاعدة التي كانت بينه وبين أبيه دون المال المحمول عن دمشق ، وعمر سيف الدولة داره بالحلبة وقلد أبا فراس ابن عمه منبج وما حولها من القلاع ، واستقرت ولاية سيف الدولة لحلب من سنة ست وثلاثين وثلثمائة ، وهذه هي الولاية الثالثة. اه. (١)

قال في الزبد والضرب : لما عاد سيف الدولة إلى حلب ولى قضاءها أحمد بن إسحاق الحلبي الحنفي المعروف بالجرد ، ولما عمر القصر بالحلبة أجرى نهر قويق فيه من تحت الخناقية حتى تدخل فيه من جانب وتخرج من آخر في المكان المعروف بالفيض.

ويقال إن سيف الدولة رأى في المنام أن حية قد تطوقت داره ، فعظم عليه ذلك فقال له بعض المفسرين : الحية في النوم ماء ، فأمر بحفر حفير بين داره وبين قويق حتى

__________________

(١) إلى هنا انتهت النبذة المطبوعة من زبدة الحلب في باريس مع ترجمتها بالإفرنسية الموجودة في المكتبة السلطانية بمصر وعنها استنسخت.

٢٣٢

أدار الماء حول الدار ، وقال له آخر كلاما معناه أن الروم تحتوي على دارك ، فأمر به فدفع وأخرج بعنف ، وقضى الله سبحانه أنهم فتحوا حلب واستولوا على داره. اه.

قال ابن خلدون : لما ملك سيف الدولة مدينتي حلب وحمص سنة ثلاث وثلاثين صار أمر الصوائف إليه ، وكان له فيها آثار وكان للروم في أيامه جولات حسنت فيها مدافعته.

سنة ٣٣٥

قال ابن الأثير : في هذه السنة كان الفداء بالثغور بين المسلمين والروم على يد نصر الشملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان ، وكان عدة الأسرى ألفين وأربعمائة أسير وثمانين أسيرا من ذكر وأنثى ، وفضل الروم على المسلمين مائتان وثلاثون أسيرا لكثرة من معهم من الأسرى ، فوفاهم ذلك سيف الدولة.

سنة ٣٣٧

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار سيف الدولة بن حمدان إلى بلد الروم ، فلقيه الروم واقتتلوا : فانهزم سيف الدولة وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس.

سنة ٣٣٩

قال ابن الأثير : في هذه السنة دخل سيف الدولة بن حمدان إلى بلاد الروم فغزا وأوغل فيها وفتح حصونا كثيرة وسبى وغنم ، فلما أراد الخروج من بلد الروم أخذوا عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين أسرا وقتلا ، واسترد الروم الغنائم والسبي وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم ، ونجا سيف الدولة في عدد يسير.

سنة ٣٤٠

قال العكبري في شرح ديوان المتنبي في الكلام على قوله :

٢٣٣

ذي المعالي فليعلون من تعالى

هكذا هكذا وإلا فلا لا

إنه قال هذه القصيدة يذكر نهوض سيف الدولة إلى الثغر ، وذلك في جمادى الأولى سنة أربعين وثلاثمائة ، قال : وكان سبب عمل هذه القصيدة أن سيف الدولة ورد عليه أن الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلوا على حصن الحدث ونصبوا عليه مكايد وقدروا أنها فرصة فيه لما تداخل أهله من الانزعاج والقلق ، وكان ملكهم قد ألزمهم قصده وأنجدهم بأصناف العسكر من البلغر والروس والصقلب وأنفذ معهم العدد الكثير والعدد ، فركب سيف الدولة نافرا وانتقل إلى غير الموضع الذي كان فيه ونظر فيما يجب أن ينظر فيه ، وسار عن حلب في جمادى الأولى ، فنزل رعبان وأخبار الحدث عليه مستعجمة لأنهم ضبطوا الطرق ليخفى عليه خبرهم ، فلما ضجر لبس سلاحه وأمر أصحابه بمثل ذلك وسار زحفا ، فلما قرب من الحدث عادت الجواسيس تعلمه أن العدو لما أشرفت عليه خيول المسلمين من عقبة يقال لها العبرى رحل ولم تستقر به دار ، وامتنع أهل الحدث من البدار بالخبر خوفا من كمين يعترض الرسل ، فنزل سيف الدولة بظاهره وأتتهم طلائعهم تخبر سيف الدولة بانصرافهم إلى حصن رعبان ، ووقعت الضجة وظهر الاضطراب وولى كل فريق على وجه ، وخرج أهل الحدث فأوقعوا ببعضهم وأخذوا آلة سلاحهم وأعدّوه في حصنهم. اه.

سنة ٣٤١

قال ابن الأثير : في هذه السنة ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وغنموا أموالهم وأخربوا المساجد.

وفي هذه السنة بنى سيف الدولة مرعشا ، وامتدحه عند ذلك أبو الطيب المتنبي بقصيدة قال في مطلعها :

فديناك من ربع وإن زدتنا كربا

فإنك كنت الشرق للشمس والغربا

ومنها

هنيئا لأهل الثغر رأيك فيهم

و أنك حزب الله صرت لهم حزبا

٢٣٤

فيوما بخيل تطرد الروم عنهم

و يوما بجود تطرد الفقر والجدبا

سراياك تترى والدمستق هارب

و أصحابه قتلى وأمواله نهبى

أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا

و أدبر إذ أقبلت يستبعد القربا

ومنها :

فأضحت كأنّ السور من فوق بدئه

إلى الأرض قد شق الكواكب والتربا

تصد الرياح الهوج عنها مخافة

و تفزع منها الطير أن تلقط الحبا

ومنها :

كفى عجبا أن يعجب الناس أنه

بنى مرعشا تبا لآرائهم تبا

سنة ٣٤٢

قال ابن شداد في الأعلاق الخطيرة : وفي سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة غزا سيف الدولة ملطية وشاطىء الفرات وقتل من الروم وسبا وأسر قسطنطين بن الدمستق ، ولم يزل عنده إلى أن مات في أسره ، وكان كتب إلى أبيه الدمستق بإكرام سيف الدولة ، وهو الذي كان يخدمه في مرضه ، فرأى منه الشفقة واللطف الذي فعله ، وقيل إن قسطنطين المأسور كان في غاية الحسن ، فبذل أبوه فيه ثمانمائة ألف دينار وثلاثة آلاف أسير ، فاشتط سيف الدولة ، فسير الدمستق إلى عطار نصراني بحلب وأمره أن يسقي ولده سما ففعل ومات ، وعدت هذه من غلطات سيف الدولة.

وفي ترهب الدمستق يقول أبو الطيب :

فلو كان ينجي من عليّ ترهب

ترهبت الأملاك مثنى وموحدا

وقال أبو العباس أحمد بن النامي :

لكنه طلب الترهب خيفة

ممن له تتقاصر الأعمار

فمكان قائم سيفه عكازه

و مكان ما يتمنطق الزنار

٢٣٥

سنة ٣٤٣

قال ابن الأثير : في هذه السنة شهر ربيع الأول غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم ، فقتل وأسر وسبى وغنم ، وكان فيمن قتل قسطنطين بن الدمستق ، فعظم الأمر على الروم وعظم الأمر على الدمستق ، فجمع عساكره من الروم والروس والبلغار وغيرهم وقصد الثغور ، فسار إليه سيف الدولة فالتقوا عند الحدث في شعبان ، فاشتد القتال بينهم وصبر الفريقان ، ثم إن الله تعالى نصر المسلمين فانهزم الروم وقتل منهم وممن معهم خلق عظيم ، وأسر صهر الدمستق وابن بنته وكثير من بطارقته ، وعاد الدمستق مهزوما مسلولا. اه.

قال العكبري في شرح ديوان المتنبي في شرح قوله :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

و تأتي على قدر الكرام المكارم

كان سبب هذه القصيدة أن سيف الدولة سار نحو ثغر الحدث ، وكان أهلها قد سلموها بالأمان إلى الدمستق ، فنزل بها سيف الدولة في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة ، فبدأ في يومه فحط الأساس وحفر أوله بيده ابتغاء ما عند الله تعالى ، فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس دمستق النصرانية في خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والبلغر والصقلب ، ووقعت الوقعة يوم الاثنين سلخ جمادى الآخرة ، وإن سيف الدولة حمل بنفسه في نحو من خمسمائة من غلمانه فقصد موكبه ، فهزمه وأظفهر الله به وقتل ثلاثة آلاف من مقاتلته وأسر خلقا كثيرا ، فقتل بعضهم واستبقى البعض ، وأسر تودس الأعور بطريق سمندو وهو صهر الدمستق ، وأقام على الحدث إلى أن بناها ووضع بيده آخر شرافة منها يوم الثلاثا ثالث عشرة ليلة خلت من رجب ، وفي هذا اليوم أنشد أبو الطيب هذه القصيدة لسيف الدولة بالحدث. اه.

أقول : عبارة ابن الأثير تفيد أن قسطنطين بن الدمستق كان فيمن قتل ، وما نقلناه عن ابن شداد وعن العكبري يفيد أنه أسر ، ويغلب على الظن أن هذه الرواية هي الأصح ، ولعل للدمستق ولدا آخر قتل في هذه الوقائع وقد اشتبه ذلك على ابن الأثير والله أعلم.

٢٣٦

سنة ٣٤٥

قال ابن الأثير : في هذه السنة في رجب سار سيف الدولة بن حمدان في جيوش إلى بلاد الروم وغزاها حتى بلغ خرشنة وصارخة وفتح عدة حصون وسبى وأسر وأحرق وخرب وأكثر القتل فيهم ، ورجع إلى آذنة فأقام بها حتى جاءه رئيس طرسوس فخلع عليه وأعطاه شيئا كثيرا ، وعاد إلى حلب ، فلما سمع الروم بما فعل جمعوا وساروا إلى ميافارقين وأحرقوا سوادها ونهبوا وخربوا وسبوا أهله ونهبوا أموالهم وعادوا.

سنة ٣٤٨

قال ابن الأثير : في هذه السنة غزت الروم طرسوس والرها فقتلوا وسبوا وغنموا وعادوا سالمين.

سنة ٣٤٩

قال ابن الأثير : في هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم في جمع كثير فأثر فيها آثارا كثيرة وأحرق وفتح عدة حصون ، وأخذ من السبي والغنائم والأسرى شيئا كثيرا ، وبلغ إلى خرشنة. ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق ، فلما أرادوا الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس : إن الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك فلا تقدر على العدو منه ، والرأي أن ترجع معنا ، فلم يقبل منهم وكان معجبا برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحدا لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره ، وعاد في الدرب الذي دخل منه فظهر الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم وأخذوا أثقاله ووضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليه قتلا وأسرا ، وتخلص هو في ثلثمائة رجل بعد جهد ومشقة ، هذا من سوء رأي كل من يجهل آراء الناس العقلاء.

سنة ٣٥٠

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار قفل عظيم من أنطاكية إلى طرسوس ومعهم صاحب أنطاكية ، فخرج عليهم كمين للروم فأخذ من كان فيها من المسلمين وقتل كثيرا منهم ، وأفلت صاحب أنطاكية وبه جراحات.

٢٣٧

وفيها في رمضان دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازيا ، وإنه في رمضان غنم ما قيمته قيمة عظيمة وسبى وأسر وخرج سالما.

سنة ٣٥١

قال ابن الأثير : في هذه السنة في المحرم نزل الروم مع الدمستق على عين زربة ، وهي في سفح جبل عظيم ، وهو مشرف عليها وهم في جمع عظيم ، فأنفذ بعض عسكره فصعدوا إلى الجبل فملكوه ، فلما رأى ذلك أهلها وأن الدمستق قد ضيق عليهم ومعه الدبابات وقد وصل إلى السور وشرع في النقب طلبوا الأمان ، فأمنهم الدمستق ، وفتحوا له باب المدينة فدخلها فرأى أصحابه الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة ، فندم على إجابتهم إلى الأمان ، ونادى في البلد أول الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع ، ومن تأخر في منزله قتل فخرج من أمكنه الخروج ، فلما أصبح أنفذ رجالته في المدينة وكانوا ستين ألفا ، وأمرهم بقتل من وجدوه في منزله فقتلوا خلقا كثيرا من الرجال والنساء والصبيان ، وأمر بجمع ما في البلد من السلاح فجمع فكان شيئا كثيرا ، وأمر من في المسجد بأن يخرجوا من البلد حيث شاؤوا من يومهم ذلك ، ومن أمسى قتل ، فخرجوا مزدحمين فمات بالزحمة جماعة ، ومروا على وجوههم لا يدرون أين يتوجهون ، فماتوا في الطرقات ، وقتل الروم من وجدوه بالمدينة آخر النهار وأخذوا كل ما خلفه الناس من أموالهم وأمتعتهم وهدموا سوري المدينة (١) ، وأقام الدمستق في بلد الإسلام أحدا وعشرين يوما وفتح حول عين رزبة (٢) أربعة وخمسين حصنا

__________________

(١) زاد ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية عند ذكره لهذه الحوادث أنه قطع من حول البلد أربعين ألف نخلة.

(٢) قال ياقوت في معجم البلدان [ عين زربي ] بفتح الزاي وسكون الراء : بلد بالثغر من نواحي المصيصة ، قال ابن الفقيه : كان تجديد زربي وعمارتها على يد أبي سليمان التركي الخادم في حدود سنة ١٩٠ ، وكان قد ولي الثغور من قبل الرشيد ثم استولى عليها الروم فخربوها ، فأنفق سيف الدولة ثلاثة آلاف ألف درهم حتى أعاد عمارتها ، ثم استولى عليها في أيام سيف الدولة وهي في أيديهم إلى الآن ، وأهلها اليوم أرمن وهي من أعمال ابن ليون ، وقد نسب إليها قوم من أهل العلم منهم أبو محمد إسماعيل بن علي الشاعر العين زربي القائل :

و حقكم لا زرتكم في دجنة

من الليل تخفيني كأني سارق

و لا زرت إلا والسيوف هواتف

إلي وأطراف الرماح لواحق

قال الواقدي : ولما كانت سنة ١٨٠ أمر الرشيد ببناء مدينة عين زربي وتحصينها وندب إليها ندبة من أهل خراسان وغيرهم وأقطعهم بها المنازل ، ثم لما كانت أيام المعتصم نقل إليها وإلى نواحيها قوما من الزط الذين كانوا قد غلبوا على البطائح بين واسط والبصرة فانتفع أهل الثغر بهم. اه.

٢٣٨

للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها بالأمان ، وإن حصنا من تلك الحصون التي فتحت بالأمان أمر أهله بالخروج منه ، فخرجوا فتعرض أحد الأرمن ببعض حرم المسلمين فلحق المسلمين غيرة عظيمة ، فجردوا سيوفهم فاغتاظ الدمستق لذلك ، فأمر بقتل جميع المسلمين وكانوا أربعمائة رجل وقتل النساء والصبيان ، ولم يترك إلا من يصلح أن يسترق ، فلما أدركه الصوم انصرف على أنه يعود بعد العيد ، وخلف جيشه بقيسارية ، وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين فأوقع بهم الدمستق فقتل أكثرهم وقتل أخا لابن الزيات ، فعاد إلى طرسوس ، وكان قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان ، فلما أصابهم هذا الوهن أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة وراسلوه بذلك ، فلما علم ابن زيات حقيقة الأمر صعد إلى روشن في داره فألقى نفسه منه إلى نهر تحته فغرق ، وراسل أهل بغراس الدمستق وبذلوا له مائة ألف درهم فأقرهم وترك معارضتهم.

ذكر استيلاء الروم على مدينة حلب

وعودهم عنها بغير سبب

قال ابن الأثير : في هذه السنة استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها ، وكان سبب ذلك أن الدمستق نقفور سار إلى حلب ولم يشعر به المسلمون لأنه كان قد خلف عسكره بقيسارية ، ودخل بلادهم كما ذكرناه ، فلما قضي صوم النصارى خرج إلى عسكره من البلاد جريدة ولم يعلم به أحد وسار بهم ، وعند وصوله سبق خيله وكبس مدينة حلب ولم يعلم به سيف الدولة بن حمدان ولا غيره ، فلما بلغها وعلم سيف الدولة الخبر أعجله الأمر عن الجمع والاحتشاد فخرج إليه فيمن معه فقاتله ، فلم يكن قوة الصبر لقلة من معه ، فقتل أكثرهم ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد قتلوا جميعهم ، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره ، وكانت خارج مدينة حلب تسمى الدارين ، فوجد فيها لسيف الدولة ثلثمائة بدرة من الدراهم ، وأخذ له ألفا وأربعمائة بغل ومن خزائن

٢٣٩

السلاح ما لا يحصى ، فأخذ الجميع وخرب الدار وملك الحاضر (١) وحصر المدينة ، فقاتله أهلها وهدم الروم في السور ثلمة فقاتلهم أهل حلب فقتل من الروم كثير ودفعوهم عنها ، فلما جنهم الليل عمروها ، فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل جوشن. ثم إن رجالة الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس وخانات التجار لينهبوها ، فلحق الناس أموالهم ليمنعوها فخلا السور منهم ، فلما رأى الروم السور خاليا من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد ، فصعدوا إلى أعلاه فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله ، فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا ، ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وضجروا ، وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسارى فتخلصوا وأخذوا السلاح وقتلوا الناس وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية ، وغنموا ما لا يوصف كثرة ، فلما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي ( زاد ابن مسكويه هنا في تاريخه تجارب الأمم ما نصه وعمد إلى الجباب التي يجرز فيها الزيت فصب فيها الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض ) وأحرق المساجد ، وكان قد بذل لأهل البلد الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ومالا ذكره وينصرف عنهم ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فملكهم كما ذكرنا ، وكان عدة عسكره مائتي ألف رجل منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن وثلاثون ألفا للهدم وإصلاح الطرق من الثلج وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد ( زاد ابن مسكويه هنا :

__________________

(١) قال ياقوت في معجم البلدان : والذي شاهدناه نحن من حاضر حلب أنها محلة كبيرة كالمحلة العظيمة بظاهر حلب بين بنائها وسور المدينة رمية سهم من جهة القبلة والمغرب ويقال لها حاضر السليمانية ، ولا نعرف السليمانية ، وأكثر سكانها تركمان مستعربة من أولاد الأجناد ، وبها جامع حسن مفرد تقام فيه الخطبة والجمعة والأسواق الكثيرة من كل ما يطلب ، ولها وال يستقل بها. اه. أقول : على مقتضى ما ذكره يكون ابتداء هذه الأبنية من المكان المعروف الآن بالقبة والعمود غربي منعطف نهو قويق المسمى بالفيض آخذا إلى المكان المعروف بجسر الحج على شكل نصف دائرة ، ويدخل في ذلك المحلة المعروفة بالكلاسة ، ثم تمتد من جسر الحج إلى المحلة المعروفة بالمغاير ، ثم منها إلى المحلة المعروفة بالفردوس والمقامات ، ولم يبق سوى أبنية هذه المحلات الثلاث وبعض آثار من المدارس والرباطات ، والرباط المعروف بالفردوس ، ولسان حالها ناطق بما كانت عليه من عظمة العمران ، وهذه المحلات الثلاث بالنسبة إلى ما كان ثمة من الأبنية يقدر بالعشر ، وقد صار البعض كروما وبساتين وبعضها لا زال خاويا خاليا.

٢٤٠