كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

حماه ، نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده ، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو ، ويجتمع للأمير أيده الله بما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار ، وإنّ فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة ، لأنها سنة ظمأ توجب الفسيخ ، زاد مال البلد وتوفر توفرا عظيما ينضاف إلى مال المرافق ، فيضبط به الأمير أيّده الله أمر دنياه ، وهذه طريقة أمور الدنيا وأحكام أمور الرياسة والسياسة ، وكلّ ما عدل الأمير أيده الله إليه من أمر غير هذا ، فهو مفسد لدنياه ، وهذا رأيي ، والأمير أيده الله على ما عساه يراه.

فقال له : ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبه كلامه ، فبات تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة ، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له : ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق (١) والفسخ (٢) برأي تحمد عاقبته ، فلا تقبله. ومن ترك شيئا لله عزوجل عوّضه الله عنه ، فأمض ما كنت عزمت عليه. فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر الأعمال بذلك ، وتقدّم به في سائر الدواوين بإمضائه ، ودعا بابن دسومة فعرّفه بذلك ، فقال له : قد أشار عليك رجلان ، الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم ، وأنت إلى الحيّ أقرب وبضمانه أوثق. فقال : دعنا من هذا ، فلست أقبل منك. وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد ، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه ، وهو رمل ، فسقط الغلام في الرمل ، فإذا بفتق ، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار ، وهو الكنز الذي شاع خبره ، وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون بخير المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البرّ وغيرها ، فبنى منه المارستان ، ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما ، فبنى منه الجامع ووقف جميع ما بقي من المال في الصدقات ، وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة. ولما انصرف من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دسومة وأراه المال وقال له : بئس الصاحب والمستشار أنت ، هذا أوّل بركة مشورة الميت في النوم ، ولو لا أنني أمنتك لضربت عنقك ، وتغيّر عليه وسقط محله عنده ، ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها ، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه ، فمات في حبسه. وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدا في شكر الشاكرين ، لا يهش إلى شيء من أعمال البرّ. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن ، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع.

وقال ابن عبد الظاهر : سمعت غير واحد يقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع ، أسرّ للناس بسماع ما يقوله الناس فيه من العيوب. فقال رجل : محرابه صغير ،

__________________

(١) الارتفاق : الانتفاع.

(٢) الفسخ : النقض.

٤١

وقال آخر : ما فيه عمود. وقال آخر : ليست له ميضأة. فجمع الناس وقال : أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خطه لي ، فأصبحت فرأيت النمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي ، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز ، وما كنت لأشوبه بغيره ، وهذه العمد إمّا أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها ، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها ، وها أنا أبنيها خلفه ، ثم أمر ببنائها. وقيل أنه لما فرغ من بنائه رأى في منامه كأن نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله ، فلما أصبح قص رؤياه ، فقيل له : أبشر بقبول الجامع ، لأنّ النار كانت في الزمان الماضي إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته ، ودليله قصة قابيل وهابل. قال : ورأيت من يقول أنه عمّر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع ، أجرتها في كلّ يوم اثنا عشر درهما ، في بكرة النهار ، لشخص يبيع الغزل ويشتريه ، والظهر لخباز ، والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول.

وقيل عن أحمد بن طولون أنه كان لا يعبث بشيء قط ، فاتفق أنه أخذ درجا أبيض بيده وأخرجه ومدّه واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به ، وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته ، فطلب المعمار على الجامع وقال : تبني المنارة التي للتأذين هكذا ، فبنيت على تلك الصورة ، والعامّة يقولون أن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس ، وليس صحيحا وإنما يدور مع دوران الرياح ، وكان الملك الكامل قد اعتنى بوقودها ليلة النصف من شعبان ، ثم أبطلها. وقال المسبحيّ : إن الحاكم أنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفا. وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى ، احترقت الفوّارة التي كانت بجامع ابن طولون فلم يبق منها شيء ، وكانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها ، وهي مذهبة على عشر عمد رخام وستة عشر عمود رخام في جوانبها ، مفروشة كلها بالرخام ، وتحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع ، في وسطها فوّارة تفور بالماء ، وفي وسطها قبة مزوّقة يؤذن فيها ، وفي أخرى على سلمها ، وفي السطح علامات الزوال ، والسطح بدرابزين ساج ، فاحترق جميع هذا في ساعة واحدة. وفي المحرّم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوّارة عوضا عن التي احترقت ، فعمل ذلك على يد راشد الحنفيّ ، وتولى عمارتها ابن الرومية وابن البناء ، وماتت أمّ العزيز في سلخ ذي القعدة من السنة والله أعلم.

تجديد الجامع : وكان من خبر جامع ابن طولون أنه لما كان غلاء مصر في زمان المستنصر ، وخربت القطائع والعسكر ، عدم الساكن هناك وصار ما حول الجامع خرابا ، وتوالت الأيام على ذلك وتشعث الجامع وخرب أكثره ، وصار أخيرا ينزل فيه المغاربة بأباعرها ومتاعها عند ما تمرّ بمصر أيام الحج ، فهيأ الله جلّ جلاله لعمارة هذا الجامع ، أن كان بين الملك الأشرف خليل بن قلاون وبين الأمير بيدر أمور موشحة تزايدت وتأكدت ،

٤٢

إلى أن جمع بيدر من يثق به وقتل الأشرف بناحية تروجه في سنة ثلاث وتسعين وستمائة ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر مدرسته ، وكان ممن وافق الأمير بيدرا على قتل الأشرف ، الأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ ، والأمير قراسنقر ، فلما قتل بيدر في محاربة مماليك الأشرف له ، فرّ لاجين وقراسنقر من المعركة ، فاختفى لاجين بالجامع الطولونيّ ، وقراسنقر في داره بالقاهرة ، وصار لاجين يتردّد بمفرده من غير أحد معه في الجامع وهو حينئذ خراب لا ساكن فيه ، وأعطى الله عهدا إن سلّمه الله من هذه المحنة ومكنه من الأرض أن يجدّد عمارة هذا الجامع ويجعل له ما يقوم به ، ثم إنه خرج منه في خفية إلى القرافة فأقام بها مدّة ، وراسل قراسنقر فتحيل في لحاقه به ، وعملا أعمالا إلى أن اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري ، وهو إذ ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون ، والقائم بأمور الدولة كلها ، فأحضرهما إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان ، فخلع عليهما وصار كلّ منهما إلى داره وهو آمن ، فلم تطل أيام الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلعه الأمير كتبغا وجلس على تخت الملك ، وتلقب بالملك العادل ، فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر ، وجرت أمور اقتضت قيام لاجين على كتبغا وهم بطريق الشام ، ففرّ كتبغا إلى دمشق واستولى لاجين على دست المملكة ، وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل ، وتلقب بالملك المنصور في المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة ، فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر ، وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك ، فجعله في قلعتها ، وأعانه أهل الشام على كتبغا حتى قبض عليه وجعله نائب حماه ، فأقام بها مدّة سنين بعد سلطنة مصر والشام وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداريّ وأقامه في نيابة دار العدل ، وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولونيّ ، وصرف إليه كلّ ما يحتاج إليه في العمارة ، وأكد عليه في أن لا يسخّر فيه فاعلا ولا صانعا ، وأن لا يقيم مستحثا للصناع ، ولا يشتري لعمارته شيئا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلّا بالقيمة التامة ، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله ، وأشهد عليه بوكالته ، فابتاع منية أندونة من أراضي الجيزة ، وعرفت هذه القرية بأندونة ، كاتب بمصر كان نصرانيا في زمن أحمد بن طولون ، وممن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار ، واشترى أيضا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما كان في القديم عامرا ثم خرب ، وحكرها وعمر الجامع ، وأزال كلّ ما كان فيه من تخريب ، وبلطه وبيضه ورتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة التي عمل أهل مصر عليها الآن ، ودرسا يلقى فيه تفسير القرآن الكريم ، ودرسا لحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودرسا للطب ، وقرّر للخطيب معلوما ، وجعل له إماما راتبا ، ومؤذنين وفرّاشين وقومة ، وعمل بجواره مكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عزوجل ، وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البرّ ، فبلغت النفقة على عمارة الجامع وثمن مستغلاته عشرين ألف دينار ، فلما شاء الله سبحانه أن يهلك لاجين ، زيّن له

٤٣

سوء عمله ، عزل الأمير قراسنقر من نيابة السلطنة ، فعزله وولى مملوكه منكوتمر ، وكان عسوفا عجولا حادّا ، ولاجين مع ذلك يركن إليه ويعوّل في جميع أموره عليه ولا يخالف قوله ولا ينقض فعله ، فشرع منكوتمر في تأخير أمراء الدولة من الصالحية والمنصورية ، وأعجل في إظهار التهجم لهم والإعلان بما يريده من القبض عليهم وإقامة أمراء غيرهم ، فتوحشت القلوب منه وتمالأت على بغضه ، ومشى القوم بعضهم إلى بعض وكاتبوا إخوانهم من أهل البلاد الشامية ، حتى تمّ لهم ما يريدون ، فواعد جماعة منهم إخوانهم على قتل السلطان لاجين ونائبه منكوتمر ، فما هو إلّا أن صلّى السلطان العشاء الآخرة من ليلة الجمعة العاشر من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة ، وإذا بالأمير كرجي وكان ممن هو قائم بين يديه ، تقدّم ليصلح الشمعة ، فضربه بسيف قد أخفاه معه أطار به زنده ، وانقض عليه البقية ممن واعدوهم بالسيوف والخناجر ، فقطعوه قطعا ، وهو يقول الله الله ، وخرجوا من فورهم إلى باب القلة من قلعة الجبل ، فإذا بالأمير طفج قد جلس في انتظارهم ومعه عدّة من الأمراء ، وكانوا إذ ذاك يبيتون بالقلعة دائما ، فأمروا بإحضار منكوتمر من دار النيابة بالقلعة وقتلوه بعد مضيّ نصف ساعة من قتل أستاذه الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ رحمه‌الله. فلقد كان مشكور السيرة.

وفي سنة سبعة وستين وسبعمائة جدّد الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ درسا بجامع ابن طولون ، فيه سبعا مدرّسين للحنفية ، وقرّر لكلّ فقيه من الطلبة في الشهر أربعين درهما وأردب قمح ، فانتقل جماعة من الشافعية إلى مذهب الحنفية. وأوّل من ولّي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ وهو إذ ذاك دوادار السلطان الملك المنصور لاجين ، ثم ولّي نظره قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة ، ثم من بعده الأمير مكين في أيام الناصر محمد بن قلاون ، فجدّد في أوقافه طاحونا وفرنا وحوانيت. فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة ، ثم ولّاه الناصر للقاضي كريم الدين الكبير ، فحدّد فيه مئذنتين ، فلما نكبه السلطان عاد نظره إلى قاضي القضاة الشافعيّ ، وما برح إلى أيام الناصر حسن بن محمد بن قلاون ، فولّاه للأمير صرغتمش ، وتوفر في مدّة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة ، وقبض عليه وهي حاصلة ، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان بن حسين ، ففوّض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفيّ إلى أن غرق ، فتحدّث فيه قاضي القضاة الشافعيّ إلى أن فوّض السلطان الملك الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلو بغا الصفويّ ، في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ، وكان الأمير منطاش مدّة تحكمه في الدولة فوّضه إلى المذكور في أواخر شوّال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفويّ وهو بأيديهم إلى اليوم. وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدّد الرواق البحريّ الملاصق للمئذنة ، الحاج عبيد الله محمد بن عبد الهادي الهويديّ البازدار مقدّم الدولة. وجدّد ميضأة بجانب الميضأة القديمة ، وكان عبيد

٤٤

هذا بازدارا ، ثم ترقّى حتى صار مقدّم الدولة ، في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ، ثم ترك زيّ المقدّمين وتزيّا بزيّ الأمراء ، وحاز نعمة جليلة وسعادة طائلة حتى مات يوم السبت رابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.

ذكر دار الإمارة

وكان بجوار الجامع الطولونيّ دار أنشأها الأمير أحمد بن طولون عندما بني الجامع ، وجعلها في الجهة القبلية ، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة بجوار المحراب والمنبر ، وجعل في هذه الدار جميع ما يحتاج إليه من الفرش والستور والآلات ، فكان ينزل بها إذا راح إلى صلاة الجمعة ، فإنها كانت تجاه القصر والميدان ، فيجلس فيها ويجدّد وضوءه ويغير ثيابه ، وكان يقال لها دار الإمارة ، وموضعها الآن سوق الجامع حيث البزازين وغيرهم ، ولم تزل هذه الدار باقية إلى أن قدم الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ من بلاد المغرب ، فكان يستخرج فيها أموال الخراج. قال الفقيه الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز : ولست عشرة بقيت من المحرّم ، يعني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة قلّد المعز لدين الله الخراج وجميع وجوه الأعمال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشرطيين ، وجميع ما ينضاف إلى ذلك ، وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال ، أبا الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس ، وعسلوج بن الحسن ، وكتب لهما سجلا بذلك قريء يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون ، وجلسا غد هذا اليوم في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأعمال ، ثم خربت هذه الدار فيما خرب من القطائع والعسكر ، وصار موضعها ساحة إلى أن حكرها الدويداريّ عند تجديد عمارة الجامع كما تقدّم ، وقد ذكر بناء القيسارية في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الأسواق.

ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف

اعلم أن أوّل من أذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلال بن رباح ، مولى أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنهما ، بالمدينة الشريفة وفي الأسفار ، وكان ابن أمّ مكتوم واسمه عمرو بن قيس بن شريح من بني عامر بن لؤيّ ، وقيل اسمه عبد الله ، وأمّه أمّ مكتوم ، واسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة من بني مخزوم ، ربما أذن بالمدينة ، وأذن أبو محذورة ، واسمه أوس ، وقيل سمرة بن معير بن لوذان بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جمح ، وكان استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يؤذن مع بلال ، فأذن له وكان يؤذن في المسجد الحرام ، وأقام بمكة ومات بها ولم يأت المدينة.

قال ابن الكلبيّ : كان أبو محذورة لا يؤذن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة إلّا في الفجر ، ولم يهاجر وأقام بمكة.

٤٥

وقال ابن جريج : علّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا محذورة الأذان بالجعرانة حين قسم غنائم حنين ، ثم جعله مؤذنا في المسجد الحرام.

وقال الشعبيّ : أذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلال وأبو محذورة وابن أمّ مكتوم ، وقد جاء أن عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند المنبر ، وقال محمد بن سعد عن الشعبيّ : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة مؤذنين ، بلال وأبو محذورة وعمرو بن أمّ مكتوم ، فإذا غاب بلال أذن أبو محذورة ، وإذا غاب أبو محذورة أذن ابن أمّ مكتوم. قلت : لعلّ هذا كان بمكة. وذكر ابن سعد أنّ بلالا أذن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وأن عمر رضي‌الله‌عنه أراده أن يؤذن له فأبى عليه فقال له : إلى من ترى أن أجعل النداء؟ فقال : إلى سعد القرظ فإنه قد أذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاه عمر رضي‌الله‌عنه فجعل النداء إليه وإلى عقبه من بعده ، وقد ذكر أن سعد القرظ كان يؤذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقباء.

وذكر أبو داود في «مراسيله» والدار قطنيّ في «سننه» ، قال بكير بن عبد الله الأشج : كانت مساجد المدينة تسعة سوى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلهم يصلون بأذان بلال رضي‌الله‌عنه. وقد كان عند فتح مصر الأذان إنما هو بالمسجد الجامع المعروف بجامع عمرو ، وبه صلاة الناس بأسرهم ، وكان من هدى الصحابة والتابعين رضي‌الله‌عنهم المحافظة على الجماعة وتشديد النكير على من تخلف عن صلاة الجماعة. قال أبو عمرو الكندي في ذكر من عرّف على المؤذنين بجامع عمرو بن العاص بفسطاط مصر ، وكان أوّل من عرّف على المؤذنين أبو مسلم سالم بن عامر بن عبد المراديّ ، وهو من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أذن لعمر بن الخطاب ، سار إلى مصر مع عمرو بن العاص يؤذن له حتى افتتحت مصر ، فأقام على الأذان وضمّ إليه عمرو بن العاص تسعة رجال يؤذنون هو عاشرهم ، وكان الأذان في ولده حتى انقرضوا.

قال أبو الخير : حدّثني أبو مسلم وكان مؤذنا لعمرو بن العاص ، أن الأذان كان أوّله لا إله إلا الله ، وآخره لا إله إلّا الله ، وكان أبو مسلم يوصي بذلك حتى مات ويقول : هكذا كان الأذان. ثم عرّف عليهم أخوه شرحبيل بن عامر وكانت له صحبة ، وفي عرافته زاد مسلمة بن مخلد في المسجد الجامع وجعل له المنار ، ولم يكن قبل ذلك ، وكان شرحبيل أوّل من رقي منارة مصر للأذان ، وأن مسلمة بن مخلد اعتكف في منارة الجامع ، فسمع أصوات النواقيس عالية بالفسطاط فدعا شرحبيل بن عامر ، فأخبره بما ساءه من ذلك. فقال شرحبيل : فإني أمدّد بالأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر ، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت ، فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان ، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل إلى أن مات شرحبيل سنة خمس وستين.

٤٦

وذكر عن عثمان رضي‌الله‌عنه أنه أوّل من رزق المؤذنين ، فلما كثرت مساجد الخطبة أمر مسلمة بن مخلد الأنصاريّ في إمارته على مصر ببناء المنار في جميع المساجد خلا مساجد تجيب وخولان ، فكانوا يؤذنون في الجامع أوّلا ، فإذا فرغوا أذن كلّ مؤذن في الفسطاط في وقت واحد ، فكان لأذانهم دويّ شديد. وكان الأذان أوّلا بمصر كأذان أهل المدينة ، وهو الله أكبر الله أكبر وباقيه كما هو اليوم ، فلم يزل الأمر بمصر على ذلك في جامع عمرو بالفسطاط ، وفي جامع العسكر ، وفي جامع أحمد بن طولون وبقية المساجد إلى أن قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله وبنى القاهرة ، فلما كان في يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ، صلّى القائد جوهر الجمعة في جامع أحمد بن طولون ، وخطب به عبد السميع بن عمر العباسيّ بقلنسوة وسبني وطيلسان دبسيّ ، وأذن المؤذنون حيّ على خير العمل ، وهو أوّل ما أذن به بمصر ، وصلّى به عبد السميع الجمعة فقرأ سورة الجمعة (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) وقنت في الركعة الثانية وانحط إلى السجود ونسي الركوع ، فصاح به عليّ بن الوليد قاضي عسكر جوهر بطلت الصلاة أعد ظهرا أربع ركعات ، ثم أذن بحيّ على خير العمل في سائر مساجد العسكر إلى حدود مسجد عبد الله ، وأنكر جوهر على عبد السميع أنه لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في كلّ سورة ، ولا قرأها في الخطبة ، فأنكره جوهر ومنعه من ذلك.

ولأربع بقين من جمادى الأولى المذكور ، أذّن في الجامع العتيق بحيّ على خير العمل ، وجهروا في الجامع بالبسملة في الصلاة ، فلم يزل الأمر على ذلك طول مدّة الخلفاء الفاطميين ، إلّا أن الحاكم بأمر الله في سنة أربعمائة أمر بجمع مؤذني القصر وسائر الجوامع ، وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ ، وقرأ أبو عليّ العباسيّ سجلا فيه الأمر بترك حيّ على خير العمل في الأذان ، وأن يقال في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم ، وأن يكون ذلك من مؤذني القصر عند قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله ، فامتثل ذلك. ثم عاد المؤذنون إلى قول حيّ على خير العمل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعمائة ، ومنع في سنة خمس وأربعمائة مؤذني جامع القاهرة ومؤذني القصر من قولهم بعد الأذان السلام على أمير المؤمنين ، وأمرهم أن يقولوا بعد الأذان ، الصلاة رحمك الله. ولهذا الفعل أصل. قال الواقديّ : كان بلال رضي‌الله‌عنه يقف على باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : السلام عليك يا رسول الله ، وربما قال : السلام عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة ، السلام عليك يا رسول الله.

قال البلاذريّ وقال غيره : كان يقول السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح ، الصلاة يا رسول الله. فلما ولي أبو بكر رضي‌الله‌عنه الخلافة كان سعد القرظ يقف على بابه فيقول : السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله

٤٧

وبركاته ، حي على الصلاة حيّ على الفلاح ، الصلاة يا خليفة رسول الله. فلما استخلف عمر رضي‌الله‌عنه كان سعد يقف على بابه فيقول : السلام عليك يا خليفة خليفة رسول الله ورحمة الله ، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح ، الصلاة يا خليفة خليفة رسول الله. فلما قال عمر رضي‌الله‌عنه للناس : أنتم المؤمنين وأنا أميركم. فدعي أمير المؤمنين ، استطالة لقول القائل يا خليفة خليفة رسول الله ، ولمن بعده خليفة خليفة رسول الله. كان المؤذن يقول : السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح ، الصلاة يا أمير المؤمنين. ثم إن عمر رضي‌الله‌عنه أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله. ويقال أنّ عثمان رضي‌الله‌عنه زادها ، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ، ثم يقيمون الصلاة بعد السلام ، فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس. هكذا كان العمل مدّة أيام بني أمية ، ثم مدّة خلافة بني العباس أيام كانت الخلفاء وأمراء الأعمال تصلي بالناس.

فلما استولى العجم وترك خلفاء بني العباس الصلاة بالناس ، ترك ذلك كما ترك غيره من سنن الإسلام ، ولم يكن أحد من الخلفاء الفاطميين يصلي بالناس الصلوات الخمس في كل يوم ، فسلم المؤذنون في أيامهم على الخليفة بعد الأذان للفجر فوق المنارات ، فلمّا انقضت أيامهم وغير السلطان صلاح الدين رسومهم لم يتجاسر المؤذنون على السلام عليه احتراما للخليفة العباسيّ ببغداد ، فجعلوا عوض السلام على الخليفة السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمرّ ذلك قبل الأذان للفجر في كلّ ليلة بمصر والشام والحجاز ، وزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدين عبد الله البرلسيّ ، الصلاة والسلام عليك يا رسول الله ، وكان ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة ، فاستمرّ ذلك.

ولمّا تغلب أبو عليّ بن كتيفات بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ على رتبة الوزارة في أيام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله ، في سادس عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وسجن الحافظ وقيده واستولى على سائر ما في القصر من الأموال والذخائر ، وحملها إلى دار الوزارة ، وكان إماميا متشدّدا في ذلك ، خالف ما عليه الدولة من مذهب الإسماعيلية ، وأظهر الدعاء للإمام المنتظر ، وأزال من الأذان حيّ على خير العمل ، وقولهم محمد وعليّ خير البشر ، وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الذي تنتسب إليه الإسماعيلية ، فلما قتل في سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين وخمسمائة ، عاد الأمر إلى الخليفة الحافظ وأعيد إلى الأذان ما كان أسقط منه.

وأوّل من قال في الأذان بالليل محمد وعليّ خير البشر ، الحسين المعروف بأمير كابن شكنبه ، ويقال أشكنبه ، وهو اسم أعجميّ معناه الكرش ، وهو عليّ بن محمد بن عليّ بن

٤٨

إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. قاله الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة ، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه حيّ على خير العمل ، ومحمد وعليّ خير البشر إلى أيام نور الدين محمود. فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية ، استدعى أبا الحسن عليّ بن الحسن بن محمد البلخيّ الحنفيّ إليها ، فجاء ومعه جماعة من الفقهاء وألقى بها الدروس ، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم : مروهم يؤذنوا الأذان المشروع ، ومن امتنع كبوه على رأسه. فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به ، واستمرّ الأمر على ذلك.

وأمّا مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر ، وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستين وخمسمائة ، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه‌الله ، فأبطل من الأذان قول حيّ على خير العمل ، وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة ، وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين ، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه في مصر ، فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنيفة بأذان أهل الكوفة ، وتقام الصلاة أيضا على رأيهم ، وما عدا ذلك فعلى ما قلنا ، إلّا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسيّ بعد سنة ستين وسبعمائة ، فاستمرّ إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش ، القائم بدولة الملك الصالح المنصور ، أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون. فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة جمعة ، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم : أتحبون أن يكون هذا السلام في كلّ أذان؟ قالوا : نعم. فبات تلك الليلة وأصبح متواجدا يزعم أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه ، وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب فيبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلّ أذان ، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبديّ وكان شيخا جهولا وبلهانا مهولا سيء السيرة في الحسبة والقضاء ، متهافتا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء ، لا يحتشم من أخذ البرطيل والرشوة ، ولا يراعي في مؤمن إلّا ولا ذمّة قد ضرى على الآثام ، وتجسد من أكل الحرام ، يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة ، ويحسب أنّ رضي الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة ، لم تحمد الناس قط أياديه ، ولا شكرت أبدا مساعيه ، بل جهالاته شائعة وقبائح أفعاله ذائعة ، أشخص غير مرّة إلى مجلس المظالم ، وأوقف مع من أوقف للمحاكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح ، حقق فيها شكاته عليه القوادح ، وما زال في السيرة

٤٩

مذموما ومن العامّة والخاصة ملوما. وقال له : رسول الله يأمرك أن تتقدّم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله ، كما يفعل في ليالي الجمع ، فأعجب الجاهل هذا القول ، وجهل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر بعد وفاته إلّا بما يوافق ما شرّعه الله على لسانه في حياته ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة فيما شرعه حيث يقول : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى / ٢١] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم ومحدثات الأمور» فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة ، وتمت هذه البدعة واستمرّت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام ، وصارت العامّة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحلّ تركه ، وأدّى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا ، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وأما التسبيح في الليل على المآذن ، فإنه لم يكن من فعل سلف الأمّة ، وأوّل ما عرف من ذلك أن موسى بن عمران صلوات الله عليه ، لما كان ببني إسرائيل في التيه بعد غرق فرعون وقومه ، اتخذ بوقين من فضة مع رجلين من بني إسرائيل ، ينفخان فيهما وقت الرحيل ووقت النزول ، وفي أيام الأعياد ، وعند ثلث الليل الأخير من كلّ ليلة ، فتقوم عند ذلك طائفة من بني لاوي سبط موسى عليه‌السلام ويقولون نشيدا منزلا بالوحي ، فيه تخويف وتحذير وتعظيم لله تعالى ، وتنزيله له تعالى ، إلى وقت طلوع الفجر ، واستمر الحال على هذا كلّ ليلة مدّة حياة موسى عليه‌السلام ، وبعده أيام يوشع بن نون ، ومن قام في بني إسرائيل من القضاة إلى أن قام بأمرهم داود عليه‌السلام وشرع في عمارة بيت المقدس ، فرتّب في كلّ ليلة عدّة من بني لاوي يقومون عند ثلث الليل الآخر ، فمنهم من يضرب بالآلات كالعود والسطير والبربط والدف والمزمار. ونحو ذلك ، ومنهم من يرفع عقيرته بالنشائد المنزلة بالوحي على نبيّ الله موسى عليه‌السلام ، والنشائد المنزلة بالوحي على داود عليه‌السلام. ويقال أنّ عدد بني لاوي هذا كان ثمانين وثلاثين ألف رجل ، قد ذكر تفصيلهم في كتاب الزبور ، فإذا قام هؤلاء ببيت المقدس ، قام في كلّ محلة من محال بيت المقدس رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله سبحانه من غير آلات ، فإنّ الآلات كانت مما يختص ببيت المقدس فقط ، وقد نهوا عن ضربها في غير البيت ، فيتسامع من قرية بيت المقدس ، فيقوم في كلّ قرية رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله تعالى حتى يهمّ الصوت بالذكر جميع قرى بني إسرائيل ومدنهم ، وما زال الأمر على ذلك في كلّ ليلة إلى أن خرّب بخت نصر بيت المقدس وجلا بني إسرائيل إلى بابل ، فبطل هذا العمل وغيره من بلاد بني إسرائيل مدّة جلائهم في بابل سبعين سنة ، فلما اعاد بنو إسرائيل من بابل وعمروا البيت العمارة

٥٠

الثانية ، أقاموا شرائعهم وعاد قيام بني لاوي بالبيت في الليل ، وقيام أهل محال القدس وأهل القرى والمدن على ما كان العمل عليه أيام عمارة البيت الأولى ، واستمرّ ذلك إلى أن خرب القدس بعد قتل نبيّ الله يحيى بن زكريا ، وقيام اليهود على روح الله ورسوله عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم على يد طيطش ، فبطلت شرائع بني إسرائيل من حينئذ وبطل هذا القيام فيما بطل من بلاد بني إسرائيل.

وأما في الملة الإسلامية فكان ابتداء هذا العمل بمصر ، وسببه أن مسلمة بن مخلد أمير مصر بنى منارا لجامع عمرو بن العاص ، واعتكف فيه فسمع أصوات النواقيس عالية ، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين فقال : إني أمدّد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر ، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت. فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان ، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل ، ثم إن الأمير أبا العباس أحمد بن طولون كان قد جعل في حجرة تقرب منه رجالا تعرف بالمكبرين ، عدّتهم اثنا عشر رجلا ، يبيت في هذه الحجرة كلّ ليلة أربعة يجعلون الليل بينهم عقبا ، فكانوا يكبرون ويسبحون ويحمدون الله سبحانه في كلّ وقت ويقرءون القرآن بألحان ، ويتوسلون ويقولون قصائد زهية ، ويؤذنون في أوقات الأذان ، وجعل لهم أرزاقا واسعة تجري عليهم. فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه ، أقرّهم بحالهم وأجراهم على رسمهم مع أبيه ، ومن حينئذ اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المآذن ، وصار يعرف ذلك بالتسبيح. فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطنة مصر وولى القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدبانيّ المارانيّ الشافعيّ ، كان من رأيه ورأي السلطان اعتقاد مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعريّ في الأصول ، فحمل الناس إلى اليوم على اعتقاده ، حتى يكفّر من خالفه ، وتقدّم الأمر إلى المؤذنين أن يعلنوا في وقت التسبيح على المآذن بالليل بذكر العقيدة التي تعرف بالمرشدة ، فواظب المؤذنون على ذكرها في كلّ ليلة بسائر جوامع مصر والقاهرة إلى وقتنا هذا. ومما أحدث أيضا ، التذكير في يوم الجمعة من أثناء النهار بأنواع من الذكر على المآذن ، ليتهيأ الناس لصلاة الجمعة ، وكان ذلك بعد السبعمائة من سني الهجرة. قال ابن كثير رحمه‌الله في يوم الجمعة سادس ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة ، رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مآذن دمشق كما يذكر في مآذن الجامع الأمويّ ، ففعل ذلك.

الجامع الأزهر

هذا الجامع أوّل مسجد أسس بالقاهرة ، والذي أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقليّ ، مولى الإمام أبي تميم معدّ الخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله لما اختط القاهرة ، وشرع في بناء هذا الجامع في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين

٥١

وثلاثمائة ، وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وجمع فيه ، وكتب بدائر القبة التي في الرواق الأوّل ، وهي على يمنة المحراب والمنبر ، ما نصه بعد البسملة : مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معدّ الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين ، على يد عبده جوهر الكاتب الصقليّ ، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة. وأوّل جمعة جمعت فيه في شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ثم إن العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله جدّد فيه أشياء ، وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء ، فأطلق لهم ما يكفي كلّ واحد منهم من الرزق الناض ، وأمر لهم بشراء دار وبنائها ، فبنيت بجانب الجامع الأزهر ، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى العصر ، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كلّ سنة ، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا ، وخلع عليهم العزيز يوم عيد الفطر ، وحملهم على بغلات. ويقال أنّ بهذا الجامع طلسما ، فلا يسكنه عصفور ، ولا يفرّخ به ، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره ، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة ، كلّ صورة على رأس عمود ، فمنها صورتان في مقدّم الجامع بالرواق الخامس ، منهما صورة في الجهة الغربية في العمود ، وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدّة المؤذنين ، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية ، ثم إن الحاكم بأمر الله جدّده ووقف على الجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكميّ ودار العلم بالقاهرة رباعا بمصر ، وضمّن ذلك كتابا نسخته : هذا كتاب ، أشهد قاضي القضاة مالك بن سعيد بن مالك الفارقيّ ، على جميع ما نسب إليه مما ذكر ووصف فيه ، من حضر من الشهود في مجلس حكمه وقضائه بفسطاط مصر ، في شهر رمضان سنة أربعمائة ، أشهدهم وهو يومئذ قاضي ، عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ الإمام الحاكم بأمر الله المؤمنين بن الإمام العزيز بالله صلوات الله عليهما على القاهرة المعزية ومصر والإسكندرية والحرمين حرسهما الله ، وأجناد الشام والرقة والرحبة ونواحي المغرب ، وسائر أعمالهنّ وما فتحه الله ويفتحه لأمير المؤمنين من بلاد الشرق والغرب ، بمحضر رجل متكلم أنّه صحت عنده معرفة المواضع الكاملة ، والحصص الشائعة ، التي يذكر جميع ذلك ، ويحدد في هذا الكتاب ، وأنها كانت من أملاك الحاكم إلى أن حبسها على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة ، والجامع براشدة ، والجامع بالمقس ، اللذين أمر بإنشائهما وتأسيس بنائهما ، وعلى دار الحكمة بالقاهرة المحروسة التي وقفها ، والكتب التي فيها قبل تاريخ هذا الكتاب ، ومنها ما يخص الجامع الأزهر والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة. مشاعا ، جميع ذلك غير مقسوم ، ومنها ما يخص الجامع بالمقس ، على شرائط يجري ذكرها ، فمن ذلك ما تصدّق به على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة ، والجامع براشدة ، ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة ،

٥٢

جميع الدار المعروفة بدار الضرب ، وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف ، وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة ، الذي كله بفسطاط مصر ، ومن ذلك ما تصدّق به على جامع المقس ، جميع أربعة الحوانيت والمنازل التي علوها والمخزنين الذي ذلك كله بفسطاط مصر بالراية في جانب المغرب من الدار المعروفة كانت بدار الخرق ، وهاتان الداران المعروفتان بدار الخرق في الموضع المعروف بحمام الفار ، ومن ذلك جميع الحصص الشائعة من أربعة الحوانيت المتلاصقة التي بفسطاط مصر بالراية ، أيضا بالموضع المعروف بحمام الفار ، وتعرف هذه الحوانيت بحصص القيسيّ ، بحدود ذلك كله ، وأرضه وبنائه وسفله وعلوه وغرفه ومرتفقاته وحوانيته وساحاته وطرقه وممرّاته ومجاري مياهه ، وكل حق هو له داخل فيه وخارج عنه ، وجعل ذلك كله صدقة موقوفة محرّمة محبسة بتة بتلة ، لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها ، باقية على شروطها جارية على سبلها المعروفة في هذا الكتاب ، لا يوهنها تقادم السنين ، ولا تغير بحدوث حدث ، ولا يستثنى فيها ولا يتأوّل ، ولا يستفتي بتجدّد تحبيسها مدى الأوقات ، وتستمرّ شروطها على اختلاف الحالات حتى يرث الله الأرض والسماوات ، على أن يؤجر ذلك في كلّ عصر من ينتهي إليه ولايتها ويرجع إليه أمرها ، بعد مراقبة الله واجتلاب ما يوفر منفعتها من إشهارها عند ذوي الرغبة في إجارة أمثالها ، فيبتدأ من ذلك بعمارة ذلك على حسب المصلحة وبقاء العين ومرمّته من غير إجحاف بما حبس ذلك عليه.

وما فضل كان مقصوما على ستين سهما فمن ذلك للجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة المذكور في هذا الإشهاد ، الخمس ، والثمن ، ونصف السدس ، ونصف التسع ، يصرف ذلك فيما فيه عمارة له ومصلحة ، وهو من العين المعزيّ الوازن ألف دينار واحدة وسبعة وستون دينارا ونصف دينار وثمن دينار ، من ذلك للخطيب بهذا الجامع أربعة وثمانون دينارا ، ومن ذلك لثمن ألف ذراع حصر عبدانيّة تكون عدّة له بحيث لا ينقطع من حصره عند الحاجة إلى ذلك ، ومن ذلك لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لكسوة هذا الجامع في كلّ سنة عند الحاجة إليها مائة دينار واحدة وثمانية دنانير ، ومن ذلك لثمن ثلاثة قناطير زجاج وفراخها اثنا عشر دينارا ونصف وربع دينار ، ومن ذلك لثمن عود هنديّ للبخور في شهر رمضان وأيام الجمع مع ثمن الكافور والمسك ، وأجرة الصانع خمسة عشر دينارا ، ومن ذلك لنصف قنطار شمع بالفلفليّ سبعة دنانير ، ومن ذلك لكنس هذا الجامع ونقل التراب وخياطة الحصر وثمن الخيط وأجرة الخياطة خمسة دنانير ، ومن ذلك لثمن مشاقة لسرج القناديل عن خمسة وعشرين رطلا بالرطل الفلفليّ دينار واحد ، ومن ذلك لثمن فحم للبخور عن قنطار واحد بالفلفليّ نصف دينار ، ومن ذلك لثمن أردبين ملحقا للقناديل ربع دينار ، ومن ذلك ما قدّر لمؤنة النحاس والسلاسل والتنانير والقباب التي فوق سطح الجامع أربعة وعشرون دينارا ، ومن ذلك لثمن سلب ليف وأربعة أحبل وست دلاء أدم نصف دينار ، ومن ذلك لثمن

٥٣

قنطارين خرقا لمسح القناديل نصف دينار ، ومن ذلك لثمن عشر قفاف للخدمة وعشرة أرطال قنب لتعليق القناديل ولثمن مائتين مكنسة لكنس هذا الجامع دينار واحد وربع دينار ، ومن ذلك لثمن أزيار فخار تنصب على المصنع ويصبّ فيها الماء مع الجرة حملها ثلاثة دنانير ، ومن ذلك لثمن زيت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل ومائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة وثلاثون دينارا ونصف ، ومن ذلك لأرزاق المصلين يعني الأئمة وهم ثلاثة وأربعة قومة ومسة عشر مؤذنا خمسمائة دينار وستة وخمسون دينارا ونصف ، منها للمصلين لكلّ رجل منهم ديناران وثلثا دينار وثمن دينار في كلّ شهر من شهور السنة ، والمؤذنون والقومة لكلّ رجل منهم ديناران في كلّ شهر ، ومن ذلك للمشرف على هذا الجامع في كلّ سنة أربعة وعشرون دينارا ، ومن ذلك لكنس المصنع بهذا الجامع ونقل ما يخرج منه من الطين والوسخ دينار واحد ، ومن ذلك لمرمّة ما يحتاج إليه في هذا الجامع في سطحه وأترابه وحياطته وغير ذلك مما قدّر لكلّ سنة ستون دينارا ، ومن ذلك لثمن مائة وثمانين حمل تبن ونصف حمل جارية لعلف رأسي بقر للمصنع الذي لهذا الجامع ثمانية دنانير ونصف وثلث دينار ، ومن ذلك للتبن لمخزن يوضع فيه بالقاهرة أربعة دنانير ، ومن ذلك لثمن فدّانين قرط لتربيع رأسي البقر المذكورين في النة سبعة دنانير ، ومن ذلك لأجرة متولي العلف وأجرة السقاء والحبال والقواديس وما يجري مجرى ذلك خمسة عشر دينارا ونصف ، ومن ذلك لأجرة قيم الميضأة إن عملت بهذا الجامع اننا عشر دينارا. وإلى هنا انقضى حديث الجامع الأزهر ، وأخذ في ذكر جامع راشدة ودار العلم وجامع المقس ، ثم ذكر أن تنانير الفضة ثلاثة تنانير ، وتسعة وثلاثون قنديلا فضة ، فللجامع الأزهر تنوران وسبعة وعشرون قنديلا ، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلا ، وشرط أن تعلق في شهر رمضان وتعاد إلى مكان جرت عادتها أن تحفظ به ، وشرط شروطا كثيرة في الأوقاف منها : أنه إذا فضل شيء واجتمع يشترى به ملك ، فإن عاز شيئا واستهدم ولم يف الريع بعمارته بيع وعمر به ، وأشياء كثيرة ، وحبس فيه أيضا عدّة آدر وقياسر لا فائدة في ذكرها ، فإنها مما خربت بمصر.

قال ابن عبد الظاهر عن هذا الكتاب : ورأيت منه نسخة ، وانتقلت إلى قاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين ، وكان بصدر هذا الجامع في محرابه منطقة فضة ، كما كان في محراب جامع عمرو بن العاص بمصر ، قلع ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب في حادي عشر ربيع الأوّل سنة تسع وستين وخمسمائة ، لأنه كان فيها انتهاء خلفاء الفاطميين ، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة ، وقلع أيضا المناطق من بقية الجوامع. ثم أن المستنصر جدّد هذا الجامع أيضا ، وجدّده الحافظ لدين الله ، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربيّ الذي في مقدّم الجامع بداخل الرواقات ، عرفت بمقصورة فاطمة ، من أجل أن فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها رؤيت بها في المنام ، ثم أنه جدّد في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ.

٥٤

قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في كتاب سيرة الملك الظاهر : لما كان يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأوّل سنة خمس وستين وستمائة ، أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة ، وسبب ذلك أن الأمير عز الدين أيدمر الحليّ كان جار هذا الجامع من مدّة سنين ، فرعى وفقه الله حرمة الجار ، ورأى أن يكون كما هو جاره في دار الدنيا ، أنه غدا يكون ثوابه جاره في تلك الدار ، ورسم بالنظر في أمره وانتزع له أشياء مغصوبة كان شيء منها في أيدي جماعة ، وحاط أموره حتى جمع له شيئا صالحا ، وجرى الحديث في ذلك ، فتبرّع الأمير عز الدين له بجملة مستكثرة من المال الجزيل ، وأطلق له من السلطان جملة من المال ، وشرع في عمارته فعمّر الواهي من أركانه وجدارنه وبيّضه وأصلح سقوفه وبلطه وفرشه وكساه ، حتى عاد حرما في وسط المدينة ، واستجدّ به مقصورة حسنة ، وآثر فيه آثارا صالحة يثيبه الله عليها ، وعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رحمه‌الله ، ورتب في هذه المقصورة محدّثا يسمع الحديث النبويّ والرقائق ، ووقف على ذلك الأوقاف الدارّ ، ورتب به سبعة لقراءة القرآن ، ورتب به مدرّسا أثابه الله على ذلك. ولما تكمّل تجديده تحدّث في إقامة جمعة فيه ، فنودي في المدينة بذلك ، واستخدم له الفقيه زين الدين خطيبا ، وأقيمت الجمعة فيه في اليوم المذكور ، وحضر الأتابك فارس الدين ، والصاحب بها الدين عليّ بن حنا ، وولده الصاحب فخر الدين محمد ، وجماعة من الأمراء والكبراء ، وأصناف العالم على اختلافهم ، وكان يوم جمعة مشهودا ، ولما فرغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحليّ والأتابك والصاحب وقرىء القرآن ودعى للسلطان ، وقام الأمير عز الدين ودخل إلى داره ودخل معه الأمراء ، فقدّم لهم كلّ ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وانفصلوا ، وكان قد جرى الحديث في أمر جواز الجمعة في الجامع وما ورد فيه. من أقاويل العلماء ، وكتب فيها فتيا أخذ فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها ، فكتب جماعة خطوطهم فيها ، وأقيمت صلاة الجمعة به واستمرّت ، ووجد الناس به رفقا وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكميّ.

قال وكان سقف هذا الجامع قد بني قصيرا فزيد فيه بعد ذلك وعلى ذراعا ، واستمرّت الخطبة فيه حتى بني الجامع الحاكميّ ، فانتقلت الخطبة إليه ، فإن الخليفة كان يخطب فيه خطبة وفي الجامع الأزهر خطبة ، وفي جامع ابن طولون خطبة ، وفي جامع مصر خطبة ، وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالسلطنة ، فإنه قلد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس ، فعمل بمقتضى مذهبه ، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعيّ ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقرّ الخطبة بالجامع الحاكميّ من أجل أنه أوسع. فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه مائة عام ، من حين استولى

٥٥

السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم ذكره. ثم لما كانت الزلزلة بديار مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة ، سقط الجامع الأزهر والجامع الحاكميّ وجامع مصر وغيره ، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع ، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكميّ ، وتولى الأمير سلار عمارة الجامع الأزهر ، وتولى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار عمارة جامع الصالح ، فجدّدوا مبانيها وأعادوا ما تهدّم منها. ثم جدّدت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن عليّ الأسعرديّ ، محتسب القاهرة ، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ثم جدّدت عمارته في سنة إحدى وستين وسبعمائة ، عند ما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصريّ ، في دار الأمير فخر الدين أبان الزاهديّ الصالحيّ النجميّ بخط الأبارين بجوار الجامع الأزهر ، بعد ما هدمها وعمرها داره التي تعرف هناك إلى اليوم بدار بشير الجامدار ، فأحب لقربه من الجامع أن يؤثر فيه أثرا صالحا ، فاستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في عمارة الجامع ، وكان أثيرا عنده خصيصا به ، فأذن له في ذلك.

وكان قد استجدّ بالجامع عدّة مقاصير ووضعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيقته ، فأخرج الخزائن والصناديق ونزع تلك المقاصير ، وتتبع جدرانه وسقوفه بالإصلاح حتى عادت كأنها جديدة ، وبيّض الجامع كله وبلطه ، ومنع الناس من المرور فيه ، ورتب فيه مصحفا وجعل له قارئا ، وأنشأ على باب الجامع القبليّ حانوتا لتسبيل الماء العذب في كلّ يوم ، وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز ، ورتب للفقراء المجاورين طعاما يطبخ كلّ يوم ، وأنزل إليه قدورا من نحاس جعلها فيه ، ورتب فيه درسا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرّسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير ، ووقف على ذلك أوقافا جليلة باقية إلى يومنا هذا ، ومؤذنو الجامع يدعون في كلّ جمعة وبعد كلّ صلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت الذي نحن فيه.

وفي سنة أربع وثمانين وسبعمائة ولي الأمير الطواشي بهادر المقدّم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر ، فتنجز مرسوم السلطان الملك الظاهر برقوق بأنّ من مات من مجاوري الجامع الأزهر عن غير وارث شرعيّ وترك موجودا فإنه يأخذه المجاورون بالجامع ، ونقش ذلك على حجر عند الباب الكبير البحريّ. وفي سنة ثمانمائة هدمت منارة الجامع ، وكانت قصيرة ، وعمّرت أطول منها ، فبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نقرة ، وكملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة ، فعلّقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر ، وأوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها ، واجتمع القرّاء والوعاظ بالجامع وتلوا ختمة شريفة ، ودعوا للسلطان فلم تزل هذه المئذنة إلى شوّال سنة سبع عشرة وثمانمائة ، فهدمت لميل ظهر فيها ، وعمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع

٥٦

البحريّ ، بعد ما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر ، وركبت المنارة فوق عقده ، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل ، وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق ، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين التاج الشوبكيّ والي القاهرة ومحتسبها ، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمائة ، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط ، فهدمت في صفر سنة سبع وعشرين ، وأعيدت. وفي شوّال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع ، فوجد هناك آثار فسقية ماء ، ووجد أيضا رمم أموات ، وتمّ بناؤه في ربيع الأوّل ، وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسبل فيه الماء ، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات ، فلم تفلح وماتت ، ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بني ، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك ، وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها ، ثم زيد فيها بعد سنة عشر وثمانمائة ميضأة المدرسة الأقبغاوية.

وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب ، فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها ، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدّة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه ، وبلغت عدّتهم في هذه الأيام سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم وزيالعة ، ومن أهل ريف مصر ومغاربة ، ولكلّ طائفة رواق يعرف بهم ، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو ، ومجالس الوعظ وحلق الذكر ، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الإنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره ، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البرّ من الذهب والفضة والفلوس إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى ، وكلّ قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات ، لا سيما في المواسم. فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه ، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف ، زعما منه أن هذا العمل مما يثاب عليه ، وما كان إلّا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررا ، فإنه حلّ بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم ، فساروا في القرى وتبذلوا بعد الصيانة ، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله ، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدّي ، وأشاع أن أناسا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات ، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجنديّ وغيرهم ، منهم من يقصد بمبيته البركة ، ومنهم من لا يجد مكانا يأويه ، ومنهم من يستروح بمبيته هناك خصوصا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان ، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته. فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة ، طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف ، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع ، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان

٥٧

وغوغاء العامّة ومن يريد النهب جماعة ، فحلّ بمن كان في الجامع أنواع البلاء ، ووقع فيهم النهب ، فأخذت فرشهم وعمائمهم ، وفتشت أوساطهم وسلبوا ما كان مربوطا عليها من ذهب وفضة ، وعمل ثوبا أسود للمنبر وعلمين مزوّقين ، بلغت النفقة على ذلك خمسة عشر ألف درهم ، على ما بلغني ، فعاجل الله الأمير سودوب وقبض عليه السلطان في شهر رمضان وسجنه بدمشق.

جامع الحاكم

هذا الجامع بني خارج باب الفتوح ، أحد أبواب القاهرة ، وأوّل من أسسه أمير المؤمنين العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معدّ ، وخطب فيه وصلّي بالناس الجمعة ، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله. فما وسّع أمير الجيوش بدر الجماليّ القاهرة وجعل أبوابها حيث هي اليوم ، صار جامع الحاكم داخل القاهرة ، وكان يعرف أوّلا بجامع الخطبة ، ويعرف اليوم بجامع الحاكم ، ويقال له الجامع الأنور.

قال الأمير مختار عز الملك محمد بن عبيد الله بن أحمد المسبحيّ في تاريخ مصر : وفيه يعني شهر رمضان ، سنة ثمانين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة مما يلي باب الفتوح من خارجه ، وبديء بالبناء فيه ، وتحلق فيه الفقهاء الذين يتحلقون في جامع القاهرة ، يعني الجامع الأزهر ، وخطب فيه العزيز بالله. وقال في حوادث سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأربع خلون من شهر رمضان ، صلّى العزيز بالله في جامعه صلاة الجمعة ، وخطب ، وكان في مسيره بين يديه أكثر من ثلاثة آلاف ، وعليه طيلسان وبيده القضيب ، وفي رجله الحذاء. وركب لصلاة الجمعة في رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة إلى جامعه ومعه ابنه منصور ، فجعلت المظلة على منصور وسار العزيز بغير مظلة.

وقال في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة : وأمر الحاكم بأمر الله أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير يعقوب بن كلس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح ، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار ، فابتدىء في العمل فيه. وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح ، وعمل لها أركان طول كلّ ركن مائة ذراع ، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل ، فكان تكسير ما ذرع للحصر ستة وثلاثين ألف ذراع ، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار.

قال : وتمّ بناء الجامع الجديد بباب الفتوح ، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له ، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع ، وكثير من قناديل فضة ، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له ، ونصب فيه المنبر وتكامل فرشه وتعليقه ، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الأزهر أن يمضوا إليه ، فمضوا. وصار

٥٨

الناس طول ليلتهم يمشون من كلّ واحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم ، ولا اعتراض من أحد من عسس القصر ، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح. وصلّى فيه الحاكم بأمر الله بالناس صلاة الجمعة ، وهي أوّل صلاة أقيمت فيه بعد فراغه. وفي ذي القعدة سنة أربع وأربعمائة حبس الحاكم عدّة قياسر وأملاك على الجامع الحاكميّ بباب الفتوح. قال ابن عبد الظاهر : وعلى باب الجامع الحاكميّ مكتوب أنّه أمر بعمله الحاكم أبو عليّ المنصور في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، وعلى منبره مكتوب أنه أمر بعمل هذا المنبر للجامع الحاكميّ المنشأ بظاهر باب الفتوح في سنة ثلاث وأربعمائة ، ورأيت في سيرة الحاكم ، وفي يوم الجمعة أقيمت الجمعة في الجامع الذي كان الوزير أنشأه بباب الفتوح. ورأيت في سيرة الوزير المذكور ، في يوم الأحد عاشر رمضان سنة تسع وسبعين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة خارج الطابية مما يلي باب الفتوح. قال : وكان هذا الجامع خارج القاهرة ، فجدّد بعد ذلك باب الفتوح ، وعلى البدنة التي تجاور باب الفتوح وبعض البرج مكتوب : إنّ ذلك بني سنة ثلاثين وأربعمائة في زمن المستنصر بالله ، ووزارة أمير الجيوش ، فيكون بينهما سبع وثمانون سنة. قال : والفسقية وسط الجامع بناها الصاحب عبد الله بن عليّ بن شكر وأجرى الماء إليها ، وأزالها القاضي تاج الدين بن شكر ، وهو قاضي القضاة في سنة ستين وستمائة ، والزيادة التي إلى جانبه قيل إنها بناء ولده الظاهر عليّ ولم يكملها ، وكان قد حبس فيها الفرنج فعملوا فيها كنائس ، هدمها الملك الناصر صلاح الدين ، وكان قد تغلب عليها وبنيت إصطبلات. وبلغني أنها كانت في الأيام المتقدّمة قد جعلت أهراء للغلال.

فلما كان في الأيام الصالحية ووزارة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ للملك الصالح أيوب ولد الكامل ، ثبت عند الحاكم أنها من الجامع ، وأن بها محرابا ، فانتزعت وأخرج الخيل منها وبني فيها ما هو الآن في الأيام المعزية على يد الركن الصيرفيّ ، ولم يسقف. ثم جدّد هذا الجامع في سنة ثلاث وسبعمائة. وذلك أنه لما كان يوم الخميس ثالث عشري ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة ، تزلزلت أرض مصر والقاهرة وأعمالهما ورجل كلّ ما عليهما واهتز ، وسمع للحيطان قعقعة ، وللسقوف قرقعة ، ومارت الأرض بما عليها وخرجت عن مكانها ، وتخيل الناس أن السماء قد انطبقت على الأرض ، فهربوا من أماكنهم وخرجوا عن مساكنهم ، وبرزت النساء حاسرات ، وكثر الصراخ والعويل ، وانتشرت الخلائق فلم يقدر أحد على السكون والقرار لكثرة ما سقط من الحيطان ، وخرّ من السقوف والمآذن وغير ذلك من الأبنية ، وفاض ماء النيل فيضا غير المعتاد ، وألقى ما كان عليه من المراكب التي بالساحل قدر رمية سهم ، وانحسر عنها فصارت على الأرض بغير ماء ، واجتمع العالم في الصحراء خارج القاهرة وباتوا ظاهر باب البحر بحرمهم وأولادهم في الخيم ، وخلت المدينة وتشعثت جميع البيوت حتى لم يسلم ولا بيت من سقوط أو تسقط أو ميل ، وقام الناس في الجوامع يبتهلون ويسألون الله سبحانه طول يوم الخميس وليلة الجمعة ويوم الجمعة.

٥٩

فكان مما تهدّم في هذه الزلزلة : الجامع الحاكميّ ، فإنه سقط كثير من البدنات التي فيه ، وخرب أعالي المئذنتين ، وتشعثت سقوفه وجدرانه ، فانتدب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ونزل إليه ومعه القضاة والأمراء ، فكشفه بنفسه وأمر برمّ ما تهدّم منه ، وإعادة ما سقط من البدنات. فأعيدت وفي كلّ بدنة منها طاق ، وأقام سقوف الجامع وبيّضه حتى عاد جديدا ، وجعل له عدّة أوقاف بناحية الجيزة وفي الصعيد وفي الإسكندرية ، تغلّ كلّ سنة شيئا كثيرا ، ورتب فيه دروسا أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة ، ودرسا لإقراء الحديث النبويّ ، وجعل لكل درس مدرّسا وعدة كثيرة من الطلبة ، فرتّب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجيّ الحنفيّ ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الجوّانيّ ، وفي درس الحديث الشيخ سعد الدين مسعودا الحارثيّ ، وفي درس النحو الشيخ أثير الدين أبا حيان ، وفي درس القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفيّ ، وفي التصدير لإفادة العلوم علاء الدين عليّ بن إسماعيل القونويّ ، وفي مشيخة الميعاد المجد عيسى بن الخشاب ، وعمل فيه خزانة كتب جليلة ، وجعل فيه عدّة متصدّرين لتلقين القرآن الكريم ، وعدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن ، ومعلما يقرئ أيتام المسلمين كتاب الله عزوجل ، وحفر فيه صهريجا بصحن الجامع ليملأ في كل سنة من ماء النيل ، ويسبل منه الماء في كلّ يوم ويستقي منه الناس يوم الجمعة ، وأجرى على جميع من قرّره فيه معاليم داره ، وهذه الأوقاف باقية إلى اليوم ، إلّا أن أحوالها اختلت كما اختلّ غيرها ، فكان ما أنفق عليه زيادة على أربعين ألف دينار.

وجرى في بنائه لهذا الجامع أمر يتعجب منه ، وهو ما حدّثني به شيخنا الشيخ المعروف المسند المعمر أبو عبد الله محمد بن ضرغام بن شكر المقري بمكة ، في سنة سبع وثمانين وسبعمائة قال : أخبرني من حضر عمارة الأمير بيبرس للجامع الحاكميّ عند سقوطه في سنة الزلزلة ، أنّه لما شرع البناة في ترميم ما وهي من المئذنة التي هي من جهة باب الفتوح ، ظهر لهم صندوق في تضاعيف البنيان ، فأخرجه الموكل بالعمارة وفتحه ، فإذا فيه قطن ملفوف على كف إنسان بزنده وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي ، والكف طرية كأنها قريبة عهد بالقطع ، ثم رأيت هذه الحكاية بخط مؤلف السيرة الناصرية موسى بن محمد بن يحيى ، أحد مقدّمي الحلقة. ثم جدّد هذا الجامع وبلط جميعه في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في ولايته الثانية ، على يد الشيخ قطب الدين محمد الهرماس في سنة ستين وسبعمائة ، ووقف قطعة أرض على الهرماس وأولاده ، وعلى زيادة في معلوم الإمام بالجامع ، وعلى ما يحتاج إليه في زيت الوقود ومرمّة في سقفه وجدرانه ، وجرى في عمارة الجامع على يد الهرماس ما حدّثني به الشيخ المعمر شمس الدين محمد بن عليّ إمام

٦٠