كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل ، قال : أخبرني محمد بن عمر البوصيريّ قال : حدّثنا قطب الدين محمد الهرماس ، أنه رأى بالجامع الحاكميّ حجرا ظهر من مكان قد سقط منقوش عليه هذه الأبيات الخمسة :

إنّ الذي أسررت مكنون اسمه

وكتمته كيما أفوز بوصله

مال له جذر تساوى في الهجا

طرفاه يضرب بعضه في مثله

فيصير ذاك المال إلّا أنّه

في النصف منه تصاب أحرف كله

وإذا نطقت بربعه متكلما

من بعد أوّله نطقت بكله

لا نقط فيه إذا تكامل عدّه

فيصير منقوطا بجملة شكله

قال وهذه الأبيات لغز في الحجر المكرّم.

وقال العلامة شمس الدين محمد بن النقاش في كتاب العبر في أخبار من مضى وغبر : وفي هذه السنة ، يعني سنة إحدى وستين وسبعمائة ، صودر الهرماس وهدمت داره التي بناها أمام الجامع الحاكميّ ، وضرب ونفي هو وولده. فلما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرون من ذي القعدة استفتى السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في وقف حصة طندتا ، وهي الأرض التي كان قد سأله الهرماس أن يقفها على مصالح الجامع الحاكميّ فعين له خمسمائة وستين فدّانا من طين طندتا ، وطلب الموقعين وأمرهم أن يكتبوا صورة وقفها ويحضروه ليشهدوا عليه به ، وكان قد تقرّر من شروطه في أوقافه ما قيل أنه رواية عن أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه ، من أنّ للواقف أن يشترط في وقفه التغيير والزيادة والنقص وغير ذلك ، فأحضر الكركيّ الموقع إليه الكتاب مطويا ، فقرأ منه طرّته وخطبته وأوّله ، ثم طواه وأعاده إليه مطويا وقال : اشهدوا بما فيه دون قراءة وتأمل ، فشهدوا هم بالتفصيل الذي كتبوه وقرّروه مع الهرماس ، ولما اطلع السلطان على ذلك بعد نفي الهرماس طلب الكركيّ وسأله عن هذه الواقعة فأجاب بما قد ذكرنا والله أعلم بصحة ذلك. غير أن المعلوم المقرّر أن السلطان ما قصد إلّا مصالح الجامع ، نعم سأله أزدمر الخازندار ، هل وقفت حصة لطيفة على أولاد الهرماس فإنه قد ذكر ذلك؟ فقال : نعم أنا وقفت عليهم جزأ يسيرا لم أعلم مقداره ، وأما التفصيل المذكور في كتاب الوقف فلم أتحققه ولم أطلع عليه ، فاستفتى المفتين في هذه الواقعة ، فأمّا المفتون كابن عقيل وابن السبكيّ والبلقينيّ والبسطاميّ والهنديّ وابن شيخ الجبل والبغداديّ ونحوهم ، فأجابوا ببطلان الحكم المترتب على هذه الشهادة الباطلة ، وبطلان التنفيذ ، وكان الحنفيّ حكم والبقية نفذوا ، وأما الحنفيّ فقال : إنّ الوقف إذا صدر صحيحا على الأوضاع الشرعية فإنه لا يبطل بما قاله الشاهد ، وهو جواب عن نفس الواقعة ، وأما الشافعيّ فكتب ما مضمونه : إنّ الحنفيّ إن اقتضى مذهبه بطلان ما صححه أوّلا نفذ بطلانه ، وحاصل ذلك أن القضاة أجابوا بالصحة ، والمفتين أجابوا بالبطلان. فطلب

٦١

السلطان المفتين والقضاة ، فلم يحضر من الحكام غير نائب الشافعيّ ، وهو تاج الدين محمد بن إسحاق بن المناويّ ، والقضاة الثلاثة الشافعيّ والحنفيّ والحنبليّ وجدوا مرضى لم يمكنهم الحضور إلى سرياقوس ، فإن السلطان كان قد سرح إليها على العادة في كلّ سنة ، فجمعهم السلطان في برج من القصر الذي بميدان سرياقوس عشاء الآخرة ، وذكر لهم القضية وسألهم عن حكم الله تعالى في الواقعة. فأجاب الجميع بالبطلان ، غير المناوي فإنه قال : مذهب أبي حنيفة أن الشهادة الباطلة إذا اتصل بها الحكم صح ولزم. فصرخت عليه المفتون شافعيهم وحنفيهم. أمّا شافعيهم فإنه قال : ليس هذا مذهبك ولا مذهب الجمهور ، ولا هو الراجح في الدليل والنظر. وقال له ابن عقيل : هذا مما ينقض به الحكم لو حكم به حاكم وادّعى قيام الإجماع على ذلك. وقال له سراج الدين البلقينيّ : ليس هذا مذهب أبي حنيفة ، ومذهبه في العقود والفسوخ ما ذكرت من أن حكم الحاكم يكون هو المعتمد في التحليل والتحريم ، وأمّا الأوقاف ونحوها فحكم الحاكم فيها لا أثر له كمذهب الشافعيّ ، وادّعوا أن الإجماع قائم على ذلك ، وقاموا على المناويّ في ذلك قومة عظيمة فقال : نحن نحكم بالظاهر. فقالوا له : ما لم يظهر الباطن بخلافه. فقال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن نحكم بالظاهر. قالوا هذا الحديث كذب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما الحديث الصحيح حديث : «إنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض الحديث» قال المناويّ : الأحكام ما هي بالفتاوى. قالوا له : فبماذا تكون؟ أفي الوجود حكم شرعيّ بغير فتوى من الله ورسوله؟ وكان قد قال في مجلس ابن الدريهم : القائم على نفيس اليهوديّ المدعوّ برأس الجالوت بين اليهود لا يلتفت لقول المفتي. فقيل له : في هذا المجلس ها أنت قد قلت مرّتين أنّ المفتين لا يعتبر قولهم ، وأنّ الفتاوى لا يعتدّ بها ، وقد أخطأت في ذلك أشدّ الخطأ ، وأنبأت عن غاية الجهل ، فإن منصب الفتوى أوّل من قام به ربّ العالمين إذ قال في كتابه المبين : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء / ١٧٦] وقال يوسف عليه‌السلام : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف / ٤١] وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة رضي‌الله‌عنها : «قد أفتاني الله ربي فيما استفتيته» وكلّ حكم جاء على سؤال سائل تكفل ببيانه قرآن أو سنة فهو فتوى ، والقائم به مفت ، فكيف تقول لا يلتفت إلى الفتوى أو إلى المفتين؟ فقال سراج الدين الهنديّ وغيره : هذا كفر ، ومذهب أبي حنيفة أن من استخف بالفتوى أو المفتين فهو كافر ، فاستدرك نفسه بعد ذلك وقال : لم أرد إلّا أنّ الفتوى إذا خالف المذهب فهي باطلة. قالوا له : وأخطأت في ذلك أيضا ، لأنّ الفتوى قد تخالف المذهب المعين ولا تخالف الحق في نفس الأمر. قال : فأردت بالفتوى التي تخالف الحقّ. قالوا : فأطلقت في موضع التقييد وذلك خطأ. فقال السلطان حينئذ : فإذا قدّر هذا وادّعيت أن الفتوى لا أثر لها ، فنبطل

٦٢

المفتين والفتوى من الوجود. فتلكأ وحار وقال : كيف أعمل في هذا؟ فتبين لبعض الحاضرين أنه استشكل المسألة ، ولم يتبين له وجهها. فقال : لا شك أنّ مولانا السلطان لم ينكر صدور الوقف ، وإنما أنكر المصارف ، وأن تكون الجهة التي عينها هي هرماس وشهوده وقضاته ، وللسلطان أن يحكم فيها بعلمه ، ويبطل ما قرّروه من عند أنفسهم. قال : كيف يحكم لنفسه؟ قيل له : ليس هذا حكما لنفسه ، لأنه مقرّ بأصل الوقف ، وهو للمستحقين ليس له فيه شيء ، وإنما بطل وصف الوقف ، وهو المصرف الذي قرّر على غير جهة الوقف ، وله أن يوقع الشهادة على نفسه بحكم أن مصرّف هذا الوقف الجهة الفلانية دون الفلانية.

ولم يزالوا يذكرون له أوجها تبين بطلان الوقف إمّا بأصله أو بوصفه إلى أن قال : يبطل بوصفه دون أصله ، وأذعن لذلك بعد إتعاب من العلماء. وإزعاج شديد من السلطان في بيان وجوه ذكروها تبين وجه الحق ، وأنه إنما وقفه على مصالح الجامع المذكور. وهذا مما لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب. فالتفت بعد ذلك وقال للحاضرين : كيف نعمل في إبطاله؟ فقالوا : بما قرّرناه من إشهاد السلطان على نفسه بتفصيل صحيح ، وأنه لم يزل كذلك منذ صدر منه الوقف إلى هذا الحدّ ، وغير ذلك من الوجوه. فجعل يوهم السلطان أن الشهود الذين شهدوا في هذا الوقف متى بطل هذا الوقف ثبت عليهم التساهل وجرحوا بذلك ، وقدح ذلك في عدالتهم ، ومتى جرحوا الآن لزم بطلان شهادتهم في الأوقاف المتقدّمة على هذا التاريخ ، وخيل بذلك للسلطان حتى ذكر له إجماع المسلمين على أن جرح الشاهد لا ينعطف على ما مضى من شهاداته السالفة ولو كفر ، والعياذ بالله ، وهذا مما لا خلاف فيه. ثم استقرّ رأيه على أن يبطله بشاهدين يشهدان أن السلطان لمّا صدر منه هذا الوقف كان قد اشترط لنفسه التغيير والتبديل والزيادة والنقص وقام على ذلك.

قال مؤلفه رحمه‌الله : انظر تثبت القضاة ، وقايس بين هذه الواقعة وما كان من تثبت القاضي تاج الدين المناوي ، وهو يومئذ خليفة الحكم ومصادمته الجبال ، وبين ما ستقف عليه من التساهل والتناقض في خبر أوقاف مدرسة جمال الدين يوسف الأستادار ، وميّز بعقلك فرق ما بين القضيتين. وهذه الأرض التي ذكرت هي الآن بيد أولاد الهرماس بحكم الكتاب الذي حاول السلطان نقضه ، فلم يوافق المناويّ. والجامع الآن متهدّم وسقوفه كلها ما من زمن إلّا ويسقط منها الشيء بعد الشيء فلا يعاد ، وكانت ميضأة هذا الجامع صغيرة بجوار ميضأته الآن ، فيما بينها وبين باب الجامع ، وموضعها الآن مخزن تعلوه طبقة عمرها شخص من الباعة يعرف بابن كرسون المراحليّ ، وهذه الميضأة الموجودة الآن أحدثت وأنشأ الفسقية التي فيها ابن كرسون في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة ، وبيّض مئذنتي الجامع ، واستجدّ المئذنة التي بأعلى الباب المجاور للمنبر رجل من الباعة ، وكملت في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة ، وخرق سقف الجامع حتى صار المؤذنون ينزلون من السطح إلى الدكة التي يكبرون فوقها وراء الإمام.

٦٣

«هيئة صلاة الجمعة في أيام الخلفاء الفاطميين» قال المسبحيّ : وفي يوم الجمعة غرّة رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة ركب العزيز بالله إلى جامع القاهرة بالمظلة المذهبة وبين يديه نحو خمسة آلاف ماش ، وبيده القضيب ، وعليه الطيلسان والسيف. فخطب وصلّى صلاة الجمعة وانصرف ، فأخذ رقاع المتظلمين بيده وقرأ منها عدّة في الطريق ، وكان يوما عظيما ذكرته الشعراء. قال ابن الطوير : إذا انقضى ركوب أوّل شهر رمضان استراح في أوّل جمعة ، فإذا كانت الثانية ركب الخليفة إلى الجامع الأنور الكبير في هيئة المواسم بالمظلة وما تقدّم ذكره من الآلات ، ولباسه فيه ثياب الحرير البيض توقيرا للصلاة من الذهب ، والمنديل والطيلسان المقوّر الشعريّ ، فيدخل من باب الخطابة والوزير معه بعد أن يتقدّمه في أوائل النهار صاحب بيت المال ، وهو المقدّم ذكره في الأستاذين ، وبين يديه الفرش المختصة بالخليفة إذا صار إليه في هذا اليوم ، وهو محمول بأيدي الفرّاشين المميزين ، وهو ملفوف في العراضي الديبقية ، فيفرش في المحراب ثلاث طرّاحات أماسامان ، أو ديبقيّ أبيض ، أحسن ما يكون من صنفهما ، كلّ منهما منقوش بالحمرة. فتجعل الطرّاحات متطابقات ، ويعلّق ستران يمنة ويسرة ، وفي الستر الأيمن كتابة مرقومة بالحرير الأحمر واضحة ، منقوطة أوّلها البسملة والفاتحة وسورة الجمعة ، وفي الستر الأيسر مثل ذلك ، وسورة (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) قد أسبلا وفرشا في التعليق بجانبي المحراب لاصقين بجسمه ، ثم يصعد قاضي القضاة المنبر وفي يده مدخنة لطيفة خيزران يحضرها إليه صاحب بيت المال فيها جمرات ، ويجعل فيها ندّ مثلث لا يشمّ مثله إلّا هناك ، فيجز الذروة التي عليها الغشاء كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة ، ويكرّر ذلك ثلاث دفعات ، فيأتي الخليفة في هيئة موقرة من الطبل والبوق ، وحوالي ركابه خارج أصحاب الركاب القرّاء ، وهم قرّاء الحضرة من الجانبين يطرّبون بالقراءة نوبة بعد نوبة ، يستفتحون بذلك من ركوبه من الكرسيّ على ما تقدّم طول طريقه إلى قاعة الخطابة من الجامع ، ثم تحفظ المقصورة من خارجها بترتيب أصحاب الباب واسفهسلار العساكر ، ومن داخلها إلى آخرها صبيان الخاص وغيرهم ممن يجري مجراهم ، ومن داخلها من باب خروجه إلى المنبر واحد فواحد ، فيجلس في القاعة ، وإن احتاج إلى تجديد وضوء فعل ، والوزير في مكان آخر ، فإذا أذّن بالجمعة دخل إليه قاضي القضاة فقال له : السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله. فيخرج ماشيا وحواليه الأستاذون المحنكون ، والوزير وراءه ، ومن يليهم من الخواص وبأيديهم الأسلحة من صبيان الخاص ، وهم أمراء وعليهم هذا الاسم ، فيصعد المنبر إلى أن يصل إلى الذروة تحت تلك القبة المبخرة ، فإذا استوى جالسا والوزير على باب المنبر ووجهه إليه ، فيشير إليه بالصعود فيصعد إلى أن يصل إليه ، فيقبل يديه ورجليه بحيث يراه الناس ، ثم يزرر عليه تلك القبة لأنها كالهودج ، ثم ينزل مستقبلا ، فيقف ضابطا لباب المنبر ، فإن لم يكن ثمّ وزير صاحب سيف ، زرّر عليه قاضي القضاة كذلك ،

٦٤

ووقف صاحب الباب ضابطا للمنبر.

فيخطب خطبة قصيرة من مسطور يحضر إليه من ديوان الإنشاء ، يقرأ فيها آية من القرآن الكريم ، ولقد سمعته مرّة في خطابته بالجامع الأزهر وقد قرأ في خطبته (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) الآية ، ثم يصلي على أبيه وجدّه ، يعني بهما محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، ويعظ الناس وعظا بليغا قليل اللفظ ، وتشتمل الخطبة على ألفاظ جزلة ، ويذكر من سلف من آبائه حتى يصل إلى نفسه فقال : وأنا أسمعه ، اللهمّ وأنا عبدك وابن عبدك لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا ، ويتوسل بدعوات فخمة تليق بمثله ، ويدعو للوزير إن كان ، وللجيوش بالنصر والتأليف ، وللعساكر بالظفر وعلى الكافرين ، والمخالفين بالهلاك والقهر ، ثم يختم بقوله اذكروا الله يذكركم. فيطلع إليه من زرّر عليه ويفك ذلك التزرير وينزل القهقرى ، وسبب التزرير عليهم قراءتهم من مسطور لا كعادة الخطباء ، فينزل الخليفة ويصير على تلك الطرّاحات الثلاث في المحراب وحده إماما ، ويقف الوزير وقاضي القضاة صفا ، ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون وأرباب الرتب من أصحاب السيوف والأقلام والمؤذنون وقوف ، وظهورهم إلى المقصورة لحفظه ، فإذا سمع الوزير الخليفة أسمع القاضي فأسمع القاضي المؤذنين وأسمع المؤذنون الناس ، هذا والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه ، فيقرأ ما هو مكتوب في الستر الأيمن في الركعة الأولى ، وفي الركعة الثانية ما هو مكتوب في الستر الأيسر ، وذلك على طريق التذكار خيفة الارتجاج ، فإذا فرغ خرج الناس وركبوا أوّلا فأوّلا وعاد طالبا القصر والوزير وراءه ، وضربت البوقات والطبول في العود ، فإذا أتت الجمعة الثانية ركب إلى الجامع الأزهر من القشاشين على المنوال الذي ذكرناه والقالب الذي وصفناه ، فإذا كانت الجمعة الثالثة أعلم بركوبه إلى مصر للخطابة في جامعها ، فيزين له من باب القصر أهل القاهرة إلى جامع ابن طولون ، ويزين له أهل مصر من جامع ابن طولون إلى الجامع بمصر ، يرتب ذلك والي مصر ، كلّ أهل معيشة في مكان ، فيظهر المختار من الآلات والستور المثمنات ويهتمون بذلك ثلاثة أيام بلياليهنّ والوالي مارّ وعائد بينهم ، وقد ندب من يحفظ الناس ومتاعهم ، فيركب يوم الجمعة المذكور شاقا لذلك كله على الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله الخراب اليوم ، إلى دار الأنماط إلى الجامع بمصر ، فيدخل إليه من المعونة ، ومنها باب متصل بقاعة الخطيب بالزيّ الذي تقدّم ذكره في خطبة الجامعين بالقاهرة ، وعلى ترتيبهما. فإذا قضى الصلاة عاد إلى القاهرة من طريقه بعينها شاقا بالزينة إلى أن يصل إلى القصر ، ويعطى أرباب المساجد التي يمرّ عليها كلّ واحد دينارا.

وقال ابن المأمون : ووصل من الطراز الكسوة المختصة بغرّة شهر رمضان وجمعتيه برسم الخليفة للغرّة بدلة كبيرة موكبية مكملة مذهبة ، وبرسم الجامع الأزهر للجمعة الأولى من الشهر بدلة موكبية حرير مكملة منديلها وطيلسانها بياض ، وبرسم الجامع الأنور للجمعة

٦٥

الثانية بدلة منديلها وطيلسانها شعريّ ، وما هو برسم أخي الخليفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة ، وبرسم أربع جهات للخليفة أربع حلل مذهبات ، وبرسم الوزير للغرّة خلعة مذهبة مكملة موكبية ، وبرسم الجمعتين بدلتان حريرتان ، ولم يكن لغير الخليفة وأخيه والوزير في ذلك شيء فنذكره.

جامع راشدة

هذا الجامع عرف بجامع راشدة لأنه في خطة راشدة. قال القضاعيّ : خطة راشدة بن أدوب بن جديلة من لخم ، هي متاخمة للخطة التي قبلها إلى الدير المعروف كان بأبي تكموس ، ثم هدم وهو الجامع الكبير الذي براشدة ، وقد دثرت هذه الخطة ، ومنها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة ، والجنان التي كانت تعرف بكهمس بن معر ، ثم عرفت بالماردانيّ ، وهي اليوم تعرف بالأمير تميم.

وقال المسبحيّ في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، وابتدئ بناء جامع راشدة في سابع عشر ربيع الآخر ، وكان مكانه كنيسة حولها مقابر لليهود والنصارى ، فبني بالطوب ثم هدم وزيد فيه وبنى بالحجر ، وأقيمت به الجمعة ، وقال : في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وفيه ، يعني شهر رمضان ، فرش جامع راشدة وتكامل فرشه وتعليق قناديله وما يحتاج إليه ، وركب الحاكم بأمر الله عشية يوم الجمعة الخامس عشر منه وأشرف عليه. وقال : في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وفيه ، يعني شهر رمضان ، صلّى الحاكم بجامعه الذي أنشأه براشدة صلاة الجمعة ، وخطب. وفي شهر رمضان سنة أربعمائة أنزل بقناديل وتنور من فضة زنتها ألوف كثيرة ، فعلّقت بجامع راشدة. وفي سنة إحدى وأربعمائة هدم وابتدئ في عمارته من صفر ، وفي شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة صلّى الحاكم في جامع راشدة صلاة الجمعة وعليه عمامة بغير جوهر ، وسيف محلى بفضة بيضاء دقيقة ، والناس يمشون بركابه من غير أن يمنع أحد منه ، وكان يأخذ قصصهم ويقف وقوفا طويلا لكلّ منهم ، واتفق يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وأربعمائة أن خطب فيه خطبتان معا على المنبر ، وذلك أنّ أبا طالب عليّ بن عبد السميع العباسيّ استقرّ في خطابته بإذن قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن محمد بن العوّام ، بعد سفر العفيف البخاريّ إلى الشام ، فتوصل ابن عصفورة إلى أن خرج له أمر أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله ، أن يخطب. فصعدا جميعا المنبر ووقف أحدهما دون الآخر وخطبا معا ، ثم بعد ذلك استقرّ أبو طالب خطيبا ، وأن يكون ابن عصفورة يخلفه. وقال ابن المتوّج : هذا الجامع فيما بين دير الطين والفسطاط ، وهو مشهور الآن بجامع راشدة ، وليس بصحيح. وإنما جامع راشدة كان جامعا قديم البناء بجوار هذا الجامع ، عمر في زمن الفتح ، عمرته راشدة ، وهي قبيلة من القبائل كقبيلة تجيب ومهرة نزلت في هذا المكان ، وعمروا فيه

٦٦

جامعا كبيرا أدركت أنا بعضه ومحرابه ، وكان فيه نخل كثير من نخل المقل ، ومن جملة ما رأيت فيه نخلة من المقل عددت لها سبعة رؤوس مفرّعة منها ، فذاك الجامع هو المعروف بجامع راشدة ، وأما هذا الموجود الآن فمن عمارة الحاكم ، ولم يكن في بناء الجوامع أحسن من بنائه ، وقيل عمرته حظية الخليفة وكان اسمها راشدة وليس بصحيح ، والأوّل هو الصحيح. وفيه الآن نخل وسدر وبئر وساقية رجل ، وهو مكان خلوة وانقطاع ومحل عبادة وفراغ من تعلقات الدنيا.

قال مؤلفه : هذا وهم من ابن المتوّج في موضعين : أولهما أن راشدة عمرت هذا الجامع في زمن فتح مصر ، وهذا قول لم يقله أحد من مؤرخي مصر ، فهذا الكنديّ ، ثم القضاعيّ ، وعليهما يعوّل في معرفة خطط مصر. ومن قبلهما ابن عبد الحكم ، لم يقل أحد منهم أن راشدة عمرت زمن الفتح مسجدا ، ولا يعرف من هذا السلف رحمهم‌الله في جند من أجناد الأمصار التي فتحتها الصحابة رضي‌الله‌عنهم أنهم أقاموا خطبتين في مسجد واحد ، وقد حكينا ما تقدّم عن المسبحيّ وهو مشاهد ما نقله من بناء الجامع المذكور في موضع الكنيسة بأمر الحاكم بأمر الله ، وتغييره لبنائه غير مرّة ، وتبعه القضاعيّ على ذلك ، وقد عدّ القضاعيّ والكنديّ في كتابيهما المذكور فيهما خطط مصر ما كان بمصر من مساجد الخطبة القديمة والمحدثة ، وذكرا مساجد راشدة ، ولم يذكرا فيها جامعا اختطته راشدة ، وذكرا هذا الدير ، وعين القضاعيّ اسمه ، هدم وبني في مكانه جامع راشدة ، وناهيك بهما معرفة لآثار مصر وخططها.

والوهم الثاني : الاستدلال على الوهم الأوّل بمشاهدة بقايا مسجد قديم ولا أدري كيف يستدل بذلك ، فمن أنكر أن يكون قد كان هناك مسجد ، بل المدّعي أنه كان لراشدة مساجد ، لكن كونها اختطت جامعا هذا غير صحيح. وقال ابن أبي طيّ في أخبار سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في كتابه تاريخ حلب : كانت النصارى اليعقوبية قد شرعوا في إنشاء كنيسة كانت قد اندرست لهم بظاهر مصر في الموضع المعروف براشدة ، فثار قوم من المسلمين وهدموا ما بنى النصارى وأنهي إلى الحاكم ذلك ، قيل له إنّ النصارى ابتدأوا بناءها ، وقال النصارى إنها كانت قبل الإسلام ، فأمر الحاكم الحسين بن جوهر بالنظر في حال الفريقين ، فمال في الحكم مع النصارى ، وتبين للحاكم ذلك ، فأمر أن تبنى تلك الكنيسة مسجدا جامعا ، فبنى في أسرع وقت ، وهو جامع راشدة. وراشدة اسم للكنيسة ، وكان بجواره كنيستان إحداهما لليعقوبية والأخرى للنسطورية ، فهدمتا أيضا وبنيتا مسجدين ، كان في حارة الروم بالقاهرة آدر للروم وكنيستان لهم ، فهدمتا وجعلتا مسجدين أيضا ، وحوّل الروم إلى الموضع المعروف بالحمراء وأسس الروم ثلاث كنائس عوضا عما هدم لهم ، وهذا أيضا مصرّح بأن جامع راشدة أسسه الحاكم ، وفيه وهم لكونه جعل راشدة اسما للكنيسة ، وإنما راشدة اسم لقبيلة من العرب نزلوا عند الفتح هناك فعرفت تلك البقاع بخطة راشدة ، وقد

٦٧

جدّد جامع راشدة مرارا ، وأدركته عامرا تقام فيه الجمعة ويمتلئ بالناس لكثرة من حوله من السكان ، وإنما تعطل من إقامة الجمعة بعد حوادث سنة ست وثمانمائة. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة : راشدة بطن من لخم ، وهم ولد راشدة بن الحارث بن أدّ بن جديلة من لخم بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد ، وقيل راشدة بن أدوب ، ويقال لراشدة خالفة ، ولهم خطة بمصر بالجبل المعروف بالرصد ، المطلّ على بركة الحبش ، وقد دثرت الخطة ولم يبق في موضعها إلّا الجامع الحاكميّ المعروف بجامع راشدة.

جامع المقس

هذا الجامع أنشأه الحاكم بأمر الله على شاطىء النيل بالمقس في (١) لأنّ المقس كان خطة كبيرة ، وهي بلد قديم من قبل الفتح ، كما تقدّم ذكر ذلك في هذا الكتاب. وقال في الكتاب الذي تضمن وقف الحاكم بأمر الله الأماكن بمصر على الجوامع ، كما ذكر في خبر الجامع الأزهر ما نصه : ويكون جميع ما بقي مما تصدّق به على هذه المواضع ، يصرف في جميع ما يحتاج إليه في جامع المقس المذكور ، من عمارته ، ومن تمن الحصر العبدانية والمظفورة ، وثمن العود للبخور ، وغيره على ما شرح من الوظائف في الذي تقدّم ، وكان لهذا الجامع نخل كثير في الدولة الفاطمية ، ويركب الخليفة إلى منظرة كانت بجانبه عند عرض الأسطول فيجلس بها لمشاهدة ذلك كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر المناظر ، وفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة انشقت زريبة من هذا الجامع في شهر رمضان لكثرة زيادة ماء النيل ، وخيف على الجامع السقوط فأمر بعمارتها. ولما بنى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب هذا السور الذي على القاهرة ، وأراد أن يوصله بسور مصر من خارج باب البحر إلى الكوم الأحمر ، حيث منشأة المهرانيّ اليوم ، وكان المتولي لعمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ ، أنشأ بجوار جامع المقس برجا كبيرا عرف بقلعة المقس في مكان المنظرة التي كانت للخلفاء ، فلما كان في سنة سبعين وسبعمائة جدّد بناء هذا الجامع الوزير الصاحب شمس الدين عبد الله المقسيّ ، وهدم القلعة وجعل مكانها جنينة ، واتهمه الناس بأنه وجد هنالك مالا كثيرا ، وأنه عمر منه الجامع المذكور ، فصار العامّة اليوم يقولون جامع المقسيّ ، ويظنّ من لا علم عنده أن هذا الجامع من إنشائه ، وليس كذلك ، بل إنما جدّده وبيضه ، وقد انحسر ماء النيل عن تجاه هذا الجامع كما ذكر في خبر بولاق والمقس ، وصار هذا الجامع اليوم على حافة الخليج الناصريّ ، وأدركنا ما حوله في غاية العمارة ، وقد تلاشت المساكن التي هناك وبها إلى اليوم بقية يسيرة ، ونظر هذا الجامع اليوم بيد أولاد الوزير المقسيّ ، فإنه جدّده وجعل عليه أوقافا لمدرّس وخطيب وقومة ومؤذنين وغير ذلك.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٦٨

وقال جامع السيرة الصلاحية : وهذا المقسم على شاطىء النيل يزار ، وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار ، وهو المكان الذي قسمت فيه الغنيمة عند استيلاء الصحابة رضي‌الله‌عنهم على مصر ، فلما أمر السلطان صلاح الدين بإدارة السور على مصر والقاهرة ، تولى ذلك بهاء الدين قراقوش وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقس ، وبنى فيه برجا يشرف على النبل ، وبنى مسجده جامعا ، واتصلت العمارة منه إلى البلد ، وصار تقام فيه الجمع والجماعات.

العزيز بالله : أبو النصر نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ ، ولد بالمهدية من بلاد أقريقية في يوم الخميس الرابع عشر من المحرّم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة ، وقدم مع أبيه إلى القاهرة ، وولي العهد. فلما مات المعز لدين الله أقيم من بعده في الخلافة يوم الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة فأذعن له سائر عساكر أبيه واجتمعوا عليه ، وسيّر بذهب إلى بلاد المغرب ، فرّق في الناس ، واقرّ يوسف بن ملكين على ولاية إفريقية ، وخطب له بمكة ، ووافى الشام عسكر القرامطة فصاروا مع أفتكين التركيّ ، وقوي بهم وساروا إلى الرملة وقاتلوا عساكر العزيز بيافا ، فبعث العزيز جوهر القائد بعساكر كثيرة وملك الرملة وحاصر دمشق مدّة ، ثم رحل عنها بغير طائل ، فأدركه القرامطة وقاتلوه بالرملة وعسقلان نحو سبعة عشر شهرا ، ثم خلص من تحت سيوف افتكين وسار إلى العزيز فوافاه وقد برز من القاهرة ، فسار معه ودخل العزيز إلى الرملة وأسر أفتكين في المحرّم سنة ثمان وستين وثلاثمائة فأحسن إليه وأكرمه إكراما زائدا.

فكتب إليه الشريف أبو إسماعيل إبراهيم الرئيس يقول : يا مولانا لقد استحق هذا الكافر كلّ عذاب ، والعجب من الإحسان إليه؟ فلما لقيه قال : يا إبراهيم قرأت كتابك في أمر أفتكين ، وأنا أخبرك. اعلم أنا قد وعدناه الإحسان والولاية ، فلما قبل وجاء إلينا نصب فازاته وخيامه حذاءنا ، وأردنا منه الانصراف فلج وقاتل ، فلما ولى منهزما وسرت إلى فازاته ودخلتها سجدت لله شكرا وسألته أن يفتح لي بالظفر به ، فجيء به بعد ساعة أسيرا ، أترى يليق بي غير الوفاء.

ولما وصل العزيز إلى القاهرة اصطنع افتكين وواصله بالعطايا والخلع ، حتى قال لقد احتشمت من ركوبي مع الخليفة مولانا العزيز بالله ، ونظري إليه بما غمرني من فضله وإحسانه ، فلما بلغ العزيز ذلك قال لعمه حيدرة : يا عمّ أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة ، وأرى عليهم الذهب والفضة والجواهر ، ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار ، وأن يكون ذلك كله من عندي. ومات بمدينة بلبيس من مرض طويل بالقولنج والحصاة ، في اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة فحمل إلى القاهرة ودفن بتربة القصر مع آبائه. وكانت مدّة خلافته بعد أبيه المعز إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا ، ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما. وكان نقش

٦٩

خاتمة : بنصر العزيز الجبار ينتصر الإمام نزار. ولما مات وحضر الناس إلى القصر للتعزية أفحموا عن أن يوردوا في ذلك المقام شيئا ، ومكثوا مطرقين لا ينبسون ، فقام صبيّ من أولاد الأمراء الكنانيين وفتح باب التعزية وأنشد :

أنظر إلى العلياء كيف تضام

ومآتم الأحساب كيف تقام

خبرنني ركب الركاب ولم يدع

للسفر وجه ترحل فأقاموا

فاستحسن الناس إيراده وكأنه ، طرّق لهم كيف يوردون المراثي ، فنهض الشعراء والخطباء حينئذ وعزوا وأنشد كلّ واحد ما عمل في التعزية ، وخلّف من الأولاد ابنه المنصور ، وولي الخلافة من بعده ، وابنة تدعى سيدة الملك ، وكان أسمر طوالا ، أصهب الشعر ، أعين أشهل عريض المنكبين ، شجاعا كريما حسن العفو والقدرة ، لا يعرف سفك الدماء البتة ، مع حسن الخلق والقرب من الناس ، والمعرفة بالخيل وجوارح الطير ، وكان محبا للصيد مغرىّ به حريصا على صيد السباع ، ووزر له يعقوب بن كلس اثنتي عشرة سنة وشهرين وتسعة عشر يوما ، ثم من بعده عليّ بن عمر العدّاس سنة واحدة ، ثم أبو الفضل جعفر بن الفرات سنة ، ثم أبو عبد الله الحسين بن الحسن البازيار سنة وثلاثة أشهر ، ثم أبو محمد بن عمار شهرين ، ثم الفضل بن صالح الوزيريّ أياما ، ثم عيسى بن نسطورس سنة وعشرة أشهر.

وكانت قضاته : أبو طاهر محمد بن أحمد ، أبو الحسن عليّ بن النعمان ، ثم أبو عبد الله محمد بن النعمان. وخرج إلى السفر أوّلا في صفر سنة سبع وستين ، وعاد من العباسية وخرج ثانيا وظفر بأفتكين ، وخرج ثالثا في صفر سنة اثنتين وسبعين ، ورجع بعد شهر إلى قصره بالقاهرة ، وخرج رابعا في ربيع الأوّل سنة أربع وستين ، فنزل منية الأصبغ وعاد بعد ثمانية أشهر واثني عشر يوما ، وخرج خامسا في عاشر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين ، فأقام مبرّزا أربعة عشر شهرا وعشرين يوما ، ومات في هذه الخرجة ببلبيس. وهو أوّل من اتخذ من أهل بيته وزيرا ، أثبت اسمه على الطرز ، وقرن اسمه باسمه ، وأوّل من لبس منهم الخفين والمنطقة ، وأوّل من اتخذ منهم الأتراك واصطنعهم وجعل منهم القوّاد ، وأوّل من رمى منهم بالنشاب ، وأوّل من ركب منهم بالذؤابة الطويلة والحنك وضرب الصوالجة ولعب بالرمح ، وأوّل من عمل مائدة في الشرطة السفلى في شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق ، وأقام طعاما في جامع القاهرة لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان ، واتخذ الحمير لركوبه إياها ، وكانت أمّه أمّ ولد اسمها درزارة ، وكان يضرب بأيامه المثل في الحسن ، فإنها كانت كلها أعيادا وأعراسا لكثرة كرمه ومحبته للعفو واستعماله لذلك ، ولا أعلم له بمصر من الآثار غير تأسيس الجامع الحاكميّ ، وما عدا ذلك فذهب اسمه ومحي رسمه.

٧٠

الحاكم بأمر الله : أبو عليّ منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ ، ولد بالقصر من القاهرة المعزية ، ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة في الساعة التاسعة ، والطالع من برج السرطان سبع وعشرون درجة ، وسلّم عليه بالخلافة في مدينة بلبيس بعد الظهر من يوم الثلاثاء عشري شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة وسار إلى القاهرة في يوم الأربعاء بسائر أهل الدولة والعزيز في قبة على ناقة بين يديه ، وعلى الحاكم دراعة مصمت وعمامة فيها الجوهر ، وبيده رمح وقد تقلد السيف. ولم يفقد من جميع ما كان مع العساكر شيء ، ودخل القصر قبل صلاة المغرب ، وأخذ في جهاز أبيه العزيز بالله ودفنه ، ثم بكر سائر أهل الدولة إلى القصر يوم الخميس ، وقد نصب للحاكم سرير من ذهب عليه مرتبة مذهبة في الإيوان الكبير ، وخرج من قصره راكبا عليه معممة الجوهر والناس وقوف في صحن الإيوان ، فقبلوا له الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على السرير ، فوقف من رسمه الوقوف ، وجلس من له عادة أن يجلس ، وسلّم الجميع عليه بالإمامة واللقب الذي اختير له ، وهو الحاكم بأمر الله ، وكان سنّه يومئذ إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وستة أيام ، فجعل أبا محمد الحسن بن عمار الكنديّ واسطة ، ولقب بأمين الدولة ، وأسقط مكوسا كانت بالساحل ، وردّ إلى الحسين بن جوهر القائد البريد والإنشاء ، فكان يخلفه ابن سورين ، وأقرّ عيسى بن نسطورس على ديوان الخاص ، وقلد سليمان بن جعفر بن فلاح الشام ، فخرج ينجو تكين من دمشق وسار منها لمدافعة سليمان بن جعفر بن فلاح ، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجرّاح الطائيّ في كثير من العرب ، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ ، ثم أسر فحمل إلى القاهرة وأكرم ، واختلف أهل الدولة على ابن عمار ، ووقعت حروب آلت إلى صرفه عن الوساطة. وله في النظر أحد عشر شهرا غير خمسة أيام ، فلزم داره وأطلقت له رسوم وجرايات ، وأقيم الطواشي برجوان الصقليّ مكانه في الوساطة لثلاثة بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فجعل كاتبه فهد بن إبراهيم يوقع عنه ، ولقبه بالرئيس ، وصرف سليمان بن فلاح عن الشام بجيش بن الصمصامة ، وقلد فحل بن إسماعيل الكتاميّ مدينة صور ، وقلد يانس الخادم برقة ، وميسور الخادم طرابلس ، ويمنا لخادم غزة وعسقلان ، فواقع جيش الروم على فاهية وقتل منهم خمسة آلاف رجل ، وغزا إلى أن دخل مرعش ، وقلد وظيفة قضاء القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان في صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة بعد موت قاضي القضاة محمد بن النعمان ، وقتل الأستاذ برجوان لاربع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة ، وله في النظر سنتان وثمانية أشهر غير يوم واحد ، وردّ النظر في أمور الناس وتدبير المملكة والتوقيعات إلى الحسين بن جوهر ، ولقب بقائد القوّاد ، فخلفه الرئيس بن فهد ، واتخذ الحاكم مجلسا في الليل يحضر فيه عدّة من أعيان الدولة ، ثم أبطله ومات جيش بن الصمصامة في ربيع الآخر سنة تسعين وثلثمائة ، فوصل ابنه بتركته إلى القاهرة ومعه

٧١

درج بخط أبيه فيه وصية ، وثبت بما خلفه مفصلا ، وأن ذلك جميعه لأمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، لا يستحق أحد من أولاده منه درهما ، وكان مبلغ ذلك نحو المأئتي ألف دينار ، وما بين عين ومتاع ودواب ، قد أوقف جميع ذلك تحت القصر ، فأخذ الحاكم الدرج ونظره ثم أعاده إلى أولاد جيش وخلع عليهم وقال لهم بحضرة وجوه الدولة : قد وقفت على وصية أبيكم رحمه‌الله وما وصى به من عين ومتاع ، فخذوه هنيئا مباركا لكم فيه. فانصرفوا بجميع التركة ، وولي دمشق فحل بن تميم ، ومات بعد شهور فولي عليّ بن فلاح ، وردّ النظر في المظالم لعبد العزيز بن محمد بن النعمان ، ومنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلّا أمير المؤمنين وحده ، وأبيح دم من خالف ذلك ، وفي شوّال قتل ابن عمار.

وفي سنة إحدى وتسعين واصل الحاكم الركوب في الليل كل ليلة ، فكان يشق الشوارع والأزقة ، وبالغ الناس في الوقود والزينة ، وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو ، وكثر تفرّجهم على ذلك حتى خرجوا فيه عن الحدّ ، فمنع النساء من الخروج في الليل ، ثم منع الرجال من الجلوس في الحوانيت. وفي رمضان سنة اثنتين وتسعين قلّد تموصلت بن بكّار دمسق ، عوضا عن ابن فلاح ، وابتدأ في عمارة جامع راشدة في سنة ثلاث وتسعين ، وقتل فهد بن إبراهيم وله منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنا عشر يوما ، في ثامن جمادى الآخرة منها ، وأقيم في مكانه عليّ بن عمر العدّاس ، وسار الأمير ما روح لإمارة طبرية ، ووقع الشروع في إتمام الجامع خارج باب الفتوح ، وقطع الحاكم الركوب في الليل ، ومات تموصلت فولي دمشق بعده مفلح اللحيانيّ الخادم ، وقتل عليّ بن عمر العدّاس والأستاذ زيدان الصقليّ وعدّة كثيرة من الناس ، وقلد إمارة برقة صندل الأسود في المحرّم سنة أربع وتسعين ، وصرف الحسين بن النعمان عن القضاء في رمضان منها ، وكانت مدّة نظره في القضاء خمس سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما ، وإليه كانت الدعوة أيضا ، فيقال له قاضي القضاة وداعي الدعاة ، وقلد عبد العزيز بن محمد بن النعمان وظيفة القضاء والدعوة ، مع ما بيده من النظر في المظالم. وفي سنة خمس وتسعين أمر النصارى واليهود بشدّ الزنار ولبس الغيار ، ومنع الناس من أكل الملوخية والجرجير والتوكلية والدلينس ، وذبح الأبقار السليمة من العاهة إلّا في أيام الأضحية ، ومنع من بيع الفقاع وعمله البتة ، وأن لا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر ، وأن لا تكشف امرأة وجهها في طريق ، ولا خلف جنازة ، ولا تتبرّج ، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر ، ولا يصطاده أحد من الصيادين ، وتتبع الناس في ذلك كله وشدّد فيه ، وضرب جماعة بسبب مخالفتهم ما أمروا به ونهوا عنه مما ذكر ، وخرجت العساكر لقتال بني قرّة أهل البحيرة ، وكتب على أبواب المساجد وعلى الجوامع بمصر وعلى أبواب الحوانيت والحجر والمقابر سبّ السلف ولعنهم ، وأكره الناس على نقش ذلك وكتابته بالأصباغ في سائر المواضع ، وأقبل الناس من

٧٢

سائر النواحي فدخلوا في الدعوة وجعل لهم يومان في الأسبوع ، وكثر الازدحام ومات فيه جماعة ، ومنع الناس من الخروج بعد المغرب في الطرقات ، وأن لا يظهر أحد بها لبيع ولا شراء ، فخلت الطرق من المارّة وكسرت أواني الخمور وأريقت من سائر الأماكن ، واشتدّ خوف الناس بأسرهم ، وقويت الشناعات وزاد الاضطراب ، فاجتمع كثير من الكتاب وغيرهم تحت القصر وضجوا يسألون العفو ، فكتب عدّة أمانات لجميع الطوائف من أهل الدولة وغيرهم من الباعة والرعية ، وأمر بقتل الكلاب فقتل منها ما لا ينحصر حتى فقدت ، وفتحت دار الحكمة بالقاهرة وحمل إليها الكتب ودخل إليها الناس ، فاشتدّ الطلب على الركابية المستخدمين في الركاب ، وقتل منهم كثير ، عفي عنهم وكتب لهم أمان ، ومنع الناس كافة من الدخول من باب القاهرة ، ومنع الناس من المشي ملاصق القصر ، وقتل قاضي القضاة حسين بن النعمان وأحرق بالنار ، وقتل عددا كثيرا من الناس ضربت أعناقهم.

وفي سنة ست وتسعين خرج أبو ركوة يدعو إلى نفسه وادّعى أنه من بني أمية ، فقام بأمره بنو قرّة لكثرة ما أوقع بهم الحاكم وبايعوه ، واستجاب له لواته ومزاته وزنادة ، وأخذ برقة وهزم جيوش الحاكم غير مرّة ، وغنم ما معهم ، فخرج لقتاله القائد فضل بن صالح في ربيع الأوّل وواقعه ، فانهزم منه فضل واشتدّ الاضطراب بمصر ، وتزايدت الأسعار واشتدّ الاستعداد لمحاربة أبي ركوة ، ونزلت العساكر بالجيزة ، وسار أبو ركوة فواقعه القائد فضل وقتل عدّة ممن معه ، فعظم الأمر واشتدّ الخوف وخرج الناس فباتوا بالشوارع. خوفا من هجوم عساكر أبي ركوة ، واستمرّت الحروب فانهزم أبو ركوة في ثالث ذي الحجة إلى الفيوم ، وتبعه القائد فضل بعد أن بعث إلى القاهرة بستة آلاف رأس ومائة أسير إلى أن قبض عليه ببلاد النبوة ، وأحضر إلى القاهرة فقتل بها ، وخلع على القائد فضل ، وسيّرت البشائر بقتله إلى الأعمال.

وفي سنة سبع وتسعين أمر بمحوسبّ السلف فمحي سائر ما كتب من ذلك ، وغلت الأسعار لنقص ماء النيل ، فإنه بلغ ستة عشر أصبعا من سبعة عشر ذراعا ، نقص ، ومات ينجو تكين في ذي الحجة ، واشتدّ الغلاء في سنة ثمان وتسعين ، وولي عليّ بن فلاح دمشق ، وقبض جميع ما هو محبس على الكنائس ، وجعل في الديوان ، وأحرق عدّة صلبان على باب الجامع بمصر ، وكتب إلى سائر الأعمال بذلك.

وفي سادس عشر رجب قرّر مالك بن سعيد الفارقيّ في وظيفة قضاء القضاة ، وتسلم كتب الدعوة التي تقرأ بالقصر على الأولياء ، وصرف عبد العزيز بن النعمان عن ذلك ، وصرف قائد القوّاد الحسين بن جوهر عما كان يليه من النظر في سابع شعبان ، وقرّر مكانه صالح بن عليّ الروذباديّ ، وقرّر في ديوان الشام مكانه أبو عبد الله الموصليّ الكاتب ، وأمر حسين بن جوهر وعبد العزيز بلزوم دورهما ، ومنعا من الركوب وسائر أولادهما ، ثم عفا

٧٣

عنهما بعد أيام ، وأمر بالركوب. وتوقفت زيادة النيل فاستسقى الناس مرّتين ، وأمر بإبطال عدّة مكوس ، وتعذر وجود الخبز لغلائة وقلته ، وفتح الخليج في رابع توت ، والماء على خمسة عشر ذراعا فاشتدّ الغلاء.

وفي تاسع المحرّم وهو نصف توت نقص ماء النيل ولم يوف ستة عشر ذراعا ، فمنع الناس من التظاهر بالغناء ومن ركوب البحر للتفرّج ، ومنع من بيع المسكرات ، ومنع الناس كافة من الخروج قبل الفجر وبعد العشاء إلى الطرقات واشتدّ الأمر على الكافة لشدّة ما داخلهم من الخوف مع شدّة الغلاء ، وتزايد الأمراض في الناس والموت.

فلما كان في رجب انحلت الأسعار ، وقريء سجل فيه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون ، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون ، وصلاة الخمسين للذي جاءهم فيها يصلون ، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون ، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمسون ، ولا يمنع من التربيع عليها المربعون ، يؤذن بحيّ على خير العمل المؤذنون ، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون ، لا يسب أحد من السلف ، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف ، والحالف منهم بما حلف ، لكلّ مسلم مجتهد في دينه اجتهاده. ولقب صالح بن عليّ الروذباديّ بثقة ثقات السيف والقلم ، وأعيد القاضي عبد العزيز بن النعمان إلى النظر في المظالم ، وتزايدت الأمراض وكثر الموت وعزت الأدوية ، وأعيدت المكوس التي رفعت ، وهدمت كنائس كانت بطريق المقس ، وهدمت كنيسة كانت بحارة الروم من القاهرة ، ونهب ما فيها ، وقتل كثير من الخدّام ومن الكتاب ومن الصقالية ، بعد ما قطعت أيدي بعضهم من الكتاب بالشطور على الخشبة من وسط الذراع ، وقتل القائد فضل بن صالح في ذي القعدة ، وفي حادي عشر صفر صرف صالح بن عليّ الروذباديّ ، وقرّر مكانه ابن عبدون النصرانيّ الكاتب فوقّع عن الحاكم ، ونظر وكتب بهدم كنيسة قماسة ، وجدّد ديوان يقال له الديوان المفرد برسم من يقبض ماله من المقتولين وغيرهم ، وكثرت الأمراض وعزت الأدوية ، وشهر جماعة وجد عندهم فقاع وملوخية ودلينس وضربوا ، وعدم دائر القصر واشتدّ الأمر على النصارى واليهود في إلزامهم لبس الغيار ، وكتب إبطال أخذ الخمس والنجاوي والفطرة ، وفرّ الحسين بن جوهر وأولاده ، وعبد العزيز بن النعمان ، وفرّ أبو القاسم الحسين بن المغربيّ ، وكتب عدّة أمانات لعدّة طوائف من شدّة خوفهم ، وقطعت قراءة مجالس الحكمة بالقصر ، ووقع التشديد في المنع من المسكرات ، وقتل كثير من الكتاب والخدّام والفرّاشين ، وقتل صالح بن عليّ الروذباديّ في شوّال.

وفي رابع المحرّم سنة إحدى وأربعمائة ، صرف الكافي بن عبدون عن النظر والتوقيع ، وقرّر بدله أحمد بن محمد القشوريّ الكاتب في الوساطة والسفارة ، وحصر الحسين بن

٧٤

جوهر وعبد العزيز بن النعمان إلى القاهرة ، فأكرما. ثم صرف ابن القشوريّ بعد عشرة أيام من استقراره وضربت عنقه ، وقرّر بدله زرعة بن عيسى بن نسطورس الكاتب النصرانيّ ، ولقّب بالشافي ، ومنع الناس من الركوب في المراكب في الخليج ، وسدّت أبواب الدور التي على الخليج والطاقات المطلة عليه ، وأضيف إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد النظر في المظالم ، وأعيدت مجالس الحكمة ، وأخذ مال النجوى ، وقتل ابن عبدون وأخذ ماله ، وضرب جماعة وشهروا من أجل بيعهم الملوخية والسمك الذي لا قشر له ، وبسبب بيع النبيذ ، وقتل الحسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان في ثاني عشر جمادي الآخرة سنة إحدى وأربعمائة ، وأحيط بأموالهما ، وأبطلت عدّة مكوس ، ومنع الناس من الغناء واللهو ومن بيع المغنيات ومن الاجتماع بالصحراء. وفي هذه السنة خلع حسان بن مفرّج بن دغفل بن الجرّاح طاعة الحاكم ، وأقام أبا الفتوح حسين بن جعفر الحسنيّ أمير مكة خليفة ، وبايعه ودعا الناس إلى طاعته ومبايعته ، وقاتل عساكر الحاكم. وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع من بيع الزبيب وكوتب بالمنع من حمله ، وألقي في بحر النيل منه شيء كثير ، وأحرق شيء كثير ، ومنع النساء من زيارة القبور ، فلم ير في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة ، ومنع من الاجتماع على شاطىء النيل للتفرّج ، ومنع من بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها. ومنع من عصره وطرح كثير منه وديس في الطرقات ، وغرّق كثير منه في النيل ، ومنع من حمله وقطعت كروم الجيزة كلها ، وسيّر إلى الجهات بذلك.

وفي سنة ثلاث وأربعمائة نزع السعر وازدحم الناس على الخبز ، وفي ثاني ربيع الأوّل منها هلك عيسى بن نسطورس ، فأمر النصارى بلبس السواد وتعلق صلبان الخشب في أعناقهم ، وأن يكون الصليب ذراعا في مثله ، وزنته خمسة أرطال ، وأن يكون مكشوفا بحيث يراه الناس ، ومنعوا من ركوب الخيل ، وأن يكون ركوبهم البغال والحمير بسروج الخشب والسيور السود بغير حلية ، وأن يسدّوا الزنانير ولا يستخدموا مسلما ولا يشتروا عبدا ولا أمة ، وتتبعت آثارهم في ذلك ، فأسلم منهم عدّة ، وقرّر حسين بن طاهر الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحاكم في تاسع عشري ربيع الأوّل منها ، ولقب أمين الأمناء ، ونقش الحاكم على خاتمه : بنصر الله العظيم الوليّ ينتصر الإمام أبو علي. وضرب جماعة بسبب اللعب بالشطرنج ، وهدمت الكنائس وأخذ جميع ما فيها ومالها من الرباع ، وكتب بذلك إلى الأعمال فهدمت بها ، وفيها لحق أبو الفتح بمكة ودعا للحاكم وضرب السكة باسمه ، وأمر الحاكم أن لا يقبّل أحد له الأرض ، ولا يقبّل ركابه ، ولا يده عند السلام عليه في المواكب ، فإنّ الانحناء إلى الأرض لمخلوق من صنيع الروم ، وأن لا يزاد على قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، ولا يصلّى أحد عليه في مكاتبة ولا مخاطبة ، ويقتصر في مكاتبته على سلام الله وتحياته. ونوامي بركاته على أمير المؤمنين ، ويدعي له بما يتفق من الدعاء لا غير ، فلم يقل الخطباء يوم الجمع سوى اللهمّ صلّ على محمد المصطفى ، وسلّم

٧٥

على أمير المؤمنين عليّ المرتضى ، اللهمّ وسلّم على أمراء المؤمنين آباء أمير المؤمنين ، اللهمّ اجعل أفضل سلامك على عبدك وخليفتك ، ومنع من ضرب الطبول والأبواق حول القصر ، فصاروا يطوفون بغير طبل ولا بوق ، وكثرت إنعامات الحاكم فتوقف أمين الأمناء حسين بن طاهر الوزان في إمضائها ، فكتب إليه الحاكم بخطه بعد البسملة ، الحمد لله كما هو أهله :

أصبحت لا أرجو ولا أتقي

إلّا إلهي وله الفضل

جدّي نبيّ وإمامي أبي

وديني الإخلاص والعدل

المال مال الله عزوجل ، والخلق عباد الله ، ونحن أمناؤه في الأرض ، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام وركب الحاكم يوم عيد الفطر إلى المصلي بغير زينة ولا جنائب ولا أبهة ، سوى عشرة أفراس تقاد بسروج ولجم محلاة بفضة بيضاء خفيفة ، وبنود ساذجة ومظلة بيضاء بغير ذهب عليه بياض ، بغير طرز ولا ذهب ولا جوهر في عمامته ، ولم يفرش المنبر ، ومنع الناس من سبّ السلف ، وضرب في ذلك وشهر وصلّى صلاة عيد النحر كما صلّى صلاة عيد الفطر من غير أبهة ، ونحر عنه عبد الرحمن بن الياس بن أحمد بن المهديّ ، وأكثر الحاكم من الركوب إلى الصحراء بحذاء في رجله وفوطة على رأيه.

وفي سنة أربع وأربعمائة ألزم اليهود أن يكون في أعناقهم جرس إذا دخلوا الحمام ، وأن يكون في أعناق النصارى صلبان ، ومنع الناس من الكلام في النجوم ، وأقيم المنجمون من الطرقات وطلبوا فتغيبوا ونفوا ، وكثرت هبات الحاكم وصدقاته وعتقه ، وأمر اليهود والنصارى بالخروج من مصر إلى بلاد الروم وغيرها ، وأقيم عبد الرحيم بن الياس وليّ العهد ، وأمر أن يقال في السلام عليه ، السلام على ابن عمّ أمير المؤمنين ، ووليّ عهد المسلمين وصار يجلس بمكان في القصر ، وصار الحاكم يركب بدراعة صوف بيضاء ، ويتعمم بفوطة. وفي رجله خذاء عربيّ بقبالين ، وعبد الرحيم يتولى النظر في أمور الدولة كلها ، وأفرط الحاكم في العطاء وردّ ما كان أخذ من الضياع والأملاك إلى أربابها ، وفي ربيع الآخر أمر بقطع يدي أبي القاسم الجرجانيّ ، وكان يكتب للقائد غين ، ثم قطع يد غين فصار مقطوع اليدين ، وبعث إليه الحاكم بعد قطع يديه بألف من الذهب والثياب ، ثم بعد ذلك أمر بقطع لسانه ، فقطع. وأبطل عدّة مكوس ، وقتل الكلاب كلها ، وأكثر من الركوب في الليل ، ومنع النساء من المشي في الطرقات ، فلم تر امرأة في طريق البتة ، وأغلقت حماماتهنّ ، ومنع الأساكفة من على خفافهنّ ، وتعطلت حوانيتهم ، واشتدّت الإشاعة بوقوع السيف في الناس ، فتهاربوا وغلفت الأسواق ، فلم يبع شيء. ودعي لعبد الرحيم بن الياس على المنابر ، وضربت السكة باسمه بولاية العهد ، وفي سنة خمس وأربعمائة قتل مالك بن سعيد الفارقيّ ، في ربيع الآخر ، وكانت مدّة نظره في قضاء القضاة ست سنين وتسعة أشهر وعشرة

٧٦

أيام ، وبلغ إقطاعه في السنة خمسة عشر ألف دينار ، وتزايد ركوب الحاكم حتى كان يركب في كلّ يوم عدّة مرّات ، واشترى الحمير وركبها بدل الخيل.

وفي جمادى الآخرة منها قتل الحسين بن طاهر الوزان ، فكانت مدّة نظره في الوساطة سنتين وشهرين وعشرين يوما ، فأمر أصحاب الدواوين بلزوم دواوينهم ، وصار الحاكم يركب حمارا بشاشية مكشوفة بغير عمامة ، ثم أقام عبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب وأخاه أبا عبد الله الحسين في الوساطة والسفارة ، وأقرّ في وظيفة قضاء القضاة أحمد بن محمد بن أبي العوام ، وخرج الحاكم عن الحدّ في العطاء حتى أقطع نواتية المراكب والمشاعلية ، وبنى قرّة ، فما أقطع الإسكندرية والبحيرة ونواحيهما ، وقتل ابني أبي السيد فكانت مدّة نظرهما اثنتين وستين يوما ، وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات ، ثم قتله في اليوم الخامس من ولايته ، وغلب بنو قرّة على الإسكندرية وأعمالها ، وأكثر الحاكم من الركوب فركب في يوم ستة مرّات ، مرّة على فرس ، ومرّة على حمار ، ومرّة في محفة تحمل على الأعناق ، ومرّة في عشاري في النيل بغير عمامة ، وأكثر من إقطاع الجند والعبيد الإقطاعات ، وأقام ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن عليّ بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة ، وولى عبد الرحيم بن الياس دمشق ، فسار إليها في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعمائة ، فأقام فيها شهرين ثم هجم عليه قوم فقتلوا جماعة ممن عنده ، وأخذوه في صندوق وحملوه إلى مصر ، ثم أعيد إلى دمشق فأقام بها إلى ليلة عيد الفطر وأخرج منها. فلما كان لليلتين بقيتا من شوّال سنة عشر وأربعمائة ، فقد الحاكم وقيل أن أخته قتلته وليس بصحيح ، وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر ، وكانت مدّة خلافته خمسا وعشرين سنة وشهرا ، وكان جوادا سفاكا للدماء ، قتل عددا لا يحصى ، وكانت سيرته من أعجب السير ، وخطب له على منابر مصر والشام وأفريقية والحجاز ، وكان يشتغل بعلوم الأوائل ، وينظر في النجوم وعمل رصدا واتخذ بيتا في المقطم ينقطع فيه عن الناس لذلك ، ويقال أنه كان يعتريه جفاف في دماغه ، فلذلك كثر تناقضه ، وما أحسن ما قال فيه بعضهم ، كانت أفعاله لا تعالى ، وأحلام وساوسه لا تؤوّل ، وقال المسبحيّ وفي محرّم سنة خمس عشرة وأربعمائة قبض على رجل من بني حسين ثار بالصعيد الأعلى ، فأقرّ بأنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرّقوا في البلاد ، وأظهر قطعة من جلدة رأس الحاكم ، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه ، فقيل له لم قتلته؟ فقال : غيرة لله وللإسلام. فقيل له : كيف قتلته؟ فأخرج سكينا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه. وقال هكذا قتلته. فقطع رأسه وأنفذ به إلى الحضرة مع ما وجد معه ، وهذا هو الصحيح في خبر قتل الحاكم ، لا ما تحكيه المشارقة في كتبهم من أن أخته قتلته.

جامع الفيلة

هذا الجامع بسطح الجرف المطلّ على بركة الحبش المعروف الآن بالرصد ، بناه

٧٧

الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ في شعبان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، وبلغت النفقة على بنائه ستة آلاف دينار ، وإنما قيل له جامع الفيلة لأنّ في قبلته تسع قباب في أعلاه ذات قناطر ، إذا رآها الإنسان من بعيد شبهها بمدّرعين على فيلة ، كالتي كانت تعمل في المواكب أيام الأعياد ، وعليها السرير وفوقها المدّرعون أيام الخلفاء ، ولما كمل أقام في خطابته الشريف الزكيّ أمين الدولة أبا جعفر محمد بن محمد بن هبة الله بن عليّ الحسينيّ الأفطسيّ النسابة الكاتب الشاعر الطرابلسيّ ، بعد صرفه من قضاء الغربية ، فلما رقى المنبر أوّل خطبة أقيمت في هذا الجامع قال : بسم الله الحمد لله ، وأرتج عليه فلم يدر ما يقول ، وكان هناك الشيخ أبو القاسم عليّ بن منجب بن الصيرفيّ الكاتب ، وولده مختص الدولة أبو المجد ، وأبو عبد الله بن بركات النحويّ ، ووجوه الدولة. فلما أضجر من حضر نزل عن المنبر وقد حمّ ، فتقدّم قيم الجامع وصلّى ومضى الشريف إلى داره فاعتلّ ومات. وكان قد ولي قضاء عسقلان وغيرها ، ثم قدم إلى مصر فولي الحكم بالمحلة ، وولي ديوان الأحباس ، وكان أحد الأعيان الأدباء العارفين بالنسب ، ومن الشعراء المجيدين والنحاة اللغويين ، ولد بطرابلس الشام في سنة اثنتين وستين وأربعمائة ، وقدم إلى القاهرة في سنة إحدى وخمسمائة ، ومدح الأفضل ، ومات في سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وخمسمائة ، وقد ترشح للنقابة بمصر ولم ينلها مع تطلعه إليها ، وذيل كتاب أبي الغنائم الزيديّ النسابة ، ومن شعره بديها ، وقد نام مع جاريته على سطوح فطلع القمر عليهما فارتاعا من كشف الجيران عليهما :

ولمّا تلاقينا وغاب رقيبنا

ورمت التشكي في خلو وفي سرّ

بدا ضوء بدر فافترقنا لضوئه

فيا من رأى بدرا ينمُّ على بدر

وأهل المطالب يذكرون أنّ الأفضل وجد بموضع الصهريج مطلبا ، فختم عليه أشهرا إلى أن نقله وعمله صهريجا وبنى عليه هذا المسجد ، وهذا الشرف الذي عليه جامع الفيلة منظرة في غاية الحسن ، لأنّ في قبليه بركة الحبش وبستان الوزير المغربيّ والعدوية ودير النسطورية وبئر أبي سلامة ، وهي بئر مدوّرة برسم الغنم ، وبئر النعش ، كان يستقي منها أصحاب الزوايا ، وهي بجوار عفصة الصغرى ، وهي بئر أبي موسى بن أبي خليد ، وسميت بئر النعش لأنها على هيئة النعش ، وماؤها يهضم الطعام وهو أصح الأمواه ، وشرقيّ هذا الجبل : جبل المقطعم والجبانة والمغافر والقرافة وآخر الأكحول وريحان ورعين والكلاع والأكسوع ، وغربيّ هذا الجبل : المعشوق والنيل وبستان اليهوديّ إلى القبلة ، وطموه والأهرام وراشدة ، وبحريّ هذا الجبل بستان الأمير تميم ، وقنطرة خليج بني وائل ، ودير المعدّلين ، وعقبة بحصب ، ومحرى قسطنطين ، والشرف وغير ذلك. وهذا الجامع لا تقام فيه اليوم جمعة ولا جماعة لخراب ما حوله من القرافة وراشدة ، وينزل فيه أحيانا طائفة من العرب بإبلهم يقال لهم المسلمية ، وعما قليل يدثر كما دثر غيره.

٧٨

جامع المقياس

هذا الجامع بجوار مقياس النيل من جزيرة الفسطاط أنشأه ... (١).

الجامع الأقمر

قال ابن عبد الظاهر : كان مكانه علافون ، والحوض مكان المنظرة ، فتحدث الخليفة الآمر مع الوزير المأمون بن البطائحيّ في إنشائه جامعا ، فلم يترك قدّام القصر دكانا ، وبني تحت الجامع المذكور في أيامه دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح ، لا من صوب القصر ، وكمل الجامع المذكور في أيامه ، وذلك في سنة تسع عشرة وخمسمائة ، وذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه. وقال غيره : واشترى له حمّام شمول ودار النحاس بمصر ، وحبسهما على سدنته ووقود مصابيحه ومن يتولى أمره ويؤذن فيه ، وما زال اسم المأمون والآمر على لوح فوق المحراب ، وفيه تجديد الملك الظاهر بيبرس للجامع المذكور ، ولم تكن فيه خطبة ، لكنّه يعرف بالجامع الأقمر. فلما كان في شهر رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة ، جدّده الأمير الوزير المشير الأستادار يلبغا بن عبد الله السالميّ ، أحد المماليك الظاهرية ، وأنشأ بظاهر بابه البحريّ حوانيت يعلوها طباق ، وجدّد في صحن الجامع بركة لطيفة يصل إليها الماء من ساقية ، وجعلها مرتفعة ينزل منها الماء إلى من يتوضأ من بزابيز نحاس ، ونصب فيه منبرا ، فكانت أوّل جمعة جمعت فيه رابع شهر رمضان من السنة المذكورة ، وخطب فيه شهاب الدين أحمد بن موسى الحلبيّ أحد نوّاب القضاة الحنفية ، وأرتج عليه ، واستمرّ إلى أن مات في سابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانمائة ، وبني على يمنة المحراب البحريّ مئذنة ، وبيّض الجامع كله ودهن صدره بلازورد وذهب. فقلت له : قد أعجبني ما صنعت بهذا الجامع ما خلا تجديد الخطبة فيه وعمل بركة الماء. فإنّ الخطبة غير محتاج إليها هاهنا لقرب الخطب من هذا الجامع ، وبركة الماء تضيق الصحن. وقد أنشأت ميضأة بجوار بابه الذي من جهة الركن المخلق ، فاحتجّ لعمل المنبر بأن ابن الطوير قال فيه كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين ، عند ذكر جلوس الخليفة في المواليد الستة : ويقدّم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك ، ثم يحضر خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك. قال : فهذا أمر قد كان في الدولة الفاطمية ، وما أنا بالذي أحدثته ، وأما البركة ففيها عون على الصلاة لقربها من المصلين ، وجعل فوق المحراب لوحا مكتوبا فيه ما كان فيه أوّلا ، وذكر فيه تجديده لهذا الجامع ، ورسم فيه نعوته وألقابه ، وجدّد أيضا حوض هذا الجامع الذي تشرب منه الدواب ، وهو في ظهر الجامع تجاه الركن المخلق ، وبئر هذا الجامع قديمة قبل الملة الإسلامية ، كانت في دير من ديارات النصارى بهذا الموضع.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٧٩

فلما قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أدخل هذا الدير في القصر ، وهو موضع الركن المخلق تجاه الحوض المذكور ، وجعل هذه البئر مما ينتفع به في القصر ، وهي تعرف ببئر العظام ، وذلك أن جوهر انقل من الدير المذكور عظاما كانت فيه من رمم قوم يقال أنهم من الحواريين ، فسميت بئر العظام ، والعامّة تقول إلى اليوم بئر المعظمة ، وهي بئر كبيرة في غاية السعة ، وأوّل ما أعرف من إضافتها إلى الجامع الأقمر ، أنّ العماد الدمياطيّ ركب على فوهتها هذه المحال التي بها الآن ، وهي من جيد المحال ، وكان تركيبها بعد السبعمائة في أيام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعيّ ، وبهذا الجامع درس من قديم الزمان ، ولم تزل مئذنته التي جدّدها السالميّ والبركة إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة ، فولي نظر الجامع بعض الفقهاء ، فرأى هدم المئذنة من أجل ميل حدث بها ، فهدمها وأبطل الماء من البركة لإفساد الماء بمروره جدار الجامع القبليّ ، والخطبة قائمة به إلى الآن.

الآمر بأحكام الله : أبو عليّ المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر لاعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور ، ولد يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة تسعين وأربعمائة ، وبويع له بالخلافة يوم مات أبوه وهو طفل له من العمر خمس سنين وأشهر وأيام ، في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة خمس وتسعين ، أحضره الأفضل بن أمير الجيوش وبايع له ونصبه مكان أبيه ، ونعته بالآمر بأحكام الله ، وركب الأفضل فرسا وجعل في السرج شيئا وأركبه عليه لينمو شخص الآمر ، وصار ظهره في حجر الأفضل ، فلم يزل تحت حجره حتى قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة ، فاستوزر بعده القائد أبا عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ ، ولقّبه بالمأمون ، فقام بأمر دولته إلى أن قبض عليه في ليلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة ، فتفرّغ الآمر لنفسه ولم يبق له ضدّ ولا مزاحم ، وبقي بغير وزير ، وأقام صاحبي ديوان أحدهما جعفر بن عبد المنعم ، والآخر سامريّ يقال له أبو يعقوب إبراهيم ، ومعهما مستوف يعرف بابن أبي نجاح كان راهبا ، ثم تحكم هذا الراهب في الناس وتمكن من الدواوين ، فابتدأ في مطالبة النصارى ، وحقق في جهاتهم الأموال وحملها أوّلا فأوّلا ، ثم أخذ في مصادرة بقية المباشرين والمعاملين والضمناء والعمال ، وزاد إلى أن عمّ ضرره جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة ، بحيث لم يخل أحد من ضرره. فلما تفاقم أمره قبض عليه الآمر وضرب بالنعال حتى مات بالشرطة ، فجر إلى كرسيّ الجسر وسمّر على لوح وطرح في النيل ، وحذف حتى خرج إلى البحر الملح. فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وثب جماعة على الآمر وقتلوه ، كما ذكر عند خبر الهودج ، وكان كريما سمحا إلى الغاية ، كثير النزهة محبا للمال والزينة ، وكانت أيامه كلها لهوا وعيشة راضية لكثرة عطائه وعطاء حواشيه ، بحيث لم يوجد بمصر

٨٠