كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

قال : وهذه التسمية غلبت على هذه الطائفة ، فيقال رجل صوفيّ ، وللجماعة الصوفية ، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوّف ، وللجماعة المتصوّفة ، وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق ، واو ظهر فيه أنه كاللّقب ، فأمّا قول من قال أنه من الصوف ، وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص ، فذلك وجه ، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. ومن قال : إنهم ينسبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفيّ. ومن قال إنه من الصفاء ، فاشتقاق الصوفيّ من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة ، وقول من قال أنه مشتق من الصف ، فكأنهم في الصف الأوّل بقلوبهم من حيث المحاضرة مع الله تعالى ، فالمعنى صحيح ، لكنّ اللغة لا تقتضي هذه النسبة من الصف ، ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق ، والله أعلم. وقال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرورديّ رحمه‌الله : والصوفيّ يضع الأشياء في مواضعها ، ويدبر الأوقات والأحوال كلها بالعلم ، يقيم الخلق مقامهم ، ويقيم أمر الحق مقامه ، ويستر ما ينبغي أن يستر ، ويظهر ما ينبغي أن يظهر ، ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص ، فقوم من المفتونين لبسوا ألبسة الصوفية لينسبوا إليهم وما هم منهم بشيء ، بل هم في غرور وغلط ، يتسترون بلبسة الصوفية توقيا تارة ودعوة أخرى ، وينتهجون مناهج أهل الإباحة ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله تعالى ، وأن هذا هو الظفر بالمراد والارتسام بمراسم الشريعة ، رتبة العوام والقاصرين الإفهام ، وهذا هو عين الإلحاد والزندقة والإبعاد ، ولله در القائل :

تنازع الناس في الصوفيّ واختلفوا

فيه وظنوه مشتقا من الصوف

ولست انحل هذا الاسم غير فتى

صافي وصوفي حتى سميّ الصوفي

قال مؤلفه : ذهب والله ما هنالك وصارت الصوفية. كما قال الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري :

ما شروط الصوفي في عصرنا اليو

م سوى ستة بغير زياده

وهي نيك العلوق (١) والسكر والسط

لة والرقص والغنا والقياده

وإذا ما هذى وأبدى اتحادا

وحلولا من جهله أو إعاده

وأتى المنكرات عقلا وشرعا

فهو شيخ الشيوخ ذو السجّاده

ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها حتى صاروا من سقط المتاع ، لا ينسبون إلى علم ولا ديانة ، وإلى الله المشتكى. وأوّل من اتخذ بيتا للعبادة زيد بن صوحان بن صبرة ،

__________________

(١) العلوق : يقال : علقّت المرأة علوقا : أي حبلت.

٢٨١

وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرّغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات ، فبنى لهم دورا وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره ، فجاء يوما ليزورهم فسأل عنهم فإذا عبد الله بن عامر عامل البصرة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه قد دعاهم. فأتاه فقال له : يا ابن عامر ما تريد من هؤلاء القوم؟ قال : أريد أن أقرّبهم فيشفعوا فأشفعهم ، ويسألوا فأعطيهم ، ويشيروا عليّ فأقبل منهم. فقال : لا ولا كرامة ، فتأتي إلى قوم قد انقطعوا إلى الله تعالى فتدنسهم بدنياك وتشركهم في أمرك ، حتى إذا ذهبت أديانهم أعرضت عنهم فطاحوا لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة ، قوموا فارجعوا إلى مواضعكم. فقاموا ، فأمسك ابن عامر فما نطق بلفظة. ذكره أبو نعيم.

الخانكاه الصلاحية ، دار سعيد السعداء ، دويرة الصوفية

هذه الخانكاه بخط رحبة باب العيد من القاهرة ، كانت أوّلا دارا تعرف في الدولة الفاطمية بدار سعيد السعداء ، وهو الأستاذ قنبر ، ويقال عنبر. وذكر ابن ميسر أن اسمه بيان ، ولقبه سعيد السعداء ، أحد الأستاذين المحنكين خدّام القصر ، عتيق الخليفة المستنصر ، قتل في سابع شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، ورمي برأسه من القصر ، ثم صلبت جثته بباب زويلة من ناحية الخرق ، وكانت هذه الدار مقابل دار الوزارة. فلما كانت وزارة العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك سكنها وفتح من دار الوزارة إليها سردابا تحت الأرض ليمرّ فيه ، ثم سكنها الوزير شاور بن مجير في أيام وزارته ، ثم ابنه الكامل. فلما استبدّ الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي بملك مصر بعد موت الخليفة العاضد ، وغير رسوم الدولة الفاطمية ، ووضع من قصر الخلافة ، وأسكن فيه أمراء دولته الأكراد ، عمل هذه الدار برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة ، ووقفها عليهم في سنة تسع وستين وخمسمائة ، وولى عليهم شيخا ، ووقف عليهم بستان الحبانية بجوار بركة الفيل خارج القاهرة ، وقيسارية الشراب بالقاهرة ، وناحية دهمر ، ومن البهنساوية ، وشرط أنّ من مات من الصوفية وترك عشرين دينارا فما دونها كانت للفقراء ، ولا يتعرّض لها الديوان السلطانيّ ، ومن أراد منهم السفر يعطى تسفيره ، ورتّب للصوفية في كلّ يوم طعاما ولحما وخبزا ، وبنى لهم حمّاما بجوارهم ، فكانت أوّل خانكاه عملت بديار مصر. وعرفت بدويرة الصوفية ، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ ، واستمرّ ذلك بعده إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة ، واتضعت الأحوال وتلاشت الرتب ، فلقب كل شيخ خانكاه بشيخ الشيوخ ، وكان سكانها من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم ، وولي مشيختها الأكابر والأعيان كأولاد شيخ الشيوخ بن حمويه ، مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش وتقدمة العساكر. ووليها ذو الرياستين الوزير الصاحب قاضي القضاة تقيّ الدين عبد الرحمن بن ذي الرياستين الوزير الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت

٢٨٢

الأعز ، وجماعة من الأعيان ، ونزل بها الأكابر من الصوفية.

وأخبرني الشيخ أحمد بن عليّ القصار رحمه‌الله : أنه أدرك الناس في يوم الجمعة يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه سعيد السعداء عند ما يتوجهون منها إلى صلاة الجمعة بالجامع الحاكميّ ، كي تحصل لهم البركة والخير بمشاهدتهم ، وكان لهم في يوم الجمعة هيئة فاضلة ، وذلك أنه يخرج شيخ الخانقاه منها وبين يديه خدّام الربعة الشريفة قد حملت على رأس أكبرهم ، والصوفية مشاة بسكون وخفر إلى باب الجامع الحاكميّ الذي يلي المنبر ، فيدخلون إلى مقصورة كانت هناك على يسرة الداخل من الباب المذكور تعرف بمقصورة البسملة ، فإنه بها إلى اليوم بسملة قد كتبت بحروف كبار ، فيصلي الشيخ تحية المسجد تحت سحابة منصوبة له دائما ، وتصلي الجماعة ، ثم يجلسون وتفرّق عليهم أجزاء الربعة فيقرؤون القرآن حتى يؤذن المؤذنون ، فتؤخذ الأجزاء منهم ويشتغلون بالتركع واستماع الخطبة ، وهم منصتون خاشعون ، فإذا قضيت الصلاة والدعاء بعدها قام قاريء من قرّأ الخانقاه ورفع صوته بقراءة ما تيسر من القرآن ، ودعا للسلطان صلاح الدين ، ولواقف الجامع ولسائر المسلمين ، فإذا فرغ قام الشيخ من مصلاه وسار من الجامع إلى الخانقاه والصوفية معه كما كان توجههم إلى الجامع ، فيكون هذا من أجمل عوايد القاهرة ، وما برح الأمر على ذلك إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ نظر الخانقاه المذكورة في يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة ، فنزل إليها وأخرج كتاب الوقف ، وأراد العمل بما فيه من شرط الواقف ، فقطع من الصوفية المنزلين بها عشرات ممن له منصب ومن هو مشهور بالمال ، وزاد الفقراء المجرّدين وهم المقيمون بها في كلّ يوم رغيفا من الخبز ، فصار لكلّ مجرّد أربعة أرغفة بعد ما كانت ثلاثة ، ورتب بالخانقاه وظيفتي ذكر بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد صلاة الصبح ، فكثر النكير على السالميّ ممن أخرجهم ، وزاد الإشلاء.

فقال بعض أدباء العصر في ذلك :

يا أهل خانقة الصلاح أراكم

ما بين شاك للزمان وشاتم

يكفيكم ما قد أكلتم باطلا

من وقفها وخرجتم بالسّالم

وكان سبب ولاية السالميّ نظر الخانقاه المذكورة ، أن العادة كانت قديما أنّ الشيخ هو الذي يتحدّث في نظرها ، فلما كانت أيام الظاهر برقوق ولي مشيختها شخص يعرف بالشيخ محمد البلاليّ قدم من البلاد الشامية ، وصار للأمير سودون الشيخونيّ نائب السلطنة بديار مصر فيه اعتقاد ، فلما سعى له في المشيخة واستقرّ فيها بتعيينه ، سأله أن يتحدّث في النظر إعانة له ، فتحدّث ، وكانت عدّة الصوفية بها نحو الثلاثمائة رجل ، لكلّ منهم في اليوم ثلاثة أرغفة زنتها ثلاثة أرطال خبز ، وقطعة لحم زنتها ثلث رطل في مرق ، ويعمل لهم الحلوى في كلّ شهر ، ويفرّق فيهم الصابون ، ويعطي كلّ منهم في السنة عن ثمن كسوة قدر أربعين

٢٨٣

درهما ، فنزّل الأمير سودون عندهم جماعة كثيرة عجز ريع الوقف عن القيام لهم بجميع ما ذكر ، فقطعت الحلوى والصابون والكسوة ، ثم إن ناحية دهمر وشرقّت في سنة تسع وتسعين لقصور ماء النيل ، فوقع العزم على غلق مطبخ الخانقاه وإبطال الطعام ، فلم تحتمل الصوفية ذلك وتكرّرت شكواهم للملك الظاهر برقوق ، فولّى الأمير يلبغا السالميّ النظر ، وأمره أن يعمل بشرط الواقف.

فلما نزل إلى الخانقاه وتحدّث فيها ، اجتمع بشيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ وأوقفه على كتاب الوقف ، فأفتاه بالعمل بشرط الواقف ، وهو أن الخانقاه تكون وقفا على الطائفة الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة والقاطنين بالقاهرة ومصر ، فإن لم يوجدوا كانت على الفقراء من الفقهاء الشافعية والمالكية الأشعرية الاعتقاد ، ثم إنه جمع القضاة وشيخ الإسلام وسائر صوفية الخانقاه بها وقرأ عليهم كتاب الوقف ، وسأل القضاة عن حكم الله فيه ، فانتدب للكلام رجلان من الصوفية ، هما زين الدين أبو بكر القمنيّ ، وشهاب الدين أحمد العباديّ الحنفيّ ، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، فأشار القضاة على السالميّ أن يعمل بشرط الواقف وانصرفوا ، فقطع منهم نحو الستين رجلا ، منهم المذكوران ، فامتعض العباديّ وغضب من ذلك وشنّع بأنّ السالميّ قد كفر ، وبسط لسانه بالقول فيه ، وبدت منه سماجات فقبض عليه السالميّ وهو ماش بالقاهرة ، فاجتمع عدّة من الأعيان وفرّقوا بينهما ، فبلغ ذلك السلطان فأحضر القضاة والفقهاء وطلب العباديّ في يوم الخميس ثامن شهر رجب وادّعى عليه السالميّ ، فاقتضى الحال تعزيره ، فعزر وكشف رأسه وأخرج من القلعة ماشيا بين يدي القضاة ووالي القاهرة إلى باب زويلة ، فسجن بحبس الديلم ، ثم نقل منه إلى حبس الرحبة ، فلما كان يوم السبت حادي عشرة ، استدعي إلى دار قاضي القضاة جمال الدين محمود القيصريّ الحنفيّ ، وضرب بحضرة الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ والي القاهرة نحو الأربعين ضربة بالعصا تحت رجليه ، ثم أعيد إلى الحبس ، وأفرج عنه في ثامن عشرة بشفاعة شيخ الإسلام فيه ، ولما جدّد الأمير يلبغا السالميّ الجامع الأقمر ، وعمل له منبرا وأقيمت به الجمعة في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وثمانمائة ، الزم الشيخ بالخانقاه والصوفية أن يصلوا الجمعة به ، فصاروا يصلّون الجمعة فيه إلى أن زالت أيام السالميّ ، فتركوا الاجتماع بالجامع الأقمر ، ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه من الاجتماع بالجامع الحاكميّ ، ونسي ذلك. ولم يكن بهذه الخانقاه مئذنة ، والذي بنى هذه المئذنة شيخ ولي مشيختها في سنة بضع وثمانين وسبعمائة ، يعرف بشهاب الدين أحمد الأنصاريّ ، وكان الناس يمرّون في صحن الخانقاه بنعالهم ، فجدّد شخص من الصوفية بها يعرف بشهاب الدين أحمد العثمانيّ هذا الدرابزين وغرس فيه هذه الأشجار ، وجعل عليها وقفا لمن يتعاهدها بالخدمة.

٢٨٤

خانقاه ركن الدين بيبرس

هذه الخانقاه من جملة دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب ، وهي أجلّ خانقاه بالقاهرة بنيانا ، وأوسعها مقدارا وأتقنها صنعة ، بناها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ قبل أن يلي السلطنة ، وهو أمير. فبدأ في بنائها في سنة ست وسبعمائة ، وبنى بجانبها رباطا كبيرا يتوصل إليه من داخلها ، وجعل بجانب الخانقاه قبة بها قبره ، ولهذه القبة شبابيك تشرف على الشارع المسلوك فيه من رحبة باب العيد إلى باب النصر ، من جملتها الشباك الكبير الذي حمله الأمير أبو الحارث البساسيريّ من بغداد ، لما غلب الخليفة القائم العباسيّ وأرسل بعمامته وشباكه الذي كان بدار الخلافة في بغداد ، وتجلس الخلفاء فيه ، وهو هذا الشباك كما ذكر في أخبار دار الوزارة من هذا الكتاب. فلما ورد هذا الشباك من بغداد عمل بدار الوزارة واستمر فيها إلى أن عمر الأمير بيبرس الخانقاه المذكورة فجعل هذا الشباك بقبة الخانقاه ، وهو بها إلى يومنا هذا ، وإنه لشباك جليل القدر. حشم يكاد يتبين عليه أبهة الخلافة. ولما شرع في بنائها رفق بالناس ولا طفهم ولم يعسف فيها أحدا في بنائها ولا أكره صانعا ولا غصب من آلاتها شيئا ، وإنما اشترى دار الأمير عز الدين الأفرم التي كانت بمدينة مصر ، واشترى دار الوزير هبة الله بن صاعد الفائزيّ ، وأخذ ما كان فيهما من الأنقاض ، واشترى أيضا دار الأنماط التي كانت برأس حارة الجودرية من القاهرة ونقضها وما حولها ، واشترى أملاكا كانت قد بنيت في أرض دار الوزارة من ملاكها بغير إكراه وهدمها ، فكان قياس أرض الخانقاه والرباط والقبة نحو فدّان وثلث.

وعندما شرع في بنائها حضر إليه الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخريّ أمير سلاح ، وأراد التقرّب لخاطره ، وعرّفه أن بالقصر الذي فيه سكن أبيه مغارة تحت الأرض كبيرة يذكر أنّ فيها ذخيرة من ذخائر الخلفاء الفاطميين ، وأنهم لما فتحوها لم يجدوا بها سوى رخام كثير فسدّوها ولم يتعرّضوا لشيء مما فيها ، فسرّ بذلك وبعث عدّة من الأمراء فتحوا المكان فإذا فيه رخام جليل القدر عظيم الهيئة ، فيه ما لا يوجد مثله لعظمه ، فنقله من المغارة ورخم منه الخانقاه والقبة وداره التي بالقرب من البندقانيين وحارة زويلة ، وفضل منه شيء كثير عهدي أنه مختزن بالخانقاه ، وأظنه أنه باق هناك. ولما كملت في سنة تسع وسبعمائة ، قرّر بالخانقاه أربعمائة صوفيّ ، وبالرباط مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت ، وجعل بها مطبخا يفرّق على كلّ منهم في كلّ يوم اللحم والطعام وثلاثة أرغفة من خبز البرّ ، وجعل لهم الحلوى ، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ له مدرّس ، وعنده عدّة من المحدّثين ، ورتب القرّاء بالشباك الكبير يتناوبون القراءة فيه ليلا ونهارا ، ووقف عليها عدّة ضياع بدمشق وحماه ومنية المخلص

٢٨٥

بالجيزة من أرض مصر وبالصعيد والوجه البحريّ والربع والقيسارية بالقاهرة.

فلما خلع من السلطنة وقبض عليه الملك الناصر محمد بن قلاون وقتله ، أمر بغلقها فغلقت ، وأخذ سائر ما كان موقوفا عليها ومحا اسمه من الطراز الذي بظاهرها فوق الشبابيك ، وأقامت نحو عشرين سنة معطلة ، ثم إنه أمر بفتحها في أوّل سنة ست وعشرين وسبعمائة ، ففتحت ، وأعاد إليها ما كان موقوفا عليها ، واستمرّت إلى أن شرقت أراضي مصر لقصور مدّ النيل أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ست وسبعين وسبعمائة ، فبطل طعامها وتعطل مطبخها ، واستمرّ الخبز ومبلغ سبعة دراهم لكلّ واحد في الشهر بدل الطعام ، ثم صار لكلّ واحد منهم في الشهر عشرة دراهم ، فلما قصر مدّ النيل في سنة ست وتسعين وسبعمائة ، بطل الخبز أيضا وغلق المخبز من الخانقاه ، وصار الصوفية يأخذون في كلّ شهر مبلغا من الفلوس معاملة القاهرة ، وهم على ذلك إلى اليوم. وقد أدركتها ولا يمكّن بوّابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها لما لها في النفوس من المهابة ، ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد ، وكان لا ينزل بها أمرد ، وفيها جماعة من أهل العلم والخير ، وقد ذهب ما هنالك فنزل بها اليوم عدّة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامّة ، إلّا أن أوقافها عامرة وأرزاقها دارّة بحسب نقود مصر ، ومن حسن بناء هذه الخانقاه أنه لم يحتج فيها إلى مرمّة منذ بنيت إلى وقتنا هذا ، وهي مبنية بالحجر وكلها عقود محكمة بدل السقوف الخشب ، وقد سمعت غير واحد يقول إنه لم تبن خانقاه أحسن من بنائها.

الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ : اشتراه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في الخدم السلطانية إلى أن جعله أحد الأمراء ، وأقامه جاشنكير وعرف بالشجاعة. فلما مات الملك المنصور خدم ابنه الملك الأشرف خليلا إلى أن قتله الأمير بيدرا بناحية تروجة ، فكان أوّل من ركب على بيدرا في طلب ثار الملك الأشرف ، وكان مهابا بين خشداشيته فركبوا معه ، وكان من نصرتهم على بيدرا وقتله ما قد ذكر في موضعه ، فاشتهر ذكره وصار أستادار السلطان في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سلطنته الثانية ، رفيقا للأمير سلار نائب السلطنة ، وبه قويت الطائفة البرجية من المماليك واشتدّ بأسهم ، وصار الملك الناصر تحت حجر بيبرس وسلار إلى أن أنف من ذلك وسار إلى الكرك ، فأقيم بيبرس في السلطنة يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة ، فاستضعف جانبه وانحط قدره ونقصت مهابته ، وتغلب عليه الأمراء والمماليك ، واضطربت أمور المملكة لمكان الأمير سلار وكثرة حاشيته وميل القلوب إلى الملك الناصر ، وفي أيامه عمل الجسر من قليوب إلى مدينة دمياط وهو مسيرة يومين طولا في عرض أربع قصبات من أعلاه ، وست قصبات من أسفله ، حتى أنه كان يسير عليه ستة من الفرسان معا بحذاء بعضهم ، وأبطل سائر الخمارات من السواحل وغيرها من بلاد الشام ، وسامح بما كان من المقرّر عليها للسلطان ، وعوّض الأجناد بدله ، وكبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة

٢٨٦

ومصر ، وأريقت الخمور وضرب أناس كثير في ذلك بالمقارع ، وتتبع أماكن الفساد وبالغ في إزالته ، ولم يراع في ذلك أحدا من الكتاب ولا من الأمراء ، فخف المنكر وخفي الفساد ، إلا أن الله أراد زوال دولته ، فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك ، وحمل الرسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها ، فحنق من ذلك وكاتب نوّاب الشام وأمراء مصر في السرّ يشكو ما حلّ به ، وترفق بهم وتلطف بهم فرقوا له وامتعضوا لما به ، ونزل الناصر من الكرك وبرز عنها ، فاضطرب الأمر بمصر واختلّ الحال من بيبرس وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئا بعد شيء ، وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبعمائة ، فعندما نزل الكسوة (١) خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه ، ومعهم شعار السلطنة ، ودخلوا به إلى المدينة وقد فرحوا به فرحا كثيرا ، في ثاني عشر شعبان ، ونزل بالقلعة وكاتب النوّاب فقدموا عليه وصارت ممالك الشام كلها تحت طاعته يخطب له بها ويجبى إليه مالها ، ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر ، وأمر بيبرس كلّ يوم في نقص إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان ، فترك بيبرس المملكة ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصه إلى جهة باب الفراقة ، والعامّة تصيح عليه وتسبه وترجمه بالحجارة ، عصبية للملك الناصر وحبا له ، حتّى سار عن القرافة ، ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر ، فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما ، وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوّال ، وجلس على تخت المملكة واستولى على السلطنة مرّة ثالثة ، ونزل بيبرس بأطفيح ثم سار منها إلى أخميم ، فلما صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك فصاروا إلى الملك الناصر ، فتوجه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشام فقبض عليه شرقيّ غزة وحمل مقيدا إلى الملك الناصر ، فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة ، وأوقف بين يدي السلطان وقبّل الأرض ، فعنفه وعدّد عليه ذنوبا ووبخه ، ثم أمر به فسجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشرة ، وفيها لحق بربه تعالى ، فحمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي ، ثم نقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانا طويلا ، ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبتها ، وقبره هناك إلى يومنا هذا. ، وأدركت بالخانقاه المذكورة شيخا من صوفيتها أخبرني أنه حضر نقله من ترتبه بالقرافة إلى قبة الخانقاه ، وأنه تولى وضعه في مدفنه بنفسه ، وكان رحمه‌الله خيّرا عفيفا كثير الحياء وافر الحرمة جليل القدر عظيما في النفوس مهاب السطوة في أيام أمرته ، فلما تلقب بالسلطنة ووسم باسم الملك ، اتضع قدره واستضعف جانبه ، وطمع فيه ، وتغلب عليه الأمراء والمماليك ، ولم تنجح مقاصده ولا سعد في شيء من تدبيره إلى أن انقضت أيامه وأناخ به حمامه. رحمه‌الله.

__________________

(١) الكسوة : بلدة جنوب دمشق.

٢٨٧

الخانقاه الجمالية

هذه الخانقاه بالقرب من درب راشد ، يسلك إليها من رحبة باب العيد ، بناها الأمير الوزير مغلطاي الجماليّ في سنة ثمانين وسبعمائة ، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر المدارس من هذا الكتاب.

الخانقاه الظاهرية

هذه الخانقاه بخط بين القصرين فيما بين المدرسة الناصرية ودار الحديث الكاملية ، أنشأها الملك الظاهر برقوق في سنة ست وثمانين وسبعمائة ، وقد ذكرت عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.

الخانقاه الشرابيشية

هذه الخانقاه فيما بين الجامع الأقمر وحارة برجوان في آخر المنحر الذي كان للخلفاء ، وهو يعرف اليوم بالدرب الأصفر ، ويتوصل منها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس ، وبابها الأصليّ من زقاق ضيق بوسط سوق حارة برجوان ، أنشأها الصدر الأجل نور الدين عليّ بن محمد بن محاسن الشرابيشيّ ، وكان من ذوي الغنى واليسار ، صاحب ثراء متسع ، وله عدّة أوقاف على جهات البرّ والقربات ومات في ... (١).

الخانقاه المهمندارية

هذه الخانقاه خارج باب زويلة فيما بين رأس حارة اليانسية وجامع الماردينيّ ، بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار ، ونقيب الجيوش ، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وقد ذكرت في المدارس من هذا الكتاب.

خانقاه بشتاك

هذه الخانقاه خارج القاهرة على جانب الخليج من البرّ الشرقيّ تجاه جامع بشتاك ، أنشأها الأمير سيف الدين بشتاك الناصريّ ، وكان فتحها أوّل يوم من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبعمائة ، واستقرّ في مشيختها شهاب الدين القدسيّ ، وتقرّر عنده عدّة من الصوفية وأجرى لهم الخبز والطعام في كلّ يوم ، فاستمرّ ذلك مدّة ثم بطل ، وصار يصرف لأربابها عوضا عن ذلك في كلّ شهر مبلغ ، وهي عامرة إلى وقتنا هذا ، وقد نسب إليها جماعة منهم الشيخ الأديب البارع بدر الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالبدر البشتكي.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٨٨

خانقاه ابن غراب

هذه الخانقاه خارج القاهرة على الخليج الكبير من برّه الشرقيّ بجوار جامع بشتاك من غريبه ، أنشأها القاضي الأمير سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب الإسكندرانيّ ، ناظر الخاص وناظر الجيوش وأستادار السلطان ، وكاتب السرّ ، وأحد أمراء الألوف الأكابر ، أسلم جد غراب وباشر بالإسكندرية حتى ولي نظر الثغر ، ونشأ ابنه عبد الرزاق هناك ، فولي أيضا نظر الإسكندرية ، وولد له ماجد وإبراهيم. فلما تحكم الأمير جمال الدين محمود بن عليّ في الأموال أيام الملك الظاهر برقوق ، اختص بإبراهيم وحمله إلى القاهرة وهو صبيّ واعتنى به واستكتبه في خاص أمواله حتى عرفها ، فتنكر محمود عليه لأمر بدا منه في ماله ، وهمّ به فبادر إلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ وترامى عليه ، وهو يومئذ قد نافس محمودا فأوصله بالسلطان وأمكنه من سماع كلامه ، فملأ أذنه بذكر أموال محمود ووغر صدره عليه حتى نكبه واستصفى أمواله ، كما ذكر في خبره عند ذكر مدرسة محمود من هذا الكتاب ، وولي ابن غراب نظر الديوان المفرد في حادي عشر صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة ، وعمره عشرون سنة أو نحوها ، وهي أوّل وظيفة وليها ، فاختص بابن الطبلاويّ ولازمه وملأ عينه بكثرة المال ، فتحدّث له في وظيفة نظر الخاص عوضا عن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى ، فوليها في تاسع عشر ذي القعدة ، وغص بمكان ابن الطبلاويّ فعمل عليه عند السلطان حتى غيره عليه وولاه أمره ، فقبض عليه في داره وعلى سائر أسبابه في شعبان في سنة ثمانمائة ، ثم أضيف إليه نظر الجيوش عوضا عن شرف الدين محمد الدمامينيّ في تاسع ذي القعدة سنة ثمانمائة ، فعفّ عن تناول الرسوم وأظهر من الفخر والحشمة والمكارم أمرا كبيرا ، وقدّر الله موت السلطان في شوّال سنة إحدى وثمانمائة بعد ما جعله من جملة أوصيائه ، فباطن الأمير يشبك الخازندار على إزالة الأمير الكبير أيتمش القائم بدولة الناصر فرج بن برقوق ، وعمل لذلك أعمالا حتى كانت الحرب بعد موت السلطان الملك الظاهر بين الأمير أيتمش وبين الأمير يشبك ، في ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانمائة ، التي انهزم فيها أيتمش وعدّة من الأمراء إلى الشام ، وتحكم الأمير يشبك فاستدعى عند ذلك ابن غراب أخاه فخر الدين ماجدا من الإسكندرية ، وهو يلي نظرها إلى قلعة الجبل ، وفوّضت إليه وزارة الملك الناصر فرج بن برقوق ، فقاما بسائر أمور الدولة إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ الأستادارية ، فسلك معه عادته من المنافسة ، وسعى به عند الأمير يشبك حتى قبض عليه ، وتقلد وظيفة الأستادارية عوضا عن السالميّ في رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة ، مضافا إلى نظر الخاص ونظر الجيوش ، فلم يغير زيّ الكتاب ، وصار له ديوان كدواوين الأمراء ، ودقت الطبول على بابه ، وخاطبه الناس وكاتبوه بالأمير ، وسار في ذلك سيرة ملوكية من كثرة العطاء وزيادة الأسمطة والاتساع في الأمور ، والازدياد من المماليك

٢٨٩

والخيول ، والاستكثار من الخول والحواشي ، حتى لم يكن أحد يضاهيه في شيء من أحواله ، إلى أن تنازع الأميران حكم وسودون طاز مع الأمير يشبك ، فكان هو المتولي كبر تلك الحروب ، ثم إنه خرج من القاهرة مغاضبا لأمراء الدولة ، وصار إلى ناحية تروجة يريد جمع العربان ومحاربة الدولة ، فلم يتم له ذلك. وعاد فدخل القاهرة على حين غفلة ، فنزل عند جمال الدين يوسف الأستادار ، فقام بإصلاح أمره مع الأمراء حتى حصل له الغرض ، فظهر واستولى على ما كان عليه إلى أن تنكرت رجال الدولة على الملك الناصر فرج ، فقام مع الأمير يشبك بحرب السلطان إلى أن انهزم الأمير يشبك بأصحابه إلى الشام ، فخرج معه في سنة تسع وثمانمائة ، وأمدّه ومن معه بالأموال العظيمة حتى صاروا عند الأمير شيخ نائب الشام ، واستفز العساكر لقتال الملك الناصر وحرّضهم على المسير إلى حربه ، وخرج من دمشق مع العساكر يريد القاهرة ، وكان من وقعة السعيدية ما كان على ما هو مذكور في خبر الملك الناصر عند ذكر الخانقاه الناصرية من هذا الكتاب ، فاختفى الأمير يشبك وطائفة من الأمراء بالقاهرة ، ولحق ابن غراب بالأمير اينال پاي بن قجماس ، وهو يومئذ أكبر الأمراء الناصرية ، وملأ عينه بالمال ، فتوسط له مع الملك الناصر حتى أمنه وأصبح في داره وجميع الناس على بابه ، ثم تقلد وظيفة نظر الجيوش واختص بالسلطان ، وما زال به حتى استرضاه على الأمير يشبك ومن معه من الأمراء ، وظهروا من الاستتار وصاروا بقلعة الجبل ، فخلع عليهم السلطان وأمّرهم وصاروا إلى دورهم ، فثقل على ابن غراب مكان فتح الدين فتح الله كاتب السرّ ، فسعى به حتى قبض عليه وولي مكانه كتابة السرّ ليتمكن من أغراضه. فلما استقرّ في كتابة السرّ أخذ في نقض دولة الناصر إلى أن تم له مراده ، وصارت الدولة كلها على الناصر ، فخلا به وخيل له وحسّن له الفرار ، فانقاد له وترامى عليه ، فأعدّ له رجلين أحدهما من مماليكه ومعهما فرسان ، ووقفا بهما وراء القلعة ، وخرج الناصر وقت القائلة ومعه مملوك من مماليكه يقال له بيغوت ، وركبا الفرسين وسارا إلى ناحية طرا ، ثم عادا مع قاصدي ابن غراب في مركب من المراكب النيلية ليلا إلى دار ابن غراب ونزلا عنده ، وقد خفي ذلك على جميع أهل الدولة ، وقام ابن غراب بتولية عبد العزيز بن برقوق وأجلسه على تخت الملك عشاء ، ولقبه بالملك المنصور ، ودبر الدولة كما أحب مدّة سبعين يوما إلى أن أحس من الأمراء بتغير ، فأخرج الناصر ليلا وجمع عليه عدّة من الأمراء والمماليك وركب معه بلامة الحرب إلى القلعة ، فلم يلبث أصحاب المنصور وانهزموا ودخل الناصر إلى القلعة واستولى على المملكة ثانيا ، فألقى مقاليد الدولة إلى ابن غراب وفوّض إليه ما وراء سريره ونظمه في خاصته ، وجعله من أكابر الأمراء وناط به جميع الأمور ، فأصبح مولى نعمة كلّ من السلطان والأمراء ، يمنّ عليهم بأنه أبقى لهم مهجهم ، وأعاد إليهم سائر ما كانوا قد سلبوه من ملكهم ، وأمدّهم بما له وقت حاجتهم وفاقتهم إليه ، ويفخر ويتكثر بأنه أقام دولة وأزال دولة ، ثم أزال ما أقام وأقام ما أزال من غير حاجة ولا ضرورة ألجأته إلى شيء من

٢٩٠

ذلك ، وأنه لو شاء أخذ الملك لنفسه ، وترك كتابة السرّ لغلامه وأحد كتابه فخر الدين بن المزوق ترفعا عنها واحتقارا بها ، ولبس هيئة الأمراء ، وهي الكلوتة والقباء وشدّ السيف في وسطه ، وتحوّل من داره التي على بركة الفيل إلى دار بعض الأمراء بحدرة البقر ، فغاضبه القضاة ، وكان عند الانتهاء الانحطاط ، ونزل به مرض الموت فنال في مرضه من السعادة ما لم يسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه ، وصار الأمير يشبك ومن دونه من الأمراء يتردّدون إليه ، وأكثرهم إذا دخل عليه وقف قائما على قدميه حتى ينصرف إلى أن مات يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان وثمانمائة ، ولم يبلغ ثلاثين سنة.

وكانت جنازته أحد الأمور العجيبة بمصر لكثرة من شهدها من الأمراء والأعيان وسائر أرباب الوظائف ، بحيث استأجر الناس السقائف والحوانيت لمشاهدتها ، ونزل السلطان للصلاة عليه ، وصعد إلى القلعة ، فدفن خارج باب المحروق ، وكان من أحسن الناس شكلا وأحلاهم منظرا وأكرمهم يدا مع تدين وتعفف عن القاذورات ، وبسط يد بالصدقات ، إلّا أنه كان غدّارا لا يتوانى عن طلب عدوّه ، ولا يرضى من نكبته بدون إتلاف النفس ، فكم ناطح كبشا وتل عرشا وعالج جبالا شامخة واقتلع دولا من أصولها الراسخة ، وهو أحد من قام بتخريب إقليم مصر ، فإنه ما زال يرفع سعر الذهب حتى بلغ كلّ دينار إلى مائتي درهم وخمسين درهما من الفلوس ، بعد ما كان بنحو خمسة وعشرين درهما ، ففسدت بذلك معاملة الإقليم وقلت أمواله وغلت أسعار المبيعات ، وساءت أحوال الناس ، إلى أن زالت البهجة وانطوى بساط الرقة ، وكاد الإقليم يدمر كما ذكر ذلك عند ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب مصر من هذا الكتاب ، عفا الله عنه وسامحه ، فلقد قام بمواراة آلاف من الناس الذين هلكوا في زمان المحنة ، سنة ست وسنة سبع وثمانمائة ، وتكفينهم ، فلم ينس الله له ذلك وستره كما ستر المسلمين ، وما كان ربك نسيا.

الخانقاه البندقدارية

هذه الخانقاه بالقرب من الصليبة ، كان موضعها يعرف قديما بدويرة مسعود ، وهي الآن تجاه المدرسة الفارقانية وحمّام الفارقاني. أنشأها الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ النجميّ ، وجعلها مسجدا لله تعالى ، وخانقاه ، ورتب فيها صوفية وقرّاء في سنة ثلاث وثمانين وستمائة ، وفي سنة ثمان وأربعين وستمائة استنابه الملك المعز أيبك ، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نوّاب دار العدل ، وإلى أيدكين هذا ينسب الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ ، لأنه كان أوّلا مملوكه ، ثم انتقل منه إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب ، فعرف بين المماليك البحرية ببيبرس البندقداريّ ، وعاش أيدكين إلى أن صار بيبرس سلطان مصر وولاه نيابة السلطنة بحلب ، في سنة تسع وخمسين وستمائة ، وكان الغلاء بها شديدا ، فلم تطل أيامه وفارقها بدمشق بعد محاربة سنقر الأشقر والقبض عليه ، في حادي

٢٩١

عشر صفر سنة تسع وخمسين وستمائة ، فأقام في النيابة نحو شهر ، وصرفه الأمير علاء الدين طيبرس الوزيريّ. فلما خرج السلطان إلى الشام في سنة إحدى وستين وستمائة ، وأقام بالطور ، أعطاه أمرة بمصر وطبلخاناه في ربيع الآخر منها ، ومات في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وستمائة ، ودفن بقبة هذه الخانقاه.

خانقاه شيخو

هذه الخانقاه في خط الصليبة خارج القاهرة تجاه جامع شيخو ، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين شيخو العمريّ في سنة ست وخمسين وسبعمائة ، كان موضعها من جملة قطائع أحمد بن طولون ، وآخر ما عرف من خبره أنه كان مساكن للناس ، فاشتراها الأمير شيخو من أربابها وهدمها في المحرّم من هذه السنة ، فكانت مساحة أرضها زيادة على فدّان ، فاختط فيها الخانقاه وحمّامين وعدّة حوانيت يعلوها بيوت لسكنى العامّة ، ورتب بها دروسا عدّة ، منها أربعة دروس لطوائف الفقهاء الأربعة ، وهم الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة ، ودرسا للحديث النبويّ ، ودرسا لإقراء القرآن بالروايات السبع ، وجعل لكلّ درس مدرّسا وعنده جماعة من الطلبة ، وشرط عليهم حضور الدرس وحضور وظيفة التصوّف ، وأقام شيخنا أكمل الدين محمد بن محمود في مشيخة الخانقاه ، ومدرّس الحنفية ، وجعل إليه النظر في أوقاف الخانقاه ، وقرّر في تدريس الشافعية الشيخ بهاء الدين أحمد بن عليّ السبكيّ ، وفي تدريس المالكية الشيخ خليلا ، وهو متجند الشكل وله إقطاع في الحلقة. وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة موفق الدين الحنبليّ ، ورتب لكل من الطلبة في اليوم الطعام واللحم والخبز ، وفي الشهر الحلوى والزيت والصابون ، ووقف عليها الأوقاف الجليلة ، فعظم قدرها واشتهر في الأقطار ذكرها ، وتخرّج بها كثير من أهل العلم ، وأربت في العمارة على كل وقف بديار مصر إلى أن مات الشيخ أكمل الدين في شهر رمضان سنة ست وثمانين وسبعمائة ، فوليها من بعده جماعة ، ولما حدثت المحن كان بها مبلغ كبير من المال الذي فاض عن مصروفها ، فأخذه الملك الناصر فرج ، وأخذت أحوالها تتناقص حتى صار المعلوم يتأخر صرفه لأرباب الوظائف بها عدّة أشهر ، وهي إلى اليوم على ذلك.

الخانقاه الجاولية

هذه الخانقاه على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش ، فيما بين القاهرة ومصر ، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وقد تقدّم ذكرها في المدارس.

خانقاه الجيبغا المظفري

هذه الخانقاه خارج باب النصر فيما بين قبة النصر وتربة عثمان بن جوشن السعوديّ ، أنشأها الأمير سيف الدين الجيبغا المظفريّ ، وكان بها عدّة من الفقراء يقيمون بها ولهم فيها

٢٩٢

شيخ ، ويحضرون في كل يوم وظيفة التصوّف ، ولهم الطعام والخبز ، وكان بجانبها حوض ماء لشرب الدواب ، وسقّاية بها الماء العذب لشرب الناس ، وكتّاب يقرأ فيه أطفال المسلمين الأيتام كتاب الله تعالى ، ويتعلمون الخط ، ولهم في كلّ يوم الخبز وغيره ، وما برحت على ذلك إلى أن أخرج الأمير برقوق أوقافها ، فتعطلت وأقام بها جماعة من الناس مدّة ثم تلاشى أمرها ، وهي الآن باقية من غير أن يكون فيها سكان ، وقد تعطل حوضها وبطل مكتب السبيل.

الجيبغا المظفريّ : الخاصكي ، تقدّم في أيام الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاون ، تقدّما كثيرا ، بحيث لم يشاركه أحد في رتبته. فلما قام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في السلطنة أقرّه على رتبته ، وصار أحد أمراء المشورة الذين يصدر عنهم الأمر والنهي ، فلما اختلف أمراء الدولة أخرج إلى دمشق في ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، وأقام بدمشق إلى شعبان ، وسار إلى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير بدر الدين مسعود بن الخطيريّ ، فلم يزل على نيابتها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين وسبعمائة ، فكتب إلى الأمير أرغون شاه نائب دمشق يستأذنه في التصيد إلى الناعم (١) ، فأذن له وسار من طرابلس وأقام على بحيرة حمص أياما يتصيد ، ثم ركب ليلا بمن معه وساق إلى خان لاجين ظاهر دمشق ، فوصله أوّل النهار وأقام به يومه ، ثم ركب منه بمن معه ليلا وطرق أرغون شاه وهو بالقصر الأبلق ، وقبض عليه وقيده في ليلة الخميس ثالث عشري شهر ربيع الأوّل ، وأصبح وهو بسوق الخيل ، فاستدعى الأمراء وأخرج لهم كتاب السلطان بإمساك أرغون شاه ، فأذعنوا له واستولى على أموال أرغون شاه. فلما كان يوم الجمعة رابع عشريه ، أصبح أرغون شاه مذبوحا ، فأشاع الجيبغا أن أرغون شاه ذبح نفسه ، وفي يوم الثلاثاء أنكر الأمراء أمره وثاروا لحربه ، فركب وقاتلهم وانتصر عليهم وقتل جماعة منهم وأخذ الأموال وخرج من دمشق وسار إلى طرابلس ، فأقام بها ، وورد الخبر من مصر إلى دمشق بإنكار كل ما وقع والاجتهاد في مسك الجيبغا ، فخرجت عساكر الشام إليه ففرّ من طرابلس ، فأدركه عسكر طرابلس عند بيروت وحاربوه حتى قبضوا عليه ، وحمل إلى عسكر دمشق فقيد وسجن بقلعة دمشق في ليلة السبت سادس عشر ربيع الآخر ، هو وفخر الدين إياس ، ثم وسط بمرسوم السلطان تحت قلعة دمشق بحضور عساكر دمشق ، ووسط معه الأمير فخر الدين إياس وعلقا على الخشب ، في ثامن عشر ربيع الآخر سنة خمسين وسبعمائة ، وعمره دون العشرين سنة ، فما طرّ (٢) شاربه وكأنه البدر حسنا والغصن اعتدالا.

خانقاه سرياقوس

هذه الخانقاه خارج القاهرة من شماليها على نحو بريد منها ، بأوّل تيه بني إسرائيل

__________________

(١) الناعم : حصن من حصون خيبر.

(٢) طرّ : نبت.

٢٩٣

بسماسم سرياقوس ، أنشأها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، وذلك أنه لما بنى الميدان والأحواش في بركة الجبّ ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر بركة الجب ، اتفق أنه ركب على عادته للصيد هناك ، فأخذه ألم عظيم في جوفه كاد يأتي عليه وهو يتجلد ويكتم ما به حتى عجز ، فنزل عن الفرس والألم يتزايد به ، فنذر لله إن عافاه الله ليبنين في هذا الموضع موضعا يعبد الله تعالى فيه ، فخف عنه ما يجده ، وركب فقضى نهمته من الصيد وعاد إلى قلعة الجبل ، فلزم الفراش مدّة أيام ثم عوفي ، فركب بنفسه ومعه عدّة من المهندسين ، واختط على قدر ميل من ناحية سرياقوس هذه الخانقاه ، وجعل فيها مائة خلوة لمائة صوفيّ ، وبنى بجانبها مسجدا تقام به الجمعة ، وبنى بها حمّاما ومطبخا ، وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. فلما كانت سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، كمل ما أراد من بنائها ، وخرج إليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة ومشايخ الخوانك ، ومدّت هناك أسمطة عظيمة بداخل الخانقاه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة ، وتصدّر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ لإسماع الحديث النبويّ ، وقرأ عليه ابنه عز الدين عبد العزيز عشرين حديثا تساعيا ، وسمع السلطان ذلك ، وكان جمعا موفورا ، وأجاز قاضي القضاة الملك الناصر ومن حضر برواية ذلك. وجميع ما يجوز له روايته ، وعند ما انقضى مجلس السماع قرّر السلطان في مشيخة هذه الخانكاه الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي ، ولقّبه بشيخ الشيوخ ، فصار يقال له ذلك ولكلّ من ولي بعده ، وكان قبل ذلك لا يلقب بشيخ الشيوخ إلّا شيخ خانقاه سعيد السعداء ، وأحضرت التشاريف السلطانية فخلع على قاضي القضاة بدر الدين ، وعلى ولده عز الدين ، وعلى قاضي القضاة المالكية ، وعلى الشيخ مجد الدين أبي حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ ، وعلى الشيخ علاء الدين القونويّ شيخ خاقناه سعيد السعداء ، وعلى الشيخ قوام الدين أبي محمد عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازيّ ، شيخ الصوفية بالجامع الجديد الناصريّ ، خارج مدينة مصر ، وعلى جماعة كثيرة. وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف ، وفرّق بها ستين ألف درهم فضة وعاد إلى قلعة الجبل ، فرغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنو الدور والحوانيت والخانات ، حتى صارت بلدة كبيرة تعرف بخانقاه سرياقوس ، وتزايد الناس بها حتى أنشئ فيها سوى حمّام الخانقاه عدّة حمّامات ، وهي إلى اليوم بلدة عامرة ، ولا يؤخذ بها مكس البتة مما يباع من سائر الأصناف احتراما لمكان الخانقاه ، ويعمل هناك في يوم الجمعة سوق عظيم ترد الناس إليه من الأماكن البعيدة ، يباع فيه الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والدجاج والأوز وأصناف الغلات وأنواع الثياب وغير ذلك ، وكانت معاليم هذه الخانكاه من أسنى معلوم بديار مصر ، يصرف لكل صوفيّ في اليوم من لحم الضأن السليج رطل قد طبخ في طعم شهيّ ، ومن الخبز النقيّ أربعة أرطال ويصرف له في كل شهر مبلغ أربعين درهما فضة عنها

٢٩٤

ديناران ورطل حلوى ورطلان زيتا من زيت الزيتون ، ومثل ذلك من الصابون ، ويصرف له ثمن كسوة في كلّ سنة ، وتوسعة في كل شهر رمضان ، وفي العيدين ، وفي مواسم رجب وشعبان وعاشوراء ، وكلما قدمت فاكهة يصرف له مبلغ لشرائها ، وبالخانقاه خزانة بها السكّر والأشربة والأدوية ، وبها الطبائعيّ والجرائحيّ والكحال ومصلح الشعر ، وفي كلّ رمضان يفرّق على الصوفية كيزان لشرب الماء ، وتبيّض لهم قدورهم النحاس ، ويعطون حتى الأسنان (١) لغسل الأيدي من وضر اللحم ، يصرف ذلك من الوقف لكل منهم ، وبالحمّام الحلاق لتدليك أبدانهم وحلق رؤوسهم ، فكان المنقطع بها لا يحتاج إلى شيء غيرها ويتفرّغ للعبادة ، ثم استجدّ بعد سنة تسعين وسبعمائة بها حمّام أخرى برسم النساء ، وما برحت على ما ذكرنا إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فبطل الطعام وصار يصرف لهم في ثمنه مبلغ من نقد مصر ، وهي الآن على ذلك ، وأدركت من صوفيتها شخصا شيخا يعرف بأبي طاهر ، ينام أربعين يوما بلياليها لا يستيقظ فيها البتة ، ثم يستيقظ أربعين يوما لا ينام في ليلها ولا نهارها ، أقام على ذلك عدّة أعوام ، وخبره مشهور عند أهل الخانقاه ، وأخبرني أنه لم يكن في النوم إلّا كغيره من الناس ، ثم كثر نومه حتى بلغ ما تقدّم ذكره ، ومات بهذه الخانقاه في نحو سنة ثمانمائة ، ومما قيل في الخانقاه وما أنشأه السلطان بها :

سر نحو سرياقوس وانزل بفنا

أرجاءها يا ذا النّهي والرشد

تلق محلا للسرور والهنا

فيه مقام للتقي والزهد

نسيمه يقول في مسيره

تنبهي يا عذبات الرند (٢)

وروضه الريان من خليجه

يقول دع ذكر أراضي نجد

خانقاه أرسلان

هذه الخانقاه فيما بين القاهرة ومصر من جملة أراضي منشأة المهرانيّ ، أنشأها الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار.

أرسلان : الأمير بهاء الدين الدوادار الناصريّ ، كان أوّلا عند الأمير سلار أيام نيابته مصر ، خصيصا به حظيا عنده. فلما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك بعساكر الشام ، ونزل بالريدانية ظاهر القاهرة في شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة ، أطلع أرسلان على أن جماعة قد اتفقوا على أن يهجموا على السلطان ويفتكوا به يوم العيد ، أوّل شوّال ، فجاء إليه وعرّفه الحال وقال له : اخرج الساعة واطلع القلعة واملكها. فقام السلطان وفتح باب سر الدهليز وخرج من غير الباب ، وصعد قلعة الجبل وجلس على سرير الملك ، فرعى

__________________

(١) السّنون : مسحوق تجلى به الأسنان وتقوى.

(٢) الرّند : شجر طيب الرائحة من الفصيلة الغاريّة. والرّند : الآس.

٢٩٥

السلطان له هذه المناصحة ، ولما أخرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من وظيفته ، رتّب أرسلان في الدوادارية ، وكان يكتب خطا مليحا ، ودرّبه القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وخرّجه ، وهذبه ، فصار يكتب بخطه إلى كتاب السرّ عن السلطان في المهمات بعبارة مسدّدة وافية بالمقصود ، واستولى على السلطان بحيث لم يكن لغيره في أيامه ذكر ، ولم يشتهر فخر الدين وكريم الدين بعظمة إلّا بعده ، واجتهدا في إبعاده فما قدرا على ذلك ، وفي أيام توليته الدوادارية السلطانية أنشأ هذه الخانكاه على شاطيء النيل ، وكان ينزل في كل ليلة ثلاثاء إليها من القلعة ويبيت بها ، ويحتفل الناس للحضور إليها ، ويرسل عن السلطان إلى مهنا أمير العرب ، ونفع الناس نفعا كبيرا وقلدهم مننا جسيمة ، ومات في ثالث عشري شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة ، فوجد في تركته ألف ثوب أطلس ، ونفائس كثيرة ، وعدّة تواقيع ومناشير معلمة ، فأنكر السلطان معرفتها ونسب إليها اختلاسها ، وأوّل من ولي مشيختها تقيّ الدين أبو البقاء محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الحسينيّ القنائي الشافعيّ ، جدّ الشيخ عبد الرحيم القنائيّ الصالح المشهور ، وأبوه ضياء الدين جعفر ، كان فقيها شافعيا ، وكان أبو البقاء هذا عالما عارفا زاهدا قليل التكلف متقللا من الدنيا ، سمع الحديث وأسمعه ، وولد في سنة خمس وأربعين وستمائة ، ومات ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى ، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، ودفن بالقرافة ، فتداول مشيختها القضاة الأخنائية إلى أن كانت آخرا بيد شيخنا قاضي القضاة صدر الدين عبد الوهاب بن أحمد الأخنائيّ. فلما مات في سنة تسع وثمانين وسبعمائة ، تلقاها عنه عز الدين بن الصاحب ، ثم وليها من بعده ابنه شمس الدين محمد بن الصاحب ، رحمه‌الله.

خانقاه بكتمر

هذه الخانقاه بطرف القرافة في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش ، أنشأها الأمير بكتمر الساقي ، وابتدأ الحضور بها في يوم الثلاثاء ثامن شهر رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة ، وأوّل من استقرّ في مشيختها الشمسيّ شمس الدين الروميّ ، ورتب له عن معلوم المشيخة في كل شهر مائة درهم ، وعن معلوم الإمامة مبلغ خمسين درهما ، ورتب معه عشرين صوفيا لكل منهم في الشهر مبلغ ثلاثين درهما ، فجاءت من أجلّ ما بني بمصر ، ورتب بها صوفية وقرّاء ، وقرّر لهم الطعام والخبز في كل يوم ، والدراهم والحلوى والزيت والصابون في كل شهر ، وبنى بجانبها حمّاما ، وأنشأ هناك بستانا ، فعمرت تلك الخطة وصار بها سوق كبير وعدّة سكان ، وتنافس الناس في مشيختها إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فبطل الطعام والخبز منها وانتقل السكان منها إلى القاهرة وغيرها ، وخربت الحمام والبستان وصار يصرف لأرباب وظائفها مبلغ من نقد مصر ، وأقام فيها رجل يحرسها ، وتمزق ما كان فيها من الفرش والآلات النحاس والكتب والربعات والقناديل النحاس المكفت والقناديل الزجاج المذهب ، وغير ذلك من الأمتعة والنفائس الملوكية ، وخرب ما حولها لخلوّه من السكان.

٢٩٦

بكتمر الساقي : الأمير سيف الدين ، كان أحد مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير ، فلما استقرّ الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد بيبرس ، أخذه في جملة من أخذ من مماليك بيبرس ورقاه حتى صار أحد الأمراء الأكابر ، وكتب إلى الأمير تنكز نائب السلطنة بدمشق بعد أن قبض على الأمير سيف الدين طغاي الكبير يقول له : هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلا من طغاي ، اكتب إليه بما تريد من حوائجك ، فعظم بكتمر وعلا محله وطار ذكره ، وكان السلطان لا يفارقه ليلا ولا نهارا إلّا إذا كان في الدور السلطانية ، ثم زوّجه بجاريته وحظيته ، فولدت لبكتمر ابنه أحمد ، وصار السلطان لا يأكل إلّا في بيت بكتمر مما تطبخه له أمّ أحمد في قدر من فضة ، وينام عندهم ويقوم ، واعتقد الناس أن أحمد ولد السلطان لكثرة ما يطيل حمله وتقبيله ، ولما شاع ذكر بكتمر وتسامع الناس به قدّموا إليه غرائب كلّ شيء ، وأهدوا إليه كل نفيس ، وكان السلطان إذا حمل إليه أحد من النوّاب تقدمة لا بدّ أن يقدّم لبكتمر مثلها أو قريبا منها ، والذي يصل إلى السلطان يهب له غالبه ، فكثرت أمواله وصارت إشارته لا تردّ ، وهو عبارة عن الدولة ، وإذا ركب كان بين يديه مائتا عصا نقيب ، وعمر له السلطان القصر على بركة الفيل.

ولما مات بطريق الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ، خلف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزردخاناه ما يزيد على العادة والحدّ ، ويستحي العاقل من ذكره ، فأخذ السلطان من خيله أربعين فرسا وقال : هذه لي ما وهبته إياها ، وبيع الباقي من الخيل على ما أخذه الخاصكية بثمن بخس بمبلغ ألف ألف درهم فضة ، ومائتي ألف درهم وثمانين ألف درهم فضة ، خارجا عما في الجشارات ، وأنعم السلطان بالزردخاناه والسلاحخاناه التي له على الأمير قوصون بعد ما أخذ منها سرجا واحدا وسيفا ، القيمة عن ذلك ستمائة ألف دينار ، وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهرا مثمنا لا تعلم قيمة ذلك ، وبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات ، ونسخ البخاريّ والدوايات الفولاذ والمطعمة والبصم بسقط الذهب وغير ذلك ، ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندريّ والبغداديّ وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة ، ودام البيع لذلك مدّة شهور.

وامتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور البيع واستعفى من ذلك ، فقيل له لأيّ شيء فعلت ذلك؟ قال : ما أقدر أصبر على غبن ذلك ، لأن المائة درهم تباع بدرهم. ولما خرج مع السلطان إلى الحجاز خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة وهو ساقة الناس كلهم ، وكان ثقله وجماله نظير ما للسلطان ، ولكن يزيد عليه بالزركش وآلات الذهب ، ووجد في خزانته بطريق الحجاز بعد موته خمسمائة تشريف ، منها ما هو أطلس بطرز زركش وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب الأقلام ، ووجد معه قيود وجنازير ، وتنكر السلطان له في طريق الحجاز واستوحش كلّ منهما من صاحبه ، فاتفق أنهم

٢٩٧

في العود مرض ولده أحمد ومرض من بعده ، فمات ابنه قبله بثلاثة أيام ، فحمل في تابوت مغشي بجلد جمل ، ولما مات بكتمر دفن مع ولده بنخل ، وحث السلطان في المسير وكان لا ينام في تلك السفرة إلّا في برج خشب ، وبكتمر عنده ، وقوصون على الباب والأمراء المشايخ كلهم حول البرج بسيوفهم ، فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك ، فعلم الناس أن احترازه كان خوفا من بكتمر. ويقال أن السلطان دخل عليه وهو مريض في درب الحجاز فقال له : بيني وبينك الله. فقال له : كل من فعل شيئا يلتقيه. ولما مات صرخت زوجته أمّ ابنه أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بالقبيح في حق السلطان ، من جملته : أنت تقتل مملوكك ، أنا ابني ايش كان؟ فقال لها : بس ، تفشرين ، هاتي مفاتيح صناديقه ، فأنا أعرف كل شيء أعطيته من الجواهر. فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها ، ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل أظهر الحزن والندامة عليه ، وأعطى أخاه قماري أمرة مائة وتقدمة ألف ، وكان يقول ما بقي يجيئنا مثل بكتمر ، وأمر فحملت جثته وجثة ابنه إلى خانقاهه هذه ودفنتا بقبتها ، وبدت من السلطان أمور منكرة بعد موت بكتمر ، فإنه كان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة ، وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة ، ولا يخالفه السلطان في شيء ، ومع ذلك فلم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر ، ومن المغرب يغلق باب إصطبله ، وكان ممّا له على السلطان من المرتب في كل يوم مخفيتان ، يأخذ عنهما من بيت المال كل يوم سبعمائة درهم ، عن كل مخفية ثلاثمائة وخمسين درهما ، وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولّاه وظيفة قال له : روح إلى الأمير بكتمر وبوس يده ، وكان جيد الطباع حسن الأخلاق لين الجانب سهل الانقياد رحمه‌الله.

خانقاه قوصون

هذه الخانقاه في شماليّ القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون ، أنشأها الأمير سيف الدين قوصون ، وكملت عمارتها في سنة ست وثلاثين وسبعمائة ، وقرّر في مشيختها الشيخ شمس الدين أبا الثناء محمود بن أبي القاسم أحمد الأصفهانيّ ، ورتب له معلوما سنيا من الدراهم والخبز واللحم والصابون والزيت وسائر ما يحتاج إليه ، حتى جامكية غلام بغلته ، واستقرّ ذلك في الوقف من بعده لكل من ولي المشيخة بها ، وقرّر بها جماعة كثيرة من الصوفية ، ورتب لهم الطعام واللحم والخبز في كل يوم ، وفي الشهر المعلوم من الدراهم ومن الحلوى والزيت والصابون ، وما زالت على ذلك إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فبطل الطعام والخبز منها وصار يصرف لمستحقيها مال من نقد مصر ، وتلاشى أمرها من بعد ما كانت من أعظم جهات البرّ ، وأكثرها نفعا وخيرا ، وقد تقدّم ذكر قوصون عند ذكر جامعه من هذا الكتاب.

٢٩٨

خانقاه طغاي النجميّ

هذه الخانقاه بالصحراء خارج باب البرقية فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر ، أنشأها الأمير طغاي تمر النجميّ ، فجاءت من المباني الجليلة ، ورتب بها عدّة من الصوفية وجعل شيخهم الشيخ برهان الدين الرشيدي ، وبنى بجانبها حمّاما وغرس في قبليها بستانا ، وعمل بجانب الحمّام حوض ماء للسبيل ترده الدواب ، ووقف على ذلك عدّة أوقاف ، ثم إن الحمّام والحوض تعطلا مدّة. فلما ماتت أرزباي زوجة القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ في سنة ثمان وثمانمائة ، دفنها خارج باب النصر وأحبّ أن يبنى على قبرها ويوقف عليها أوقافا ، ثم بدا له فنقلها إلى هذه الخانقاه ودفنها بالقبة التي فيها ، وأدار الساقية وملأ الحوض ورتب لقرّاء هذه الخانقاه معلوما ، وعزم على تجديد ما تشعث من بنائها وإدارة حمامها ، ثم بدا له فأنشأ بجانب هذه الخانقاه تربة ونقل زوجته مرّة ثالثة إليها ، وجعل أملاكه وقفا على تربته.

طغاي تمر النجميّ : كان دوادار الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون ، فلما مات الصالح استقرّ على حاله في أيام أخويه الملك الكامل شعبان ، والملك المظفر حاجي ، وكان من أحسن الأشكال وأبدع الوجوه ، تقدّم في الدول وصارت له وجاهة عظيمة ، وخدمه الناس ولم يزل على حاله إلى أن لعب به أغرلوا فيمن لعب وأخرجه إلى الشام وألحقه بمن أخذه من غزة ، وذلك في أوائل جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، وطغاي هذا أوّل دوادار أخذ أمرة مائة وتقدمة ألف ، وذلك في أوّل دولة المظفر حاجي ، ولما كانت واقعة الأمير ملكتمر الحجازيّ والأمير آق سنقر وعدّة من الأمراء في تاسع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، رمى طغاي تمر سيفه وبقي بغير سيف بعض يوم ، ثم إن المظفر أعطاه سيفه واستمرّ في الدوادارية نحو شهر ، وأخرج هو والأمير نجم الدين محمود الوزير ، والأمير سيف الدين بيدمر البدريّ على الهجن إلى الشام ، فأدركهم الأمير سيف الدين منجك وقتلهم في الطريق.

خانقاه أمّ أنوك

هذه الخانقاه خارج باب البرقية بالصحراء ، التي أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي ، فجاءت من أجلّ المباني ، وجعلت بها صوفية وقرّاء ، ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة ، وقرّرت لكل جارية من جواريها مرتبا يقوم بها.

طغاي الخوندة الكبرى : زوجة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، وأمّ ابنه الأمير أنوك ، كانت من جملة إمائه ، فأعتقها وتزوّجها ، ويقال أنها أخت الأمير أقبغا عبد الواحد ، وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال ، رأت من السعادة ما لم يره غيرها من نساء

٢٩٩

الملوك الترك بمصر ، وتنعمت في ملاذّ ما وصل سواها لمثلها ، ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها ، وصارت خونده بعد ابنه توكاي وأكبر نسائه ، حتى من ابنة الأمير تنكز. وحج بها القاضي كريم الدين واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال ، وأخذ لها الأبقار الحلابة ، فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطريّ ، وعمل الجبن ، وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء ، وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن في كل يوم ، وهما أخس ما يؤكل ، فما عساه يكون بعد ذلك. وكان القاضي كريم الدين ، والأمير مجلس ، وعدّة من الأمراء يترجلون عند النزول ويمشون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان ، ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ، وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة إلى السلطان لا بدّ أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر ، فلما مات السلطان الملك النصار استمرّت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوّال سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، أيام الوباء ، عن ألف جارية ، وثمانين خادما خصيا ، وأموال كثيرة جدّا ، وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف ، جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قرّاء ، ووقفت على ذلك وقفا ، وجعلت من جملته خبزا يفرّق على الفقراء ، ودفنت بهذه الخانقاه ، وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا.

خانقاه يونس

هذه الخانقاه من جملة ميدان القبق بالقرب من قبة النصر خارج باب النصر ، أدركت موضعها وبه عواميد تعرف بعواميد السباق ، وهي أوّل مكان بني هناك ، أنشأها الأمير يونس النوروزيّ الدوادار كان من مماليك الأمير سيف الدين جرجي الإدريسيّ ، أحد الأمراء الناصرية ، وأحد عتقائه ، فترقى في الخدم من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن صار من جملة الطائفة اليلبغاوية ، فلما قتل الأمير يلبغا الخاصكيّ خدم بعده الأمير استدمر الناصريّ الأتابك ، وصار من جملة دواداريته ، وما زال يتنقل في الخدم إلى أن قام الأمير برقوق بعد قتل الملك الأشرف شعبان ، فكان ممن أعانه وقاتل معه ، فرعى له ذلك ورقّاه إلى أن جعله أمير مائة مقدّم ألف ، وجعله دواداره لما تسلطن ، فسلك في رياسته طريقة جليلة ، ولزم حالة جميلة من كثر الصيام والصلاة ، وإقامة الناموس الملوكيّ ، وشدّة المهابة ، والإعراض عن اللعب ، ومداومة العبوس ، وطول الجلوس ، وقوّة البطش لسرعة غضبه ، ومحبة الفقراء ، وحضور السماع والشغف به ، وإكرام الفقهاء وأهل العلم.

وأنشأ بالقاهرة ربعا وقيسارية بخط البندقانيين ، وتربة خارج باب الوزير تحت القلعة ، وأنشأ بظاهر دمشق مدرسة بالشرف الأعلى ، وأنشأ خانا عظيما خارج مدينة غزة ، وجعل بجانب هذه الخانقاه مكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين كتاب الله تعالى ، وبنى بها صهريجا ينقل

٣٠٠