كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

بالمدينة ، فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها ، فلما رأى الجدّ من يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية ، وقيل الثعلبية ، فتبعه أهل الكوفة وقالوا له : نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد ، نضرب عنك بأسيافنا ، وليس هاهنا من أهل الشام إلّا عدّة يسيرة وبعض قبائلنا يكفيهم بإذن الله ، وحلفوا له بالأيمان المغلظة ، فجعل يقول : إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي ، فيحلفون له ، فقال له داود بن عليّ : لا يغرّك يا ابن عمي هؤلاء ، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك ، جدّ عليّ بن أبي طالب حتى قتل ، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه وانتزعوا رداءه وجرحوه ، أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه ، فلا ترجع معهم. فقالوا : يا زيد إنّ هذا لا يريد أن تظهر أنت ، ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم. فقال زيد لداود : إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه ، وإنّ الحسين قاتله يزيد ، والأمر مقبل عليهم. فقال له داود : إني أخاف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشدّ عليك منهم ، وأنت أعلم ، ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.

فأتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقه فأحسن ثم قال له : نشدتك الله كم بايعك؟ قال : أربعون ألفا. قال : فكم بايع جدّك؟ قال : ثمانون ألفا. قال : فكم حصل معه؟ قال : ثلثمائة. قال : نشدتك الله أنت خير أم جدّك؟ قال : جدّي. قال : فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال : ذلك القرن. قال : أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدّك؟ قال : قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال : أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد ، فلا آمن أن يحدث حدث فأهلك نفسي. فأذن له فخرج إلى اليمامة.

وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى زيد : أما بعد ، فإن أهل الكوفة نفج (١) العلانية حور السريرة (٢) هوج في الرد ، أجزع في اللقاء ، تقدمهم ألسنتهم ولا تتابعهم قلوبهم ، ولقد تواترت كتبهم إليّ بدعوتهم فصممت عن ندائهم ، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأسا منهم وإطراحا لهم ، وما لهم مثل إلّا ما قال عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه : إن أهملتم خضتم ، وإن خوّرتم خرتم ، وإن اجتمع الناس ويتجهز للخروج ، وتزوّج بالكوفة امرأتين ، وكان ينتقل تارة عند هذه في بني سلمة قومها ، وتارة عند هذه في الأزد قومها ، وتارة في بني عبس ، وتارة في بني تغلب ، وغيرهم إلى أن ظهر في سنة اثنتين وعشرين ومائة ، فأمر أصحابه بالاستعداد ، وأخذ من كان يريد الوفاء بالبيعة يتجهز ، فبلغ ذلك يوسف بن عمر ، فبعث في طلب زيد فلم يوجد ، وخاف زيد أن يؤخذ ، فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة ، وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن

__________________

(١) نفج : انتفج الرجل : افتخر بأكثر مما عنده.

(٢) حور السريرة : أي متغيري القلوب.

٣٢١

الصلت في ناس من أهل الشام ، ويوسف بن عمر بالحيرة.

فلما علم أصحاب زيد أن يوسف بن عمر قد بلغه الخبر وأنه يبحث عن زيد ، اجتمع إلى زيد جماعة من رؤوسهم فقالوا : رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر ، فقال زيد رحمهما‌الله وغفر لهما ، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلّا خيرا ، وإنّ أشدّ ما أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس أجمعين ، فدفعونا عنه ، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا ، وقد ولّوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا فلم يظلمك هؤلاء إذا ، كان أولئك لم يظلموا ، وإذا كان هؤلاء لم يظلموا ، فلم تدعو إلى قتالهم؟ فقال : إنّ هؤلاء ليسوا كأولئك ، هؤلاء ظالمون لي ولأنفسهم ولكم ، وإنما ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والى السنن أن تحيي ، وإلى البدع أن تطفأ ، فإن أجبتمونا سعدتم ، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا : قد سبق الإمام ، يعنون محمدا الباقر ، وكان قد مات. وقالوا جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه ، فسماهم زيد الرافضة ، وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حين فارقوه ، وكانت طائفة قد أتت جعفر بن محمد الصادق قبل قيام زيد وأخبروه ببيعته فقال : بايعوه ، لهو والله أفضلنا وسيدنا. فعادوا وكتموا ذلك ، وكان زيد قد واعد أصحابه أوّل ليلة من صفر ، فبلغ ذلك يوسف بن عمر ، فبعث إلى الحكم عامله على الكوفة يأمره بأن يجمع الناس بالمسجد الأعظم يحصرهم فيه ، فجمعهم ، وطلبوا زيدا فخرج ليلا من دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ ، وكان بها ، ورفعوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر ، فلما أصبحوا نادى أصحاب زيد بشعارهم وثاروا ، فأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس ، وبعث إلى يوسف بن عمر وهو بالحيرة فأخبره الخبر ، فأرسل إليه خمسين فارسا ليعرفوا الخبر ، فساروا حتى عرفوا الخبر وعادوا إليه ، فسارت الحيرة بأشراف الناس ، وبعث ألفين من الفرسان وثلاثمائة رجالة معهم النشاب ، وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا ، فقال : سبحان الله أين الناس؟ فقيل إنهم في المسجد الأعظم محصورون. فقال : والله ما هذا بعذر لمن بايعنا. وأقبل فلقيه على جبانة الصايديين خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم فيمن معه حتى هزمهم ، وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزديّ ، وكان فيمن بايعه وهو في الدار ، فنودي فلم يجب ، فناداه زيد فلم يخرج إليه. فقال زيد : ما أخلفكم قد فعلتموها ، الله حسيبكم. ثم سار ويوسف بن عمر ينظر إليه وهو في مائتي رجل ، فلو قصده زيد لقتله ، والريان يتبع آثار زيد بالكوفة في أهل الشام ، فأخذ زيد في المسير حتى دخل الكوفة ، فسار بعض أصحابه إلى الجبانة وواقعوا أهل الشام ، فأسر أهل الشام منهم رجلا ومضوا به إلى يوسف بن عمر فقتله ، فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال : قد فعلوها ، حسبي الله ، وسار وهو يهزم من لقيه حتى انتهى إلى باب المسجد ، فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الباب ويقولون : يا أهل المسجد

٣٢٢

اخرجوا من الذل إلى العز ، اخرجوا إلى الدين والدنيا ، فإنكم لستم في دين ولا دنيا. وزيد يقول : والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن ، وأتقنت الفرائض ، وأحكمت السنن والآداب ، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل ، وفهمت الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، وما تحتاج إليه الأمّة في دينها مما لا بدّ لها منه ولا غنى لها عنه ، وإني لعلى بينة من ربي ، فرماهم أهل المسجد بالحجارة من فوق المسجد ، فانصرف زيد فيمن معه ، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة ، فنزل دار الرزق فأتاه الريان وقاتله ، وخرج أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنا ، فلما كان من الغد أرسل يوسف بن عمر عدّة عليهم العباس بن سعد المزنيّ ، فلقيهم زيد فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم أصحاب العباس وقتل منهم نحو من سبعين ، فلما كان العشيّ عبّى يوسف بن عمر الجيوش وسرّحهم ، فالتقاهم زيد بمن معه وحمل عليهم حتى هزمهم وهو يتبعهم ، فبعث يوسف طائفة من الماشية فرموا أصحاب زيد وهو يقاتل حتى دخل الليل ، فرمي بسهم في جبهته اليسرى ثبت في دماغه ، فرجع أصحابه ، ولا يظنّ أهل الشام أنهم رجعوا للمساء والليل ، فأنزلوا زيدا في دار وأتوه بطبيب فانتزع النصل فضج زيد ومات ، رحمه‌الله ، لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة ، وعمره اثنتان وأربعون سنة.

ولما مات اختلف أصحابه في أمره ، فقال بعضهم نطرحه في الماء. وقال بعضهم بل نحز رأسه ونلقيه في القتلى. فقال ابنه يحيى بن زيد : والله لا يأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم ندفنه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء ، ففعلوا ذلك وأجروا عليه الماء ، وكان معه مولى سنديّ فدلّ عليه ، وقيل رآهم قصّار فدل عليه ، وتفرّق الناس من أصحاب زيد ، وسار ابنه يحيى نحو كربلاء ، وتتبع يوسف بن عمر الجرحي في الدور حتى دلّ على زيد في يوم جمعة ، فأخرجه وقطع رأسه وبعث به إلى هشام بن عبد الملك ، فدفع لمن وصل به عشرة آلاف درهم ، ونصبه على باب دمشق ، ثم أرسله إلى المدينة وسار منها إلى مصر ، وأما جسده فإن يوسف بن عمر صلبه بالكناسة ومعه ثلاثة ممن كانوا معه ، وأقام الحرس عليه ، فمكث زيد مصلوبا أكثر من سنتين حتى مات هشام وولي الوليد من بعده ، وبعث إلى يوسف بن عمر أن أنزل زيدا وأحرقه بالنار ، فأنزله وأحرقه وذرّى رماده في الريح ، وكان زيد لما صلب وهو عريان استرخى بطنه على عورته حتى ما يرى من سوءته شيء ، ومرّ زيد مرّة بمحمد ابن الحنفية فنظر إليه وقال : أعيذك بالله أن تكون زيد بن عليّ المصلوب بالعراق ، وقال عبد الله بن حسين بن عليج بن الحسين بن عليّ : سمعت أبي يقول : اللهمّ إنّ هشاما رضي بصلب زيد فاسلبه ملكه ، وإن يوسف بن عمر أحرق زيدا اللهمّ فسلط عليه من لا يرحمه ، اللهمّ وأحرق هشاما في حياته إن شئت ، وإلّا فأحرقه بعد موته.

قال فرأيت والله هشاما محرقا لما أخذ بنو العباس دمشق ، ورأيت يوسف بن عمر بدمشق مقطعا ، على كلّ باب من أبواب دمشق منه عضو. فقلت يا أبتاه وافقت دعوتك ليلة القدر ،

٣٢٣

فقال لا يا بنيّ ، بل صمت ثلاثة أيام من شهر رجب ، وثلاثة أيام من شعبان ، وثلاثة أيام من شهر رمضان ، كنت أصوم الأربعاء والخميس والجمعة ، ثم أدعو الله عليهما من صلاة العصر يوم الجمعة حتى أصلي المغرب ، وبعد قتل زيد انتقض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله تعالى ببني العباس.

وهذا المشهد باق بين كيمان مدينة مصر يتبرّك الناس بزيارته ويقصدونه لا سيما في يوم عاشوراء ، والعامّة تسميه زين العابدين ، وهو وهم ، وإنما زين العابدين أبوه ، وليس قبره بمصر ، بل قبره بالبقيع ، ولما قتل الإمام زيد سوّدت الشيعة ، أي لبست السواد ، وكان أوّل من سوّد على زيد شيخ بني هاشم في وقته الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، ورثاه بقصيدة طويلة ، وشعره حجة احتج به سيبويه ، توفي سنة تسع وعشرين ومائة.

مشهد السيدة نفيسة

قال الشريف النقيب النسابة شرف الدين أبو عليّ محمد بن أسعد بن عليّ بن معمر بن عمر الحسينيّ الجوانيّ المالكيّ في كتاب الروضة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة رضي‌الله‌عنها : نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، أمّها أمّ ولد ، وأخوتها القاسم ومحمد وعليّ وإبراهيم وزيد وعبيد الله ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأمّ كلثوم ، أولاد الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ ، فأمّهم أمّ سلمة ، واسمها زينب ابنة الحسن بن الحسن بن عليّ ، وأمّها أمّ ولد تزوّج أمّ كلثوم أخت نفيسة ، عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهم ، ثم خلف عليها الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسن بن عليّ. وأما عليّ وإبراهيم وزيد أخوة نفيسة من أبيها ، فأمّهم أمّ ولد تدعى أمّ عبد الحميد ، وأما عبيد الله بن الحسن بن زيد فأمّه الزائدة بنت بسطام بن عمير بن قيس الشيبانيّ ، وأما إسماعيل وإسحاق فهما لأمي ولد ، وكان إسماعيل من أهل الفضل والخير ، صاحب صوم ونسك ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما. وأما يحيى بن زيد فله مشهد معروف بالمشاهد ، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وتزوّج بنفيسة رضي‌الله‌عنها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وكان يقال له إسحاق المؤتمن ، وكان من أهل الصلاح والخير والفضل والدين ، روي عنه الحديث ، وكان ابن كاسب إذا حدّث عنه يقول : حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر ، وكان له عقب بمصر منهم بنو الرقي ، وبحلب بنو زهرة. وولدت نفيسة من إسحاق ولدين هما القاسم وأمّ كلثوم لم يعقبا.

وأما جدّ نفيسة وهو زيد بن الحسن بن عليّ ، فروي عن أبيه وعن جابر وابن عباس ، وروى عنه ابنه ، وكانت بينه وبين عبد الله بن محمد ابن الحنفية خصومة وفدا لأجلها على

٣٢٤

الوليد بن عبد الملك ، وكان يأتي الجمعة من ثمانية أميال ، وكان إذا ركب نظر الناس إليه وعجبوا من عظم خلقه وقالوا : جدّه رسول الله. وكتب إليه الوليد بن عبد الملك يسأله أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان بن عبد الملك ، ففرق (١) منه وأجابه ، فلما استخلف سليمان وجد كتاب زيد بذلك إلى الوليد ، فكتب إلى أبي بكر بن حزم أمير المدينة : ادع زيد بن الحسن فأقره الكتاب ، فإن عرفه فاكتب إليّ ، وإن هو نكل فقدّمه فأصب يمينه عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ما كتبه ولا أمر به ، فخاف زيدا لله واعترف. فكتب بذلك أبو بكر ، فكتب سليمان أن يضربه مائة سوط وأن يدرعه عباءة ويمشيه حافيا ، فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول وقال : حتى أكلم أمير المؤمنين فيما كتب به في حق زيد. فقال للرسول : لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض. فمات سليمان وأحرق عمر الكتاب.

وأما والد نفيسة وهو الحسن بن زيد ، فهو الذي كان والي المدينة النبوية من قبل أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور ، وكان فاضلا أديبا عالما ، وأمّه أمّ ولد. توفي أبوه وهو غلام ، وترك عليه دينا أربعة آلاف دينار ، فحلّف الحسن ولده أن لا يظل رأسه سقف إلّا سقف مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بيت رجل يكلمه في حاجة حتى يقضي دين أبيه ، فوفاه وقضاه بعد ذلك. ومن كرمه أنه أتى بشاب شارب متأدّب ، وهو عامل على المدينة فقال : يا ابن رسول الله لا أعود وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم» وأنا ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، وقد كان أبي مع أبيك ، كما قد علمت. قال : صدقت ، فهل أنت عائد؟ قال : لا والله. فأقاله وأمر له بخمسين دينارا وقال له : تزوّج بها وعد إليّ. فتاب الشاب وكان الحسن بن زيد يجري عليه النفقة.

وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحدّ الذي لا مزيد عليه ، فيقال أنها حجت ثلاثين حجة ، وكانت كثيرة البكاء ، تديم قيام الليل وصيام النهار ، فقيل لها : ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت : كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون. وكانت تحفظ القرآن وتفسيره ، وكانت لا تأكل إلا في كلّ ثلاث ليال أكلة واحدة ، ولا تأكل من غير زوجها شيئا ، وقد ذكر أنّ الإمام الشافعيّ محمد بن إدريس كان زارها وهي من وراء الحجاب وقال لها : ادعي لي ، وكان صحبته عبد الله بن عبد الحكم. وماتت رضي‌الله‌عنها بعد موت الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه بأربع سنين ، لأنّ الشافعيّ توفي سلخ شهر رجب سنة أربع ومائتين. وقيل أنها كانت فيمن صلّى على الإمام الشافعيّ. وتوفيت السيدة نفيسة في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين ، ودفنت في منزلها ، وهو الموضع الذي به قبرها الآن ، ويعرف بخط درب السباع ، ودرب بزرب. وأراد إسحاق بن الصادق وهو زوجها أن يحملها ليدفنها بالمدينة ، فسأله أهل مصر أن يتركها ويدفنها عندهم لأجل البركة ، وقبر السيدة نفيسة أحد المواضع

__________________

(١) فرق : خاف.

٣٢٥

المعروفة بإجابة الدعاء بمصر ، وهي أربعة مواضع : سجن نبيّ الله يوسف الصدّيق عليه‌السلام ، ومسجد موسى صلوات الله عليه ، وهو الذي بطرا ، ومشهد السيدة نفيسة رضي‌الله‌عنها ، والمخدع الذي على يسار المصلّى في قبلة مسجد الإقدام بالقرافة. فهذه المواضع لم يزل المصريون ممن أصابته مصيبة أو لحقته فاقة أو جائحة يمضون إلى أحدها ، فيدعون الله تعالى فيستجيب لهم ، مجرّب ذلك. انتهى.

ويقال أنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه تسعين ومائة ختمة ، وأنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام / ١٢] ففاضت نفسها رحمها الله تعالى مع قوله الرحمة ، ويقال أن الحسن بن زيد والد السيدة نفيسة كان مجاب الدعوة ممدوحا ، وأن شخصا وشى به إلى أبي جعفر المنصور أنه يريد الخلافة لنفسه ، فإنه كان قد انتهت إليه رياسة بني حسن ، فأحضره من المدينة وسلبه ماله ، ثم إنه ظهر له كذب الناقل عنه ، فمنّ عليه وردّه إلى المدينة مكرّما ، فلما قدمها بعث إلى الذي وشى به بهدية ولم يعتبه على ما كان منه. ويقال أنه كان مجاب الدعوة ، فمرّت به امرأة وهو في الأبطح ، ومعها ابن لها على يدها فاختطفه عقاب ، فسألت الحسن بن زيد أن يدعو الله لها بردّه ، فرفع يديه إلى السماء ودعا ربه ، فإذا بالعقاب قد ألقى الصغير من غير أن يضرّه بشيء ، فأخذته أمّه. وكان يعدّ بألف من الكرام.

ولما قدمت السيدة نفيسة إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر نزلت بالمنصوصة ، وكان بجوارها دار فيها قوم من أهل الذمّة ، ولهم ابنة مقعدة لم تمش قط ، فلما كان في يوم من الأيام ذهب أهلها في حاجة من حوائجهم وتركوا المقعدة عند السيدة نفيسة ، فتوضأت وصبت من فضل وضوئها على الصبية المقعدة وسمت الله تعالى ، فقامت تسعى على قدميها ليس بها بأس البتة ، فلما قدم أهلها وعاينوها تمشى أتوا إلى السيدة نفيسة وقد تيقنوا أنّ مشي ابنتهم كان ببركة دعائها ، وأسلموا بأجمعهم على يديها ، فاشتهر ذلك بمصر وعرف أنه من بركاتها. وتوقف النيل عن الزيادة في زمنها فحضر الناس إليها وشكوا إليها ما حصل من توقف النيل ، فدفعت قناعها إليهم وقالت لهم : ألقوه في النيل ، فألقوه فيه ، فزاد حتى بلغ الله به المنافع. وأسر ابن لامرأة ذمّية في بلاد الروم ، فأتت إلى السيدة نفيسة وسألتها الدعاء أن يردّ الله ابنها عليها ، فلما كان الليل لم تشعر الذمّية إلّا بابنها وقد هجم عليها دارها ، فسألته عن خبره فقال : يا أمّاه لم أشعر إلّا ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجليّ وقائل يقول : أطلقوه قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن. فو الذي يحلف به يا أمّاه لقد كسر قيدي وما شعرت بنفسي إلّا وأنا واقف بباب هذه الدار. فلما أصبحت الذمّية أتت إلى السيدة

٣٢٦

نفيسة وقصت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها وحسن إسلامهما.

وذكر غير واحد من علماء الأخبار بمصر أن هذا قبر السيدة نفيسة بلا خلاف ، وقد زار قبرها من العلماء والصالحين خلق لا يحصى عددهم. ويقال أن أوّل من بنى على قبر السيدة نفيسة عبيد الله بن السري بن الحكم أمير مصر ، ومكتوب في اللوح الرخام الذي على باب ضريحها ، وهو الذي كان مصفحا بالحديد بعد البسملة ما نصه ، نصر من الله وفتح قريب ، لعبد الله ووليه معدّ أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرّمين ، أمر بعمارة هذا الباب السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الأنام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين عضّد الله به الدين وأمتع بطول بقائه المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته ، وشدّ عضده بولده الأجل الأفضل سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين ، زاد الله في علائه وأمتع المؤمنين بطول بقائه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، والقبة التي على الضريح جدّدها الخليفة الحافظ لدين الله في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ، وأمر بعمل الرخام الذي بالمحراب.

مشهد السيدة كلثوم

هي كلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، موضعه بمقابر قريش بمصر بجوار الخندق ، وهي أمّ جعفر بن موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ، كانت من الزاهدات العابدات.

سنا وثنا

يقال أنهما من أولاد جعفر بن محمد الصادق ، كانتا تتلوان القرآن الكريم في كلّ ليلة ، فماتت إحداهما ، فصارت الأخرى تتلو وتهدي ثواب قراءتها لأختها حتى ماتت.

ذكر مقابر مصر والقاهرة المشهورة

القبر مدفن الإنسان ، وجمعه قبور ، والمقبرة موضع القبر. قال سيبويه : المقبرة ليس على الفعل ، ولكنه اسم ، وقبره يقبره : دفنه. وأقبره جعل له قبرا. واعلم أنّ لأهل مدينة مصر ولأهل القاهرة عدّة مقابر وهي : القرافة ، فما كان منها في سفح الجبل يقال له القرافة الصغرى ، وما كان منها في شرقيّ مصر بجوار المساكن يقال له القرافة الكبرى ، وفي القرافة الكبرى كانت مدافن أموات المسلمين منذ افتتحت أرض مصر واختط العرب مدينة الفسطاط ، ولم يكن لهم مقبرة سواها ، فلما قدم القائد جوهر من قبل المعز لدين الله وبنى

٣٢٧

القاهرة وسكنها الخلفاء ، اتخذوا بها تربة عرفت بتربة الزعفران ، قبروا فيها أمواتهم ، ودفن رعيتهم من مات منهم في القرافة إلى أن اختطت الحارات خارج باب زويلة ، فقبر سكانها موتاهم خارج باب زويلة مما يلي الجامع ، فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل ، وكثرت المقابر بها عند حدوث الشدّة العظمى أيام الخليفة المستنصر ، ثم لما مات أمير الجيوش بدر الجماليّ دفن خارج باب النصر ، فاتخذ الناس هنالك مقابر موتاهم ، وكثرت مقابر أهل الحسينية في هذه الجهة ، ثم دفن الناس الأموات خارج القاهرة في الموضع الذي عرف بميدان القبق ، فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر ، وبنوا هناك الترب الجليلة ، ودفن الناس أيضا خارج القاهرة فيما بين باب الفتوح والخندق ، ولكل مقبرة من هذه المقابر أخبار سوف أقص عليك من أنبائها ما انتهت إلى معرفته قدرتي إن شاء الله تعالى. ويذكر أهل العناية بالأمور المتقادمة أن الناس في الدهر الأوّل لم يكونوا يدفنون موتاهم إلى أن كان زمن دوناي الذي يدعى سيد البشر لكثرة ما علّم الناس من المنافع ، فشكا إليه أهل زمانه ما يأتذون به من خبث موتاهم ، فأمرهم أن يدفنوهم في خوابي ويسدّوا رؤسها ، ففعلوا ذلك ، فكان دوناي أوّل من دفن الموتى ، وذكر أن دوناي هذا كان قبل آدم بدهر طويل مبلغه عشرون ألف سنة ، وهي دعوى لا تصح ، وفي القرآن الكريم ما يقتضي أن قابيل ابن آدم أوّل من دفن الموتى ، والله أصدق القائلين. وقد قال الشافعيّ رحمه‌الله : وأكره أن يعظّم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده.

ذكر القرافة

روى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رفعه : من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة. قال : وهذا حديث غريب. وقد روي عن أبي طيبة ، عن ابن بريدة مرسلا ، وهذا أصح ، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر : حدّثنا عبد الله بن صالح ، حدّثنا الليث ابن سعد قال : سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار ، فعجب عمرو من ذلك وقال : أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين ، فكتب بذلك إلى عمر رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء. ولا ينتفع بها. فسأله فقال : إنا لنجد صفتها في الكتب أنّ فيها غراس الجنة ، فكتب بذلك إلى عمر رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر إنّا لا نعلم غراس الجنة إلّا المؤمنين ، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أوّل من دفن فيها رجل من المغافر يقال له عامر ، فقيل عمرت. فقال المقوقس لعمرو : وما ذلك ، ولا على هذا عاهدتنا ، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم.

وعن ابن لهيعة أن المقوقس قال لعمرو : إنا لنجد في كتابنا أن ما بين هذا الجبل

٣٢٨

وحيث نزلتم ينبت فيه شجر الجنة. فكتب بقوله إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : صدق ، فاجعلها مقبرة للمسلمين ، فقبر فيها ممن عرف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة نفر ، عمرو بن العاص السهميّ ، وعبد الله بن حذافة السهميّ ، وعبد الله بن جزء الزبيديّ ، وأبو بصيرة الغفاريّ ، وعقبة بن عامر الجهنيّ. ويقال ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ انتهى. ويقال أن عامرا هو الذي كان أوّل من دفن بالقرافة ، قبره الآن تحت حائط مسجد الفتح الشرقيّ. وقالت فيه امرأة من العرب :

قامت بواكيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

وروى أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر من حديث حرملة بن عمران قال : حدّثني عمير بن أبي مدرك الخولانيّ عن سفيان بن وهب الخولانيّ قال : بينما نحن نسير مع عمرو بن العاص في سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس ، فقال له عمرو : يا مقوقس ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات ولا شجر على نحو بلاد الشام؟ فقال : لا أدري ، ولكنّ الله أغنى أهله بهذا النيل عن ذلك ، ولكنه نجد تحته ما هو خير من ذلك. قال : وما هو؟ قال ليدفنن تحته أو ليقبرنّ تحته قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم ، قال عمرو : اللهمّ اجعلني منهم. قال حرملة بن عمران : فرأيت قبر عمرو بن العاص ، وقبر أبي بصيرة ، وقبر عقبة بن عامر فيه. وخرّج أبو عيسى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رفعه : «من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا لهم ونورا يوم القيامة» ، وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ : القرافة هم بنو غض بن سيف بن وائل بن المغافر ، وفي نسخة بنو غصن. وقال أبو عمرو الكنديّ : بنو جحض بن سيف بن وائل بن الجيزيّ بن شراحيل بن المغافر بن يغفر. وقيل أن قرافة اسم أمّ عزافر ، وجحض ابني سيف بن وائل بن الجيزيّ. قد صحف القضاعيّ في قوله غصن بالغين المعجمة ، والأقرب ما قاله الكنديّ ، لأنه أقعد بذلك. وقال ياقوت والقرافة ـ بفتح القاف وراء مخففة وألف خفيفة وفاء ـ الأوّل مقبرة بمصر مشهورة مسماة بقبيلة من المغافر يقال لهم بنو قرافة ، الثاني القرافة محلة بالإسكندرية منسوبة إلى القبيلة أيضا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب النقط : وقد ذكر جامع القرافة الذي يقال له اليوم جامع الأولياء ، وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون في ليالي الصيف يتحدّثون في القمر ، في صحنه ، وفي الشتاء ينامون عند المنبر ، وكان يحصل لقيمه الأشربة والحلوى والجرايات ، وكان الناس يحبون هذا الموضع ويلزمونه لأجل من يحضر من الرؤساء ، وكانت الطفيلية يلزمون المبيت فيه ليالي الجمع ، وكذلك أكثر المساجد التي بالقرافة والجبل والمشاهد لأجل ما يحمل إليها ويعمل فيها من الحلاوات واللحومات والأطعمة ، وقال موسى بن محمد بن سعيد في كتاب المعرب عن أخبار المغرب : وبت

٣٢٩

ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط ، وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة ، وقبور عليها مبان معتنى بها ، وفيها القبة العالية العظيمة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقرّاء ، ومدرسة كبيرة للشافعية ، ولا تكاد تخلو من طرب ، ولا سيما في الليالي المقمرة ، وهي معظم مجتمعات أهل مصر ، وأشهر منتزهاتهم وفيها أقول :

إنّ القرافة قد حوت ضدّين من

دنيا وأخرى فهي نعم المنزل

يغشى الخليع بها السماع مواصلا

ويطوف حول قبورها المتبتل

كم ليلة بتنا بها ونديمنا

لحن يكاد يذوب منه الجندل

والبدر قد ملأ البسيطة نوره

فكأنما قد فاض منه جدول

وبدا يضاحك أوجها حاكينه

لما تكامل وجهه المتهلل

وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم ، وليس له علوّ ولا عليه اخضرار ، وإنما يقصد للبركة ، وهو نبيه الذكر في الكتب ، وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة ، والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها ، ولا أعجب تربة منها ، كأنها الكافور والزعفران مقدّسة في جميع الكتب ، وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء ، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها ، وقال شافع بن عليّ :

تعجبت من أمر القرافة إذ غدت

على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو

فألفيتها مأوى الأحبة كلهم

ومستوطن الأحباب يصبو له القلب

وقال الأديب أبو سعيد محمد بن أحمد العميديّ :

إذا ما ضاق صدري لم أجد لي

مقرّ عبادة إلّا القرافه

لئن لم يرحم المولى اجتهادي

وقلة ناصري لم ألف رأفه

واعلم أن الناس في القديم إنما كانوا يقبرون موتاهم فيما بين مسجد الفتح وسفح المقطم ، واتخذوا الترب الجليلة أيضا فيما بين مصلّى خولان وخط المغافر التي موضعها الآن كيمان تراب ، وتعرف الآن بالقرافة الكبرى. فلما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابنه في سنة ثمان وستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ ، وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعيّ ، وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها ، نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعيّ ، وأنشأوا هناك الترب ، فعرفت بالقرافة الصغرى ، وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك ، وأما القطعة التي تلي قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سني الهجرة ، وكان ما بين قبة الإمام الشافعيّ ، رحمة الله

٣٣٠

عليه ، وباب القرافة ميدانا واحدا تتسابق فيه الأمراء والأجناد ، ويجتمع الناس هنالك للتفرّج على السباق ، فتصير الأمراء تسابق على حدة ، والأجناد تسابق في جهة وهم منفردون عن الأمراء ، والشرط في السباق من تربة الأمير بيدرا إلى باب القرافة ، ثم استجدّ أمراء دولة الناصر محمد بن قلاون في هذه الجهة الترب ، فبنى الأمير يلبغا التركمانيّ ، والأمير طقتمر الدمشقيّ ، والأمير قوصون وغيرهم من الأمراء ، وتبعهم الجند وسائر الناس ، فبنوا الترب والخوانك والأسواق والطواحين والحمامات ، حتى صارت العمارة من بركة الحبش إلى باب القرافة ، ومن حدّ مساكن مصر إلى الجبل ، وانقسمت الطرق في القرافة وتعدّدت بها الشوارع ، ورغب كثير من الناس في سكناها العظم القصور التي أنشأت بها ، وسميت بالترب ، ولكثرة تعاهد أصحاب الترب لها وتواتر صدقاتهم ومبرّاتهم لأهل القرافة ، وقد صنف الناس فيمن قبر بالقرافة ، وأكثروا من التأليف في ذلك ، ولست بصدد شيء مما صنفوا في ذلك ، وإنما غرضي أن أذكر ما تشتمل عليه القرافة. وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ظهر بالقرافة شيء يقال له القطربة ، تنزل من جبل المقطم ، فاختطفت جماعة من أولاد سكانها حتى رحل أكثرهم خوفا منها ، وكان شخص من أهل كبارة مصر يعرف بحميد الفوّال خرج من أطفيح على حماره ، فلما وصل إلى حلوان عشاء رأى امرأة جالسة على الطريق فشكت إليه ضعفا وعجزا ، فحملها خلفه فلم يشعر بالحمار إلّا وقد سقط ، فنظر إلى المرأة فإذا بها قد أخرجت جوف الحمار بمخاليبها ، ففرّ وهو يعدو إلى والي مصر وذكر له الخبر ، فخرج بجماعته إلى الموضع فوجد الدابة قد أكل جوفها ، ثم صارت بعد ذلك تتبع الموتى بالقرافة وتنبش قبورهم وتأكل أجوافهم وتتركهم مطروحين ، فامتنع الناس من الدفن في القرافة زمنا حتى انقطعت تلك الصورة.

ذكر المساجد الشهيرة بالقرافة الكبيرة

اعلم أن القرافة بمصر اسم لموضعين ، القرافة الكبيرة حيث الجامع الذي يقال له جامع الأولياء ، والقرافة الصغيرة وبها قبر الإمام الشافعيّ ، وكانتا في أوّل الأمر خطتين لقبيلة من اليمن هم من المغافر بن يغفر ، يقال لهم بنو قرافة. ثم صارت القرافة الكبيرة جبانة ، وهي حيث مصلّى خولان والبقعة وما هو حول جامع الأولياء ، فإنه كان يشتمل على مساجد وربط وسوق وعدّة مساكن ، منها ما خرب ومنها ما هو باق ، وسترى من ذلك ما يتيسر ذكره.

مسجد الأقدام

هذا المسجد بالقرافة بخط المغافر. قال القضاعيّ : ذكر الكنديّ أن الجند بنوع وليس من الخطط ، وسمي بالأقدام لأنّ مروان بن الحكم لما دخل مصر وصالح أهلها وبايعوه ، امتنع من بيعته ثمانون رجلا من المغافر سوى غيرهم ، وقالوا لا ننكث بيعة ابن الزبير ، فأمر

٣٣١

مروان بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم على بئر المغافر في هذا الموضع ، فسمي المسجد بهم لأنه بنى على آثارهم. والآثار الأقدام ، يقال جئت على قدم فلان أي على أثره ، وقيل بل أمرهم بالبراءة من عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فلم يتبرّؤوا منه فقتلهم هناك. وقيل إنما سمي مسجد الأقدام لأنّ قبيلتين اختلفتا فيه ، كلّ تدّعي أنه من خطتها ، فقيس ما بينه وبين كلّ قبيلة بالأقدام وجعل لأقربهما منه. والقديم من هذا المسجد هو محرابه والأروقة المحيطة به ، وأما خارجه فزيادة الإخشيد ، والزيادة الجديدة التي في بحريه لسمعون الملقب بسهم الدولة متولى الستارة ، وكان من أهل السنة والخير. ويقال إنما سمي مسجد الأقدام لأنه كان يتداوله العباد ، وكانت حجارته كذانا (١) ، فأثر فيها موضع أقدامهم ، فسمي لذلك مسجد الأقدام.

مسجد الرصد

هذا المسجد بناه الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ بعد بنائه للجامع المعروف بجامع الفيلة ، لأجل رصد الكواكب بالآلة التي يقال لها ذات الحلق ، كما ذكر فيما تقدّم.

مسجد شقيق الملك

هذا المسجد بجوار مسجد الرصد ، بناه شقيق الملك خسروان صاحب بيت المال ، أحد خدّام القصر في أيام الخليفة الحافظ لدين الله في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، وعمل فيه للحافظ ضيافة عظيمة حضر فيها بنفسه ، ومعه الأمراء والأستاذون وكافة الرؤساء ، وكان فيه كرم وسموّ همة ، وكان لمساجد القرافة والجبل عنده روزنامج بأسماء أربابها ، فينفد إليهم في أيام العنب والتين لكلّ مسجد قفص رطب ، ويرسل في كلّ ليلة من ليالي الوقود لكلّ مسجد خروف شواء وسطل جوذآب وجام حلوى ، ولا سيما إذا كان بائتا في هذا المسجد ، فإنه لا يأكل حتى يسير ذلك لمن اسمه عنده ، وكان يعمل جفان القطائف المحشوّة باللوز والسكر والكافور والمسك ، وفيها ما فيه بدل اللوز الفستق ، ويستدعى من لا يقدر على ذلك من أهل الجبل والقرافة وذوي البيوت المنقطعين ويأمر إذا حضروا بسكب الحلو والشيرج عليه بالجرار ، ويأمرهم بالأكل منه ، والحمل معهم ، وكان أحبهم إليه من يأكل طعامه ويستدعي برّه وأنعامه رحمه‌الله.

مسجد الانطاكيّ

هذا المسجد كان أيضا بالرصد ، وما برحت هذه المساجد الثلاثة بالرصد يسكنها

__________________

(١) الكذّان : حجارة رخوة ، وربما كانت نخره. الواحدة كذّانه.

٣٣٢

الناس إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة ، ثم خربت وصار الرصد من الأماكن المخوفة بعد ما أدركته منتزها للعامّة.

مسجد النارنج

هذا المسجد عامر إلى يومنا هذا فيما بين الرصد والقرافة الكبرى ، بجانب سقاية ابن طولون المعروفة بعفصة الكبرى ، غربيها إلى البحريّ قليلا ، وهو المطلّ على بركة الحبش شرقيّ الكتفي وقبليّ القرافة. بنته الجهة الآمرية المعروفة بجبهة الدار الجديدة في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ، أخرجت له اثني عشر ألف دينار على يد الأستاذين افتخار الدولة يمن ، ومعز الدولة الطويل ، المعروف بالوحش. وتولى العمارة والإنفاق عليه الشريف أبو طالب موسى بن عبد الله بن هاشم بن مشرف بن جعفر بن المسلم بن عبيد الله بن جعفر بن محمد بن إبراهيم بن محمد اليمانيّ بن عبيد الله بن موسى الكاظم الحسينيّ الموسويّ ، المعروف بابن أخي الطيب بن أبي طالب الورّاق ، وسمي مسجد النارنج لأنّ نارنجه لا ينقطع أبدا.

مسجد الأندلس

هذا المسجد في شرقيّ القرافة الصغرى بجانب مسجد الفتح ، في الموضع الذي يعرف عند الزوّار بالبقعة ، وهو مصلّى المغافر على الجنائز. ويقال أنه بني عند فتح مصر ، وقيل بني في خلافة معاوية بن أبي سفيان ، ثم بنته جهة مكنون ، واسمها علم الآمرية أمّ ابنة الآمر التي يقال لها ست القصور ، في سنة ست وعشرين وخمسمائة ، على يد المعروف بالشيخ أبي تراب.

وجهة مكنون هذه : كان الخليفة الآمر بأحكام الله كتب صداقها وجعل المقدّم منه أربعة عشر ألف دينار ، وكان لها صدقات وبرّ وخير وفضل ، وعندها خوف من الله ، وكانت تبعث إلى الأشراف بصلات جزيلة ، وترسل إلى أرباب البيوت والمستورين أموالا كثيرة ، ولما وهب الآمر لهزار الملوك ولبرغش في كلّ يوم مائتي ألف دينار عينا ، لكل منهما مائة ألف دينار ، حضر ، إليها عشاء على عادته ، فأغلقت باب مقصورتها قبل دخوله وقالت له : والله ما تدخل إليّ أو تهب لي مثل ما وهبت لواحد من غلاميك. فقال : الساعة : ثم استدعى بالفرّاشين فحضروا فقال : هاتوا مائة ألف دينار الساعة ، ولم يزل واقفا إلى أن حضرت عشرة كيسة في كل كيس عشرة آلاف دينار ، ويحمل عشرة من الفرّاشين. ففتحت له الباب ودخل إليها. ومكنون هذا هو الأستاذ الذي كان برسم خدمتها ، ويقال له مكنون القاضي لسكونه وهدئه ، وكان فيه خبر وبرّ كبير ، وبجانب مسجد الأندلس هذا رباط من غريبه بنته جهة مكنون هذه في سنة ست وعشرين وخمسمائة ، برسم العجائز الأرامل. فلما كان في

٣٣٣

سنة أربع وسبعين وخمسمائة ، بنى الحاجب لؤلؤ العادليّ برحبة الأندلس والرباط بستانا وأحواضا ومقعدا ، وجمع بين مصلّى الأندلس وبين الرباط بحائط بينهما ، وعمل ذلك لحلول العفيف حاتم بن مسلم المقدسيّ الشافعيّ به ، ولما مات السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ بدمشق في المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة ، وقام من بعده في السلطنة ابنه الملك السعيد محمد بركة خان ، عمل لأبيه عزاء بالأندلس هذا ، فاجتمع هناك القرّاء والفقهاء وأقيمت المطابح وهيئت المطاعم الكثيرة وفرّقت على الزوايا ومدّت أسمطة عظيمة بالخيام التي ضربت حول الأندلس ، فأكل الناس على اختلاف طبقاتهم ، وقرأ القرّاء ختمة شريفة ، وعدّ هذا الوقت من المهمات العظيمة المشهورة بديار مصر ، وكان ذلك في المحرّم سنة سبع وسبعين وستمائة ، على رأس سنة من موت الملك الظاهر ، فقال في ذلك القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر.

يا أيها الناس اسمعوا

قولا بصدق قد كسي

إنّ عزا السلطان في

غرب وشرق ما نسي

أليس ذا مأتمه

يعمل في الأندلس

ثم عمل بعد ذلك مجتمع في المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعيّ من القرافة ، ومجتمع بجامع ابن طولون ، ومجتمع بجامع الظاهر من الحسينية خارج القاهرة ، ومجتمع بالمدرسة الظاهرية بين القصرين ، ومجتمع بالمدرسة الصالحية ، ومجتمع بدار الحديث الكاملية ، ومجتمع بالخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء ، ومجتمع بالجامع الحاكميّ ، وأقيم في كلّ واحد من هذه المجتمعات الأطعمة الكثيرة ، وعمل للتكاررة خوان ، وللفقراء خوان ، حضره كثير من أهل الخيل والصلاح فقيل في ذلك :

فشكرا لها أوقات برّ نقبلت

لقد كان فيها الخير والبرّ أجمعا

لقد عمّت النعمى بها كلّ موطن

سقتها الغوادي مربعا ثم مربعا

ولما مضى السلطان لما يمض جوده

وخلّف فينا برّه متنوّعا

فتى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا

فدام له منّا الدعاء مكرّرا

مدى دهرنا والله يسمع من دعا

مسجد البقعة

هذا المسجد مجاور لمسجد الفتح من غربيه ، بناه الأمير أبو منصور صافي الأفضلي.

مسجد الفتح

هذا المسجد المشهور بجوار قبر الناطق ، بناه شرف الإسلام سيف الإمام يانس الروميّ وزير مصر ، وسمي بالفتح لأن منه كان انهزام الروم إلى قصر الشمع حين قدم الزبير بن

٣٣٤

العوّام ، والمقداد بن الأسود فيمن سواهما مددا لعمرو بن العاص ، وكان الفتح ، ويقال أنّ محرابه اللطيف الذي بجانبه الشرقيّ قديم ، وأنّ تحت حائطه الشرقيّ قبر عامر الذي كان أوّل من دفن بالقرافة ، ومحراب مسجد الفتح منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب انحرافا كثيرا ، كما ذكر عند ذكر محاريب مصر من هذا الكتاب ، واستشهد يومئذ جماعة دفنوا في مجرى الحصا ، فكان يرى على قبورهم في الليل نور.

مسجد أمّ عباس جهة العادل بن السلار

هذا المسجد كان بجوار مصلّى خولان بالمغافر غربيّ المقابر ، بنته بلاوة زوج العادل بن السلار سلطان مصر ، في خلافة الظافر سنة سبع وأربعين وخمسمائة ، على يد المعروف بالشريف عز الدولة الرضويّ بن القفاص ، وكانت بلاوة مغربية ، وهي أمّ الوزير عباس الصنهاجيّ الباديسيّ وقد دثر هذا المسجد.

مسجد الصالح

هذا المسجد كان بخط جامع القرافة المعروف بجامع الأولياء ، عرف بمسجد بني عبيد الله ، وبمسجد القبة ، وبمسجد العزاء ، والذي بناه الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر ، وكان في أعلاه مناظر وعمارته متقنة الزيّ ، وأدركته عامرا إلى ما بعد سنة ثمانمائة.

مسجد وليّ عهد أمير المؤمنين

هو الأمير أبو هاشم العباس بن شعيب بن داود المهديّ ، أحد الأقارب في الأيام الحاكمية ، كان إلى جانب مسجد الصالح ، وبجانبه تربته ، وكان المسجد من حجر وبابه محمول على أربع حنايا ، وتحت الحنايا باب المسجد ، وفي شرقيه أيضا أربع حنايا ، وكانت دار أبي هاشم هذا بمصر دار الأفراح ، ومن ولده الشريف الأمير الكبير أبو الحسن عليّ ابن الأمير عباس بن شعيب بن أبي هاشم المذكور ، ويعرف بالشريف الطويل وبالنباش.

مسجد الرحمة

هذا المسجد كان في صدر القرافة الكبرى بالقرب من تربة ركن الإسلام محمود ابن أخت الملك الصالح طلائع بن رزيك. قال الكنديّ : ومنها مسجد القرافة ، وهو بنو محصن بن سيف بن وائل بن الجيزيّ ، قبليّ القرافة على يمينك إذا أممت مسجد الأقدام ، مقابله فسقية صغيرة ، وله منارة ، يعرف بمسجد الرحمة ، وعرف هذا المسجد بأبي تراب الصوّاف وكيل الجهة التي بنت مسجد الأندلس ورباطه ، ومسجد رقية. وأبو تراب هذا تولى بناءه ، وكان يقوم بخدمته الشيخ نسيم ، وأبو تراب هو الذي أخرج إليه ولد الآمر في قفة من خوص ، فيها حوائج طبيخ من كرّاث وبصل وجزر وهو طفل في القماط في أسفل

٣٣٥

القفة ، والحوائج فوقه ، ووصل به إلى القرافة وأرضعته المرضعة بهذا المسجد وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر ، وصار يسمى قفيفة. فلما حان نفعه نمّ عليه أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل عبد الله بن الحسين الجوهريّ الواعظ ، بعد ما مات الشيخ أبو تراب ، عند الحافظ. فأخذ الصبيّ وقصده فمات. وخلع على ابن الجوهريّ ، ثم نفي إلى دمياط فمات بها في جمادى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

مسجد مكنون

هو بجانب مسجد الرحمة ، بناه الأستاد مكنون القاضي الذي تقدّم ذكره في مسجد الأندلس.

مسجد جهة ريحان

هذا المسجد كان في وجه مسجد أبي تراب قبالة دار البقر من القرافة الكبرى ، وجدّده أستاذ الجهة الحافظية ، واسمه ريحان ، في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.

مسجد جهة بيان

هذا المسجد كان في بطحاء مسجد الأقدام بجوار ترب المادرانيين ، بنته الجهة الحافظية المعروفة بجهة بيان الحساميّ ، على يد أبي الفضل الصعيديّ المعروف بابن الموفق ، وحكى الخليفة عن هذه الجهة خبرا عجيبا. قال القاضي المكين أبو الطاهر إسماعيل بن سلامة : قال لي أمير المؤمنين الحافظ يوما : يا قاضي أبا الطاهر. قلت لبيك يا أمير المؤمنين. قال : أحدّثك بحديث عجيب قلت نعم. قال لما جرى من أبي عليّ بن الأفضل ما جرى بينما أنا في الموضع الذي كنت معتقلا فيه ، رأيت كأني قد جلست في مجلس من مجالس القصر أعرفه ، وكان الخلافة قد أعيدت إليّ ، وكأنّ المغنيات قد دخلن يهنينني ويغنين بين يدي ، وفي جملتهنّ جارية معها عود ، يعني هذه الجارية المذكورة ، فأنشأت تغني قول أبي العتاهية :

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

فلم تك تصلح إلّا له

ولم يك يصلح إلّا لها

ولو نالها أحد غيره

لزلزلت الأرض زلزالها

وكأني قمت إلى خزانة بالمجلس أخذت منها حقة فيها جوهر. فملأت فمها منه ، ثم استيقظت. فو الله يا قاضي ما كان إلّا يومان حتى كسر عليّ الحبس لما قتل أبو عليّ بن الأفضل وقيل لي السلام على أمير المؤمنين ، فلما خرجت وأقمت أياما جلست في ذلك المجلس الذي رأيته في النوم ، ودخل الجواري يهنينني ، فغنت إحداهنّ وهي ذات عود ذلك

٣٣٦

الصوت بعينه ، فقلت لها : على رسلك حتى نقضي نحن أيضا من حقك ما يجب علينا ، وقمت إلى الخزانة وأخذت الحق الذي فيه الجوهر ، ثم جئت إليها وقلت لها افتحي فاك ، ففتحته ، وحشوته جوهرا وقلت لها إنّ لك علينا في كلّ سنة في مثل هذا اليوم مثل ذلك.

مسجد توبة

هو ابن ميسرة الكتاميّ ، مغني المستنصر ، كان في شرقيّ الأقهوب ، وقبالته تربة تنسب إلى الطبالة صاحبة أرض الطبالة ، وكلاهما في القرافة الكبرى.

مسجد دري

هذا المسجد كان في القرافة الكبرى في رحبة الأقهوب ، بناه شهاب الدولة دري ، غلام المظفر أخي الأفضل ابن أمير الجيوش ، في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ، وكان أرمنيا فأسلم وصار من المتشدّدين في مذهب الإمامية ، وقرأ الجمل للزجاجيّ في النحو ، واللمع لابن جني ، وكانت له خرائط من القطن الأبيض يلبسها في يديه ورجليه ، وكان يتولى خزائن الكسوات ، ولا يدخل على بسط السلاطين ولا على بسط الخليفة الحافظ لدين الله ، ولا يدخل مجلسه إلّا بالخرائط في رجليه ، ولا يأخذ من أحد رقعة إلّا وفي يده خريطة ، يظنّ أنّ من لمسه نجسه ، وسوسة منه. فإن اتفق أنه صافح أحدا ، أو أمسك رقعة بيده من غير خريطة ، لا يمس ثوبه ولا بدنه حتى يغسلها ، فإن مس ثوبه غسل الثوب. وكان الأستاذون يعبثون به ويرمون في بساط الخليفة الحافظ العنب ، فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد ، فيضحك الخليفة ولا يؤاخذه ، وعمل مرّة الوزير رضوان بن ولخشيّ دواة حليتها ألف دينار مرصعة ، فدخل عليه شهاب الدولة دري الصغير هذا ، وقد أحضرت الدواة المذكورة ، فقال له : يا مولانا أحسن من مداد هذه الدواة ووقع على هذه ، فيكون ذلك زكاتها إذ لله فيه رضى ولنبيه ، وناوله رقعة الشريف القاضي سنا الملك أسعد الجوّانيّ النحويّ ، يطلب فيها راتبا لابنه الشريف أبي عبد الله محمد في الشهر ثلاثة دنانير ، فوقع عليها. فلما كان في الليل رأى في نومه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وهو يقول : جزاك الله خيرا على فعلك اليوم.

مسجد ست غزال

هذا المسجد كان في القرافة الكبرى بجوار تربة النعمان ، بنته ست غزال في سنة ست وثلاثين وخمسمائة ، وكانت غزال هذه صاحبة دواة الخليفة ، لا تعرف شيئا إلّا أحكام الدوى والليق (١) ومسح الأقلام والدواة ، وكان برسم خدمتها الأستاذ مأمون الدولة الطويل.

__________________

(١) لاق الدواة : جعل لها ليقة وأصلح مدادها. واللّيقة : صوفة الدّواة.

٣٣٧

مسجد رياض

هو لوقافة الحافظ لدين الله ، كانت تقف بين يديه بالقصر ، وكان بجوار المصنعة الصغرى الطولونية التي يجيء الماء إليها من عفصة الكبرى ، وكان فيه حوش به عدّة بيوت للنساء المنقطعات.

مسجد عظيم الدولة

هذا المسجد كان معلقا بخط سوق القرافة الكبرى ، واكن عظيم الدولة هذا صقلبيا صاحب الستر وحامل المظلة ، وكان بجوار هذا المسجد مسجد التمساح ، ومسجد السدرة ، ومسجد جهة مراد ، وكان القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج هبة الله بن الميسر ، لما عمل قدّامة منارة النحاس الرومية ذات السواعد ، واجتاز بها من تحت سدرة المسجد في ليلة الوقود ، نصف شهر رجب سنة ثلاثين وخمسمائة ، عاقتها السدرة فأمر بقطع بعضها ، فقيل له : لا تفعل ، فإنّ قطع السدر محذور. وقد روى أبو داود في كتاب السنن له ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار» فقطعها على ركوب نصف شعبان ، فما أسنى وصرف فيّ المحرّم وفني إلى تنيس وقتل.

مسجد أبي صادق

هذا المسجد كان غربيّ مسجد الأقدام ، بناه ابن سعدون أبو الحسن عليّ بن محمد البغداديّ ، بعد سنة عشرين وأربعمائة ، وجدّده أخوه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بن سعدون البغداديّ سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ، وهو مسجد أبي صادق مرشد المدينيّ المالكيّ المحدّث ، وكان قاريء المصحف بالجامع ، ومصليا به ، ومصدّرا فيه لإقراء السبع ، وكان فيه حنة على الحيوانات لا سيما على القطط والكلاب ، وكان مشارف الجامع وجعل عليه جاريا من الغدد كلّ يوم لأجل القطط ، وكان عند داره بزقاق الأقفال من مصر كلاب يطعمها ويسقيها ، وربما تبع دابته منها شيء يمشي معه في الأسواق ، قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط : حدّثني الشيخ منجب غلام أبي صادق قال : كان لمولاي الشيخ أبي صادق كلب لا يفارقه أبدا ، إذا كان راكبا يمشي خلفه ، فإذا وقفت بغلته قام تحت يديها ، فإذا رآه الناس قالوا هذا أبو صادق وكلبه. وحدّثني قال : ولدت كلبة في مستوقد حمّام ، وكان المؤذن يأتي خلف مولاي سحرا كل يوم لقراءة المصحف ، وكان مولاي يأخذ في كمه كلّ يوم رغيفا ، فإذا حاذى موضع الكلبة قلع طيلسانه وقطع الخبز للكلبة ويرمي لها بنفسه إلى أن تأكل ، ثم يستدعي الوقاد ويعطيه قيراطا ويقول له : اغسل قدحها واملأه ماء حلوا ، ويستحلفه على ذلك. فلما كبر أولادها صار يأخذ بعد رغيفين إلى أن كبروا وتفرّقوا. وحدّثني قال : كان قد جعل كراء حانوت برسم

٣٣٨

القطاط بالجامع العتيق من الأحباس ، وكان يؤتي بالغدد مقطعة ، فيجلس ويقسم عليها ، وإن قطة كانت تحمل شيئا من ذلك وتمضي به ، وفعلت ذلك مرارا ، فقال مولاي للشيخ أبي الحسن بن فرج امض خلف هذه القطة وانظر إلى أين تؤدّي ذلك ، فمضى ابن فرج فإذا بها تؤدّيه إلى أولادها ، فعاد إليه وأخبره ، فكان بعد ذلك يقطع غددا صغارا على قدر مساغ القطط الصغار ، وغددا كبار للكبار ، ويرسل بجزء الصغار إليهم إلى أن كبروا ،

مسجد الفرّاش

هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى ، بناه أحمد فرّاش الأفضل بن أمير الجيوش ، وبجواره مسجد بناء زيد بن حسام ، ومسجد الإجابة القديم ، وتربة العطار ، ودار البقر ، وقناطر الأطفيحيّ ، كلّ ذلك بالقرب من جامع القرافة.

مسجد تاج الملوك

هذا المسجد قدّام دار النعمان وتربته من القرافة الكبرى ، بناه تاج الملوك بدران بن أبي الهيجاء الكرديّ الماردانيّ ، وهو أخو سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء ، صهر بني رزيك ، وكان مجتمع أهل مصر عنده في الأعياد والمواسم وليالي الوقود.

مسجد الثمار

هذا المسجد كان ملاصقا للزيادة التي في بحريّ مسجد الأقدام ، وفيه قبور بني الثمار.

مسجد الحجر

هذا المسجد كان بحريّ مسجد عمار بن يونس مولى المغافر ، وشرقيّ قصر الزجاج من القرافة الكبرى ، بنته مولاة عليّ بن يحيى بن طاهر المعروف بابن أبي الخارجيّ الموصليّ ، في ربيع الأوّل سنة ثلاثين وأربعمائة.

مسجد القاضي يونس

هذا المسجد كان غربيّ مسجد الحجر المذكور ، بناه الشيخ عدي الملك بن عثمان صاحب دار الضيافة ، ثم صار بيد قاضي القضاة بمصر ، الموفق كمال الدين أبي الفضائل يونس بن محمد بن الحسن المعروف بجوامرد ، خطيب القدس القرشيّ ، وكان من الأعيان ، ولم يشرب قط من ماء النيل بل من ماء الآبار ، ولم يأكل قط للسلطان خبزا ، وكان يروى الحديث عن جده.

٣٣٩

مسجد الوزيرية

هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى ، وله منارة بجوار باب رباط الحجازية ، وكانت الحجازية واعظة زمانها ، وكانت من الخيّرات ، لها القبول التام ، وتدعى أمّ الخير ، وكان لها من الصيت كما كان لابن الجوهريّ ، وكانت على غاية من الكرم وحسن الأخلاق والشيم ، ومن مكارم أخلاقها وحسن طباعها وكياسة انطباعها ما حكاه الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط قال : حدّثني الشيخ أبو الحسن بن السراج المؤذن بالجامع بمصر قال : كان قدّام الباب الأوّل من أبواب جامع مصر يباع رطب يقعد على الأرض وبين يديه اقفاص رطب من أحسن الأرطاب ، فبينما الحجازية الواعظة هذه ذات يوم قد قاربت الخروج من باب الجامع ، وهي في حفدتها وجواريها ، وإذا ذلك الرطاب ينادي على قفص رطب قدّامه ، معاشر الناس اشتروا الطيبة الحجازية على أربعة ، على أربعة. يريد على أربعة أرطال رطب بدرهم. فلما سمعته الحجازية وقفت قبل أن تخرج من باب الجامع وأنفذت إليه بعض الجواري فصاحت به ، فلما أتاها قالت له : يا أخي قولك الحجازية على أربعة مشكل ، لا ترجع تنادي كذا ، وهذا رباعي هدية مني لك ربح هذا القفص ، ولا تناد كذا ، فأخذه وقبل يدهل وقال السمع والطاعة.

مسجد ابن العكر

هذا المسجد غربيّ مسجد أبي صادق ، بحضرة مسجد الأقدام ، قبالة قصر الكتفي وبحذاء مسجد النارنج. بناه القاضي العادل بن العكر.

مسجد ابن كباس

هذا المسجد كان مجاور للقناطر الأطفيحية على يسار من أمّ طريق الجامع ، بناه القاضي ابن كباس.

مسجد الشهمية

هذا المسجد كان شرقيّ مسجد الأقدام ، وغربيّ قناطر ابن طولون ، مجاورا لتربة القاضي ابن قابوس ، كان يعرف بمسجد الفقاعة من الكلاع ، ويعرف أيضا بمسجد شادن الفضليّ ، غلام الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات.

مسجد زنكادة

هذا المسجد كان غربيّ مسجد عمار بن يونس ، بناه زنكادة المخنث بعد ما تاب في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.

٣٤٠