كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

جامع القرافة

هذا الجامع يعرف اليوم بجامع الأولياء ، وهو مسجد بني عبد الله بن مانع بن مزروع ، ويعرف بمسجد القبة ، وقد ذكر عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.

مسجد الأطفيحيّ

هذا المسجد كان في البطحاء ، بحريّ مجرى جامع الفيلة إلى الشرق ، مخالطا لخطط الكلاع ورعين والأكنوع والأكحول. ويقال له مسجد وحاطة بن سعد الأطفيحيّ ، من أهل أطفيح ، شيخ له سمت ، وكتب الحديث في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، وما قبلها ، وسمع من الحباك وهو في طبقته ، وهو رفيق الفرّاء وابن مشرف وابن الحظية وأبي صادق ، وسلك طريق أهل القناعة والزهد والعزلة كأبي العباس ابن الحظية وكان الأفضل الكبير شاهنشاه صاحب مصر قد لزمه ، واتخذ السعي إليه مفرتضا ، والحديث معه شهوة. وغرضا لا ينقطع عنه. وكان فكه الحديث ، قد وقف من أخبار الناس والدول على القديم والحديث ، وقصده الناس لأجل حلول السلطان عنده لقضاء حوائجهم فقضاها ، وصار مسجده موئلا للحاضر والبادي. وصدى لإجابة صوت النادي ، وشكا الشيخ إلى الأفضل تعذر الماء ووصوله إليه ، فأمر ببناء القناطر التي كانت في عرض القرافة من المجرى الكبيرة الطولونية ، فبنيت إلى المسجد الذي به الأطفيحيّ ، ومضى عليها من النفقة خمسة آلاف دينار ، وعمل الأطفيحيّ صهريج ماء شرقيّ المسجد ، عظيما محكم الصنعة ، وحمّاما وبستانا كان به نخلة سقطت بعد سنة خمسين وخمسمائة. وعمل الأفضل له مقعدا بحذاء المسجد إلى الشرق ، علو زيادة في المسجد شرقيه ، وقاعة صغيرة مرخمة إذا جاء عنده جلس فيها وخلا بنفسه واجتمع معه وحادثه ، وكان هذا المقعد على هيئة المنظرة بغير ستائر ، كلّ من قصد الأطفيحيّ من الكتفي يراه ، وكان الأفضل لا يأخذه عنه القرار ، يخرج في أكثر الأوقات من دار الملك باكرا أو ظهرا أو عصرا بغتة ، فيترجل ويدق الباب وقارا للشيخ ، كما كان الصحابة رضي‌الله‌عنهم يقرعون أبواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظفر الإبهام والمسبحة ، كما يحصب بهما الحاصب ، فإن كان الشيخ يصلي لا يزال واقفا حتى يخرج من الصلاة ويقول من فيقول ولدك شاهنشاه. فيقول نعم. ثم يفتح فيصافحه الأفضل ويمرّ بيده التي لمس بها يد الشيخ على وجهه ، ويدخل فيقول الشيخ : نصرك الله ، أيدك الله ، سدّدك الله ، هذه الدعوات الثلاثة لا غير أبدا. فيقول الأفضل آمين ، وبنى له الأفضل المصلّى ذات المحاريب الثلاثة شرقيّ المسجد إلى القبليّ قليلا ، ويعرف بمصلّى الأطفيحيّ ، كان يصلّي فيه على جنائز موتى القرافة ، وكان سبب اختصاص الأفضل بهذا الشيخ ، أنه لما كان محاصرا نزار بن المستنصر بالإسكندرية ، وناصر الدولة أفتكين الأرمنيّ ، أحد مماليك أمير الجيوش بدر ، وكانت أمّ

٣٤١

الأفضل إذ ذاك وهي عجوز لها سمت ووقار ، تطوف كلّ يوم وفي الجمعة الجوامع والمساجد والرباطات والأسواق ، وتستقص الأخبار ، وتعلم محب ولدها الأفضل من مبغضه ، وكان الأطفيحيّ قد سمع بخبرها ، فجاءت يوم جمعة إلى مسجده وقالت له : يا سيدي ولدي في العسكر مع الأفضل ، الله يأخذ لي الحق منه ، فإني خائفة على ولدي ، فادع الله لي أن يسلمه. فقال لها الشيخ : يا أمة الله أما تستحيين تدعين على سلطان الله في أرضه ، المجاهد عن دينه ، الله تعالى ينصره ويظفره ويسلّمه ، ويسلم ولدك ، ما هو إن شاء الله إلّا منصور مؤيد مظفر ، كأنك به وقد فتح الإسكندرية وأسر أعداءه وأتى على أحسن قضية وأجمل طوية ، فلا تشغلي لك سرّا ، فما يكون إلّا خيرا إن شاء الله تعالى ، ثم إنها اجتازت بعد ذلك بالفار الصيرفيّ بالقاهرة بالسرّاجين ، وهو والد الأمير عبد الكريم الآمريّ صاحب السيف ، وكان عبد الكريم قد ولي مصر بعد ذلك في الأيام الحافظية ، وكان عبد الكريم هذا له في أيام الآمر وجاهة عظيمة وصولة ، ثم افتقر.

فوقفت أمّ الأفضل على الصيرفيّ تصرف دينارا وتسمع ما يقول ، لأنه كان إسماعيليا متغاليا ، فقالت له : ولدي مع الأفضل ؛ وما أدرى ما خبره. فقال لها الفار المذكور ، لعن الله المذكور الأرمنيّ الكلب العبد السوء ابن العبد السوء ، مضى يقاتل مولاه ومولى الخلق ، كأنك والله يا عجوز برأسه جائزا من هاهنا على رمح قدّام مولاه نزار ومولاي ناصر الدولة إن شاء الله تعالى ، والله يلطف بولدك ، من قال لك تخليه يمضي مع هذا الكلب المنافق ، وهو لا يعرف من هي.

ثم وقفت على ابن بابان الحلبيّ وكان بزازا بسوق القاهرة فقالت له مثل ما قالت للفار الصيرفيّ ... وقال لها مثل ما قال لها. فلما أخذ الأفضل نزارا وناصر الدولة وفتح الإسكندرية ، حدّثته والدته الحديث وقالت : إن كان لك أب بعد أمير الجيوش فهذا الشيخ الأطفيحيّ. فلما خلع عليه المستعلي بالقصر وعاد إلى دار الملك بمصر ، اجتاز بالبزازين يوما ، فلما نظر إلى ابن بابان الحلبيّ قال : انزلوا بهذا فنزلوا به ، فقال : رأسه. فضربت عنقه تحت دكانه. ثم قال لعبد على أحد مقدّمي ركابه : قف هاهنا لا يضيع له شيء إلى أن يأتي أهله فيتسلموا قماشه ، ثم وصل إلى دكان الفار الصيرفيّ فقال : انزلوا بهذا ، فنزلوا به ، فقال : رأسه. فضربت عنقه تحت دكانه. وقال ليوسف الأصغر أحد مقدّمي الركاب اجلس على حانوته إلى أن يأتي أهله ويتسلموا موجوده ، وإياك وماله وصندوقه ، وإن ضاع منه درهم ضربت عنقك مكانه ، كان لنا خصم أخذناه وقد فعلنا به ما يردع غيره عن فعله ، وما لنا ماله ، ولا فقر أهله ، ثم أتى الأفضل إلى الشيخ أبي طاهر الأطفيحيّ وقرّبه وخصصه إلى أن كان من أمره مما شرحناه.

٣٤٢

مسجد الزيات

هذا المسجد مجاور بيت الخوّاص غربيه. ومسجد ابن أبي الردّاد ، يعرف بمسجد الأنطاكيّ ، ومسجد الفاخوريّ. يعرف بمسجد البطحاء ، ومسجد ابن أبي الصغير ، قبليّ مسجد بني مانع ، وهو جامع القرافة ، ومسجد الشريفة بني في سنة إحدى وخمسمائة ، ومسجد ابن أبي كامل الطرابلسيّ ، كان بحارة الفرن بناه الأعز بن أبي كامل ، والمعبد الذي كان على رأس العقبة التي يتوصل منها إلى الرصد ، بناه أبو محمد عبد الله الطباخ ، ويقال أنه كان بالقرافة اثنا عشر ألف مسجد.

القصر المعروف بباب ليون بالشرف : هذا القصر كان على طرف الجبل بالشرف الذي يعرف اليوم ... (١). وجاء الفتح وهو مبنيّ بالحجارة ، ثم صار في موضعه مسجد عرف بمسجد المقس ، والمقس ضيعة كانت تعرف بأمّ دنين ، سميت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها ، وصاحب المكس ، فقلب فقيل المقس ، وليون اسم بلد بمصر بلغة السودان والروم ، وقد ذكر المقس عند ذكر ظواهر القاهرة من هذا الكتاب ، والله تعالى أعلم.

ذكر الجواسيق التي بالقرافة

قال ابن سيده : الجوسق ، الحصن. وقيل هو شبيه بالحصن معرّب ، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط : الجواسق بالقرافة والجبانة كانت تسمى القصور ، وكان بالقرافة قصر الكتفيّ ، وقصر بني كعب ، وقصر بني عقبة ، وقصر أبي قبيل ، وقصر العزيز ، وقصر البغداديّ ، وقصر يشب ، وقصر ابن كرامة.

جوسق بني عبد الحكم : كان جوسقا كبيرا له حوش ، وكان في وسط القرافة بحضرة مسجد بني سريع الذي يقال له الجامع العتيق ، وهو أحد الجواسق الثلاثة ، وهو جوسق عبد الله بن عبد الحكم الفقيه الإمام ، وجدّد هذا الجوسق ابن اللهيب المغربي.

جوسق بني غالب ، ويعرف ببني بابشاد : كان بالمغافر ، بني في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ، وإلى جانبه قبر الشيخ أبي الحسن طاهر بن بابشاد.

جوسق ابن ميسر : كان بجوار جوسق بني غالب ، بناه أبو عبد الله محمد ابن القاضي أبي الفرج هبة الله ، وكان أبو الفرج هو الخطيب بجامع مصر ، ويوم الغدير ، وهو شافعيّ المذهب ، وهو هبة الله بن الميسر. وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وخمسمائة ، وأبو عبد الله هذا هو الذي كان بعد ذلك قاضي القضاة بمصر ، وهو الذي حبس القياسر التي كانت في القشاشين بمصر ، وكان يحمل قدّامه المنارة الرومية النحاس ذات السواعد التي

__________________

(١) بياض في الأصل.

٣٤٣

عليها الشمع ليالي الوقودات ، وكان فيه كرم ، سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك الصغير المحشوّ بالسكر المسمى أفطن له ، فأمر هو بعمل لب الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيذ المطيب بالمسك ، وعمل منه في أوّل الحال شيئا عوّض لبه لب ذهب في صحن واحد ، فمضى فيه جملة ، وخطف قدّامه ، تخاطفه الحاضرون. ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس. وهو أوّل من أخرجه بمصر ، وكان قد سمع في سيرة أبي بكر المادرانيّ أنه عمل هذا الأفطن له ، وجعل في كلّ واحد خمسة دنانير ، ووقف أستاذ على السماط فقال لأحد الجلساء : افطن له. وكان على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس ، لكن ما فيها ما فيه دنانير إلّا صحن واحد ، فلما رمز الأستاذ لأحد الجلساء على سماط المادرانيّ بقوله افطن له ، وأشار إلى الصحن ، تناول الرجل منه فأصاب لك ، فاعتمد له جملة ، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج شيئا من فمه ويجمع بيده ويحط في حجره ، فتنبهوا وتزاحموا عليه. فقيل لذلك المعمول من ذلك الوقت أفطن له ، وقتل هذا القاضي في تنيس في أيام بهرام الوزير النصرانيّ الأرمني ، سنة ست وعشرين وخمسمائة.

جوسق ابن مقشر : كان جوسقا طويلا ذا تربة إلى جانبه.

جوسق الشيخ أبي محمد : عامل ديوان الأشراف الطالبيين ، وجوسق ابن عبد المحسن بخط الأكحول ، وجوسق البغداديّ الجرجراي ، كان قبره إلى جانبه ، خرب في سنة عشرين وخمسمائة ، وجوسق الشريف أبي إسماعيل إبراهيم بن نسيب الدولة الكلتميّ الموسوي نقيب مصر.

جوسق المادرانيّ : هذا الجوسق لم يبق من جواسق القرافة غيره ، وهو جوسق كبير جدّا على هيئة الكعبة بالقرب من مصلى خولان في بحريه ، على جانبه الممرّ من مقطع الحجارة ، بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ في وسط قبورهم من الجبانة ، وكان الناس يجتمعون عند هذا الجوسق في الأعياد ، ويوقد جميعه في ليلة النصف من شعبان كل سنة وقودا عظيما ، ويتحلق القرّاء حوله لقراءة القرآن ، فيمرّ للناس هنالك أوقات في تلك الليلة وفي الأعياد بديعة حسنة.

جوسق حب الورقة : كان هذا الجوسق بحضرة تربة ابن طباطبا ، أدركته عامرا ، وقد خرب فيما خرّبه السفهاء من ترب القرافة وجواسقها ، زعما منهم أن فيها خبايا ، وكان أكابر أمراء المغافر ومن بعدهم ومن يجري مجراهم ، لكلّ منهم جوسق بالقرافة يتنزه فيه ويعبد الله تعالى هناك ، وكان من هذه الجواسق ما تحته حوض ماء لشرب الدواب وفسقية وبستان ، وكان بالقرافة عدّة قصور ، وهي التي تسمى بالجواسق ، لها مناظر وبساتين ، إلّا أن الجواسق أكثرها بغير بساتين ولا بئر ، بل مناظر مرتفعة ، ويقال لها كلها قصور.

قصر القرافة : بنته السيدة تغريد أمّ العزيز بالله في سنة ست وستين وثلاثمائة ، على يد

٣٤٤

الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب ، هو والحمّام الذي كان في غربيه ، وبنت البئر والبستان المعروف بالتاج ، المعروف بحصن أبي المعلوم ، وبنت جامع القرافة ، ثم جدّده الآمر بأحكام الله وبيضه في سنة عشرين وخمسمائة ، وعمل شرقيّ بابه مصطبة للصوفية ، وكان مقدّمهم الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالمادح ، وكان الآمر يجلس في الطاق بالمنظر الذي بناه بأعلى القصر ، ويرقص أهل الطريقة قدّامه ، وقد ذكر هذا القصر عند ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب ، ولم يزل هذا القصر إلى ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة.

ذكر الرباطات التي كانت بالقرافة

كان بالقرافة الكبيرة عدّة دور يقال للدار منها رباط ، على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يكون فيها العجائز والأرامل العابدات ، وكانت لها الجرايات والفتوحات ، وكان لها المقامات المشهورة من مجالس الوعظ.

رباط بنت الخوّاص : كان تجاه مسجد بيد الفقيه مجلي بن جميع بن نجا الشافعيّ ، مؤلف كتاب الذخائر ، وقاضي القضاة بمصر.

رباط الأشراف : كان برحبة جامع القرافة ، يعرف بالقرّاء ، وببني عبد الله ، وبمسجد القبة ، وهو شرقيّ بستان ابن نصر ، بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ ووقفه على نساء الأشراف.

رباط الأندلس : بنته الجهة المعروفة بجهة مكنون الآمرية كما تقدّم.

رباط ابن العكاريّ : كان بحضرة مسجد بني سريع المعروف بالجامع العتيق.

رباط الحجازية : بنته وحبسته على الحجازية ، فوز جارية عليّ بن أحمد الجرجراي الوزير ، هو والمسجد الذي تقدّم ذكره.

رباط رياض : كان بجوار مسجد الحاجة رياض.

ذكر المصلّيات والمحاريب التي بالقرافة

وكان في القرافة عدّة مصلّيات وعدّة محاريب.

منها : مصلّى الشريفة : كان بدرب القرافة بحدرة الجباسين وخطة الصدف ، بناه أبو محمد عبد الله بن الأرسوفيّ الشاميّ التاجر ، سنة سبع وسبعين وخمسمائة.

مصلّى المغافر : وهو الأندلس ، جدّده ابن برك الإخشيديّ ، ثم بنته جهة مكنون الآمرية في سنة ست وعشرين وخمسمائة.

٣٤٥

مصلّى عقبة القرافة ، يعرف بمصلّى الأندلسيّ : كان ذا مصطبة مربعة على يسرة الطالع إلى القرافة ، بناه يوسف بن أحمد الأندلسيّ الأنصاريّ ، في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة.

مصلّى القرافة : جدّده الفقيه ابن الصباغ المالكيّ ، في سنة عشرين وخمسمائة ، وكان بحضرة مسجد أبي تراب تجاه دار التبر.

مصلّى الفتح : كان ملاصقا لمسجد الفتح ، بناه أبو محمد القلعيّ المغربيّ المنجم الحافظيّ.

مصلّى جهة العادل : أبي الحسن بن السلار وزير مصر.

مصلّى الأطفيحيّ : بجوار مسجد الأطفيحيّ الذي تقدّم ذكره.

مصلّى الجرجانيّ : بناه الوزير عليّ بن أحمد الجرجانيّ ، وكانت بالقرافة الكبرى والجبانة عدّة محاريب خربت كلها.

مصلّى خولان : هذه المصلّى عرفت بطائفة من العرب الذين شهدوا فتح مصر يقال لهم خولان ، وهم من قبائل اليمن ، واسمه نكل بن عمرو بن مالك بن زيد بن عريب ، وفي هذه المصلّى مشهد الأعياد ، ويؤمّ الناس ويخطب لهم بها في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص ، وليست هذه المصلّى هي التي أنشأها المسلمون عند فتح أرض مصر ، وإنما كانت مصلّى العيد في أوّل الإسلام غير هذه. قال القضاعي : مصلّى العيد كان مصلى عمرو بن العاص مقابل اليحموم ، وهو الجبل المطلّ على القاهرة. فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر ، أمر بتحويله. فحوّل إلى موضعه المعروف اليوم بالمصلّى القديم عند درب السباع ، ثم زاد فيه عبد الله بن طاهر سنة عشر ومائتين ، ثم بناه أحمد بن طولون في سنة ست وخمسين ومائتين ، واسمه باق عليه إلى اليوم.

قال الكنديّ : ولما قدم شفي الأصبحيّ إلى مصر ، وأهل مصر قد اتخذوا مصلّى بحذاء ساقية أبي عون عند العسكر قال : ما لهم وضعوا مصلّاهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدّس ، يعني المقطم. قال : فقدّموا مصلّاهم إلى موضعه الذي هو به اليوم ، يعني المصلّى القديم المذكور. وقال الكنديّ : ثم ضاق المصلّى بالناس في إمارة عنبسة بن إسحاق الضبيّ على مصر ، في أيام المتوكل على الله ، فأمر عنبسة بابتناء المصلّى الجديد ، فابتديء ببنائه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة أربعين ومائتين ، وصلّى فيه يوم النحر من هذه السنة.

وعنبسة هو آخر عربيّ ولي مصر ، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد ، وهو المصلّى

٣٤٦

الذي بالصحراء عند الجاروديّ ، ثم جدّده الحاكم وزاد فيه وجعل له قبة ، وذلك في سنة ثلاث وأربعمائة ، وكان أمراء مصر إذا خرجوا إلى صلاة العيد بالمصلّى أوقفوا جيشا في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش ، ليراعي الناس حتى ينصرفوا من الصلاة ، خوفا من البجة. فإنهم قدموا غير مرّة ركبانا على النجب حتى كبسوا الناس في مصلاهم وقتلوا ونهبوا ثم رجعوا من حيث أتوا ، فخرج عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب غضبا لله وللمسلمين مما أصابهم من البجة ، فكمن لهم بالصعيد في طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم في أخذ الناس في مصلّى العيد ، فكبسهم وقتل الأعور رئيسهم بعد ما أقبلوا إلى المصلّى في العيد ، في سنة ست وخمسين ومائتين ، وأميره مصر أحمد بن طولون على النجب ، وكبسوا الناس في مصلّاهم وقتلوا ونهبوا منهم وعادوا سالمين ، ثم دخل العمريّ إلى بلاد البجة غازيا ، فقتل منهم مقتلة عظيمة وضايقهم في بلادهم إلى أن أعطوه الجزية ، ولم يكونوا أعطوا أحدا قبله الجزية ، وسار في المسلمين وأهل الذمّة سيرة حسنة ، وسالم النوبة إلى أن بدأ النوبة بالغدر في الموضع المعروف بالمريس ، فمال عليهم وحاربهم وخرّب ديارهم وسبى منهم عالما كثيرا ، حتى كان الرجل من أصحابه يبتاع الحاجة من الزيات والبقال بنوبيّ أو نوبية لكثرتهم معهم ، فجاؤا إلى أحمد بن طولون وشكوا له من العمريّ ، فبعث إليه جيشا ليحاربه ، فأوقع بالجيش وهزمهم ، وكانت لهم أنباء وقصص إلى أن قتله غلامان من أصحابه وأحضرا رأسه إلى أحمد بن طولون ، فأنكر فعلهما وضرب أعناقهما وغسل الرأس ودفنه.

ذكر المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء

وكان بجبل المقطم وبالصحراء التي تعرف اليوم بالقرافة الصغرى عدّة مساجد وعدّة مغاير ، ينقطع العباد بها ، ومنها ما قد دثر ومنه شيء قد بقي أثره.

مسجد التنور : هذا المسجد في أعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها ، أدركته عامرا وفيه من يقيم به. قال القضاعيّ : المسجد المعروف بالتنور بالجبل ، هو موضع تنور فرعون ، كان يوقد له عليه ، فإذا رأوا النار عملوا بركوبه فاتخذوا له ما يريد ، وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس. ثم بناه أحمد بن طولون مسجدا في صفر سنة تسع وخمسين ومائتين ، ووجدت في كتاب قديم أنّ يهودا بن يعقوب أخا يوسف عليه‌السلام ، لما دخل مع إخوته على يوسف وجرى من أمر الصواع ما جرى ، تأخر عن إخوته وأقام في ذروة الجبل المقطم في هذا المكان ، وكان مقابلا لتنور فرعون الذي كان يوقد له فيه النار. ثم خلا ذلك الموضع إلى زمن أحمد بن طولون ، فأخبر بفضل الموضع وبمقام يهودا فيه ، فابتنى فيه هذا المسجد والمنارة التي فيه ، وجعل فيه صهريجا فيه الماء ، وجعل الإنفاق عليه مما وقفه على البيمارستان بمصر والعين التي بالمغافر وغير ذلك. ويقال أنّ تنور فرعون لم يزل في هذا

٣٤٧

الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قوّاد أحمد بن طولون يقال له وصيف قاطرميز ، فهدمه وحفر تحته ، وقدّر أن تحته مالا فلم يجد فيه شيئا ، وزال رسم التنور وذهب ، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر من أبيات لسعيد القاضي :

وتنور فرعون الذي فوق قلة

على جبل عال على شاهق وعر

بنى مسجدا فيه يروق بناءه

ويهدى به في الليل إن ضلّ من يسري

تخال سنا قنديله وضياءه

سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر

القرقوبيّ : قال القضاعيّ المسجد المعروف بالقرقوبيّ ، هو على قرنة الجبل المطل على كهف السودان ، بناه أبو الحسن القرقوبيّ الشاهد ، وكيل التجار بمصر ، في سنة خمس عشرة وأربعمائة ، وكان في موضعه محراب حجارة يعرف بمحراب ابن الفقاعيّ الرجل الصالح ، وهو على يسار المحراب.

مسجد أمير الأمراء : رفق المستنصريّ على قرنة الجبل البحرية المطلة على وادي مسجد موسى عليه‌السلام.

كهف السودان : مغار في الجبل لا يعلم من أحدثه ، ويقال أن قوما من السودان نقروه فنسب إليهم ، وكان صغيرا مظلما ، فبناه الأحدب الأندلسيّ القزاز ، وزاد في سفله مواضع نقرها ، وبنى علوه. ويقال أنه أنفق فيه أكثر من ألف دينار ، ووسع المجاز الذي يسلك منه إليه ، وعمل الدرج النقر التي يصعد عليها إليه ، وبدأ في بنيانه مستهل سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ، وفرغ منه في شعبان من هذه السنة.

العارض : هذا المكان مغارة في الجبل ، عرفت بأبي بكر محمد جدّ مسلم القاري ، لأنه نقرها ، ثم عمرت بأمر الحاكم بأمر الله ، وأنشئت فيها منارة هي باقية إلى اليوم ، وتحت العارض قبر الشيخ العارف عمر بن الفارض رحمه‌الله ، ولله در القائل :

جزبا لقرافة تحت ذيل العارض

وقل السلام عليك يا ابن الفارض

وقد ذكر القضاعيّ أربع عشرة مغارة في الجبل ، منها. ما هو باق ، وليس في ذكرها فائدة.

اللؤلؤة : هذا المكان مسجد في سفح الجبل منها. باق إلى يومنا هذا ، كان مسجدا خرابا ، فبناه الحاكم بأمر الله وسماه اللؤلؤة ، قيل كان بناؤه في سنة ست وأربعمائة ، وهو بناء حسن.

مسجد الهرعاء : فيما بين اللؤلؤة ومسجد محمود ، وهو مسجد قديم يتبرّك بالصلاة فيه ، وقد ذكر مسجد محمود عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب ، لأنه تقام فيه الجمعة.

دكة القضاة : قال القضاعيّ : هي دكة مرتفعة عن المساجد في الجبل ، كان القضاة بمصر يخرجون إليها لنظر الأهلّة كل سنة ، ثم بني عليها مسجد.

٣٤٨

مسجد فائق : مولى خمارويه بن أحمد بن طولون ، كان في سفح الجبل مما يلي طريق مسجد موسى عليه‌السلام.

مسجد موسى : بناه الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات.

مسجد زهرون بالصحراء : هو مسجد أبي محمد الحسن بن عمر الخولانيّ ، ثم عرف بابن المبيض ، وكان زهرون قيمه فنسب إليه.

مسجد الفقاعيّ : هو أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبد الله ، كان أبوه فقاعيا (١) بمصر ، وهو مسجد كبير بناه كافور الإخشيديّ ، ثم جدّده وزاد فيه مسعود بن محمد صاحب الوزير أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجرايّ ، وكان في وسط هذا المسجد محراب مبنيّ بطوب يقال أنه من بناء حاطب بن أبي بلتعة رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المقوقس ، ويقال أنه أوّل محراب اختط في مصر ، وكان أبو الحسن التميميّ قد زاد فيه ببناء قبل ذلك.

مسجد الكنز : هذا المسجد كان شرقيّ الخندق وبحريّ قبر ذي النون المصريّ ، وكان مسجدا صغيرا يعرف بالزمام ، ومات قبل تمامه ، فهدمه أبو طاهر محمد بن عليّ القرشيّ القرقوبيّ ووسعه وبناه ، وحكي أنه لما هدمه رأى قائلا يقول في المنام : على أذرع من هذا المسجد كنز ، فاستيقظ وقال : هذا من الشيطان ، فرأى هذا القائل ثلاث مرّات ، فلما أصبح أمر بحفر الموضع فإذا فيه قبر ، وظهر له لوح كبير تحته ميت في لحد كأعظم ما يكون من الناس جثة ورأسا ، وأكفانه طرية لم يبل منها إلا ما يلي جمجمة الرأس ، فإنه رأى شعر رأسه قد خرج من الكفن ، وإذا له جمة ، فراعه ما رأى وقال : هذا هو الكنز بلا شك ، وأمر بإعادة اللوح والتراب كما كان ، وأخرج القبر عن سائر الحيطان ، وأبرزه للناس فصار يزار ويتبرّك به.

مسجد في غربيّ الخندق : أنشأه أبو الحسن بن النجار الزيات في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.

مسجد لؤلؤ الحاجب : بالقرافة الصغرى ، بنى بجانبه مقبرة ، وحفر عندها بئرا حتى انتهى الحفار إلى قرب الماء ، فقال الحفار : إني أجد في البئر شيئا كأنه حجر. فقال له لؤلؤ تسبب في قلعه ، فلما قلعه فار الماء وأخرجه ، وإذا هو اسطام مركب ، وهو الخشبة التي تبنى عليها السفينة ، وهذا يصدّق ما قاله أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية ، قال : إن أهل مصر يسكنون فيما انحسر عنه البحر الأحمر ، يعني بحر الشام ، وقد ذكر خبر لؤلؤ هذا عند ذكر حمام لؤلؤ.

__________________

(١) فقع الجلد المدبوغ : لونه بلون فاقع.

٣٤٩

مقام المؤمن : قيل أنه مؤمن آل فرعون ، لأنه أقام فيه ، وهذا بعيد من الصحة.

قناطر ابن طولون وبئره : هذه القناطر قائمة إلى اليوم من بئر أحمد بن طولون التي عند بركة الحبش ، وتعرف هذه البئر عندنا ببئر عفصة ، ولا تزال هذه القناطر إلى أثناء القرافة الكبرى ، ومن هناك خفيت لتهدّمها ، وهي من أعظم المباني.

قال القضاعيّ : قناطر أحمد بن طولون وبئره بظاهر المغافر ، كان السبب في بنائها هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمرّ بمسجد الأقدام وحده ، وتقدّم عسكره وقد كدّه العطش ، وكان في المسجد خياط فقال : يا خياط أعندك ماء؟ فقال : نعم. فأخرج له كوزا فيه ماء وقال : اشرب ولا تمدّ ، يعني لا تشرب كثيرا ، فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمدّ فيه حتى شرب أكثره ، ثم ناوله إياه وقال : يا فتى سقيتنا وقلت لا تمدّ. فقال : نعم ، أعزك الله ، موضعنا ههنا منقطع ، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية. فقال هل : والماء عندكم ههنا معوز؟ فقال : نعم. فمضى أحمد بن طولون ، فلما حصل في داره قال : جيؤني بخياط في مسجد الأقدام. فما كان بأسرع من أن جاؤوا به ، فلما رأه قال : سر مع المهندسين حتى يخطّوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء ، وهذه ألف دينار خذها ، وابتدأ في الأنفاق وأجرى على الخياط في كلّ شهر عشرة دنانير وقال له : بشرني ساعة يجري الماء فيها ، فجدّوا في العمل ، فلمّا جرى الماء أتاه مبشرا ، فخلع عليه وحمله واشترى له دارا يسكنها ، وأجرى عليه الرزق السنيّ الدارّ ، وكان قد أشير عليه بأن يجري الماء من عين أبي خليد المعروفة بالنعش. فقال : هذه العين لا تعرف أبدا إلّا بأبي خليد ، وإني أريد أن أستنبط بئرا ، فعدل عن العين إلى الشرق فاستنبط بئره هذه وبنى عليها القناطر ، وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم.

وقال جامع السيرة الطولونية : وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة ، فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان ، ثم العين التي بناها بالمغافر ، وبناها بنية صحيحة ورغبة قوية حتى أنها ليس لها نظير ، ولهذا اجتهد المادرانيون وأنفقوا الأموال الخطيرة ليحكوها ، فأعجزهم ذلك لأنها وقعت في موضع جيرانه كلهم محتاجون إليها ، وهي مفتوحة طول النهار لمن كشف وجهه للأخذ منها ، ولمن كان له غلام أو جارية ، والليل للفقراء والمساكين ، فهي حياة ومعونة. واتخذ لها مستغلا فيه فضل وكفاية لمصالحها ، والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصرانيّ حسن الهندسة حاذق بها ، وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له : إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها ، فقال : يركب الأمير إليها في غد ، فقد فرغت ، وتقدّم النصرانيّ فرأى موضعا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات ، فبادر إلى عمل ذلك ، وأقبل أحمد بن طولون يتأمّل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها ، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير

٣٥٠

فوقف بالاتفاق عليها ، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد ، ولسوء ظنه قدّر أنّ ذلك لمكروه أراده به النصرانيّ ، فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط ، وأمر به إلى المطبق ، وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير ، فاتفق له اتفاق سوء. وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصرانيّ إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع ، فقدّر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها ، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب ، فتحمل ذلك. فأنكره ولم يختره ، وتعذب قلبه بالفكر في أمره ، وبلغ النصرانيّ وهو في المطبق الخبر ، فكتب إليه : أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة ، فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه ، فبناه.

قال : ولما بنى أحمد بن طولون هذه السقاية بلغه أن قوما لا يستحلون شرب مائها ، قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الفقيه : كنت ليلة في داري إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون فقال لي : الأمير يدعوك ، فركبت مذعورا مرعوبا ، فعدل بي عن الطريق فقلت : أين تذهب بي ، فقال : إلى الصحراء والأمير فيها. فأيقنت بالهلاك وقلت للخادم : الله الله فيّ ، فإني شيخ كبير ضعيف مسنّ ، فتدري ما يراد مني فارحمني. فقال لي : احذر أن يكون لك في السقاية قول. وسرت معه وإذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع ، فنزلت وسلمت عليه فلم يردّ عليّ ، فقلت : أيّها الأمير إنّ الرسول أعنتني وكدّني وقد عطشت فيأذن لي الأمير في الشرب ، فأراد الغلمان أن يسقوني فقلت : أنا آخذ لنفسي ، فاستقيت وهو يراني ، وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق ثم قلت : أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة ، فلقد أرويت وأغنيت ، ولا أدري ما أصف أطيب الماء ، في حلاوته وبرده أم صفاءه أم طيب ريح السقاية ، قال : فنظر إليّ وقال : أريدك لأمر وليس هذا وقته ، فاصرفوه. فصرفت. فقال لي الخادم : أصبت. فقلت : أحسن الله جزاءك ، فلو لاك لهلكت. وكان مبلغ النفقة على هذه العين في بنائها ومستغلها أربعين ألف دينار ، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء لسعيد القاص أبياتا في رثاء دولة بني طولون ، منها في العين والسقاية :

وعين معين الشرب عين زكية

وعين أجاج للرّواة وللطهر

كأنّ وفود النيل في جنباتها

تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر

فأرك بها مستنبطا لمعينها

من الأرض من بطن عميق إلى ظهر

بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله

لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر

يمرّ على أرض المغافر كلها

وشعبان والأحمور والحيّ من بشر

قبائل لا نوء السحاب يمدّها

ولا النيل يرويها ولا جدول يجري

وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب الجوهر المكنون في ذكر

٣٥١

القبائل والبطون : سريع فخذ من الأشعريين ، هم ولد سريع بن ماتع من بني الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وهم رهط أبي قبيل التابعيّ ، الذي خطته اليوم الكوم ، شرقيّ قناطر سقاية أحمد بن طولون ، المعروفة بعفصة الكبيرة بالقرافة.

الخندق : هذا الخندق كان بقرافة مصر ، قد دثر ، وعلى شفيره الغربيّ قبر الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وكان من النيل إلى الجبل ، حفر مرّتين ، مرّة في زمن مروان بن الحكم ، ومرّة في خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد. ثم حفره أيضا القائد جوهر. قال القضاعيّ : الخندق هو الخندق الذي في شرقيّ الفسطاط في المقابر ، كان الذي أثار حفره مسير مروان بن الحكم إلى مصر ، وذلك في سنة خمس وستين ، وعلى مصر يومئذ عبد الرحمن بن عقبة بن جحدم الفهريّ ، من قبل عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه. فلما بلغه مسير مروان إلى مصر أعدّ واستعدّ وشاور الجند في أمره ، فأشاروا عليه بحفر الخندق ، والذي أشار به عليه ربيعة بن حبيش الصدفيّ ، فأمر ابن جحدم بإحضار المحاريث من الكور لحفر الخندق على الفسطاط ، فلم تبق قرية من قرى مصر إلا حضر من أهلها النفر ، وكان ابتداء حفره غرّة المحرّم سنة خمس وستين ، فما كان شيء أسرع من فراغهم منه ، حفروه في شهر واحد. وكانت الحرب من ورائه يغدون إليها ويروحون ، فسميت تلك الأيام أيام الخندق والتراويح ، لرواحهم إلى القتال ، وكانت المغافر أكثر قبائل أهل مصر عددا ، كانوا عشرين ألفا ، ونزل مروان عين شمس لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين ، في اثني عشر ألفا ، وقيل في عشرين ألفا ، فخرج أهل مصر إلى مروان فحاربوه يوما واحدا بعين شمس ، ثم تحاجزوا ورجع أهل مصر إلى خندقهم فتحصنوا به ، وصحبتهم جيوش مروان على باب الخندق ، فاصطف أهل مصر على الخندق ، فكانوا يخرجون إلى أصحاب مروان فيقاتلونهم نوبا نوبا ، وأقاموا على ذلك عشرة أيام ومروان مقيم بعين شمس ، وكتب مروان إلى شيعته من أهل مصر ، كريب بن أبرهة بن الصباح الحميريّ ، وزياد بن حناطة التجيبيّ ، وعابس بن سعيد المراديّ يقول : إنكم ضمنتم لي ضمانا لم تقوموا به ، وقد طالت الأيام والممانعة ، فقام كريب وزياد وعابس إلى ابن جحدم فقالوا له : أيّها الأمير إنه لا قوام لنا بما ترى ، وقد رأينا أن نسعى في الصلح بينك وبين مروان وقد مل الناس الحرب وكرهوها ، وقد خفنا أن يسلمك الناس إلى مروان فيكون محكما فيك ، فقال : ومن لي بذلك؟ فقال كريب : أنا لك به ، فسعى كريب وصاحبناه في الصلح على أمان كتبه مروان لأهل مصر وغيرهم ممن شرب ماء النيل ، وعلى أن يسلم لابن جحدم من بيت المال عشرة آلاف دينار ، وثلاثمائة ثوب بقطرية ، ومائة ريطة ، وعشرة أفراس ، وعشرين بغلا ، وخمسين بعيرا. فتم الصلح على ذلك ، ودخل مروان الفسطاط مستهل جمادى الأولى سنة خمس وستين ، فنزل دار الفلفل ودفع إلى ابن جحدم جميع ما صالحه عليه ، وسار ابن جحدم إلى الحجاز ولم يلق كلّ واحد

٣٥٢

منهما الآخر ، وتفرّق المصريون وأخذوا في دفن قتلاهم والبكاء عليهم ، فسمع مروان البكاء فقال : ما هذه النوادب؟ فقيل : على القتلى. قال : لا أسمع نائحة تنوح إلّا أحللت بمن هي في داره العقوبة. فسكتن عند ذلك ودفن أهل مصر قتلاهم فيما بين الخندق والمقطم ، وهي المقابر التي يسميها المصريون مقابر الشهداء ، ودفن أهل الشام قتلاهم فيما بين الخندق ومنية الأصبغ ، وكان قتلى أهل مصر ما بين الستمائة إلى السبعمائة ، وقتلى أهل الشام نحو الثلاثمائة ، ولما برز مروان من الفسطاط سائرا إلى الشام ، سمع وجبة النساء يندبن قتلاهنّ ، قال : ويحهن ما هذا؟ قالوا : النساء على مقابرهنّ يندبن قتلاهنّ ، فعرّج عليهنّ ، فأمر بالانصراف. قالوا : كذا هنّ كلّ يوم. قال : فامنعوهنّ إلّا من سبب ، وخرج مروان من مصر إلى الشام لهلال رجب سنة خمس وستين ، وكان مقامه بالفسطاط شهرين ، واستخلف ابنه عبد العزيز على مصر ، وضم إليه بشر بن مروان ، وكان حدثا ، ثم ولي عبد الملك بشرا بعد ذلك البصرة ، قال : ثم دثر هذا الخندق إلى أيام خلع الأمين بمصر وبيعة المأمون ، وولى البلد عباد بن محمد بن حبان مولى كندة من قبل المأمون ، فكتب الأمين بمصر إلى أهل الحوفين في القيام ببيعته وقتال : عباد وأهل مصر. فتجمع أهل الحوف لذلك واستعدّوا ، وبلغ أهل مصر فأشاروا على عباد بحفر الخندق ، فحفروا خندقا من النيل إلى الجبل واحتفروا هذا الخندق العتيق ، فكان القتال عليه أياما متفرّقة إلى أن قتل الأمين وتمت بيعة المأمون ، ثم لم يحفر بعد ذلك إلى يومنا هذا.

وذكر ابن زولاق أن القائد جوهرا لما اختط القاهرة وكثر الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر ، حفر خندق السريّ بن الحكم بباب مدينة مصر ، وعمل عليه بابا في ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة ، وحفر خندقا في وسط مقبرة مصر ، وهو الخندق الذي حفره ابن جحدم ، ابتدأ حفره من بركة الحبش حتى وصله بخندق عبد الرحمن بن جحدم ، حتى بلغ به قبر محمد بن إدريس الشافعيّ ، ثم حفر من الجبل إلى أن وصل الخندق ابن جحدم وسط المقابر ، وبدأ به يوم السبت التاسع من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة ، وفرغ منه في مدّة يسيرة.

القباب السبع : هذه القباب بآخر القرافة الكبرى مما يلي مدينة مصر. قال ابن سعيد في كتاب المغرب : والقباب السبع المشهورة بظاهر الفسطاط ، هي مشاهد على سبعة من بني المغربيّ قتلهم الخليفة الحاكم بعد فرار الوزير أبي القاسم الحسين بن عليّ بن المغربيّ إلى أبي الفتوح حسن بن جعفر بمكة ، وفي ذلك يقول أبو القاسم بن المغربيّ :

إذا شئت أن ترنو إلى الطّف باكيا

فدونك فانظر ، نحو أرض المقطّم

تجد من رجال المغربيّ عصابة

مضمّخة الأجسام من حلل الدّم

فكم تركوا محراب آي معطّل

وكم تركوا من سورة لم تختم

٣٥٣

وقد ذكرت أخبار بني المغربيّ عند ذكر بساتين الوزير من بركة الحبش ، ويتعلق بهذا الموضع من خبرهم أن أبا الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد بن المغربيّ ، لما خرج من بغداد وصار إلى مصر في أيام العزيز بالله بن المعز لدين الله في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة رتب له في كلّ سنة ستة آلاف دينار ، وصار من شيوخ الدولة. فقال يوما لمؤدّب ولده أبي القاسم حسين ، وهو عليّ بن منصور بن طالب ، المعروف بأبي الحسن دوخلة بن القادح سرّا : أنا أخاف همة ابني أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا مورد الأصدر عنه ، فإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فاكتبها واحفظها وطالعني بها. فقال أبو القاسم في بعض الأيام لمؤدّبه هذا : إلى متى نرضى بالخمول الذي نحن فيه؟ فقال له : وأيّ خمول هذا ، تأخذون من مولانا في كل سنة ستة آلاف دينار ، وأبوكم من شيوخ الدولة؟ فقال : أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب ، ولا أرضى بأن يجرى علينا كالولدان والنسوان ، فأعاد ذلك على أبيه فقال : ما أخوفني أن يخضب أن أبو القاسم هذه من هذه ، وقبض على لحيته وهامته ، وعلم ذلك أبو القاسم فصارت بينه وبين مؤدّبه وحشة ، وكان ذلك في خلافة الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز ، وتحدّث القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر ، وكان الحاكم قد أكثر من قتل رؤساء دولته ، وصار يبعث إلى القائد كلما قتل رئيسا برأسه ويقول : هذا عدوّي وعدوّك ، فقبض على أبي الحسن عليّ بن الحسين المغربيّ والد الوزير أبي القاسم الحسين ، وعلى أخيه أبي عبد الله محمد بن الحسين ، وعلى محسن ومحمد أخوي الوزير المذكور ، لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربعمائة ، وفرّ الوزير أبو القاسم الحسين بن المغربيّ من مصر في زيّ حمّال ، لليال من ذي القعدة ، ولحق بحسان بن الجرّاح ، وكان من أمره ما كان.

ذكر الأحواض والآبار التي بالقرافة

حوض القرافة : أمر ببنائه السيدة ست الملك ، عمّة الحاكم بأمر الله ، ابنة المعز لدين الله ، في شعبان سنة ست وستين وثلاثمائة واختلّ في أيام العادل أبي الحسن بن السلار وزير مصر في سنة ست وأربعين وخمسمائة ، فأمر بعمارته ، ثم انشق في سنة ثمانين وخمسمائة ، فجدّده القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرّياستين ، أبو الحسن عليّ بن عثمان بن يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن أحمد بن يعقوب بن مسلم بن منبه ، أحد بني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميّ ، صاحب النظر في ديوان مصر ، ومصنف كتاب المنهاج في أحكام الخراج. وهو كتاب جليل الفائدة ، ولم تزل آثار هذا القاضي حميدة ومقاصده سديدة ، وعنده نخوة قرشية ، ومروءة وعصبية ، وهو وإن طاب أصولا ، فقد زكا فروعا ، وإن تفرّقت في سواه فضائل فقد جمعها الله فيه جميعا ، ولم يزل مذ كان يسعى في الأمانة على صراط مستقيم ، آخذا بقوله تعالى أخبارا عن

٣٥٤

الكريم ابن الكريم اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.

الحوض بجوار قصر القرافة : في ظهر الحمّام العزيزي بحضرة فرن القرافة ، أمرت ببنائه أمّ الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله ، واسمها السيدة رصد ، على يد وكيلها الشريف المحدّث أبي إبراهيم أحمد بن القاسم بن الميمون بن حمزة الحسينيّ العبدليّ شيخ الفرّاء ، وابن الخطاب والفلكيّ.

حوض بحضرة الأشعوب : وهو قصر بني عقيب.

حوض في داخل قصر أبي المعلوم : مجاور للبئر الكبيرة ذات الدواليب ، بناه المحتسب الفارسيّ مع عمارة البئر والميضأة في أيام السيدة أمّ العزيز ، ويقال أن الحوض والبئر من بناء المادرانيّ ، وإنما جدّدته عمة الحاكم.

حوض : بقصر بني كعب وبجانبه بئر ، أنشأه الحاجب لؤلؤ ، وهو من حقوق قصر بني كعب ، وقد خربت هذه الأحواض ودثرت.

ذكر الآبار التي ببركة الحبش والقرافة

بئر أبي سلامة : وتعرف ببئر الغنم ، وهي قبليّ النوبية ، وموضعها أحسن موضع في البركة ، وهي التي عنى أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بقوله :

لله يومي ببركة الحبش

والأفق بين الضياء والغبش

والنيل تحت الرياح مضطرب

كصارم في يمين مرتعش

ونحن في روضة مفوّفة (١)

دبج بالنور عطفها ووشي

قد نسجتها يد الغمام لنا

فنحن من نسجها على فرش

وأثقل الناس كلهم رجل

دعاه داعي الهوى فلم يطش

فعاطني الراح إنّ تاركها

من سورة الهمّ غير منتعش

واسقني بالكبار مترعة

فهنّ أشفى لشدّة العطش

بئر غربيّ دير مرحنا وبستان العبيديّ : ودير مرحنا يعرف اليوم في زماننا بدير الطين ، وهو عامر بالنصارى.

بئر الدرج : شرقيّ بساتين الوزير ، لها درج ينزل به إليها ، عملها الحاكم بأمر الله ، وشرقيها قبور النصارى ، وبعدهم إلى جهة الجبل قبور اليهود ، والبستان المجاور لعفصة الصغرى أوّل بركة الحبش على لسان الجبل الخارج إلى البركة ، مجاورة لبئر النعش وبئر السقايين ، وهي المعروفة ببئر أبي موسى خليد ، وقد صار هذا البستان إلى المهذب بن الوزير.

__________________

(١) مفوّفة : موشّاة.

٣٥٥

بئر الزقاق : شرقيّ بئر عفصة الصغرى ، والزقاق معروف إذ ذاك في الجبل ، وفي أوّله بئر مربعة كان يسقى منها البقر والغنم.

ذكر السبعة التي تزار بالقرافة

اعلم أن زيارة القرافة كانت أوّلا يوم الأربعاء ، ثم صارت ليلة الجمعة ، وأمّا زيارة يوم السبت فقيل إنها قديمة ، وقيل متأخرة ، وأوّل من زار يوم الأربعاء وابتدأ بالزيارة من مشهد السيدة نفيسة ، الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله بن رافع بن يزحم بن رافع السارعيّ الشافعيّ المغافريّ الزوّار ، المعروف بعابد ، ومولده سنة إحدى وستين وخمسمائة ، ووفاته بالهلالية خارج باب زويلة ، في ليلة الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ودفن بسفح المقطم على تربة بني نهار ، بحريّ تربة الردينيّ. وأوّل من زار ليلة الجمعة ، الشيخ الصالح المقري أبو الحسن عليّ بن أحمد بن جوشن المعروف بابن الجباس ، والد شرف الدين محمد بن عليّ بن أحمد بن الجباس ، فجمع الناس وزار بهم في ليلة الجمعة في كلّ أسبوع ، وزار معه في بعض الليالي السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، ومشى معه أكابر العلماء. وكان سبب تجرّد أبي الحسن بن الجباس وانقطاعه إلى الله تعالى ، أنه دولب مطبخ سكّر شركة رجل ، فوقف عليهما مال للديوان ، فسجنا بالقصر ، فقرأ ابن الجباس في بعض الليالي سورة الرعد ، فسمعه السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب ، فقام حتى وقف عليه وسأله عن خبره ، فأعلمه بأنه سجن على مبلغ كذا ، فأمر بالإفراج عنه ، فأبى إلّا أن يفرج عن رفيقه أيضا ، فأفرج عنهما جميعا. واتفق أنه مرّ في بعض ليالي الزيارة بزاوية الفخر الفارسيّ ، فخرج وقال له : ما هذه البدعة؟ في غد أبطلها. ثم دخل الزاوية وخرج بعد ساعة وأمر بردّ ابن الجباس ، فلما جاءه قال : دم على ما أنت عليه ، فإني رأيت الساعة قوما فقالوا : هل تعطينا ما يعطينا ابن الجباس في ليالي الجمع؟ فعلمت أن ذلك هو الدعاء والقراءة. وأمّا زيارة يوم السبت ، فقد تقدّم أنه اختلف فيها ، وحكى الموفق بن عثمان عن القضاعيّ أنه كان يحث على زيارة سبعة قبور ، وأن رجلا شكا إليه ضيق حاله. والدين. فقال له : عليك بزيارة سبعة قبور. أوّلهم : الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد بن سهل بن الصائغ الدينوريّ ، وتوفي ليلة الثلاثاء ، لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. والثاني : عبد الصمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البغداديّ ، صاحب الخلفاء ، وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. والثالث : أبو إبراهيم إسماعيل بن ... (١) المزنيّ ، وتوفي سنة أربع وستين ومائتين. والرابع : القاضي بكار بن قتيبة ، وتوفي سنة سبعين ومائتين. والخامس : القاضي

__________________

(١) بياض في الأصل.

٣٥٦

المفضل بن فضالة ، وتوفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين. والسادس : القاضي أبو بكر عبد الملك بن الحسن القمنيّ ، وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. والسابع : أبو الفيض ذو النون ثوبان بن إبراهيم المصريّ ، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين.

وكانوا أوّلا يزورون بعد صلاة الصبح وهم مشاة على أقدامهم إلى أن كانت أيام شيخ الزوّار محمد العجميّ السعوديّ ، فزار راكبا في يوم السبت بعد طلوع الشمس ، لأنّ رجليه كانتا معوجتين لا يستطيع المشي عليهما ، وذلك في أواخر سنة ثمانمائة ، وتوفي في عاشر شهر رمضان سنة تسع وثمانمائة. فجاء بعده الزائر شمس الدين محمد بن عيسى المرجوشيّ السعوديّ ، ومحيي الدين عبد القادر بن علاء الدين محمد بن علم الدين بن عبد الرحمن الشهير بابن عثمان ، ففعلا ذلك ، ومات ابن عثمان في سابع شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وثمانمائة ، فاستمرّت الزيارة على ذلك.

وقد حكى صاحب كتاب محاسن الأبرار ومجالس الأخيار سبعة غير من ذكرنا وسماهم المحققين وهم : صلة بن مؤمّل ، وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عليّ بن جعفر الخوارزميّ ، وسالم العفيف ، وأبو الفضل بن الجوهريّ ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين ، عرف بالبزار ، وأبو الحسن عليّ ، عرف بطير الوحش ، وأبو الحسن عليّ بن صالح الأندلسيّ الكحال ، وذكر أيضا سبعة أخر وهم : عقبة بن عامر الجهنيّ ، والإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ ، وأبو بكر الدقاق ، وأبو إبراهيم إسماعيل المزنيّ ، وأبو العباس أحمد الجزار ، والفقيه ابن دحية ، والفقيه ابن فارس اللخميّ ، وزيارتهم يوم الجمعة بعد صلاة الصبح ، والعمل عليها في الزيارة الآن ، إلّا أنهم يجتمعون طوائف ، لكلّ طائفة شيخ ، ويقيمون مناور كبارا وصغارا ويخرجون في ليالي الجمع وفي كلّ سبت بكرة النهار ، وفي كلّ يوم أربعاء بعد الظهر ، وهم يذكرون الله ، فيزورون. ويجتمع معهم من الرجال والنساء خلائق لا تحصى ، ومنهم من يعمل ميعاد وعظ ، ويقال لشيخ كل طائفة الشيخ الزائر ، فتمرّ لهم في الزيارة أمور منها ما يستحسن ومنها ما ينكر ، ولكلّ عبد ما نوى.

فمن أشهر مزارات القرافة : قبر الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ. رحمة الله ورضوانه عليه ، وتوفي يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب ، سنة أربع ومائتين بفسطاط مصر ، وحمل على الأعناق حتى دفن في مقبرة بني زهرة ، أولاد عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ رضي‌الله‌عنه ، وعرفت أيضا بتربة أولاد ابن عبد الحكم. قال القضاعيّ : وقد جرّب الناس خير هذه التربة المباركة والقبر المبارك ، وينقل عن المزنيّ أنه قال فيه :

سقى الله هذا القبر من وبل مزنه

من العفو ما يغنيه عن طلل المزن

٣٥٧

لقد كان كفؤا للعداة ومعقلا

وركنا لهذا الدين بل أيّما ركن

هكذا وقفت عليه ، ثم رأيت بعد ذلك أن المزنيّ ، رحمه‌الله ، لما دفن مرّ رجل على قبره وإذا بهاتف يقول : فذكر البيتين. وقال آخر :

لله درّ الثرى كم ضمّ من كرم

بالشافعيّ حليف العلم والأثر

يا جوهر الجوهر المكنون من مضر

ومن قريش ومن ساداتها الأخر

لما توليت ولّى العلم مكتئبا

وضرّ موتك أهل البدو والحضر

ولآخر :

أكرم به رجلا ما مثله رجل

مشارك لرسول الله في نسبه

أضحى بمصر دفينا في مقطمها

نعم المقطّم والمدفون في تربة

ومناقب الشافعيّ رحمه‌الله كثيرة ، قد صنف الأئمة فيها عدّة مصنفات ، وله في تاريخي الكبير المقفى ترجمة كبيرة ، ومن أبدع ما حكي من مناقبه : أنّ الوزير نظام الملك أبا عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق ، لما بنى المدرسة النظامية ببغداد في سنة أربع وسبعين وأربعمائة ، أحب أن ينقل الإمام الشافعيّ من مقبرته بمصر إلى مدرسته ، وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجماليّ وزير الإمام المستنصر بالله معدّ يسأله في ذلك ، وجهز له هدية جليلة ، فركب أمير الجيوش في موكبه ومعه أعيان الدولة ووجوه المصريين من العلماء وغيرهم ، وقد اجتمع الناس لرؤيته ، فلما نبش القبر شق ذلك على الناس ، وماجوا وكثر اللغط وارتفعت الأصوات وهموا برجم أمير الجيوش والثورة به ، فسكّتهم وبعث يعلم الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بصورة الحال ، فأعاد جوابه بإمضاء ما أراد نظام الملك ، فقريء كتابه بذلك على الناس عند القبر وطردت العامّة والغوغاء من حوله ، ووقع الحفر حتى انتهوا إلى اللحد ، فعندما أرادوا قلع ما عليه من اللبن خرج من اللحد رائحة عطرة أسكرت من حضر فوق القبر حتى وقعوا صرعى ، فما أفاقوا إلّا بعد ساعة ، فاستغفروا مما كان منهم وأعادوا ردم القبر كما كان وانصرفوا ، وكان يوما من الأيام المذكورة ، وتزاحم الناس على قبر الشافعيّ يزورونه مدّة أربعين يوما بلياليها ، حتى كان من شدّة الازدحام لا يتوصل إليه إلّا بعناء ومشقة زائدة ، وكتب أمير الجيوش محضرا بما وقع وبعث به وبهدية عظيمة مع كتابه إلى نظام الملك ، فقرىء هذا المحضر والكتاب بالنظامية ببغداد ، وقد اجتمع العالم على اختلاف طبقاتهم لسماع ذلك ، فكان يوما مشهودا ببغداد ، وكتب نظام الملك إلى عامّة بلدان المشرق من حدود الفرات إلى ما وراء النهر بذلك ، وبعث مع كتبه بالمحضر وكتاب أمير الجيوش ، فقرئت في تلك الممالك بأسرها ، فزاد قدر الإمام الشافعيّ عند كافة أهل الأقطار ، وعامّة جميع أهل الأمصار بذلك.

٣٥٨

وقد أوردت في كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نظير هذه الواقعة ، وقع لضريح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يزل قبر الشافعيّ يزار ويتبرّك به إلى أن كان يوم الأحد لسبع خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وستمائة ، فانتهى بناء هذه القبة التي على ضريحه ، وقد أنشأها الملك الكامل المظفر المنصور أبو المعالي ناصر الدين محمد ظهير أمير المؤمنين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب ، وبلغت النفقة عليها خمسين ألف دينار مصرية ، وأخرج في وقت بنائها بعظام كثيرة من مقابر كانت هناك ، ودفنت في موضع من القرافة ، وبهذه القبة أيضا قبر السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقبر أمّه شمسة ، وقيل فيها عدّة أشعار ، منها قول الأديب الكاتب ضياء الدين أبي الفتح موسى بن ملهم :

مررت على قبّة الشافعيّ

فعاين طرفي عليها العشاري

فقلت لصحبي لا تعجبوا

فإنّ المراكب فوق البحار

وقال علاء الدين أبو عليّ عثمان بن إبراهيم النابلسي :

لقد أصبح الشافعيّ الإما

م فينا له مذهب مذهب

ولو لم يكن بحر علم لما

غدا وعلى قبره مركب

وقال آخر :

أتيت لقبر الشافعيّ أزوره

تعرّضنا فلك وما عنده بحر

فقلت تعالى الله تلك إشارة

تشير بأنّ البحر قد ضمّه القبر

وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد البوصيريّ صاحب البردة :

بقبة قبر الشافعيّ سفينة

رست في بناء محكم فوق جلمود

ومذ غاض طوفان العلوم بقبره استوى الفلك من ذاك الضريح على الجودي

ومنها قبر الإمام الليث بن سعد : رحمه‌الله ، قد اشتهر قبره عند المتأخرين ، وأوّل ما عرفته من خبر هذا القبر أنه وجدت مصطبة في آخر قباب الصدف ، وكانت قباب الصدف أربعمائة قبة فيما يقال ، عليها مكتوب الإمام الفقيه الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصريّ مفتى أهل مصر ، كما ذكر في كتاب هادي الراغبين في زيارة قبور الصالحين ، لأبي محمد عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الكريم بن عليّ بن محمد بن عليّ بن طلحة ، وفي كتاب مرشد الزوّار للموفق ابن عثمان. وذكر الشيخ محمد الأزهريّ في كتابه في الزيارة : أن أوّل من بنى عليه وحيز كبير التجار أبو زيد المصريّ ، بعد

٣٥٩

سنة أربعين وستمائة ، ولم يزل البناء يتزايد إلى أن جدّد الحاج سيف الدين المقدّم عليه قبته في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون ، قبيل سنة ثمانين وسبعمائة ، ثم جدّدت في أيام الناصر فرج بن الظاهر برقوق ، على يد الشيخ أبي الخير محمد ابن الشيخ سليمان المادح ، في محرّم سنة إحدى عشرة وثمانمائة. ثم جدّدت في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة على يد امرأة قدمت من دمشق في أيام المؤيد شيخ ، عرفت بمرحبا بنت إبراهيم بن عبد الرحمن ، أخت عبد الباسط. وكان لها معروف وبرّ ، توفيت في تاسع عشري ذي القعدة سنة أربعين وثمانمائة ، ويجتمع بهذ القبة في لية كلّ سبت جماعة من القرّاء ، فيتلون القرآن الكريم تلاوة حسنة حتى يختسموا ختمة كاملة عند السحر ، ويقصد المبيت عندهم للتبرّك بقراءة القرآن عدّة من الناس ، ثم تفاحش الجمع ، وأقبل النساء والأحداث والغوغاء ، فصار أمرا منكرا ، لا ينصتون لقراءة ولا يتعظون بمواعظ ، بل يحدث منهم على القبور ما لا يجوز. ثم زادوا في التعدّي حتى حفروا ما هنالك خارج القبة من القبور ، وبنوا مباني اتخذوها مراحيض وسقايات ماء ، ويزعم من لا علم عنده أن هذه القراءة في كل ليلة سبت عند قبر الليث بزعمهم قديمة من عهد الإمام الشافعيّ ، وليس ذلك بصحيح ، وإنما حدثت بعد السبعمائة من سني الهجرة ، بمنام ذكر بعضهم أنه رآه ، وكانوا إذ ذاك يجتمعون للقراءة عند قبر أبي بكر الأدفويّ.

ذكر المقابر خارج باب النصر

اعلم أن المقابر التي هي الآن خارج باب النصر ، إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربعمائة ، وأوّل تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجماليّ لما مات ودفن فيها ، وكان خطها يعرف برأس الطابية ، قال الشريف أمين الدولة أبو جعفر محمد بن هبة الله العلويّ الأفطسيّ ، وقد مرّ بتربة الأفضل :

أجرى دما أجفانيه

جدث برأس الطابيه

صدع الزمان صفاتيه

 ............ (١)

بال وما بليت أيا

ديه عليّ الباقيه

ويخارج باب النصر في أوائل المقابر قبر زينب بنت أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر ابن الحنفية ، يزار وتسميه العامّة مشهد الست زينب ، ثم تتابع دفن الناس موتاهم في الجهة التي هي اليوم من بحري مصلّى الأموات إلى نحو الريدانية ، وكان ما في شرقيّ هذه المقبرة إلى الجبل براحا واسعا يعرف بميدان القبق ، وميدان العيد ، والميدان الأسود ، وهو ما بين قلعة الجبل إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر. فلما كان بعد سنة عشرين وسبعمائة ،

__________________

(١) بياض في الأصل.

٣٦٠