كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ذكر المساجد الجامعة

اعلم أن أرض مصر لما فتحت في سنة عشرين من الهجرة ، واختط الصحابة رضي‌الله‌عنهم فسطاط مصر كما تقدّم ، لم يكن بالفسطاط غير مسجد واحد ، وهو الجامع الذي يقال له في مدينة مصر الجامع العتيق ، وجامع عمرو بن العاص. وما برح الأمر على هذا إلى أن قدم عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما من العراق ، في طلب مروان بن محمد في سنة ثلاث وثلاثين ومائة ، فنزل عسكره في شماليّ الفسطاط ، وبنوا هناك الأبنية ، فسمي ذلك الموضع بالعسكر ، وأقيمت هناك الجمعة في مسجد ، فصارت الجمعة تقام بمسجد عمرو بن العاص وبجامع العسكر ، إلى أن بنى الأمير أحمد بن طولون جامعه على جبل يشكر ، في سنة تسع وخمسين ومائتين ، حين بنى القطائع ، فتلاشى من حينئذ جامع العسكر ، وصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع ابن طولون ، إلى أن قدم جوهر القائد من بلاد القيروان بالمغرب ، ومعه عساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ ، فبنى القاهرة وبنى الجامع الذي يعرف بالجامع الأزهر في سنة ستين وثلاثمائة ، فكانت الجمعة تقام في جامع عمرو ، وجامع ابن طولون ، والجامع الأزهر ، وجامع القرافة الذي يعرف اليوم بجامع الأولياء. ثم إنّ العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله ، بنى في ظاهر القاهرة من جهة باب الفتوح الجامع الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم ، في سنة ثمانين وثلاثمائة ، وأكمله ابنه الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور ، وبنى جامع المقس ، وجامع راشدة ، فكانت الجمعة تقام في هذه الجوامع كلها إلى أن انقرضت دولة الخلفاء الفاطميين ، في سنة سبع وستين وخمسمائة ، فبطلت الخطبة من الجامع الأزهر ، واستمرّت فيما عداه.

فلما كانت الدولة التركية حدث بالقاهرة والقرافة ومصر وما بين ذلك عدّة جوامع ، أقيمت فيها الجمعة ، وما برح الأمر يزداد حتى بلغ عدد المواضع التي تقام بها الجمعة ، فيما بين مسجد تبر خارج القاهرة من بحريها إلى دير الطين قبليّ مدينة مصر ، زيادة على مائة موضع. وسيأتي من ذكر ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.

وقد بلغت عدّة المساجدة التي تقام بها الجمعة مائة وثلاثين مسجدا. منها : بمدينة مصر : جامع عمرو بن العاص ، والجامع الجديد ، والمدرسة المعزية ، وجامع ابن اللبان ،

٣

وجامع القرّاء ، وجامع تقيّ الثمار ، وجامع راشدة ، وجامع الفيلة ، وجامع دير الطين ، وجامع بساتين الوزير.

ومنها بالقرافة : جامع الأولياء ، وجامع الأفرم ، وخانكاه بكتمر ، وجامع ابن عبد الظاهر ، وجامع الجوّاني ، وجامع الضراب ، وجامع قوصون ، وجامع الشافعيّ ، وجامع الديليّ ، وجامع محمود ، وجامع بقرب تربة الست.

ومنها بالروضة : جامع المقياس ، وجامع عين ، وجامع الرئيس ، وجامع الأباريقيّ ، وجامع المقسيّ.

ومنها بالحسينية خارج القاهرة : جامع أحمد الزاهد ، وجامع آل ملك ، وجامع كزاي ، وجامع الكافوريّ ، بالقرب من السميساطية ، وجامع الخندق ، وجامع نائب الكرك ، وجامع سويقة الجميزة ، وجامع قيدار ، وجامع ابن شرف الدين ، وجامع الظاهر ، وجامع الحاج كمال التاجر ، تجدّد هو وجامع سويقة الجميزة في أيام الظاهر برقوق.

ومنها خارج القاهرة مما يلي النيل : جامع كوم الريش ، جامع جزيرة الفيل ، جامع أمين الدين بن تاج الدين موسى ، جامع الفخر على النيل ، جامع الأسيوطي ، جامع الواسطيّ ، جامع ابن بدر ، جامع الخطيري ، جامع ابن غازي ، جامع المقس ، جامع ابن التركمانيّ ، جامع بنت التركمانيّ ، جامع الطواشي ، جامع باب الرخاء ، جامع الزاهد ، جامع ميدان القمح ، جامع صاروجا ، جامع ابن زيد ، جامع بركة الرطليّ ، جامع الكيمختي ، جامع باب الشعرية ، جامع ابن مياله ، جامع ابن المغربيّ ، جامع العجميّ بقنطرة الموسكي ، الجامع المعلق بقنطرة الموسكي أيضا ، جامع الجاكي بسويقة الريش ، جامع السروجيّ بسويقة الريش أيضا ، جامع البكجريّ ، جامع ابن حسون بالدكة ، جامع ابن المغربيّ على الخليج ، جامع الطباخ بخط اللوق ، جامع الست نصيرة بخط باب اللوق حيث كان الكوم ، فحفر فإذا بقبر عرف بالست نصيرة ، وعمل عليه مسجد وأقيمت به الجمعة في أيام الظاهر برقوق. جامع شاكر بجوار قنطرة قدادار عمّر سنة ست وعشرين وثمانمائة ، جامع غيط القاصد خلف قنطرة قدادار ، جامع الجزيرة الوسطى ، جامع كريم الدين بخط الزريبة ، جامع ابن غلامها بخط الزريبة أيضا ، الجامع الأخضر ، جامع سويقة الموفق ، جامع سلطان شاه بباب الخرق ، جامع زين الدين الخشاب خارج باب الروق ، كان زاوية للفقراء فأقيمت به الجمعة بعد سنة ثمانمائة ، جامع منكلي بسويقة القيمريّ.

ومنها فيما بين القاهرة ومصر : جامع بشتاك ، جامع الإسماعيليّ على البركة الناصرية ، جامع الست مسكة ، جامع آق سنقر بمجرى السقائين ، جامع الشيخ محمد بن حسن الحنفيّ ، جامع ست حدق بالمريس ، جامع الطيبرسيّ ، جامع الرحمة عمارة الصاحب أمين الدين عبد الله بن غنام ، جامع منشأة المهرانيّ ، جامع يونس بالسبع سقايات على البركة ، جامع بركة الاستادار بحدرة ابن قيحة ، جامع ابن طولون ، جامع المشهد النفيسيّ ، جامع

٤

البقليّ بالقبيبات ، جامع شيخو ، جامع قانباي برلس ، سويقة منعم ، جامع الماس ، جامع قوصون ، جامع الصالح بمدرسة الناصر حسن بسوق الخيل ، جامع الجاي ، جامع الماردينيّ ، جامع أصلم.

ومنها بقلعة الجبل : الجامع الناصريّ ، جامع التوبة ، جامع الإصطبل ، الجامع المؤيدي.

ومنها : خارج القاهرة بالترب وما قرب من القلعة : تربة جوش ، وتربة الظاهر برقوق ، وتربة طشتمر حمص أخضر بالصحراء ، جامع الخضري ، جامع التوبة ، الجامع المؤيدي.

ومنها بالقاهرة : الجامع الأزهر ، والجامع الحاكميّ ، والجامع الأقمر ، ومدرسة الظاهر برقوق ، والمدرسة الصالحية ، والحجازية ، والمشهد الحسينيّ ، وجامع الفاكهاني ، والزمامية ، والصاحبية ، والبوبكرية ، والجامع المؤيديّ ، والأشرفية ، وجامع الدواداري قريبا من البرقية ، وجامع التوبة بالبرقية ، مدرسة ابن البقريّ ، والباسطية.

ذكر الجوامع

اعلم أنه لما اتصلت مباني القاهرة المعزية بمباني مدينة فسطاط مصر ، بحيث صارتا كأنهما مدينة واحدة ، واتخذ أهل القاهرة وأهل مصر القرافتين لدفن أمواتهم ، ذكرت ما في هذه المواضع الأربع من المساجد الجامعة ، وأضفت إليها ما في جزيرة فسطاط مصر التي يقال لها الروضة من الجوامع أيضا ، فإنها منتزه أهل البلدين ، وجمعت إلى ذلك ما في ظواهر القاهرة ومصر من الجوامع ، مع التعريف بحال من أسسها. وبالله التوفيق.

الجامع العتيق

هذا الجامع بمدينة فسطاط مصر ، ويقال له تاج الجوامع ، وجامع عمرو بن العاص ، وهو أوّل مسجد أسس بديار مصر في الملة الإسلامية بعد الفتح.

خرّج الحافظ أبو القاسم بن عساكر من حديث معاوية بن قرّة قال : قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : من صلّى صلاة مكتوبة في مسجد مصر من الأمصار ، كانت له كحجة متقبلة ، فإن صلّى تطوّعا كانت له كعمرة مبرورة.

وعن كعب : من صلّى في مسجد مصر من الأمصار صلاة فريضة ، عدلت حجة متقبلة ، ومن صلّى صلاة تطوع عدلت عمرة متقبلة ، فإن أصيب في وجهه ذلك ، حرّم لحمه ودمه على النار أن تطعمه ، وذنبه على من قتله.

وأول مسجد بني في الإسلام مسجد قبا ، ثم مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال هشام بن عمار : حدّثنا المغيرة بن المغيرة ، حدّثنا يحيى بن عطاء الخراسانيّ عن أبيه. قال : لما افتتح عمر البلدان ، كتب إلى أبي موسى وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة ، ويتخذ للقبائل مساجد ، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك ، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على

٥

مصر بمثل ذلك ، وكتب إلى أمراء أجناد الشام أن لا يتبدّدوا إلى القرى ، وأن ينزلوا المدائن ، وأن يتخذوا في كلّ مدينة مسجدا واحدا ، ولا تتخذ القبائل مساجد ، فكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده.

وقال أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن حفص الكنديّ ، في كتاب أخبار مسجد أهل الراية الأعظم : وأوّل أمره وبنائه وزيادة الأمراء فيه وغيرهم ، ومجالس الحكام والفقهاء منه وغير ذلك ، قال هبيرة بن أبيض عن شيخه تجيب : أن قيسبة بن كلثوم التجيبيّ أحد بني سوم ، سار من الشام إلى مصر مع عمرو بن العاص ، فدخلها في مائة راحلة وخمسين عبدا وثلاثين فرسا ، فلما أجمع المسلمون وعمرو بن العاص على حصار الحصن ، نظر قيسبة بن كلثوم فرأى جنانا تقرب من الحصن ، فعرّج إليها في أهله وعبيده ، فنزل وضرب فيها فسطاطه وأقام فيها طول حصارهم الحصن حتى فتحه الله عليهم ثم خرج قيسبة مع عمرو إلى الإسكندرية وخلف أهله فيها ، ثم فتح الله عليهم الإسكندرية ، وعاد قيسبة إلى منزله هذا فنزله ، واختط عمرو بن العاص داره مقابل تلك الجنان التي نزلها قيسبة ، وتشاور المسلمون أين يكون المسجد الجامع ، فرأوا أن يكون منزل قيسبة ، فسأله عمرو فيه وقال : أنا أختط لك يا أبا عبد الرحمن حيث أحببت. فقال قيسبة : لقد علمتم يا معاشر المسلمين أني حزت هذا المنزل وملكته ، وإني أتصدّق به على المسلمين وارتحل ، فنزل مع قومه بني سوم واختط فيهم ، فبني مسجدا في سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، وفي ذلك يقول أبو قبان بن نعيم بن بدر التجيبي :

وبابليون (١) قد سعدنا بفتحها

وحزنا لعمر الله فيأ ومغنما

وقيسبة الخير بن كلثوم داره

أباح حماها للصلاة وسلّما

فكلّ مصلّ في فنانا صلاته

تعارف أهل المصر ما قلت فاعلما

وقال أبو مصعب قيس بن سلمة الشاعر في قصيدته التي امتدح فيها عبد الرحمن بن قيسبة:

وأبوك سلّم داره وأباحها

لجباه قوم ركّع وسجود

وقال الليث بن سعد : كان مسجدنا هذا حدائق وأعنابا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ : ومن جملة مزارعها جامع مصر ، وقد بقي إلى الآن من جملة الأنشاب التي كانت في البستان في موضع الجامع ، شجرة زنزلخت ، وهي باقية إلى الآن خلف المحراب الكبير والحائط الذي به المنبر ، ومن العلماء من قال : إنّ هذه الشجرة باقية من عهد موسى عليه‌السلام ، وكان لها نظير شجرة أخرى في الورّاقين ، احترقت في حريق مصر سنة أربع وستين وخمسمائة ، وظهر بالجامع العتيق بئر البستان التي كانت به ، وهي اليوم يستقي منها الناس الماء بموضع حلة الفقيه ابن الجيزيّ المالكيّ.

__________________

(١) بابليون : هو حصن بابليون في القاهرة.

٦

قال الكنديّ : وقال يزيد بن أبي حبيب : سمعت أشياخنا ممن حضر مسجد الفتح يقولون : وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيهم الزبير بن العوام ، والمقداد ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وفضالة بن عبيد ، وعقبة بن عامر ، رضي‌الله‌عنهم. وفي رواية أسس مسجدنا هذا أربعة من الصحابة ، أبو ذر ، وأبو بصيرة ، ومحمئة بن جزء الزبيديّ ونبيه بن صواب.

وقال عبد الله بن أبي جعفر : أقام محرابنا هذا عبادة بن الصامت ، ورافع بن مالك ، وهما نقيبان. وقال داود بن عقبة : أن عمرو بن العاص بعث ربيعة بن شرحبيل بن حسنة ، وعمرو بن علقمة القرشيّ ، ثم العدويّ ، يقيمان القبلة ، وقال لهما : قوما إذا زالت الشمس. أو قال : انتصفت الشمس ، فاجعلاها على حاجبيكما ففعلا.

وقال الليث : إنّ عمرو بن العاص كان يمدّ الحبال حتى أقيمت قبلة المسجد. وقال عمرو بن العاص : شرّقوا القبلة تصيبوا الحرم. قال : فشرّقت جدّا ، فلما كان قرّة بن شريك تيامن بها قليلا ، وكان عمرو بن العاص إذا صلّى في مسجد الجامع يصلي ناحية الشرق إلّا الشيء اليسير ، وقال رجل من تجيب : رأيت عمرو بن العاص دخل كنيسة فصلّى فيها ولم ينصرف عن قبلتهم إلّا قليلا ، وكان الليث وابن لهيعة إذا صليا تيامنا ، وكان عمر بن مروان عمّ الخلفاء إذا صلّى في المسجد الجامع تيامن. وقال يزيد بن حبيب في قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) ، هي قبلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي نصبها الله عزوجل مقابل الميزاب ، وهي قبلة أهل مصر وأهل الغرب ، وكان يقرأها فلنولينك قبلة نرضاها بالنون. وقال هكذا أقرأناها أبو الخير.

وقال الخليل بن عبد الله الأزديّ : حدّثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبريل فقال : ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة ، ثم قال بيده ، فأماط كلّ جبل بينه وبين الكعبة ، فوضع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة ، وصارت قبلته إلى الميزاب.

وقال ابن لهيعة : سمعت أشياخنا يقولون : لم يكن لمسجد عمرو بن العاص محراب مجوّف ، ولا أدري بناه مسلمة أو بناه عبد العزيز. وأوّل من جعل المحراب قرّة بن شريك.

وقال الواقديّ : حدّثنا محمد بن هلال قال : أوّل من أحدث المحراب المجوّف عمر بن عبد العزيز ، ليالي بني مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر عمر بن شيبة أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة فأصبح مكتئبا ، فقالت له امرأته : ما لي أراك مكتئبا؟ قال : لا شيء إلّا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي ، فعمدت الى القبلة فغسلتها ، ثم عملت خلوقا (١) فخلقتها ، فكانت أوّل من خلق القبلة.

وقال أبو سعيد سلف الحميريّ : أدركت مسجد عمرو بن العاص طوله خمسون ذراعا

__________________

(١) الخلوق : ضرب من الطيب أعظم أجزائه الزعفران. وخلّقه : طيّبه بالخلوق.

٧

في عرض ثلاثين ذراعا ، وجعل الطريق يطيف به من كلّ جهة ، وجعل له بابان يقابلان دار عمرو بن العاص ، وجعل له بابان في بحريه ، وبابان في غربيه ، وكان الخارج إذا خرج من زقاق القناديل وجد ركن المسجد الشرقيّ محاذيا لركن دار عمرو بن العاص الغربيّ ، وذلك قبل أن أخذ من دار عمرو بن العاص ما أخذ ، وكان طوله من القبلة إلى البحري مثل طول دار عمرو بن العاص ، وكان سقفه مطاطأ جدّا ولا صحن له ، فإذا كان الصيف جلس الناس بفنائه من كلّ ناحية ، وبينه وبين دار عمرو سبع أذرع.

قلت : وأوّل من جلس على منبر أو سرير ذي أعواد ربيعة بن محاسن. وقال القضاعيّ في كتاب الخطط : وكان عمرو بن العاص قد اتخذ منبرا ، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يعزم عليه في كسره ويقول : أما يحسبك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس تحت عقبيك ، فكسره. قال مؤلفه رحمه‌الله : وفي سنة إحدى وستين ومائة ، أمر المهديّ محمد بن أبي جعفر المنصور بتقصير المنابر وجعلها بقدر منبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال القضاعيّ : وأوّل من صلّى عليه من الموتى داخل الجامع ، أبو الحسين سعيد بن عثمان صاحب الشرط ، في النصف من صفر ، وكانت وفاته فجأة ، فأخرج ضحوة يوم الأحد السادس عشر من صفر ، وصلّي عليه خلف المقصورة وكبّر عليه خمسا ، ولم يعلم أحد قبله صلّي عليه في الجامع. وذكر عمر بن شيبة في تاريخ المدينة ، أنّ أوّل من عمل مقصورة بلبن ، عثمان بن عفان ، وكانت فيها كوى تنظر الناس منها إلى الإمام ، وأن عمر بن عبد العزيز عملها بالساج. قال القضاعيّ : ولم تكن الجمعة تقام في زمن عمرو بن العاص بشيء من أرض مصر إلّا في هذا الجامع. قال أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس : جاء نفر من بحافق إلى عمرو بن العاص فقالوا : إنا نكون في الريف ، أفنجمع في العيدين الفطر والأضحى ويؤمنّا رجل منا؟ قال : نعم. قالوا : فالجمعة؟ قال : لا ، ولا يصلي الجمعة بالناس إلّا من أقام الحدود وآخذ بالذنوب وأعطى الحقوق.

وأوّل من زاد في هذا الجامع مسلمة بن مخلد الأنصاريّ سنة ثلاث وخمسين وهو يومئذ أمير مصر من قبل معاوية. قال الكنديّ في كتاب أخبار مسجد أهل الراية : ولما ضاق المسجد بأهله شكى ذلك إلى مسلمة بن مخلد ، وهو الأمير يومئذ ، فكتب فيه إلى معاوية بن أبي سفيان ، فكتب إليه يأمره بالزيادة فيه ، فزاد فيه من شرقيه مما يلي دار عمرو بن العاص ، وزاد فيه من بحريه ، ولم يحدث فيه حدثا من القبليّ ولا من الغربيّ ، وذلك في سنة ثلاث وخمسين ، وجعل له رحبة في البحريّ منه كان الناس يصيفون فيها ، ولا طه بالنورة وزخرف جدرانه وسقوفه ، ولم يكن المسجد الذي لعمر ، وجعل فيه نورة ولا زخرف ، وأمر بابتناء منار المسجد الذي في الفسطاط ، وأمر أن يؤذنوا في وقت واحد ، وأمر مؤذني الجامع أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل ، فإذا فرغوا من أذانهم أذن كلّ مؤذن في الفسطاط في وقت واحد. قال ابن لهيعة فكان لأذانهم دويّ شديد ، فقال عابد بن هشام الأزديّ : ثم السلامانيّ لمسلمة بن مخلد :

٨

لقد مدّت لمسلمة الليالي

على رغم العداة من الأمان

وساعده الزمان بكلّ سعد

وبلغه البعيد من الأماني

أمسلم فارتقي لا زلت تعلو

على الأيام مسلم والزمان

لقد أحكمت مسجدنا فأضحى

كأحسن ما يكون من المباني

فتاه به البلاد وساكنوها

كما تاهت بزينتها الغواني

وكم لك من مناقب صالحات

وأجدل بالصوامع للأذان

كأنّ تجاوب الأصوات فيها

إذا ما الليل ألقى بالجران (١)

كصوت الرعد خالطه دويّ

وأرعب كلّ مختطف الجنان

وقيل أنّ معاوية أمره ببناء الصوامع للأذان ، قال : وجعل مسلمة للمسجد الجامع أربع صوامع في أركانه الأربع ، وهو أوّل من جعلها فيه ، ولم تكن قبل ذلك. قال : وهو أوّل من جعل فيه الحصر ، وإنما كان قبل ذلك مفروضا بالحصباء ، وأمر أن لا يضرب بناقوس عند الأذان يعني الفجر ، وكان السلّم الذي يصعد منه المؤذنون في الطريق ، حتى كان خالد بن سعيد ، فحوّله داخل المسجد.

قال القاضي القضاعيّ : ثم إن عبد العزيز بن مروان هدمه في سنة تسع وسبعين من الهجرة ، وهو يومئذ أمير مصر من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، وزاد فيه من ناحية الغرب ، وأدخل فيه الرحبة التي كانت في بحريه ، ولم يجد في شرقيه موضعا يوسعه به. وذكر أبو عمر الكنديّ في كتاب الأمراء أنه زاد فيه من جوانبه كلها ، ويقال أنّ عبد العزيز بن مروان لما أكمل بناء المسجد خرج من دار الذهب عند طلوع الفجر ، فدخل المسجد فرأى في أهله خفة ، فأمر بأخذ الأبواب على من فيه ، ثم دعا بهم رجلا رجلا ، فيقول للرجل : ألك زوجة؟ فيقول لا ، فيقول زوّجوه ، ألك خادم؟ فيقول لا ، فيقول أخدموه. أحججت؟ فيقول : لا. فيقول أحجوه. أعليك دين؟ فيقول : نعم. فيقول إقضوا دينه. فأقام المسجد بعد ذلك دهرا عامرا ولم يزل إلى اليوم. وذكر أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولايته على مصر ، من قبل أخيه الوليد ، أمر برفع سقف المسجد الجامع ، وكان مطاطأ ، وذلك في سنة تسع وثمانين. ثم إن قرّة بن شريك العبسيّ هدمه مستهلّ سنة اثنتين وتسعين بأمر الوليد بن عبد الملك ، وهو يومئذ أمير مصر من قبله ، وابتدأ في بنيانه في شعبان من السنة المذكورة ، وجعل على بنائه يحيى بن حنظلة ، مولى بني عامر بن لؤيّ ، وكانوا يجمعون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه ، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ، ونصب المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين ، ونزع المنبر الذي كان في المسجد ، وذكر أنّ عمرو بن العاص كان جعله فيه ، فلعله بعد وفاة عمر بن

__________________

(١) ألقى بالجران : استقر واستقام.

٩

الخطاب رضي‌الله‌عنه. وقيل هو منبر عبد العزيز بن مروان ، وذكر أنه حمل إليه من بعض كنائس مصر ، وقيل أنّ زكريا بن برقني ملك النوبة أهداه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وبعث معه نجاره حتى ركبه ، واسم هذا النجار بقطر من أهل دندرة ، ولم يزل هذا المنبر في المسجد حتى زاد قرّة بن شريك في الجامع ، فنصب منبرا سواه على ما تقدّم شرحه ، ولم يكن يخطب في القرى إلّا على العصا إلى أن ولي عبد الملك بن موسى بن نصير اللخمي مصر ، من قبل مروان بن محمد ، فأمر باتخاذ المنابر في القرى ، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وذكر أنه لا يعرف منبرا أقدم منه ، يعني من منبر قرّة بن شريك بعد منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزل كذلك إلى أن قلع وكسر في أيام العزيز بالله بنظر الوزير يعقوب بن كلس ، في يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وجعل مكانه منبر مذهب ، ثم أخرج هذا المنبر إلى الإسكندرية وجعل في جامع عمرو بها ، وأنزل إلى الجامع المنبر الكبير الذي هو به الآن ، وذلك في أيام الحاكم بأمر الله في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وأربعمائة ، وصرف بنو عبد السميع عن الخطابة ، وجعلت خطابة الجامع العتيق لجعفر بن الحسن بن خداع الحسينيّ ، وجعل إلى أخيه الخطابة بالجامع الأزهر ، وصرف بنو عبد السميع بن عمر بن الحسين بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس من جميع المنابر بعد أن أقاموا هم ، وسلفهم فيها ستين سنة. وفي شهر ربيع الأوّل من هذه السنة وجد المنبر الجديد الذي نصب في الجامع قد لطخ بعذرة ، فوكّل به من يحفظه وعمل له غشاء من أدم مذهب في شعبان من هذه السنة ، وخطب عليه ابن خداع وهو مغشى ، وزيادة قرّة من القبليّ والشرقيّ ، وأخذ بعض دار عمرو وابنه عبد الله بن عمرو فأدخله في المسجد ، وأخذ منهما الطريق الذي بين المسجد وبينهما ، وعوّض ولد عمرو ما هو في أيديهم اليوم من الرباع ، وأمر قرّة بعمل المحراب المجوّف على ما تقدّم شرحه ، وهو المحراب المعروف بعمرو ، لأنه في سمت محراب المسجد القديم الذي بناه عمرو ، وكانت قبلة المسجد القديم عند العمد المذهبة في صف التوابيت اليوم ، وهي أربعة عمد ، اثنان في مقابلة اثنين ، وكان قرّة أذهب رؤوسها ، وكانت مجالس قيس ، ولم يكن في المسجد عمد مذهبة غيرها ، وكانت قديما حلقة أهل المدينة ، ثم روق أكثر العمد وطوّق في أيام الإخشيد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ، ولم يكن للجامع أيام قرّة بن شريك غير هذا المحراب ، فأمّا المحراب الأوسط الموجود اليوم فعرف بمحراب عمر بن مروان عمّ الخلفاء ، وهو أخو عبد الملك وعبد العزيز ، ولعله أحدثه في الجدار بعد قرّة ، وقد ذكر قوم أن قرة عمل هذين المحرابين ، وصار للجامع أربعة أبواب ، وهي الأبواب الموجودة في شرقيه الآن ، آخرها باب إسرائيل وهو باب النحاسين ، وفي غربيه أربعة أبواب شارعة في زقاق كان يعرف بزقاق البلاط ، وفي بحريه ثلاثة أبواب ، وبيت المال الذي في علو الفوّارة بالجامع بناه أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج بمصر ، سنة سبع وتسعين في أيام سليمان بن عبد الملك ، وأمير

١٠

مصر يومئذ عبد الملك بن رفاعة الفهميّ ، وكان مال المسلمين فيه ، وطرق المسجد في ليلة سنة خمس وأربعين ومائة في ولاية يزيد بن حاتم المهلبيّ من قبل المنصور ، طرقه قوم ممن كان بايع عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وكان أوّل علويّ قدم مصر ، فنهبوا بيت المال ثم تضاربوا عليه بسيوفهم ، فلم يصل إليهم منه إلّا اليسير ، فأنفذ إليهم يزيد من قتل منهم جماعة وانهزموا ، فنهبوا بيت المال ثم تضاربوا عليه بسيوفهم ، فلم يصل إليهم منه إلّا اليسير ، فأنفذ إليهم يزيد من قتل منهم جماعة وانهزموا ، وذكر أن هذا المكان تسوّر عليه لص في إمارة أحمد بن طولون وسرق منه بدرتي دنانير ، فظفر به أحمد بن طولون واصطنعه وعفا عنه.

وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بعمل الفوّارة تحت قبة بيت المال ، فعملت وفرغ منها في شهر رجب سنة تسع وسبعين وثلاثمائة ، ثم زاد فيه صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، وهو يومئذ أمير مصر من قبل أبي العباس السفاح ، في مؤخرة أربع أساطين ، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة ، وهو أوّل من ولى مصر لبني العباس. فيقال أنه أدخل في الجامع دار الزبير بن العوّام رضي‌الله‌عنه ، وكانت غربيّ دار النحاس ، وكان الزبير تخلى عنها ووهبها لمواليه ، لخصومة جرت بين غلمانه وغلمان عمرو بن العاص ، واختط الزبير فيما يلي الدار المعروفة به الآن ، ثم اشترى عبد العزيز بن مروان دار الزبير من مواليه ، فقسّمها بين ابنه الأصبغ وأبي بكر ، فلما قدم صالح بن عليّ أخذها عن أمّ عاصم بنت عاصم بن أبي بكر ، وعن طفل يتيم وهو حسان بن الأصبغ فأدخلها في المسجد ، وباب الكحل من هذه الزيادة ، وهو الباب الخامس من أبواب الجامع الشرقية الآن ، وعمر صالح بن عليّ أيضا مقدّم المسجد الجامع عند الباب الأوّل موضع البلاطة الحمراء ، ثم زاد فيه موسى بن عيسى الهاشميّ ، وهو يومئذ أمير مصر من قبل الرشيد في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة ، الرحبة التي في مؤخره ، وهي نصف الرحبة المعروفة بأبي أيوب ، ولما ضاق الطريق بهذه الزيادة أخذ موسى بن عيسى دار الربيع بن سليمان الزهريّ شركة بني مسكين بغير عوض للربيع ، ووسع بها الطريق وعوّض بني مسكين ، ووصل عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خراعة أميرا من قبل المأمون في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين ، وتوجه إلى الإسكندرية مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين ، ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة من السنة المذكورة ، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع ، فزيد فيه مثله من غربيه ، وعاد ابن طاهر إلى بغداد لخمس بقين من رجب من السنة المذكورة ، وكانت زيادة ابن طاهر المحراب الكبير وما في غربيه إلى حدّ زيادة الخازن ، فأدخل فيه الزقاق المعروف أوّلا بزقاق البلاط ، وقطعة كبيرة من دار الرمل ، ورحبة كانت بين يدي دار الرمل ، ودورا ذكرها القضاعيّ.

وذكر بعضهم أن موضع فسطاط عمرو بن العاص حيث المحراب والمنبر ، قال : وكان

١١

الذي تمم زيادة عبد الله بن طاهر بعد مسيره إلى بغداد ، عيسى بن يزيد الجلوديّ ، وتكامل ذرع الجامع ، سوى الزيادتين ، مائة وتسعين ذراعا بذراع العمل طولا ، في مائة وخمسين ذراعا عرضا. ويقال أنّ ذرع جامع ابن طولون مثل ذلك سوى الرواق المحيط بجوانبه الثلاثة. ونصب عبد الله بن طاهر اللوح الأخضر ، فلما احترق الجامع احترق ذلك اللوح ، فجعل أحمد بن محمد العجيفيّ هذا اللوح مكان ذلك ، وهو هذا اللوح الأخضر الباقي إلى اليوم ، ورحبة الحارث هي الرحبة البحرية من زيادة الخازن ، وكانت رحبة يتبايع الناس فيها يوم الجمعة ، وذكر أبو عمر الكنديّ في كتاب الموالي : أن أبا عمرو الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف مولى محمد بن ريان بن عبد العزيز بن مروان ، لما ولي القضاء من قبل المتوكل على الله في سنة سبع وثلاثين ومائتين ، أمر ببناء هذه الرحبة ليتسع الناس بها ، وحوّل سلّم المؤذنين إلى غربيّ المسجد ، وكان عند باب إسرائيل ، وبلّط زيادة بن طاهر ، وأصلح بنيان السقف ، وبنى سقاية في الحذائين ، وأمر ببناء الرحبة الملاصقة لدار الضرب ليتسع الناس بها ، وزيادة أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع ابن أخت أبي الوزير أحمد بن خالد ، صاحب الخراج في أيام المعتصم ، كان أبو أيوب هذا أحد عمال الخراج زمن أحمد بن طولون ، وزيادته في بقية الرحبة المعروفة برحبة أبي أيوب. والمحراب المنسوب إلى أبي أيوب هو الغربيّ من هذه الزيادة عند شباك الحذائين ، وكان بناؤها في سنة ثمان وخمسين ومائتين ، ويقال أن أبا أيوب مات في سجن أحمد بن طولون بعد أن نكبه واصطفى أمواله ، وذلك في سنة ست وستين ومائتين ، وأدخل أبو أيوب في هذه الزيادة أماكن ذكرها. قال : وكان قد وقع في مؤخر المسجد الجامع حريق ، فعمر وزيدت هذه الزيادة في أيام أحمد بن طولون ، ووقع في الجامع في ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين ، حريق أخذ من بعد ثلاث حنايا من باب إسرائيل إلى رحبة الحارث بن مسكين ، فهلك فيه أكثر زيادة عبد الله بن طاهر والرواق الذي عليه اللوح الأخضر ، فأمر خمارويه بن أحمد بن طولون بعمارته على يد أحمد بن محمد العجيفيّ ، فأعيد على ما كان عليه ، وأنفق فيه ستة آلاف وأربعمائة دينار ، وكتب اسم خمارويه في دائر الرواق الذي عليه اللوح الأخضر ، وهي موجودة الآن ، وكانت عمارته في السنة المذكورة. وأمر عيسى النوشزي في ولايته الثانية على مصر ، في سنة أربع وتسعين ومائتين ، بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلوات ، فكان يفتح للصلاة فقط ، وأقام على ذلك أياما ، فضجّ أهل المسجد ففتح لهم.

وزاد أبو حفص العباسيّ في أيام نظره في قضاء مصر ، خلافة لأخيه محمد ، الغرفة التي يؤذن فيها المؤذنون في السطح ، وكانت ولايته في رجب من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وكان إمام مصر والحرمين ، وإليه إقامة الحج ، ولم يزل قاضيا بمصر خلافة لأخيه إلى أن صرف من القضاء بالخصيبيّ ، في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وتوفي في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة بعد قدومه من الحج ، ثم زاد فيه أبو بكر محمد بن عبد الله الخازن

١٢

رواقا واحدا من دار الضرب ، وهو الرواق ذو المحراب والشباكين المتصل برحبة الحارث ، ومقداره تسع أذرع ، وكان ابتداء ذلك في رجب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ومات قبل تمام هذه الزيادة ، وتممها ابنه عليّ بن محمد ، وفرغت في العشر الأخر من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وزاد فيه الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس بأمر العزيز بالله ، الفوّارة التي تحت قبة بيت المال ، وهو أوّل من عمل فيه فوّارة ، وزاد فيه أيضا مساقف الخشب المحيطة بها على يد المعروف بالمقدسيّ الأطروش ، متولي مسجد بيت المقدس ، وذلك في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ونصب فيها حباب الرخام التي للماء. وفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة جدّد بياض المسجد الجامع وقلع شيء كثير من الفسيفساء الذي كان في أروقته ، وبيض مواضعه ، ونقشت خمسة ألواح وذهّبت ونصبت على أبوابه الخمسة الشرقية ، وهي التي عليها الآن ، وكان ذلك على يد برجوان الخادم ، وكان اسمه ثابتا في الألواح فقلع بعد قتله.

وقال المسبحيّ في تاريخه ، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أنزل من القصر إلى الجامع العتيق بألف ومائتين وثمانية وتسعين مصحفا ، ما بين ختمات وربعات ، فيها ما هو مكتوب كله بالذهب ، ومكن الناس من القراءة فيها ، وأنزل إليه أيضا بتور من فضة عمله الحاكم بأمر الله برسم الجامع ، فيه مائة ألف درهم فضة ، فاجتمع الناس وعلّق بالجامع بعد أن قلعت عتبتا الباب حتى أدخل به ، وكان من اجتماع الناس لذلك ما يتجاوز الوصف.

قال القضاعيّ : وأمر الحاكم بأمر الله بعمل الرواقين اللذين في صحن المسجد الجامع ، وقلع عمد الخشب وجسر الخشب التي كانت هناك ، وذلك في شعبان سنة ست وأربعمائة ، وكانت العمد والجسر قد نصبها أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع ، في سنة سبع وخمسين ومائتين ، زمن أحمد بن طولون ، لأنّ الحرّ اشتدّ على الناس فشكوا ذلك إلى ابن طولون ، فأمر بنصب عمد الخشب وجعل عليها الستائر في السنة المذكورة ، وكان الحاكم قد أمر بأن تدهن هذه العمد الخشب بدهن أحمر وأخضر ، فلم يثبت عليها ، ثم أمر بقلعها وجعلها بين الرواقين. وأوّل ما عملت المقاصير في الجوامع في أيام معاوية بن أبي سفيان ، سنة أربع وأربعين ، ولعل قرّة بن شريك لما بنى الجامع بمصر عمل المقصورة. وفي سنة إحدى وستين ومائة ، أمر المهديّ بنزع المقاصير من مساجد الأمصار ، وبتقصير المنابر ، فجعلت على مقدار منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أعيدت بعد ذلك. ولما ولي مصر موسى بن أبي العباس من أهل الشاش ، من قبل أبي جعفر اشناس ، أمر المعتصم أن يخرج المؤذنون إلى خارج المقصورة ، وهو أوّل من أخرجهم ، وكانوا قبل ذلك يؤذنون داخلها ، ثم أمر الإمام المستنصر بالله بن الظاهر بعمل الحجر المقابل للمحراب ، وبالزيادة في المقصورة في شرقيها وغربيها ، حتى اتصلت بالحذائين من جانبيها ، وبعمل منطقة فضة في صدر المحراب الكبير أثبت عليها اسم أمير المؤمنين ، وجعل لعمودي المحراب أطواق فضة ، وجرى ذلك على يد عبد الله بن محمد بن عبدون ، في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.

١٣

قال مؤلفه رحمه‌الله : ولم تزل هذه المنطقة الفضة إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر ، بعد موت الخليفة العاضد لدين الله ، في محرّم سنة سبع وستين وخمسمائة ، فقلع مناطق الفضة من الجوامع بالقاهرة ، ومن جامع عمرو بن العاص بمصر ، وذلك في حادي عشر شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة.

قال القضاعيّ : وفي شهر رمضان من سنة أربعين وأربعمائة جدّدت الخزانة التي في ظهر دار الضرب في طريق الشرطة ، مقابلة لظهر المحراب الكبير ، وفي شعبان من سنة إحدى وأربعين وأربعمائة أذهب بقية الجدار القبليّ حتى اتصل الإذهاب من جدار زيادة الخازن إلى المنبر ، وجرى ذلك على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي زكريا.

وفي شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ، عملت لموقف الإمام في زمن الصيف مقصورة خشب ومحراب ساج منقوش بعمودي صندل ، وتقلع هذه المقصورة في الشتاء إذا صلّى الإمام في المقصورة الكبيرة.

وفي شعبان سنة أربع وأربعين وأربعمائة ، زيد في الخزانة مجلس من دار الضرب ، وطريق المستحم ، وزخرف هذا المجلس وحسّن ، وجعل فيه محراب ورخّم بالرخام الذي قلع من المحراب الكبير حين نصب عبد الله بن محمد بن عبدون منطقة الفضة في صدر المحراب الكبير ، وجرت هذه الزيادة على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى.

وفي ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ، عمر القاضي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أبي زكريا غرفة المؤذنين بالسطح ، وحسّنها وجعل لها روشنا على صحن الجامع ، وجعل بعدها ممرقا ينزل منه إلى بيت المال ، وجعل للسطح مطلعا من الخزانة المستجدّة في ظهر المحراب الكبير ، وجعل له مطلعا آخر من الديوان الذي في رحبة أبي أيوب.

وفي شعبان من سنة خمس وأربعين وأربعمائة ، بنيت المئذنة التي فيما بين مئذنة غرفة والمئذنة الكبيرة ، على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن زكريا. انتهى ما ذكره القضاعيّ.

وفي سنة أربع وستين وخمسمائة تمكن الفرنج من ديار مصر وحكموا في القاهرة حكما جائرا ، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم ، وتيقنوا أنه لا حامي للبلاد من أجل ضعف الدولة ، وانكشفت لهم عورات الناس ، فجمع مري ملك الفرنج بالساحل جموعه ، واستجدّ قوما قوّى بهم عساكره ، وسار إلى القاهرة من بلبيس بعد أن أخذها وقتل كثيرا من أهلها ، فأمر شاور بن مجير السعديّ وهو يومئذ مستول على ديار مصر وزارة للعاضد بإحراق مدينة مصر ، فخرج إليها في اليوم التاسع من صفر من السنة المذكورة عشرون ألف قارورة نفط ،

١٤

وعشرة آلاف مشعل مضرمة بالنيران ، وفرّقت فيها. ونزل مري بجموع الفرنج على بركة الحبش ، فلما رأى دخان الحريق تحوّل من بركة الحبش ونزل على القاهرة مما يلي باب البرقية ، وقاتل أهل القاهرة وقد انحشر الناس فيها ، واستمرّت النار في مصر أربعة وخمسين يوما ، والنهابة تهدم ما بها من المباني وتحفر لأخذ الخبايا إلى أن بلغ مري قدوم أسد الدين شيركوه بعسكر من جهة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام ، فرحل في سابع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة ، وتراجع المصريون شيئا بعد شيء إلى مصر ، وتشعث الجامع ، فلما استبدّ السلطان صلاح الدين بمملكة مصر بعد موت العاضد ، جدّد الجامع العتيق بمصر في سنة ثمان وستين وخمسمائة ، وأعاد صدر الجامع والمحراب الكبير ورخمه ورسم عليه اسمه ، وجعل في سقاية قاعة الخطابة قصبة إلى السطح ، يرتفق بها أهل السطح ، وعمر المنظرة التي تحت المئذنة الكبيرة ، وجعل لها سقاية ، وعمر في كنف دار عمرو الصغرى البحريّ مما يلي الغربيّ ، قصبة أخرى إلى محاذاة السطح ، وجعل لها ممشاة من السطح إليها يرتفق بها أهل السطح ، وعمر غرفة الساعات وحرّرت ، فلم تزل مستمرّة إلى أثناء أيام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ ، أوّل من ملك من المماليك ، وجدّد بياض الجامع وأزال شعثه ، وجلى عمده ، وأصلح رخامه ، حتى صار جميعه مفروشا بالرخام وليس في سائر أرضه شيء بغير رخام حتى تحت الحصر.

ولما تقلد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين محمود بن بدر ، المعروف بابن بنت الأعز العلائي الشافعيّ ، قضاء القضاة بالديار المصرية ، ونظر الأحباس في ولايته الثانية أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداريّ ، كشف الجامع بنفسه ، فوجد مؤخره قد مال إلى بحريه ، ووجد سوره البحريّ قد مال وانقلب علوه عن سمت سفله ، ورأى في سطح الجامع غرفا كثيرة محدثة ، وبعضها مزخرف ، فهدم الجميع ولم يدع بالسطح سوى غرفة المؤذنين القديمة وثلاث خزائن لرؤساء المؤذنين لا غير ، وجمع أرباب الخبرة فاتفق الرأي على إبطال جريان الماء إلى فوّارة الفسقية ، وكان الماء يصل إليها من بحر النيل ، فأمر بإبطاله لما كان فيه من الضرر على جدر الجامع ، وعمر بغلات بالزيادة البحرية تشدّ جدار الجامع البحريّ ، وزاد في عمد الزيادة ما قوّى به البغلات المذكورة ، وسدّ شباكين كانا في الجدار المذكور ليتقوّى بذلك ، وأنفق المصروف على ذلك من مال الأحباس ، وخشي أن يتداعى الجامع كله إلى السقوط ، فحدّث الصاحب الوزير بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في مفاوضة السلطان في عمارة ذلك من بيت المال ، فاجتمعا معا بالسلطان الملك الظاهر بيبرس وسألاه في ذلك ، فرسم بعمارة الجامع ، فهدم الجدار البحريّ من مقدّم الجامع ، وهو الجدار الذي فيه اللوح الأخضر ، وحط اللوح وأزيلت العمد والقواصر العشر ، وعمر الجدار المذكور وأعيدت العمد والقواصر كما كانت ، وزيد في العمد أربعة قرن ، بها أربعة مما هو تحت اللوح الأخضر ، والصف الثاني منه ،

١٥

وفصل اللوح الأخضر أجزاء وجدّد غيره وأذهب وكتب عليه اسم السلطان الملك الظاهر ، وجليت العمد كلها وبيض الجامع بأسره ، وذلك في شهر رجب سنة ست وستين وستمائة ، وصلّى فيه شهر رمضان بعد فراغه ، ولم تتعطل الصلاة فيه لأجل العمارة.

ولما كان في شهور سنة سبع وثمانين وستمائة ، شكا قاضي القضاة تقيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعز للسلطان الملك المنصور قلاون ، سوء حال جامع عمرو بمصر ، وسوء حال الجامع الأزهر بالقاهرة ، وأن الأحباس على أسوأ الأحوال ، وأن مجد الدين بن الحباب أخرب هذه الجهة لما كان يتحدّث فيها ، وتقرّب بجزيرة الفيل الوقف الصلاحيّ على مدرسة الشافعية إلى الأمير علم الدين الشجاعيّ ، وذكر له بأن في أطيانها زيادة ، فقاسوا ما تجدّد بها من الرمال وجعلوه للوقف ، وأقطعوا الأطيان القديمة الجارية في الوقف ، وتقرّب أيضا إليه بأن في الأحباس زيادة ، من جملتها بالأعمال الغربية ما مبلغه في السنة ثلاثون ألف درهم ، وأن ذلك لجهة عمارة الجامعين ، وسأل السلطان في إعادة ذلك وإبطال ما أقطع منه ، فلم يجب إلى ذلك ، وأمر الأمير حسام الدين طرنطاي بعمارة الجامع الأزهر ، والأمير عز الدين الأفرم بعمارة جامع عمرو ، فحضر الأفرم إلى الجامع بمصر ورسم على مباشري الأحباس ، وكشف المساجد لغرض كان في نفسه ، وبيض الجامع وجرّد نصف العمد التي فيه ، فصار العمود نصفه الأسفل أبيض وباقيه بحاله ، ودهن واجهة غرفة الساعات بالسيلقون ، وأجرى الماء من البئر التي بزقاق الأقفال إلى فسقية الجامع ، ورمى ما كان بالزيادات من الأتربة ، وبطر العوام به فيما فعله بالجامع ، فصاروا يقولون نقل الديماس من البحر إلى الجامع ، لكونه دهن الغرفة بالسيلقون ، وألبس العواميد للشيخ العريان ، لكونه جرّد نصفها التحتانيّ ، فصار أبيض الأسفل أسمر الأعلى ، كما كان الشيخ العريان ، فإن نصفه الأسفل كان مستورا بمئزر أبيض ، وأعلاه عريان ، ولم يفعل بالجامع سوى ما ذكر.

ولما حدثت الزلزلة في سنة اثنتين وسبعمائة ، تشعث الجامع ، فاتفق الأمير أن بيبرس الجاشنكير ، وهو يومئذ أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون ، والأمير سلار ، وهو نائب السلطنة ، وإليهما تدبير الدولة ، على عمارة الجامعين بمصر والقاهرة ، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس عمارة الجامع الحاكميّ بالقاهرة ، وتولى الأمير سلار عمارة جامع عمرو بمصر ، فاعتمد سلار على كاتبه بدر الدين بن الخطاب ، فهدم الحدّ البحريّ من سلّم السطح إلى باب الزيادة البحرية والشرقية ، وأعاده على ما كان عليه ، وعمل بابين جديدين للزيادة البحرية والغربية ، وأضاف إلى كلّ عمود من الصف الأخير المقابل للجدار الذي هدمه عمودا آخر تقوية له ، وجرّد عمد الجامع كلها وبيض الجامع بأسره ، وزاد في سقف الزيادة الغربية رواقين ، وبلط سفل ما أسقف منها ، وخرّب بظاهر مصر وبالقرافتين عدّة مساجد وأخذ عمدها ليرخم بها صحن الجامع ، وقلع من رخام الجامع الذي كان تحت الحصر كثيرا

١٦

من الألواح الطوال ، ورص الجميع عند باب الجامع المعروف بباب الشراربيين ، فنقل من هناك إلى حيث شاء ، ولم يعمل منه في صحن الجامع شيء البتة ، وكان فيما نقل من ألواح الرخام ما طوله أربعة أذرع في عرض ذراع وسدس ، ذهب بجميع ذلك. ولما ولي علاء الدين بن مروانة نيابة دار العدل ، قسم جامعي مصر والقاهرة ، فجعل جامع القاهرة مع نبيه الدين بن السعرتيّ ، وجامع عمرو مع بهاء الدين بن السكريّ ، فسقفت الزيادة البحرية الشرقية ، وكانت قد جعلت حاصلا للحصر ، وجعل لها دار بزين بين البابين يمنع الجانبين من المارّ ، من باب الجامع إلى باب الزيادة المسلوك منه إلى سوق النحاسين ، وبلط أرضها ، ورقع بعض رخام صحن الجامع ، وبلط المجازات ، وعمل عضائد أعتاب تحوز الصحن عن مواضع الصلاة. ولما كان في شهور سنة ست وتسعين وستمائة ، اشترى الصاحب تاج الدين دارا بسوق الأكفانيين وهدمها ، وجعل مكانها سقاية كبيرة ، ورفعها إلى محاذاة سطح الجامع ، وجعل لها ممشى يتوصل إليها من سطح الجامع ، وعمل في أعلاها أربعة بيوت يرتفق بهم في الخلاء ، ومكانا برسم أزيار الماء العذب ، وهدم سقاية الغرفة التي تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة ، وبناها برجا كبيرا من الأرض إلى العلوّ ، حيث كان أوّلا ، وجعل بأعلى هذا البرج بيتا مرتفقا يختص بالغرفة المذكورة ، كما كان أوّلا ، وبيتا ثانيا من خارج الغرفة يرتفق به من هو خارج الغرفة ممن يقرب منها. وعمر القاضي صدر الدين أبو عبد الله محمد بن البارنباريّ ، سقاية في ركن دار عمرو البحريّ الغربيّ من داره الصغرى ، بعد ما كانت قد تهدّمت ، فأعادها كأحسن ما كانت ، ثم إن الجامع تشعث ومالت قواصره ولم يبق إلا أن يسقط ، وأهل الدولة بعد موت الملك الظاهر برقوقا في شغل من اللهو عن عمل ذلك ، فانتدب الرئيس برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ رئيس التجار يومئذ بديار مصر ، لعمارة الجامع بنفسه وذويه ، وهدم صدر الجامع بأسره فيما بين المحراب الكبير إلى الصحن طولا وعرضا وأزال اللوح الأخضر وأعاد البناء كما كان أوّلا ، وجدّد لوحا أخضر بدل الأوّل ونصبه كما كان ، وهو الموجود الآن ، وجرّد العمد كلها ، وتتبع جدار الجامع فرمّ شعثها كله ، وأصلح من رخام الصحن ما كان قد فسد ، ومن السقوف ما كان قد وهى ، وبيض الجامع كله ، فجاء كما كان وعاد جديدا بعد ما كاد أن يسقط ، ولا أقام الله عزوجل هذا الرجل مع ما عرف من شحه وكثرة ضنته بالمال ، حتى عمره. فشكر الله سعيه وبيض محياه ، وكان انتهاء هذا العمل في سنة أربع وثمانمائة ، ولم يتعطل منه صلاة جمعة ولا جماعة في مدّة عمارته.

قال ابن المتوج إن ذرع هذا الجامع اثنان وأربعون ألف ذراع بذراع البز المصريّ القديم ، وهو ذراع الحصر المستمرّ إلى الآن ، فمن ذلك مقدّمة ثلاثة عشر ألف ذراع وأربعمائة وخمسة وعشرون ذراعا ، ومؤخره مثل ذلك ، وصحنه سبعة آلاف وخمسمائة ذراع ، وكلّ من جانبيه الشرقيّ والغربيّ ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسة وعشرون ذراعا ،

١٧

وذرعه كله بذراع العمل ثمانية وعشرون ألف ذراع ، وعدد أبوابه ثلاثة عشر بابا ، منها في القبليّ باب الزيز لخته الذي يدخل منه الخطيب ، كان به شجرة زيزلخت عظيمة ، قطعت في سنة ست وستين وسبعمائة ، وفي البحري ثلاثة أبواب ، وفي الشرقيّ خمسة ، وفي الغربيّ أربعة ، وعدد عمده ثلاثمائة وثمانية وسبعون عمودا ، وعدد مآذنه خمس ، وبه ثلاث زيادات ، فالبحرية الشرقية كانت لجلوس قاضي القضاة بها في كل أسبوع يومين ، وكان بهذا الجامع القصص.

قال القضاعيّ : روى نافع عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : لم يقص في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان رضي‌الله‌عنهم ، وإنما كان القصص في زمن معاوية رضي‌الله‌عنه. وذكر عمر بن شيبة قال : قيل للحسن متى أحدث القصص؟ قال : في خلافة عثمان بن عفان. قيل : من أوّل من قص؟ قال : تميم الداري.

وذكر عن ابن شهاب قال : أوّل من قص في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تميم الداري ، استأذن عمر أن يذكر الناس فأبى عليه حتى كان آخر ولايته ، فاذن له أن يذكر في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر ، فاستأذن تميم عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه في ذلك فأذن له أن يذكر يومين في الجمعة ، فكان تميم يفعل ذلك.

وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أنّ عليا رضي‌الله‌عنه قنت ، فدعا على قوم من أهل حربه ، فبلغ ذلك معاوية ، فأمر رجلا يقص بعد الصبح وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام ، قال يزيد : وكان ذلك أول القصص.

وروي عن عبد الله بن مغفل قال : أمّنا عليّ رضي‌الله‌عنه في المغرب ، فلما رفع رأسه من الركعة الثالثة ذكر معاوية أوّلا ، وعمرو بن العاص ثانيا ، وأبا الأعور ، يعني السلميّ ثالثا ، وكان أبو موسى الرابع.

وقال الليث بن سعد : هما قصصان ، قصص العامّة ، وقصص الخاصة ، فأما قصص العامّة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم ، فذلك مكروه ولمن فعله ولمن استمعه ، وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية ، ولّى رجلا على القصص ، فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عزوجل وحمده ومجده وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعا للخليفة ولأهل ولايته ولحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة.

ويقال أن أوّل من قص بمصر سليمان بن عتر التجيبي ، في سنة ثمان وثلاثين ، وجمع له القضاء إلى القصص ، ثم عزل عن القضاء وأفرد بالقصص ، وكانت ولايته على القصص والقضاء سبعا وثلاثين سنة ، منها سنتان قبل القضاء. ويقال أنه كان يختم القرآن في كلّ ليلة ثلاث مرّات ، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ويسجد في المفصل ، ويسلّم

١٨

تسليمة واحدة ، ويقرأ في الركعة الأولى بالبقرة ، وفي الثانية بقل هو الله أحد ، ويرفع يديه في القصص إذا دعا. وكان عبد الملك بن مروان شكا إلى العلماء ما انتشر عليه من أمور رعيته وتحوّفه من كلّ وجه. فأشار عليه أبو حبيب الحمصيّ القاضي بأن يستنصر عليهم برفع يديه إلى الله تعالى ، فكان عبد الملك يدعو ويرفع يديه ، وكتب بذلك إلى القصاص فكانوا يرفعون أيديهم بالغداة والعشي.

وفي هذا الجامع مصحف أسماء ، وهو الذي تجاه المحراب الكبير. قال القضاعيّ : كان السبب في كتب هذا المصحف ، أنّ الحجاج بن يوسف الثقفيّ كتب مصاحف وبعث بها إلى الأمصار ، ووجه إلى مصر بمصحف منها ، فغضب عبد العزيز بن مروان من ذلك ، وكان الوالي يومئذ من قبل أخيه عبد الملك وقال : يبعث إلى جند أنا فيه بمصحف؟ فأمر فكتب له هذا المصحف الذي في المسجد الجامع اليوم ، فلما فرغ منه قال : من وجد فيه حرفا خطأ فله رأس أحمر وثلاثون دينارا ، فتداوله القرّاء ، فأتى رجل من قراء الكوفة اسمه زرعة بن سهل الثقفيّ فقرآه تهجيا ، ثم جاء إلى عبد العزيز بن مروان فقال له : إني قد وجدت في المصحف حرفا خطأ. فقال : مصحفي؟ قال نعم. فنظر فإذا فيه إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة. فإذا هي مكتوبة نجعة ، قد قدّمت الجيم قبل العين ، فأمر بالمصحف فأصلح ما كان فيه ، وأبدلت الورقة ، ثم أمر له بثلاثين دينارا وبرأس أحمر ، ولما فرغ من هذا المصحف كان يحمل إلى المسجد الجامع غداة كلّ جمعة ، من دار عبد العزيز ، فيقرأ فيه ثم يقص ثم يردّ إلى موضعه. فكان أوّل من قرأ فيه عبد الرحمن بن حجيرة الخولانيّ ، لأنه كان يتولى القصص والقضاء يومئذ ، وذلك في سنة ست وسبعين ، ثم تولى بعده القصص أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزنيّ ، وكان قاضيا بالاسكندرية قبل ذلك ، ثم توفي عبد العزيز في سنة ست وثمانين ، فبيع هذا المصحف في ميراثه ، فاشتراه ابنه أبو بكر بألف دينار ، ثم توفي أبو بكر فاشترته أسماء ابنة أبي بكر بن عبد العزيز بسبعمائة دينار ، فأمكنت الناس منه وشهرته ، فنسب إليها. فلما توفيت أسماء اشتراه أخوها الحكم بن عبد العزيز بن مروان من ميراثها بخمسمائة دينار ، فأشار عليه توبة بن نمر الحضرميّ القاضي ، وهو متولي القصص يومئذ بالمسجد الجامع ، بعد عقبة بن مسلم الهمدانيّ ، وإليه القضاء. وذلك في سنة ثمان عشرة ومائة ، فجعله في المسجد الجامع ، وأجرى على الذي يقرأ فيه ثلاثة دنانير في كل شهر من غلة الإصطبل ، فكان توبة أوّل من قرأ فيه بعد أن أقرّ في الجامع ، وتولى القصص بعد توبة أبو اسماعيل خير بن نعيم الحضرميّ القاضي ، في سنة عشرين ومائة ، وجمع له القضاء والقصص ، فكان يقرأ في المصحف قائما ، ثم يقص وهو جالس ، فهو أوّل من قرأ في المصحف قائما ، ولم تزل الأئمة يقرءون في المسجد الجامع في هذا المصحف في كلّ يوم جمعة ، إلى أن ولي القصص أبو رجب العلاء بن عاصم الخولانيّ ، في سنة اثنتين وثمانين ومائة فقرأ فيه يوم الاثنين ، وكان قد جعل المطلب الخزاعيّ أمير مصر ، من قبل

١٩

المأمون ، رزق أبي رجب العلاء عشرة دنانير على القصص ، وهو أوّل من سلّم في الجامع تسليمتين بكتاب ورد من المأمون يأمر فيه بذلك ، وصلّى خلفه محمد بن إدريس الشافعيّ حين قدم إلى مصر ، فقال : هكذا تكون الصلاة ، ما صليت خلف أحد أتم صلاة من أبي رجب ولا أحسن.

ولما ولي القصص حسن بن الربيع بن سليمان ، من قبل عنبسة بن إسحاق أمير مصر ، من قبل المتوكل في سنة أربعين ومائتين ، أمر أن تترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ، فتركها الناس. وأمر أن تصلّى التراويح خمس تراويح ، وكانت تصلّى قبل ذلك ست تراويح ، وزاد في قراءة المصحف يوما ، فكان يقرأ يوم الاثنين ويوم الخميس ويوم الجمعة.

ولما ولي حمزة بن أيوب بن إبراهيم الهاشميّ القصص بكتاب من المكتفي ، في سنة اثنتين وتسعين ومائتين ، صلّى في مؤخر المسجد حين نكس ، وأمر أن يحمل إليه المصحف ليقرأ فيه ، فقيل له انه لم يحمل المصحف إلى أحد قبلك ، فلو قمت وقرأت فيه في مكانه.

فقال : لا أفعل ، ولكن ائتوني به فإن القرآن علينا أنزل ، وإلينا أتى. فأتي به ، فقرأ فيه في المؤخر وهو أوّل من قرأ في المصحف في المؤخر ، ولم يقرأ في المصحف بعد ذلك في المؤخر إلى أن تولى أبو بكر محمد بن الحسن السوسيّ الصلاة والقصص ، في اليوم العشرين من شعبان ، سنة ثلاث وأربعمائة ، فنصب المصحف في مؤخر الجامع حيال الفوّارة وقرأ فيه أيام نكس الجامع ، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن.

ولما تولى القصص أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلم الملطيّ ، في سنة إحدى وثلاثمائة عزم على القراءة في المصحف في كلّ يوم ، فتكلم عليّ بن قديد في ذلك ومنع منه وقال : أعزم على أن يخلق المصحف ويقطعه ، أيرى عبد العزيز بن مروان حيا فيكتب له مثله ، فرجع إلى القراءة ثلاثة أيام.

وكان قد حضر إلى مصر رجل من أهل العراق وأحضر مصحفا ذكر أنه مصحف عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار ، وكان فيه أثر الدم ، وذكر أنه استخرج من خزائن المقتدر ، ودفع المصحف إلى عبد الله بن شعيب المعروف بابن بنت وليد القاضي ، فأخذه أبو بكر الخازن وجعله في الجامع ، وشهره وجعل عليه خشبا منقوشا ، وكان الإمام يقرأ فيه يوما ، وفي مصحف أسماء يوما ، ولم يزال على ذلك إلى أن رفع هذا المصحف واقتصر على القراءة في مصحف أسماء ، وذلك في أيام العزيز بالله ، لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقد أنكر قوم أن يكون هذا المصحف مصحف عثمان رضي‌الله‌عنه ، لأن نقله لم يصح ، ولم يثبت بحكاية رجل واحد. ورأيت أنا هذا المصحف وعلى ظهر مما نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، هذا المصحف الجامع لكتاب الله جل ثناؤه وتقدّست أسسماؤه ، حمله المبارك مسعود بن سعد

٢٠