كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

الهيتيّ لجماعة المسلمين القرّاء للقرآن التالين له ، المتقرّبين إلى الله جلّ ذكره بقراءته ، والمتعلمين له ، ليكون محفوظا أبدا ما بقي ورقه ، ولم يذهب اسمه ابتغاء ثواب الله عزوجل ، ورجاء غفرانه ، وجعله عدّة ليوم فقره وفاقته وحاجته إليه ، أنا له الله ذلك برأفته ، وجعل ثوابه بينه وبين جماعة من نظر فيه ، وقد درس ما بعد هذا الكلام من ظهر المصحف ، والمندرس يشبه أن يكون : وتبصر في ورقه ، وقصد بابداعه فسطاط مصر في المسجد الجامع ، جامع المسلمين العتيق ، ليحفظ حفظ مثله مع سائر مصاحف المسلمين ، فرحم الله من حفظه ومن قرأ فيه ومن عنى به ، وكان ذلك في يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وصلّى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله وسلّم تسليما كثيرا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال ابن المتوّج : ودليل بطلان ما قاله هذا المعترض ، ظهور التعصب على عثمان رضي‌الله‌عنه من تجيب وخلفائهم ، أن الناس قد جرّبوا هذا المصحف ، وهو الذي على الكرسيّ الغربيّ من مصحف أسماء ، أنه ما فتح قط إلّا وحدث حادث في الوجود لتحقيق ما حدث أوّلا. والله أعلم.

قال القضاعيّ : ذكر المواضع المعروفة بالبركة من الجامع يستحبّ الصلاة والدعاء عندها. منها البلاطة التي خلف الباب الأوّل في مجلس ابن عبد الحكم ، ومنها باب البرادع ، روي عن رجل من صلحاء المصريين يقال له أبو هارون الخرقيّ قال : رأيت الله عزوجل في منامي ، فقلت له يا رب أنت تراني وتسمع كلامي؟ قال : نعم. ثم قال أتريد أن أريك بابا من أبواب الجنة؟ قلت نعم. يا رب ، فأشار إلى باب أصحاب البرادع أو الباب الأقصى مما يلي رحبة حارث ، وكان أبو هارون هذا يصلي الظهر والعصر فيما بينهما.

وقال ابن المتوّج : وعند المحراب الصغير الذي في جدار الجامع الغربيّ ، ظاهر المقصورة ، فيما بين بابي الزيادة الغربية الدعاء عنده مستجاب. قال : من ذلك باب مقصورة عرفة ، ومنها عند خرزة البئر التي بالجامع ، ومنها قبال اللوح الأخضر ، ومنها زاوية فاطمة ، ويقال أنها فاطمة ابنة عفان ، لمّا وصى والدها أن تترك لله في الجامع فتركت في هذا المكان فعرف بها ، ومنها سطح الجامع والطواف به سبع مرّات ، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التي يستقبلها الداخل من باب السطح ، وهو يتلو إلى أن يصل إلى زاوية السطح التي عند المئذنة المعروفة بعرفة ، يقف عندها ثم يدعو بما أراد ، ثم يمرّ وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقيّ عند المئذنة المشهورة بالكبيرة ، ثم يدعو بما أراد ويمرّ إلى الركن البحريّ الشرقيّ ، فيقف محاذيا لغرفة المؤذنين ويدعو ، ثم يمرّ وهو يتلو إلى المكان الذي ابتدأ منه. يفعل ذلك سبع مرّات ، فإنّ حاجته تقضى.

قال القضاعيّ : ولم يكن الناس يصلّون بالجامع بمصر صلاة العيد ، حتى كانت سنة

٢١

ست ، ويقال سنة ثمان وثلاثمائة. فصلّى فيه رجل يعرف بعليّ بن أحمد بن عبد الملك الفهميّ ، يعرف بابن أبي شيخة صلاة الفطر ، ويقال أنه خطب من دفتر نظرا ، وحفظ عنه اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلّا وأنتم مشركون. فقال بعض الشعراء :

وقام في العيد لنا خاطب

فحرّض الناس على الكفر

وتوفي سنة تسع وثلاثمائة.

وبالجامع زوايا يدرّس فيها الفقه : منها زاوية الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، يقال أنه درّس بها الشافعيّ فعرفت به ، وعليها أرض بناحية سندبيس وقفها السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ولم يزل يتولى تدريسها أعيان الفقهاء وجلة العلماء. ومنها الزاوية المجدية بصدر الجامع ، فيما بين المحراب الكبير ومحراب الخمس ، داخل المقصورة الوسطى بجوار المحراب الكبير ، رتبها مجد الدين أبو الأشبال الحارث بن مهذب الدين أبي المحاسن مهلب بن حسن بن بركات بن عليّ بن غياث المهلبيّ الأزديّ البهنسيّ الشافعيّ ، وزير الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب بحرّان ، وقرّر في تدريسها قريبه قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب البهنسيّ ، وعمل على هذه الزاوية عدّة أوقاف بمصر والقاهرة ، ويعدّ تدريسها من المناصب الجليلة ، وتوفي المجد في صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة بدمشق ، عن ثلاث وستين سنة. ومنها الزاوية الصاحبية ، حول عرفة رتبها الصاحب تاج الدين محمد بن فخر الدين محمد بن بهاء الدين بن حنا ، وجعل لها مدرّسين أحدهما مالكيّ والآخر شافعيّ ، وجعل عليها وقفا بظاهر القاهرة بخط البراذعيين. ومنها الزاوية الكمالية بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذي يدخل إليه من سوق الغزل ، رتبها كمال الدين السمنوديّ ، وعليها فندق بمصر موقوف عليها. ومنا الزاوية التاجية ، أمام المحراب الخشب ، رتبها تاج الدين السطحيّ ، وجعل عليها دورا بمصر موقوفة عليها. ومنها الزاوية المعينية في الجانب الشرقيّ من الجامع ، رتبها معين الدين الدهر وطيّ ، وعليها وقف بمصر. ومنها الزاوية العلائية ، تنسب لعلاء الدين الضرير ، وهي في صحن الجامع ، وهي لقراءة ميعاد. ومنها الزاوية الزينية ، رتبها الصاحب زين الدين بقراءة ميعاد أيضا ، ذكر ذلك ابن المتوّج. وأخبرني المقرئ الأديب المؤرخ الضابط شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن الحسن الأوحديّ رحمه‌الله قال : أخبرني المؤرّخ ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات ، قال : أخبرني العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ ، أنه أدرك بجامع عمرو بن العاص بمصر قبل الوباء ، الكائن في سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، بضعا وأربعين حلقة لإقراء العلم ، لا تكاد تبرح منه. قال ابن المأمون : حدّثني القاضي المكين بن حيدرة وهو من أعيان الشهود بمصر ، أن من جملة الخدم التي كانت بيد والده مشارقة الجامع العتيق ، وأنّ القومة

٢٢

بأجمعهم كانوا يجتمعون قبل ليلة الوقود عنده ، إلى أن يعملوا ثمانية عشر ألف فتيلة ، وأن المطلق برسمه خاصة في كلّ ليلة ترسم وقوده أحد عشر قنطار أو نصف زيتا طيبا.

ذكر المحاريب التي بديار مصر

وسبب اختلافها وتعيين الصواب فيها وتبيين الخطأ منها

اعلم أن محاريب ديار مصر التي يستقبلها المسلمون في صلواتهم أربعة محاريب. أحدها محراب الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، الذي أسسوه في البلاد التي استوطنوها ، والبلاد التي كثر ممرّهم بها من إقليم مصر ، وهو محراب المسجد الجامع بمصر ، المعروف بجامع عمرو ، ومحراب المسجد الجامع بالجيزة ، وبمدينة بلبيس ، وبالإسكندرية ، وقوص ، وأسوان ، وهذه المحاريب المذكورة على سمت واحد ، غير أن محاريب ثغر أسوان أشدّ تشريقا من غيرها ، وذلك أن أسوان مع مكة شرّفها الله تعالى في الإقليم الثاني ، وهو الحدّ الغربيّ من مكة بغير ميل إلى الشمال ، ومحراب بلبيس مغرّب قليلا.

والمحراب الثاني محراب مسجد أحمد بن طولون ، وهو منحرف عن سمت محراب الصحابة ، وقد ذكر في سبب انحرافه أقوال منها : أنّ أحمد بن طولون لما عزم على بناء هذا المسجد ، بعث إلى محراب مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ سمته ، فإذا هو مائل عن خط سمت القبلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درج إلى جهة الجنوب ، فوضع حينئذ محراب مسجده هذا مائلا عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب بنحو ذلك ، اقتداء منه بمحراب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه ، وخط له المحراب ، فلما أصبح وجد النمل قد أطاف بالمكان الذي خطه له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام. وقيل غير ذلك. وأنت إن صعدت إلى سطح جامع ابن طولون ، رأيت محرابه مائلا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب ، ورأيت محراب المدارس التي حدثت إلى جانبه قد انحرفت عن محرابه إلى جهة الشرق ، وصار محراب جامع عمرو فيما بين محراب ابن طولون والمحاريب الأخر ، وقد عقد مجلس بجامع ابن طولون في ولاية قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة ، حضره علماء الميقات ، منهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن محمد بن موسى الغزوليّ ، والشيخ أبو الطاهر محمد بن محمد ، ونظروا في محرابه ، فأجمعوا على أنه منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب مغربا بقدر أربع عشرة درجة ، وكتب بذلك محضر وأثبت على ابن جماعة.

والمحراب الثالث : محراب جامع القاهرة ، المعروف بالجامع الأزهر ، وما في سمته من بقية محاريب القاهرة ، وهي محاريب يشهد الامتحان بتقدّم واضعها في معرفة استخراج القبلة ، فإنها على خط سمت القبلة من غير ميل عنه ولا انحراف البتة.

٢٣

والمحراب الرابع : محاريب المساجد التي في قرى بلاد الساحل ، فإنها تخالف محاريب الصحابة ، إلّا أنّ محراب جامع منية غمر قريب من سمت محاريب الصحابة ، فإن الوزير أبا عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ ، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله ، أنشأ جامعا بمنية زفتا في سنة ست عشرة وخمسمائة ، فجعل محرابه على سمت المحاريب الصحيحة. وفي قرافة مصر بجوار مسجد الفتح عدّة مساجد تخالف محاريب الصحابة مخالفة فاحشة ، وكذلك بمدينة مصر الفسطاط غير مسجد على هذا الحكم. فأما محاريب الصحابة التي بفسطاط مصر والإسكندرية ، فإن سمتها يقابل مشرق الشتاء ، وهو مطالع برج العقرب مع ميل قليل إلى ناحية الجنوب ، ومحاريب مساجد القرى وما حول مسجد الفتح بالقرافة ، فإنها تستقبل خط نصف النهار الذي يقال له خط الزوال ، وتميل عنه إلى جهة المغرب ، وهذا الاختلاف بين هذين المحرابين اختلاف فاحش يفضي إلى إبطال الصلاة. وقد قال ابن عبد الحكم: قبلة أهل مصر أن يكون القطب الشماليّ على الكتف الأيسر ، وهذا سمت محاريب الصحابة. قال: وإذا طلعت منازل العقرب وتكملت صورته ، فمحاذاته سمت القبلة لديار مصر وبرقة وإفريقية وما والاها ، وفي الفرقدين والقطب الشماليّ كفاية للمستدلين ، فإنهم إن كانوا مستقبلين في مسيرهم من الجنوب جهة الشمال ، استقبلوا القطب والفرقدين ، وإن كانوا سائرين إلى الجنوب من الشمال استدبروها ، وإن كانوا سائرين إلى الشرق من المغرب جعلوها على الأذن اليسرى ، وإن كانوا سائرين من الشرق إلى المغرب جعلوها على الأذن اليمنى ، وإن كان مسيرهم إلى النكباء (١) التي بين الجنوب والصبا جعلوها على الكتف الأيسر ، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الجنوب والدبور جعلوها على الكتف الأيمن ، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والدبور جعلوها على الحاجب الأيمن ، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والصبا جعلوها على الحاجب الأيسر. وإذا عرف ذلك فإنه يستحيل تصويب محرابين مختلفين في قطر واحد إذا زاد اختلافهما على مقدار ما يتسامح به في التيامن والتياسر ، وبيان ذلك أن كلّ قطر من أقطار الأرض كبلاد الشام وديار مصر ونحوهما من الأقطار ، قطعة من الأرض واقعة في مقابلة جزء من الكعبة ، والكعبة تكون في جهة من جهات ذلك القطر ، فإذا اختلف محرابان في قطر واحد ، فإنا نتيقن أن أحدهما صواب والآخر خطأ ، إلّا أن يكون القطر قريبا من مكّة ، وخطته التي هو محدود بها متسعة اتساعا كثيرا يزيد على الجزء الذي يخصه لو وزعت الكعبة أجزاء متماثلة ، فإنه حينئذ يجوز التيامن والتياسر في محاريبه ، وذلك مثل بلاد البجة ، فإنها على الساحل الغربيّ من بحر القلزم ، ومكة واقعة في شرقيها ليس بينهما إلّا مسافة البحر

__________________

(١) النكباء : ريح انحرفت ووقعت بين ريحين كالصّبا والشّمال.

٢٤

فقط وما بين جدّة ومكة من البرّ ، وخطة بلاد الجبة مع ذلك واسعة مستطيلة على الساحل ، أوّلها عيذاب ، وهي محاذية لمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتميل عنها في الجنوب ميلا قليلا ، والمدينة شامية عن مكة بنحو عشرة أيام ، وآخر بلاد البجة من ناحية الجنوب سواكن ، وهي مائلة في ناحية الجنوب عن مكة ميلا كثيرا ، وهذا المقدار من طول بلاد البجة يزيد على الجزء الذي يخص هذه الخطة من الأرض لو وزعت الأرض أجزاء متساوية إلى الكعبة ، فيتعين والحالة هذه التيامن أو التياسر في طرفي هذه البلاد لطلب جهة الكعبة.

وأما إذا بعد القطر عن الكعبة بعدا كثيرا ، فإنه لا يضرّ اتساع خطته ، ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر ، لاتساع الجزء الذي يخصه من الأرض ، فإن كلّ قطر منها له جزء يخصه من الكعبة ، من أجل أن الكعبة من البلاد المعمورة كالكرة من الدائرة ، فالأقطار كلها في استقبال الكعبة ، محيطة بها كاحاطة الدائرة بمركزها ، وكل قطر فإنه يتوجه إلى الكعبة في جزء يخصه ، والأجزاء المنقسمة إذا قدّرت الأرض كالدائرة فإنها تتسع عند المحيط وتتضايق عند المركز ، فإذا كان القطر بعيدا عن الكعبة فإنه يقع في متسع الحدّ ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر ، وبخلاف ما إذا قرب القطر من الكعبة ، فإنه يقع في متضايق الجزء ويحتاج عند ذلك إلى تيامن أو تياسر ، فإنّ فرضنا أن الواجب إصابة عين الكعبة في استقبال الصلاة لمن بعد عن مكة ، وقد علمت ما في هذه المسألة من الاختلاف بين العلماء ، فإنه لا يتسامح في اختلاف المحاريب بأكثر من قدر التيامن والتياسر الذي لا يخرج عن حدّ الجهة ، فلو زاد الاختلاف حكم ببطلان أحد المحرابين ، ولا بدّ اللهمّ إلّا أن يكونا في قطرين بعيدين بعضهما من بعض ، وليسا على خط واحد من مسامته الكعبة ، وذلك كبلاد الشام وديار مصر ، فإن البلاد الشامية لها جانبان وخطتها متسعة مستطيلة في شمال مكة ، وتمتدّ أكثر من الجزء الخاص بها بالنسبة إلى مقدار بعدها عن الكعبة ، ووفي هذين القطرين يجري ما تقدّم ذكره في أرض البجة ، إلّا أنّ التيامن والتياسر ظهوره في البلاد الشامية أقل من ظهوره في أرض البجة ، من أجل بعد البلاد الشامية عن الكعبة ، وقرب أرض البجة ، وذلك أن البلاد الشامية وقعت في متسع الجزء الخاص بها ، فلم يظهر أثر التيامن والتياسر ظهورا كثيرا كظهوره في أرض البجة ، لأنّ البلاد الشامية لها جانب شرقيّ وجانب غربيّ ووسط ، فجانبها الغربيّ هو أرض بيت المقدس وفلسطين إلى العريش ، أوّل حدّ مصر ، وهذا الجانب من البلاد الشامية يقابل الكعبة على حدّ مهب النكباء التي بين الجنوب والصبا ، وأمّا جانب البلاد الشامية الشرقيّ ، فإنه ما كان مشرّقا عن مدينة دمشق إلى حلب والفرات ، وما يسامت ذلك من بلاد الساحل ، وهذه الجهة تقابل الكعبة مشرقا عن أوسط مهب الجنوب قليلا ، وأما وسط بلاد الشام فإنها دمشق وما قاربها ، وتقابل الكعبة على وسط مهب الجنوب ، وهذا هو سمت مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ميل يسير عنه إلى ناحية المشرق.

وأما مصر فإنها تقابل الكعبة فيما بين الصبا ومهب النكباء التي بين الصبا والجنوب ،

٢٥

ولذلك لما اختلف هذان القطران ، أعني مصر والشام في محاذاة الكعبة ، اختلفت محاريبهما ، وعلى ذلك وضع الصحابة رضي‌الله‌عنهم محاريب الشام ومصر على اختلاف السمتين ، فأما مصر بعينها وضواحيها وما هو في حدّها أو على سمتها أو في البلاد الشامية وما في حدّها أو على سمتها ، فإنه لا يجوز فيها تصويب محرابين مختلفين اختلافا بينا ، فإن تباعد القطر عن القطر بمسافة قريبة أو بعيدة ، وكان القطران على سمت واحد في محاذاة الكعبة لم يضرّ حينئذ تباعدهما ، ولا تختلف محاريبهما ، بل تكون محاريب كلّ قطر منهما على حدّ واحد وسمت واحد ، وذلك كمصر وبرقة وأفريقية وصقلية والأندلس ، فإن هذه البلاد وان تباعد بعضها عن بعض فإنها كلها تقابل الكعبة على حدّ واحد ، وسمتها جميعها سمت مصر من غير اختلاف البتة ، وقد تبين بما تقرّر حال الأقطار المختلفة من الكعبة في وقوعها منها.

وأما اختلاف محاريب مصر فإن له أسبابا ، أحدها حمل كثير من الناس قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي رواه الحافظ أبو عيسى الترمذيّ ، من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه «ما بين المشرق والمغرب قبلة على العموم» وهذا الحديث قد روي موقوفا على عمر وعثمان وعليّ وابن عباس ومحمد ابن الحنفية رضي‌الله‌عنهم ، وروي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه مرفوعا. قال أحمد بن حنبل : هذا في كلّ البلدان. قال : هذا المشرق وهذا المغرب وما بينهما قبلة ، قيل له : فصلاة من صلّى بينهما جائزة؟ قال : نعم ، وينبغي أن يتحرّى الوسط ، وقال أحمد بن خالد قول عمر : ما بين المشرق والمغرب قبلة ، قاله : بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة مما بين المشرق والمغرب ، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال. وقال أبو عمر بن عبد البرّ : لاختلاف بين أهل العلم فيه. قال مؤلفه رحمه‌الله : إذا تأمّلت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة. وما على سمت تلك البلاد شمالا وجنوبا فقط ، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار ، والله سبحانه قد افترض على الكافة أن يتوجهوا إلى الكعبة في الصلاة حيثما كانوا بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة / ١٤٤] وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز ، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق ، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب ، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب ، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال ، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن

٢٦

قبلته فيما بين الشمال والمغرب ، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق ، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب ، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق. فقد ظهر ما يلزم من القول بعموم هذا الحديث من خروج أهل المشرق الساكنين به ، وأهل المغرب أيضا عن التوجه إلى الكعبة في الصلاة عينا وجهة ، لأنّ من كان مسكنه من البلاد ما هو في أقصى المشرق من الكعبة ، لو جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه لكان إنما يستقبل حينئذ جنوب أرضه ولم يستقبل قط عين الكعبة ولا جهتها ، فوجب ولا بدّ حمل الحديث على أنه خاص بأهل المدينة والشام ، وما على سمت ذلك من البلاد ، بدليل أن المدينة النبوية واقعة بين مكة وبين أوسط الشام على خط مستقيم ، والجانب الغربيّ من بلاد الشام التي هي أرض المقدس وفلسطين يكون عن يمين من يستقبل بالمدينة الكعبة ، والجانب الشرقيّ الذي هو حمص وحلب وماو إلى ذلك واقع عن يسار من استقبل الكعبة بالمدينة ، والمدينة واقعة في أواسط جهة الشام على جهة مستقيمة ، بحيث لو خرج خط من الكعبة ومرّ على استقامة إلى المدينة النبوية لنفذ منها إلى أوسط جهة الشام سواء ، وكذلك لو خرج خط من مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوجه على استقامة ، لوقع فيما بين الميزاب من الكعبة وبين الركن الشاميّ ، فلو فرضنا أن هذا الخط خرق الموضع الذي وقع فيه من الكعبة ومرّ لنفذ إلى بيت المقدس على استواء من غير ميل ولا انحراف البتة ، وصار موقع هذا الخط فيما بين نكباء الشمال والدبور ، وبين القطب الشمالي. وهو إلى القطب الشماليّ أقرب وأميل ، ومقابلته ما بين أوسط الجنوب ونكباء الصبا والجنوب ، وهو إلى الجنوب أقرب ، والمدينة النبوية ، مشرّقة عن هذا السمت ، ومغرّبة عن سمت الجانب الآخر من بلاد الشام ، وهو الجانب الغربيّ تغريبا يسيرا ، فمن يستقبل مكة بالمدينة يصير المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه ، وما بينهما فهو قبلته ، وتكون حينئذ الشام بأسرها وجملة بلادها خلفه ، فالمدينة على هذا في أوسط جهات البلاد الشامية.

ويشهد بصدق ذلك ما رويناه من طريق مسلم رحمه‌الله عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : رقيت على بيت أختي حفصة ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعدا لحاجته ، مستقبل الشام مستدبر القبلة ، وله أيضا من حديث ابن عمر بينا الناس في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار إلى الكعبة. فهذا أعزك الله أوضح دليل أنّ المدينة بين مكة والشام على حدّ واحد ، وأنها في أوسط جهة بلاد الشام ، فمن استقبل بالمدينة الكعبة فقد استدبر الشام ، ومن استدبر بالمدينة الكعبة فقد استقبل الشام ، ويكون حينئذ الجانب الغربيّ من بلاد الشام وما على سمته من البلاد جهة القبلة عندهم أن يجعل الواقف مشرق الصيف عن يساره ، ومغرب الشتاء عن يمينه ، فيكون ما بين ذلك قبلته. وتكون قبلة الجانب الشرقي من بلاد الشام وما على سمت ذلك من

٢٧

البلدان ، أن يجعل المصلي مغرب الصيف عن يمينه ، ومشرق الشتاء عن يساره ، وما بينهما قبلته. ويكون أوسط البلاد الشامية التي هي حدّ المدينة النبوية قبلة المصلي بها ، أن يجعل مشرق الاعتدال عن يساره ، ومغرب الاعتدال عن يمينه ، وما بينهما قبلة له ، فهذا أوضح استدلال على أن الحديث خاص بأهل المدينة ، وما على سمتها من البلاد الشامية ، وما وراءها من البلدان المسامتة لها.

وهكذا أهل اليمن وما على سمت اليمن من البلاد ، فإن القبلة واقعة فيما هنالك بين المشرق والمغرب لكن على عكس وقوعها في البلاد الشامية ، فإنه تصير مشارق الكواكب في البلاد الشامية التي على يسار المصلي ، واقعة عن يمين المصلي في بلاد اليمن ، وكذلك كل ما كان من المغرب عن يمين المصلي بالشام ، فإنه ينقلب عن يسار المصلي باليمن ، وكلّ من قام ببلاد اليمن مستقبلا الكعبة فإنه يتوجه إلى بلاد الشام فيما بين المشرق والمغرب ، وهذه الأقطار سكانها هم المخاطبون بهذا الحديث ، وحكمه لازم لهم ، وهو خاص بهم دون من سواهم من أهل الأقطار الأخر ، ومن أجل حمل هذا الحديث على العموم كان السبب في اختلاف محاريب مصر.

السبب الثاني : في اختلاف محاريب مصر ، أن الديار المصرية افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط والروم مشحونة بهم ، ونزل الصحابة رضي‌الله‌عنهم من أرض مصر في موضع الفسطاط الذي يعرف اليوم بمدينة مصر وبالإسكندرية ، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط ، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب ، ولم يسكن أحد من المسلمين بالقرى ، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب ، ومعهم طوائف من السادات ، ومع ذلك فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ينهي الجند عن الزرع ، ويبعث إلى أمراء الأجناد بإعطاء الرعية أعطياتهم وأرزاق عيالهم ، وينهاهم عن الزرع. روى الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر ، من طريق ابن وهب ، عن حيوة بن شريح ، عن بكر بن عمر ، وعن عبد الله بن هبيرة : أن عمر بن الخطاب أمر بناذره أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدّمون إلى الرعية ، أنّ عطاءهم قائم ، وأنّ أرزاق عيالهم سابل ، فلا يزرعون ولا يزارعون. قال ابن وهب : وأخبرني شريك بن عبد الرحمن المراديّ قال : بلغنا أن شريك بن سميّ الغطفانيّ أتى إلى عمرو بن العاص فقال : إنكم لا تعطونا ما يحسبنا ، أفتأذن لي بالزرع؟ فقال له عمرو : ما أقدر على ذلك. فزرع شريك من غير إذن عمرو ، فلما بلغ ذلك عمرا كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن شريك بن سميّ الغطفانيّ حرث بأرض مصر ، فكتب إليه عمر أن ابعث إليّ به ، فلما انتهى كتاب عمر إلى عمرو ، أقرأه شريكا. فقال شريك لعمرو : وقتلتني يا عمرو. فقال عمرو : ما أنا بالذي قتلتك ، أنت صنعت هذا بنفسك. فقال له : إذا كان هذا من رأيك فأذن لي بالخروج من غير كتاب ، ولك عليّ عهد الله أن أجعل يدي في يده ، فأذن له

٢٨

بالخروج ، فلما وقف على عمر قال : تؤمنني يا أمير المؤمنين؟ قال : ومن أيّ الأجناد أنت؟ قال: من جند مصر ، قال : فلعلك شريك بن سميّ الغطفانيّ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين. قال : لأجعلنك نكالا لمن خلفك. قال : أو تقبل مني ما قبل الله تعالى من العباد؟ قال : وتفعل؟ قال : فكتب إلى عمرو بن العاص أن شريك بن سميّ جاءني تائبا فقبلت منه.

قال : وحدّثنا عبد الله بن صالح بن عبد الرحمن بن شريح عن أبي قبيل ، قال : كان الناس يجتمعون بالفسطاط إذا قفلوا ، فإذا حضر مرافق الريف خطب عمرو بن العاص الناس فقال : قد حضر مرافق الريف ربيعكم فانصرفوا ، فإذا حمض اللبن واشتدّ العود وكثر الذباب فحيّ على فسطاطكم ، ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل جواده.

وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال : كان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم : أنه قد حضر الربيع ، فمن أحبّ منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل ، ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل فرسه ، فإذا حمض اللبن وكثر الذباب ولوى العود فارجعوا إلى قيروانكم.

وعن ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميريّ عن بجير بن ذاخر المعافريّ قال : رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرا ، وذلك بعد حميم النصارى بأيام يسيرة ، فأطلنا الركوع إذا أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس ، فذعرت فقلت : يا أبت من هؤلاء؟ فقال : يا بنيّ هؤلاء الشرط فأقام المؤذنون الصلاة ، فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلا ربعة قصير القامة ، وافر الهامة ، أدعج أبلج ، عليه ثياب موشاة كأن به العقبان تأتلق ، عليه حلة وعمامة وجبة ، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا ، وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم ، فسمعته يحض على الزكاة وصلة الأرحام ، ويأمر بالاقتصاد وينهي عن الفضول وكثرة العيال ، وإخفاض الحال في ذلك فقال : يا معشر الناس إيّاكم وخلالا أربعا ، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة ، وإلى الضيق بعد السعة ، وإلى الذلة بعد العزة ، إياكم وكثرة العيال ، وإخفاض الحال ، وتضييع المال ، والقيل بعد القال ، في غير درك ولا نوال. ثم أنه لا بدّ من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها ، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل ، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه ، فيجوز من الخير عاطلا ، وعن حلال الله وحرامه غافلا. يا معشر الناس : إنه قد تدلت الجوزاء وذلت الشعري ، وأقلعت السماء وارتفع الوباء ، وقلّ الندى وطاب المرعى ، ووضعت الحوامل ودرجت السخائل ، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر ، فحيّ لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم ، فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده ، واربعوا خيلكم وأسمنوها وصنونوها وأكرموها ، فإنها جنتكم من عدوّكم ، وبها مغانمكم وأنفالكم ، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا ، وإياكم والمومسات

٢٩

المعسولات ، فإنهنّ يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدّثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله سيفتح عليكم بعدي مصر ، فاستوصوا بقبطها خيرا ، فإن لهم فيكم صهرا وذمّة ، فكفوا أيديكم ، وعفوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم» ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه ، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال ، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك ، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم ، وتشوّق قلوبهم إليكم ، وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية ، وحدّثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا ، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر رضي‌الله‌عنه : ولم يا رسول الله؟ قال : «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم ، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم ، فإذا يبس العود وسخن الماء وكثرت الذباب وحمض اللبن وصوّح البقل وانقطع الورد من الشجر ، فحيّ إلى فسطاطكم ، على بركة الله ، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته ، أقول قولي هذا واستحفظ الله عليكم.

قال فحفظت ذلك عنه. فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لما حكيت له خطبته أنه يا بنيّ يحذر الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حذرهم على الريف والدعة. قال : وكان إذا جاء وقت الربيع كتب لكلّ قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا ، وكانت القرى التي يأخذ فيها معظمهم منوف وسمنود وأهناس وطحا ، وكان أهل الراية متفرّقين ، فكان آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد يأخذون في منوف ووسيم ، وكانت هذيل تأخذ في ببا وبوصير ، وكانت عدوان تأخذ في بوصير وقرى عك ، والذي يأخذ فيه معظمهم بوصير ومنوف وسندبيس وارتيب ، وكانت بلى تأخذ في منف وطرّانية ، وكانت فهم تأخذ في اتريب وعين شمس ومنوف ، وكانت مهرة جذام تأخذ في مناونمي وبسطة ووسيم ، وكانت لخم تأخذ في الفيوم وطرّانية وقربيط ، وكانت جذام تأخذ في قربيط وطرّانية ، وكانت حضر موت تأخذ في ببا وعين شمس واتريب ، وكانت مراد تأخذ في منف والفيوم ومعهم عبس بن زوف ، وكانت حمير تأخذ في بوصير وقرى أهناس ، وكانت خولان تأخذ في قرى أهناس والقيس والبهنسا ، وآل وعلة يأخذون في سفط من بوصير ، وآل ابرهة يأخذون في منف وغفار ، وأسلم يأخذون مع وائل من جذام وسعد في بسطة وقربيط وطرّانية ، وآل يسار بن ضبة في أتريب ، وكانت المعافر. تأخذ في أتريب وسخا ومنوف ، وكانت طائفة من تجيب ومراد يأخذون باليدقون ، وكان بعض هذه القبائل ربما جاور بعضا في الربيع ، ولا يوقف في معرفة ذلك على أحد إلا أن معظم القبائل كانوا يأخذون حيث وصفنا ، وكان يكتب لهم بالربيع فيربعون ما أقاموا وباللبن ، وكان لغفار وليث أيضا مربع باتريب. قال : وأقامت مدلج بخربتا فاتخذوها منزلا ، وكان معهم نفر من حمير حالفوهم فيها ، فهي منازلهم. ورجعت خشين وطائفة من لخم

٣٠

وجذام فنزلوا أكناف ضان وأبليل وطرانية ، ولم تكن قيس بالحوف الشرقيّ قديما ، وإنما أنزلهم به ابن الحبحاب ، وذلك أنه وفد إلى هشام بن عبد الملك فأمر له بفريضة خمسة آلاف رجل ، فجعل ابن الحبحاب الفريضة في قيس ، وقدم بهم فأنزلهم الجوف الشرقيّ بمصر ، فانظر أعزك الله ما كان عليه الصحابة وتابعوهم عند فتح مصر من قلة السكنى بالريف ، ومع ذلك فكانت القرى كلها في جميع الإقليم أعلاه وأسفله مملوءة بالقبط والروم ، ولم ينتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة من تاريخ الهجرة ، وعند ما أنزل عبيد الله بن الحبحاب مولى سلول قيسا بالحوف الشرقيّ ، فلما كان في المائة الثانية من سني الهجرة ، كثر انتشار المسلمين بقرى مصر ونواحيها ، وما برحت القبط تنقض وتحارب المسلمين إلى ما بعد المائتين من سني الهجرة.

قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكنديّ في كتاب أمراء مصر : وفي امرة الحرّ بن يوسف أمير مصر ، كتب عبيد الله بن الحبحاب صاحب خراج مصر إلى هشام بن عبد الملك ، بأن أرض مصر تحتمل الزيادة ، فزاد على كلّ دينار قيراطا ، فنقضت كورة تنو ونمى وقريط وطرانية وعامّة الحوف الشرقيّ ، فبعث إليهم الحرّ بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم خلق كثير ، وذلك أوّل نقض القبط بمصر ، وكان نقضهم في سنة تسع ومائة ، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر ، ثم نقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة ، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان ، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا ، فظفر بهم وخرج بحنس ، وهو رجل من القبط من سمنود ، فبعث إليه عبد الملك بن مروان موسى بن نصير أمير مصر فقتل بحنس في كثير من أصحابه ، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وخالفت القبط أيضا برشيد ، فبعث إليهم مروان بن محمد الحمار لما دخل مصر ، فارّا من بني العباس ، عثمان بن أبي سبعة ، فهزمهم وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ، ونابذوا العمال وأخرجوهم في سنة خمسين ومائة ، وصاروا إلى شبراسنباط ، وانضم إليهم أهل البشرود والأوسية والنخوم ، فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه أهل مصر ، فخرجوا إليهم ولقيهم القبط وقتلوا من المسلمين ، فألقى المسلمون النار في عسكر القبط وانصرف العسكر إلى مصر منهزما.

وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر ، خرج القبط ببلهيت في سنة ست وخمسين ومائة ، فخرج إليهم عسكر فهزمهم ، ثم نقضت القبط في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين مع من نقض من أهل أسفل الأرض من العرب ، وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة العمال فيهم ، فكانت بينهم وبين الجيوش حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر ، لعشر خلون من المحرّم ، سنة سبع عشرة ومائتين ، فعقد على جيش بعث به إلى الصعيد وارتحل هو إلى سخا ، وأوقع الأفشين بالقبط

٣١

في ناحية البشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين ، فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال ، فبيعوا وسبي أكثرهم ، وتتبع كلّ من يومأ إليه بخلاف ، فقتل ناسا كثيرا ، ورجع إلى الفسطاط في صفر ، ومضى إلى حلوان ، وعاد لثمان عشرة خلت من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. فانظر أعزك الله كيف كانت إقامة الصحابة ، إنما هي بالفسطاط والإسكندرية ، وأنه لم يكن لهم كثير إقامة بالقرى ، وأن النصارى كانوا متمكنين من القرى ، والمسلمون بها قليل ، وأنهم لم ينتشروا بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين ، يتبين لك أنهم لم يؤسسوا في القرى والنواحي مساجد ، وتفطن لشيء آخر ، وهو أن القبط ما برحوا كما تقدّم يثبتون لمحاربة المسلمين ، دالة منهم بما هم عليه من القوة والكثرة ، فلما أوقع بهم المأمون الوقعة التي قلنا غلب المسلمون على أماكنهم من القرى لما قتلوا منهم وسبوا ، وجعلوا عدّة من كنائس النصارى مساجد ، وكنائس النصارى مؤسسة على استقبال المشرق واستدبار المغرب ، زعما منهم أنهم أمروا باستقبال مشرق الاعتدال ، وأنه الجنة ، لطلوع الشمس منه ، فجعل المسلمون أبواب الكنائس محاريب عند ما غلبوا عليها. وصيروها مساجد ، فجاءت موازية لخط نصف النهار ، وصارت منحرفة عن محاربي الصحابة انحرافا كثيرا يحكم بخطئها وبعدها عن الصواب كما تقدّم.

السبب الثالث : تساهل كثير من الناس في معرفة أدلة القبلة ، حتى أنك لتجد كثيرا من الفقهاء لا يعرفون منازل القمر صورة وحسابا ، وقد علم من له ممارسة بالرياضيات أن بمنازل القمر يعرف وقت الحسر وانتقال الفجر في المنازل ، وناهيك بما يترتب على معرفة ذلك من أحكام الصلاة والصيام ، وهذه المنازل التي للقمر من بعض ما يستدل به على القبلة ، والطرقات ، وهي من مبادي العلم ، وقد جهلوه ، فمن أعوزه الأدنى فحريّ به أن يجهل ما هو أعلى منه وأدق.

السبب الرابع : الاعتذار بنجم سهيل ، فإن كثيرا ما يقع الاعتذار عن مخالفة محاريب المتأخرين بأنها بنيت على مقابلة سهيل ، ومن هناك يقع الخطأ ، فإن هذا أمر يحتاج فيه إلى تحرير ، وهو أن دائرة سهيل مطلعها جنوب مشرق الشتاء قليلا ، وتوسطها في أوسط الجنوب ، وغروبها يميل عن أوسط الجنوب قليلا ، فلعل من تقدّم من السلف أمر ببناء المساجد في القرى على مقابلة مطالع سهيل ، ومطلعه في سمت قبلة مصر تقريبا ، فجهل من قام بأمر البنيان فرق ما بين مطالع سهيل وتوسطه وغروبه ، وتساهل فوضع المحراب على مقابلة توسط سهيل ، وهو أوسط الجنوب ، فجاء المحراب حينئذ منحرفا عن السمت الصحيح انحرافا لا يسوغ التوجه إليه البتة.

السبب الخامس : أن المحاريب الفاسدة بديار مصر أكثرها في البلاد الشمالية التي تعرف بالوجه البحريّ ، والذي يظهر أن الغلط دخل على من وضعها من جهة ظنه أن هذه

٣٢

البلاد لها حكم بلاد الشام ، وذلك أن بلاد مصر التي في الساحل كثيرة الشبه ببلاد الشام في كثرة أمطارها وشدّة بردها ، وحسن فواكهها ، فاستطرد الشبه حتى في المحاريب ووضعها على سمت المحاريب الشامية ، فجاء شيئا خطأ ، وبيان ذلك أن هذه البلاد ليست بشمالية عن الشام حتى يكون حكمها في استقبال الكعبة كالحكم في البلاد الشامية ، بل هي مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بعدّة أيام ، وسمتاهما مختلفان في استقبال الكعبة ، لاختلاف القطرين ، فإن الجانب الغربيّ من الشام كما تقدّم يقابل ميزاب الكعبة على خط مستقيم ، وهو حيث مهب النكباء التي بين الشمال والدبور (١) ، ووسط الشام كدمشق وما والاها شمال مكة من غير ميل ، وهم يستقبلون أوسط الجنوب في صلاتهم ، بحيث يكون القطب الشماليّ المسمى بالجدي وراء ظهورهم ، والمدينة النبوية بين هذا الحدّ من الشام وبين مكة مشرّقة عن هذا الحدّ قليلا ، فإذا كانت مصر مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بأيام عديدة ، تعين ووجب أن تكون محاريبها ولا بدّ مائلة إلى جهة المرق بقدر بعد مصر وتغريبها عن أوسط الشام ، وهذا أمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان ، وعلى ذلك أسس الصحابة رضي‌الله‌عنهم المحاريب بدمشق وبيت المقدس مستقبلة ناحية الجنوب ، وأسسوا المحاريب بمصر مستقبلة المشرق مع ميل يسير عنه إلى ناحية الجنوب ، فرض ـ رحمه‌الله ـ نفسك في التمييز ، وعوّد نظرك التأمّل ، وأربأ بنفسك أن تقاد كما تقاد البهيمة بتقليدك من لا يؤمن عليه الخطأ. فقد نهجت لك السبيل في هذه المسألة ، وألنت لك من القول ، وقرّبت لك حتى كأنك تعاين الأقطار ، وكيف موقعها من مكة. ولي هنا مزيد بيان ، فيه الفرق بين إصابة العين وإصابة الجهة ، وهو أن المكلف لو وقف وفرضنا أنه خرج خط مستقيم من بين عينيه ومرّ حتى اتصل بجدار الكعبة من غير ميل عنها إلى جهة من الجهات ، فإنه لا بدّ أن ينكشف لبصره مدى عن يمينه وشماله ، ينتهي بصره إلى غيره إن كان لا ينحرف عن مقابلته ، فلو فرضنا امتداد خطين من كلا عيني الواقف ، بحيث يلتقيان في باطن الرأس على زاوية مثلثة ، ويتصلان بما انتهى إليه البصر من كلا الجانبين ، لكان ذلك شكلا مثلثا يقسمه الخط الخارج من بين العينين إلى الكعبة بنصفين ، حتى يصير ذلك الشكل بين مثلثين متساويين ، فالخط الخارج من بين عيني مستقبل الكعبة الذي فرق بين الزاويتين ، هو مقابلة العين التي اشترط الشافعيّ رحمه‌الله وجوب استقباله من الكعبة عند الصلاة ، ومنتهى ما يكشف بصر المستقبل من الجانبين ، هو حدّ مقابلة الجهة التي قال جماعة من علماء الشريعة بصحة استقباله في الصلاة ، والخطان الخارجان من العينين إلى طرفيه هما آخر الجهة من اليمين والشمال ، فمهما وقعت صلاة المستقبل على الخط الفاصل بين الزاويتين ، كان قد استقبل عين الكعبة ، ومهما وقعت صلاته منحرفة عن يمين الخط أو يساره بحيث لا يخرج استقباله عن منتهى حدّ الزاويتين المحدودتين بما يكشف بصره من الجانبين ، فإنه مستقبل جهة الكعبة ، وإن خرج

__________________

(١) الدّبور : ريح تهب من جهة المغرب ، وتقابلها الصّبا وهي الريح الشرقية.

٣٣

استقباله عن حدّ الزاويتين من أحد الجانبين ، فإنه يخرج في استقباله عن حدّ جهة الكعبة ، وهذا الحدّ في الجهة يتسع ببعد المدى ، ويضيق بقربه ، فأقصى ما ينتهي إليه اتساعه ربع دائرة الأفق ، وذلك أن الجهات المعتبرة في الاستقبال أربع ، المشرق والمغرب والجنوب والشمال ، فمن استقبل جهة من هذه الجهات كان أقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق ، وإن انكشف لبصره أكثر من ذلك فلا عبرة به من أجل ضرورة تساوي الجهات ، فإنا لو فرضنا إنسانا وقف في مركز دائرة واستقبل جزأ من محيط الدائرة ، لكانت كلّ جهة من جهاته الأربع التي هي وراءه وأمامه ويمينه وشماله ، تقابل ربعا من أرباع الدائرة ، فتبين بما قلنا أن أقصى ما ينتهي إليه اتساع الجهة قدر ربع دائرة الأفق ، فأيّ جزء من أجزاء دائرة الأفق ، قصده الواقف بالاستقبال في بلد من البلدان ، كانت جهة ذلك الجزء المستقبل ربع دائرة الأفق ، وكان الخط الخارج من بين عيني الواقف إلى وسط تلك الجهة هو مقابلة العين ، ومنتهى الربع من جانبيه يمنة ويسرة هو منتهى الجهة التي قد استقبلها ، فما خرج من محاريب بلد من البلدان عن حدّ جهة الكعبة لا تصح الصلاة لذلك المحراب بوجه من الوجوه ، وما وقع في جهة الكعبة صحت الصلاة إليه عند من يرى أنّ الفرض في استقبال الكعبة إصابة جهتها ، وما وقع في مقابلة عين الكعبة فهو الأسدّ الأفضل الأولى عند الجمهور.

وإن أنصفت علمت أنه مهما وقع الاستقبال في مقابلة جهة الكعبة ، فإنه يكون سديدا ، وأقرب منه إلى الصواب ما وقع قريبا من مقابلة العين يمنة أو يسرة ، بخلاف ما وقع بعيدا عن مقابلة العين ، فإنه بعيد من الصواب ، ولعله هو الذي يجري فيه الخلاف بين علماء الشريعة والله أعلم.

وحيث تقرّر الحكم الشرعيّ بالأدلة السمعية والبراهين العقلية في هذه المسألة ، فاعلم أن المحاريب المخالفة لمحاريب الصحابة التي بقرافة مصر وبالوجه البحريّ من ديار مصر ، واقعة في آخر جهة الكعبة من مصر ، وخارجة عن حدّ الجهة ، وهي مع ذلك في مقابلة ما بين البجة والنوبة ، لا في مقابلة الكعبة ، فإنها منصوبة على موازاة خط نصف النهار ، ومحاريب الصحابة على موازاة مشرق الشتاء تجاه مطالع العقرب مع ميل يسير عنها إلى ناحية الجنوب ، فإذا جعلنا مشرق الشتاء المذكور مقابلة عين الكعبة لأهل مصر ، وفرضنا جهة ذلك الجزء ربع دائرة الأفق ، صار سمت المحاريب التي هي موازية لخط نصف النهار خارجا عن جهة الكعبة ، والذي يستقبلها في الصلاة يصلي إلى غير شطر المسجد الحرام ، وهو خطر عظيم فاحذره.

واعلم أن صعيد مصر واقع في جنوب مدينة مصر ، وقوص واقعة في شرقيّ الصعيد ، وفيما بين مهب ريح الجنوب والصبا من ديار مصر ، فالمتوجه من مدينة قوص إلى عيذاب

٣٤

يستقبل مشرق الشتاء ، سواء إلى أن يصل إلى عيذاب ولا يزال كذلك إذا سار من عيذاب حتى ينتهي في البحر إلى جدّة ، فإذا سار من جدّة في البرّ استقبل المشرق كذلك حتى يحل بمكة ، فإذا عاد من مكة استقبل المغرب ، فاعرف من هذا أن مكة واقعة في النصف الشرقيّ من الربع الجنوبيّ بالنسبة إلى أرض مصر ، وهذا هو سمت محاريب الصحابة التي بديار مصر والإسكندرية ، وهو الذي يجب أن يكون سمت جميع محاريب إقليم مصر.

برهان آخر : وهو أن من سار من مكة يريد مصر على الجادّة ، فإنه يستقبل ما بين القطب الشماليّ الذي هو الجدي ، وبين مغرب الصيف مدّة يومين ، وبعض اليوم الثالث ، وفي هذه المدّة يكون مهب النكباء التي بين الشمال والمغرب تلقاء وجهه ، ثم يستقبل بعد ذلك في مدّة ثلاثة أيام أوسط الشمال ، بحيث يبقى الجدي تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى بدر ، فإذا سار من بدر إلى المدينة النبوية صار مشرق الصيف تلقاء وجهه تارة ومشرق الاعتدال تارة إلى أن ينتهي إلى المدينة ، فإذا رجع من المدينة إلى الصفراء ، استقبل مغرب الشتاء إلى أن يعدل إلى ينبع ، فيصير تارة يسير شمالا وتارة يسير مغربا ، ويكون ينبع من مكة على حد النكباء التي بين الشمال ومغرب الصيف ، فإذا سار من ينبع استقبل ما بين الجدي ومغرب الثريا ، وهو مغرب الصيف ، وهبت النكباء تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى مدين ، فإذا سار من مدين استقبل تارة الشمال وأخرى مغرب الصيف حتى يدخل إيلة ، ومن إيلة لا يزال يستقبل مغرب الاعتدال تارة ويميل عنه إلى جهة الجنوب مع استقبال مغرب الشتاء أخرى ، إلى أن يصل إلى القاهرة ومصر ، فلو فرضنا خطا خرج من محاريب مصر الصحيحة التي وضعها الصحابة ، ومرّ على استقامة من غير ميل ولا انحراف لا تصل بالكعبة ولصق بها. واعلم أن أهل مصر والإسكندرية وبلاد الصعيد وأسفل الأرض وبرقة وإفريقية وطرابلس المغرب وصقلية والأندلس وسواحل المغرب إلى السوس الأقصى والبحر المحيط وما على سمت هذه البلاد ، يستقبلون في صلاتهم من الكعبة ما بين الركن الغربيّ إلى الميزاب ، فمن أراد أن يستقبل الكعبة في شيء من هذه البلاد فليجعل بنات نعش إذا غربت خلف كتفه الأيسر ، وإذا طلعت على صدغه الأيسر ، ويكون الجدي على أذنه اليسرى ، ومشرق الشمس تلقاء وجهه أو ريح الشمال خلف أذنه اليسرى ، أو ريح الدبور خلف كتفه الأيمن ، أو ريح الجنوب التي تهب من ناحية الصعيد على عينه اليمنى ، فإنه حينئذ يستقبل من الكعبة سمت محاريب الصحابة الذين أمرنا الله باتباع سبيلهم ، ونهانا عن مخالفتهم بقوله عزوجل : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء / ١٥٥] ألهمنا الله بمنه اتباع طريقهم ، وصيرنا بكرمه من حزبهم وفريقهم إنه على كلّ شيء قدير.

٣٥

جامع العسكر

هذا الجامع بظاهر مصر ، وهو حيث الفضاء الذي هو اليوم فيما بين جامع أحمد بن طولون وكوم الجارح بظاهر مدينة مصر ، وكان إلى جانب الشرطة والدار التي يسكنها أمراء مصر ، ومن هذه الدار إلى الجامع باب ، وكان يجمع فيه الجمعة ، وفيه منبر ومقصورة ، وهذا الجامع بناه الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس في ولايته إمارة مصر ، ملاصقا لشرطة العسكر التي كانت يقال لها الشرطة العليا ، في سنة تسع وستين ومائة ، فكانوا يجمعون فيه ، وكانت ولاية الفضل إمارة مصر من قبل المهديّ محمد بن أبي جعفر المنصور على الصلاة والخراج ، فدخلها سلخ المحرّم سنة تسع وستين ومائة ، في عسكر من الجند عظيم أتى بهم من الشام ، ومصر تضطرم لما كان في الحوف ، ولخروج دحية بن مصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ، فقام في ذلك وجهز الجنود حتى أسر دحية وضرب عنقه في جمادى الآخرة من السنة المذكورة ، وكان يقول أنا أولى الناس بولاية مصر لقيامي في أمر دحية ، وقد عجز عنه غيري ، حتى كفيت أهل مصر أمره ، فعزله موسى الهادي لما استخلف بعد موت أبيه المهديّ ، بعد ما أقرّه فندم الفضل على قتل دحية وأظهر توبة وسار إلى بغداد ، فمات عن خمسين سنة ، في سنة اثنتين وسبعين ومائة ، ولم يزل الجامع بالعسكر إلى أن ولي عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خزاعة على صلاة مصر وخراجها ، من قبل عبد الله أمير المؤمنين المأمون في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين ، فزاد في عمارته ، وكان الناس يصلون فيه الجمعة قبل بناء جامع أحمد بن طولون ، ولم يزل هذا الجامع إلى ما بعد الخمسمائة من سني الهجرة. قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وكان يطلق في الأربع ليالي الوقود ، وهي مستهلّ رجب ونصفه ، ومستهلّ شعبان ونصفه ، برسم الجوامع الستة ، الأزهر والأنور والأقمر بالقاهرة ، والطولونيّ والعتيق بمصر ، وجامع القرافة والمشاهد التي تتضمن الأعضاء الشريفة ، وبعض المساجد التي يكون لأربابها وجاهة جملة كثيرة من الزيت الطيب ، ويختص بجامع راشدة وجامع ساحل الغلة بمصر ، والجامع بالمقس يسير ، ويعني بجامع ساحل الغلة جامع العسكر ، فإنّ العسكر حينئذ كان قد خرب وحملت أنقاضه ، وصار الجامع بساحل مصر ، وهو الساحل القديم المذكور في موضعه من هذا الكتاب.

ذكر العسكر

كان مكان العسكر في صدر الإسلام يعرف بعد الفتح بالحمراء القصوى ، وهي كما تقدّم خطة بني الأزرق وخطة بني روبيل وخطة بني يشكر بن جزيلة من لخم ، ثم دثرت هذه الحمراء وصارت صحراء ، فلما زالت دولة بني أمية ودخلت المسودة إلى مصر في طلب

٣٦

مروان بن محمد الجعديّ ، في سنة ثلاث وثلاثين ومائة ، وهي خراب فضاء يعرف بعضه بجبل يشكر ، نزل صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس ، وأبو عون عبد الملك بن يزيد بعسكرهما في هذا الفضاء ، وأمر عبد الملك أبو عون أصحابه بالبناء فيه ، فبنوا. وسمي من يومئذ بالعسكر ، وصار أمراء مصر إذا قدموا ينزلون فيه من بعد أبي عون. وقال الناس من عهده كنا بالعسكر ، خرجنا إلى العسكر ، وكنت في العسكر. فصارت مدينة الفسطاط والعسكر. ونزل الأمراء من عهد أبي عون بالعسكر ، فلما ولي يزيد بن حاتم إمارة مصر ، وقام عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن وطرق المسجد ، كتب أبو جعفر المنصور إلى يزيد بن حاتم يأمره أن يتحوّل من العسكر إلى الفسطاط ، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر ، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة ، إلى أن قدم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون من العراق أميرا على مصر ، فنزل بالعسكر بدار الإمارة التي بناها صالح بن عليّ بعد هزيمة مروان وقتله ، وكان لها باب إلى الجامع الذي بالعسكر ، وكان الأمراء ينزلون بهذه الدار إلى أن نزلها أحمد بن طولون ، ثم تحوّل منها إلى القطائع ، وجعلها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون عند إمارته على مصر ديوانا للخراج ، ثم فرّقت حجرا حجرا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر ، وزوال دولة بني طولون ، وسكن محمد بن سليمان أيضا بدار في العسكر عند المصلّى القديم ، ونزلها الأمراء من بعده إلى أن ولي الإخشيد محمد بن طفج فنزل بالعسكر أيضا ، ولما بنى أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر ، وبنى الجامع على جبل يشكر ، فعمر ما هناك عمارة عظيمة ، بحيث كانت هناك دار على بركة قارون أنفق عليها كافور الإخشيديّ مائة ألف دينار ، وسكنها. وكان هناك مارستان أحمد بن طولون أنفق عليه وعلى مستغله ستين ألف دينار.

وقدمت عساكر المعز لدين الله مع كاتبه وغلامه جوهر القائد في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة والعسكر عامر ، غير أنه منذ بنى أحمد بن طولون القطائع هجر اسم العسكر ، وصار يقال مدينة الفسطاط والقطائع ، فلما خرّب محمد بن سليمان الكاتب قصر ابن طولون وميدانه ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، صارت القطائع فيها المساكن الجليلة ، حيث كان العسكر ، وأنزل المعز لدين الله عمه أبا عليّ في دار الإمارة ، فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الغلاء الكائن بمصر في خلافة المستنصر ، أعوام بضع وخمسين وأربعمائة. فيقال أنه كان هنالك ما ينيف على مائة ألف دار ، ولا ينكر ذلك. فانظر ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن ، وبين ساحل مصر القديم الذي يعرف اليوم بالكبارة ، وما بين كوم الجارح من مصر ، وقناطر السباع ، فهناك كانت القطائع والعسكر ، ويخص العسكر من ذلك ما بين قناطر السباع وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح ، حيث الفضاء الذي يتوسط فيما بين قنطرة السدّ وباب المخدم من جهة القرافة ، فهناك كان العسكر. ولما استولى

٣٧

الخراب في المحنة زمن المستنصر ، أمر الوزير الناصر للدين عبد الرحمن البازوريّ ببناء حائط يستر الخراب إذا توجه الخليفة إلى مصر ، فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق ، وأمر فبنى حائط آخر عند جامع ابن طولون. فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله ، أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ ، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر ، بأن من كان له دار في الخراب أو مكان يعمره ، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره ، من غير نقل شيء من أنقاضه ، ومن تأخر بعد ذلك فلا حق له ولا حكر يلزمه ، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق ، فعمر الناس ما كان منه مما يلي القاهرة ، من حيث مشهد السيدة نفيسة إلى ظاهر باب زويلة ، ونقلت أنقاض العسكر ، فصار الفضاء الذي يوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة ، ومن الجامع الطولونيّ ، ومن قنطرة السدّ ، ويسلك فيه إلى حيث كوم الجارح. والعامر الآن من العسكر جبل يشكر الذي فيه جامع ابن طولون وما حوله إلى قناطر السباع. كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

جامع ابن طولون

هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر. قال ابن عبد الظاهر : وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء ، وقيل أنّ موسى عليه‌السلام ناجى ربه عليه بكلمات. وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع ، في سنة ثلاث وستين ومائتين. قال جامع السيرة الطولونية : كان أحمد بن طولون يصلّى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة ، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد ، مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون ، ومنه بنى العين. فلما أراد بناء الجامع قدّر له ثلاثمائة عمود ، فقيل له : ما تجدها ، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب ، فتحمل ذلك ، فأنكر ذلك ولم يختره ، وتعذب قلبه بالفكر في أمره ، وبلغ النصرانيّ الذي تولى له بناء العين ، وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق الخبر. فكتب إليه يقول : أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة ، فأحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه ، فقال له : ويحك ما تقول في بناء الجامع؟ فقال : أنا أصوّره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلّا عمودي القبلة. فأمر بأن تحضر له الجلود ، فأحضرت ، وصوّره له فأعجبه واستحسنه ، وأطلقه وخلع عليه ، وأطلق له للنفقة عليه مأئة ألف دينار. فقال له : أنفق ، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك. فوضع النصرانيّ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه ، وهو جبل يشكر ، فكان ينشر منه ويعمل الجيرو يبني إلى أن فرغ من جميعه ، وبيّضه وخلّقه وعلّق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال ، وفرش فيه الحصر ، وحمل إليه صناديق المصاحف ، ونقل إليه القرّاء والفقهاء ، وصلّى فيه بكار بن قتيبة القاضي ، وعمل الربيع بن سليمان بابا فيما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من بنى لله مسجدا

٣٨

ولو كمفحص (١) قطاة ، بنى الله له بيتا في الجنة». فلما كان أوّل جمعة صلاها فيه أحمد بن طولون وفرغت الصلاة ، جلس محمد بن الربيع خارج المقصورة ، وقام المستملي وفتح باب المقصورة ، وجلس أحمد بن طولون ، ولم ينصرف والغلمان قيام وسائر الحجاب حتى فرغ المجلس ، فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال : يقول لك الأمير نفعك الله بما علّمك ، وهذه لأبي طاهر ، يعني ابنه ، وتصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه ، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين ، وكان يوما عظيما حسنا.

وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة ، وقد فرشت وعلّقت وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وما شاكلها ، فنزل بها أحمد وجدّد طهره وغير ثيابه وخرج من بابها إلى المقصورة ، فركع وسجد شكرا لله تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له. فلما أراد الانصراف ، خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوّارة ، وخرج إلى باب الريح. فصعد النصرانيّ الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح : يا أحمد بن طولون ، يا أمير الأمان ، عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان ، أن لا يجري عليه مثل ما جرى في المرّة الأولى. فقال له أحمد بن طولون : انزل فقد أمّنك الله ، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه وأمر له بعشرة آلاف دينار ، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات. وراح أحمد بن طولون في يوم الجمعة إلى الجامع ، فلما رقى الخطيب المنبر وخطب ، وهو أبو يعقوب البلخيّ ، دعا للمعتمد ولولده ، ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون ، ونزل عن المنبر ، فأشار أحمد إلى نسيم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط. فذكر الخطيب سهوه وهو على مراقي المنبر ، فعاد وقال : الحمد لله ، وصلّى الله على محمد (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه / ١١٥] اللهمّ وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين. وزاد في الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل ، فنظر أحمد إلى نسيم أن أجعلها دنانير ، ووقف الخطيب على ما كان منه ، فحمد الله تعالى على سلامته وهنأه الناس بالسلامة.

ورأى أحمد بن طولون الصنّاع يبنون في الجامع عند العشاء ، وكان في شهر رمضان فقال : متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم ، اصرفوهم العصر. فصارت سنّة إلى اليوم بمصر. فلما فرغ شهر رمضان ، قيل له : قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم. فقال : قد بلغني دعاؤهم ، وقد تبرّكت به ، وليس هذا مما يوفر العمل علينا. وفرغ منه في شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين ، وتقرّب الناس إلى ابن طولون بالصلاة فيه ، وألزم أولادهم كلهم صلاة الجمعة في فوّارة الجامع ، ثم يخرجون بعد الصلاة إلى مجلس

__________________

(١) المفحص : حفرة تحفرها الدجاجة أو القطاة في الأرض لتبيض وترقد فيها.

٣٩

الربيع بن سليمان ليكتبوا العلم ، مع كلّ واحد منهم ورّاق وعدّة غلمان. وبلغت النفقة على هذا الجامع في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. ويقال أنّ أحمد بن طولون رأى في منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى ووقع نوره على المدينة التي حول الجامع ، إلّا الجامع فإنه لم يقع عليه من النور شيء ، فتألم وقال : والله ما بنيته إلّا لله خالصا ، ومن المال الحلال الذي لا شبهة فيه. فقال له معبّر حاذق : هذا الجامع يبقى ويخرب كل ما حوله ، لأنّ الله تعالى قال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف / ١٤٣] فكل شيء يقع عليه جلال الله عزوجل لا يثبت. وقد صحّ تعبير هذه الرؤيا ، فإن جميع ما حول الجامع خرب دهرا طويلا ، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب ، وبقي الجامع عامرا ، ثم عادت العمارة لما حوله كما هي الآن.

قال القضاعيّ رحمه‌الله ، وذكر أن السبب في بنائه ، أنّ أهل مصر شكوا إليه ضيق الجامع يوم الجمعة من جنده وسودانه ، فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل يشكر بن جديلة من لخم ، فابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين ، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائتين ، وقيل أنّ أحمد بن طولون قال : أريد أن أبنى بناء ، إن احترقت مصر بقي ، وإن غرقت بقي.

فقيل له : يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القويّ النار إلى السقف ، ولا يجعل فيه أساطين رخام ، فإنه لا صبر لها على النار ، فبناه هذا البناء وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها جميع الشرابات والأدوية ، وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة ، وبناه على بناء جامع سامراء ، وكذلك المنارة ، وعلّق فيه سلاسل النحاس المفرغة ، والقناديل المحكمة ، وفرشه بالحصر العبدانية والسامانية.

حديث الكنز : قال جامع السيرة : لما ورد على أحمد بن طولون كتاب المعتمد بما استدعاه من ردّ الخراج بمصر إليه ، وزاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامية ، رغب بنفسه عن المعادن ومرافقها ، فأمر بتركها ، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال ، ومنع المتقبلين من الفسخ على المزارعين ، وخطر الارتفاق على العمال ، وكان قبل إسقاط المرافق بمصر ، قد شاور عبد الله بن دسومة في ذلك ، وهو يومئذ أمين على أبي أيوب متولي الخراج. فقال : إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي. فقال له : قد أمنك الله عزوجل. فقال : أيها الأمير ، إنّ الدنيا والآخرة ضرّتان والحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى ، والمفرّط من خلط بينهما ، فيتلف أعماله ويبطل سعيه ، وأفعال الأمير أيّده الله الخير وتوكله توكل الزهاد ، وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها ، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر ، لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل ، ولكن الإنسان قصير العمر ، كثير المصائب ، مدفوع إلى الآفات ، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع ، ولعل الذي

٤٠