إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ١

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٠

للدهقان إن أبا مسلم بالباب ويطلب منك ألف درهم ودابة ، فقالوا للدهقان ذلك فقال الدهقان : في أي زي هو وأي عدة ؟ فأخبروه أنه وحده في أدون زي ، فسكت ساعة ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له وقال : يا أبا مسلم قد أسعفناك بما طلبت وإن عرضت حاجة أخرى فمن بين يديك ، فقال : ما نضيع لك ما فعلته ، فلما ملك قال له بعض أقاربه : إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي ، فقال أبو مسلم : له عندنا يد ، فلما ملك نيسابور أتته هدايا الفاذوسيان فقيل له لا تقبلها واطلب منه الأموال ، فقال : له عندي يد ، ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله ، وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة. اه.

ولاية صالح بن علي بن عبد الله بن العباس

من سنة ١٣٧ إلى سنة ١٥٢

قال في زبدة الحلب : ولما عاد أبو مسلم من الشام ولى المنصور حلب وقنسرين وحمص صالح بن علي بن عبد الله بن العباس سنة سبع وثلاثين ومائة ، فنزل حلب فابتنى بها خارج المدينة قصرا يقال له بطياس بالقرب من النيرب وآثاره باقية إلى الآن ، ومعظم أولاده ولدوا ببطياس ، وقد ذكرها البحتري وغيره في أشعارهم ، وأغزى الصائفة مع ابنه الفضل في سنة تسع وثلاثين وماية بأهل الشام وهي أول صائفة غزيت في خلافة بني العباس ، وكانت انقطعت الصوائف في أيام بني أمية قبل ذلك بسنين ، ودام صالح في ولاية حلب إلى أن مات في سنة اثنين وخمسين ومائة ، ورأيت فلوسا عتيقة فتتبعت ما عليها مكتوب فإذا أحد الجانبين مكتوب عليه [ ضرب هذا الفلس بمدينة حلب سنة ست وأربعين وماية ] وعلى الجانب الآخر [ مما أمر به الأمير صالح بن علي أكرمه الله ] اه.

قال في الكواكب المضية : قال الشيخ علاء الدين بن خطيب الناصرية الطائي الشافعي رحمه‌الله تعالى : وقد نزل حلب المحروسة جماعة من بني هاشم واختاروها دون بقية البلاد منهم صالح بن علي بن عبد الله بن العباس وابتنى قصره ببطياس وكان على الرابية المشرفة على النيرب من جهة الغرب والشمال وموضع إسطبله عن يمين المتوجه والطريق

١٤١

بينهما وسكنه هو وبنوه ، وقال ابن خلكان وهو بين النيرب والصالحية وهما قريتان شرقي حلب ، وتوفي صالح بن علي المذكور سنة اثنتين وخمسين ومائة وهو على قنسرين وحمص وعمره ثمان وخمسون سنة.

قال ابن الأثير في حوادث سنة تسع وثلاثين ومائة : وفي هذه السنة فرغ صالح بن علي والعباس بن محمد من عمارة ما أخربه الروم من ملطية ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم ، وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة بنتا علي وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله اه.

ولاية الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس

من سنة ١٥٢ إلى سنة ١٥٤

قال في زبدة الحلب : ولما مات صالح تولى حلب وقنسرين بعده ولده الفضل بن صالح واختار له العقبة بحلب فسكنها وأقام بحلب واليا مدة. اه.

وقال في الكواكب المضية : قال الصاحب : سكن الفضل بن صالح حلب واختار محلة العقبة فبنى دوره فيها ، وهي أشرف نواحي حلب وأفضلها اه.

وقال فيه : كان الفضل عالما فاضلا ناله نقرس فدخل إليه أبوه يعوده فقال له : كيف أنت ؟ فقال :

أشكو إلى الله ما أصبت به

من علة في أسافل القدم

كأنني لم أطأ بها كبدا

من حاسد سر قلبه ألمي

فالحمد لله لا شريك له

لحمي للأرض بعدها ودمي

ما من صحيح إلا ستنقله

الأيام من صحة إلى سقم

ومن شعره :

و سدته المدام إحدى يديه

و تمشت بالنوم في مقلتيه

١٤٢

صاحب ما منحته الودّ إلا

بعد علم من... لديه (١)

يا كريما عليّ تفديك نفسي

من أخ لم أزل كريما عليه

وأنشد له حمزة الأصبهاني في كتاب الأوصاف في البهار :

كم في الربيع بساتينا ومنتزها

فالنور مختلف والروض مشتبه

ترى البهار صفوفا في جوانبه

كأنها أعين تغفي وتنتبه

قال ابن شاكر في عيون التواريخ في حوادث سنة ١٧٢ : وفيها توفي الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس أمير دمشق وولي الديار المصرية أيضا ، وهو الذي عمل أبواب جامع دمشق وبنى القبة التي في الصحن وتعرف بقبة المال ، وهو ابن عم المنصور والسفاح رحمهم‌الله تعالى.

وقال في الكواكب المضية : قال الطبري : ولد الفضل بن صالح سنة اثنتين وعشرين وماية ومات بعانات من أرض الجزيرة عند منصرفه من العراق وقبره بها اه.

ولاية موسى بن سلمان الخراساني من سنة ١٥٤ إلى سنة ١٥٨

قال في زبدة الحلب : ثم ولى المنصور بعده ( أي بعد الفضل بن صالح ) موسى بن سليمان الخراساني ، ومات المنصور سنة ثمان وخمسين وموسى على قنسرين وحلب. ورأيت فلوسا عتيقة فقرأت عليها ( ضرب هذا الفلس بقنسرين سنة سبع وخمسين وماية ) وعلى الجانب الآخر ( مما أمر به الأمير موسى مولى أمير المؤمنين ).

قال ابن جرير الطبري في حوادث سنة ١٥٤ : وفي هذه السنة عزم المنصور فيما ذكر على بناء مدينة الرافقة ، فذكر عن محمد بن جابر عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها امتنع أهل الرقة وأرادوا محاربته وقالوا : تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعائشنا وتضيق منازلنا ، فهم بمحاربتهم وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك فقال له : هل لك علم بأن إنسانا يبني ههنا مدينة ؟ فقال : بلغني أن رجلا يقال له مقلاص يبنيها ، فقال : أنا والله مقلاص اه.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعله مما يكون لديه.

١٤٣

وقال في حوادث سنة ١٥٥ : وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء الرافقة فشخص إليها فبناها على بناء مدينة بغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسوّر سورها وخندقها ثم انصرف إلى مدينته.

وقال في حوادث سنة ١٥٨ : وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان اه.

قال في معجم البلدان : ( الرافقة ) الفاء قبل القاف ، قال أحمد بن الطيب : الرافقة بلد متصل البناء بالرقة وهما على ضفة الفرات وبينهما مقدار ثلاثمائة ذراع ، قال : وعلى الرافقة سوران بينهما فصيل ، وهي على هيئة مدينة السلام ولها ربض بينها وبين الرقة وبه أسواقها وقد خرب بعض أسوار الرقة ، قلت : هكذا كانت أولا فأما الآن فإن الرقة قد خربت وغلب اسمها على الرافقة وصار اسم المدينة الرقة ، وهي من أعمال الجزيرة مدينة كبيرة كثيرة الخير. قال أحمد بن يحيى : لم يكن للرافقة أثر قديم إنما بناها المنصور في سنة ١٥٥ على بناء مدينة بغداد ورتب بها جندا من أهل خراسان وجرى ذلك على يد المهدي وهو ولي عهده ، ثم إن الرشيد بنى قصورها ، وكان فيما بين الرقة والرافقة فضاء وأرض ومزارع فلما قام علي بن سليمان بن علي واليا على الجزيرة نقل أسواق الرقة إلى تلك الأرض.

وكان سوق الرقة الأعظم فيما مضى يعرف بسوق هشام العتيق ، فلما قدم الرشيد الرقة استزاد في تلك الأسواق وكان يأتيها ويقيم بها فعمرت مدة طويلة. اه.

ولاية الهيثم بن علي من سنة ١٥٨ إلى سنة ١٥٩

لم أجد نقل تعيينه وإنما وجدت نقل عزله في هذه السنة ، قال ابن جرير الطبري في حوادث سنة ١٥٨ : فيها عزل الهيثم بن علي عن الجزيرة واستعمل عليها الفضل بن صالح.

ولاية الفضل بن صالح من سنة ١٦٠ إلى سنة ١٦٢

قال ابن جرير في حوادث سنة ١٦٠ : وفيها كان على الجزيرة الفضل بن صالح.

وقال ابن الأثير في حوادث سنة ١٦١ : وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل

١٤٤

بدابق وجاشت الروم مع مخائيل في ثمانين ألفا ، فأتى عمق ومرعش فقتل وسبى وغنم ، وأتى مرعش فحاصرها فقاتلهم فقتل من المسلمين عدة كثيرة ، وكان عيسى بن علي مرابطا بحصن مرعش فانصرف الروم إلى جيحان وبلغ الخبر المهدي فعظم عليه وتجهز لغزو الروم على ما سنذكره سنة اثنتين وستين وماية فلم يكن للمسلمين صائفة من أجل ذلك. اه.

ولاية عبد الصمد بن علي من سنة ١٦٢ إلى سنة ١٦٣

قال ابن جرير في حوادث سنة ١٦٢ : إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بن علي ، وقال في حوادث هذه السنة : ذكر أن عبد السلام بن هاشم اليشكري خرج بالجزيرة وكثر بها أتباعه واشتدت شوكته فلقيه قواد المهدي عدة ، منهم عيسى بن موسى القائد فقتله في عدة ممن معه وهزم جماعة من القواد ، فوجه إليه المهدي الجنود فكتب غير واحد من القواد منهم شبيب بن واج المروزي ، ثم ندب إلى شبيب ألف فارس وأعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة وألحقهم بشبيب فوافاه فخرج شبيب في إثر عبد السلام فهرب منهم حتى أتى قنسرين فلحقه بها فقتله اه.

قال أبو الفدا في حوادث سنة ١٥٨ : فيها مات عم المنصور عبد الصمد بن علي ابن عبد الله بن عباس وكان في القرب إلى عبد مناف بمنزلة يزيد بن معاوية وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة.

وقال ابن جرير في حوادث هذه السنة : فيها مات عبد الصمد بن علي ببغداد ولم يكن ثغر قط فأدخل القبر بأسنان الصبي وما نقص له سن. اه.

ولاية زفر بن عاصم الهلالي سنة ١٦٣ ثم عزله فيها

وولاية عبد الله بن صالح بن علي

قال ابن الأثير في حوادث سنة ١٦٣ : في هذه السنة تجهز المهدي لغزو الروم ، فخرج وعسكر بالبردان وجمع الأجناد من خراسان وغيرها وسار عنها ، وكان قد توفي عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس في جمادى الآخرة ، وسار المهدي من الغد واستخلف

١٤٥

على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب معه ابنه هارون الرشيد ، وسار على الموصل والجزيرة وعزل عنها عبد الصمد بن علي في مسيره ذلك.

وقال ابن جرير في حوادث سنة ١٦٣ : وفي هذه السنة سنة مسير المهدي مع ابنه هارون عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي ، والسبب في عزله أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل وعلى الجزيرة عبد الصمد ابن علي ، فلما شخص المهدي من الموصل وصار بأرض الجزيرة لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلا ولا أصلح له قناطر فاضطغن ذلك عليه المهدي ، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء ، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها فردها عليه وازداد عليه سخطا وأمر بإقامة النزل له فتعبث في ذلك وتقنع ولم يزل يربي ما يكرهه إلى أن نزل حصن مسلمة فدعا به وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي ، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله فأمر بحبسه وعزل عن الجزيرة ولم يزل في حبسه في سفره ذلك ، وبعد أن رجع رضي عنه وأقام له العباس بن محمد النزل. قال ابن الأثير : ولما حاز المهدي قصر مسلمة بن عبد الملك قال العباس بن محمد بن علي ( هو عم المهدي كما في ابن خلدون ) للمهدي : إن لمسلمة في أعناقنا منة ، كان محمد بن علي مر به فأعطاه أربعة آلاف دينار وقال له : إذا نفدت فلا تحتشمنا ، فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأمر لهم بعشرين ألف دينار وأجرى عليهم الأرزاق وعبر الفرات إلى حلب وأرسل وهو بحلب فجمع من بتلك الناحية من الزنادقة فجمعوا فقتلهم وقطع كتبهم بالسكاكين ( وفي ابن جرير بعث وهو بحلب عبد الجبار المحتسب لحلب من بتلك الناحية من الزنادقة ففعل وأتاه بهم وهو بدابق فقتل جماعة منهم وصلبهم ، وأتى بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده وأمر بالرحلة ) وسار عنها ( عن حلب أو دابق ) مشيعا لابنه هارون الرشيد حتى جاز الدرب وبلغ جيحان ، فسار هارون ومعه عيسى بن موسى وعبد الملك بن صالح والربيع والحسن بن قحطبة والحسن وسليمان بن برمك ويحيى بن خالد بن برمك ، وكان إليه أمر العسكر والنفقات والكتابة وغير ذلك ، فساروا فنزلوا على حصن سمالوا فحصره هارون ثمانية وثلاثين يوما ونصب عليه المجانيق ففتحه الله عليهم بالأمان ووفى لهم وفتحوا فتوحا كثيرة ، ولما عاد المهدي من الغزاة زار بيت المقدس ومعه يزيد بن منصور والعباس بن محمد بن علي والفضل

١٤٦

ابن صالح بن علي وعلي بن سليمان بن علي وقفل المسلمون سالمين إلا من قتل منهم وعزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين ثم رده.

ثم قال : وفي هذه السنة ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك. وفيها عزل زفر ابن عاصم عن الجزيرة واستعمل عليها عبد الله بن صالح بن علي. اه.

قال ابن جرير : وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس فأعجب بما رأى من منزله بسلمية.

سنة ١٦٥

غزو الرشيد بلاد الروم وبلوغه القسطنطينية

قال ابن جرير : فيها غزا هارون بن محمد المهدي الصائفة ، وجهه أبوه فيما ذكر يوم السبت لأحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيا إلى بلاد الروم في خمسة وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا ، وضم إليه الربيع مولاه فوغل هارون في بلاد الروم فافتتح ماجده ولقيته خيول نقيطاقومس القوامسة فبارزه يزيد بن مزيد فأرجل يزيد ثم سقط نقيطا فضربه يزيد حتى أثخنه وانهزمت الروم وغلب يزيد على عسكرهم وساروا إلى الدمستق بنقموديه ، وهو صاحب المسالح فحمل لهم من العين مائة ألف دينار وأربعة وتسعين ألفا وأربعمائة وخمسين دينارا ومن الورق أحدا وعشرين ألف ألف وأربعماية ألف وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم ، وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي على القسطنطينية وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة إليون ، وذلك أن ابنها كان صغيرا قد هلك أبوه وهو في حجرها فجرت بينها وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطاء الفدية ، فقبل ذلك منها هارون وشرط عليها الوفاء بما أعطت له وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه ، وذلك أنه دخل مدخلا صعبا مخوفا على المسلمين ، فأجابته إلى ما سأل ، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار تؤديها في نيسان الأول في كل سنة وفي حزيران ، فقبل ذلك منها فأقامت له الأسواق في منصرفه ووجهت معه رسولا إلى المهدي بما بذلت على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض ،

١٤٧

وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين وسلمت الأسارى وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسا ، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفا وقتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا ، ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدواتها عشرون ألف دابة وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس ، وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفا بدرهم ، فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك :

أطفت بقسطنطينة الروم مسندا

إليها القنا حتى اكتسى الذلّ سورها

و ما رمتها حتى أتتك ملوكها

بجزيتها والحرب تغلي قدورها

وقال في حوادث سنة ١٦٦ : وقفل هارون ومن كان معه من خليج القسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه.

ولاية علي بن سليمان سنة ١٦٨

لم أقف على تاريخ تعيينه لكنه في هذه السنة كان واليا على هذه البلاد من قبل الرشيد قبل أن يلي الخلافة.

قال ابن جرير في حوادث السنة المذكورة : فيها نقض الروم الصلح الذي كان جرى بينهم وبين هارون بن المهدي وغدروا ، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة ، فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم اثنان وثلاثون شهرا فوجه علي بن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا. اه.

سنة ١٧٠

في هذه السنة ولي هارون الرشيد الخلافة ، قال ابن جرير : وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزا واحدا وسميت العواصم اه.

قال ياقوت : العواصم : هو جمع عاصم وهو المانع ومنه قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وهو صفة فلذلك دخله الألف واللام ، والعواصم حصون

١٤٨

موانع وولاية تحيط بها بين حلب وأنطاكية وقصبتها أنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال ، فسميت بذلك ، وربما دخل في هذا ثغور المصيصة وطرسوس وتلك النواحي ، وزعم بعضهم أن حلب ليست منها وبعضهم يزعم أنها منها ، ودليل من قال إنها ليست منها أنهم اتفقوا على أنها من أعمال قنسرين وهم يقولون قنسرين والعواصم والشيء لا يعطف على نفسه وهو دليل حسن والله أعلم.

وقال أحمد بن محمد بن جابر : لم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى كان زمان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وأنطاكية ومنبج وذواتها جندا ، فلما استخلف الرشيد أفرد قنسرين بكورها فصيره جندا ، وأفرد منبج ودلوك ورعبان وقورس وأنطاكية وتيزين وما بين ذلك من الحصون فسماها العواصم ، لأن المسلمين كانوا يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر ، وجعل مدينة العواصم منبج وأسكنها عبد الملك بن صالح بن عبد الله بن عباس في سنة ١٧٣ فبني فيها أبنية مشهورة ، وذكرها المتنبي في مدح سيف الدولة :

لقد أوحشت أرض الشام طرا

سلبت ربوعها ثوب البهاء

تنفّس والعواصم منك عشر

فتعرف طيب ذلك في الهواء

ولم أقف على من ولي أمر هذه البلاد سنة ١٦٩ وسنة ١٧٠ من طرف الرشيد حينما كان واليا عاما على هذه البلاد قبل أن يلي الخلافة ومن وليها سنة ١٧١ بعد أن وليها ، ويغلب على الظن أنها ظلت على علي بن سليمان.

سنة ١٧٢

قال ابن جرير : غزا الصائفة فيها إسحق بن سليمان بن علي.

ولاية عبد الملك بن صالح بن علي

من سنة ١٧٣ إلى ١٧٥

تقدم النقل عن ياقوت في معجم البلدان أنه ولي العواصم من قبل الرشيد عبد

١٤٩

الملك بن صالح سنة ١٧٣. وقال ابن جرير في حوادث سنة ١٧٤ و١٧٥ : فيهما غزا الصائفة عبد الملك بن صالح. قال في زبدة الحلب : لما أفضى الأمر إلى الرشيد ولي حلب وقنسرين عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله فأقام بمنبج وابتنى بها قصرا لنفسه وبستانا إلى جانبه ، ويعرف البستان إلى يومنا هذا ببستان القصر ، وكانت ولايته سنة خمس وسبعين ومائة ثم صرفه لأمر عتب عليه فيه.

ولاية موسى بن عيسى سنة ١٧٦

ثم ولاية موسى بن يحيى بن خالد بن برمك في هذه السنة

قال ابن جرير في حوادث هذه السنة : فيها هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية ، ورأس اليمانية يومئذ أبو الهيذام وعامل السلطان بالشام موسى بن عيسى ، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير ، فولى الرشيد موسى بن يحيى ابن خالد الشام وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة.

وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك فافتتح حصنا.

ترجمة موسى بن يحيى بن خالد :

قال في مختصر الذهبي : موسى بن يحيى بن خالد بن برمك من كبار أمراء الدولة ، ولاه الرشيد إمرة الشام في أيام فتنة أبي الهيذام فقدم وأصلح بين النزارية واليمانية ، وكان شابا شجاعا كافيا ذا دهاء ورأي ، عزم المأمون أن يوليه ثغر السند لشجاعته ، حكى عنه ابن هارون والأصمعي وعلي بن المديني. قال الذهبي لا أعلم متى توفي. اه.

سنة ١٧٧

غزا الصائفة فيها عبد الرزاق بن عبد الحميد الثعلبي.

سنة ١٧٨

غزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم.

١٥٠

ولاية جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك سنة ١٨٠

وعيسى بن العكي في هذه السنة

قال ابن جرير في حوادث هذه السنة : ومما كان فيها من ذلك العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها ، ولما حدثت وتفاقم أمرها اغتم بذلك من أمرهم الرشيد فعقد لجعفر بن يحيى على الشام وقال له : إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا ، فقال له جعفر : بل أقيك بنفسي ، فشخص في جملة القواد والكراع والسلاح وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسبب بن زهير وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة فأتاهم وأصلح بينهم وقتل زواقيلهم والمتلصصة منهم ولم يدع بها رمحا ولا فرسا ، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة وإطفاء تلك الثائرة ، واستخلف على الشام عيسى بن العكي وانصرف فازداد الرشيد له إكراما.

وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدا الرقة على طريق الموصل ، ولما وصل الموصل هدم سورها بسبب الخوارج الذين خرجوا منها ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنا. اه.

قال في القاموس في مادة ( السلم ) : وقصر السلام للرشيد بالرقة.

ترجمة جعفر بن يحيى البرمكي :

للبرامكة أخبار كثيرة في كتب التاريخ والأدب ، وجعفر هذا نابغة آلهم وواسطة عقدهم ، وله في تاريخ ابن خلكان ترجمة حافلة واسعة نقتطف اليسير منها هنا ونذكر بعضها في ترجمة عبد الملك بن صالح بن علي الآتية قريبا ، ومن أحب الوقوف عليها بتمامها فليرجع إليها في هذا التاريخ ، قال :

هو أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك بن جامان بن يستاشف البرمكي وزير هارون الرشيد بحالة انفرد بها ولم يشارك فيها ، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر. أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر ، وكان من ذوي

١٥١

الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة ، ويقال إنه وقع ليلة بحضرة هارون الرشيد زيادة على ألف توقيع ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه ، وكان أبوه ضمه إلى القاضي أبي يوسف الحنفي حتى علمه وفقهه ذكره ابن القادسي في كتاب أخبار الوزراء. واعتذر رجل إليه فقال له جعفر قد أغناك الله بالعذر منا عن الاعتذار إلينا وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك. ووقع إلى بعض عماله وقد شكا منه : قد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت. ومما ينسب إليه من الفطنة أنه بلغه أن الرشيد مغموم ، لأن منجما يهوديا زعم أنه يموت في تلك السنة يعني الرشيد وأن اليهودي في يده فركب جعفر إلى الرشيد فرآه شديد الغم فقال لليهودي : أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا وكذا يوما قال : نعم قال : وأنت كم عمرك ؟ قال : كذا وكذا أمدا طويلا فقال للرشيد : اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده ، فقتله وذهب ما كان بالرشيد من الغم وشكره على ذلك وأمر بصلب اليهودي فقال أشجع السلمي في ذلك :

سل الراكب الموفي على الجذع هل رأى

لراكبه نجما بدا غير أعور

و لو كان نجم مخبرا عن منية

لأخبره عن رأسه المتحير

يعرّفنا موت الإمام كأنه

يعرفنا أنباء كسرى وقيصر

أتخبر عن نحس لغيرك شؤمه

و نجمك بادي الشر يا شر مخبر

ومضى دم المنجم هدرا بحمقه. وكان جعفر من الكرم وسعة العطايا كما هو مشهور ، ويقال إنه لما حج اجتاز في طريقه بالعقيق وكانت سنة مجدبة فاعترضته امرأة من بني كلاب وأنشدته :

إني مررت على العقيق وأهله

يشكون من مطر الربيع نذورا

ما ضرهم إذ جعفر جار لهم

أن لا يكون ربيعهم ممطورا

ثم ساق ابن خلكان الأسباب التي دعت الرشيد أن يتغير عليه وعلى آل برمك كافة ، وقد اختلف فيها المؤرخون ولعلها كلها أسباب قوى بعضها بعضا ، إلى أن طفح الكيل مع الرشيد فأوقع بهم ونكبهم وقتل جعفر هذا سنة ١٨٧ ، ثم قال ابن خلكان : ومن أعجب ما يؤرخ من تقلبات الدنيا بأهلها ما حكاه محمد بن غسان بن عبد الرحمن

١٥٢

الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال دخلت على والدتي في يوم نحر فوجدت عندها امرأة برزة [ بارزة المحاسن ] في ثياب رثة فقالت لي والدتي : أتعرف هذه ؟ قلت : لا قالت : يا أمه ما أعجب ما رأيت ، فقالت : لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربعماية وصيفة وإني لأعد ابني عاقا لي ، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما مناي إلا جلد شاتين أفترش أحدهما وألتحف الآخر ، قال : فدفعت إليها خمسمائة درهم فكادت تموت فرحا بها ولم تزل تختلف إلينا حتى فرق الموت بيننا. اه.

وقال ابن خلكان في ترجمة يحيى بن خالد : ولما قتل هارون الرشيد جعفر بن يحيى حبس يحيى وابنه الفضل وكان حبسهما في الرافقة وهي الرقة القديمة مجاورة الرقة الجديدة وهي البلدة المشهورة الآن على شاطىء الفرات ويقال لهما الرقتان تغليبا لأحد الاسمين على الآخر ، ولم يزل يحيى في حبس الرافقة إلى أن مات في الثالث من المحرم سنة تسعين ومائة فجأة من غير علة وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه ابنه الفضل ودفن في شاطىء الفرات في ربض هرثمة ووجد في جيبه رفعة فيها مكتوب بخطه : قد تقدم الخصم والمدعى عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة ، فحملت الرقعة إلى الرشيد ولم يزل يبكي يومه كله وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه رحمهما‌الله تعالى.

وقال في ترجمة الفضل بن يحيى : إن ولادته كانت سنة سبع وأربعين ومائة وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم في السجن غداة جمعة بالرقة ، ولما بلغ الرشيد موته قال : أمري قريب من أمره ، وكذا كان فإنه توفي في هذه السنة في جمادى الآخرة.

وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : إن الفضل كان يقول : ما أحب أن يموت الرشيد لأن أمري قريب من أمره ، ولما مات صلى عليه أخوانه في القصر الذي كانوا فيه ثم أخرج فصلى عليه الناس ، وجزع الناس عليه وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله ، ولاشتهار أخبار أهله وحسن سيرتهم لم نذكرها.

سنة ١٨١

قال ابن جرير : فيها غزا الروم عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة. وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥٣

ولاية إسماعيل بن صالح بن علي سنة ١٨٢

قال في زبدة الحلب : ثم إن الرشيد ولى حلب وقنسرين إسماعيل بن صالح بن علي لما عزله عن مصر سنة اثنتين وثمانين وماية وأقطعه ما كان له بحلب في سوقها وهي الحوانيت التي بين باب أنطاكية إلى رأس الدلبة ، ثم عزله وولاه دمشق.

قال ابن جرير : وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ أفسوس مدينة أصحاب الكهف.

ولاية عبد الملك بن صالح مرة ثانية

من سنة ١٨٢ إلى سنة ١٨٧

قال في زبدة الحلب : ثم ولى الرشيد بعده عبد الملك بن صالح بن علي ثانية ، فسعى به ابنه عبد الرحمن إلى الرشيد وأوهمه أنه يطمع في الخلافة ، فاستشعر منه وقبض عليه في سنة سبع وثمانين وماية. اه.

سنة ١٨٣

ذكر بناء الهارونية

قال في المعجم ناقلا عن البلاذري في فتوح البلدان : لما كانت سنة ١٨٣ أمر الرشيد ببناء الهارونية بالثغر ، فبنيت وشحنت بالمقاتلة ومن نزع إليها من المطوعة ونسبت إليه ، ويقال إنه بناها في خلافة أبيه المهدي ، وتمت في أيام ابنه ، ثم استولى عليها العدو لسبع بقين من شوال سنة ٣٤٨ وسبى من أهلها ألفا وخمسمائة مسلم ما بين امرأة ورجل وصبي ، ثم خربها الروم فأرسل سيف الدولة غلامه قرعويه فأعاد عمارتها ، وهي اليوم من بلاد بني ليون الأرمني. اه.

١٥٤

قال ابن جرير في حوادث سنة ١٨٤ : فيها قدم هارون مدينة السلام منصرفا إليها من الرقة في الفرات في السفن.

وقال في حوادث سنة ١٨٥ وشخص الرشيد فيها إلى الرقة على طريق الموصل.

وقال في حوادث سنة ١٨٦ : وحج بالناس فيها هارون الرشيد ، وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان ، ثم قال : وحج معه محمد وعبد الله وقواده ووزراؤه وقضاته ، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر وأشخص القاسم ابنه إلى منبج ، فأنزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند.

ولاية القاسم بن الرشيد سنة ١٨٧ و١٨٨ و١٨٩

قال ابن جرير في حوادث سنة ١٨٧ : فيها غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه ، وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة فوهبه الله تعالى وجعله قربانا له ووسيلة وولاه العواصم ، وفيها دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان فأناخ على قرّة وحاصرها ، ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا فبعثت إليه الروم تبذل له ثلثمائة وعشرين رجلا من أسارى المسلمين على أن يرحل عنهم ، فأجابهم إلى ذلك ورحل عن قرة وحصن سنان صلحا. ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم وهو مع القاسم. اه.

وقال في حوادث سنة ١٨٨ و١٨٩ : فيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.

وقال في حوادث سنة ١٨٩ : فيها توجه الرشيد إلى بلاد الري وعاد منها إلى بغداد ، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى وطوى بغداد ولم ينزلها ، ومضى من فوره متوجها إلى الرقة فنزل السيلحين. وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قال لما ورد بغداد : والله إني لأطوي مدينة ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها ، وإنها لوطني ووطن آبائي ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها ، وما رأى أحد من آبائي

١٥٥

سوءا ولا نكبة منها ولا سيء بها أحد منهم قط ، ولنعم الدار هي ، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجر اللعنة بني أمية ، مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل ، ولو لا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدا.

أقول : وبه تتضح الأسباب التي دعت الرشيد إلى اتخاذ الرقة وطنا.

ولاية عبد الله المأمون بن الرشيد سنة ١٩٠

قال ابن جرير : وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به وهو خاتم الخاصة نقشه ( الله ثقتي آمنت به ).

وفيها فتح الرشيد هرقلة وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم وكان دخلها فيما قيل في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له ، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائحا في أرض الروم في سبعين ألفا. وافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودمسة وافتتح يزيد ابن مخلد الصفصاف ومقلوبية ، وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوما عليها ، وكان شخوصه إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب ، واتخذ قلنسوة مكتوبا عليها [ غاز حاج ] ثم صار الرشيد إلى الطوانة فعسكر بها ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر وأمره بناء منزل هنالك ، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار ، منها عن رأسه أربعة دنانير وعن رأس ابنه استبراق دينارين ، وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتابا نسخته : لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم ، سلام عليك ، أما بعد أيها الملك ، إن لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك هينة يسيرة ، أن تهب لابني جارية من بنات هرقلة كنت قد خطبتها على ابني ، فإن رأيت أن تسعفني بحاجتي فعلت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، واستهداه أيضا طيبا وسرادقا من سرادقاته ،

١٥٦

فأمر الرشيد بطلب الجارية فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلا فيه وسلمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور وبعث إليه بما سأل من العطر وبعث إليه من التمور والأخبصة والزبيب والترياق ، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد فأعطاه نقفور وقر دراهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغه خمسين ألف درهم ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزبون واثني عشر بازيا وأربعة كلاب من كلاب الصيد وثلاثة براذين ، وكان نقفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صله ولا حصن سنان ، واشترط الرشيد عليه ألا يعمر هرقلة وعلى أن يحمل نقفور ثلثماية ألف دينار. اه.

سنة ١٩١

قال ابن الأثير : فيها استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان وضم إليه ثلاثين ألفا من أهل خراسان ، ورتب الرشيد بدرب الحدث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن مسلم بن قتيبة ، فأغارت الروم عليها فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرك سعيد من موضعه ، وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس ، وأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من رمضان وعاد إلى الرقة ، وأمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور وأخذ أهل الذمة بمخالفة المسلمين في لباسهم وركوبهم ، وأمر هرثمة ببناء طرسوس وتمصيرها ، ففعل ، وتولى ذلك فرخ الخادم بأمر الرشيد وسير إليها جندا من أهل خراسان ثلاثة آلاف ، ثم أشخص إليهم ألفا من أهل المصيصة وألفا من أهل أنطاكية ، وتم بناؤها سنة اثنتين وتسعين ومائة وبنى مسجدها. اه.

ولاية القاسم بن الرشيد وخزيمة بن خازم سنة ١٢٩

قال ابن الأثير : فيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث ، وكان مريضا ، واستخلف على الرقة ابنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم.

سنة ١٩٣

قال ابن جرير : في هذه السنة مات هارون الرشيد في مدينة طوس ودفن في بستان

١٥٧

من بساتينها. وفيها بويع محمد الأمين بن هارون بالخلافة. وفيها كان بدء اختلاف الحال بين الأمين وأخيه المأمون عبد الله وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه ، وأقر محمد بن هارون أخاه القاسم بن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة واستعمل عليها خزيمة بن خازم ، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم.

سنة ١٩٤

قال ابن جرير : فيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة وقنسرين والعواصم والثغور وولى مكانه خزيمة بن خازم وأمره بالمقام بمدينة السلام. اه.

ترجمة القاسم بن الرشيد :

قال في مختصر الذهبي : القاسم بن هارون بن عبد الله بن محمد بن علي العباسي المؤتمن بن الرشيد ، كان أبوه قد جعله ولي العهد بعد الأمين والمأمون وشرط للمأمون إن شاء أن يقره وإن شاء أن يخلعه خلعه ، فخلعه سنة ثمان وتسعين ومائة وتوفي سنة ثمان ومائتين وله خمس وثلاثون سنة. اه.

ترجمة خزيمة بن خازم :

قال في مختصر الذهبي : خزيمة بن خازم بن خزيمة الخرساني الأمير من كبار قواد المأمون ومن أبناء الدولة العباسية ، له ذكر في الحروب ، روى عن ابن أبي ذئب وعن يعقوب ابن يوسف ، توفي سنة ثلاث ومائتين بعد ما عمي. اه. والعبارات المتقدمة تفيد أنه من قواد الرشيد والأمين ، وهو كذلك إلا أنه بعد الرشيد ترك ولده الأمين ولحق بالمأمون بطلب من طاهر بن الحسين كما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ١٩٨ ، وطاهر بن الحسين من قواد المأمون وهو المشيد لأركان الخلافة للمأمون وهو القاتل للخليفة محمد الأمين.

١٥٨

ولاية عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله

ابن عباس للمرة الثالثة ١٩٦

قال ابن جرير : وفي هذه السنة ولى محمد بن هارون عبد الملك بن صالح بن علي على الشام وأمره بالخروج إليها وفرض له من رجالها جنودا يقاتل بها طاهرا وهرثمة.

قال ابن جرير : إن طاهرا لما قوي واستعلى أمره وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه دخل عبد الملك بن صالح على محمد وكان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد ( كما تقدم ) فلما توفي الرشيد وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله ، وذلك في ذي القعدة سنة ١٩٣ فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته ، فقال : يا أمير المؤمنين إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك وقد بذلت سماحتك ، فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم ، وليس تملك الجنود بالإمساك ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف ، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم ونكولا عن لقائهم ومناهضتهم ، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم ، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب وأدبتهم الشدائد وجلهم منقاد إليّ مسارع إلى طاعتي ، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا يعظم نكايتهم في عدوه ويؤيد الله بهم أوليائه وأهل طاعته ، فقال محمد : فإني موليك أمرهم ومقويك بما سألت من مال وعدة فعجل الشخوص إلى ما هنالك فاعمل عملا يظهر أثره ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله ، فولاه الشام والجزيرة واستحثه بالخروج استحثاثا شديدا ووجهه معه كنفا من الجند والأتباع. قال : فسار عبد الملك بن صالح إلى الشام ، فلما بلغ الرقة أقام بها وأنفذ رسله وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة ، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته ، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس وجماعة بعد جماعة ، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه وخلع عليه ، فأتاه أهل الشام الزواقيل والأعراب من كل فج واجتمعوا عنده حتى كثروا.

١٥٩

ثم إن عبد الملك مرض واشتد مرضه وتوفي في هذه السنة ودفن في دار من دور الإمارة بالرقة.

ترجمة عبد الملك بن صالح العباسي :

قدمنا في حوادث ١٧٠ أن الرشيد عزل الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وسميت العواصم وجعل مدينة العواصم منبج وأسكنها عبد الملك بن صالح بن علي.

قال ياقوت في معجم البلدان في الكلام على منبج : إن عبد الملك ولد بها وكان رجل قريش ولسان بني العباس ومن يضرب به المثل في البلاغة ، وكان لما دخل الرشيد إلى منبج قال له : هذا البلد منزلك ، قال : يا أمير المؤمنين هو لك ولي بك ، قال : كيف بناؤه ؟ فقال : دون بناء أهلي وفوق منازل غيرهم ، قال : كيف صفتها ؟ قال : طيبة الهواء قليلة الأدواء ، قال : كيف ليلها ؟ قال : سحر كله ، قال : صدقت إنها لطيبة ، قال : بل طابت بأمير المؤمنين ، وأين يذهب بها عن الطيب وهي برة حمراء وسنبلة صفراء وشجرة خضراء في فياف فيح بين قيصوم وشيح ، فقال الرشيد : هذا الكلام والله أحسن من الدر النظيم. اه.

وقال الملا في مختصره لتاريخ الذهبي في ترجمته : ولي المدينة والصوائف للرشيد ، ثم ولي الشام والجزيرة للأمين ، وحدث عن أبيه ومالك بن أنس ، روى عنه ابنه علي والأصمعي وفليح بن إسماعيل حكايات وعن عبد الرحمن مؤدب أولاد عبد الملك ، قال : قال عبد الملك : لا تطرني في وجهي فأنا أعلم بنفسي منك ولا تعني على ما يقبح ودع كيف أصبح الأمير وكيف أمسى واجعل مكان التعرض لي صواب الاستماع مني. وعن إبراهيم النديم قال : كنت بين يدي الرشيد والناس يعزونه في طفل ويهنونه في مولود ولد تلك الليلة فقال عبد الملك : يا أمير المؤمنين آجرك الله فيما ساءك ولا ساءكم في سرك وجعل هذه بهذه جزاء للشاكر وثوابا للصابر. قال وأراد يحيى بن خالد أن يضع من عبد الملك إرضاء للرشيد فقال له : يا عبد الملك بلغني أنك حقود ، فقال : أيها الوزير إن كان الحقد هو بقاء الخير والشر إنهما لباقيان في قلبي ، فقال الرشيد : ما رأيت أحدا احتج للحقد بأحسن من هذا.

١٦٠