إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

وقال ابن خلكان في ترجمة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي : حكى ابن الصابي في كتاب الأماثل والأعيان عن إسحق النديم الموصلي عن إبراهيم بن المهدي قال : خلا جعفر بن يحيى يوما في داره وحضر ندماؤه وكنت فيهم ، فلبس الحرير وتضمخ بالخلوق وفعل بنا مثله وأمر بأن يحجب عنه كل أحد إلا عبد الملك بن بحران قهرمانه ، فسمع الحاجب عبد الملك دون ابن بحران ، وعرف عبد الملك بن صالح الهاشمي مقام جعفر بن يحيى في داره فركب إليه فأرسل الحاجب أن قد حضر عبد الملك ، فقال : أدخله ، وعنده أنه ابن بحران ، فما راعنا إلا دخول عبد الملك بن صالح في سواده ورصافيته فاربد وجه جعفر ، وكان ابن صالح لا يشرب النبيذ وكان الرشيد دعاه إليه فامتنع ، فلما رأى عبد الملك حالة جعفر دعا غلامه فناوله سواده وقلنسوته ووافى باب المجلس الذي كنا فيه وسلم وقال : أشركونا في أمركم وافعلوا بنا فعلكم بأنفسكم ، فجاءه خادم فألبسه حريرة واستدعى بطعام فأكل وبنبيذ فأتي برطل منه فشربه ثم قال لجعفر : والله ما شربته قبل اليوم فليخفف عني ، فأمر أن يجعل بين يديه باطية يشرب منها ما يشاء وتضمخ بالخلوق ونادمنا أحسن منادمة ، وكان كلما فعل شيئا من هذا سري عن جعفر ، فلما أراد الانصراف قال له جعفر : اذكر حوايجك فإني ما أستطيع مقابلة ما كان منك ، قال : إن في قلب أمير المؤمنين موجدة علي فتخرجها من قلبه إلى جميل رأيه فيّ ، قال : قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك ، فقال : وعلي أربعة آلاف ألف درهم دينار ، قال : تقضى عنك وإنها لحاضرة ، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك وأدل على حسن ما عنده لك ، قال : وإبراهيم ابني أحب إن أحبّ أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة ، قال : قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته ، قال : وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه ، قال : قد ولاه أمير المؤمنين مصر ، وخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قبول جعفر وإقدامه على مثله من غير استئذان فيه. وركبنا من الغد إلى باب الرشيد ودخل جعفر ووقفنا فما كان بأسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك ، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عليه واللواء بين يديه وقد عقد له على العالية بنت الرشيد ، وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح ، وخرج جعفر فتقدم إلينا باتباعه إلى منزله وصرنا معه فقال : أظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك فأحببتم علم آخره ، قلنا : هو كذلك ، قال : وقفت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه

١٦١

إلى انتهائه وهو يقول أحسن أحسن ، ثم قال : فما صنعت معه فعرفت ما كان قولي له فاستصوبه وأمضاه وكان ما رأيتم. قال إبراهيم بن المهدي : فو الله ما أدري أيهم أعجب فعلا عبد الملك في شربه النبيذ ولباسه ما ليس من لبسه وكان رجلا ذا جد وتعفف ووقار وناموس أو إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم أو إمضاء الرشيد ما حكم به جعفر عليه.

وقدمنا في حوادث سنة ١٨٧ أن الرشيد غضب على عبد الملك وحبسه. قال ابن جرير ثمة :

ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه

ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أن عبد الملك بن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن كان من رجال الناس ، وكان عبد الملك يكنى به ولابنه عبد الرحمن لسان على فأفأة فيه فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة فسعيا به إلى الرشيد وقال له : إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها ، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع ، فذكر أن عبد الملك بن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه فقال له الرشيد : أكفرا بالنعمة وجحودا لجليل المنة والتكرمة ، فقال : يا أمير المؤمنين لقد بؤت إذا بالندم وتعرضت لاستحلال النقم ، وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية ، إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمته وأمينه على عترته ، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة ولها عليك العدل في حكمها والتشبث في حادثها والغفران لذنوبها ، فقال له الرشيد : أتضع لي من لسانك وترفع لي من جنابك ، هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك فاسمع كلامه ، فقال عبد الملك : أعطاك ما ليس في عقده ولعله لا يقدر أن يعضهني ولا يبهتني بما لم يعرفه مني ، وأحضر قمامة فقال له الرشيد : تكلم غير هائب ولا خائف ، قال : أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك ، فقال عبد الملك : أهو كذلك يا قمامة ؟ قال قمامة : نعم لقد أردت ختل أمير المؤمنين ، فقال عبد الملك : كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي ، فقال له الرشيد : وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك فبم تدفعهما عنك ، فقال عبد الملك بن صالح : هو مأمور أو عاق مجبور ، فإن كان مأمورا

١٦٢

فمعذور وإن كان عاقا ففاجر كفور أخبر الله عزوجل بعدوانه وحذر منه بقوله : إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم قال : فنهض الرشيد وهو يقول : أما أمرك فقد وضح ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك فإنه الحكم بيني وبينك ، فقال عبد الملك : رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه وأمر الله على رضاه. فلما كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر فسلم لما دخل فلم يرد عليه فقال عبد الملك : ليس هذا يوما أحتج فيه ولا أجاذب منازعا وخصما قال : ولم قال لأن أوله جرى على غير السنة فأنا أخاف آخره ، قال : وما ذاك ؟ قال : لم ترد عليّ السلام أنصف نصفة العوام قال : السلام عليكم اقتداء بالسنة وإيثارا للعدل واستعمالا للتحية ، ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك :

أريد حبائه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (١)

ثم قال : أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع وعارضها قد لمع وكأني بالوعيد قد أوري نارا تسطع فأقلع عن براجم بلا معاصم ورؤوس بلا غلاصم ، فمهلا مهلا فيّ والله سهل لكم الوعر وصفا لكم الكدر وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها ، فنذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل. فقال عبد الملك : اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك وفي رعيته التي استرعاك ولا تجعل الكفر مكان الشكر ولا العقاب موضع الثواب ، فقد نخلت لك النصيحة ومحضت لك الطاعة وشددت ملكك بأثقل من ركني يلملم وتركت عدوك مشتغلا ، فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضه أو ببغي باغ ينهش اللحم ويلغ الدم ، فقد والله سهلت لك الوعور وذللت لك الأمور وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور ، فكم من ليل تمام فيك كابدته ومقام ضيق لك قمته كنت فيه كما قال أخو بني جعفر بن كلاب :

و مقام ضيق فرجته

ببناني ولساني وجدل

لو يقوم الفيل أو فياله

زل عن مثل مقامي وزحل

__________________

(١) الحباء بالكسر العطاء بلا جزاء ولا من. وعذيرك بالنصب أي : هات من يعذرك منه ويأتي لك بالعذر فيه ، يقول : إني أريد به الخير وهو يريد لي الشر فمن لي بمن يعذرني منه إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني. اه من شرح كامل المبرد.

١٦٣

قال : فقال له الرشيد : أما والله لو لا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك.

وذكر زيد بن علي بن الحسين العلوي قال : لما حبس الرشيد عبد الملك بن صالح دخل عليه عبد الله بن مالك وهو يومئذ على شرطه فقال : أفي إذن أنا فأتكلم ؟ قال : تكلم ، قال : لا والله العظيم يا أمير المؤمنين ما علمت عبد الملك إلا ناصحا فعلام حبسته ؟ قال : ويحك بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين يعني الأمين والمأمون ، فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه ، قال : أما إذا حبسته يا أمير المؤمنين فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه ، ولكن أرى أن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك مثله ، قال : فإني أفعل ، قال : فدعا الرشيد الفضل بن الربيع فقال : امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه فقل له انظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك ، فذكر قصته وما سأل.

قال : وقال الرشيد يوما لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلمه : ما أنت لصالح ، قال : فلمن أنا ؟ قال : لمروان الجعدي ، قال : ما أبالي أي الفحلين غلب عليّ ، فحبسه الرشيد عند الفضل بن الربيع فلم يزل محبوسا حتى توفي الرشيد فأطلقه محمد وعقد له على الشام ، فكان مقيما بالرقة ، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا ، فمات قبل محمد فدفن في دار من دور الإمارة ، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له : حول أباك من داري ، فنبشت عظامه وحولت ، وكان قال لمحمد : إن خفت فالجأ إلي فو الله لأصوننك.

وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بن خالد أن عبد الملك بن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك وقد علمت ذلك فأعلمني ما عندك فيه فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأن ملكك كان ملكي وسلطانك كان سلطاني والخير والشر كان فيه علي ولي ، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك ، قال : هل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك ، أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن ولكنه كان رجلا محتملا يسرني أن يكون في أهلك مثله فوليته لما أحمدت من مذهبه وملت إليه لأدبه واحتماله. قال : فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه فقال : إن أنت لم تقر عليه قتلت

١٦٤

الفضل ابنك ، فقال له : أنت مسلط علينا فافعل ما أردت على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي فبم يدخل الفضل في ذلك ، فقال الرسول للفضل : قم فإنه لا بد من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك ، فلم يشك أنه قاتله فودع أباه وقال له : أ لست راضيا عني ؟ قال : بلى ، فرضي الله عنك ، ففرق بينهما ثلاثة أيام ، فلما لم يجد عنده من ذلك شيئا جمعهما كما كان. وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل لما كان أعداؤهم يقرفونهم به عنده ، فلما أخذ مسرور بيد الفضل لما أعلمه به بلغ من يحيى فأخرج ما في نفسه فقال : قل له يقتل ابنك مثله ، قال مسرور : فلما سكن غضب الرشيد قال : كيف ؟ قال : فأعدت عليه القول قال : قد خفت والله قوله لأنه قل ما قال لي شيئا إلا رأيت تأويله.

قيل : وبينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بن صالح إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين طأطىء من إشرافه وقصر من عنانه واشدد من شكائمه وإلا أفسد عليك ناحيته ، فالتفت إلى عبد الملك فقال : ما يقول هذا يا عبد الملك ؟ فقال عبد الملك : مقال باغ ودسيس حاسد ، فقال له : صدقت نقص القوم ففضلتهم وتخلفوا وتقدمتهم حتى برز شأوك فقصر عنه غيرك ففي صدرهم جمرات التخلف وحزازات النقص ، فقال عبد الملك : لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمدا دائما أبدا.

وقال ابن شاكر في عيون التواريخ : كان عبد الملك بن صالح أفصح الناس وأخطبهم ولم يكن في عصره مثله في فصاحته وصيانته وجلادته ، قيل ليحيى بن خالد البرمكي وقد ولى الرشيد عبد الملك المدينة : كيف ولاه المدينة من بين أعماله ؟ قال : أحب أن يباهي به قريشا ويعلمهم أن في بني العباس مثله. ووجه عبد الملك إلى الرشيد فاكهة في أطباق خيزران وكتب إليه : أسعد الله أمير المؤمنين دخلت بستانا لي أفادنيه كرمك وعمرته لي نعماك وقد ينعت أشجاره وراقت ثماره ، فوجهت إليّ أمير المؤمنين من كل شيء على الثقة والإمكان في أطباق القضبان ليصل إليّ من بركة دعائه مثل ما وصل إليّ من كثرة عطائه ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين لم أسمع بأطباق القضبان ، فقال له الرشيد : يا أبله إنه كنى عن الخيزران إذ كان اسما لأمنا.

١٦٥

قال : ولما ودعه الرشيد ووجهه إلى الشام قال له الرشيد : ألك حاجة ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين بيني وبينك بيت يزيد بن الدثينة حيث يقول :

فكوني على الواشين لدّى شعوبة

كما أنا للواشي ألدّ شعوب

ثم وشى به بعد ذلك الناس وتتابعت الأخبار عنه بفساد نيته للرشيد ، فدخل عليه في بعض الأيام وقد امتلأ قلب الرشيد عليه فقال له : أكفرا بالنعمة وغدرا بالإمام إلخ ما تقدم نقله عن ابن جرير.

ثم قال : وكتب إلى الرشيد قبل إشخاصه إلى العراق وقد تغير عليه :

أخلاي لي شجو وليس لكم شجو

و كل امرىء من شجو صاحبه خلو

من اي نواحي الأرض أبغي رضاكم

و أنتم أناس ما لمرضاتكم نحو

فلا حسن نأتي به تقبلونه

و لا إن أسأنا كان عندكم عفو

فلما وقف عليها الرشيد قال : والله إن كان قد قالها لقد أحسن وإن كان رواها لقد أحسن.

وكتب إلى الرشيد من السجن :

قل لأمير المؤمنين الذي

يشكره الصادر والوارد

يا واحد الأملاك في فضله

مالك مثلي في الورى واحد

إن كان لي ذنب ولا ذنب لي

حقا كما قد زعم الحاسد

فلا تضق عفوك عني فقد

فاز به المسلم والجاحد

ومن شعره وهو في الحبس :

لئن ساءني حبسي لفقد أحبتي

و أني فيهم لا أمرّ ولا أحلي

لقد سرني عزي بترك لقائهم

بما أتشكى من حجاب ومن ذلّ

ولما أخرجه الأمين من السجن دفع إليه كاتبه قمامة وابنه عبد الرحمن فقتل قمامة في حمام وهشم وجه ابنه بعمود. اه.

١٦٦

وقال الملا في مختصر الذهبي : يقال إن الرشيد إنما حبسه لما رآه نظيرا له في أشياء من النبل والفصاحة.

ولاية خزيمة بن خازم سنة ١٩٧ مرة ثانية

قال في زبدة الحلب : ثم ولي بعد عبد الملك خزيمة بن حازم حلب وقنسرين في سنة سبع وتسعين وماية. وقيل إن الوليد بن طريف ولي حلب وقنسرين بعد عبد الملك بن صالح وبعده ورقا عبد الملك ثم بعده يزيد بن مزيد.

أقول : أما تولية خزيمة بن حازم فممكنة لأنه كان حيا في هذه السنة ١٨٥ كما ذكره ابن خلكان في ترجمتهما. أما ورقا عبد الملك فلم أقف له على ذكر في غير زبدة الحلب. وترجمة خزيمة قد تقدمت.

ولاية طاهر بن الحسين سنة ١٩٨

قال ابن الأثير في حوادثها : في هذه السنة أظهر نصر بن سيار بن شبث العقيلي الخلاف على المأمون ، وكان نصر من بني عقيل يسكن كيسوم ناحية شمالي حلب وكان في عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى ، فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب لذلك وتغلب على ما جاوره من البلاد وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت نفسه وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي وحدثته نفسه بالتغلب عليه ، فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت. وقال ابن جرير في حوادثها : وكتب المأمون إلى طاهر بن الحسين وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأعمال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بن سهل وأن يشخص عن ذلك كلها إلى الرقة ، وجعل إليه حرب نصر بن شبث وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب. قال ابن الأثير : فسار طاهر إلى قتال نصر وأرسل إليه يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف فلم يجبه إلى ذلك ، فتقدم إليه طاهر والتقوا بنواحي كيسوم واقتتلوا قتالا شديدا أبلى فيه نصر بلاء عظيما وكان الظفر له ، وعاد طاهر شبه المهزوم إلى الرقة ، وكان قصارى أمر طاهر حفظ تلك النواحي اه.

١٦٧

وقال في حوادث سنة ١٩٩ : وفيها قوي أمر نصر بن شبث العقيلي بالجزيرة وكثر جمعه وحصر حران ، وأتاه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا له : قد وترت بني العباس وقتلت رجالهم وأعلقت عنهم العرب ، فلو بايعت لخليفة كان أقوى لأمرك ، فقال : من أي الناس ؟ فقالوا نتبايع لبعض آل علي بن أبي طالب ، فقال : أبايع بعض أولاد السوداوات فيقول إنه هو خلقني ورزقني ، قالوا : فتبايع لبعض بني أمية ، فقال : أولئك قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل أبدا ، ولو سلّم علي رجل مدبر لأعداني إدباره وإنما هو أي في بني العباس وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم.

وقال في حوادث سنة ٢٠٤ : في هذه السنة قدم المأمون بغداد وكان قد كتب إلى طاهر وهو بالرقة ليوافيه بالنهروان فأتاه بها ودخل بغداد منتصف صفر.

ترجمة طاهر بن الحسين :

قال ابن خلكان : أبو الطيب طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان ، كان جده رزيق مولى طلحة الطلحات الخزاعي المشهور بالكرم والجود المفرط ، وكان طاهر من أكبر أعوان المأمون وسيره من مرو كرسى خراسان لما كان المأمون بها إلى محاربة أخيه الأمين ببغداد لما خلع المأمون بيعته ، والواقععة مشهورة ، وسير الأمين أبا يحيى علي بن موسى بن ماهان لدفع طاهر عنه فتواقعا وقتل على المعركة وتقدم طاهر إلى بغداد وأخذ ما في طريقه من البلاد وحاصر بغداد والأمين بها وقتله سنة ثمان وتسعين وماية وحمل رأسه إلى خراسان ووضع بين يد المأمون وعقد للمأمون على الخلافة ، فكان المأمون يرعاه لمناصحته وخدمته. وكان شجاعا أديبا ، وركب يوما ببغداد في حرّاقة فاعترضه مقدس بن صيفي الخلوقي الشاعر وقد أدنيت من الشط ليخرج فقال : أيها الأمير إن رأيت تسمع مني أبياتا ، فقال : قل ، فأنشأ يقول :

عجبت لحرّاقة ابن الحسي

ن لا غرقت كيف لا تغرق

و بحران من فوقها واحد

و آخر من تحتها مطبق

و أعجب من ذاك أعوادها

و قد مسها كيف لا تورق

١٦٨

فقال طاهر : أعطوه ثلاثة آلاف دينار وقال له : زدنا حتى نزيدك ، فقال : حسبي ، ثم قال : وأخبار طاهر كثيرة وتوفي سنة سبع ومائتين بمدينة مرو سمه خادم للمأمون ، وساق ابن خلكان الأسباب التي دعته إلى ذلك فارجع إليه إن شئت.

ولاية عبد الله بن طاهر بن الحسين سنة ٢٠٤

وولاية يحيى بن معاذ سنة ٢٠٥

قال ابن جرير في حوادث سنة ٢٠٥ : في هذه السنة ورد عبد الله بن طاهر بغداد منصرفا من الرقة ، وكان أبوه طاهر استخلفه عليها وأمره بقتال نصر بن شبث وقدم يحيى بن معاذ فولاه المأمون الجزيرة. اه.

ترجمة يحيى بن معاذ :

قال الملا في مختصر تاريخ الذهبي : يحيى بن معاذ متولي الجزيرة كان من كبار قواد المأمون ، توفي سنة ست ومائتين.

ولاية عبد الله بن طاهر من سنة ٢٠٦ مرة ثانية إلى سنة ٢١٣

قال ابن الأثير : وفي هذه السنة ولى المأمون عبد الله من الرقة إلى مصر وأمره بحرب نصر بن شبث ، وكان سبب ذلك أن يحيى بن معاذ الذي كان المأمون ولاه الجزيرة مات في هذه السنة واستخلف ابنه أحمد ، فاستعمل المأمون عبد الله مكانه ، فلما أراد توليته أحضره وقال له : يا عبد الله أستخير الله تعالى منذ شهر وأكثر وأرجو أن يكون قد خار لي ورأيت الرجل يصف ابنه لرأيه فيه ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك ، وقد مات يحيى واستخلف ابنه وليس بشيء ، وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث ، فقال : السمع والطاعة وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين ، فعقد له ، وقيل كانت ولايته سنة خمس ومائتين وقيل سبع ومائتين ، ولما استعمله كتب إليه أبوه طاهر كتابا جمع فيه كل ما

١٦٩

يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة وغير ذلك وقد أثبت منه أحسنه لما فيه من الآداب والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم لأنه لا يستغني عنه أحد من ملك وسوقة.

أقول : عبارته تفيد أنه حذف منه مع أنه قد أورده بتمامه إلا أربعة أسطر في الآخر ، وقد ذكره ابن جرير الطبري وإني أنقله عنه لأنه في ابن الأثير فيه غلط وتحريف من الطبع وفي ابن جرير أصح وأضبط ، وبعد أن انتهى منه قال : ذكر أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه وشاع أمره حتى بلغ المأمون ، فدعا به وقرىء عليه فقال : ما بقى أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به. وتقدم وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال ، وتوجه عبد الله بن طاهر إلى عمله فسار بسيرته واتبع أمره وعمل بما عهد إليه ، وهذا نص الكتاب :

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك. والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسؤول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه ، فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل عليهم والقيام بحقه وحدوده فيهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم وبيضتهم والحقن لدمائهم والأمن لسبيلهم وإدخال الراحة عليهم في معايشهم ، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك وموقفك عليه ومسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت. ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك ولا يذهلك عنه ذاهل ، ولا يشغلك عنه شاغل ، فإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوفقك الله به لرشدك ، وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعالك المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سنتها في إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله فيها ، وترتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك ولتصدق فيها لربك نيتك ، واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك ، وادأب عليها فإنها كما قال الله تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم أتبع ذلك بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك

١٧٠

أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل الله في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وإتمام ما جاءت به الآثار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قم فيه بما يحق لله عليك ، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد. وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله والعاملين به ، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله فإنه الدليل على الخير كله والقائد له والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها ، وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عزوجل وإجلالا له ودركا للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها ، فليس شيء أبين نفعا ولا أحضر أمنا ولا أجمع فضلا من القصد ، والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة ، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد ، فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب ، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه ، فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح خاصتك وعامتك ، وأحسن الظن بالله عزوجل يستقم لك رعيتك ، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك ، ولا تنهض أحدا من الناس فيما توليته من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم ، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وأرفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم ، ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينقصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكفى به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها ، ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها ، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة. وأخلص نيتك في

١٧١

جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومأخوذ بما أساء ، فإن الله عزوجل جعل الدين حرزا وعزا ورفع من اتبعه وعززه ، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ، ولا تعطل ذلك ولا تهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة ، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك ، واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة ، وجانب الشبه والبدعات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك ، وإذا عاهدت عهدا فف به ، وإذا وعدت الخير فأنجزه ، واقبل الحسنة وادفع بها وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله ، وأقص أهل النميمة فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب ، لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها ، لأن النميمة لا يسلم صاحبها ، وقائلها لا يسلم له صاحب ، ولا يستقيم لمطيعها أمر ، وأحب أهل الصدق والصلاح وأعن الأشراف بالحق ، وواصل الضعفاء وصل الرحم ، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة ، واجتنب سوء الأهواء والجور ، واصرف عنها رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى ، واملك نفسك عند الغضب وآثر الوقار والحلم ، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله ، وإياك أن تقول : إني مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له ، وأخلص لله النية فيه واليقين به ، واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه واستطالوا بما آتاهم الله من فضله ، ودع عنك شره نفسك ، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدهمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت وصلحت به العامة وتزينت به الولاة وطاب به الزمان واعتقد فيه العز والمنعة ، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف رعيتك من ذلك

١٧٢

حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم ، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك واستوجبت المزيد من الله وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر ، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسا لكل ما أردت ، فأجهد نفسك لما حددت لك في هذا الباب ولتعظيم حسبتك فيه فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه ، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه ، وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يوجب التفريط والتفريط يورث البوار ، وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى ، وارج الثواب فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا وأظهر لديك فضله فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا ، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين ، ولا تحقرن ذنبا ولا تمالئن حاسدا ولا ترحمن فاجرا ولا تصلن كفورا ولا تداهنن عدوا ولا تصدقن نماما ولا تأمنن غدارا ولا توالين فاسقا ولا تتبعن غاويا ولا تحمدن مرائيا ولا تحقرن إنسانا ولا تردن سائلا فقيرا ولا تجيبن باطلا ولا تلاحظن مضحكا ولا تخلفن وعدا ولا ترهبن فاجرا ولا تظهرن غضبا ولا تأتين بذخا ولا تمشين مرحا ولا تركبن سفها ولا تفرطن في طلب الآخرة ولا تدفع الأيام عتابا ولا تغمضن عن الظالم رهبة منه أو مخافة ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا ، وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم ، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة ، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ولا تسمعن لهم قولا ، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم ، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح ، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية ، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا ، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم ، فاجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه وأن العاصي بمنزلة خزي وتدبر قول الله عزوجل ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا ، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد فاعدده لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا ، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم وادرر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم ليذهب بذلك الله فاقتهم ويقوم لك أمرهم ويزيد به قلوبهم في طاعتك في أمرك

١٧٣

خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته ، فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحا وصلاحا وفلاحا. واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي يعتدل عليه الأحوال في الأرض ، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية وتؤمن السبل وينصف المظلوم ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقوم الدين وتجري السنن والشرائع وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء ، واشتد في أمر الله وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود وأقلل العجلة وابعد من الضجر والقلق واقنع بالقسم ، ولتسكن ريحك ويقر جدك وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك وسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ، ولا يأخذك أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة ولا لوم لائم ، وتثبت وتأن وراقب وانظر وتدبر وتفكر واعتبر وتواضع لربك وارأف بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ، ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله تعالى بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقها ، وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزا ورفعة ولأهله سعة ومنعة ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معانديهم ذلا وصغارا ، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه ، ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه وعن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا أحد من خاصتك ، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ولا تكلفن أمرا فيه شطط ، واحمل الناس كلهم على مر الحق فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضى العامة ، واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحائطا وراعيا وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف ، ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك ، ولا يشغلنك عنه شاغل ولا يصرفنك عنه فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واحترزت النصيحة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك فكثر خراجك وتوفرت

١٧٤

أموالك وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك ، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة ، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله ، واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأمره كله ، وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك ، فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه ، وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصيرة والعلم ، ثم خذ فيه عدته ، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى فقوّاه ذلك وأعجبه ، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره ، فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله بالقوة. وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك ، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك ، وأكثر مباشرته بنفسك ، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه ، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين فشغلك ذلك حتى تعرض عنه ، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك وأحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم ، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مؤنتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا. وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك. والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فاسأل عنه أصفى مسألة ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم ، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركته وزيادة ، وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم. وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم وقواما يرفقونهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى صرف في بيت المال ، واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم ، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه

١٧٥

ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة ، وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله ويلتمس رحمته به. وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز لهم وجهك وسكن لهم أحراسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والمنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك ، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس ، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان ، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله ، واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرئاسة في القرون الحالية والأمم البائدة ، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه ، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله. واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم ، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأمور ومعاليها ، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم يمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سرك وإعلانك ما فيه من النقص ، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك. وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمر كورك ورعيتك ، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك ، وكرر النظر إليه والتدبير له ، فما كان موافقا للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه ، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه ، ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم ، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين ، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك.

وتفهم كتابي إليك وأكثر النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله مع الصلاح وأهله ، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضى ولدينه نظاما ولأهله عزا وتمكينا وللذمة والملة عدلا وصلاحا ، وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك ، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبا وأوفرهم حظا وأسناهم ذكرا وأمرا ، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك ويرزقك من رعيتك العافية ويحتجر الشيطان عنك ووساوسه حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق إنه قريب مجيب. اه.

١٧٦

سنة ٢٠٩

قال ابن الأثير : في هذه السنة حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بكيسوم وضيق عليه حتى طلب الأمان فأجابه إليه وتحول من معسكره إلى الرقة إلى عبد الله ، وكان مدة حصاره ومحاربته خمس سنين ، فلما خرج إليه أخرب عبد الله حصن كيسوم وسير نصرا إلى المأمون فوصل إليه في صفر سنة عشر ومائتين.

سنة ٢١٠ مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر وافتتاحها

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار عبد الله بن طاهر إلى مصر وافتتحها ، وكان سبب مسيره أن عبيد الله قد تغلب على مصر وخلع الطاعة وخرج جمع من الأندلس فتغلبوا على الإسكندرية ، واشتغل عبد الله بن طاهر بمحاربة نصر بن شبث ، فلما فرغ منه سار نحو مصر وافتتحها. وذكر ابن الأثير تفصيل ذلك ثم قال : ذكر أحمد بن حفص بن أبي الشماس قال : خرجنا مع عبد الله بن طاهر إلى مصر حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق إذ نحن بأعرابي قد اعترض ، فإذا شيخ على بعير له فسلم علينا فرددنا عليه‌السلام قال : وكنت أنا وإسحق بن إبراهيم الرافقي وإسحق بن أبي ربعي ونحن نساير الأمير ، وكنا أفره منه دابة وأجود كسوة قال : فجعل الأعرابي ينظر إلى وجوهنا ، قال فقلت : يا شيخ قد ألححت في النظر ، أعف شيئا أنكرته ؟ قال : لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا ولكني رجل حسن الفراسة في الناس قال : فأشرت إلى إسحق بن أبي ربعي وقلت : ما تقول في هذا ؟ فقال :

أرى كاتبا داهي الكتابة بيّن

عليه وتأديب العراق منير

له حركات قد يشاهدن أنه

عليم بتقسيط الخراج بصير

ونظر إلى إسحق بن إبراهيم الرافقي فقال :

و مظهر نسك ما عليه ضميره

يحب الهدايا بالرجال مكور

١٧٧

إخال به جبنا وبخلا وشيمة

تخبر عنه إنه لوزير

ثم نظر إلي وقال :

و هذا نديم للأمير ومؤنس

يكون له بالقرب منه سرور

و أحسبه للشعر والعلم راويا

فبعض نديم مرة وسمير

ثم نظر إلى الأمير وقال :

و هذا الأمير المرتجى سيب كفه

فما إن له في العالمين نظير

عليه رداء من جمال وهيبة

و وجه بإدراك النجاح يشير

لقد عظم الإسلام منه بذي يد

فقد عاش معروف ومات نكير

ألا إنما عبد الإله بن طاهر

لنا والد بر بنا وأمير

قال : فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع وأعجبه وأمر للشيخ بخمسمائة دينار وأمره أن يصحبه.

سنة ٢١١

إخلاص عبد الله بن طاهر للمأمون

قال في هذه السنة : قال للمأمون بعض أخوته ( وهو المعتصم ) : إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد علي بن أبي طالب وكذا كان أبوه قبله ، فأنكر المأمون ذلك ، فعاوده أخوه فوضع المأمون رجلا قال له : امش في هيئة القراء والنساك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا ثم صر إلى عبد الله بن طاهر فادعه إليه واذكر مناقبه ورغبه فيه وابحث عن باطنه وائتني بما تسمع ، ففعل الرجل ذلك فاستجاب له جماعة من أعيانه فقعد بباب عبد الله بن طاهر ، فلما ركب قام إليه فأعطاه رقعة ، فلما عاد إلى منزله أحضره قال : قد فهمت ما في رقعتك فهات ما عندك ، فقال : ولي أمانك ؟ قال : نعم قال : هل يجب شكر الله على العباد ؟ قال : فتجيء إلي وأنا في هذه الحال لي خاتم في المشرق جائز وخاتم في المغرب جائز وفيما بينهما أمري مطاع ثم ما ألتفت عن يميني ولا شمالي وورائي وأمامي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي ومنة ختم بها رقبتي ويدا لائحة بيضاء

١٧٨

ابتدأني بها تفضلا وكرما ، تدعوني إلى أن أكفر بهذه النعم وهذا الإحسان وتقول اغدر بمن كان أولى لهذا وأجري واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه ، تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا أكان الله يحب على أن أغدر به وأكفر إحسانه وأنكث بيعته ، فسكت الرجل فقال له عبد الله : ما أخاف عليك إلا نفسك فارحل عن هذا البلد فإن السلطان الأعظم إن بلغه ذلك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما أيس منه جاء إلى المأمون فأخبره فاستبشر وقال : ذلك غرس يدي وإلف أدبي وقراب يلفحي ، ولم يظهر ذلك ولا علمه ابن طاهر إلا بعد موت المأمون. اه. ابن الأثير.

ترجمة عبد الله بن طاهر بن الحسين :

قال في مختصر الذهبي : عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بتقديم الزاي بن أسعد مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي ، وهو طلحة الطلحات ، الأمير العادل أبو العباس الخزاعي أمير إقليم خراسان وما يليه ، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة ، وتأدب في صغره وقرأ العلم والفقه وسمع من وكيع ويحيى بن الضريس وعبد الله المأمون وعنه إسحق بن راهويه وهو أكبر منه ونصر بن زياد القاضي وأحمد بن سعيد الرباطي والفضل بن محمد الشعراني وابنه محمد بن عبد الله الأمير وابن أخيه منصور بن طلحة. قال المرزباني كان بارع الأدب حسن الشعر تنقل في الأعمال الجليلة شرقا وغربا ، قلده المأمون مصر والمغرب ، ثم نقله إلى خراسان. وروى الحاكم في تاريخه أن أسعد جد بني طاهر كان يعرف في العجم بفرح زرين موزه فأسلم على يد عليّ على أن لا يغير اسمه ، فسأل عن اسمه فقيل اسم مشتق من السعادة فقال : هو إذن أسعد ، وكان والده يسمى فيروز. وقال إبراهيم نفطويه : لما غلب عبد الله بن طاهر على الشام وهب له المأمون ما وصل إليه من الأموال هناك ففرقها على القواد ، ولما دخل مصر وقف على بابها وقال : أخزى الله فرعون ما كان أخبثه وأدنى همته ، ملك هذه القرية فقال أنا ربكم الأعلى ، والله لأدخلنها ، وكان ابن طاهر جوادا ممدحا وفد عليه دعبل فلما أكثر عطاياه توارى عنه وكتب إليه :

هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة

و هل ترتجي فيك الزيادة بالكفر

و لكنني لما أتيتك زائرا

فأفرطت في بري عجزت عن الشكر

١٧٩

فمن لان (١) لا آتيك إلا معذرا

أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر

فإن زدت في بري تزيدت جفوة

و لا نلتقي حتى القيامة والحشر

فوصل إليه من ثلثمائة ألف درهم.

وعن العباس بن مجاشع قال : لما قدم ابن طاهر اعترضه دعبل فقال :

جئتك مستشفعا بلا سبب

إليك إلا بحرمة الأدب

فاقض زمامي فإنني رجل

غير ملحّ عليك في الطلب

فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وبهذين البيتين :

أعجلتنا فأتاك عاجل برنا

قلا ولو أمهلتنا لم نقلل

فخذ القليل وكن كأنك لم تسل

و نكون نحن كأننا نسأل

ثم قال : وعن سهل بن ميسرة أن جيران دار عبد الله بن طاهر أمر بإحصائهم فبلغوا أربعة آلاف نفس فكان يقوم بمؤنتهم وكسوتهم ، فلما خرج إلى خراسان انقطعت الرواتب من المؤنة وبقيت الكسوة مدة حياته. وكان ابن طاهر عادلا في الرعية عظيم الهيبة حسن المذهب ، قال أحمد بن سعيد الرباطي : سمعته يقول : والله لا أستطيع أن أقول إيماني كإيمان يحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وهو لا يقولون [ هكذا والظاهر أن الصواب وهما لا يقولان ] إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل. ولما مات خلف في بيت ماله أربعين ألف ألف درهم دون ما في بيت العامة. قال أحمد بن كامل القاضي : مات عبد الله بن طاهر وقد أظهر التوبة وكسر الملاهي وعمر الرباطات بخراسان ووقف لها الوقوف وافتدى الأسرى من الترك بنحو ألفي ألف درهم. وقال أبو حسن الزيادي : مات بمرو في ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين بعلة الخوانيق وله ثمان وأربعون سنة. اه.

وقال ابن خلكان : كان عبد الله المذكور سيدا نبيلا عالي الهمة شهما ، وكان المأمون كثير الاعتماد عليه حسن الالتفات إليه لذاته ورعاية لحق والده ولما سلفه من الطاعة في خدمته ، وكان واليا على الدينور ، فلما خرج بابك الخرمي على خراسان وأوقع الخوارج بأهل قرية الحمراء من أعمال نيسابور وأكثروا فيها الفساد واتصل الخبر بالمأمون بعث إلى عبد الله وهو بالدينور يأمره بالخروج إلى خراسان ، فخرج إليها سنة ثلاث عشرة ومائتين

__________________

(١) أصله من الآن

١٨٠