كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

إليه ماء النيل ، وما زال على وفور حرمته ونفوذ كلمته إلى أن خرج الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب على الملك الظاهر برقوق ، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، وجهز السلطان الأمير أيتمش ، والأمير يونس هذا ، والأمير جهاركس الخليليّ ، وعدّة من الأمراء والمماليك لقتاله ، فلقوه بدمشق وقاتلوه فهزمهم ، وقتل الخليليّ وفرّ أيتمش إلى دمشق ، ونجا يونس بنفسه يريد مصر ، فأخذه الأمير عيفا بن شطي أمير الأمراء وقتله يوم الثلاثاء ثاني عشري شهر ربيع الآخر ، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، ولم يعرف له قبر بعد ما أعدّ لنفسه عدّة مدافن في غير ما مدينة من مصر والشام.

خانقاه طيبرس

هذه الخانقاه من جملة أراضي بستان الخشاب ، فيما بين القاهرة ومصر على شاطىء النيل ، أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش في سنة سبع وسبعمائة ، بجوار جامعه المقدّم ذكره عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. وقرّر بها عدّة من الصوفية ، وجعل لهم شيخا وأجرى لهم المعاليم ، ولم تزل عامرة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فابتاع شخص الوكالة والربعين المعروفين بربع بكتمر والحمامين ، ونقض ذلك فخرب الخط وصار مخوفا. فلما كان في سنة أربع عشرة وثمانمائة ، نقل الحضور من هذه الخانقاه إلى المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر ، وهي الآن بصدد أن تدثر وتمحى آثارها.

خانقاه أقبغا

هذه الخانقاه هي موضع من المدرسة الأقبغاوية بجوار الجامع الأزهر ، أفرده الأمير أقبغا عبد الواحد وجعل فيه طائفة يحضرون وظيفة التصوّف ، وأقام لهم شيخا وأفرد لهم وقفا يختص بهم ، وهي باقية إلى يومنا هذا ، وله أيضا خانقاه بالقرافة.

الخانقاه الخروبية

هذه الخانقاه بساحل الجيزة تجاه المقياس ، كانت منظرة من أعظم الدور وأحسنها ، أنشأها زكيّ الدين أبو بكر بن عليّ الخرّوبيّ كبير التجار ، ثم توارثها من بعده أولاد الخرّوبيّ التجار بمصر ، فلم تزل بأيديهم ، إلى أن نزلها السلطان المؤيد شيخ في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب الفرد ، سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ، وأقام بها فاقتضى رأيه أن يجعلها خانقاه ، فاستدعى بابن الخرّوبيّ ليشتريها منه ، فتبرّع بما يخصه منها ، وصار إليه باقيها ، فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أبي بكر بن المسروق الاستادار بعملها خانقاه ، وسار منها في يوم الأربعاء سادس عشرة ، فأخذ الأمير أبو بكر في عملها حتى كملت في آخر السنة ، واستقرّ في مشيختها شمس الدين محمد بن الحمتي الدمشقيّ الحنبليّ ، وخلع عليه يوم السبت سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ، ورتب له في كل يوم عشرة مؤيدية ، عنها مبلغ

٣٠١

سبعين درهما فلوسا ، سوى الخبز والسكن ، وقرّر عنده عشرة من الفقراء لكل منهم مع الخبز مؤيديّ في كل يوم ، فجاءت من أحسن شيء.

ذكر الربط

الربط جمع رباط ، وهو دار يسكنها أهل طريق الله. قال ابن سيده : الرباط من الخيل ، الخمس فما فوقها. والرباط والمرابطة ملازمة ثغر العدوّ ، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله ، ثم صار لزوم الثغر رباطا. وربما سميت الخيل نفسها رباطا ، والرباط والرباط المواظبة على الأمر. قال الفارسيّ هو ثان من لزوم الثغر ، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل وقوله تعالى : (وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قيل معناه جاهدوا ، وقيل واظبوا على مواقيت الصلاة. وقال أبو حفص السهرورديّ في كتاب عوارف المعارف : وأصل الرباط ما تربط فيه الخيول ، ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم رباط ، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه ، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد ، والبلاد. وروى داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الآية : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قلت : لا. قال : يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو تربط فيه الخيل ، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة ، فالرباط جهاد النفس ، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه ، واجتماع أهل الربط إذ صح على الوجه الموضوع له الربط ، وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات ، وتوقي ما يفسد الأعمال ، ويصحح الأحوال ، عادت البركة على البلاد والعباد ، وشرائط سكان الرباط قطع المعاملة مع الخلق ، وفتح المعاملة مع الحق ، وترك الاكتساب اكتفاء بكفالة مسبب الأسباب ، وحبس النفس عن المخالطات ، واجتناب التبغات ، ومواصلة الليل والنهار بالعبادة متعوّضا بها عن كل عادة ، والاشتغال بحفظ الأوقات وملازمة الأوراد وانتظار الصلوات ، واجتناب الغفلات ، ليكون بذلك مرابطا مجاهدا. والرباط هو بيت الصوفية ومنزلهم ، ولكل قوم دار ، والرباط دارهم ، وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك ، فالقوم في الرباط مرابطون متفقون على قصد واحد وعزم واحد وأحوال متناسبة ، ووضع الرباط لهذا المعنى. قال مؤلفه رحمه‌الله : ولاتخاذ الربط والزوايا أصل من السنة ، وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اتخذ لفقراء الصحابة الذين لا يأوون إلى أهل ولا مال مكانا من مسجده ، كانوا يقيمون به عرفوا بأهل الصفة.

رباط الصاحب

هذا الرباط مطل على بركة الحبش ، أنشأه الصاحب فخر الدين أبو عبد الله محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين أبي الحسن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا ، ووقف عليه أبوه الصاحب بهاء الدين بعد موته عقارا بمدينة مصر ، وشرط أن يسكنه عشرة من الفقراء المجرّدين غير المتأهلين ، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وستين وستمائة ، وهو باق إلى

٣٠٢

يومنا هذا ، وليس فيه أحد ، ويستأدي ريع وقفه من لا يقوم بمصالحه.

رباط الفخري

هذا الرباط خارج باب الفتوح فيما بينه وبين النصر ، بناه الأمير عز الدين أيبك الفخريّ ، أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس.

رباط البغدادية

هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس ، حيث كان المتجر الذي ذكر عند ذكر القصر من هذا الكتاب ، ومن الناس من يقول رواق البغدادية ، وهذا الرباط بنته الست الجليلة تذكارياي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس في سنة أربع وثمانين وستمائة ، للشيخة الصالحة زينت ابنة أبي البركات ، المعروفة ببنت البغدادية ، فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات ، وما برح إلى وقتنا هذا يعرف سكانه من النساء بالخير ، وله دائما شيخه تعظ النساء وتذكرهنّ وتفقههنّ ، وآخر من أدركنا فيه الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها أمّ زينب فاطمة بنت عباس البغدادية ، توفيت في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة ، وقد أنافت على الثمانين ، وكانت فقيهة وافرة العلم ، زاهدة قانعة باليسير ، عابدة واعظة حريصة على النفع والتذكير ، ذات إخلاص وخشية ، وأمر بالمعروف ، انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر ، وكان لها قبول زائد ووقع في النفوس ، وصار بعدها كلّ من قام بمشيخة هذا الرباط من النساء يقال لها البغدادية ، وأدركنا الشيخة الصالحة البغدادية أقامت به عدّة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت يوم السبت لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وسبعمائة ، وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طلّقن أو هجرن حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانة لهنّ ، لما كان فيه من شدّة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات ، حتى أن خادمة الفقيرات به كانت لا تمكن أحدا من استعمال إبريق ببزبوز ، وتؤدّب من خرج عن الطريق بما تراه ، ثم لما فسدت الأحوال من عهد حدوث المحن بعد سنة ست وثمانمائة ، تلاشت أمور هذا الرباط ومنع مجاوروه من سجن النساء المعتدّات به ، وفيه إلى الآن بقايا من خير ، ويلي النظر عليه قاضي القضاة الحنفيّ.

رباط الست كليلة

هذا الرباط خارج درب بطوط من جملة حكر سنجر اليمنيّ ، ملاصقة للسور الحجر بخط سوق الغنم وجامع أصلم ، وقفه الأمير علاء الدين البراباه على الست كليلة ، المدعوّة دولاي ، ابنة عبد الله التتارية ، زوج الأمير سيف الدين البرليّ السلاحدار الظاهريّ ، وجعله مسجدا ورباطا ، ورتب فيه إماما ومؤذنا ، وذلك في ثالث عشرى شوّال سنة أربع وتسعين وستمائة.

٣٠٣

رباط الخازن

هذا الرباط بقرب قبة الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه. من قرافة مصر ، بناه الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الخازن. والي القاهرة ، وفيه دفن ، وهذا الخازن هو الذي ينسب إليه حكر الخازن خارج القاهرة.

الرباط المعروف برواق ابن سليمان

هذا الرواق بحارة الهلالية خارج باب زويلة ، عرف بأحمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطائحيّ الرفاعيّ ، شيخ الفقراء الأحمدية الرفاعية بديار مصر ، كان عبدا صالحا له قبول عظيم من أمراء الدولة وغيرهم ، وينتمي إليه كثير من الفقراء الأحمدية ، وروي الحديث عن سبط السلفيّ وحدّث ، وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وستمائة بهذا الرواق.

رباط داود بن إبراهيم

هذا الرباط بخط بركة الفيل بني في سنة ثلاث وستين وستمائة.

رباط ابن أبي المنصور

هذا الرباط بقرافة مصر عرف ، بالشيخ صفيّ الدين الحسين بن عليّ بن أبي المنصور الصوفيّ المالكيّ ، كان من بيت وزارة ، فتجرّد وسلك طريق أهل الله على يد الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي بكر الجزار التحبيبيّ المغربيّ ، وتزوّجابنته وعرف بالبركة ، وحكيت عنه كرامات ، وصنف كتاب الرسالة ذكر فيها عدّة من المشايخ ، وروى الحديث وحدّث وشارك في الفقه وغيره ، وكانت ولادته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، ووفاته برباطه هذا يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة.

رباط المشتهى

هذا الرباط بروضة مصر يطل على النيل وكان به الشيخ المسلك ... (١) ولله درّ شيخنا العارف الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي العباس الشاطر الدمنهوريّ حيث يقول :

بروضة المقياس صوفيّة

هم منية الخاطر والمشتهى

لهم على البحر أياد علت

وشيخهم ذاك له المنتهي

__________________

(١) بياض في الأصل.

٣٠٤

وقال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ :

يا ليلة مرّت بنا حلوة

إن رمت تشبيها لها عبتها

لا يبلغ الواصف في وصفها

حدّا ولا يلقي له منتهى

بت مع المعشوق في روضة

ونلت من خرطومه المشتهى

رباط الآثار

هذا الرباط خارج مصر بالقرب من بركة الحبش مطلّ على النيل ومجاور للبستان المعروف بالمعشوق. قال ابن المتوّج : هذا الرباط عمره الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا بجوار بستان المعشوق ، ومات رحمه‌الله قبل تكملته ، ووصّى أن يكمل من ريع بستان المعشوق ، فإذا كملت عمارته يوقف عليه ووصّى الفقيه عز الدين بن مسكين فعمر فيه شيئا يسيرا وأدركه الموت إلى رحمة الله تعالى ، وشرع الصاحب ناصر الدين محمد ولد الصاحب تاج الدين في تكملته ، فعمر فيه شيئا جيدا انتهى.

وإنما قيل له رباط الآثار لأنّ فيه قطعة خشب وحديد يقال أن ذلك من أثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اشتراها الصاحب تاج الدين المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع ، وذكروا أنها لم تزل عندهم موروثة من واحد إلى آخر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحملها إلى هذا الرباط وهي به إلى اليوم يتبرّك الناس بها ويعتقدون النفع بها ، وأدركنا لهذا الرباط بهجة ، وللناس فيه اجتماعات ، ولساكنه عدّة منافع ممن يتردّد إليه أيام كان ماء النيل تحته دائما. فلما انحسر الماء من تجاهه وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة قلّ تردّد الناس إليه ، وفيه إلى اليوم بقية ، ولما كانت أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون قرّر فيه درسا للفقهاء الشافعية ، وجعل له مدرّسا ، وعنده عدّة من الطلبة ، ولهم جار في كل شهر من وقف وقفه عليهم وهو باق أيضا ، وفي أيام الملك الظاهر برقوق وقف قطعة أرض لعمل الجسر المتصل بالرباط ، ولهذا الرباط حزانة كتب وهو عامر بأهله.

الوزير الصاحب : تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن سليم بن حنا ، ولد في سابع شعبان سنة أربعين وستمائة ، وسمع من سبط السلفيّ وحدّث وانتهت إليه رياسة عصره ، وكان صاحب صيانة وسؤدد ومكارم ، وشاكلة حسنة وبزة فاخرة إلى الغاية ، وكان يتناهى في المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ، ويجود بالصدقات الكثيرة مع التواضع ومحبة الفقراء وأهل المصلاح والمبالغة في اعتقادهم ، ونال في الدنيا من العز والجاه ما لم يره جدّه الصاحب الكبير بهاء الدين ، بحيث أنّه لما تقلد الوزير الصاحب فخر الدين بن الخليليّ الوزارة ، وسار من قلعة الجبل وعليه

٣٠٥

تشريف الوزارة إلى بيت الصاحب تاج الدين وقبل يده وجلس بين يديه ، ثم انصرف إلى داره ، وما زال على هذا القدر من وفور العز إلى أن تقلد الوزارة في يوم الخميس رابع عشري صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة ، بعد قتل الوزير الأمير سنجر الشجاعيّ ، فلم ينجب ، وتوقفت الأحوال في أيامه حتى احتاج إلى إحضار تقاوي النواحي المرصدة بها للتخضير واستهلكها ، ثم صرف في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وستمائة بفخر الدين عثمان بن الخليليّ ، وأعيد الوزارة مرّة ثانية ، فلم ينجح ، وعزل وسلّم مرّة للشجاعيّ فجرّده من ثيابه وضربه شيبا واحدا بالمقارع فوق قميصه ، ثم أفرج عنه على مال ، ومات في رابع جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة ، ودفن في تربتهم بالقرافة ، وكان له شعر جيد ، ولله درّ شيخنا الأديب جلال الدين محمد بن خطيب داريا الدمشقيّ البيسانيّ حيث يقول في الآثار :

يا عين إن بعد الحبيب وداره

ونأت مرابعه وشطّ مزاره

فلقد ظفرت من الزمان بطائل

إن لم تريه فهذه آثاره

وقد سبقه لذلك الصلاح خليل بن أيبك الصفديّ فقال :

أكرم بآثار النبيّ محمد

من زاره استوفى السرور مزاره

يا عين دونك فانظري وتمتعي

إن لم تريه فهذه آثاره

واقتدى بهما في ذلك أبو الحزم المدنيّ فقال :

يا عين كم ذا تسفحين مدامعا

شوقا لقرب المصطفى ودياره

إن كان صرف الدهر عاقك عنهما

فتمتعي يا عين في آثاره

رباط الأفرم

هذا الرباط بسفح الجرف الذي عليه الرصد ، وهو يشرف على بركة الحبش ، وكان من أحسن منتزهات أهل مصر. أنشأه الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير خازندار الصالحيّ النجميّ ، ورتب فيه صوفية وشيخا وإماما ، وجعل فيه منبرا يخطب عليه للجمعة. والعيدين ، وقرّر لهم معاليم من أوقاف أرصدها لهم ، وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة ، وهو باق إلّا أنّه لم يبق به ساكن لخراب ما حوله ، وله إلى اليوم متحصل من وقفه ، والأفرم هذا هو الذي ينسب إليه جسر الأفرم خارج مصر ، وقد ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب.

الرباط العلائي

هذا الرباط خارج مصر بخط بين الزقاقين شرقيّ الخليج الكبير ، يعرف اليوم بخانقاه المواصلة ، وهو آيل إلى الدثور لخراب ما حوله ، أنشأه الملك علاء الدين أبو الحسن عليّ

٣٠٦

ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة ، بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ، بجوار داره وحمّامه وطاحونه ، وجعل له فيه مدفنا ووقف عليه بستان الجرف وبستانا بناحية شبرا ، وعدّة حصص من قرى فلسطين والساحل ، وأحكارا ودورا بجانب الرباط. ومات يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ، ومولده يوم الجمعة ثامن عشري المحرّم سنة سبع وخمسين وستمائة ، بجزيرة ابن عمرو ، وكان من الحلقة وسمع الحديث من النجيب الحرّانيّ ، وابن عرنين ، وابن علاف. ودفن فيه وبه إلى الآن بقية ، ويحضره الفقهاء يوما في الأسبوع وهم عشرة شيخهم منهم ومنهم قارىء ميعاد وقرّاء ، وكان أوّلا معمورا بسكنى أهله دائما فيه ، وفي هذا الوقت لا يمكن سكناه لكثرة الخوف من السرّاق.

ذكر الزوايا

زاوية الدمياطيّ

هذه الزاوية فيما بين خط السبع سقايات وقطنرة السدّ خارج مصر إلى جانب حوض السبيل المعدّ لشرب الدواب ، أنشأها الأمير عز الدين أيبك الدمياطيّ الصالحيّ النجميّ ، أحد الأمراء المقدّمين الأكابر في أيام الملك الظاهر بيبرس ، وبها دفن لمّا مات بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان سنة ست وتسعين وستمائة ، وإلى الآن يعرف الحوض المجاور لها بحوض الدمياطي.

زاوية الشيخ خضر

هذه الزاوية خارج باب الفتوح من القاهرة بخط زقاق الكحل. تشرف على الخليج الكبير ، عرفت بالشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهرانيّ العدويّ ، شيخ السلطان الملك الظاهر بيبرس ، كان أوّلا قد انقطع بجبل المزة خارج دمشق ، فعرفه الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ وتردّد إليه فقال له : لا بدّ أن يتسلطن الأمير بيبرس البندقاريّ ، فأخبر بيبرس بذلك ، فلما صارت المملكة إليه بعد قتل الملك المظفر قطز ، اشتمل على اعتقاده وقرّبه ، وبني له زاوية بجبل المزة ، وزاوية بظاهر بعلبك ، وزاوية بحماه ، وزاوية بحمص ، وهذه الزاوية خارج القاهرة. ووقف عليها أحكارا تغل في السنة نحو الثلاثين ألف درهم ، وأنزله بها وصار ينزل إليه في الأسبوع مرّة أو مرّتين ويطلعه على غوامض أسراره ويستشيره في أموره ، ولا يخرج عما يشير به ، ويأخذه معه في أسفاره ، وأطلق يده وصرّفه في مملكته ، فهدم كنيسة اليهود بدمشق ، وهدم كنيسة للنصارى بالقدس ، كانت تعرف بالمصلبة ، وعملها زاوية ، وقتل قسيسها بيده ، وهدم كنيسة للروم بالإسكندرية كانت من كراسي النصارى ، ويزعمون أن بها رأس يحيى بن زكريا ، وعملها مسجدا سماه الخضر ، فاتقي جانبه الخاص

٣٠٧

والعام حتى الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار نائب السلطنة ، والصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا ، وملوك الأطراف ، وكان يكتب إلى صاحب حماه وجميع الأمراء إذا طلب حاجة ما مثاله : الشيخ خضر نياك الحمارة ، وكان ربع القامة كث اللحية يتعمم ، عسراويّ وفي لسانه عجمة ، مع سعة صدر وكرم شمائل وكثرة عطاء من تفرقة الذهب والفضة ، وعمل الأسمطة الفاخرة ، وكانت أحواله عجيبة لا تتكيف ، وأقوال الناس فيه مختلفة ، منهم من يثبت صلاحه ويعتقده ، ومنهم من يرميه بالعظائم. وكان يخبر السلطان بأمور تقع ، منها أنه لما حاصر أرسوف وهي أوّل فتوحاته ، قال له : متى نأخذ هذه المدينة؟ فعين له يوما يأخذها فيه ، فأخذها في ذلك اليوم بعينه ، واتفق له مثل ذلك في فتح قيسارية ، فلذلك كثر اعتقاده فيه ، وما أحسن قول الشريف محمد بن رضوان الناسخ في ملازمة السلطان له أسفاره :

ما الظاهر السلطان إلّا مالك ال

دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر

ولنا دليل واضح كالشّمس في

وسط السماء لكلّ عين تنظر

لما رأينا الخضر يقدم جيشه

أبدا علمنا أنّه الإسكندر

وما برح على رتبته إلى ثامن عشر شوّال سنة إحدى وسبعين ستمائة ، فقبض عليه واعتقل بقلعة الجبل ومنح الناس من الاجتماع به. ويقال أن ذلك بسبب أنّ السلطان كان أعطاه تحفا قدمت من اليمن ، منها كرّ يمنيّ مليح إلى الغاية ، فأعطاه خضر لبعض المردان ، فبلغ ذلك الأمير بدر الدين الخازندار النائب ، وكان قد ثقل عليه بكثرة تسلطه ، حتى لقد قال له مرّة بحضرة السلطان : كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده مثل ما فعل قطز بأولاد المعز ، فأسرّها في نفسه ، وبلغ خبر الكرّ اليمنيّ إلى السلطان ، فاستدعاه وحضر جماعة حاققوه على أمور كثيرة منكرة ، كاللواط والزنا ونحوه ، فاعتقله ورتب له ما يكفيه من مأكول وفاكهة وحلوى ، ولما سافر السلطان إلى بلاد الروم قال خضر لبعض أصحابه إنّ السلطان يظهر على الروم ويرجع إلى دمشق فيموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يوما. فكان كذلك ، ومات خضر في محبسه بقلعة الجبل في سادس المحرّم أو سابعه من سنة ست وسبعين وستمائة ، وقد أناف على الخمسين ، فسلّم إلى أهله وحملوه إلى زاويته هذه ودفنوه فيها ، وكان السلطان قد كتب بالانفراج عنه ، فقدم البريد بعد موته ، ومات السلطان بدمشق في سابع عشري المحرّم المذكور بعد خضر بعشرين يوما ، وهذه الزاوية باقية إلى اليوم.

زاوية ابن منظور

هذه الزاوية خارج القاهرة بخط الدكة بجوار المقس ، عرفت بالشيخ جمال الدين محمد بن أحمد بن منظور بن يس بن خليفة بن عبد الرحمن أبو عبد الله الكتانيّ العسقلانيّ الشافعيّ الصوفيّ ، الإمام الزاهد ، كانت له معارف واتباع ومريدون ومعرفة بالحديث ، حدّث عن أبي الفتوح الجلاليّ وروي عنه الدمياطيّ والدواداريّ وعدّة من الناس ، ونظر في الفقه

٣٠٨

واشتهر بالفضيلة ، وكانت له ثروة وصدقات. ومولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمسمائة ، ووفاته بزاويته في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد ، سنة ست وتسعين وستمائة ، وكانت هذه الزاوية أوّلا تعرف بزاوية شمس الدين بن كرا البغداديّ.

زاوية الظاهري

هذه الزاوية خارج باب البحر ظاهر القاهرة عند جمّام طرغاي على الخليج الناصريّ ، كانت أوّلا تشرف طاقاتها على بحر النيل الأعظم ، فلما انحسر الماء عن ساحل المقس ، وحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ صارت تشرف على الخليج المذكور من برّه الشرقيّ ، واتصلت المناظر هناك إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة ، فخربت حمّام طرغاي وبيعت أنقاضها وأنقاض كثير مما كان هناك من المناظر ، وأنشئ هناك بستان عرف أوّلا بعبد الرحمن صيرفيّ الأمير جمال الدين الأستادار ، لأنه أوّلا أنشأه ثم انتقل عنه.

والظاهريّ هذا هو أحمد بن محمد عبد الله أبو العباس جمال الدين الظاهريّ ، كان أبوه محمد بن عبد الله عتيق الملك الظاهر شهاب الدين غازي ، وبرع حتى صار إماما حافظا وتوفي ليلة الثلاثاء لاربع بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين وستمائة بالقاهرة ، ودفن بتربته خارج باب النصر. وابنه عثمان بن أحمد بن محمد بن عبد الله فخر الدين بن جمال الدين الظاهريّ الحلبيّ ، الإمام العلامة المحدّث الصالح ، ولد في سنة سبعين وستمائة ، وأسمعه أبو بديار مصر والشام ، وكان مكثرا ومات بزاويته هذه في سنة ثلاثين وسبعمائة.

زاوية الجميزة

هذه الزاوية موضعها من جملة أراضي الزهريّ ، وهي الآن خارج باب زويلة بالقرب من معدّية فريج ، أنشأها الأمير سيف الدين جيرك السلاحدار المنصوريّ أحد أمراء الملك المنصور قلاون ، في سنة اثنتين وثمانين وستمائة ، وجعل فيها عدّة من الفقراء الصوفية.

زاوية الحلاوي

هذه الزاوية بخط الأبارين من القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر ، أنشأها الشيخ مبارك الهنديّ السعوديّ الحلاويّ ، أحد الفقراء من أصحاب الشيخ أبي السعود بن أبي العشائر البارينيّ الواسطيّ ، في سنة ثمان وثمانين وستمائة ، وأقام بها إلى أن مات ودفن فيها ، فقام من بعده ابنه الشيخ عمر بن عليّ بن مبارك ، وكانت له سماعات ومرويات ، ثم قام من بعده ابنه شيخنا جمال الدين عبد الله بن الشيخ عمر بن عليّ بن الشيخ مبارك الهنديّ ، وحدّث فسمعنا عليه بها إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثمانمائة ، وبها الآن ولده ، وهي من الزوايا المشهورة بالقاهرة.

٣٠٩

زاوية نصر

هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة ، أنشأها الشيخ نصر بن سليمان أبو الفتح المنبجيّ الناسك القدوة ، وحدّث بها عن إبراهيم بن خليل وغيره ، وكان فقيها معتزلا عن الناس متخليا للعبادة ، يتردّد إليه أكابر الناس وأعيان الدولة ، وكان للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فيه اعتقاد كبير ، فلما ولي سلطنة مصر أجلّ قدره وأكرم محله ، فهرع الناس إليه وتوسلوا به في حوائجهم ، وكان يتغالى في محبة العارف محيى الدين محمد بن عربي الصوفيّ ، ولذلك كانت بينه وبين شيخ الإسلام أحمد بن تيمية مناكرة كبيرة ، ومات رحمه‌الله عن بضع وثمانين سنة ، في ليلة السابع والعشرين من جمادى الآخرة ، سنة تسع عشرة وسبعمائة ودفن بها.

زاوية الخدّام

هذه الزاوية خارج باب النصر ، فيما بين شقة باب الفتوح من الحسينية وبين شقة الحسينية خارج باب النصر ، أنشأها الطواشي بلال الفرّاجيّ وجعلها وقفا على الخدّام الحبش الأجناد ، في سنة سبع وأربعين وستمائة.

زاوية تقي الدين

هذه الزاوية تحت قلعة الجبل ، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة عشرين وسبعمائة ، لسكنى الشيخ تقيّ الدين رجب بن أشيرك العجميّ ، وكان وجيها محترما عند أمراء الدولة ، ولم يزل بها إلى أن مات يوم السبت ثامن شهر رجب سنة أربع عشرة وسبعمائة ، وما زالت منزلا لفقراء العجم إلى وقتنا هذا.

زاوية الشريف مهدي

هذه الزاوية بجوار زاوية الشيخ تقيّ الدين المذكور ، بناها الأمير صرغتمش في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.

زاوية الطراطرية

هذه الزاوية بالقرب من موردة البلاط ، بناها الملك الناصر محمد بن قلاون بوساطة القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص برسم الشيخين الأخوين محمد وأحمد المعروفين بالطراطرية ، في سنة أربعين وسبعمائة ، وكانا من أهل الخير والصلاح ، ونزلا أوّلا في مقصورة بالجامع الأزهر ، فعرفت بهما ، ثم عرفت بعدهما بمقصورة الحسام الصفديّ والد

٣١٠

الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام ، وهذه المقصورة بآخر الرواق الأوّل مما يلى الركن الغربيّ ، ولم تزل هذه الزاوية عامرة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة ، وخرب خط زريبة قوصون وما في قبليه إلى منشأة المهرانيّ ، وما في بحريه إلى قرب بولاق.

زاوية القلندرية

القلندرية طائفة تنتمي إلى الصوفية ، وتارة تسمي أنفسها ملامتية ، وحقيقة القلندرية أنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات ، وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة إلّا الفرائض ، ولم يبالوا بتناول شيء من اللذات المباحة ، واقتصروا على رعاية الرخصة ، ولم يطلبوا حقائق العزيمة ، والتزموا أن لا يدّخروا شيئا ، وتركوا الجمع والاستكثار من الدنيا ولم يتقشفوا ولا زهدوا ولا تعبدوا ، وزعموا أنهم قد قنعوا بطيب قلوبهم مع الله تعالى ، واقتصروا على ذلك وليس عندهم تطلع إلى طلب مزيد سوى ما هم عليه من طيب القلوب. والفرق بين الملامتيّ والقلندريّ ، أن الملامتيّ يعمل في كتم العبادات ، والقلندريّ يعمل في تخريب العادات ، والملامتيّ يتمسك بكل أبواب البرّ والخير ويرى الفضل فيه ، إلّا أنه يخفي أحواله وأعماله ، ويوقف نفسه موقف العوام في هيئته ، وملبوسه تسترا للحال ، حتى لا يفطن له ، وهو مع ذلك متطلع إلى المزيد من العبادات. والقلندريّ لا يتقيد بهيئة ولا يبالي بما يعرف من حاله وما لا يعرف ، ولا ينعطف إلّا على طيب القلوب ، وهو رأس مال.

هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة من الجهة التي فيها الترب والمقابر التي تلي المساكن ، أنشأها الشيخ حسن الجوالقيّ القلندريّ ، أحد فقراء العجم القلندرية على رأي الجوالقة ، ولما قدم إلى ديار مصر تقدّم عند أمراء الدولة التركية ، وأقبلوا عليه واعتقدوه فأثرى ثراء زائدا في سلطنة الملك العادل كتبغا ، وسافر معه من مصر إلى الشام ، فاتفق أن السلطان اصطاد غزالا ودفعه إليه ليحمله إلى صاحب حماه ، فلما أحضره إليه ألبسه تشريفا من حرير طرز وخش وكلوتة زركش ، فقدم بذلك على السلطان ، فأخذ الأمراء في مداعبته وقالوا له على سبيل الإنكار : كيف تلبس الحرير والذهب وهما حرام على الرجال؟ فأين التزهد وسلوك طريق الفقراء ونحو ذلك؟ فعندما حضر صاحب حماه إلى مجلس السلطان على العادة قال له : يا خوند أيش عملت معي ، الأمراء أنكروا عليّ ، والفقراء تطالبني. فأنعم عليه بألف دينار ، فجمع الفقراء والناس وعمل وقتا عظيما بزاوية الشيخ عليّ الحريريّ خارج دمشق ، وكان سمح النفس جميل العشرة لطيف الروح ، يحلق لحيته ولا يعتم ، ثم إنه ترك الحلق وصارت له لحية وتعمم عمامة صوفية ، وكانت له عصبة ، وفيه مروءة وعصبية ، ومات بدمشق في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة.

وما زالت هذه الزاوية منزلا لطائفة القلندرية ، ولهم بها شيخ ، وفيها منهم عدد

٣١١

موفور ، وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة ، حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة ، ومدّ له شيخ الشيوخ سماطا كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف عليّ شيخ زاوية القلندرية هذه ، فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته ، واستتابه وكتب له توقيعا سلطانيا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم ، وأنّ من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرّم ، وأن يكون شيخا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية ، وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة ، وأوّل ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة ، وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زيّ الأعاجم والمجوس ، ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزيّ المبتدع واللباس المستبشع ، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا ويقلع من قراره قلعا فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة.

قبة النصر

هذه القبة زاوية يسكنها فقراء العجم ، وهي خارج القاهرة بالصحراء تحت الجبل الأحمر بآخر ميدان القبق من بحريه ، جدّدها الملك الناصر محمد بن قلاون على يد الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك.

زاوية الركراكي

هذه الزاوية خارج القاهرة في أرض المقس ، عرفت بالشيخ المعتقد أبي عبد الله محمد الركراكيّ المغربيّ المالكيّ ، لإقامته بها ، وكان فقيها مالكيا متصدّيا لأشغال المغاربة ، يتبرّك الناس به إلى أن مات بها يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وسبعمائة ، ودفن بها. والركراكيّ نسبة إلى ركراكة ، بلدة بالمغرب هي أحد مراسي سواحل المغرب بقرب البحر المحيط ، تنزل فيه السفن فلا تخرج إلّا بالرياح العاصفة في زمن الشتاء عند تكدّر الهواء.

زاوية إبراهيم الصائغ

هذه الزاوية بوسط الجسر الأعظم تطلّ على بركة الفيل ، عمرها الأمير سيف الدين طغاي بعد سنة عشرين وسبعمائة ، وأنزل فيها فقيرا عجميا من فقراء الشيخ تقيّ الدين رجب يعرف بالشيخ عز الدين العجميّ ، وكان يعرف صناعة الموسيقى وله نغمة لذيذة وصوت مطرب وغناء جيد ، فأقام بها إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، فغلب عليها الشيخ إبراهيم الصائغ إلى أن مات ، يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين وسبعمائة ، فعرفت به.

٣١٢

زاوية الجعبري

هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة ، تنسب إلى الشيخ برهان الدين بن معضاد بن شدّاد بن ماجد الجعبريّ ، المعتقد الواعظ ، كان يجلس للوعظ فتجتمع إليه الناس ويذكرهم ويروي الحديث ، ويشارك في علم الطب وغيره من العلوم ، وله شعر حسن ، وروى عن السخاويّ ، وحدّث عن البزاركيّ ، وكان له أصحاب يبالغون في اعتقاده ويغلون في أمره ، وكان لا يراه أحد إلّا أعظم قدره وأجله وأثنى عليه ، وحفظت عنه كلمات طعن عليه بسببها ، وعمر حتى جاوز الثمانين سنة ، فلما مرض أمر أن يخرج به إلى مكان قبره ، فلما وقف عليه قال : قبير وحال دبير. ومات بعد ذلك بيوم ، في يوم السبت رابع عشري المحرّم سنة سبع وثمانين وستمائة ، والجعابرة عدّة منهم.

زاوية أبي السعود

هذه الزاوية خارج باب القنطرة من القاهرة على حافة الخليج ، عرفت بالشيخ المبارك أيوب السعوديّ ، كان يذكر أنه رأى الشيخ أبا السعود بن أبي العشائر وسلك على يديه ، وانقطع بهذه الزاوية وتبرّك الناس به واعتقدوا إجابة دعائه ، وعمّر وصار يحمل لعجزه عن الحركة حتى مات عن مائة سنة ، أوّل صفر سنة أربع وعشرين وسبعمائة.

زاوية الحمصي

هذه الزاوية خارج القاهرة بخط حكر خزائن السلاح والأوسية على شاطىء خليج الذكر من أرض المقس بجوار الدكة ، أنشأها الأمير ناصر الدين محمد ، ويدعى طيقوش ابن الأمير فخر الدين الطنبغا الحمصي ، أحد الأمراء في الأيام الناصرية ، كان أبوه من أمراء الظاهر بيبرس ، ورتب بهذه الزاوية عشرة من الفقراء شيخهم منهم ، ووقف عليها عدّة أماكن في جوارها ، وحصة من قرية بورين من قرى ساحل الشام. وغير ذلك ، في سنة تسع وسبعمائة ، فلما خرب ما حولها وارتدم خليج الذكر تعطلت ، وهي الآن قد عزم مستحقو ريعها على هدمها لكثرة ما أحاط بها من الخراب من سائر جهاتها ، وصار السلوك إليها مخوفا بعد ما كانت تلك الخطة في غاية العمارة ، وفي جمادى سنة عشرين وسبعمائة هدمت.

زاوية المغربل

هذه الزاوية خارج القاهرة بدرب الزراق من الحكر ، عرفت بالشيخ المعتقد عليّ المغربل ، ومات في يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ، ولما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة خربت الحكورة وهدم درب الزراق وغيره.

٣١٣

زاوية القصري

هذه الزاوية بخط المقس خارج القاهرة ، عرفت بالشيخ أبي عبد الله محمد بن موسى عبد الله بن حسن القصري الرجل الصالح الفقيه المالكيّ المغربيّ ، قدم من قصر كتامة بالمغرب إلى القاهرة وانقطع بهذه الزاوية على طريقة جميلة من العبادة ، وطلب العلم إلى أن مات بها في التاسع من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.

زاوية الجاكي

هذه الزاوية في سويقة الريش من الحكورة خارج القاهرة بجانب الخليج الغربيّ ، عرفت بالشيخ المعتقد حسين بن إبراهيم بن عليّ الجاكي ، ومات بها في يوم الخميس العشرين من شوّال سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ، ودفن خارج باب النصر ، وكانت جنازته عظيمة جدّا ، وأقام الناس يتبرّكون بزيارة قبره إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة ، فأقبل الناس إلى زيارة قبره وكان لهم هناك مجتمع عظيم في كلّ يوم ، ويحملون النذور إلى قبره ، ويزعمون أن الدعاء عنده لا يردّ فتنة أضلّ الشيطان بها كثيرا من الناس ، وهم على ذلك إلى يومنا هذا.

زاوية الأبناسيّ

هذه الزاوية بخط المقس ، عرفت بالشيخ الفقيه برهان الدين إبراهيم بن حسين بن موسى بن أيوب الأبناسيّ الشافعيّ ، قدم من الريف وبرع في الفقه ، واشتهر بسلامة الباطن ، وعرف بالخير والصلاح ، وكتب على الفتوى ، ودرس بالجامع الأزهر وغيره ، وتصدّى لأشغال الطلبة عدّة سنين ، وولي مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء ، وطلبه الأمير سيف الدين برقوق وهو يومئذ أتابك العساكر حتى يقلده قضاء القضاة بديار مصر ، فغيب فرارا من ذلك وتنزها عنه ، إلى أن ولي غيره ، وكانت ولادته قبيل سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، ووفاته بمنزلة المويلح من طريق الحجاز بعد عوده من الحج ، في ثامن المحرّم سنة اثنتين وثمانمائة ، ودفن بعيون القصب.

زاوية اليونسية

هذه الزاوية خارج القاهرة بالقرب من باب اللوث تنزلها الطائفة اليونسية ، وأحدهم يونسيّ ـ بضم الياء المعجمة باثنتين من تحتها وبعد الياء واو ثم نون بعدها سين مهملة في آخرها ياء آخر الحروف ـ نسبة إلى يونس ، ويونس المنسوب إليه الطائفة اليونسية غير واحد ، فمنهم يونس بن عبد الرحمن القميّ مولى آل يقطين ، وهو الذي يزعم أن معبوده على عرشه تحمله ملائكته ، وإن كان هو أقوى منها ، كالكركيّ تحمله رجلاه وهو أقوى منهما ، وقد كفر

٣١٤

من زعم ذلك ، فإن الله تعالى هو الذي يحمل العرش وحملته ، وهذه الطائفة اليونسية من غلاة الشيعة واليونسية أيضا فرقة من المرجئة ينتمون إلى يونس السمويّ ، وكان يزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له ، وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له ، فمن اجتمعت فيه هذه الخلال فهو مؤمن ، وزعم أن إبليس كان عارفا بالله غير أنه كفر باستكباره عليه ، ولهم يونس بن يونس بن مساعد الشيبانيّ ، ثم المخارقيّ شيخ الفقراء اليونسية ، شيخ صالح له كرامات مشهورة ، ولم يكن له شيخ بل كان مجذوبا جذب إلى طريق الخير توفي بأعمال دارا في سنة تسع عشرة وسبعمائة ، وقد ناهز تسعين سنة ، وقبره مشهور يزار ويتبرّك به ، وإليه تنسب هذه الطائفة اليونسية.

زاوية الخلاطي

هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة بالقرب من زاوية الشيخ نصر المنجيّ ، عرفت ... (١) وكانت لهم وجاهة ، منهم ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد بن حسين الخلاطيّ ، مات في نصف جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن بها.

الزاوية العدوية

هذه الزاوية بالقرافة ، تنسب إلى الشيخ عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاريّ القرشيّ الأمويّ. وكان قد صحب عدّة من المشايخ ، كعقيل المنبجيّ ، وحماد الدباس ، وعبد القادر السهرورديّ ، وعبد القادر الجيليّ. ثم انقطع في جبل الهكارية من أعمال الموصل ، وبنى له زاوية ، فمال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله ، حتى مات سنة سبع وقيل سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، ودفن في زاويته ، وقدم ابن أخيه إلى هذه البلاد ، وهو زين الدين ، فأكرم وأنعم عليه بإمرة ، ثم تركها وانقطع في قرية بالشام تعرف ببيت فار ، على هيئة الملوك من اقتناء الخيول المسوّمة والمماليك والجواري والملابس ، وعمل الأسمطة الملوكية ، فافتتنت به بعض نساء الطائفة القيمرية. وبالغت في تعظيمه ، وبذلت له أموالا عظيمة ، وحاشيتها تلومها فيه ، فلا تصغي إلى قولهم ، فاحتالوا حتى أوقفوها عليه وهو عاكف على المنكرات ، فما زادها ذلك إلّا ضلالا وقالت : أنتم تنكرون هذا عليه. إنما الشيخ يتدلل على ربه ، وأتاه الأمير الكبير علم الدين سنجر الدوادار ومعه الشهاب محمود لتحليفه في أوّل دولة الأشرف خليل بن قلاون إلى قريته ، فإذا هو كالملك في قلعته ، للتجمل الظاهر والحشمة الزائدة ، والفرش الأطلس ، وآنية الذهب والفضة والنضار الصينيّ ، وأشياء تفوت العدّ ، إلى غير ذلك من

__________________

(١) بياض في الأصل.

٣١٥

الأشربة المختلفة الألوان ، والأطعمة المنوّعة. فلما دخلا عليه لم يحتفل بهما ، وقبّل الأمير سنجريده وهو جالس لم يقم ، وبقي قائما قدامه يحدثه ، وزين الدين يسأله ساعة ، ثم أمره أن يجلس فجلس على ركبتيه متأدّيا بين يديه ، فلما حلفاه أنعم عليهما بما يقارب خمسة عشر ألف درهم ، وتخلف من طائفته الشيخ عز الدين أميران ، وأنعم عليه بإمرة دمشق ، ثم نقل إلى إمرة بصفد ، ثم أعيد إلى دمشق وترك الإمرة وانقطع بالمرّة ، وتردّد إليه الأكراد من كل قطر وحملوا إليه الأموال ، ثم أنه أراد أن يخرج على السلطان بمن معه من الأكراد في كلّ بلد ، فباعوا أموالهم واشتروا الخيل والملاح ، ووعد رجاله بنيابات البلاد ، ونزل بأرض اللجون. فبلغ ذلك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، فكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم ، وأمسك السلطان من كان بهذه الزاوية العدوية ، ودرك على أمير طبر ، واختلفت الأخبار فقيل أنهم يريدون سلطنة مصر ، وقيل يريدون ملك اليمن ، فقلق السلطان لأمرهم وأهمه إلى أن أمسك الأمير تنكز عز الدين المذكور وسجنه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة حتى مات ، وفرّق الأكراد ، ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة.

زاوية السدّار

هذه الزاوية برأس حارة الديلم ، بناها الفقير المعتقد عليّ بن السدّار في سنة سبعين وسبعمائة ، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.

ذكر المشاهد التي يتبرّك الناس بزيارتها

مشهد زين العابدين

هذا المشهد فيما بين الجامع الطولونيّ ومدينة مصر ، تسميه العامّة مشهد زين العابدين ، وهو خطأ ، وإنما هو مشهد رأس زيد بن عليّ المعروف بزين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويعرف في القديم بمسجد محرس الخصيّ.

قال القضاعيّ : مسجد محرس الخصيّ بني على رأس زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب حين أنفذه هشام بن عبد الملك إلى مصر ، ونصب على المنبر بالجامع ، فسرقه أهل مصر ودفنوه في هذا الموضع.

وقال الكنديّ في كتاب الأمراء : وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة أبو الحكم بن أبي الأبيض القيسيّ خطيبا برأس زيد بن عليّ رضوان الله عليه ، يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة ، واجتمع الناس إليه في المسجد.

وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون : وبنو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام

٣١٦

الشهيد بالكوفة ، ولم يبق له عليه‌السلام غير رأسه التي بالمشهد الذي بين الكومين بمصر بطريق جامع ابن طولون وبركة الفيل ، وهو من الخطط ، يعرف بمسجد محرس الخصيّ ، ولما صلب كشفوا عورته فنسج العنكبوت فسترها. ثم إنه بعد ذلك أحرق وذرى في الريح ولم يبق منه إلّا رأسه التي بمصر ، وهو مشهد صحيح لأنه طيف بها بمصر ، ثم نصبت على المنبر بالجامع بمصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة ، فسرقت ودفنت في هذا الموضع إلى أن ظهرت ، وبنى عليها مشهد.

وذكر ابن عبد الظاهر أن الأفضل بن أمير الجيوش لما بلغته حكاية رأس زيد أمر بكشف المسجد ، وكان وسط الأكوام ، ولم يبق من معالمه إلّا محراب ، فوجد هذا العضو الشريف. قال محمد بن منجب بن الصيرفيّ : حدّثني الشريف فخر الدين أبو الفتوح ناصر الزيديّ خطيب مصر ، وكان من جملة حضر الكشف قال : لما خرج هذا العضو رأيته ، وهو هامة وافرة ، وفي الجبهة أثر في سعة الدرهم ، فضمّخ وعطّر وحمل إلى دار حتى عمر هذا المشهد ، وكان وجد أنه يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وعشرين وخمسمائة ، وكان الوصول به في يوم الأحد ، ووجدانه في يوم الأحد.

زيد بن علي : بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، وكنيته أبو الحسن الإمام ، الذي تنسب إليه الزيدية إحدى طوائف الشيعة ، سكن المدينة وروى عن أبيه عليّ بن الحسين الملقب زين العابدين ، وعن أبان بن عثمان ، وعبيد الله بن أبي رافع ، وعروة بن الزبير وروى عنه محمد بن شهاب الزهريّ ، وزكريا بن أبي زائدة ، وخلق ذكره ابن حبان في الثقات. وقال : رأى جماعة من الصحابة ، وقيل لجعفر بن محمد الصادق عن الرافضة أنهم يتبرّؤن من عمك زيد. فقال : برىء الله ممن تبرّأ من عمي ، كان والله أقرأنا لكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله ، وأوصلنا للرحم ، والله ما ترك فينا لدينا ولا لآخرة مثله.

وقال أبو إسحاق السبيعيّ : رأيت زيد بن عليّ فلم أر في أهله مثله ، ولا أعلم منه ، ولا أفضل ، وكان أفصحهم لسانا ، وأكثرهم زهدا وبيانا.

وقال الشعبيّ : والله ما ولد النساء أفضل من زيد بن عليّ ، ولا أفقه ولا أشجع ولا أزهد. وقال أبو حنيفة : شاهدت زيد بن عليّ كما شاهدت أهله ، فما رأيت في زمانه أفقه منه ، ولا أعلم ، ولا أسرع جوابا ، ولا أبين قولا لقد كان منقطع القرين. وقال الأعمش : ما كان في أهل زيد بن عليّ مثل زيد ، ولا رأيت فيهم أفضل منه ، ولا أفصح ولا أعلم ولا أشجع ، ولقد وفي له من تابعه لإقامتهم على المنهج الواضح. وسئل جعفر بن محمد الصادق عن خروجه فقال : خرج على ما خرج عليه آباؤه وكان يقال لزيد حليف القرآن ، وقال خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرأه وأتدبره ، فما وجدت في طلب الرزق رخصة ، وما وجدت ، ابتغوا من فضل الله إلّا العبادة والفقه.

٣١٧

وقال عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب : لقد أصيب عندكم رجل ما كان في زمانكم مثله ، ولا أراه يكون بعده مثله ، زيد بن عليّ ، لقد رأيته وهو غلام حدث ، وإنه ليسمع الشيء من ذكر الله فيغشى عليه حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا. وكان نقش خاتم زيد ، اصبر تؤجر اصدق تنج ، وقرأ مرّة قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد / ٣٨] فقال : إنّ هذا لوعيد وتهديد من الله. ثم قال : اللهمّ لا تجعلنا ممن تولى عنك فاستبدلت به بدلا. وكان إذا كلمه إنسان وخاف أن يهجم على أمر يخاف منه مأثما ، قال له : يا عبد الله أمسك أمسك ، كف كف ، إليك إليك ، عليك بالنظر لنفسك. ثم يكف عنه ولا يكلمه.

وقد اختلف في سبب قيام زيد وطلبه الأمر لنفسه ، فقيل أن زيد بن عليّ ، وداود بن عليّ بن عبد الله بن عباس ، ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب ، قدموا على خالد بن عبد الله القسريّ بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة ، فلما ولي يوسف بن عمر العراق بعد عزل خالد ، كتب إلى هشام بن عبد الملك وذكر له أن خالد ابتاع أرضا بالمدينة من زيد بعشرة آلاف دينار ، ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه ، ففعل. فسألهم هشام عن ذلك ، فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك ، وحلفوا فصدّقهم ، وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالدا ، فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدّقهم وعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم ، وقيل بل ادّعى خالد القسريّ أنه أودع زيدا وداود بن عليّ ونفرا من قريش مالا. فكتب يوسف بن عمر بذلك إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ، فأحضرهم هشام من المدينة وسيرهم إلى يوسف ليجمعهم وخالدا ، فقدموا عليه ، فقال يوسف لزيد : إن خالدا زعم أنه أودع عندك مالا. فقال زيد : كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره؟ فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة وقال له : هذا زيد قد أنكر أنّك أودعته شيئا. فنظر خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف : أتريد أن تجمع إثمك مع إثمنا في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتم آباءه وأشتمه على المنبر؟ فقال زيد لخالد : ما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال : شدّد عليّ العذاب فادّعيت ذلك ، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومك.

فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة ، وقيل أن يزيد بن خالد القسريّ هو الذي ادّعى أن المال وديعة عند زيد ، فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفا من شرّ يوسف وظلمه. فقال : أنا أكتب إليه بالكف عنكم وألزمهم بذلك. فساروا على كره ، فجمع يوسف بينهم وبين يزيد فقال يزيد : ليس لي عندهم قليل ولا كثير. فقال له يوسف : أتهزأ بأمير المؤمنين؟ فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه ، ثم أمر بالقرشيين فضربوا ، وترك زيدا. ثم اتسحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة ، وأقام زيد بالكوفة ، وكان زيد قال لهشام لما أمره

٣١٨

بالمسير إلى يوسف : والله ما آمن من إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حبيبين أبدا. قال : لا بدّ من المسير إليه. فسار إليه.

وقيل كان السبب في ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسين بن عليّ في وقوف عليّ رضي‌الله‌عنه ، فزيد يخاصم عن بني حسين ، وجعفر يخاصم عن بني حسن ، فكانا يبلغان كل غاية ، ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما ، حرفا ، فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن الحسن بن الحسن ، فتنازعا يوما بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة ، فأغلظ عبد الله لزيد وقال : يا ابن السندية. فضحك زيد وقال : قد كان إسماعيل عليه‌السلام ابن أمة ، ومع ذلك فقد صبرت أمي بعد وفاة سيدها. ولم يصبر غيرها ، يعني فاطمة بنت الحسين أمّ عبد الله ، فإنها تزوّجت بعد أبيه الحسن بن الحسن. ثم إنّ زيدا ندم واستحيى من فاطمة ، فإنها عمته ، ولم يدخل إليها زمانا. فأرسلت إليه : يا ابن أخي إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده ، وقالت لعبد الله : بئسما قلت لأمّ زيد ، أما والله لنعم دخيلة القوم كانت ، وذكر أن خالدا قال لهما : اغدوا علينا غدا فلست ابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما ، فباتت المدينة تغلي كالمرجل. يقول قائل : قال زيد كذا ، ويقول قائل : قال عبد الله كذا ، فلما كان من الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس ، فمن بين شامت ومهموم ، فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما ، فذهب عبد الله يتكلم ، فقال زيد : لا تعجّل يا أبا محمد ، أعتق زيد كلّ ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا. ثم أقبل إلى خالد فقال له : لقد جمعت ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر. فقال خالد : أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال : يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه ، أما ترى ، لوال عليك حقا ولا طاعة؟ فقال زيد : اسكت أيها القحطانيّ ، فإنّا لا نجيب مثلك. قال : ولم ترغب عني؟ فو الله إني لخير منك وخير من أبيك ، وأمي خير من أمّك ، فتضاحك زيد وقال : يا معشر قريش ، هذا الدين قد ذهب أفتذهب الأحساب؟ فوا الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فقام عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال : كذبت والله أيها القحطانيّ ، فو الله لهو خير منك نفسا وأبا وأمّا ومحتدا ، وتناوله بكلام كثير وأخذ كفا من حصباء وضرب بها الأرض وقال : والله إنه ما لنا على هذا من صبر وقام.

ثم شخص زيد إلى هشام بن عبد الملك ، فجعل هشام لا يأذن له ، وهو يرفع إليه القصص ، فكلما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها ارجع إلى منزلك. فيقول زيد : والله لا أرجع إلى خالد أبدا ، ثم إنه أذن له يوما بعد طول حبس ، فصعد زيد وكان بائنا فوقف في بعض الدرج وهو يقول : والله لا يحب الدنيا أحد إلّا ذلّ ، ثم صعد وقد جمع له هشام أهل الشام ، فسلّم ثم جلس ، فرمى عليه هشام طويلة ، فحلف لهشام على شيء. فقال هشام : لا أصدّقك. فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ الله لم يرفع أحدا عن أن يرضى بالله ، ولم يضع أحدا

٣١٩

عن أن لا يرضى بذلك منه. فقال هشام : أنت زيد المؤمّل للخلافة ، وما أنت والخلافة ، لا أمّ لك وأنت ابن أمة. فقال زيد : لا أعلم أحدا عند الله أفضل من نبيّ بعثه ، ولقد بعث الله نبيا وهو ابن أمة ، ولو كان به تقصير عن منتهى غاية لم يبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم ، والنبوّة أعظم منزلة من الخلافة عند الله ، ثم لم يمنعه الله من أن جعله أبا للعرب ، وأبا لخير البشر ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما يقصّر برجل أبوه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد أمي فاطمة لا أفخر بأم. فوثب هشام من مجلسه وتفرّق الشاميون عنه ، وقال لحاجبه : لا يبيت هذا في عسكري أبدا.

فخرج زيد وهو يقول : ما كره قوم قط جرّ السيوف إلّا ذلوا ، وسار إلى الكوفة. فقال : له محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب : أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة ، فإنهم لا يفون لك ، فلم يقبل وقال : خرج بنا هشام أسراء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ، ثم إلى الجزيرة ، ثم إلى العراق ، ثم إلى تيس ثقيف ، يلعب بنا. وأنشد :

بكرت تخوّفني الحتوف كأنني

أصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها إنّ المنية منزل

لا بدّ أن أسقى بكاس المنهل

إنّ المنية لو تمثل مثّلت

مثلي إذا نزلوا بصيق المنزل

فاثني حبالك لا أبا لك واعلمي

أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

أستودعك الله ، وإني أعطي الله عهدا ، إن دخلت يدي في طاعة هؤلاء ما عشت. وفارقه وأقبل إلى الكوفة فأقام بها مستخفيا يتنقل في المنازل ، فأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه ، فبايعه جماعة من وجوه أهل الكوفة ، وكانت بيعته : إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ، وردّ المظالم ، وأفعال الخير ، ونصرة أهل البيت ، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا نعم وضع يده على أيديهم ، ويقول : عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتؤمنن ببيعتي ، ولتقاتلنّ عدوّي ، ولتنصحنّ لي في السرّ والعلانية ، فإذا قال نعم مسح يده على يده ثم قال : اللهمّ فاشهد. فبايعه خمسة عشر ألفا ، وقيل أربعون ألفا ، وأمر أصحابه بالاستعداد ، فأقبل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ ويتهيأ ، فشاع أمره في الناس ، هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس.

وأما على قول من زعم أنه أتى إلى يوسف بن عمر لمرافعة خالد بن عبد الله القسريّ أو ابنه يزيد بن خالد ، فإنه قال : أقام زيد بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه وتأمره بالخروج ويقولون : إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور ، وأنّ هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية ، فأقام بالكوفة ويوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو هاهنا ، ويبعث إليه ليسير فيقول نعم ويعتلّ بالوجع ، فمكث ما شاء الله ، ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة ، فاحتج بأنه يحاكم آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما

٣٢٠