كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

والقاهرة إذ ذاك من يشكو زمانه البتة إلى أن نكّد بالراهب على الناس ، فقبحت سيرته وكثر ظلمه واغتصابه للأموال.

وفي أيامه ملك الفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل الشام ، فملكت عكافي شعبان سنة سبع وتسعين ، وغزة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة ، وطرابلس في ذي الحجة منها ، وبانياس وجبيل وقلعة تبنين فيها أيضا ، وملكوا صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة ، وكثرت المرافعات في أيامه ، وأحدثت رسوم لم تكن ، وعمر الهودج بالروضة ، ودكة ببركة الحبش ، وعمر تنيس ودمياط ، وجدّد قصر القرافة ، وكانت نفسه تحدّثه بالسفر والغارة إلى بغداد ، ومن شعره في ذلك :

دع اللوم عني لست مني بموثق

فلا بدّلي من صدمة المتحقق

وأسقي جيادي من فرات ودجلة

وأجمع شمل الدين بعد التفرّق

وقال :

أما والذي حجت إلى ركن بيته

جراثيم ركبان مقلدة شهبا

لاقتحمنّ الحرب حتى يقال لي

ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا

وينزل روح الله عيسى ابن مريم

فيرضى بنا صحبا ونرضى به صحبا

وكان أسمر شديد السمرة ، يحفظ القرآن ويكتب خطا ضعيفا ، وهو الذي جدّد رسوم الدولة وأعاد إليها بهجتها بعد ما كان الأفضل أبطل ذلك ، ونقل الدواوين والأسمطة من القصر بالقاهرة إلى دار الملك بمصر ، كما ذكر هناك. وقضاته ابن ذكا النابلسيّ ، ثم نعمة الله بن بشير ، ثم الرشيد محمد بن قاسم الصقليّ ، ثم الجليس بن نعمة الله بن بشير النابلسيّ ، ثم صرفه ثانيا بمسلم بن الرسغيّ ، وعزله بأبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربيّ ، ثم مات فولى محمد بن هبة الله بن ميسر ، وكتاب إنشائه سنا الملك أبو محمد الزبيديّ الحسنيّ ، والشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة ، وتاج الرياسة أبو القاسم بن الصيرفيّ ، وابن أبي الدم اليهوديّ. وكان نقش خاتمه : الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين. ووقع في آخر أيامه غلاء قلق الناس منه ، وكان جريئا على سفك الدماء وارتكاب المحظورات واستحسان القبائح ، وقتل وعمره أربع وثلاثون سنة وتسعة أشهر وعشرون يوما ، منها مدّة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر ونصف ، وما زال محجورا عليه حتى قتل الأفضل ، وكان يركب للنزهة دائما عند ما استبدّ ، في يومي السبت والثلاثاء ، ويتحوّل في أيام النيل بحرمه إلى اللؤلؤة على الخليج ، واختص بغلاميه برغش وهزار الملوك.

يلبغا السالميّ : أبو المعالي عبد الله الأمير سيف الدين الحنفيّ الصوفي الظاهريّ ، كان اسمه في بلاده يوسف ، وهو حرّ الأصل ، وآباؤه مسلمون. فلما جلب من بلاد المشرق سمي

٨١

يلبغا ، وقيل له السالميّ نسبة إلى سالم ، تاجره الذي جلبه ، فترقّى في خدم السلطان الملك الظاهر برقوق إلى أن ولّاه نظر خانقاه الصلاح سعيد السعداء ، في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة ، فأخرج كتاب الوقف وقصد أن يعمل بشرط الواقف ، وأخرج منها جماعة من بياض الناس ، فجرت أمور ذكرت في خبر الخانقاه. وفي سابع عشري صفر سنة ثمانمائة ، أنعم عليه الملك الظاهر بإمرة عشرة عوضا عن الأمير بهادر فطيلس ، ثم نقله إلى أمرة طبلخاناه ، ثم جعله ناظرا على الخانقاه الشيخونية بالصليبة ، في تاسع شعبان سنة إحدى وثمانمائة ، فعسف بمباشر بها وأراد حملهم على مرّ الحق ، فنفرت منه القلوب ، ولما مرض الظاهر جعله أحد الأوصياء على تركته ، فقام بتحليف المماليك السلطانية للملك الناصر فرج بن برقوق ، والإنفاق عليهم بحضرة الناصر ، فأنفق عليهم كل دينار من حساب أربعة وعشرين درهما ، ولما انقضت النفقة نودي في البلدان أنّ صرف كل دينار ثلاثون درهما ، ومن امتنع نهب ماله وعوقب ، فحصل للناس من ذلك شدّة ، وكان قد كثر القبض على الأمراء بعد موت الظاهر ، فتحدّث مع الأمير الكبير ايتمش القائم بتدبير دولة الناصر فرج بعد موت أبيه في أن يكون على كلّ أمير من المقدّمين خمسون ألف درهم ، وعلى كلّ أمير من الطبلخاناه عشرون ألف درهم ، وعلى كلّ أمير عشرة خمسة آلاف درهم ، وعلى كلّ أمير خمسة ألفا درهم وخمسمائة درهم. فرسم بذلك وعمل به مدّة ايام الناصر ، وحصل به رفق للأمراء ومباشريهم ، ثم خلع عليه واستقرّ أستادار السلطان عوضا عن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الملكيّ ، في يوم الاثنين ثالث عشري ذي القعدة من السنة المذكورة ، فأبطل تعريف منية بني خصيب ، وضمان العرصة ، وأخصاص الكيالين ، وكتب بذلك مرسوما سلطانيا وبعث به إلى والي الأشمونين ، وأبطل وفر الشون السلطانية ، وما كان مقرّرا على البرددار (١) وهو في الشهر سبعة آلاف درهم ، وما كان مقرّرا على مقدّم المستخرج ، وهو في الشهر ثلاثة آلاف درهم ، وكانت سماسرة الغلال تأخذ ممن يشتري شيئا من الغلة على كلّ أردب در همين سمسرة ، وكيالة ولواحة وأمانة ، فألزمهم أن لا يأخذوا عن كل أردب سوى نصف درهم ، وهدّد على ذلك بالغرامة والعقوبة.

وركب في صفر سنة ثلاث وثمانمائة إلى ناحية المنية وشبرا الخيمة من الضواحي بالقاهرة ، وكسر منها ما ينيف على أربعين ألف جرّة خمر ، وخرّب بها كنيسة كانت للنصارى ، وحمل عدّة جرار فكسرها تحت قلعة الجبل ، وعلى باب زويلة ، وشدّد على النصارى ، فلم يمكنه أمراء الدولة من حملهم على الصغار والمذلة في ملبسهم ، وأمر فضرب الذهب كلّ دينار زنته مثقال واحدا ، وأراد بذلك إبطال ما حدث من المعاملة بالذهب الإفرنجيّ ، فضرب ذلك وتعامل الناس به مدّة ، وصار يقال دينار سالميّ إلى أن

__________________

(١) البرددار : هو صاحب الستارة ، أو ممسك الستارة ، كان يقف بباب السلطان واللفظ فارسي مركب من «فردا» أي الستارة ، واستعملت «بردا» و «دار» أي ممسك. النجوم الزاهرة ج ٦ ص ١١٤.

٨٢

ضرب الناصر فرج دنانير وسماها الناصرية ، وصار يحكم في الأحكام الشرعية ، فقلق منه أمراء الدولة وقاموا في ذلك ، فمنع من الحكم إلّا فيما يتعلق بالديوان المفرد وغيره مما هو من لوازم الأستادار ، وأخذ في مخاشنة الأمراء عند ما عاد الناصر فرج وقد انهزم من تيمور لنك ، وشرع في إقامة شعار المملكة والنفقة على العساكر التي رجعت منهزمة ، فأخذ من بلاد الأمراء وبلاد السلطان عن كلّ ألف دينار فرسا أو خمسمائة درهم ثمنها ، وجبى من أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر ، وأخذ من الرزق عن كلّ فدّان عشرة دراهم ، وعن الفدّان من القصب المزروع والقلقاس والنيلة نحو مائة درهم ، وجبى من البساتين عن كلّ فدّان مائة درهم ، وقام بنفسه وكبس الحواصل ليلا ونهارا ومعه جماعة من الفقهاء وغيرهم ، وأخذ مما فيها من الذهب والفضة والفلوس نصف ما يجد ، سواء كان صاحب المال غائبا أو حاضرا ، فعمّ ذلك أموال التجار والأيتام وغيرهم من سائر من وجد له مال ، وأخذ ما كان في الجوامع والمدارس وغيرها من الحواصل ، فشمل الناس من ذلك ضرر عظيم ، وصار يؤخذ من كل مائة درهم ثلاثة دراهم عن أجرة صرف ، وستة دراهم عن أجرة الرسول ، وعشرة دراهم عن أجرة نقيب ، فنفرت منه القلوب وانطلقت الألسن بذمّه والدعاء عليه ، وعرض مع ذلك الجند وألزم من له قدرة على السفر بالتجهز للسفر إلى الشام لقتال تيمور لنك ، ومن وجده عاجزا عن السفر ألزمه بحمل نصف متحصل إقطاعه ، فقبض عليه في يوم الاثنين رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة ، وسلّم للقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب ، وقرّر مكانه في الاستادارية ، فلم يزل إلى يوم عيد الفطر من السنة المذكورة ، فأمر بإطلاقه بعد أن حصر وأهين إهانة كبيرة ، ثم قبض عليه وضرب ضربا مبرّحا حتى أشفى على الموت ، وأطلق في نصف ذي القعدة وهو مريض ، فأخرج إلى دمياط وأقام بها مدّة ، ثم أحضر إلى القاهرة وقلّد وظيفة الوزارة في سنة خمس وثمانمائة ، وجعل مشيرا ، فأبطل مكوس البحيرة وهو ما يؤخذ على ما يذبح من البقر والغنم ، واستعمل في أموره العسف ، وترك مداراة الأمراء ، واستعجل فقبض عليه وعوقب وسجن إلى أن أخرج في رمضان سنة سبع وثمانمائة وقلّد وظيفة الإشارة ، وكانت للأمير جمال الدين يوسف الأستادار ، فلم يترك عادته في الإعجاب برأيه والاستبداد بالأمور ، واستعجال الأشياء قبل أوانها ، فقبض عليه في ذي الحجة منها وسلّم للأمير جمال الدين يوسف ، فعاقبه وبعث به إلى الإسكندرية ، فسجن بها إلى أن سعى جمال الدين في قتله بمال بذله للناصر فيه حتى أذن له في ذلك ، فقتل خنقا عصر يوم الجمعة وهو صائم السابع عشر من جمادى الآخرة ، سنة إحدى عشرة وثمانمائة رحمه‌الله ، وكان كثير النسك من الصلاة والصوم والصدقة ، لا يخلّ بشيء من نوافل العبادات ، ولا يترك قيام الليل سفرا ولا حضرا ، ولا يصلي قط إلّا بوضوء جديد ، وكلما أحدث توضأ ، وإذا توضأ صلّى ركعتين ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ويخرج في كثرة الصدقات عن الحدّ ، ويقرأ فيه كلّ ثلاثة أيام ختمة ، ولا يترك أوراده في حال من

٨٣

الأحوال مع المروءة والهمة ، وسمع كثيرا من الحديث ، وقرأ بنفسه على المشايخ ، وكتب الخط المليح ، وقرأ القراءات السبع ، وعرف التصوّف والفقه والحساب والنجوم ، إلّا أنه كان متهوّرا في أخذ الأموال عسوفا لجوجا مصمما لا ينقاد إلى أحد ، ويستبدّ برأيه فيغلط غلطات لا تحتمل ، ويستخف بغيره ، ويعجب بنفسه ، ويريد أن يجعل غاية الأمور بدايتها ، فلذلك لم يتمّ له أمر.

جامع الظافر

هذا الجامع بالقاهرة في وسط السوق الذي كان يعرف قديما بسوق السرّاجين ، ويعرف اليوم بسوق الشوّايين ، كان يقال له الجامع الأفخر ، ويقال له اليوم جامع الفاكهيين ، وهو من المساجد الفاطمية ، عمره الخليفة الظافر بنصر الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الآمر بأحكام الله منصور ، ووقف حوانيته على سدنته ومن يقرأ فيه. قال ابن عبد الظاهر : بناه الظافر ، وكان قبل ذلك زريبة تعرف بدار الكباش ، وبناه في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وسبب بنائه أن خادما رأى من مشرف عال ذباحا وقد أخذ رأسين من الغنم ، فذبح أحدهما ورمى سكينته ومضى ليقضي حاجته ، فأتى رأس الغنم الآخر وأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة ، فجاء الجزّار يطوف على السكين ، فلم يجدها ، وأما الخادم فإنه استصرخ وخلصه منه ، وطولع بهذه القضية أهل القصر ، فأمروا بعمله جامعا ، ويسمى الجامع الأفخر ، وبه حلقة تدريس وفقهاء ومتصدّرون للقرآن ، وأوّل ما أقيمت به الجمعة في ... (١).

جامع الصالح

هذا الجامع من المواضع التي عمرت في زمن الخلفاء الفاطميين ، وهو خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر : كان الصالح طلائع بن رزيك لما خيف على مشهد الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه إذ كان بعسقلان من هجمة الفرنج ، وعزم على نقله ، قد بنى هذا الجامع ليدفنه به ، فلما فرغ منه لم يمكنه الخليفة من ذلك وقال : لا يكون إلّا داخل القصور الزاهرة ، وبنى المشهد الموجود الآن ودفن به ، وتمّ الجامع المذكور ، واستمرّ جلوس زين الدين الواعظ به ، وحضور الصالح إليه. فيقال أنّ الصالح لما حضرته الوفاة جمع أهله وأولاده وقال لهم في جملة وصيته : ما ندمت قط في شيء عملته إلّا في ثلاثة ، الأوّل بنائي هذا الجامع على باب القاهرة ، فإنه صار عونا لها. والثاني : توليتي لشاور الصعيد الأعلى. والثالث : خروجي إلى بلبيس بالعساكر وإنفاقي الأموال الجمة ، ولم أتم بهم إلى الشام وأفتح بيت المقدس واستأصل ساقة الفرنج. وكان قد أنفق في العساكر في تلك الدفعة مائة

__________________

(١) بياض في الأصل.

٨٤

ألف دينار ، وبنى في الجامع المذكور صهريجا عظيما ، وجعل ساقية على الخليج قريب باب الخرق تملأ الصهريج المذكور أيام النيل ، وجعل المجاري إليه ، وأقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزية في سنة بضع وخمسين وستمائة بحضور رسول بغداد الشيخ نجم الدين عبد الله البادرانيّ ، وخطب به أصيل الدين أبو بكر الأسعرديّ ، وهي إلى الآن ، ولما حدثت الزلزلة سنة اثنتين وسبعمائة تهدّم ، فعمر على يد الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار.

طلائع بن رزيك : أبو الغارات الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين ، قدم في أوّل أمره إلى زيارة مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه بأرض النجف من العراق في جماعة من الفقراء ، وكان من الشيعة الإمامية ، وإمام مشهد عليّ رضي‌الله‌عنه يومئذ السيد ابن معصوم ، فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك ، فرأى ابن معصوم في منامه عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وهو يقول له : قد ورد عليك الليلة أربعون فقيرا ، من جملتهم رجل يقال له طلائع بن رزيك من أكبر محبينا ، قل له اذهب فقد وليناك مصر. فلما أصبح أمر أن ينادي : من فيكم طلائع بن رزيك فليقم إلى السيد ابن معصوم. فجاء طلائع وسلّم عليه ، فقصّ عليه ما رأى ، فسار حينئذ إلى مصر وترقى في الخدم حتى ولي منية بني خصيب ، فلما قتل نصر بن عباس ، الخليفة الظافر ، بعث نساء القصر إلى طلائع يستغثن به في الأخذ بثار الظافر ، وجعلن في طيّ الكتب شعور النساء ، فجمع طلائع عندما وردت عليه الكتب الناس ، وسار يريد القاهرة لمحاربة الوزير عباس ، فعندما قرب من البلد فرّ عباس ودخل طلائع إلى القاهرة ، فخلع عليه خلع الوزارة ونعت بالملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين ، فباشر البلاد أحسن مباشرة ، واستبدّ بالأمر لصغر سنّ الخليفة الفائز بنصر الله إلى أن مات ، فأقام من بعده عبد الله بن محمد ولقبه بالعاضد لدين الله ، وبايع له ، وكان صغيرا لم يبلغ الحلم ، فقويت حرمة طلائع وازداد تمكنه من الدولة ، فثقل على أهل القصر لكثرة تضييقه عليهم ، واستبداده بالأمر دونهم ، فوقف له رجال بدهاليز القصر وضربوه حتى سقط على الأرض على وجهه ، وحمل جريحا لا يعي إلى داره ، فمات يوم الاثنين تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة ، وكان شجاعا كريما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جيد الشعر ، رجل وقته فضلا وعقلا وسياسة وتدبيرا ، وكان مهابا في شكله ، عظيما في سطوته ، وجمع أموالا عظيمة ، وكان محافظا على الصلوات فرائضها ونوافلها ، شديد المغالات في التشيع ، صنف كتابا سماه الاعتماد في الردّ على أهل العناد ، جمع له الفقهاء وناظرهم عليه ، وهو يتضمن إمامة عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، والكلام على الأحاديث الواردة في ذلك ، وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كلّ فن ، فمنه في اعتقاده :

يا أمة سلكت ضلالا بينا

حتى استوى إقرارها وجحودها

ملتم إلى أنّ المعاصي لم يكن

إلّا بتقدير الإله وجودها

٨٥

لو صح ذا كان الإله بزعمكم

منع الشريعة أن تقام حدودها

حاشا وكلّا أنّ يكون إلهنا

ينهى عن الفحشاء ثم يريدها

وله قصيدة سماها الجوهرية ، في الردّ على القدرية ، وجدّد الجامع الذي بالقرافة الكبرى ، ووقف ناحية بلقس على أن يكون ثلثاها على الأشراف من بني حسن وبني حسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم ، وسبع قراريط منها على أشراف المدينة النبوية ، وجعل فيها قيراطا على بني معصوم إمام مشهد عليّ رضي‌الله‌عنه ، ولما ولى الوزارة مال على المستخدمين بالدولة وعلى الأمراء ، وأظهر مذهب الإمامية وهو مخالف لمذهب القوم ، وباع ولايات الأعمال للأمراء بأسعار مقرّرة ، وجعل مدة كلّ متولى ستة أشهر ، فتضرّر الناس من كثرة تردّد الولاة على البلاد ، وتعبوا من ذلك ، وكان له مجلس في الليل يحضره أهل العلم ويدوّنون شعره ، ولم يترك مدّة أيامه غزو الفرنج وتسيير الجيوش لقتالهم في البرّ والبحر ، وكان يخرج البعوث في كل سنة مرارا ، وكان يحمل في كلّ عام إلى أهل الحرمين مكة والمدينة من الأشراف سائر ما يحتاجون إليه من الكسوة وغيرها ، حتى يحمل إليهم ألواح الصبيان التي يكتب فيها ، والأقلام والمداد وآلات النساء ، ويحمل كلّ سنة إلى العلويين الذين بالمشاهد جملا كبيرة ، وكان أهل العلم يغدون إليه من سائر البلاد ، فلا يخيب أمل قاصد منهم.

ولما كان في الليلة التي قتل صبيحتها قال : في هذه الليلة ضرب في مثلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وأمر بقربة ممتلئة فاغتسل وصلّى على رأي الإمامية مائة وعشرين ركعة ، أحيا بها ليله ، وخرج ليركب فعثر وسقطت عمامته عن رأسه وتشوّشت ، فقعد في دهليز دار الوزارة وأمر بإحضار ابن الضيف ، وكان يتعمم للخلفاء والوزراء ، وله على ذلك الجاري الثقيل ، فلما أخذ في إصلاح العمامة قال رجل للصالح : نعيذ بالله مولانا ، ويكفيه هذا الذي جرى أمرا يتطير منه ، فإن رأى مولانا أن يؤخر الركوب فعل ، فقال : الطيرة من الشيطان ، ليس إلى تأخير الركوب سبيل ، وركب فكان من ضربه ما كان ، وعاد محمولا فمات منها كما تقدّم.

ذكر الأحباس وما كان يعمل فيها

اعلم أن الأحباس في القديم لم تكن تعرف إلّا في الرباع وما يجري مجراها من المباني ، وكلها كانت على جهات برّ. فأما المسجد الجامع العتيق بمصر ، فكان يلي إمامته في الصلوات الخمس ، والخطابة فيه يوم الجمعة ، والصلاة بالناس صلاة الجمعة أمير البلد ، فتارة يجمع للأمير بين الصلاة والخراج ، وتارة يفرد الخراج عن الأمير ، فيكون الأمير إليه أمر الصلاة بالناس والحرب ، والآخر أمر الخراج ، وهو دون مرتبة أمير الصلاة والحرب ، وكان الأمير يستخلف عنه في الصلاة صاحب الشرطة إذا شغله أمر ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى

٨٦

أن ولي مصر عنبسة بن إسحاق بن شمر من قبل المستنصر بن المتوكل على الصلاة والخراج ، فقدمها لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، وأقام إلى مستهل رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين ، وصرف فكان آخر من ولي مصر من العرب ، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد الجامع ، وصار يصلّى بالناس رجل يرزق من بيت المال ، وكذلك المؤذنون ونحوهم ، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمّة من الصحابة والتابعين يتعرّضون لها ، وإنما حدث ذلك بعد عصرهم ، حتى أنّ أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية ، وحبس على ذلك الأحباس الكثيرة ، لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر ، ولم يتعرّض إلى شيء من أراضي مصر البتة ، وحبس أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ بركة الحبش وسيوط وغيرهما على الحرمين وعلى جهات برّ ، وحبس غيره أيضا.

فلما قدمت الدولة الفاطمية من الغرب إلى مصر ، بطل تحبيس البلاد ، وصار قاضي القضاة يتولى أمر الأحباس من الرباع ، وإليه أمر الجوامع والمشاهد ، وصار للإحباس ديوان مفرد ، وأوّل ما قدم المعز أمر في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بحمل مال الأحباس من المودع إلى بيت المال الذي لوجوه البرّ ، وطولب أصحاب الأحباس بالشرائط ليحملوا عليها. وما يجب لهم فيها ، وللنصف من شعبان ضمن الأحباس محمد بن القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بألف ألف وخمسمائة ألف درهم في كلّ سنة ، يدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل ما بقي إلى بيت المال. وقال ابن الطوير : الخدمة في ديوان الأحباس وهو أوفر الدواوين مباشرة ، ولا يخدم فيه إلّا أعيان كتّاب المسلمين من الشهود المعدّلين ، بحكم أنها معاملة دينية ، وفيها عدّة مدبرين ينوبون عن أرباب هذه الخدم في إيجاب أرزاقهم من ديوان الرواتب ، وينجزون لهم الخروج بإطلاق أرزاقهم ، ولا يوجب لأحد من هؤلاء خرج إلّا بعد حضور ورقة التعريف ، من جهة مشارف الجوامع والمساجد باستمرار خدمته ذلك الشهر جميعه ، ومن تأخر تعريفه تأخر الإيجاب له ، وإن تمادى ذلك استبدل به ، أو توفر ما باسمه لمصلحة أخرى ، خلا جواري المشاهد فإنها لا توفر ، لكنها تنقل من مقصر إلى ملازم ، وكان يطلق لكل مشهد خمسون درهما في الشهر برسم الماء لزوّارها ، ويجري من معاملة سواقي السبيل بالقرافة والنفقة عليها من ارتفاعه ، فلا تخلو المصانع ولا الأحواض من الماء أبدا ، ولا يعترض أحد من الانتفاع به ، وكان فيه كاتبان ومعينان.

وقال المسبحي في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة : وأمر الحاكم بأمر الله بإثبات المساجد التي لا غلة لها ، ولا أحد يقوم بها ، وماله منها غلة لا تقوم بما يحتاج إليه ، فأثبت في عمل ، ورفع إلى الحاكم بأمر الله ، فكانت عدّة المساجد على الشرح المذكور ثمانمائة وثلاثين مسجدا ، ومبلغ ما تحتاج إليه من النفقة في كلّ شهر تسعة آلاف ومائتان وعشرون درهما. على أنّ لكلّ مسجد في كلّ شهر اثني عشر درهما. وقال في حوادث سنة خمس

٨٧

وأربعمائة : وقريء يوم الجمعة ثامن عشري صفر سجل بتحبيس عدّة ضياع ، وهي : اطفيح وصول وطوخ وست ضياع أخر ، وعدّة قياسر وغيرها على القرّاء والفقهاء والمؤذنين بالجوامع ، وعلى المصانع والقوّام بها ، ونفقة المارستانات وأرزاق المستخدمين فيها وثمن الأكفان.

وقال الشريف بن أسعد الجوّانيّ : كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يوما على المساجد والمشاهد بمصر والقاهرة يبدأون بجامع المقس ، ثم القاهرة ، ثم المشاهد ، ثم القرافة ، ثم جامع مصر ، ثم مشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وما تشعث منه ، وما زال الأمر على ذلك إلى أن زالت الدولة الفاطمية. فلما استقرّت دولة بني أيوب أضيفت الأحباس أيضا إلى القاضي ، ثم تفرّقت جهات الأحباس في الدولة التركية وصارت إلى يومنا هذا ثلاث جهات : الأولى تعرف بالأحباس ، ويلي هذه الجهة دوادار السلطان ، وهو أحد الأمراء ومعه ناظر الأحباس ، ولا يكون إلّا من أعيان الرؤساء ، وبهذه الجهة ديوان فيه عدّة كتاب ومدبر ، وأكثر ما في ديوان الأحباس الرزق الإحباسية ، وهي أراض من أعمال مصر على المساجد والزوايا للقيام بمصالحها ، وعلى غير ذلك من جهات البرّ ، وبلغت الرزق الإحباسية في سنة أربعين وسبعمائة عند ما حرّرها النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون ، مائة ألف وثلاثين ألف فدّان ، عمل النشو بها أوراقا ، وحدّث السلطان في إخراجها عمن هي باسمه وقال : جميع هذه الرزق أخرجها الدواوين بالبراطيل والتقرّب إلى الأمراء والحكام ، وأكثرها بأيدي أناس من فقهاء الأرياف لا يدرون الفقه ، يسمون أنفسهم الخطباء ، ولا يعرفون كيف يخطبون ولا يقرءون القرآن ، وكثير منها بأسماء مساجد وزوايا معطلة وخراب ، وحسن له أن يقيم شادّا وديوانا يسير في النواحي وينظر في المساجد التي هي عامرة ، ويصرف لها من رزقها النصف ، وما عدا ذلك يجري في ديوان السلطان. فعاجله الله وقبض عليه قبل عمل شيء من ذلك.

الجهة الثانية تعرف بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة ، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعيّ ، وفيها ما حبس من الرباع على الحرمين وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القرب ، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف ، فتارة ينفرد بنظر أوقاف مصر والقاهرة رجل واحد من أعيان نوّاب القاضي ، وتارة ينفرد بأوقاف القاهرة ناطر من الأعيان ، ويلي نظر أوقاف مصر آخر ، ولكلّ من أوقاف البلدين ديوان فيه كتّاب وجباة ، وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمة ، فيصرف منها لأهل الحرمين أموال عظيمة في كلّ سنة ، تحمل من مصر إليهم مع من يثق به قاضي القضاة ، وتفرّق هناك صررا ، ويصرف منها أيضا بمصر والقاهرة لطلبة العلم ولأهل الستر وللفقراء شيء كثير ، إلّا أنها اختلت وتلاشت في زمننا هذا ، وعما قليل إن دام ما نحن فيه لم يبق لها أثر البتة ، وسبب ذلك أنه ولي قضاء الحنفية كمال الدين عمر بن العديم في أيام الملك الناصر فرج ، وولاية الأمير جمال الدين يوسف

٨٨

تدبير الأمور والمملكة ، فتظاهرا معا على إتلاف الأوقاف ، فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف ، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ ، وأن الحظ فيه أن يستبدل به غيره ، فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك ، وشره جمال الدين في هذا الفعل كما شره في غيره ، فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة ، والدور الجليلة بهذه الطريقة ، والناس على دين ملكهم ، فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال ، فيحكم له بما يريد من ذلك ، واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر ، وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار ، وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضا ، فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض. واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه ، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها ، وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها ، وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل ، فامتدّت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من الترب ، وجميع ما كان من الدور الجليلة ، والمساكن الأنيقة ، بمصر الفسطاط ومنشأة المهرانيّ ومنشأة الكتاب وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وسويقة الموفق ، وما كان في الحكورة من ذلك ، وما كان بالجوّانية والعطوفية وغيرها من حارات القاهرة وغيرها ، فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب ، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب.

الجهة الثالثة : الأوقاف الأهلية ، وهي التي لها ناظر خاص ، إمّا من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضي ، وفي هذه الجهة الخوانك والمدارس والجوامع والترب ، وكان متحصلها قد خرج عن الحدّ في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع والترب وغيرهما ، وصاروا يفردون أراضي من أعمال مصر والشامات ، وفيها بلاد مقرّرة ، ويقيمون صورة يتملكونها بها ويجعلونها وقفا على مصارف كما يريدون ، فلما استبدّ الأمير برقوق بأمر بلاد مصر قبل أن يتلقب باسم السلطنة ، همّ بارتجاع هذه البلاد وعقد مجلسا فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ ، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء ، وغيره. فلم يتهيأ له ذلك ، فلما جلس على تخت الملك صار أمراؤه يستأجرون هذه النواحي من جهات الأوقاف ، ويؤجرونها للفلاحين بأزيد مما استأجروا ، فلما مات الظاهر فحش الأمر في ذلك واستولى أهل الدولة على جميع الأراضي الموقوفة بمصر والشامات ، وصار أجودهم من يدفع فيها لمن يستحق ريعها عشر ما يحصل له ، وإلّا فكثير منهم لا يدفع شيئا البتة ، لا سيما ما كان من ذلك في بلاد الشام ، فإنه استهلك وأخذ ، ولذلك كان أسوأ الناس حالا في هذه المحن التي حدثت منذ سنة ست وثمانمائة الفقهاء ، لخراب الموقوف عليها وبيعه واستيلاء أهل الدولة على الأراضي.

٨٩

الجامع بجوار تربة الشافعيّ بالقرافة

هذا الجامع كان مسجدا صغيرا ، فلما كثر الناس بالقرافة الصغرى عندما عمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وجعل لها مدرّسا وطلبة ، زاد الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في المسجد المذكور ، ونصب به منبرا وخطب فيه ، وصليت الجمعة به في سنة سبع وستمائة.

جامع محمود بالقرافة

هذا المسجد قديم والخطبة فيه متجدّدة ، وينسب لمحمود بن سالم بن مالك الطويل ، من أجناد السريّ بن الحكم أمير مصر بعد سنة مائتين من الهجرة. قال القضاعيّ : المسجد المعروف بمحمود ، يقال أن محمودا هذا كان رجلا جنديا من جند السريّ بن الحكم أمير مصر ، وأنه هو الذي بنى هذا المسجد ، وذلك أنّ السريّ بن الحكم ركب يوما فعارضه رجل في طريقه فكلمه ووعظه بما غاظه ، فالتفت عن يمينه فرأى محمودا ، فأمره بضرب عنق الرجل ففعل. فلما رجع محمود إلى منزله تفكر وندم وقال : رجل يتكلم بموعظة بحق فيقتل بيدي وأنا طائع غير مكره على ذلك ، فهلا امتنعت ، وكثر أسفه وبكاؤه وآلى على نفسه أن يخرج من الجندية ولا يعود فيها ، ولم ينم ليلته من الغمّ والندم ، فلما أصبح غدا إلى السريّ فقال له : إني لم أنم في هذه الليلة على قتل الرجل ، وأنا أشهد الله عزوجل وأشهدك أني لا أعود في الجندية ، فأسقط اسمي منهم ، وإن أردت نعمتي فهي بين يديك ، وخرج من بين يديه وحسنت توبته وأقبل على العبادة ، واتخذ المسجد المعروف بمسجد محمود وأقام فيه.

وقال ابن المتوج : المسجد الجامع المشهور بسفح المقطم ، هذا الجامع من مساجد الخطبة ، وهو بسفح الجبل المقطم بالقرافة الصغرى ، وأوّل من خطب فيه السيد الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد قاضي العسكر ، والمدرّس بالمدرسة الناصرية الصلاحية بجوار جامع عمرو ، وبه عرفت بالشريفية وسفير الخلافة المعظمة ، وتوفي في شوّال سنة خمس وخمسين وستمائة ، وكان أيضا نقيب الأشراف.

جامع الروضة بقلعة جزيرة الفسطاط

قال ابن المتوج : هذا الجامع عمره السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وكان أمام بابه كنيسة تعرف بابن لقلق بترك اليعاقبة ، وكان بها بئر مالحة ، وذلك مما عدّ من عجائب مصر أن في وسط النيل جزيرة بوسطها بئر مالحة ، وهذه البئر التي رأيتها كانت قبالة باب المسجد الجامع ، وإنما ردمت بعد ذلك ، وهذا الجامع لم يزل بيد بني الرّدّاد ولهم نوّاب عنهم فيه ، ثم لما كانت أيام السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ هدم هذا الجامع

٩٠

في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ، ووسعه بدور كانت إلى جانبه ، وشرع في عمارته فمات قبل الفراغ منه.

جامع غين بالروضة

قال ابن المتوّج : المسجد الجامع بروضة مصر يعرف بجامع غين ، وهو القديم ، ولم تزل الخطبة قائمة فيه إلى أن عمر جامع المقياس فبطلت الخطبة منه ، ولم تزل الخطبة بطالة منه إلى الدولة الظاهرية ، فكثرت عمائر الناس حوله في الروضة وقلّ الناس في القلعة ، وصاروا يجدون مشقة في مشيهم من أوائل الروضة ، وعمر الصاحب محيي الدين أحمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا داره على خوخة الفقيه نصر قبالة هذا الجامع ، فحسن له إقامة الجمعة في هذا الجامع لقربه منه ومن الناس ، فتحدّث مع والده فشاور السلطان الملك الظاهر بيبرس ، فوقع منه بموقع لكثرة ركوبه بحر النيل واعتنائه بعمارة الشواني ولعبها في البحر ، ونظره إلى كثرة الخلائق بالروضة ، ورسم بإقامة الخطبة فيه مع بقاء الخطبة بجامع القلعة لقوّة نيته في عمارتها على ما كانت عليه ، فأقيمت الخطبة به في سنة ستين وستمائة ، وولي خطابته أقضى القضاة جمال الدين بن الغفاريّ ، وكان ينوب بالجيزة في الحكم ، ثم ناب في الحكم بمصر عن قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ ، وكان إمامه في حال عطلته من الخطبة ، فلما أقيمت فيه الخطبة أضيفت إليه الخطابة فيه مع الإمامة.

غين أحد خدّام الخليفة الحاكم بأمر الله ، خلع عليه في تاسع ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة ، وقلده سيفا وأعطاه سجلا قرىء فإذا فيه أنه لقب بقائد القوّاد ، وأمر أن يكتب بذلك ويكاتب به ، وركب وبين يديه عشرة أفراس بسروجها ولجمها ، وفي ذي القعدة من السنة المذكورة أنفذ إليه الحاكم خمسة آلف دينار ، وخمسة وعشرين فرسا بسروجها ولجمها ، وقلده الشرطتين والحسبة بالقاهرة ومصر والجيزة ، والنظر في أمور الجميع وأموالهم وأحوالهم كلها ، وكتب له سجلا بذلك قرىء بالجامع العتيق ، فنزل إلى الجامع ومعه سائر العسكر والخلع عليه ، وحمل على فرسين ، وكان في سجله مراعاة أمر النبيذ وغيره من المسكرات ، وتتبع ذلك والتشديد فيه ، وفي المنع من عمل الفقاع وبيعه ، ومن أكل الملوخيا والسمك الذي لا قشر له ، والمنع من الملاهي كلها ، والتقدّم بمنع النساء من حضور الجنائز ، والمنع من بيع العسل ، وأن لا يتجاوز في بيعه أكثر من ثلاثة أرطال لمن لا يسبق إليه ظنه أن يتخذ منه مسكرا ، فاستمرّ ذلك إلى غرّة صفر سنة أربع وأربعمائة ، فصرف عن الشرطتين والحسبة بمظفر الصقليّ. فلما كان يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر منها ، أمر بقطع يدي كاتبه أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجانيّ فقطعتا جميعا ، وذلك أنه كان يكتب عند السيدة الشريفة أخت الحاكم ، فانتقل من خدمتها إلى خدمة غين خوفا على نفسه

٩١

من خدمتها ، فسخطت لذلك ، فبعث إليها يستعطفها ويذكر في رقعته شيئا وقفت عليه ، فارتابت منه فظنت أن ذلك حيلة عليها ، وأنفذت الرقعة في طيّ رقعتها إلى الحاكم ، فلما وقف عليها اشتدّ غضبه وأمر بقطع يديه جميعا فقطعتا ، وقيل بل كان غين هو الذي يوصل رقاع عقيل صاحب الخبر إلى الحاكم في كلّ يوم ، فيأخذها من عقيل وهي مختومة بخاتمه ويدفعها لكاتبه أبي القاسم الجرجانيّ ، حتى يخلو له وجه الحاكم فيأخذها حينئذ من كاتبه ويوقفه عليها ، وكان الجرجانيّ يفك الختم ويقرأ الرقاع ، فلما كان في يوم من الأيام فك رقعة فوجد فيها طعنا على غين أستاذه ، وقد ذكر فيها بسوء ، فقطع ذلك الموضع وأصلحه وأعاد ختم الرقعة ، فبلغ ذلك عقيلا صاحب الخبر فبعث إلى الحاكم يستأذنه في الاجتماع به خلوة في أمر مهم ، فأذن له ، وحدّثه بالخبر ، فأمر حينئذ بقطع يدي الجرجانيّ فقطعتا ، ثم بعد قطع يديه بخمسة عشر يوما في ثالث جمادى الأولى ، قطعت يد غين الأخرى ، وكان قد أمر بقطع يده قبل ذلك بثلاث سنين وشهر ، فصار مقطوع اليدين معا ، ولما قطعت يده حملت في طبق إلى الحاكم ، فبعث إليه بالأطباء ووصله بألوف من الذهب وعدّة من أسفاط ثياب ، وعاده جميع أهل الدولة ، فلما كان ثالث عشره أمر بقطع لسانه فقطع وحمل إلى الحاكم ، فسيّر إليه الأطباء ومات بعد ذلك.

جامع الأفرم

قال ابن المتوّج : هذا الجامع بسفح الرصد ، عمره الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله المعروف بالأفرم أمير جاندار الملكيّ الصالحيّ النجميّ ، في شهور سنة ثلاث وستين وستمائة ، لما عمر المنظرة هناك ، وعمر بجوارها رباطا للفقراء ، وقرّرهم عدّة تنعقد بهم الجمعة ، وقرّر إقامتهم فيه ليلا ونهارا ، وقرّر كفايتهم وإعانتهم على الإقامة ، وعمر لهم هذا الجامع يستغنون به عن السعي إلى غيره ، وذكر أن الأفرم أيضا عمر مسجدا بجسر الشعيبية في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة ، جامعا هدم فيه عدّة مساجد.

الجامع بمنشأة المهرانيّ

قال ابن المتوّج : والسبب في عمارة هذا الجامع ، أن القاضي الفاضل كان له بستان عظيم فيما بين ميدان اللوق وبستان الخشاب ، الذي أكله البحر ، وكان يمير مصر والقاهرة من ثماره وأعنابه ، ولم تزل الباعة ينادون على العنب رحم الله الفاضل يا عنب إلى مدّة سنين عديدة بعد أن أكله البحر ، وكان قد عمر إلى جانبه جامعا وبنى حوله ، فسميت بمنشأة الفاضل ، وكان خطيبه أخا الفقيه موفق الدين بن المهدويّ الديباجيّ العثمانيّ ، وكان قد عمر بجواره دارا وبستانا وغرس فيه أشجارا حسنة ، ودفع إليه ألف دينار مصرية في أوّل الدولة الظاهرية ، وكان الصرف قد بلغ في ذلك الوقت كل دينار ثمانية وعشرين درهما

٩٢

ونصف درهم نقرة (١) ، فاستولى البحر على الجامع والدار والمنشأة ، وقطع جميع ذلك حتى لم يبق له أثر ، وكان خطيبه موفق الدين يسكن بجوار الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا ، ويتردّد إليه وإلى والده محيي الدين ، فوقف وضرع إليهما وقال : أكون غلام هذا الباب ويخرب جامعي ، فرحمه الصاحب وقال : السمع والطاعة يدبر الله ، ثم فكر في هذه البقعة التي فيها هذا الجامع الآن ، وكانت تعرف بالكوم الأحمر ، مرصدة لعمل أقمنة الطوب الآجرية ، سميت بالكوم الأحمر ، وكان الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا ، قد عمر منظرة قبالة هذا الكوم ، وهي التي صارت دار ابن صاحب الموصل ، وكان فخر الدين كثير الإقامة فيها مدّة الأيام المعزية ، فقلق من دخان الأقمنة التي على الكوم الأحمر ، وشكا ذلك لوالده ولصهره الوزير شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ ، فأمرا بتقويمه ، فقوّم ما بين بستان الحليّ وبحر النيل وابتاعه الصاحب بهاء الدين ، فلما مات ولده فخر الدين وتحدّث مع الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع هناك ، ملّكه هذه القطعة من الأرض ، فعمر السلطان بها هذا الجامع ووقف عليه بقية هذه الأرض المذكورة ، في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وستمائة ، وجعل النظر فيه لأولاده وذريته ، ثم من بعدهم لقاضي القضاة الحنفيّ ، وأوّل من خطب فيه الفقيه موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ إلى أن توفي يوم الأربعاء ، ثالث عشر شوّال سنة خمس وثمانين وستمائة ، وقد تعطلت إقامة الجمعة من هذا الجامع لخراب ما حوله ، وقلة الساكنين هناك ، بعد أن كانت تلك الخطة في غاية العمارة ، وكان صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب قد عزم على نقل هذا الجامع من مكانه ، فاخترمته المنية قبل ذلك.

جامع دير الطين

قال ابن المتوّج : هذا الجامع بدير الطين في الجانب الشرقيّ ، عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين ولد الصاحب بهاء الدين ، المشهور بابن حنا ، في المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة ، وذلك أنه لما عمر بستان المعشوق ومناظره وكثرت إقامته بها ، وبعد عليه الجامع ، وكان جامع دير الطين ضيقا لا يسع الناس ، فعمر هذا الجامع وعمر فوقه طبقة يصلي فيها ويعتكف إذا شاء ، ويخلو بنفسه فيها. وكان ماء النيل في زمنه يصل إلى جدار هذا الجامع ، وولى خطابته للفقيه جمال الدين محمد ابن الماشطة ، ومنعه من لبس السواد لأداء الخطبة ، فاستمرّ إلى حين وفاته في عاشر رجب سنة تسع وسبعمائة ، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة سابع صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة ، وقد ذكرت ترجمة الصاحب تاج الدين عند ذكر رباط الآثار من هذا الكتاب.

__________________

(١) الدرهم النقرة : هي الدراهم التي كانت تغلب فيها نسبة الفضة على النحاس. النجوم ج ٧ ص ١٥٧.

٩٣

محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا : أبو عبد الله الوزير الصاحب فخر الدين بن الوزير الصاحب بهاء الدين ، ولد في سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وتزوّج بابنة الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ ، وناب عن والده في الوزارة ، وولي ديوان الأحباس ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس ، وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق ، وحدّث ، وله شعر جيد ، ودرس بمدرسة أبيه الصاحب بهاء الدين التي كانت في زقاق القناديل بمصر ، وكان محبا لأهل الخير والصلاح مؤثرا لهم متفقدا لأحوالهم ، وعمر رباطا حسنا بالقرافة الكبرى ، رتب فيه جماعة من الفقراء ، ومن غريب ما يتعظ به الأريب أن الوزير الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير ، الذي كان بنو حنا يعادونه ، وعنه أخذوا الوزارة ، مات في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وستمائة بالسجن ، فأخرج كما تخرج الأموات الطرحاء على الطرقات من الغرباء ، ولم يشيع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا ، وكان فخر الدين هذا يتنزه في أيام الربيع بمنية القائد ، وقد نصبت له الخيام ، وأقيمت المطابخ وبين يديه المطربون ، فدخل عليه البشير بموت الوزير يعقوب بن الزبير ، وأنه أخرج إلى المقابر من غير أن يشيع جنازته أحد من الناس ، فسرّ بذلك ولم يتمالك نفسه وأمر المطربين فغنوه ، ثم قام على رجليه ورقص هو وسائر من حضره ، وأظهر من الفرح والخلاعة ما خرج به عن الحدّ ، وخلع على البشير بموت المذكور خلعا سنية ، فلم يمض على ذلك سوى أقلّ من أربعة أشهر ومات في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة ، ففجع به أبوه ، وكانت له جنازة عظيمة ، ولما دلّي في لحده قام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيريّ ، صاحب البردة ، في ذلك الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة وأنشد :

نم هنيئا محمد بن عليّ

بجميل قدّمت بين يديكا

لم تزل عوننا على الدهر حتّى

غلبتنا يد المنون عليكا

أنت أحسنت في الحياة إلينا

أحسن الله في الممات إليكا

فتباكى الناس ، وكان لها محل كبير ممن حضر رحمة الله عليهم أجمعين. وفي هذا الجامع يقول السراج الورّاق :

بنيتم على تقوى من الله مسجدا

وخير مباني العابدين المساجد

فقل في طراز معلم فوق بركة

على حسنها الزاهي لها البحر حاسد

لها حلل حسنى ولكن طرازها

من الجامع المعمور بالله واحد

هو الجامع الإحسان والحسن الذي

أقرّ له زيد وعمرو وخالد

وقد صافحت شهب الدجى شرفاته

فما هي بين الشهب إلّا فراقد

وقد أرشد الضلال عالي مناره

فلا حائر عنه ولا عنه حائد

٩٤

ونالت نواقيس الديارات وجمة

وخوف فلم يمدد إليهنّ ساعد

فتبكى عليهنّ البطاريق في الدجى

وهنّ لديهم ملقيات كواسد

بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

جامع الظاهر

هذا الجامع خارج القاهرة ، وكان موضعه ميدانا ، فأنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جامعا. قال جامع السيرة الظاهرية : وفي ربيع الآخر ، يعني سنة خمس وستين وستمائة ، اهتمّ السلطان بعمارة جامع بالحسينية ، وسير الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب ، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا ، وجماعة من المهندسين ، لكشف مكان يليق أن يعمل جامعا ، فتوجهوا لذلك واتفقوا على مناخ الجمال السلطانية. فقال السلطان لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال ، وأولى ما جعلته ميداني الذي ألعب فيه بالكرة وهو نزهتي ، فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر ، ركب السلطان وصحبته خواصه والوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش ، وتحدّث في أمره وقاسه ورتب أموره وأمور بنائه ، ورسم بأن يكون بقية الميدان وقفا على الجامع يحكر ، ورسم بين يديه هيئة الجامع ، وأشار أن يكون بابه مثل باب المدرسة الظاهرية ، وأن يكون على محرابه قبة على قد رقبة الشافعيّ رحمة الله عليه ، وكتب في وقته الكتب إلى البلاد بإحضار عمد الرخام من سائر البلاد ، وكتب بإحضار الجمال والجواميس والأبقار والدواب من سائر الولايات ، وكتب بإحضار الآلات من الحديد والأخشاب النقية برسم الأبواب والسقوف وغيرها ، ثم توجه لزيارة الشيخ الصالح خضر بالمكان الذي أنشأه له ، وصلّى الظهر هناك ، ثم توجه إلى المدرسة بالقاهرة فدخلها والفقهاء والقرّاء على حالهم ، وجلس بينهم ، ثم تحدّث وقال : هذا مكان قد جعلته لله عزوجل ، وخرجت عنه وقفا لله ، إذا مت لا تدفنوني هنا. ولا تغيروا معالم هذا المكان فقد خرجت عنه لله تعالى. ثم قام من إيوان الحنفية وجلس بالمحراب في إيوان الشافعية ، وتحدّث وسمع القرآن والدعاء ، ورأى جميع الأماكن ، ودخل إلى قاعة ولده الملك السعيد المبنية قريبا منها ، ثم ركب إلى قلعة الجبل وولى عدّة مشدّين على عمارة الجامع ، وكان إلى جانب الميدان قاعة ومنظرة عظيمة بناها السلطان الملك الظاهر ، فلما رسم ببناء الجامع طلبها الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ من السلطان فقال : الأرض قد خرجت عنها لهذا الجامع ، فاستأجرها من ديوانه ، والبناء والأصناف وهبتك إياها ، وشرع في العمارة في منتصف جمادى الآخرة منها.

وفي أوّل جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة سار السلطان من ديار مصر يريد بلاد الشام ، فنزل على مدينة يافا وتسلمها من الفرنج بأمان ، في يوم الأربعاء العشرين من

٩٥

جمادى الآخرة المذكور ، وسير أهلها فتفرّقوا في البلاد ، وشرع في هدمها وقسم أبراجها على الأمراء ، فابتدأ في ذلك من ثاني عشريه ، وقاسوا شدّة في هدمها لحصانتها وقوّة بنائها ، لا سيما القلعة ، فإنها كانت حصينة عالية الارتفاع ولها أساسات إلى الأرض الحقيقة ، وباشر السلطان الهدم بنفسه وبخواصه ومماليكه ، حتى غلمان البيوتات التي له ، وكان ابتداء هدم القلعة في سابع عشريه ، ونقضت من أعلاها ونظفت زلاقتها ، واستمرّ الأجناد في ذلك ليلا ونهارا ، وأخذ من أخشابها جملة ، ومن ألواح الرخام التي وجدت فيها ، ووسق منها مركبا من المراكب التي وجدت في يافا وسيرها إلى القاهرة ، ورسم بأن يعمل من ذلك الخشب مقصورة في الجامع الظاهريّ بالميدان من الحسينية ، والرخام يعمل بالمحراب ، فاستعمل كذلك.

ولما عاد السلطان إلى مصر في حادي عشري ذي الحجة منها وقد فتح في هذه السفرة يافا وطرابلس وأنطاكية وغيرها ، أقام إلى أن أهلت سنة سبع وستين وستمائة ، فلما كملت عمارة الجامع في شوّال منها ركب السلطان ونزل إلى الجامع وشاهده ، فرآه في غاية ما يكون من الحسن وأعجبه نجازه في أقرب وقت ومدّة مع علوّ الهمة ، فخلع على مباشريه ، وكان الذي تولى بناءه الصاحب بهاء الدين بن حنا ، والأمير علم الدين سنجر السروريّ متولى القاهرة ، وزار الشيخ خضرا وعاد إلى قلعته ، وفي شوّال منها تمت عمارة الجامع الظاهريّ ورتب به خطيبا حنفيّ المذهب ، ووقف عليه حكر ما بقي من أرض الميدان ، ونزل السلطان إليه ورتب أوقافه ونظر في أموره.

بيبرس : الملك الظاهر ركن الدين البندقداريّ ، أحد المماليك البحرية الذين اختص بهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وأسكنهم قلعة الروضة ، كان أوّلا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ ، فلما سخط عليه الملك الصالح أخذ مماليكه ومنهم الأمير بيبرس هذا ، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة ، وقدّمه على طائفة من الجمدارية ، وما زال يترقى في الخدم إلى أن قتل المعز أيبك التركمانيّ الفارس أقطاي الجمدار في شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة ، وكانت البحرية قد انحازت إليه فركبوا في نحو السبعمائة ، فلما ألقيت إليهم رأس أقطاي تفرّقوا واتفقوا على الخروج إلى الشام ، وكانت أعيانهم يومئذ بيبرس البندقداريّ ، وقلاون الألفيّ ، وسنقر الأشقر ، وبيسرى ، وترامق ، وتنكز ، فساروا إلى الملك الناصر صاحب الشام. ولم يزل بيبرس ببلاد الشام إلى أن قتل المعز أيبك ، وقام من بعده ابنه المنصور عليّ ، وقبض عليه نائبه الأمير سيف الدين قطز وجلس على تخت المملكة ، وتلقب بالملك المظفر ، فقدم عليه بيبرس فأمّره المظفر قطز ، ولما خرج قطز إلى ملاقاة التتار وكان من نصرته عليهم ما كان ، رحل إلى دمشق فوشى إليه بأن الأمير بيبرس قد تنكر له وتغير عليه ، وأنه عازم على القيام بالحرب ، فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى جهة مصر وهو

٩٦

مضمر لبيبرس السوء ، وعلم بذلك خواصه فبلغ ذلك بيبرس فاستوحش من قطز وأخذ كلّ منهما يحترس من الآخر على نفسه ، وينتظر الفرصة ، فبادر بيبرس وواعد الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ ، والأمير سيف الدين بيدغان الركنيّ المعروف بسم الموت ، والأمير سيف الدين بلبان الهارونيّ ، والأمير بدر الدين آنص الأصبهانيّ ، فلما قربوا في مسيرهم من القصر بين الصالحية والسعيدية عند القرين ، انحرف قطز عن الدرب للصيد ، فلما قضى منه وطره وعاد والأمير بيبرس يسايره هو وأصحابه ، طلب بيبرس منه امرأة من سبي التتار فأنعم عليه بها ، فتقدّم ليقبل يده وكانت إشارة بينه وبين أصحابه ، فعند ما رأوا بيبرس قد قبض على يد السلطان المظفر قطز ، بادر الأمير بكتوت الجوكندار وضربه بسيف على عاتقه أبانه واختطفه الأمير آنص وألقاه عن فرسه إلى الأرض ، ورماه بهادر المغربيّ بسهم فقتله ، وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة ، ومضوا إلى الدهليز للمشورة ، فوقع الاتفاق على الأمير بيبرس ، فتقدّم إليه أقطاء المستعرب الجمدار المعروف بالأتابك وبايعه وحلف له ، ثم بقية الأمراء وتلقب بالملك الظاهر ، وذلك بمنزلة القصير.

فلما تمت البيعة وحلف الأمراء كلهم قال له الأمير أقطاي المستعرب : ياخوند (١) ، لا يتم لك أمر إلّا بعد دخولك إلى القاهرة وطلوعك إلى القلعة ، فركب من وقته ومعه الأمير قلاون والأمير بلبان الرشيديّ والأمير بيلبك الخارندار ، وجماعة يريدون قلعة الجبل ، فلقيهم في طريقهم الأمير عز الدين أيدمر الحلبيّ نائب الغيبة عن المظفر قطز ، وقد خرج لتلقيه ، فأخبروه بما جرى وحلفوه ، فتقدّمهم إلى القلعة ووقف على بابها حتى وصلوا في الليل فدخلوا إليها ، وكانت القاهرة قد زينت لقدوم السلطان الملك المظفر قطز ، وفرح الناس بكسر التتار وعود السلطان ، فما راعهم وقد طلع النهار إلّا والمشّا عليّ ينادي معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر بيبرس ، فدخل على الناس من ذلك غمّ شديد ووجل عظيم ، خوفا من عود البحرية إلى ما كانوا عليه من الجور والفساد وظلم الناس. فأوّل ما بدأ به الظاهر أنه أبطل ما كان قطز أحدثه من المظالم عند سفره ، وهو تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة ، وجباية دينار من كلّ إنسان ، وأخذ ثلث الترك الأهلية ، فبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار. وكتب بذلك مسموحا قريء على المنابر في صبيحة دخوله إلى القلعة ، وهو يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة المذكور ، وجلس بالإيوان وحلّف العساكر ، واستناب الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار بالديار المصرية ، واستقرّ الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا على عادته ، والأمير جمال الدين أقوش التجيبيّ أستادارا ، والأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جاندار ، والأمير لاجين الدرفيل وبلبان الروميّ دوادارية ، والأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوريّ

__________________

(١) خوند : لفظ فارسي بمعنى السيد العظيم والأمير. النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢١٢.

٩٧

أميراخور على عادته ، وبهاء الدين عليّ بن حنا وزيرا ، والأمير ركن الدين التاجي الركنيّ والأمير سيف الدين بكجريّ حجابا ، ورسم بإحضار البحرية الذين تفرّقوا في البلاد بطالين ، وسير الكتب إلى الأقطار بما تجدّد له من النعم ، ودعاهم إلى الطاعة ، فأذعنوا له وانقادوا إليه.

وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبيّ نائب دمشق لما قتل قطز جمع الناس وحلّفهم ، وتلقب بالملك المجاهد ، وثار علاء الدين الملقب بالملك السعيد بن صاحب الموصل في حلب وظلم أهلها ، وأخذ منهم خمسين ألف دينار ، فقام عليه جماعة ومقدّمهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزيّ وقبضوا عليه ، فسير الظاهر إلى لاجين بنيابة حلب.

فلما دخلت سنة تسع وخمسين قبض الظاهر على جماعة من الأمراء المعزية ، منهم الأمير سنجر الغتميّ ، والأمير بهادر المعزيّ ، والشجاع بكتوت ، ووصل إلى السلطان الإمام أبو العباس أحمد بن الخليفة الظاهر العباسيّ من بغداد ، في تاسع رجب ، فتلقاه السلطان في عساكره وبالغ في إكرامه وأنزله بالقلعة ، وحضر سائر الأمراء والمقدّمين والقضاة وأهل العلم والمشايخ بقاعة الأعمدة من القلعة بين يدي أبي العباس ، فتأدّب السلطان الظاهر ولم يجلس على مرتبة ولا فوق كرسيّ ، وحضر العربان الذين قدموا من العراق ، وخادم من طواشية بغداد ، وشهدوا بأن العباس أحمد ولد الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر ، وشهد معهم بالاستفاضة الأمير جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر ، وعلم الدين بن رشيق ، وصدر الدين موهوب الجزريّ ، ونجيب الدين الحرّانيّ ، وسديد الزمنتيّ نائب الحكم بالقاهرة عند قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ ، وأسجل على نفسه بثبوت نسب أبي العباس أحمد ، وهو قائم على قدميه ، ولقّب بالإمام المستنصر بالله ، وبايعه الظاهر على كتاب الله وسنة نبيه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد في سبيل الله ، وأخذ أموال الله بحقها وصرفهاف ي مستحقها ، فلما تمت البيعة قلد المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر أمر البلاد الإسلامية ، وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار ، وبايع الناس المستنصر على طبقاتهم ، وكتب إلى الأطراف بأخذ البيعة له ، وإقامة الخطبة باسمه على المنابر ، ونقشت السكة في ديار مصر باسمه ، واسم الملك الظاهر معا. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب ، خطب الخليفة بالناس في جامع القلعة ، وركب السلطان في يوم الاثنين رابع شعبان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير ظاهر القاهرة ، وأفيضت عليه الخلع الخليفة ، وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب ، وقلد بسيف عربيّ ، وجلس مجلسا عاما حضره الخليفة والوزير وسائر القضاة والأمراء والشهود ، وصعد القاضي فخر الدين بن لقمان كاتب السرّ منبرا نصب له ، وقرأ تقليد السلطان المملكة ، وهو بخطه من إنشائه ، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر ، وشق القاهرة وقد زينت له ، وحمل الصاحب بهاء الدين بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان ، والأمراء

٩٨

مشاة بين يديه ، وكان يوما مشهودا.

وأخذ السلطان في تجهيز الخليفة ليسير إلى بغداد ، فرتب له الطواشي بهاء الدين صندلا الصالحيّ شرابيا ، والأمير سابق الدين بوزيا الصيرفيّ أتابكا ، والأمير جعفرا أستادارا ، والأمير فتح الدين بن الشهاب أحمد أمير جاندار ، والأمير ناصر الدين بن صيرم خازندار ، والأمير سيف الدين بلبان الشمسيّ وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموريّ دوادارية ، والقاضي كمال الدين محمد السنجاريّ وزيرا ، وشرف الدين أبا حامد كاتبا ، وعين له خزانة وسلاحخاناه ومماليك عدّتهم نحو الأربعين ، منهم سلاحدارية وجمدارية وزردكاشية ورمحدارية ، وجعل له طشطخاناه وفراشخاناه وشرابخاناه ، وإماما ومؤذنا وسائر أرباب الوظائف ، واستخدم له خمسمائة فارس ، وكتب لمن قدم معه من العراق بإقطاعات ، وأذن له في الركوب والحركة حيث اختار ، وحضر الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ، وأخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة ، وأخوهما المظفر ، فأكرمهم السلطان وأقرّهم على ما بأيديهم ، وكتب لهم تقاليد وجهزهم في خدمة الخليفة ، وسار الخليفة في سادس شوّال والسلطان في خدمته إلى دمشق ، فنزل السلطان في القلعة ، ونزل الخليفة في التربة الناصرية بجبل الصالحية ، وبلغت نفقة السلطان على الخليفة ألف ألف وستين ألف دينار ، وخرج من دمشق في ثالث عشر ذي القعدة ومعه الأمير بلبان الرشيديّ ، والأمير سنقر الروميّ ، وطائفة من العسكر ، وأوصاهما السلطان أن يكونا في خدمة الخليفة حتى يصل إلى الفرات ، فإذا عبر الفرات أقاما بمن معهما من العسكر بالبرّ الغربيّ من جهات حلب لانتظار ما يتجدّد من أمر الخليفة ، بحيث إن احتاج إليهم ساروا إليه ، فسار إلى الرحبة وتركه أولاد صاحب الموصل وانصرفوا إلى بلادهم ، وسار إلى مشهد عليّ فوجد الإمام الحاكم بأمر الله قد جمع سبعمائة فارس من التركمان وهو على عانة ، ففارقه التركمان وصار الحاكم إلى المستنصر طائعا له ، فأكرمه وأنزله معه وسارا إلى عانة ، ورحلا إلى الحديثة ، وخرجا منها إلى هيت ، وكانت له حروب مع التتار في ثالث محرّم سنة ستين وستمائة ، قتل فيها أكثر أصحابه ، وفرّ الحاكم وجماعة من الأجناد ، وفقد المستنصر فلم يوقف له على خبر ، فحضر الحاكم إلى قلعة الجبل وبايعه السلطان والناس ، واستمرّ بديار مصر في مناظر الكبش ، وهو جدّ الخلفاء الموجودين اليوم.

وفي سنة ست وستين قرّر الظاهر بديار مصر أربعة قضاة ، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ ، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم ، وحدث غلاء شديد بمصر ، وعدمت الغلة ، فجمع السلطان الفقراء وعدّهم وأخذ لنفسه خمسمائة فقير يمونهم ، ولا بنه السعيد بركة خان خمسمائة فقير ، وللنائب بيلبك الخازندار ثلاثمائة فقير ، وفرّق الباقي على سائر الأمراء ، ورسم لكلّ إنسان في اليوم برطلي خبز ، فلم ير بعد ذلك في البلد أحد من الفقراء يسأل.

٩٩

وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين ، أركب السلطان ابنه السعيد بركة بشعار السلطنة ، ومشى قدّامه وشق القاهرة والكل مشاة بين يديه من باب النصر إلى قلعة الجبل ، وزينت البلد ، وفيها رتب السلطان لعب القبق بميدان العيد خارج باب النصر ، وختن الملك السعيد ومعه ألف وستمائة وخمسة وأربعون صبيا من أولاد الناس ، سوى أولاد الأمراء والأجناد ، وأمر لكلّ صغير منهم بكسوة على قدره ، ومائة درهم ، ورأس من الغنم ، فكان مهما عظيما ، وأبطل ضمان المزر ، وجهاته ، وأمر بحرق النصارى في سنة ثلاث وستين ، فتشفع فيهم على أن يحملوا خمسين ألف دينار فتركوا. وفي سنة أربع وستين افتتح قلعة صفد ، وجهز العساكر إلى سيس ومقدّمهم الأمير قلاون الألفيّ ، فحصر مدينة ابناس وعدّه قلاع. وفي سنة خمس وستين أبطل ضمان الحشيش من ديار مصر ، وفتح يافا والشقيف وأنطاكية. وفي سنة سبع وستين حج فسار على غزة إلى الكرك ، ومنها إلى المدينة النبوية ، وغسل الكعبة بماء الورد بيده ، ورجع إلى دمشق فأراق جميع الخمور ، وقدم إلى مصر في سنة ثمان وستين. وفي سنة سبعين خرج إلى دمشق. وفي سنة إحدى وسبعين خرج من دمشق سائقا إلى مصر ، ومعه بيسرى وأقوش الروميّ وجرسك الخازندار وسنقر الألفيّ ، فوصل إلى قلعة الجبل ، وعاد إلى دمشق فكانت مدّة غيبته أحد عشر يوما ، ولم يعلم بغيبته من في دمشق حتى حضر ، ثم خرج سائقا من دمشق يريد كبس التتار ، فخاض الفرات وقدّامه قلاون وبيسرى ، وأوقع بالتتار على حين غفلة ، وقتل منهم شيئا كثيرا ، وساق خلفهم بيسرى إلى سروج وتسلم السلطان البيرة. ووقع بمصر في سنة اثنتين وسبعين وباء هلك به خلق كثير. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا السلطان سيس وافتتح قلاعا عديدة. وفي سنة أربع وسبعين تزوّج السعيد بن السلطان بابنة الأمير قلاون وخرج العسكر إلى بلاد النوبة ، فواقع ملكهم وقتل منهم كثيرا وفرّ باقيهم. وفي سنة خمس وسبعين سار السلطان لحرب التتار ، فواقعهم على الأبلستين وقد انضم إليهم الروم ، فانهزموا وقتل منهم كثير ، وتسلم السلطان قيسارية ونزل فيها بدار السلطان ، ثم خرج إلى دمشق فوعك بها من إسهال وحمى مات منها يوم الخميس تاسع عشري محرّم سنة ست وسبعين وستمائة ، وعمره نحو من سبع وخمسين سنة ، ومدّة ملكه سبع عشرة سنة وشهران.

وكان ملكا جليلا عسوفا عجولا كثير المصادرات لرعيته ودواوينه ، سريع الحركة ، فارسا مقداما ، وترك من الذكور ثلاثة : السعيد محمد بركة خان ، وملك بعده ، وسلامش وملك أيضا ، والمسعود خضر. ومن البنات سبع بنات ، وكان طويلا مليح الشكل.

وفتح الله على يديه مما كان مع الفرنج قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وبقراص والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلبا.

وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وانطرسوس ، وأخذ من صاحب سيس ، دريساك

١٠٠